أصول البزدوي
Shafi 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق النسم ورازق القسم مبدع البدايع وشارع الشرايع دينا رضيا ونورا مضيا وذكرا للأنام ومطية إلى دار السلام أحمده على الوسع والإمكان وأستعينه على طلب الرضوان ونيل أسباب الغفران وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأصلي عليه وعلى آله وأصحابه وعلى الأنبياء والمرسلين وأصحابهم أجمعين
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد أبو الحسن على بن محمد البزدوي رحمه الله العلم نوعان علم التوحيد والصفات وعلم الشرايع والأحكام والأصل في النوع الأول هو التمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة ولزوم طريق السنة والجماعة الذي كان عليه الصحابة والتابعون ومضى عليه الصالحون وهو الذي كان عليه أدركنا مشايخنا وكان على ذلك سلفنا أعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد أو عامة أصحابهم رحمهم الله وقد صنف أبو حنيفة رضي الله عنه في ذلك كتاب الفقه الأكبر وذكر فيه إثبات الصفات وإثبات تقدير الخير والشر من الله وأن ذلك كله بمشيئته وأثبت الاستطاعة مع الفعل وأن أفعال العباد مخلوقة بخلق الله تعالى إياها كلها ورد القول بالأصلح وصنف كتاب العالم والمتعلم وكتاب الرسالة وقال فيه لا يكفر أحد بذنب ولا يخرج به من الإيمان ويترحم له وكان في علم الأصول إماما صادقا وقد صح عن أبي يوسف أنه قال ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن 2
Shafi 3
ستة أشهر فاتفق رأي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر وصح هذا القول عن محمد رحمه الله ودلت المسائل المتفرقة عن أصحابنا في المبسوط وغير المبسوط على أنهم لم يميلوا إلى شيء من مذاهب الاعتزال وإلى سائر الأهواء وأنهم قالوا بحقية رؤية الله تعالى بالأبصار في دار الآخرة وبحقية عذاب القبر لمن شاء وحقية خلق الجنة والنار اليوم حتى قال أبو حنيفة لجهم اخرج عني يا كافر وقالوا بحقية سائر أحكام الآخرة على ما نطق به الكتاب والسنة وهذا فصل يطول تعداده والنوع الثاني علم الفروع وهو الفقه وهو ثلاثة أقسام علم المشروع بنفسه والقسم الثاني إتقان المعرفة به وهو معرفة النصوص بمعانيها وضبط الأصول بفروعها والقسم الثالث هو العمل به حتى لا يصير نفس العلم مقصودا فإذا تمت هذه الأوجه كان فقيها وقد دل على هذا المعنى أن الله تعالى سمى علم الشريعة حكمة فقال @QB@ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا @QE@ وقد فسر ابن عباس رضي الله عنه الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام وقال @QB@ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة @QE@ أي بالفقه والشريعة والحكمة في اللغة هو العلم والعمل فكذلك موضع اشتقاق هذا الاسم وهو الفقه دليل عليه وهو العلم بصفة الإتقان مع اتصال العمل به قال الشاعر
أرسلت فيها قرماذا اقحام
طبا فقيها بذوات الابلام
$ سماه فقيها لعلمه بما يصلح وبما لا يصلح والعمل به فمن حوى هذه الجملة كان فقيها مطلقا وإلا فهو فقيه من وجه دون وجه وقد ندب الله تعالى إليه بقوله @QB@ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم @QE@ وصفهم بالإنذار وهو الدعوة إلى العلم والعمل به وقال النبي صلى الله عليه وسلم خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا وقال إذا أراد الله بعبد خيرا يفقهه في الدين وأصحابنا هم السابقون في هذا الباب ولهم الرتبة العليا
Shafi 4
والدرجة القصوى في علم الشريعة وهم الربانيون في علم الكتاب والسنة وملازمة القدوة وهما أصحاب الحديث والمعاني أما المعاني فقد سلم لهم العلماء حتى سموهم أصحاب الرأي والرأي اسم للفقه الذي ذكرنا وهم أولى بالحديث أيضا ألا ترى أنهم جوزوا نسخ الكتاب بالسنة لقوة منزلة السنة عندهم وعملوا بالمراسيل تمسكا بالسنة والحديث ورأوا العمل به مع الإرسال أولى من الرأي ومن رد المراسيل فقد رد كثيرا من السنة وعمل بالفرع بتعطيل الأصل وقدموا رواية المجهول على القياس وقدموا قول الصحابي على القياس وقال محمد رحمه الله تعالى في كتاب أدب القاضي لا يستقيم الحديث إلا بالرأي ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث حتى أن من لا يحسن الحديث أو علم الحديث ولا يحسن الرأي فلا يصلح للقضاء والفتوى وقد ملأ كتبه من الحديث ومن استراح بظاهر الحديث عن بحث المعاني ونكل عن ترتيب الفروع على الأصول انتسب إلى ظاهر الحديث وهذا الكتاب لبيان النصوص بمعانيها وتعريف الأصول بفروعها على شرط الإيجاز والاختصار إن شاء الله تعالى وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب