ويقول لها حبيبها «جان» أحد أبطال المقاومة: «إنني ألمح الجفاف في عينيك، وأدرك أن قلبك يحترق، ولكن لا يبدو عليك أثر للألم، ولا بقطرة من دموع، لقد استحال كل شيء فيك من فرط التوهج إلى بياض؛ ينبغي أن تتألمي من كونك لا تحسين بالألم! لقد فكرت كثيرا فيما تعرضت له من تعذيب، ومع ذلك فما كنت أتصور أن التعذيب يمكن أن يكسبك كل هذه الفظاعة من كبرياء الألم!»
وتجيبه «لوسي» معلقة على كلماته المعترضة: «قطرة من دموع؟! إنني لا أتمنى غير شيء واحد؛ أن يأخذوني مرة أخرى ويضربوني؛ حتى ألوذ من جديد بالصمت، وأسخر منهم، وألقي في قلوبهم الرعب. ترى هل كان الذنب ذنبي؟ إنهم هم الذين جرحوا كبريائي؛ إنني أمقتهم؛ وإذا كنت في قبضة أيديهم، فإنهم هم أيضا في قبضة يدي؛ إنني أشعر أنني قريبة إليهم أكثر من قربي منك!»
إن سارتر الفيلسوف، يتجه دائما - في قصصه ومسرحياته - إلى فلسفة مواقف أبطاله، وتغليف وجودهم النفسي بغلاف شفاف من وجهات نظره الالتزامية؛ أو إنها مجموعة من اللافتات الضوئية يسخرها للإعلان عن مضمون أفكاره. إن شخصياته وإن كانت تمثل موقفه الاتجاهي من قضية الإنسان الفرنسي حيال أزمة معينة في «موتى بلا قبور»، أو الإنسان الزنجي حيال أزمة مختلفة في «العاهر الحفية»، فهي في الوقت نفسه شخصيات، من لحم ودم، تتعادل فيها النسب التكوينية لطبيعة النفس الإنسانية ولطبيعة أفكار الكاتب. إن «لوسي» مثلا كما رسمها سارتر، لا تتحول إلى تمثال من الشمع لمجرد أنها قد قررت ألا تتألم؛ ولأنها قد نفذت هذا القرار، لقد كانت تحس في داخلها وخز الألم، وتمر بها لحظات من الضعف، ولكنها إرادة التماسك والتجلد، هي التي قامت بعملية الإلغاء لتلك المشاعر الداخلية، وهيأت لموقف الصمود؛ هي إذن نموذج بشري لا يبتعد كثيرا عن أصالة البشر، وما يبدو لنا في ذلك النموذج من بعد عن تلك الأصالة، فمرجعه إلى أن سارتر قد أراد أن يرسم لنا صورة للبشر الممتازين؛ من داخل الإطار المثالي لكبرياء الإنسان.
وسارتر هنا يختلف تماما عن تشيكوف، من حيث مفهوم السلبية والإيجابية بالنسبة إلى سلوك الشخصيات، وموقف الكاتب من هذا السلوك. إن شخصية «فوانيتسكي» مثلا في مسرحية «العم فانيا»، وكذلك شخصية «فرشنين» في مسرحية «الشقيقات الثلاث»، ثم شخصية «تروفيموف» في مسرحية «بستان الكرز»؛ شخصيات تملك جرأة الأحلام على تغيير الأوضاع، ولكنها لا تملك القدرة على التنفيذ؛ إنها تدرك حقيقة الواقع الذي تواجهه، ولكنها لا تعرف الطريق الذي يمكن أن يؤدي إلى تطوير هذا الواقع؛ وهي بعد ذلك تفتقر إلى حركة الدفع وقوة الإرادة. وليس من شك - كما فسرنا ذلك من قبل - في أن لتشيكوف فلسفته الاتجاهية الخاصة، من وراء وضع شخصياته في أمثال هذه المواقف؛ ولكن يبقى بعد ذلك فارق بين كاتب يستمد إيجابيته من اعتراضه الساخر على سلبية أبطاله، وكاتب آخر يستمد هذه الإيجابية من تعاطفه الواضح مع أبطاله الإيجابيين، من أمثال «لوسي» و«هنري» و«كانوري»؛ النماذج البطولية المكافحة في «موتى بلا قبور».
