Nawa ne Shekarun Fushi?
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Nau'ikan
كان هيكل، بغير شك، مبالغا في حديثه عن العوامل الفردية والعائلية التي تحكمت في نشأة أنور السادات، وصبغت شخصيته فيما بعد بصبغتها المميزة، صحيح أنه، حين يكون الحكم فرديا مطلقا، تلعب شخصية الحاكم وأهواؤه، وربما نزواته، دورا لا يستهان به، يمكن أن ينعكس حتى على قراراته المصيرية، ولكن المشكلة هي أن العوامل الشخصية تقبل أشد التفسيرات تنوعا: فالابن الذي يضطهده أبوه أو يسيء معاملته، مثلا، يمكن أن يتحول إلى إنسان منحرف يضطهد الآخرين عندما يكبر، ويكون انحرافه هذا رد فعل على نشأته الأولى، ولكنه يمكن أيضا أن يكون إنسانا حنونا عطوفا على الآخرين، لا يريد لهم نفس المحنة التي مر هو ذاته بها، ويكون هذا أيضا رد فعل على نشأته الأولى. وهكذا فإن الحديث عن العقد النفسية للطفولة، وتأثيرها في الإنسان البالغ، هو دائما حديث محفوف بالمخاطر، يقبل أشد التأويلات تناقضا.
خذ مثلا فكرة الأصل المتواضع، والحياة الصعبة التي كانت تحياها أسرة السادات، هذا شيء يقبل تفسيرات شديدة التنوع، فكم من زعيم أسدى لشعبه أعظم الخدمات، وكان أصله المتواضع هو الحافز له على أن يفني حياته من أجل الشعب الذي يشعر دائما بانتمائه إليه! وإذا كان السادات قد أغرق نفسه في البذخ، بصورة مبتذلة، في حياته المتأخرة، فإن هذا اختيار واع من جانبه، وانتماء وانحياز منه إلى طبقة محددة، وليس مجرد عقدة نفسية عبرت عن نفسها بصورة عكسية، فلماذا لم تؤد عقدة الفقر بهوشي منه أو لومومبا مثلا إلى اختيار حياة القصور والاستراحات؟ ألم يكن جمال عبد الناصر نفسه فقيرا؟
1
بل إن مثل هذا التفسير يمكن أن يستخدم ضد هيكل نفسه، وقد أشار موسى صبري بوضوح مقزز إلى أصول هيكل العائلية ولمح إلى ما يسميه: خوفه من إظهار أبيه في الأماكن العامة، بل إن كاتبا قدم عملا روائيا ومسرحيا مشهورا، تضمن إشارات مماثلة تتعلق بشخصية من شخصيات الرواية، رأى كثير من النقاد أنها ربما كانت تعبيرا عن شخصية هيكل نفسه.
2
هذه أمثلة لا أذكرها إلى لكي أنقدها، وأبين أنها مبنية على فهم باطل من أساسه، لعملية تفسير مسلك رجل الدولة، ومع ذلك فقد تورط هيكل فيها، خلال فصوله الأولى، أكثر مما ينبغي، ولا شك أن نوعية الجمهور الذي وجه إليه الكتاب أصلا، وهو الجمهور الأمريكي، كانت مسئولة إلى حد بعيد عن هذا التورط، فالأمريكيون مصابون بهوس العقد النفسية والتفسيرات السيكولوجية الرخيصة، وهم ينفقون على العلاج النفسي ما يغطي ميزانيات عدة دول من العالم الثالث، دون أن يجنوا من ذلك إلا مزيدا من السلوك غير السوي. وهكذا خاطب هيكل جمهوره الأمريكي باللغة التي تروق له، ولكنها للأسف لغة لا تفسر شيئا، بل تزيد الأمور تعقيدا.
خذ مثلا مشكلة اللون، لقد كان هيكل - للإنصاف - واضحا في هذه المسألة، فأكد أن السادات كان معقدا من لونه «بلا داع»، وفي كل مرة كان يكرر أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى هذا التعقيد اللوني، ولكن مجرد الإشارة إلى اللون كانت كفيلة بإثارة ردود فعل غاضبة لدى كثير من الناس، وكان من أطرف ردود الفعل هذه، ما كتبه مستشار سوداني احتج بشدة على ما ذكره هيكل عن عقدة اللون عند السادات، الذي يحبه المصريون ويفخرون به ، وذاهبا إلى أن هذه إساءة إلى الشعب السوداني تعرقل مسيرة التكامل بين البلدين «في ظل قيادة الرئيس نميري»، ورأى المستشار فيما قاله هيكل تفرقة عنصرية، ومؤامرة مشتركة مع القذافي لعرقلة التكامل بين الشعبين، ولم ينس المستشار أن يشير إلى أسماء عدد من الشخصيات المصرية المشهورة التي كانت من أب سوداني أو أم سودانية، كمحمد نجيب، وعبد الله النجومي، وعلي عبد اللطيف، ولم يمنعهم ذلك من دخول التاريخ،
3
هذا رد فعل مبالغ فيه بغير شك، وربما كان طائشا، نتج عن فهم قاصر لإشارة هيكل إلى لون السادات، ولكن الموضوع بأكمله ما كان ينبغي أن يثار؛ لأن أخطاء الحكام، وخاصة حين تكون فادحة، أعقد من أن تفسر بمثل هذه العوامل.
ولكن لنتوقف وقفة أطول عند صفة أخرى أكدها هيكل بإلحاح، وأثارت ضده موجة من ردود الفعل العنيفة، وأعني بها نشأة السادات الفقيرة، التي أدت - وفقا لتفسيرات هيكل النفسية - إلى رد فعل في الاتجاه العكسي لدى السادات عندما أتيحت له فرص الإثراء، ولما كان هدفنا الدائم هو التوصل إلى أنماط الفكر التي أصبحت سائدة في أيامنا هذه، والتي تشهد على الانهيار العقلي المميز لعهود القهر والكبت، فسوف نبدأ بضرب أمثلة لردود الفعل التي لا يكاد يتصورها العقل، على ما قاله هيكل عن فقر السادات في حداثته: فالكاتب الذي اقتبسنا عنه من قبل، والذي تحدث بلسان السادات، ردا على هيكل، دون أن يذكر اسمه، يقول: «صدقوا فيما يقولون، نشأتي عقدتني، ذقت الفقر وقسوته فحاولت أن أجنب غيري تذوق مرارته، تملكتني عقدة الرخاء، وكانت أغلى أماني أن يوفقني الله إلى حماية من عنده لكل مصري ومصرية من مواجهة لا ترحم مع شيخوخة أو عجز أو عوز، وأن يقدرني على طلب الطعام من الصحاري لكل فم، وحق العلاج والدواء لكل عليل، وتوفير البيت لكل عروس، ويشهد الله والشعب الوفي الذي لا ينسى، أنني سعيت وحاولت قدر طاقتي.»
Shafi da ba'a sani ba