حسبنا الله ونعم الوكيل أعلم أن أصول الشرع ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع والأصل الرابع القياس بالمعنى المستنبط من هذه الأصول أما الكتاب فالقرآن المنزل على رسول الله المكتوب في المصاحف المنقول عن النبي عليه السلام نقلا متواترا بلا شبهة وهو النظم والمعنى جميعا في قول عامة العلماء وهو الصحيح من قول أبي حنيفة عندنا إلا أنه لم يجعل النظم ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة على ما يعرف في موضعه وجعل المعنى ركنا لازما والنظم ركنا يحتمل السقوط رخصة بمنزلة التصديق في الإيمان أنه ركن أصلي والإقرار ركن زائد على ما يعرف في موضعه إن شاء الله تعالى وإنما يعرف أحكام الشرع بمعرفة أقسام النظم والمعنى وذلك أربعة أقسام فيما يرجع
Shafi 5
إلى معرفة أحكام القسم الأول في وجوه النظم صيغة ولغة والثاني في وجوه البيان بذلك النظم والثالث في وجوه استعمال ذلك النظم وجريانه في باب البيان والرابع في معرفة وجوه الوقوف على المراد والمعاني على حسب الوسع والإمكان وإصابة التوفيق أما القسم الأول فأربعة أوجه الخاص والعام والمشترك والمأول والقسم الثاني أربعة أوجه أيضا الظاهر والنص والمفسر والمحكم وإنما يتحقق معرفة هذه الأقسام بأربعة أخرى في مقابلتها وهي الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه والقسم الثالث أربعة أوجه أيضا الحقيقة والمجاز والصريح والكناية والقسم الرابع أربعة أوجه أيضا الاستدلال بعبارته وبإشارته وبدلالته وباقتضائه وبعد معرفة هذه الأقسام قسم خامس وهو وجوه أربعة أيضا معرفة مواضعها وأصل الشرع الكتاب والسنة فلا يحل لأحد أن يقصر في هذا الأصل بل يلزمه محافظة النظم ومعرفة أقسامه ومعانيه مفتقرا إلى الله تعالى مستعينا به راجيا أن يوفقه بفضله أما الخاص فكل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد وانقطاع المشاركة وكل اسم وضع لمسمى معلوم على الانفراد وهو مأخوذ من قولهم اختص فلان بكذا أي انفرد به وفلان خاص فلان أي منفرد به والخاصة اسم للحالة الموجبة للانفراد عن المال وعن أسباب نيل المال فصار الخصوص عبارة عما يوجب الانفراد ويقطع الشركة فإذا أريد خصوص الجنس قيل إنسان لأنه خاص من بين سائر الأجناس وإذا أريد خصوص النوع قيل رجل وإذا أريد خصوص العين قيل زيد وعمرو فهذا بيان اللغة والمعنى ثم العام بعده وهو كل لفظ ينتظم جمعا من الأسماء لفظا أو معنى ومعنى قولنا من الأسماء المسميات هنا ومعنى قولنا لفظا أو معنى هو تفسير للانتظام يعني أن ذلك اللفظ إنما ينتظم الأسماء مرة لفظا مثل قولنا زيدون ونحوه أو معنى مثل قولنا من وما ونحوهما والعموم
Shafi 6
في اللغة هو الشمول يقال مطر عام أي شمل الأمكنة كلها وخصب عام أي عم الأعيان ووسع البلاد ونخلة عميمة أي طويلة والقرابة إذا توسعت انتهت إلى صفة العمومة وهو كالشيء اسم عام يتناول كل موجود عندنا ولا يتناول المعدوم خلافا للمعتزلة وإن كان كل موجود ينفرد باسمه الخاص وذكر الجصاص رحمه الله أن العام ما ينتظم جمعا من الأسماء أو المعاني وقوله أو المعاني سهو منه أو مأول لأن المعاني لا يتعدد إلا عند اختلافها وتغايرها وعند اختلافها وتغايرها لا ينتظمها لفظ واحد بل يحتمل كل واحد منها على الانفراد وهذا يسمى مشتركا وقد ذكر بعد هذا أن المشترك لا عموم له فثبت أنه سهوا ومأول وتأويله أن المعنى الواحد لما تعدد محله يسمى معاني مجاز الاجتماع محاله لكن كان ينبغي أن يقول والمعاني والصحيح أنه سهو وأما المشترك فكل لفظ احتمل معنى من المعاني المختلفة أو اسما من الأسماء على اختلاف المعاني على وجه لا يثبت إلا واحد من الجملة مراد به مثل العين اسم لعين الناظر وعين الشمس وعين الميزان وعين الركبة وعين الماء وغير ذلك ومثل المولى والقرء من الأسماء وهو مأخوذ من الاشتراك ولا عموم لهذا اللفظ وهو مثل الصريم اسم لليل والصبح جميعا على الاحتمال لا على العموم وهذا يفارق المجمل لأن المشترك يحتمل الإدراك بالتأمل في معنى الكلام لغة برجحان بعض الوجوه على البعض فقبل ظهور الرجحان سمي مشتركا فأما المجمل فما لا يدرك لغة لمعنى زائد ثبت شرعا أو لانسداد باب الترجيح لغة فوجب الرجوع فيه إلى بيان المجمل على ما نبين إن شاء الله تعالى وأما المأول فما ترجح من المشترك بعض وجوهه بغالب الرأي وهو مأخوذ من آل يؤل إذا رجع وأولته إذا رجعته وصرفته لأنك لما تأملت في موضوع اللفظ فصرفت اللفظ إلى بعض المعاني خاصة فقد أولته إليه وصار ذلك عاقبة الاحتمال
Shafi 7
بواسطة الرأي قال الله تعالى
ﵟهل ينظرون إلا تأويلهﵞ