وكما يختلف سارتر في هذا المجال عن تشيكوف، فهو يختلف أيضا عن كثير من كتاب الواقعية الاشتراكية، من ناحية رسم الشخصية التي تحمل أفكار الكاتب. إنهم في سبيل تجسيم العقيدة المذهبية التي يعتنقونها في واقع الحياة والفن، غالبا ما يقومون بعملية تجويف للشخصية المسرحية والقصصية، ليملئوها في الوقت نفسه بأفكارهم العقائدية الخاصة. وتبدو الشخصية المجوفة وهي تحمل معنى الرمز التجريدي لفكرة معينة، أكثر مما تبدو وهي تحمل الخصائص النفسية الأصلية لسلوك الإنسان. ولو قدر مثلا لكاتب من هؤلاء الكتاب أن يتناول مضمون «العاهر الحفية» لسارتر، فإنه سينظر تلقائيا إلى مشكلة اضطهاد الزنوج في المجتمع الأمريكي من زاوية مختلفة، تتفق وطبيعة اتجاهه العقائدي المحدد؛ وفي فلك هذا الاتجاه يفرض على سلوك الشخصية المسرحية أن يدور. إن سارتر - على النقيض - لا يجعلنا نشعر على الإطلاق بأن بعض شخصياته هي التي تنوب عنه، في نقل طعناته القاتلة إلى المجتمع الأمريكي؛ ذلك لأنه لن يسمح لنفسه بأن يقف بيننا وبين شخصياته، بحيث نراه هو ولا نرى تلك الشخصيات، تبعا لأنه يتخذ فنيا جانب الحياد ولا يحجب الرؤية!
إننا دون أن نلمح وجه سارتر الفكري، نستطيع أن نلمح رأيه في المجتمع الأمريكي عبر القطاع الخاص باضطهاد الزنوج، حين نستطيع هذا الرأي من موقف «ليزي» الساقطة، والزنجي المعرض للقتل، و«فرد» الثري المترف، و«كلارك» عضو مجلس الشيوخ؛ إنه يتناول هذا المجتمع بالتجريح من ناحية المستوى العقلي متمثلا في النظرة إلى الحياة، ومن ناحية المستوى الحضاري متمثلا في النظرة إلى الإنسان، فبينما نرى العقلية الأمريكية تقيم الحياة على أساس الدولار، نرى الحضارة الأمريكية تقيم الإنسان على أساس اللون؛ ووسائل التقييم عندها لا تعرف شيئا اسمه الضمير، فبالدولار تلجأ هذه العقلية إلى شراء الذمم وتدبير المؤامرات.
