الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له٠ وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه رحمة للعالمين، وحجة على المعاندين، الذي أكمل به الدين، وختم به الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فهذه فصول وكلمات نقلتها من كلام العلماء المجتهدين من أصحاب الأئمة الأربعة الذين هم أئمة أهل السنة والدين، في بيان بعض الأفعال والأقوال المكفرة للمسلم المخرجة له من الدين، وأن تلفظه بالشهادتين وانتسابه إلى الإسلام وعمله ببعض شرائع الدين لا يمنع من تكفيره وقتله وإلحاقه بالمرتدين. والسبب الحامل على ذلك أن بعض من ينتسب إلى العلم والفقه من أهل هذا الزمان غلط في ذلك غلطا فاحشا قبيحا، وأنكر على من أفتى به من أهل العلم والدين إنكارا شنيعا، ولم يكن لهم بإنكار ذلك مستند صحيح لا من كلام الله ولا من كلام رسوله ولا من كلام أئمة العلم والدين، إلا انه خلاف عاداتهم وأسلافهم، عياذا بالله من الجهل والخذلان والتعصب. وأذكر من ذلك ما مست إليه الحاجة وغلط فيه من غلط من المنسوبين إلى العلم في هذا الزمان، الذين غلبت عليهم الشقاوة والجهل والتعصب والخذلان، لما جبلوا عليه من مخالفة الكتاب والسنة، وعمل السلف والأئمة المهديين، وحب الرياسة وشهوات الدنيا، والطمع فيما في أيدي الناس والفسقة المعاندين، نسأل الله أن يوفقنا لما يرضاه من العمل، ويجنبنا ما يسخطه من الزلل، إنه لا يخيب من رجاه، ولا يرد سؤال من دعاه، فنقول وبالله التوفيق: اعلم أن هذه المسائل من أهم ما ينبغي للمؤمن الاعتناء به، لئلا يقع في شيء منها وهو لا يشعر، وليتبين له الإسلام والكفر حتى يتبين له الخطأ من
1 / 329
الصواب، ويكون على بصيرة في دين الله ولا يغتر بأهل الجهل والارتياب، وإن كانوا هم الأكثرين عددا، فهم الأقلون عند الله وعند رسوله والمؤمنين قدرا. وقد اعتنى العلماء ﵃ بذلك في كتبهم، وبوبوا لذلك في كتب الفقه في كل مذهب من المذاهب الأربعة وهو (باب حكم المرتد)، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أنواعا كثيرة كل نوع منها يكفر به المسلم ويبيح دمه وماله، وسأذكر من ذلك إن شاء الله تعالى ما يكفي ويشفي لمن هداه الله وألهمه رشده، وأجعل كلام كل طائفة من أتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - على حده ليسهل ذلك على من أراد الاطلاع عليه. ونبدأ بكلامهم في الشرك الأكبر وتكفيرهم لأهله حين وقع في زمانهم من بعض المنتسبين إلى الإسلام والسنة، لأنه هو المهم، فنقول: أما كلام الشافعي فقال ابن حجر رحمه الله تعالى في: (كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر): (الكبيرة الأولى) الكفر أو الشرك أعاذنا الله من ذلك. ولما كان الكفر أعظم الذنوب كان أحق أن يبسط الكلام عليه وعلى أحكامه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾ وقال تعالى: ﴿إِنّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَوَمَأواهُ النَّارُ﴾ وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس فقال: "ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا ليته يسكت" ثم ذكر أحاديث كثيرة ثم قال: (تنبيهات): منها بيان الشرك وذكر جملة من أنواعه لكثرة وقوعها في الناس وعلى ألسنة العامة من غير أن يعلموا أنها كذلك، فإذا بانت لهم فلعلهم أن يجتنبوها لئلا تحبط أعمال مرتكبي ذلك، ويخلدوا في أعظم العذاب وأشد العقاب. ومعرفة ذلك أمر مهم جدا، فإن من ارتكب مكفرا تحبط جميع أعماله، ويجب عليه قضاء الواجب منها عند جماعة من الأئمة كأبي حنيفة، ومع ذلك فقد توسع أصحابه
1 / 330
في المكفرات وعدوا منها جملا مستكثرة جدا وبالغوا في ذلك أكثر من بقية أئمة المذهب. هذا مع قولهم بأن الردة تحبط جميع الأعمال، وبأن من ارتد بانت منه زوجته وحرمت عليه فمع هذا التشديد بالغوا في الاتساع في المكفرات، فتعين على ذي مسكة في دينه أن يعرف ما قالوه حتى يجتنبه ولا يقع فيه فيحبط عمله ويلزمه قضاؤه وتبين منه زوجته عند هؤلاء الأئمة، بل عند الشافعي رحمه الله تعالى أن الردة إن لم تحبط العمل لكنها تحبط ثوابه فلم يبق الخلاف بينه وبين غيره إلا في القضاء فقط. ثم ذكر أنواع الكفر نوعا نوعا، وسيأتي بقية كلامه إنشاء الله تعالى في ذلك. لكن تأمل رحمك الله قوله: لكثرة وقوعها في الناس على ألسنة العامة من غير أن يعلموا أنها كذلك، وأن الشرك والردة قد وقع فيه كثير من أهل زمانه، يتبين لك مصداق ما قلنا إ نشاء الله تعالى وقال النووي في شرح مسلم: وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو عيسى أو