أي عاقبته وليس هذا كالمجمل إذا عرفت بعض وجوهه ببيان المجمل فإن يسمى مفسرا لأنه عرف بدليل قاطع فسمي مفسرا أي مكشوفا كشفا بلا شبهة مأخوذ من قولهم أسفر الصبح إذا أضاء إضاءة لا شبهة فيه وسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب فيكون هذا اللفظ مقلوبا من التفسير وهذا معنى قول النبي عليه السلام من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار أي قضى تأويله واجتهاد على أنه مراد الله تعالى لأنه نصب نفسه صاحب وحي وفي هذا إبطال قول المعتزلة في أن كل مجتهد مصيب لأنه يصير الثابت بالاجتهاد تفسيرا وقطعا على حقيته مرادا وهذا باطل وأما القسم الثاني فإن الظاهر اسم لكل كلام ظهر المراد به للسامع بصيغته مثل قوله تعالى
ﵟفانكحوا ما طاب لكم من النساءﵞ
فإنه ظاهر في الإطلاق وقوله تعالى
ﵟوأحل الله البيعﵞ
هذا ظاهر في الاحلال وأما النص فما ازداد وضوحا على الظاهر بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة مأخوذ من قولهم نصصت الدابة إذا استخرجت بتكلفك منها سيرا فوق سيرها المعتاد وسمى مجلس العروس منصة لأنه ازداد ظهورا على ساير المجالس بفضل تكلف اتصل به من جهة الواضع ومثاله قوله تعالى
ﵟفانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباعﵞ
فإن هذا ظاهر في الإطلاق نص في بيان العدد لأنه سيق الكلام للعدد وقصد به فازداد ظهورا على الأول بأن قصد به وسيق له ومثله قوله تعالى
ﵟوأحل الله البيع وحرم الرباﵞ
فانه ظاهر للتحليل والتحريم نص للفصل بين البيع والربا لانه سيق الكلام لاجله فازداد وضوحا بمعنى من المتكلم لا بمعنى في صيغته واما المفسر فما ازداد وضوحا على النص سواء كان بمعنى في النص أو بغيره بأن كان مجملا نلحقه بيان قاطع فأسند به التأويل أو كان عاما نلحقه ما انسد به باب التخصيص مأخوذا مما ذكرنا وذلك مثل قوله تعالى
ﵟفسجد الملائكة كلهم أجمعونﵞ
فان الملائكة جمع عام محتمل للتخصيص
Shafi 8
فانسد باب التخصيص بذكر الكل وذكر الكل احتمل تأويل التفرق فقطعه بقوله اجمعون فصار مفسرا وحكمه الإيجاب قطعا بلا احتمال تخصيص ولا تأويل إلا أن يحتمل النسخ والتبديل فإذا ازداد قوة واحكم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل سمى محكما من احكام البناء قال الله تعالى
ﵟمنه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهاتﵞ
وذلك مثل قوله تعالى
ﵟأن الله بكل شيء عليمﵞ
واما الأربعة التي تقابل هذه الوجوه فالخفي اسم لكل ما اشتبه معناه وخفي مراده بعارض غير الصيغة لا ينال إلا بالطلب وذلك مأخوذ من قولهم اختفى فلان أي استتر في مصره بحيلة عارضة من غير تبديل في نفسه فصار لا يدرك إلا بالطلب وذلك مثل النباش والطراد وهذه في مقابلة الظاهر ثم المشكل وهو الداخل في أشكاله وامثاله مثل قولهم احرم أي دخل في الحرم واشتى أي دخل في الشتاء وهذا فوق الأول لا ينال بالطلب بل بالتامل بعد الطلب ليتميز عن اشكاله وهذا لغموض في المعنى أو لاستعارة بديعة وذلك يسمى غريبا مثل رجل اغترب عن وطنه فاختلط بأشكاله من الناس فصار خفيا بمعنى زائد على الأول ثم المجمل وهو ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباها لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل و ذلك مثل قوله تعالى
ﵟوحرم الرباﵞ
فإنه لا يدرك بمعاني اللغة بحال وكذلك الصلوة والزكوة وهو مأخوذ من الجملة وهو كرجل اغترب عن وطنه بوجه انقطع به اثره والمشكل يقابل النص والمجمل يقابل المفسر فإذا صار المراد مشتبها على وجه لا طريق لدركه حتى سقط طلبه ووجب اعتقاد الحقيه فيه سمى متشابها بخلاف المجمل فان طريق دركه متوهم وطريق درك المشكل قائم فأما المتشابه فلا طريق لدركه إلا التسليم فيقتضي اعتقاد الحقية قبل الاصابة وهذا معنى قوله
ﵟوأخر متشابهاتﵞ
وعندنا أن لا حظ للراسخين
Shafi 9
في العلم من المتشابه لا التسليم على اعتقاد حقية المراد عند الله تعالى وان الوقف على قوله @QB@ وما يعلم تأويله إلا الله @QE@ واجب واهل الإيمان على طبقتين في العلم منهم من يطالب بالامعان في السير لكونه مبتلى بضرب من الجهل ومنهم من يطالب بالوقف لكونه مكرما بضرب من العلم فانزل المتشابه تحقيقا للابتداء وهذا اعظم الوجهين بلوى واعمهما نفعا وجدوى وهذا يقابل المحكم ومثاله المقطعات في اوائل السور ومثاله إثبات رؤية الله تعالى بالابصار حقا في الاخرة بنص القرآن بقوله @QB@ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة @QE@ لانه موجود بصفة الكمال وان يكون مرئيا لنفسه ولغيره من صفات الكمال والمؤمن لاكرامه بذلك اهل لكن إثبات الجهة ممتنع فصار بوصفه متشابها فوجب