لقد حاول «فرد» ومعه أبوه عضو الشيوخ - بدولاراتهما الخمسمائة - أن يجعلا «ليزي» تغير شهادتها أمام القضاء، لينجو «توماس» فتى العائلة الأبيض رمز الأمة الكريمة «العظيمة» والتاريخ «المجيد» من تهمة قتله لزنجي بريء؛ وعندما تجيبهما «ليزي» بأن الزنجي الشهيد لم يحاول أن يغتصبها، وإنما الذي قام بالمحاولة هو فتاهما الأبيض، وأنها مضطرة أمام القضاء إلى أن تعلن هذه الحقيقة، عندما تقول هذا يكون الرد المنطقي للعقلية الأمريكية، هو أنه لا يوجد هناك غير حقيقة واحدة: هناك بيض وسود ولا شيء غير ذلك! ومن خلال بعض اللقطات الجانبية لصورة المجتمع الأمريكي يبلغ سارتر قمة السخرية الجارحة، وهو يوحي إلى العقلية الأمريكية بأن المال يعجز في كثير من الظروف عن شراء الإنسان، وذلك حين اختار نموذجه الإنساني الرامز إلى هذه الحقيقة إحدى المومسات! ولقطة أخرى من لقطات سارتر، تطلعنا - بالنسبة إلى مستوى الحضارة الأمريكية - على مدى الوعي في اختيار الزاوية؛ يقول «فرد» للبغي الفاضلة، وقد سيطر عليه جنون الرغبة في امتلاكها بالقوة، إنه قد اشتهاها وهو ينظر إلى زنجي قد علقوه فوق شجرة؛ لقد شارك في قتله، وكان معه مسدسه؛ ولا يدري لماذا كان يرى جسدها وهو يرى جسد الزنجي المتأرجح فوق الأغصان؛ لكأنما كان جسدها في تلك اللحظة - عبر رؤيته النفسية المزدوجة - يتأرجح هو الآخر فوق ألسنة اللهب؛ في تلك اللحظة التي مرت منذ دقائق، اشتهاها؛ وأطلق على الزنجي الرصاص!
إن قيم الحضارة الأمريكية من وراء منظار سارتر، تبدو وهي قائمة على لونين من الشهوة: شهوة الجنس وشهوة الدم!
إننا حين نتطلع إلى النموذج المنشود لكاتبنا المسرحي الذي نريده، فإنما نتطلع إليه متتلمذا في البداية على مدرستي سارتر وتشيكوف، في حدود هذه القيم الاتجاهية التي قدمناها على ضوء التحليل والتطبيق. وتواجهنا بعد ذلك مشكلة الجمهور، إذا ما وضعنا في حسابنا عنصر الملاءمة بين المستويات الفنية اللازمة لمسرحنا الحديث. إن مستوى الكاتب - على مدار قوى التطور - يستطيع أن يرفع إليه تدريجيا مستوى الجمهور. ومن طبيعة المجتمع في خطواته التطورية، أن يلائم بين عمليات التفاعل المندمجة في خط سير إنساني، يشترك في ميدان النشاط العملي مع بقية الخطوط، فإذا كانت هناك قوى معينة من شأنها أن تسهم في تطوير المستوى العقلي لجمهور المسرح، حتى يستطيع أن يتجاوب مع مثل تلك القيم الاتجاهية تجاوب فهم وإدراك وتأثر، فإن من بين هذه القوى - وفي طليعتها - كاتبنا المسرحي الذي ينبغي له أن يقوم بدوره في عملية القيادة؛ إن أزمة جمهورنا المسرحي ليست أزمة الإقبال العددي على دور العرض، ولكنها أزمة التهيؤ العقلي لمسرح جديد تتوفر له تلك القيم إذا ما نضج المستوى الاتجاهي للكتاب؛ لأنه لا جدوى إذا ما نجح الكاتب وسقط الجمهور!
إن سقوط الجمهور معناه أن يسقط العمل المسرحي على الرغم من نجاحه، وهذا هو حادث لمسرحية «الطائر البحري» لتشيكوف، عندما واجهت في أول عرض جمهورا تخلف مستواه العقلي عن مستوى المضمون الرمزي للمسرحية؛ ولكنها في العرض الثاني وبعد ذلك بعامين، وعندما وجد الجمهور المتطور الإدراك، المكتشف لما وراء الرمزية الموضوعية من أفكار واتجاهات، تحقق لها ما هي جديرة به من تقدير ونجاح. ولقد نجحت مسرحية «الذباب» لسارتر - على الرغم من رمزيتها الفلسفية المسرفة - لأنها عرضت على جمهور استطاع بإدراكه المرهف، أيام الاحتلال النازي واندلاع حركة المقاومة، أن يفهم المعاني الخفية التي أراد الكاتب توصيلها عن طريق الرمز إلى مواطنيه؛ ما دامت قوى الاحتلال تحول بين أصحاب القلم وبين حرية التعبير!
Shafi da ba'a sani ba