للكعبة ونحو ذلك. وكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا، فإن القصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح قبل ذلك مسلما صار بالذبح مرتدا. انتهى. فتأمل قوله: فإن القصد مع ذلك الخ تجده صريحا في أن المسلم إذا قصد بالذبح لغير الله تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له أنه يصير كافرا مرتدا. والله أعلم. (فصل): وأما كلام الحنفية فقال في كتاب تبيين المحارم المذكورة في القرآن: (باب الكفر) وهو الستر وجحود الحق وإنكاره، وهو أو ل ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ الآية، وهو أكبر الكبائر على الإطلاق فلا كبيرة فوق الكفر. إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: نوع يتعلق بالله سبحانه، ونوع يتعلق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ونوع يتعلق بنبينا ﷺ وسائر الأنبياء
1 / 331
والملائكة والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام. فأما ما يتعلق بالله ﷾ إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به: بأن شبه الله بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول والإتحاد، أو معه قديم غيره. أو معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه سبحانه جسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزيئات، أو سخر باسم من أسمائه، أو أمر من أوامره، أو وعيده، أو وعده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله تعالى، أو سب الله سبحانه، أو دعي أن له ولد وصاحبة، أو متولد بشيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئا من خلقه، أو افترى على الله ﷾ الكذب بادعاء الإلهية والرسالة، أو نفى أن يكون خالقه ربه وقال ليس لي ربا، أو قال لذرة من الذرات هذه خلقت عبثا ومهملا، وما أشبه ذلك مما لا يليق به: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ يكفر في هذه الوجوه كلها بالإجماع، سواء فعله عمدا أو هزلا ويقتل إن أصر على ذلك، وإن تاب تاب الله عليه وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه. فتأمل رحمك الله تصريحه بأن من أشرك في عبادة الله غيره أنه يكفر بالإجماع، ويقتل إن أصر على ذلك. والعبادة التي لا تصلح إلا لله ولا يجوز أن يشرك معه فيها غيره أنواع: منها الدعاء لجلب خير أو دفع ضر، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ وقال تعالى ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِب كُمْ﴾ وقال: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ وقال رسول الله ﷺ لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". ومن أنواع العبادة الصلاة فلا يصلي إلا لله، ولا يسجد ولا يركع إلا لله وحده، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر﴾ أي أخلص لربك الصلاة والنحر لا شريك له في ذلك، وقال النبي ﷺ: "لعن الله من ذبح لغير الله" وقد قرن الله بين هاتين العبادتين الصلاة والنسك - في هاتين الآيتين، فإذا كان من صلى
1 / 332
لغير الله أو ركع لغير الله أو سجد لغير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره، فكذلك من ذبح القربان لغير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره. ومن أنواع العبادة أيضا الخشية، فلا تجوز الخشية إلا لله وحده، قال الله تعالى: ﴿فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ فجعل الطاعة لله ولرسوله، وجعل الخشية والتقوى لله وحده. ومن أنواع العبادة التوكل وهو إسناد العبد أمره إلى الله وحده لا شريك له في جميع أموره الدينية والدنيوية، قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فمن توكل على غير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره. ومن أنواع العبادة الاستعانة، قال تعالى: ﴿) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وقال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ وقال النبي ﷺ لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" فمن استعان بغير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره. ومن أنواع العبادة النذر فلا ينذر إلا لله وحده، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ وقال تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِوَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ وقال النبي ﷺ: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". والحاصل أن "العبادة" اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من أقوال العباد وأفعالهم مما أمرهم به في كتابه على لسان رسوله ﷺ، وقد صرح هذا الحنفي في كتابه الذي قدمته لك أن من أشرك في عبادة الله غيره فهو كافر بالإجماع سواء فعله عمدا أو هزلا، وإنه يقتل إن أصر على ذلك، وإن تاب تاب الله عليه، وسلم من القتل. والله أعلم. وذكر أيضا أن ما يكون فعله كفرا بالاتفاق إذا فعله المسلم تحبط جميع أعماله ويلزمه إعادة الحج ولا يلزمه إعادة الصلاة والصوم
