Kanisar Antakiya
كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى (الجزء الأول): ٣٤–٦٣٤م
Nau'ikan
وتجيء المرحلة الثالثة في التأريخ، وهي دور إثبات الحقائق المفردة، فيتابع المؤرخ البحث والتنقيب للوصول إلى طمأنينة العقل وسلامة الاستنتاج؛ فيبتعد أولا عن الروايات التي انفرد بها راو واحد، فإذا كانت العلوم الطبيعية تتطلب المشاهدة والاستدلال القياسي والتحقيق بالمقابلة والتجربة؛ فتبتعد كل الابتعاد عن الإطلاق في النتيجة من مشاهدة واحدة، فالتأريخ أولى بذلك منها؛ لأنه بعيد عن المشاهدة، ضعيف الاستدلال بالقياس، عديم التجربة؛ فحري بنا أن نبتعد عن كل رواية تاريخية انفرد بها راو واحد، فإذا قضت الظروف بتدوينها، فعلينا أن نصرح بأنها فريدة في بابها، وقد تتعدد الروايات التاريخية في أمر واحد فتتوافق أو تتناقض، وحيث تتناقض يجب على المؤرخ أن يترفع عن اتخاذ موقف وسط بين الطرفين، فإذا ما وقع مثلا على أصل من الأصول فيه أن عدد الشهداء كان أربعمائة، وآخر فيه أنهم كانوا مائتين؛ فإنه من الخطأ الفاضح أن يوفق بين الطرفين، فيزعم أن العدد الحقيقي كان وسطا بين الطرفين أي ثلاثمائة، فإذا جعل أحدهم حاصل الرقمين 2 × 2 أربعة، وجعل الآخر الحاصل ستة، فهل يقال إن الحاصل الحقيقي لا هذا ولا ذاك، بل هو خمسة؟! وعلى المؤرخ أن يعيد النظر لعله يكشف الستار عن عيب في إحدى الروايتين لم يتنبه إليه أولا، أو لعله يجد ما يجعله يثق بالواحدة أكثر من الأخرى، فيسقط ما قلت ثقته فيه ويرجح القول الآخر.
وعليه أن يمتنع عن الحكم إذا عم الشك وبانت قلة الثقة؛ فليس هنالك ما يضطره لإبداء رأيه وإصدار حكمه، والعالم من يعلم أنه لا يعلم، والشك في الإيمان قبل اليقين، وشدة الانطباق بين الروايات المختلفة توجب الشك لا الثقة، وهنالك تآلف بين الحقائق التاريخية لا بد من الالتفات إليه، والاستعارة هنا من فن الموسيقى، فكما تتآلف الألحان فتؤلف مجموعا شائقا، كذلك الروايات التاريخية المختلفة، فإنها إذا ما عبرت عن الحقيقة الراهنة، تتآلف بعضها مع بعض، فتتناصر على البطل وتلمع لمعان الحق .
وقد تتوفر الحقائق المفردة في ناحية، وتعدم في الناحية الأخرى، فيجتهد المؤرخ في تلافي ما قد يقع من فراغ ويتذرع بالمنطق، فيعمل أحيانا بما نسميه الاجتهاد السلبي، وأحيانا أخرى بالاجتهاد الإيجابي؛ والاجتهاد السلبي هو ما عبر عنه المناطقة بقولهم: «السكوت حجة.» ومعناه أن يتمكن المؤرخ من القول بأن كذا وكذا حدث أو لم يحدث؛ لأن الأصول ساكتة خالية، وهو أمر خطر للغاية، فقد يكون السكوت حجة وقد لا يكون، ولا بد من التثبت من أمور ثلاثة قبل التذرع بمثل هذه الحجة، وهي أن يكون المؤرخ على يقين جازم من أمر اطلاعه على جميع الأصول، وألا يعتريه شك في أن ما لديه من هذه المراجع الأولية هو جميع ما دونه السلف في الموضوع الذي يبحث، وأنه لم يضع منها شيء، وثالثا أن يتأكد من استحالة سكوت الأصول عن الموضوع الذي يبحث؛ وهكذا فإن حجة السكوت لا تتم إلا إذا اقترن بالراوي حالتان لا تنفصلان: أولاهما أن تكون الوقائع التي يمكن أن يكون قد سكت عنها وقائع يهتم بها اهتماما شديدا، والثانية أن يكون الراوي قد صمم على تدوين جميع الأخبار التي أحاط علما بها.
وسيتضح في تضاعيف هذا الكتاب أن بعض علماء الأوساط البروتستانتية وبعض علماء الكنيسة الكاثوليكية الغربية، لم يتقيدوا في بعض أبحاثهم بقواعد علم المصطلح؛ فدونوا استنتاجات من هذا النوع لا يقرها المنطق.
وهنالك محاولات في بعض المصنفات الغربية للحط من قدر رجالات الكنائس الأرثوذكسية، وللمبالغة في الاختلافات التي نشأت بين بعض كنائسنا، وهي أمور لا تخفى على كل ذي بصر.
وبعد هذا القدر كله من التحذير نوصي وننصح بمطالعة المصنفات التالية، أولا الموسوعة والقواميس العامة: قاموس الدومين كابرول ولكلرك في الليتورجية والآثار المسيحية،
15
وقاموس بودريار وفوغت وروزيس في تاريخ الكنيسة وجغرافيتها،
16
وقاموس فاكان ومانغينو وأمان في اللاهوت الكاثوليكي،
Shafi da ba'a sani ba