تسليم المتشابه على اعتقاد الحقية فيه وكذلك إثبات اليد والوجه حق عندنا معلوم بأصله متشابه بوصفه وان يجوز ابطال الأصل بالعجز عن درك الوصف و إنما ضلت المعتزلة من هذا الوجه فانهم ردوا الاصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة وتفسير القسم الثالث أن الحقيقة اسم لكل لفظ أريد به ما وضع له مأخوذ من حق الشيء يحق حقا فهو حق وحاق وحقيق والمجاز اسم لما أريد به غير ما وضع له مفعل من جاز يجوز بمعنى فاعل أي متعد عن اصله ولا ينال الحقيقة إلا بالسماع ولا تسقط عن المسمى ابدا والمجاز ينال بالتأمل في طريق ليعتبر به ويحتذى بمثاله ومثال المجاز من الحقيقة مثال القياس من النص واما الصريح فما ظهر المراد به ظهورا بينا زائدا أو منه سمى القصر صرحا لارتفاعه عن سائر الأبنية والصريح الخالص من كل شيء وذلك مثل قوله انت طالق والكناية خلاف الصريح وهو ما استتر المراد به مثل هاء المغايبة وسائر الفاظ الضمير اخذت من قولهم كنيت وكنوت ومنه قول الشاعر
وانى لاكنو عن قذور بغيرها
واعرب احيانا بها فاصارح
$ وهذه جملة يأتي تفسيرها في باب بيان الحكم وتفسير القسم الرابع
Shafi 10
أن الاستدلال بعبارة النص هو العمل بظاهر ما سيق الكلام له والاستدلال باشارته هو العمل بما ثبت بنظمه لغة لكنه غير مقصود ولا سيق له النص وليس بظاهر من كل وجه فسميناه إشارة كرجل ينظر ببصره إلى شيء ويدرك مع ذلك غيره بإشارة لحظاته ونظيره قوله تعالى
ﵟللفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهمﵞ
إنما سيق النص لاستحقاق سهم من الغنيمة على سبيل الترجمة لما سبق واسم الفقراء إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب وقوله
ﵟوعلى المولود له رزقهن وكسوتهنﵞ
سيق لإثبات النفقة وأشار بقوله تعالى
ﵟوعلى المولود لهﵞ
إلى أن النسب إلى الآباء وإلى قوله عليه السلام أنت ومالك لأبيك وقوله
ﵟوحمله وفصاله ثلاثون شهراﵞ
سيق لإثبات منة الوالدة على الولد وفيه إشارة إلى أن أقل مدة الحمل ستة أشهر إذا رفعت مدة الرضاع وهذا القسم هو الثابت بعينه وأما الثابت بدلالة النص فما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهادا ولا استنباطا مثل قوله تعالى
ﵟفلا تقل لهما أفﵞ
هذا قول معلوم بظاهره معلوم بمعناه وهو الأذى وهذا معنى يفهم منه لغة حتى شارك فيه غير الفقهاء أهل الرأي والاجتهاد كمعنى الإيلام من الضرب ثم يتعدى حكمه إلى الضرب والشتم بذلك المعنى فمن حيث أنه كان معنى لا عبارة لم نسمعه نصا ومن حيث أنه ثبت به لغة لا إستنباطا يسمى دلالة وأنه يعمل عمل النص وأما الثابت باقتضاء النص فما لم يعمل إلا بشرط تقدم عليه فإن ذلك أمر اقتضاء النص لصحة ما تناوله فصار هذا مضافا إلى النص بواسطة المقتضى وكان كالثابت بالنص وعلامته أن يصح به المذكور ولا يلغى عند ظهوره ويصلح لما أريد به فأما قوله تعالى
ﵟواسأل القريةﵞ
فإن الأهل غير مقتضى لأنه إذا ثبت لم يتحقق في القرية ما أضيف إليه بل هذا من باب الإضمار لأن صحة المقتضى إنما يكون لصحة المقتضى ومثاله الأمر بالتحرير
Shafi 11
للتكفير مقتض للملك ولم يذكر هذا البيان معرفة تفسير هذه الأصول لغة وتفسير معانيها وبيان ترتيبها والفصل الرابع في بيان أحكامها والله أعلم بالصواب & باب معرفة أحكام الخصوص &
اللفظ الخاص يتناول المخصوص قطعا ويقينا بلا شبهة لما أريد به الحكم ولا يخلو الخاص عن هذا في أصل الوضع وإن احتمل التغير عن أصل وضعه لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان لكونه بينا لما وضع له من ذلك أن الله تعالى قال
ﵟوالمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءﵞ
قلنا المراد به الحيض لأنا إذا حملنا على الإطهار انتقص العدد عن الثلاثة فصارت العدة قرئين وبعض الثالث وإذا حملنا على الحيض كانت ثلاثة كاملة والثلاثة اسم خاص لعدد معلوم لا يحتمل غيره كالفرد لا يحتمل العدد والواحد لا يحتمل الاثنين فكان هذا بمعنى الرد والإبطال ومن ذلك قوله تعالى
ﵟواركعوا مع الراكعينﵞ
والركوع اسم لفعل معلوم وهو الميلان عن الاستواء بما يقطع اسم الاستواء فلا يكون إلحاق التعديل به على سبيل الفرض حتى تفسد الصلاة بتركه بيانا صحيحا لأنه بين بنفسه بل يكون رفعا لحكم الكتاب بخبر الواحد لكنه ملحق به إلحاق الفرع بالأصل ليصير واجبا ملحقا بالفرض كما هو منزلة خبر الواحد من الكتاب ومن ذلك قوله تعالى
ﵟوليطوفوا بالبيت العتيقﵞ
وهذا فعل خاص وضع لمعنى خاص وهو الدوران حول البيت فلا يكون وقفه على الطهارة عن الحدث حتى لا ينعقد إلا بها عملا بالكتاب ولا بيانا بل نسخا محضا فلا يصح بخبر الواحد لكنه يزاد عليه واجبا ملحقا بالفرض كما هو منزلة خبر الواحد من الكتاب ليثبت الحكم بقدر دليله ومن ذلك قوله تعالى