1 / 333
لأنهما يسقطان عن المرتد ويكون وطؤه مع امرأته حراما وزنا، وإن أتى بكلمة الشهادة بحكم العادة ولم يرجع عما قاله لا يرتفع الكفر. والله أعلم. وقال الشيخ قاسم في شرح الدرر: النذر الذي يقع من أكثر العوام - بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب والطعام والشمع كذا - باطل إجماعا لوجوه: (منها) أن النذر للمخلوق لا يجوز، (ومنها) أن ذلك كفر - إلى أن قال - وقد ابتلي الناس بذلك لاسيما في مولد أحمد البدوي اهـ. صرح بأن النذر كفر يكفر به المسلم. والله أعلم. ومن كلام الشافعية أيضا ما قاله الإمام المحقق ناصر السنة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل من إبراهيم محدث الشام المعروف بأبي شامة في كتاب: (الباعث، على إنكار البدع والحوادث): ومن هذا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، ومواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي بين عيون وشجر، وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق صانها الله تعالى مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق وسفيان بن عيينة عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة يأتونها كل سنة فيعلقون عليها سلاحهم ويعكفون عندها ويذبحون لها - وفي رواية - خرجنا مع النبي ﷺ قبل حنين وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله - وفي الرواية الأولى - وكانت تسمى ذات أنواط فمررنا بشجرة عظيمة خضراء فتنادينا من جنبتي الطريق ونحن نسير إلى حنين يا رسول الله اجعل
1 / 334
لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي ﷺ: "هذا كما قال قوم موسى لموسى ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ لتركبن سنن من كان قبلكم" أخرجه الترمذي بلفظ آخر والمعنى واحد وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي في كتابه: فانظروا رحمكم الله تعالى أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البر والشفاء من قبلها وينوطون بها أسلحتهم ويضربون عليها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها. قلت: ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الحينبائي رحمه الله تعالى -أحد الصالحين ببلاد إفريقية في المائة الرابعة- حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كان العامة قد افتنوا بها يأتونها من الآفاق، من تعذر عليه نكاح أو ولد قال: امضوا بي إلى عين العافية فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة إذا سمعت أذان أبي إسحاق نحوها فخرجت فوجدته قد هدمها وأذن الصبح عليها ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا. فما رفع لها رأسا إلى الآن. قلت وأدهى من ذلك وأمر أمر إقدامهم على الطريق السابلة يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية التي هي من بناء الجن في زمن نبي الله سليمان ابن داود ﵉، أو من بناء ذي القرنين، وقيل فيها غير ذلك ما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب تاريخ مدينة دمشق حرسها الله تعالى، وهو الباب الشمالي ذكره لهم بعض من لا يوثق به في أحد شهور سنة ست وثلاثين وستمائة أنه رأى مناما يقتضي أن ذلك المكان دفن فيه بعض أهل البيت، وقد أخبرني عنه ثقة أنه اعترف له أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المنارة فيه وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوب وقد كان الطريق يضيق بسالكيه فتضاعف الضيق والحرج على من دخل وخرج، ضاعف الله العذاب لمن تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان هدامه وإزالته اتباعا لسنة النبي ﷺ في هدم مسجد الضرار المرصد لأعدائه من الكفار. قلت: فلم ينظر الشرع إلى كونه مسجدا، وهدمه لمن قصد به السوء والردى، وقال الله تعالى لنبيه ﷺ ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
1 / 335
