أما الثانية، فلم تكن تتصور أن في الوجود أمرا ينال بالحيلة. كانت جوزفين قريبة من الحق دائما، سريعة إلى النفي في البوادر، أما ماري فكانت لا تعرف التصنع ولا الرياء، ولا تعرف من الأمور مختلط السبل.
لم تطلب الأولى شيئا، ولكنها كانت مدينة هنا وهناك، وكانت الثانية لا تتردد في الطلب إذا هي أنفقت كل ما في يدها، على أن ذلك لم يكن إلا نادرا. لم تأخذ شيئا إلا وشعرت بضرورة مقابلته بالجميل في حينه. كلتاهما طيبة القلب، حلوة الشمائل، مخلصة لزوجها ومحبة.» «أظن أني وإن أكن أحببت ماري لويز بإخلاص قد أحببت جوزفين أكثر منها. ذلك أمر طبيعي؛ فقد نشأت معها وكانت لي بعد ذلك زوجة صالحة، بل الزوجة التي اخترتها ... كانت ماري من الإخلاص بقدر ما كانت جوزفين من السياسة، كانت جوزفين تبدأ القول بالنفي حتى يكون لها من وراء ذلك متسع من الوقت للتفكير والنظر. ثم كانت تستدين كثيرا وتحملني سداد هذه الديون. كانت لها في كل شهر حلفة على أن تقتصد. وهناك تلقي علي ما كان يجم في فؤادها. كانت باريسية بالمعنى الصحيح. ما كنت لأفارقها لو أنها ولدت لي ولدا، ولكن بذلك قضى سوء الحظ.»
وقال لمنثلون في صباح اليوم السادس والعشرين من شهر أبريل سنة 1821 وهو في سكرات الموت، بعد موت جوزفين بسبع سنوات تقريبا: «قد رأيت جوزفين يا منتلون فعانقتني ثم اختفت فجأة حين أردت أن أعانقها. كانت جالسة على ذلك المقعد وكأني رأيتها أمس مساء لم تتغير، بل كانت كما هي شديدة الميل إلي. قالت لي أنا على وشك أن نجتمع ويرى بعضنا بعضا ثم لن نفترق بعد ذلك. ولقد أكدت لي ذلك - أفلم ترها يا منتلون؟» «إذا بلغ الرجل من العمر خمسين سنة فيندر أن يتملكه الحب. لقد كان برثير يستطيع ذلك، أما أنا فلا أستطيعه. لقد تحجر قلبي، بل هو اليوم أشبه بالنحاس. لم أكن يوما من الأيام عاشقا، اللهم إلا لجوزفين ، على أنه كان عشقا قليلا. إني كنت في سن السابعة والعشرين يوم عرفتها، أما ماري لويز فلم يكن حبي لها إلا ودادا أخلصه لها، على أني ربما كنت من رأي جاسيون إذ يقول: إن الحياة ليست من القيمة بحيث يصح أن يهبها الإنسان لإنسان.» (1-5) ملك روما «ولدي أحب شيء إلي في العالم بعد فرنسا.» «ما أثقل صولجان الملك في يد ولدي من بعدي!» «وا حسرتاه لولدي! أي شقاء أتركه له من بعدي! وا حسرتاه على طفل يولد ملكا ثم لا يجد الآن لنفسه وطنا!» «لو ولدت لي جوزفين ولدا لجعلني هذا الولد سعيدا وحفظ في نفسه أسرتي، ولكان الفرنسيون أحبوه أكثر مما يحبون ولدا من ماري لويز، ولم تكن قادتني قدمي إلى السقوط في تلك الوهدة التي غطاها بساط من الزهور؛ تلك الوهدة التي جلبت علي الدمار كله. فلا يعتد إنسان بعد اليوم بحسن تدبيره، ولا يعجل لسانه بالحكم على الحياة في سعدها وبؤسها قبل أن ينقضي أمد هذه الحياة ... بيد أن جوزفين كانت تعلم أنه لا زواج بلا نتاج.»
الفصل الثالث
الحياة والسعادة
(1) في الحياة «الحياة التي لا فائدة فيها حمل ثقيل.» «ما الحياة إلا حلم زائل.» «يجب أن نشغل أنفسنا؛ فإن الشغل كالسيف يقطع الوقت. بل لا بد للإنسان أن يتم ما قدر له. فاللهم قدرني على إتمامه!» «ما الحياة إلا أن يعيش صاحبها في آلام، والحر من جاهد في سبيلها حتى يغلبها.» «ليس بين النصر والخذلان إلا خطوة واحدة.» «الناس من خوف الهزيمة يهزمون.» «من ولي الأمر وجب عليه حمل عبئه.» «يجب أن ننظر إلى الأمور كما هي لا كما نشتهي لها أن تكون.» «ما أشقى الإنسان! إنه ليرى الطبيعة ثم لا يستطيع أن يغلبها.» «لا يصيبن امرأ أذى وهو يريد لنفسه الموت.» «يحتاج المرء إلى شجاعة يقتبل بها الهموم والآلام أكثر منها لاقتبال الموت.» «إذا شاء القدر وجب الإذعان.» (2) السعادة «الناس في السعادة سواء. فلو أنني بقيت أدعى مسيو بونابارت ما نقصت سعادتي عنها وقد أصبحت أدعى الإمبراطور نابليون. ولا شك أن الفعلة هم كغيرهم من الناس في السعادة. إني لم أكن أجد لذة في حسن الطعام؛ لأن مائدتي كانت جيدة الطهي على الدوام، ولكن الفقير الذي لم يذق مرة طعاما كطعامي ينعم بأكله يوم يقدم إليه الحساء يشربه ومحمر البط يطعمه، بل إني أوقن أن حياته خير من حياتنا في هذه الجزيرة.» «إني ليعجبني ذلك الرجل الذي قيل إنه وضع ماله جميعه في صندوق ثم أنفق منه كل يوم قدرا معلوما. إن الضرورة قاضية بذلك حتى يقصر الإنسان من رغباته.» «لقد كنت سعيدا يوم أصبحت أول القناصل ويوم تزوجت ويوم ولد لي ملك روما، ولكنني لم أكن يومئذ واثقا من دوام مركزي، بل ربما كان أسعد أيامي يوم تلسيت، يوم هذبت صروف الدهر وبيضت سود الليالي، يوم كان النصر من يميني والمجد من شمالي، ورأيتني أفنن القوانين للناس، ورأيت البراطرة في ركابي. بل ربما كان أسعد أوقاتي أيام فزت بالنصر في إيطاليا؛ هنالك كانت الجموع لاهجة بذكري متحمسة؛ هنالك كانوا يصيحون من أعماق قلوبهم: «ألا فليحي محرر إيطاليا!» كل ذلك وأنا فتى لم أعد الخامسة والعشرين من العمر.