ﵟيا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكمﵞ
فإنما الوضوء
Shafi 12
غسل ومسح وهما لفظان خاصان لمعنى معلوم في أصل الوضع فلا يكون شرط النية في ذلك عملا به ولا بيانا له وهو بين لما وضع له بل يجب أن يلحق به على الوصف الذي ذكرنا وبطل شرط الولاء والترتيب والتسمية كما ذكرنا وصار مذهب المخالف في هذا الأصل غلطا من وجهين أحدهما أنه حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته والثاني أنه رفع حكم الخبر الواحد فوق منزلته ومن ذلك قوله تعالى
ﵟفلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيرهﵞ
قال محمد والشافعي رحمهما الله قوله حتى تنكح كلمة وضعت لمعنى خاص وهو الغاية والنهاية فمن جعله محدثا حلا جديدا لم يكن ذلك عملا بهذه الكلمة ولا بيانا لأنها ظاهرة فيما وضعت له بل كان إبطالا ولكنها تكون غاية ونهاية والغاية والنهاية بمنزلة البعض لما وصف بها وبعض الشيء لا ينفصل عن كله فيلغوا قبل وجود الأصل والجواب أن النكاح يذكر ويراد به الوطوء وهو أصله ويحتمل العقد على ما يأتي في موضعه وقد أريد أن العقد هنا بدلالة إضافته إلى المرأة لأنها في فعل مباشرة العقد مثل الرجل فصحت الإضافة إليها وأما فعل الوطوء فلا يضاف إليها مباشرته أبدا لأنها لا يحتمل ذلك وإنما ثبت الدخول بالسنة على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة رفاعة وقد طلقها ثلثا ثم نكحت بعبد الرحمن بن الزبير ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تتهمه بالعنة وقالت ما وجدته إلا كهدبة ثوبي هذا فقال صلى الله عليه وسلم أتريدين أن تعودي إلى رفاعة فقالت نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك وفي ذكر العود دون الانتهاء إشارة إلى التحليل وفي حديث آخر لعن الله المحلل والمحلل له فثبت الدخول زيادة بخبر مشهور يحتمل الزيادة بمثله وما ثبت الدخول بدليله إلا بصفة التحليل وثبت شرط الدخول بالإجماع ومن صفته التحليل وأنتم أبطلتم هذا الوصف عن دليله عملا بما هو ساكت
Shafi 14
وهو نص الكتاب عن هذا الحكم أعني الدخول بأصله ووصفه جميعا ومن ذلك قوله تعالى
ﵟالطلاق مرتانﵞ
الآية فالله تعالى ذكر الطلاق مرة ومرتين وأعقبهما بذكر الرجعة ثم أعقب ذلك الخلع بالمال بقوله تعالى
ﵟفإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت بهﵞ
فإنما بدأ بفعل الزوج وهو الطلاق ثم زاد فعل المرأة وهو الافتداء وتحت الأفراد تخصيص المرأة به وتقرير فعل الزوج على ما سبق فإثبات فعل الفسخ من الزوج بطريق الخلع لا يكون عملا به بل يكون رفعا ومن ذلك قوله تعالى
ﵟوالسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسباﵞ
وقال الشافعي رحمه الله القطع لفظ خاص لمعنى مخصوص فأنى يكون إبطال عصمة المال عملا به فقد وقعتم في الذي أبيتم ومن ذلك قوله تعالى
ﵟأن تبتغوا بأموالكم محصنينﵞ
فإنما أحل الابتغاء بالمال والابتغاء لفظ خاص وضع لمعنى مخصوص وهو الطلب والطلب بالعقد يقع فمن جوز تراخي البدل عن الطلب الصحيح إلى المطلوب وهو فعل الوطىء كان ذلك منه إبطالا فبطل به مذهب الخصم في مسألة المفوضة ومثله قوله تعالى
ﵟقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهمﵞ
والفرض لفظ خاص وضع لمعنى مخصوص وهو التقدير فمن لم يجعل المهر مقدارا شرعا كان مبطلا وكذلك الكناية في قوله تعالى
ﵟما فرضناﵞ
لفظ خاص يراد به نفس المتكلم فدل ذلك على أن صاحب الشرع هو المتولي للإيجاب والتقدير وأن تقدير العبد امتثال به فمن جعل إلى العبد اختيار الإيجاب والترك في المهر والتقدير فيه كان إبطالا لموجب هذا اللفظ الخاص لا عملا به ولا بيانا لأنه بين ومن ذلك قوله تعالى بعد هذا
ﵟفإن طلقها فلا تحل له من بعدﵞ
والفاء حرف خاص لمعنى مخصوص وهو الوصل والتعقيب وإنما وصل الطلاق بالافتداء بالمال فأوجب صحته بعد الخلع فمن وصله بالرجعى وأبطل وقوعه بعد الخلع لم يكن عملا به
Shafi 18
ولا بيانا والجواب أن ذلك ثبت بنص مقرون به عندنا وهو قوله تعالى
ﵟجزاء بما كسباﵞ
لأن الجزاء المطلق اسم لما يجب لله تعالى على مقابلة فعل العبد وأن يجب لله تعالى يدل على خلوص الجناية الداعية إلى الجزاء واقعة على حقه ومن ضرورته تحول العصمة إليه ولأن الجزاء يدل على كمال المشروع لما شرع له مأخوذ من جزى أي قضى وجزاء بالهمزة أي كفى وكماله يستدعي كمال الجناية ولا كمال مع قيام حق العبد في العصمة لأنه يكون حراما لمعنى يكون في غيره ولا يلزم أن الملك لا يبطل لأن محل الجناية العصمة وهي الحفظ ولا عصمة إلا بكونه مملوكا فأما تعين المالك فشرط ليصير خصمه متعينا لا لعينه حتى إذا وجد الخصم بلا ملك كان كافيا كالمكاتب والمتولي الوقف ونحوهما فلذلك تحولت العصمة دون الملك ألا ترى أن الجناية يقع على المال والعصمة صفة للمال مثل كونه مملوكا فأما الملك الذي هو صفة للمالك كيف يكون محلا للجناية لينتقل وكيف ينتقل الملك وهو غير مشروع فأما نقل العصمة فمشروع كما في الخمر والله أعلم ومن هذا الأصل & باب الأمر