عَلَى التَّقْوَى﴾ الآية، أسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه. انتهى. فتأمل رحمك الله تعالى هذا الإمام وتصريحه بأن الذي تفعله العامة في زمانه في العمد والشجر والمواضع المخصوصة أنه مثل فعل المشركين بذات أنوا ط، وكذلك تصريح أبي بكر الطرطوشي وكان من أئمة المالكية بأن كل شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها فهي ذات أنواط، وكذلك تأمل قوله: ولقد أعجبني ما فعله الشيخ أبو إسحاق ببلاد إفريقية في المائة الرابعة في هدمه تلك العين التي تسمى عين العافية لما رأى الناس يقصدونها ويتبركون بها، يتبين لك أن الشرك قد حدث في هذه الأمة من زمان قديم، وأن أهل العلم ﵃ ينكرون ذلك أشد الإنكار ويهدمون ما قدروا عليه مما يفتتن به الناس وأن هذا مما حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة، وأن ذلك ليس من الدين بإجماع أهل العلم، ويجب على من قدر على ذلك إزالته، فويل للأمراء والقضاة القادرين على إزالته والنهي عنه. وتأمل أيضا كلام أبي شامة في المسجد الذي بني على قارعة الطريق، وتمنيه هدمه وإزالته، وتشبيهه إياه بمسجد الضرار، وكان أبو شامة رحمه الله تعالى في أوائل القرن السابع، ومعلوم أن الأمر لا يزيد إلا شدة، والله أعلم. فهذا ما وقفنا عليه من كلام الشافعية والحنفية [والمالكية] في هذه المسألة. (فصل): وأما كلام الحنابلة فقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغاة عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم إذا لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج أو كتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا، وكذا إلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. انتهى كلامه. فتأمل قوله وهم عندي كفار بهذه الأوضاع وتشبيهه إياهم بمن عبد اللات والعزى. وقال الشيخ تقي الدين في "الرسالة السنية" لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره ﷺ بقتالهم قال: فإذا كان على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب
1 / 336
إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك لأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه فقال: ﴿لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ الآية، وعلي بن أبي طالب ﵁ حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم لكن ابن عباس مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني أو انصرني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا يجعل معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ويقولون ﴿هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾، فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ الآية، قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة إلى أن قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وكان ﷺ يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"، ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي ﷺ عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله فلا
1 / 337
يشبه بيت المخلوق بيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وقال ﷺ: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" والإله هو الذي يألهه القلب عبادة واستعانة ورجاء له وخشية وإجلالا. انتهى كلامه. فتأمل أول الكلام وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني ونحوه، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل الشرك وقتلهم بعد الاستتابة وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه الذي يألهه القلب أي يقصده بالعبادة والخشية والإجلال والتعظيم، وإن زعم أنه لايريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا هو مطلوب المشركين الأولين، واستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات. والله أعلم. وقال رحمه الله تعالى في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم): وكانت الطواغيت الكبار التي تشد لها الرحال ثلاثة: اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب، فكانت لأهل الطائف ذكروا أنه في الأصل رجل صالح يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا عن قبره. وأما العزى فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون. وأما مناة فكانت لأهل المدينة، وكانت حذو قديد من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعرف كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله تعالى وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي ﷺ وأحوال العرب في زمانه وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء، ولما كان للمشركين شجرة يعقلون عليهم أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط قال بعض الناس: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات
