على أن ذلك لا يحدث، وجسمه لا زال كما هو بحجمه، ومن حوله أذرع وأرجل ورءوس وبطون ساخنة ولزجة تحيط به من كل جانب وتضغط وتضغط، لكنه لا ينضغط وتبقى تحت أي ثقل قطرة زئبق، وهو ليس أضعف من قطرة زئبق، إنه يقاوم بكل قوة؛ يقاوم حجم جسده، ويقاوم طول ساقيه، يقاوم كثافة لحمه وعظامه، يقاوم بكل قوته وكل حيله وفكره، يقاوم بغير كلل أو ملل وبغير فتور أو يأس، يتكور ويتقلص وينكمش داخل نفسه كثعبان يحاول أن يدخل في ثقب ضيق، تماما كثعبان، ليس تماما فهو ليس ثعبانا، إنه إنسان، أكثر مرونة، أكثر حيلة، وأكثر قدرة. كان له مكتب وساع ورئيس فرع، وكان له زوجة وابن وبيت من ثلاث غرف، وكان له سرير، أجل كان له سرير واسع ، يمد فوقه ساقيه لآخرهما ويتمدد فوق بطنه أو ظهره، ويغمض عينيه ويحلم، يحلم كما يحلم أي أحد أراد أو لم يرد، يحلم بحفل عشاء مع رئيس الفرع، يحلم بعلاوة استثنائية، يحلم بتحقيق المساواة بين البشر. أجل كان يحلم كل ليلة كأي أحد، وربما هو يحلم الآن، لكن السرير ليس تحته وإنما أرض صلبة رطبة كأرض الحمام، وعيناه غير مقفلتين، وساقاه ليستا ممدودتين أفقيتين كما يحدث في النوم، ولكنهما مرفوعتان إلى أعلى مقوستان متشابكتان فوق بطنه منثنيتان تحت ظهره. كيف استطاع أن يثني ساقيه إلى هذا الحد؟ كيف لانت مفاصله؟ كيف انثنت عظامه؟ إنه لا يدري، فهو لم يكن بطلا من أبطال اليوجا، ولكنه كان رجلا مفكرا يعيش بذهنه، ولا يحرك عضلاته إلا لقضاء ضرورة ملحة، وكانت مفاصله من قلة الحركة قد يبست وتصلبت، تطقطق أحيانا كلما جلس أو وقف كمفاصل الباب الصدئ، غير أن ذلك لم يكن يهمه أو يضره؛ فهو قادر في النهاية على أن يمشي ويجلس ويقف ويأكل ويمارس الجنس. ثم إن مفاصله ليست هي الوحيدة التي تطقطق، كثيرا ما سمع مفاصل زملائه، بل إن رئيس الفرع أيضا كانت مفاصله تطرقع.
على أن كل شيء أصبح مختلفا بطريقة مذهلة، وما كان في وسع أحد أن يتصور أن تلك الكتلة المستديرة المتكورة كانت في الأصل رجلا، أو يمكن أن تكون رجلا بعد أن تنفك وتتمدد، ما كان لأحد أن يتصور، لكن الأمر لم يكن خيالا أو حلما، كان حقيقة، حقيقة الأرض الصلبة الباردة تحت أليتيه، حقيقة السخونة ذات الرائحة الآدمية التي تملأ أنفه، وحقيقة وجود جسمه بثقله وحجمه، وجودا حقيقيا أكثر من أي شيء آخر، بل لا شيء غيره يبدو حقيقيا، لا شيء غيره يبدو موجودا، أو كان موجودا في وقت من الأوقات، لا مكتبه ولا الساعي ولا رئيس الفرع ولا زوجته ولا ابنه ولا بيته ولا حتى السرير، ربما كان كل عمره السابق حلما، حلما طويلا جدا، ربما كان أملا أو وهما أو دعوة صلاة، ربما كان أي شيء لكنه كان، وهو الآن بجسمه الضخم فوق تلك المساحة الصغيرة المحددة، يحاول أن يدخل في المربع، لكنه لا يدخل؛ فالمربع أصغر من جسمه، وجسمه أكبر من المربع، لكنه لا بد أن يدخل ولا بد لهذه اللحظة من أن تمر، هذه اللحظة التي احتوته في داخلها والتفت حوله وضيقت عليه الخناق كاللجام أو سلسلة من حديد، هذه اللحظة الضخمة الطويلة الممتدة إلى الأبد، كيف تكون لحظة واحدة من الزمن طويلة إلى هذا الحد؟ وكيف كانت اللحظات تمر به من قبل؟ وهل يمكن لهذه اللحظة أن تمر؟ إنه لا يعلم، ولكنه يعلم أنها لا بد ستمر، ربما بعد وقت طويل جدا لا يعرف طوله، وربما بعد مجهود فظيع مروع ليس في طاقة البشر، لكنها في النهاية ستمر هكذا كما تمر أي لحظة من العمر، وربما بالبساطة نفسها التي تمر بها أي لحظة أخرى.
