Nawa ne Shekarun Fushi?
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Nau'ikan
ولنستمع، بعد ذلك، إلى أستاذ مرموق في الطب، وأمين عام لنقابة الأطباء، وهو يهاجم الصحيفة التي نشرت مقالات هيكل الأولى قبل أن تصادر، فيقول: «هذه الصحيفة صدرت في ظل الحريات، وقانون الأحزاب التي أرسى قواعدها من أرادوا نهش لحمه حيا وميتا، لا لشيء إلا لأنه اتخذ موقف الصدق مع شعبه، واستجاب لمطلب أمته وأعلن عداءه للشيوعية ...»
ويواصل الطبيب الكبير كلامه قائلا: «لا أظن أن مصريا لم يتابع جنازة السادات، ولم تدمع عيناه، ولم يكتو قلبه لوعة وحزنا على النهاية، التي أودت بحياة رئيس مصر ورمزها ...» ثم يقول: «لقد بلغ به الغضب قمته عندما رأى من مد يديه إليهم بالخير، وفتح لهم أبواب الحرية، وسمح لهم بالتعبير عما يجيش في صدورهم من رأي، يمدون إليه أيديهم بالشر وأقلامهم بالقذف.»
2
وأخيرا، يتخيل كاتب لم يشأ ذكر اسمه أن السادات قد تولى الرد على هيكل ، فيتحدث بلسانه قائلا: «كرهت لإنسان أن ينزع مثلي من منامه فأوقفت زوار الفجر، ومقت لآمن انتهاك حرمته، فأحرقت أشرطة الأسرار ومنعت التسجيل والتصنت، وتصديت لشريعة الغاب فأغلقت المعتقلات، وآمنت بحق الدفاع عن النفس فأعليت سيادة القانون ... واغفروا لي إن كان قد دفعني بعض الأبناء، إلى ما لا يمكن أن يحبه ويرضاه أب لكل الأبناء.»
3
نماذج ثلاثة لم أخترها لكي أناقش أصحابها أو أرد عليهم، بل لكي يفتح القارئ عينيه، من خلالها، على الانهيار الفكري الذي تولده عهود الانفراد بالسلطة والرأي الواحد، فما هي العيوب الفكرية التي تكشف عنها هذه النماذج؟
أولا:
حين يتحدث النموذج الأول عمن يكتبون بلا وفاء، فإنه يسقط الاعتبارات الأخلاقية الشخصية على التقييم السياسي، وكأن المؤرخ ملزم، من أجل الوفاء للحاكم، إذا كان قد أسدى إليه خدمات معينة، بأن يغمض عينيه عن عيوب هذا الحاكم، ويغش جمهوره عندما يصدر حكما عليه، ثم يزداد الخلط والتشويش (الذي لا أظنه كله متعمدا، بل هو يعبر عن الطريقة التي أصبح يفكر بها الكاتب نفسه) حين يتحدث عن «سمعة الوطن»، واهدار الحرمات، والتشهير بالرجال والنساء، ويصل الضباب الفكري إلى ذروته، عندما يستخدم الكاتب تعبيرات إنشائية، لا مجال لها على الإطلاق في السياق الذي يتناوله، وكل ما تؤدي إليه هو إيجاد جو من التعاطف مع «الضحية»، أو جو من النفور من «المعتدي»، مثل «العدوان على سمعة الذين هم في ذمة التاريخ» أو «تمزيق الأشلاء»، هكذا أصبح للتاريخ «ذمة»، وهذه الذمة تحمي الحاكم من أي نقد، وتجعل من يمس الحكام اللاجئين إليها «ممزقا للأشلاء»!
ثانيا:
أما النموذج الثاني فأمره أغرب، إنه يؤكد ببساطة شديدة أن السادات، حين أعلن عداءه للشيوعية، إنما اتخذ موقف الصدق مع شعبه واستجاب لمطلبه، وهكذا يقرر الطبيب المرموق أن مطلب الشعب المصري ليس المعيشة الآدمية، ولا المواصلات السهلة، ولا المسكن المعقول، ولا الخبز الضروري، وإنما هو العداء للشيوعية. ولا يخجل الكاتب من أن ينسب اللوعة والحزن إلى المصريين جميعا في تلك الجنازة التي شهد الأمريكان أنفسهم بأنها قوبلت من الشعب بعدم اكتراث كامل. وأخيرا، فإن الكاتب ينظر إلى الحاكم على أنه ولي النعم، ويصل به تقديس الفرد، واحتقار الجماهير، إلى حد القول إنه هو الذي يمد يديه بالخير، وهو الذي يفتح أبواب الحرية، وهو الذي يسمح للناس بالتعبير، ويرى هذا كله وضعا طبيعيا يدافع عنه بحرارة، وفي مقابل ذلك فإن المعارضين الجاحدين، لا يردون على هذا الخير الذي يتصدق عليهم الحاكم به إلا بالشر والقذف.
Shafi da ba'a sani ba