1 / 338
اأنواط، فقال: "الله أكبر إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم"، فأنكر ﷺ مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين سلاحهم، فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه؟ - إلى أن قال -: فمن ذلك أمكنة بدمشق مثل مسجد يقال له مسجد الكف يقال أنه كف علي بن أبي طالب ﵁ حتى هدم الله ذلك الوثن، وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد، وفي الحجاز منها مواضع. انتهى كلامه. فتأمل رحمك الله تعالى كلام هذا الإمام في اللات والعزى ومناة وجعله بعينه هذا الذي يفعل بدمشق وغيرها من البلاد من ذلك، وتأمل قوله
على حديث ذات أنواط وتدبره فإنه نافع جدا. وقال رحمه الله تعالى في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾: ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة. فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم وإن قال بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلامه. فتأمل رحمك الله هذا الكلام وتصريحه فيه بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة فهو كافر مرتد لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان: الأول أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع، والثاني أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ وتأمل قوله: ومن هذا يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. والله أعلم
1 / 339
(فصل): وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل في كتاب التوبة: "وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لتنقص معبوديهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا تنقص أحد رب العالمين، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده على لسانه إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه حاجته إلى الله وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وهؤلاء اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ . فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله زلفى، وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره. والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكر الله عليهم في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا﴾ وقوله: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ والقرآن مملوء من مثل هذه الآية، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين المرء وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب ﵁: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الأيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول ﷺ ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا. فالله المستعان.
1 / 340
ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى والاستعانة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لايملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله. وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجهعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، والميت يحتاج لمن يدعو له، كما أوصانا النبي ﷺ إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم! ولله در خليله إبراهيم ﵇ حيث قال: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ الآية، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وتقرب بمقتهم إلى الله". انتهى كلامه ﵀. فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن من دعا الموتى وتوجه إليهم واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله فقد فعل الشرك الأكبر الذي بعث محمد ﷺ بإنكاره وتكفيره من لم يتب منه وقتاله ومعاداته، وأن هذا قد وقع في زمانه وأنهم غيروا دين الرسول ﷺ وعادوا أهل التوحيد الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وتأمل قوله أيضا: وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره. يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى، ولكن تأمل أرشدك الله تعالى قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين لله إلى آخره، يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله، والله أعلم.
