تهدم بذلك أساس حكومة المديرين، وقامت في فرنسا حكومة أخرى اسمها حكومة القناصل؛ لأنها كانت تحت ثلاثة رجال يدعون بهذا الاسم. كانت مدة حكم القنصل عشر سنوات، وكان أكبر هؤلاء نابليون، وله السلطة كلها. أما رفيقاه، ومنهما سياس صاحب المشروع، فلم يكن لهما من الأمر إلا سلطة استشارية، وتتألف باقي الحكومة من ثلاثة مجالس: مجلس الثمانين، ومجلس الشورى وعدد أعضائه 300 شخص، ومجلس آخر عدد أعضائه مائة. كان العمل يوزع بين هذه المجالس بحيث لا يقترع مجلس على مشروع من الحكومة إذا كان هذا المجلس قد بحثه، ولا يبحث هذا المشروع مجلس يكون قد اقترع عليه.
ابتدأ نابليون بعد ذلك أن يمثل دور الملك، فكتب إلى جورج الثالث ملك إنجلترا يومئذ يقترح عليه عقد صلح بين القطرين، فرفض الملك هذه الفكرة، وكان نابليون قد أخرج الروسيا من الاتفاق الذي حصل بين الدول ضده، وكان حتما عليه أن يقضي عليه، فانصرف نابليون في داخلية البلاد إلى تدريب جيش جرار من أبناء فرنسا، فلم تمض عليه برهة من الزمان حتى اجتمع لديه ربع مليون من الجنود النظامية، ثم عمد إلى الصحافة فقيدها وكم أفواهها، ونشر من الجواسيس والعيون في أنحاء فرنسا جيشا آخر جرارا كانت ويلاته عليها لا تطاق، ثم لما علم من طبيعة أمته أنها تميل إلى الزهو واللهو والظهور كان يعقد في سراي التويلاري حفلات الرقص يجمع إليها أجمل نساء باريس وأرشق شبانها من الضباط، فكانت هذه الحفلات أزهى مما كان في أيام الملوك البريون. (8) واقعتا مارنجو وهوهنلندن
عمد نابليون إلى الاقتصاص من النمسا مرة ثانية، فذهب إلى شمالي إيطاليا في ستة وثلاثين ألف رجل وألفي مدفع، ثم صعد جبال الألب ذلك الصعود الذي لا يزال يذكره التاريخ حتى يومنا هذا بالإجلال والإعظام. صعد نابليون بعسكره جبال الألب وأصعد معه مدافعه يجرها في أعجاز الشجر على ثلج تلك الجبال وجليدها، ثم انساب على السهول بجيشه انسياب الجارف الهاري، وسار به إلى ميلان حتى لقيه طرفا جيشه: هذا قد اخترق جبل سان جوتارد، وذلك قد جاز جبل سامبلون. ثم بعد أسبوعين التقى بالقائد النمساوي ميلاس على سهول مورنجو بالقرب من الساندريا، وكان جيش الفرنسيين يعدل ثلث جيش النمسا، فلم يستطع المقاومة، ولكن جاءه القائد الفرنسي (ديسيه) معززا، فنزل بفرقته - وكانت آخر ما عند الفرنسيين من الاحتياطيين في تلك الموقعة - على صفوف النمساويين فمزقهم شر ممزق، ولكن سقط القائد على الأرض ميتا في ساعة النصر المبين. وتعقب الفرنسيون بعد ذلك أعداءهم حتى أجلوهم عن مواقعهم، وردوهم فيما وراء الحدود.
وفي شهر نوفمبر من تلك السنة كان القائد مورو الفرنسي قد أرسل إلى نهر الرين، فالتقى بالنمساويين وبدد شملهم في تلك الموقعة المشهورة المعروفة بواقعة هوهنلندن.