فإن المراد بالأمر يختص بصيغة لازمة عندنا ومن الناس من قال ليس للمراد بالأمر صيغة لازمة وحاصل ذلك أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم عندهم موجبة كالأمر وهو قول بعض أصحاب مالك والشافعي رحمهما الله واحتجوا بقوله تعالى
ﵟوما أمر فرعون برشيدﵞ
أي فعله ولو لم يكن الأمر مستفادا بالفعل لما سمي به وقال عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي فجعلوا المتابعة لازمة واحتج أصحابنا رحمهم الله بأن العبارات إنما وضعت دلالات على المعاني المقصودة ولا يجوز قصور العبارات عن المقاصد والمعاني
Shafi 19
وقد وجدنا كل مقاصد الفعل مثل الماضي والحال والاستقبال مختصة بعبارات وضعت لها فالمقصود بالأمر كذلك يجب أن يكون مختصا بالعبارة وهذا المقصود أعظم المقاصد فهو بذلك أولى وإذا ثبت أصل الموضوع كان حقيقة فيكون لازمة إلا بدليل ألا ترى أن أسماء الحقايق لا يسقط عن مسمياتها أبدا وأما المجاز فيصح نفيه يقال للأب الأقرب أب لا ينفى عنه بحال ويسمى الجد أبا ويصح نفيه ثم ههنا صح أن يقال أن فلانا لم يأمر اليوم بشيء مع كثرة أفعاله وإذا تكلم بعبارة الأمر لم يستقم نفيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين خلع نعليه فخلع الناس نعالهم منكرا عليهم ما لكم خلعتم نعالكم وأنكر عليهم الموافقة في وصال الصوم فقال إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فثبت أن صيغة الأمر لازمة ولا ننكر تسميته مجازا لأن الفعل يجب به فسمي به مجازا والنبي عليه السلام دعا إلى الموافقة بلفظ الأمر بقوله صلوا كما رأيتموني أصلي فدل أن الصيغة لازمة ومن ذلك & باب موجب الأمر
وإذا ثبت خصوص الصيغة ثبت خصوص المراد في أصل الوضع وهو قول عامة الفقهاء ومن الناس من قال أنه مجمل في حق الحكم لا يجب به حكم إلا بدليل زائد واحتجوا بأن صيغة الأمر استعملت في معان مختلفة للإيجاب مثل قوله تعالى
ﵟأقيموا الصلاةﵞ
وللندب مثل قوله
ﵟوابتغوا من فضل اللهﵞ
وللإباحة مثل قوله
ﵟوإذا حللتم فاصطادواﵞ
وللتقريع مثل قوله تعالى
ﵟواستفزز من استطعت منهمﵞ
وللتوبيخ مثل قوله تعالى
ﵟفمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرﵞ
وإذا اختلفت وجوهه لم يجب العمل به إلا بدليل ولعامة العلماء أن صيغة الأمر لفظ خاص من تصاريف
Shafi 20
الفعل وكما أن العبارات لا تقصر عن المعاني فكذلك العبارات في أصل الوضع مختصة بالمراد ولا يثبت الاشتراك إلا بعارض فكذلك صيغة الأمر لمعنى خاص ثم الاشتراك إنما يثبت بضرب من الدليل المغير كسائر ألفاظ الخصوص ثم الفقهاء سوى الواقفية اختلفوا في حكم الأمر قال بعضهم حكمه الإباحة وقال بعضهم الندب وقال عامة العلماء حكمه الوجوب أما الذين قالوا بالإباحة قالوا إن ما ثبت أمرا كان مقتضيا لموجبه فيثبت أدناه وهو الإباحة والذين قالوا بالندب قالوا لا بد مما يوجب ترجيح جانب الوجود وأدنى ذلك معنى الندب إلا أن هذا فاسد لأنه إذا ثبت أنه موضوع لمعناه المخصوص به كان الكمال أصلا فيه فثبت أعلاه على احتمال الأدنى إذ لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم والحجة لعامة العلماء الكتاب والإجماع والدليل المعقول أما الكتاب قوله تعالى
ﵟإنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكونﵞ
وهذا عندنا على أنه أريد به ذكر الأمر بهذه الكلمة والتكلم بها على الحقيقة لا مجازا عن الإيجاد بل كلام بحقيقته من غير تشبيه ولا تعطيل وقد أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر ولو لم يكن الوجود مقصود بالأمر لما استقام قرينة للإيجاد بعبارة الأمر وقال
ﵟومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمرهﵞ
فقد نسب وأضاف القيام إلى الأمر وذلك دليل على حقية الوجود مقصودا بالأمر وقال الله تعالى
ﵟفليحذر الذين يخالفون عن أمرهﵞ
وكذلك دلالة الإجماع حجة لأن من أراد طلب فعل لم يكن في وسعه أن يطلبه إلا بلفظ الأمر والدليل المعقول أن تصاريف الأفعال وضعت لمعان على المخصوص كساير العبارات فصار معنى المضي للماضي حقا لازما إلا بدليل وكذلك الحال واحتمال أن يكون من الاستقبال لا يخرجه عن موضوعه فكذلك صيغة الأمر لطلب المأمور به فيكون حقا لازما به على أصل الوضع ألا ترى أن