منذ تلك البرهة تمثل لنفسي ما صرت إليه في مستقبل الأيام. رأيت العالم جميعه يمر من تحتي كأنما قد ولدت في الهواء.» «إني أوقن أن بين أواسط الناس سعادة تفوق سعادة أعاليهم.» «لا بد للإنسان من يوم يسأم فيه كل الأمور؛ فكثرة المال عن الحاجة لا تؤثر في تلك الحال. كان للبرنس لويز دخل قدره 200000 من الفرنكات، ينفق منها 150000 في وجوه البر والإحسان. أفلا ترون حياته شريفة سامية؟!» «إني أكرر القول بأن المال والألقاب لا تجعل الإنسان سعيدا.»
وقال يخاطب أحد المديرين بعد عودته من روسيا في سنة 1812: «... وأنت أيضا أيها المدير، لقد صادفت يوم شدتك ومحنتك، إلا أنه لا تخلو حياة امرئ من هذه الأيام.» «ما غرني الإقبال يوما، ولا ألفتني المصايب إلا قادرا عليها أرد ضرباتها بعزم شديد. لقد فكرت في مشروعات لخير العالم ثم أخرجت هذه المشروعات، ولقد علمت في حالي الوالدية والملك، أن السلام من عماد الملك ودعائم العائلات.» «هل تزعمون أو يزعم أحد منكم أن الأمور تأتي دائما وفاق مرامنا، وأنها تدبر ذاتها حتى تضمن لنا السعادة كلها؟ إذا هي قلبت لنا ظهر المجن ورزحنا تحت أثقالها فهنالك يتطلب الإنسان إنسانا يشكو إليه بثه وحزنه، ولكن أين يودع الإنسان سره إذا هو قلب عينه فلم يجد أمامه ذلك الصديق المرتجى.» «تتوقف جلائل الأمور على صغائرها، والحازم من استفاد من كل أمر ولم يهمل ما يستطيع به أن يكثر من سوانح فرصه. وقليل الحزم من قد تعرض له فرصة فلا ينتهزها فيعاجله الدمار والخسران.» «من الحوادث ما يبدو لك صغيرا وفي لفائفه عظائم الأمور.» «قد يغفر الموت للإنسان زلته، ولكنه لا يصلح هذه الزلة.» «الفكر يحكم العالم.» «التسامح روح السعادة في الأمة الرشيدة.» «الكريم من لم يعاد من الناس أحدا.» «ليست العظمة بالشيء المذكور حتى تكون دائمة.» «ما المودة إلا اسم. إني أعلم أن ليس لي صديق واحد، ولكني ما دمت كذلك نشأ حولي من أدعياء مودتي خلق كثير.» «كلمة مستحيل ليست في اللغة الفرنسية. إني لا أعرف هذه الكلمة.» «فلاح المجازفين في المصادفة.» «الاستقلال كالشرف؛ كلاهما كالجزيرة ذات الصخور ليس لها شاطئ.» «إياك والكراهية!» «إذا جلست مجلس القضاء فاستمع حكاية المتقاضيين وتمهل في الحكم حتى يجد العقل صراطه المستقيم.» «عدو مبين خير من حليف مريب.» «من الريب ما لا تقوى عليه براءة البريء.» «الحياة سر غامض في مبداها ومسراها ومنتهاها؛ سواء في الناس أم غير الناس، أم في الطبيعة أم في أي شيء.» «إن قبضتي - وكانت من الحديد - لم تكن في مقدم ذراعي، بل كانت من فؤادي قاب قوسين أو أدنى.» «أسرع الناس مشيا من سار وحده.» «المستحيل كلمة لا يعثر عليها إلا في قواميس المجانين.» «أريد من عقلي مزيدا وفي لساني قصرا.»
وكتب إلى المارشال بسبير سنة 1809: «إذا فعلت فافعل على عجل وشدة ، لا يعترضك شرط، ولا تعليل، ولا استدراك.» «الكذب زائل والصدق دائم.» «حكم الخديعة قصير الأمد.» «إنك الآن يا لاكاس هائج الدم ثائر النفس، ولا أظن أن في الأمور أمرا تستطيع إحسان فعله في مثل هذه الظروف، فأجدر بك أن لا تبدأ فيه حتى تمر بك ليلة كاملة.» «الليل ناصح أمين.» «حقيقة وظيفة الإنسان فلاحة الأرض.» «أريد أن أعيش في القرى، أريد أن أرى الأرض يصلحها الناس؛ لأني لا أعرف من فن زراعة الجنائن ما أستطيع به إصلاحها. إن هذا لأشرف أنواع الحياة.»
الفصل الرابع
Shafi da ba'a sani ba