1 / 341
وقال رحمة الله عليه في كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) في الكلام على غزوة الطائف وما فيها من الفقه قال: وفيها أن لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهى أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء أي شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركا عندها وبها. والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق أو ترزق وتحي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما كان يفعله من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، أخذوا مأخذهم شبرا شبرا وذراع بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد اليأس. وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ومنها جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين، كما أخذ النبي ﷺ أموال اللات وأعطاها أبا سفيان يتألفه بها وقضى منها دين عروة والأسود، وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها والوقف عليها باطل، ومال ضائع، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام ومن أتبع سبيلهم. والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فتأمل رحمك الله تعالى هذا الكلام وما فيه من التصريح بأن هذا الذي يفعل عند المشاهد والقباب التي على القبور في كثير من البلدان أنه هو الشرك الأكبر
1 / 342
الذي فعله المشركون، وأن كثيرا منها بمنزلة اللات والعزى ومناة بل أعظم شركا من شرك أهل اللات والعزى ومناة وتصريحه بأنهم فعلوا فعل المشركين، واتبعوا سبيلهم حذو القذة بالقذة. وتأمل قوله: وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم، والله أعلم. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى - لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام - فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة رضى الله عنهم مانعي الزكاة. وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، مع سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضى الله عنهما، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة. وكذلك ثبت عن النبي ﷺ من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكن مع صيامهم" فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب، فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء والأموال أو الخمر أو الزنا أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها والتي يكفر الواحد بجحودها. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء، وإنما اختلف العلماء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر أو الأذان أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين
1 / 343
عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ فإن أولئك خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذي قاتلهم علي ابن أبي طالب ﵁، ولهذا افترقت سيرته ﵁ في قتاله أهل البصرة وأهل الشام وفي قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك، وثبتت النصوص عن النبي ﷺ بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق ﵁ لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فتأمل رحمك الله تعالى تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى بأن من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام كالصلوات الخمس والصيام والزكاة أو الحج، أو ترك المحرمات كالزنا أو تحريم الدماء والأموال أو شرب الخمر أو المسكرات أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله لله ويلتزموا جميع شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائع الإسلام، وأن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الطوائف، الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عمل بالكتاب والسنة. فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال الكفر وخروج عن الإسلام كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام بل هم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة. والله أعلم. وقال الشيخ رحمه الله تعالى في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصديق لعمر ﵄: والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن يخلون بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة وهي قتل مقاتلهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعا أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره حتى
1 / 344
ناظرهم فرجعوا إلى قوله. وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، وهذه حجة من قال إن قاتلوا الإمام عليها كفروا وإلا فلا فإن كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة، بخلاف من لم يقاتل الإمام عليها، فإن في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قيل له: منع ابن جميل، فقال: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله" فلم يأمر بقتله ولا حكم بكفره. وفي السنن من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ: "ون منعها فإنا آخذوها وشطر إبله" الحديث. انتهى. فتأمل كلامه وتصريحه بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام أنهم يقاتلون، ويحكم عليهم بالكفر والردة عن الإسلام وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم والحكم عليهم بالكفر والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الصحابة ﵃ والله أعلم. وقال الشيخ رحمه الله تعالى في كتاب (الصارم المسلول، على شاتم الرسول): قال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة يعدل بالشافعي وأحمد: أجمع المسلمون أن من سب الله أو رسوله أو دفع شيئا مما أنزل الله أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله. وقال محمد بن سحنون أحد الأئمة من أصحاب مالك: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول ﷺ كافر، وأن حكمه عند الأئمة قتل، ومن شك في كفره كفر. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن على من سبه القتل، وقال الإمام أحمد فيمن سبه: يقتل، قيل: فيه أحاديث؟ قال: نعم، منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة، وقول ابن عمر: من شتم النبي ﷺ قتل. وعمر بن عبد العزيز يقول: يقتل. وقال في رواية عبد الله: لا يستتاب، فإن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي ﷺ ولم يستتبه. انتهى. فتأمل رحمك الله تعالى كلام إسحاق بن راهويه ونقله الإجماع على أن من سب الله أو سب رسوله ﷺ أو دفع شيئا مما أنزل الله فهو كافر - وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله - يتبين لك أن من تلفظ بلسانه بسب الله تعالى أو سب رسوله ﷺ فهو كافر مرتد عن الإسلام، وإن أقر بجميع ما أنزل الله، وإن كان هازلا بذلك لم