Shafi 21
الأمر فعل متعد لازمه ايتمر ولا وجود للمتعدي إلا أن يثبت لازمه كالكسر لا يتحقق إلا بالانكسار فقضية الأمر لغة أن لا يثبت إلا بالامتثال إلا أن ذلك لو ثبت بالأمر نفسه لسقط الاختيار من المأمور أصلا وللمأمور عندنا ضرب من الاختيار وإن كان ضروريا فنقل حكم الوجود إلى الوجوب حقا لازما بالأمر لا يتوقف على اختيار المأمور وتوقف الوجود على اختيار المأمور صيانة واحترازا عن الجبر فلذلك صار الأمر للإيجاب ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في النهي فيصير حكمهما واحدا وهو باطل وما اعتبره الواقفية من الاحتمال تبطل الحقايق كلها وذلك محال ألا ترى أنا لم ندع أنه محكم وإذا أريد بالأمر الإباحة أو الندب فقد زعم بعضهم أنه حقيقة وقال الكرخي والجصاص بل هو مجاز لأن اسم الحقيقة لا يتردد بين النفي والإثبات فلما جاز أن يقال إني غير مأمور بالنقل دل أنه مجاز لأنه جاز أصله وتعداه ووجه القول الآخر أن معنى الإباحة أو الندب من الوجوب بعضه في التقدير كأنه قاصر لا مغاير لأن الوجوب ينتظمه وهذا صح ويتصل بهذا الأصل أن الأمر بعد الخطر لا يتعلق بالندب والاباحة لا محالة بل هو للايجاب عندنا إلا بدليل استدلالا بأصله وصيغته ومنهم من قال بالندب والاباحة لقوله تعالى
ﵟوإذا حللتم فاصطادواﵞ
ولكن ذلك عندنا بقوله تعالى
ﵟأحل لكم الطيباتﵞ
ﵟوما علمتم من الجوارح مكلبينﵞ
لا بصيغته ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب & باب موجب الأمر
في معنى العموم والتكرار قال بعضهم صيغة الأمر يوجب العموم والتكرار وقال بعضهم لا بل يحتمله وهو قول الشافعي وقال بعض مشايخنا لا يوجبه ولا يحتمله إلا أن يكون معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف وقال عامة مشايخنا لا يوجبه ولا يحتمله بكل حال غير أن الأمر بالفعل يقع على اقل
Shafi 22
جنسه ويحتمل كله بدليله مثال هذا الأصل رجل قال لامرأته طلقي نفسك أو قال ذلك لاجنبي فإن ذلك واقع على الثلاث عند بعضهم وعند الشافعي يحتمل الثلاث والمثنى وعندنا يقع على الواحدة إلا أن ينوي الكل وجه القول الأول أن لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر الذي هو إسم لجنس الفعل والمختصر من الكلام والمطول سواء واسم الفعل اسم عام لجنسه فوجب العمل بعمومه كسائر الفاظ العموم ووجه قول الشافعي هو ما ذكرنا غير أن المصدر اسم نكرة في موضع الاثبات فأوجب الخصوص على احتمال العموم إلا ترى أن نية الثلاث صحيحة وهو عدد لا محالة فكذلك المثنى إلا ترى إلى قول اقرع بن حابس في السؤال عن الحج العامنا هذا أم للأبد ووجه القول الثالث الاستدلال بالنصوص الواردة من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى
ﵟأقم الصلاة لدلوك الشمسﵞ
ﵟوإن كنتم جنبا فاطهرواﵞ
واحتج من ادعى التكرار بحديث الاقرع بن حابس حين قال في الحج العامنا هذا يا رسول الله أم للابد فقال عليه السلام بل للابد فلو لم يحتمل اللفظ لما اشكل عليه ولنا أن لفظ الأمر صيغة اختصرت لمعناها من طلب الفعل لكن لفظ الفعل فرد وكذلك ساير الاسماء المفردة والمصادر مثل قول الرجل طلقي أي أوقعي طلاقا أو افعلي تطليقا أو التطليق وهما اسمان فردان ليسا بصيغتي جمع ولا عدد وبين الفرد والعدد تناف وكما لا يحتمل العدد معنى الفرد لم يحتمل الفرد معنى العدد ايضا وكذلك الامر بسائر الافعال كقولك اضرب اى اكتسب ضربا أو الضرب وهو فرد بمنزلة زيد وعمر وبكر فلا يحتمل العدد الا انه اسم جنس له كل وبعض فالبعض منه الذى هو اقله فرد حقيقة وحكما واما الطلقات الثلث فليست بفرد حقيقه بل هى اجزآء متعددة ولكنها فرد حكما لانها جنس واحد فصارت من طريق الجنس واحدا الا ترى انك اذا عددت الاجناس كان هذا باجزائه واحدا فصار واحدا من حيث هو جنس وله ابعاض كالانسان فرد من حيث هو آدمى ولكنه ذو أجزاء متعددة فصار هذا الاسم الفرد واقعا على الكل بصفة أنه واحد لكن الاقل فرد حقيقة وحكما من كل وجه وكان اولى بالاسم الفرد عند اطلاقه والآخر محتملا فأما ما بين الاقل والكل فعدد محض ليس بفرد حقيقة ولا صورة ولا معنى فلم يحتمله الفرد وكذلك سائر أسماء الاجناس إذا كانت فردا صيغة أو دلالة اما الفرد صيغة فمثل قول الرجل والله لا اشرب ماء أو الماء أنه يقع على الاقل ويحتمل الكل فأما قدرا من الاقدار المتخللة بين الحدين فلا فكذلك لا آكل طعاما أو ما يشبهه واما الفرد دلالة فمثل قول الرجل والله لا اتزوج النساء ولا اشتري العبيد ولا اكلم بني آدم ولا اشتري الثياب أن ذلك يقع على الاقل ويحتمل الكل لان هذا جمع صار مجازا عن اسم الجنس لانا إذا بقينا جمعا لغا حرف العهد اصلا وإذا جعلناه جنسا بقى اللام لتعريف الجنس وبقى معنى الجمع من وجه في الجنس و كان الجنس اولى قال الله تعالى