الأنف
إذا كان واقفا على قدميه، فلماذا لا تكون قامته بطولها المعهود؟ ولماذا لا تكون أعضاء جسمه متراصة بعضها فوق البعض بالترتيب القديم: الرأس فوق، ومن تحتها الرقبة، فالصدر، فالبطن، فالساقان. والقدمان أليستا هما اللتين ترتكزان على الأرض؟
يبدو أن هذا ليس هو ما يحدث. إنه واقف، هذا شيء يدركه منذ وصل إلى هذا المكان، لكنه ليس واقفا على قدميه، وإنما على شيء مفلطح طري له طراوة بطنه. أيكون نائما؟ ولكنه يرتدي البدلة والحذاء والكرافتة، الكرافتة تلتف حول رقبته بإحكام، وربطتها تحت ذقنه مقوسة ومبرومة بإتقان. أجل، كرافتة محكمة حول الرقبة، كان هذا هو شرط الدخول إلى المكان.
ما العلاقة بين شريط طويل يغطي الرقبة وبين الاحترام؟ ولكن هناك أمكنة أكثر احتراما من الرقبة، وكان هو يحب رقبته عارية، وخاصة ذلك الغضروف المدبب «تفاحة آدم» دليل الرجولة الذي لا يقبل الشك، لكن تأتي أوقات لا يحتاج المرء فيها إلى دليل الرجولة أو الرجولة نفسها. ثم ما علاقة غضروف مدبب في الرقبة بالرجولة؟ هذا ما لا يستطيع أن يفهمه.
لكن الأشياء تبدو أكثر وضوحا، إنها ليست أشياء ولكنها شيء واحد، شيء واحد ابتلع كل الأشياء وأصبح ضخما، أكثر ضخامة من أي شيء رآه في حياته، أكثر ضخامة من الهرم الأكبر. حين وقف أمام الهرم كان يستطيع أن يرفع رأسه ويرى قمته، أما الآن فهو لا يستطيع أن يرى القمة، وربما لا يستطيع أن يرفع رأسه. إن رأسه ليس في ذلك الوضع الرأسي المألوف الذي يستطيع منه أن يحركه بسهولة ويرفعه، رأسه في وضع أفقي غريب، يتساوى في ارتفاعه عن الأرض مع رقبته وصدره وبطنه ومؤخرته، كأنه منبطح فوق بطنه على الأرض، أو على أقل تقدير: نائم على بطنه.
لكنه واقف، إذا كان الوقوف يعني الارتكاز على القدمين. إنه مرتكز بقدميه على الأرض، هذا شيء مؤكد أو يصبح مؤكدا الآن، والشيء الطري المفلطح ليس بطنه بأدنى شك، فهو يدوس عليه، يدوس عليه بكل ثقله حتى يكاد يغوص فيه. قد يكون الغوص هو السبب في ذلك القصر الشديد الذي أصاب قامته فأصبح قزما لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض.
ربما هو فخ نصب له. أي شيء يمكن أن يكون فخا في هذه الأوقات، وهو بطبيعته حذر شكاك يرتاب في كل شيء، ولكن أحيانا ما يخطئ ويثق، ليست ثقة تماما ولكن ثقة متشككة؛ فالأشياء لا تبدو هي الأشياء، والكلمات لا تبدو هي الكلمات، بل هو أيضا لا يبدو أنه هو. كان فارع الطول؛ إذا ما وقف على قدميه ارتفع رأسه فوق رقبته واستطاع أن يطل بعينيه إلى فوق.
لكن عينيه لا تستطيعان رؤية ما هو فوق، فالبناء ضخم، أضخم من الأهرامات لو أنها تراصت بعضها فوق البعض وأصبحت هرما واحدا قمته أعلى من قدرة البصر، وجسمه أكبر من حدود الحواس الخمس، بناء ضخم يحجب من خلفه السماء والشمس، ويرسم ظله الأسود الكثيف فوق الأرض وفوق البيوت والعمارات والشوارع والعربات ومباني الحكومة وقضبان الترام.
Shafi da ba'a sani ba