1 / 345
يقصد معناه بقلبه، كما قال الشافعي ﵁: من هزل بشيء من آيات الله فهو كافر، فكيف بمن هزل بسب الله تعالى أو بسب رسوله ﷺ، ولهذا قال الشيخ تقي الدين: قال أصحابنا وغيرهم: من سب الله كفر - مازحا أو جادا - لقوله تعالى: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ الآية. قال: وهذا هو الصواب المقطوع به. اهـ. ومعنى قول إسحاق رحمه الله تعالى: "أو دفع شيئا مما أنزل الله" أن يدفع ويرد شيئا مما أنزل الله في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ من الفرائض أو الواجبات أو المسنونات أو المستحبات، بعد أن يعرف أن الله أنزله في كتابه أو أمر به رسوله ﷺ أو نهى عنه ثم دفعه بعد ذلك فهو كافر مرتد وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله من الشرع إلا ما دفعه أو أنكره لمخالفته هواه أو عادته أو عادة أهل بلده، وهذا معنى قول العلماء ﵃: من أنكر فرعا مجمعا عليه فقد كفر فإذا كان من أنكر النهي عن الأكل بالشمال أو النهي عن إسبال الثياب - بعد معرفته أن الرسول صلى الله ليه وسلم نهى عن ذلك - فهو كافر مرتد وإن كان من أعبد الناس وأزهدهم، فكيف بمن أنكر إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الدعوة والاستغاثة والنذر والتوكل وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده، ولا يصلح منها شيء لملك مقرب ولا نبي مرسل، التي أرسل الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه لأجل معرفتها والعمل بها، التي هي أعظم شعائر الإسلام الذي هو معنى لا إله إلا الله، فمن أنكر ذلك وأبغضه وسبه وسب أهله وسماهم الخوارج فهو الكافر حقا الذي يجب قتاله حتى يكون الدين كله لله بإجماع المسلمين كلهم. والله ﷾ أعلم. صل. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الإغاثة: قال ﷺ: "لا تتخذوا قبري عيدا" وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي اتخاذها أعيادا من المفاسد العظيمة ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، ولكن: ما لجرح بميت إيلام. (منها): الصلاة إليها والطواف بها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات التي كان
1 / 346
عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه ﷺ أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه، وإذا لعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد يعبد الله عندها فكيف بملازمتها واعتياد قصدها؟ ومن جمع بين سنة رسول الله ﷺ في القبور وما أمر به ونهى عنه وما عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر، فنهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد. ونهى عن تسريجها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى أن نتخذها عيدا وهؤلاء يتخذونها أعيادا، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن علي ﵁، وهؤلاء يرفعونها ويجعلون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما في صحيح مسلم عن جابر ﵁، ونهى عن الكتابة عليها كما رواه الترمذي في صحيحه عن جابر، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما رواه أبو داود عن جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار، وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، وصنفوا لها (مناسك حج المشاهد) ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عبادة الأصنام. فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه الرسول ﷺ لأمته وبين ما شرعه هؤلاء. والنبي ﷺ أمر بزيارة القبور لأنها تذكر الآخرة، وأمر الزائر أن يدعو لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا. فهذه الزيارة التي أذن الله فيها لأمته وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع. أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما فاله الإمام مالك: " لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها" ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك. ولقد جرد السلف الصلح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى لله عليه وسلم ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا. وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة للدعاء حتى لا يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة.
1 / 347
وبالجملة فالميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع الصلاة عليه من الدعاء ما لم يشرع مثله للحي، ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له والدعاء له. وكان ﷺ يقف على القبر بعد الدفن فيقول: "سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم: فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت إلى الزيارة بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد. وذكر ابن إسحاق عن أبي العالية قال: لما فتحنا (تستر) وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فحملنا المصحف إلى عمر فدعا كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن، فيه سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل، قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس أن لا ينبشوه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: دانيال. قلت: منذ كم مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف وعبدوه، فهم قد اتخذوا من قبور من لا يدانيه أوثانا وجعلوا لها سدنة. وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير، فقطع عمر بن الخطاب ﵁ الشجرة التي بويع رسول الله ﷺ تحتها. ولما رأى عمر الناس يذهبون فسأل عن ذلك فقيل: مسجد صلى فيه رسول الله ﷺ؛ يصلون فيه. فقال: إنما كان أهلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته منكم الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها. وقد أنكر الرسول ﷺ على الصحابة لما سألوه شجرة يعلقون عليها
1 / 348