ﵟلا يحل لك النساءﵞ
وذلك لا يختص بالجمع فصار هذا وساير اسماء الجنس سواء وانما اشكل على الاقرع لانه اعتبر ذلك بسائر العبادات وعلى هذا يخرج أن كل اسم فاعل دل على المصدر لغة مثل قوله تعالى
ﵟوالسارق والسارقةﵞ
لم يحتمل العدد حتى قلنا لا يجوز أن اراد بالاية إلا الإيمان لان كل السرقات غير مراد بالإجماع فصار الواحد مرادا وبالفعل الواحد لا يقطع إلا واحد وموجب الأمر مر على ما فسرنا يتنوع نوعين وهذا تنويع في صفة الحكم & باب
يلقب بيان صفة حكم الأمر وذلك نوعان اداء وقضاء والاداء ثلثه انواع اداء كامل محض واداء قاصر محض وما هو شبيه بالقضاء والقضاء انواع ثلثة نوع بمثل معقول ونوع بمثل غير معقول ونوع بمعنى الاداء وهذه
Shafi 24
الأقسام تدخل في حقوق الله تعالى وتدخل في حقوق العباد ايضا و الاداء اسم لتسليم نفس الواجب بالأمر والقضاء اسم لتسليم مثل الواجب به كمن غصب شيئا لزمه تسليم عينه ورده فيصير به مؤديا وإذا هلك لزمه ضمانه فيصير به قاضيا وقد يدخل في الاداء قسم اخر وهو النفل على قول من جعل الأمر حقيقة في الاباحة والندب فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف قال الله تعالى
ﵟإن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلهاﵞ
وقد يدخل احدى العبارتين في قسم العبارة الأخرى فسمى الاداء قضاء لان القضاء لفظ متسع وقد يستعمل الاداء في القضاء مقيدا لان الاداء خصوصا بتسليم نفس الواجب وعينه لان مرجع العبارة إلى الاستقصاء وشدة الرعاية كما قيل في الثلاثي منه ( ع ) الذئب يأدو للغزال يأكله أي يحتال ويتكلف فيختله واما القضاء فاحكام الشيء نفسه لا ينبىء عن شدة لرعاية واختلف المشايخ في القضاء ايجب بنص مقصود أم بالسبب الذي يوجب الاداء فقال بعضهم بنص مقصود لان القربة عرفت قربة بوقتها وإذا فاتت عن وقتها ولا يعرف لها مثل إلا بالنص كيف يكون لها مثل بالقياس وقد ذهب وصف فضل الوقت وقال عامتهم يجب بذلك السبب وبيان ذلك أن الله تعالى اوجب القضاء في الصوم بالنص فقال فعدة من ايام اخر وجاءت السنة بالقضاء في الصلاة قال النبي عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فان ذلك وقتها فقلنا نحن وجب القضاء في هذا بالنص وهو معقول فإن الاداء كان فرضا فإذا فات فات مضمونا وهو قادر على تسليم مثله من عنده لكون النفل مشروعا له من جنسه أمر بصرف ما له إلى ما عليه وسقط فضل الوقت إلى غير مثل والى غير ضمان إلا بالاثم إن كان عامدا للعجز فإذا عقل هذا اوجب القياس به
Shafi 25
في قضاء المنذورات المتعينة من الصلوة والصيام والاعتكاف وهذا اقيس واشبه بمسائل اصحابنا ولهذا قلنا في صلوة فاتت عن ايام التشريق وجب قضاؤها بلا تكبير لانه لا تكبير عنده في ساير الايام ثم لم يسقط ما قدر عليه بهذا العذر ويتفرع من هذا الأصل مسألة النذر بالاعتكاف في شهر رمضان إذا صامه ولم يعتكف أنه يقضي اعتكافه ولا يجري في رمضان اخر قالوا أن القضاء إنما وجب بالتفويت ابتداء لا بالنذر والتفويت سبب مطلق عن الوقت فصار كالنذر المطلق لكنا نقول إنما وجب القضاء في هذا بالقياس على ما قلنا لا بنص مقصود في هذا الباب وإذا ثبت هذا لم يكن بد من اضافته إلى السبب الأول لا ترى أنه يجب بالفوات مرة وبالتفويت أخرى إلا أن الاعتكاف الواجب مطلقا يقتضي صوما للاعتكاف اثر في ايجابه وانما جاء هذا النقصان في مسألة شهر رمضان بعارض شرف الوقت وما ثبت بشرف الوقت فقد فات بحيث لا يتمكن من اكتساب مثله إلا بالحيوة إلى رمضان آخر وهو وقت مديد يستوي فيه الحيوة والموت فلم يثبت القدرة فسقط فبقى مضمونا باطلاقه وكان هذا احوط الوجهين لان ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة احتمل السقوط فالنقصان والرخصة الواقعة بالشرف لان يحتلم السقوط والعود إلى الكمال اولى وإذا عاد لم يتاد في الرمضان الثاني والاداء في العبادات يكون في الموقتة في الوقت وفي غير الموقتة أبدا على ما نبين انشاء الله تعالى والمحض ما يوديه الانسان بوصفه على ما شرع مثل الصلوة بالجماعة فأما فعل الفرد فأداء فيه قصور الا ترى أن الجهر عن المنفرد ساقط والشارع مع الإمام في الجماعة مؤد اداء محضا والمسبوق بعض الصلوة مؤد ايضا لكنه منفرد فكان قاصرا ومن نام خلف الإمام أو احدث فذهب يتوضأ ثم عاد بعد فراغ الإمام فهذا مؤد اداء يشبه القضاء ألا ترى انهم قالوا في مسافر اقتدى بمسافر في الوقت ثم سبقه الحدث أو نام حتى فرغ
Shafi 26