وانتهت هذه الوقائع بعقد صلح يسمى بمعاهدة لينيفيل، على أن شروط هذه المعاهدة لم تخرج عما جاء في معاهدة كامبو فورميو السابقة. (9) عودة المسيحية
عادت المسيحية إلى فرنسا بعد تقلص ظلها، ورحب الناس بتلك الأصوات التي كانوا يسمعونها كل سبعة أيام؛ أصوات النواقيس في الكنائس، وأصدر نابليون بعد ذلك عفوا شاملا لمن أدى يمين الطاعة للحكومة الجديدة في أيام معدودات، فعاد إليها مائة ألف أو يزيدون، واسترد كثير ممتلكاتهم التي سلبوها، وأنشأ نابليون الوسام المعروف بوسام لجيون دونور؛ أي وسام الشرف، وكان يعطى للجنود والمدنيين على حد سواء. (10) مؤتمر الشمال سنة 1801
كانت بريطانيا العظمى الدولة الوحيدة التي يخشاها بونابارت حتى عقد اتفاقا بين ملوك أوربا الشماليين وبينه، فانضمت روسيا إلى فرنسا انضماما تحالفيا ضد إنجلترا ومراكبها، ولكن نلسون كان قد ذهب إلى كوبنهاجن فضربها وأغرق مراكبها، وحدث أن تآمر بعضهم على قيصر الروسيا فخنقوه، وبذلك انحل ذلك الوفاق. (11) معاهدة أمين سنة 1802
وفي ذلك العهد أيضا ذهب جيش تحت إمرة السير رالف أبركرمبي إلى مصر، وشتت ما كان فيها من بقايا جيش الفرنسيس، فلما رأى نابليون كل هذه الخسائر لم يسعه إلا أن يتطلب الصلح، فعقدت معاهدة أمين الشهيرة في سنة 1802. كان مضمونها أن تبقى بلجيكا لفرنسا، ويبقى لها أيضا الجانب الأيسر من نهر الرين، واستعادت جزرها الغربية الهندية، وأخذت هولندا رأس الرجاء الصالح مرة أخرى، وبقيت جزيرة سيلان لإنجلترا، ولكن نابليون لم يكن يريد السلام ولا ينويه إنما كان يريد أن يحصل على مدة من الزمن يستطيع في أثنائها أن يتنفس قليلا حتى يمكنه أن يعد نفسه مرة أخرى لحملة أعظم ونصر مرض في الخارج، وكان الفرنسيون قد أعجبوا بما نال قائدهم من النصر والفتوحات المتوالية، وأعجبهم ما في حكمه من الرفق والصلاحية، فصدر قرار من مجلس الشيوخ يقضي بجعل نابليون قنصلا أولا مدى حياته، وكان قد بلغت الحماسة من نفوس الفرنسيين مبلغا عظيما، فصادف هذا القرار من نفوسهم كل الإقرار والدعاء. (12) قانون نابليون
من الأعمال العظيمة التي فعلها في هذا الزمان ذلك القانون الذي سمي بقانون نابليون؛ فإنه قد عهد إلى ستة من رجال القضاء في حكومته بتدوين مواد هذا القانون، كل فيما اختص به، حتى إذا جمعت كانت قانون نابليون المعروف الذي لا تزال تنعم به فرنسا وتفتخر، والذي نحا نحوه كثير من أمم أوربا في وقتنا هذا، بل اتخذوه أساسا لمقاضياتهم. أما المدارس في أيامه فقد كانت عسكرية الصبغة، وكان أهم ما يعنى به المعلم اللغة اللاتينية والرياضيات والتمرين العسكري. (13) تجديد الحرب سنة 1803
قلب الإنجليز لنابليون ظهر المجن بدعوى أنه كان كثير الإهانة لهم في أقواله وأفعاله، فعمدوا إلى المراكب الفرنسية المطمئنة في موانيهم فقبضوا عليها، فهاج ذلك من سخط نابليون، ولما لم يجد إلى الثأر سبيلا معجلة أرسل فحبس كل إنجليزي على ظهر فرنسا في السجون، ثم أرسل جيوشه فنزلت بمدينة هنوفر واستعدوا لغزو إنجلترا، وكان هذا أقصى آماله، ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلا؛ فإن إنجلترا وضعت على شواطئها السفلى كل ما كان لديها من عدد وعدة؛ مائة وستة وثلاثون ألف بحار قد لزموا مدافعهم عن كثب، وضعف هذا القدر من المشاة وقفوا كأنما هم يطرزون ساحل إنجلترا على المنش بملابسهم الحمراء، فلما رأى نابليون ذلك أعرض عن غزو إنجلترا تاركا مراكبه البحرية في بولون على ساحل فرنسا من جهة إنجلترا، وسار بعسكره إلى نهر الدانوب. (14) تلقيب نابليون إمبراطورا سنة 1804
Shafi da ba'a sani ba