Jurisprudential Provisions of Waqf
مدونة أحكام الوقف الفقهية
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٩ هـ - ٢٠١٧ م
Nau'ikan
كلمة الأمانة العامة للأوقاف
انطلاقا من الدور المنوط بدولة الكويت باعتبارها "الدولة المنسقة لجهود الدول الإسلامية في مجال الوقف" على مستوى العالم الإسلامي بموجب قرار المؤتمر السادس لوزراء أوقاف الدول الإسلامية المنعقد بالعاصمة الاندونيسية "جاكرتا" في أكتوبر سنة ١٩٩٧ م، تعمل الأمانة العامة للأوقاف منذ ذلك الحين، وفي هذا السياق، على إنجاز مجموعة من المشاريع، وهي:
١ - مشروع "مداد" لنشر وتوزيع وترجمة الكتب والأبحاث والدراسات والرسائل الجامعية في مجال الوقف.
٢ - مشروع دعم طلبة الدراسات العليا في مجال الوقف.
٣ - مشروع مسابقة الكويت الدولية لأبحاث الوقف.
٤ - مشروع "مجلة أوقاف".
٥ - مشروع منتدى قضايا الوقف الفقهية.
٦ - مشروع مدونة أحكام الوقف الفقهية.
٧ - مشروع "نماء" لتنمية المؤسسات الوقفية.
٨ - مشروع "قطاف" لنقل وتبادل التجارب الوقفية.
٩ - مشروع القانون الاسترشادي للوقف.
١٠ - مشروع بنك المعلومات الوقفية.
١١ - مشروع كشافات أدبيات الأوقاف.
١٢ - مشروع مكنز علوم الوقف.
١٣ - مشروع قاموس مصطلحات الوقف.
١٤ - مشروع معجم تراجم أعلام الوقف.
١٥ - مشروع أطلس الأوقاف في العالم الإسلامي.
١٦ - مشروع مسابقة الكويت الدولية لتأليف قصص الأطفال.
1 / 13
ويتم التنسيق في تنفيذ هذه المشاريع مع كل من المجلس التنفيذي لمؤتمر وزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرياض، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة والأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت.
وفي هذا السياق، يأتي إنجاز مشروع "مدونة أحكام الوقف الفقهية" تحت إشراف "اللجنة العلمية لمنتدى قضايا الوقف الفقهية" وذلك بإخراج موسوعة شاملة في أحكام الوقف الفقهية، تم فيها مراعاة الصياغة المعاصرة للأحكام التي تحيط بالاتجاهات الفقهية، بحيث تصبح مرجعًا شاملًا ومعتمدًا لجميع موضوعات الوقف. وتناولت المدونة كل ما كتبه فقهاء المذاهب الإسلامية الثمانية (الحنفي، الشافعي، المالكي، الحنبلي، الظاهري، الزيدي، الإمامي، الإباضي) حول الأحكام الشرعية الخاصة بالوقف. وعلى ذلك شملت المدونة الآتي:
أ) آراء المذاهب الإسلامية المعتبرة.
ب) آراء فقهاء السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
ج) آراء فقهاء الأمصار الذين اندرست مذاهبهم ونقلت آراؤهم في كتب الفقه.
د) الأدلة الشرعية التي استدل بها كل مذهب مع بيان وجه استنباط الحكم من الدليل.
هـ) القضايا المستحدثة في الوقف التي بحثت في المؤتمرات والندوات، والمجامع الفقهية، والقرارات الصادرة بشأنها.
وقد تمحورت آلية تنفيذ موسوعة مدونة أحكام الوقف الفقهية في الآتي:
١ - وضع تصور حول خطة كتابتها وما يتصل بها من عناصر، ومفردات موضوعية.
٢ - اعتماد اللوائح الخاصة بها.
٣ - استكتاب عدد من العلماء المختصين.
وقد تم -بفضل الله ﷿ إنجاز الأمور الثلاثة المذكورة أعلاه، كما تم استكمال التحرير العلمي للمدونة ومراجعتها لغويا، وتوجد الآن بين أيديكم النسخة
1 / 14
التجريبية منها، بغرض تلقى الملاحظات عليها من قبل العلماء والمختصين، تمهيدًا لطباعة النسخة الثانية المعدلة بعد استيفاء الملاحظات عليها.
وقد هدفت الأمانة العامة للأوقاف من إصدار "مدونة أحكام الوقف الفقهية" أن يكون مرجعًا في متناول أيدي المؤسسات الوقفية، والمتخصصين، ونظار الوقف والمشرفين عليهم والقضاة والمحامين ليعينهم على أداء رسالة الوقف على وجهها الأكمل.
كما حرصت الأمانة العامة للأوقاف على دعم جهود "اللجنة العلمية المنتدى قضايا الوقف الفقهية" في إشرافها على الأعمال العلمية المتعلقة بإخراج مدونة أحكام الوقف، وأسهمت في تذليل كافة العقبات التي تواجه عملها، وكذلك إصدار القرارات واللوائح الإدارية والمالية المنظمة لعمل المدونة، باعتبار "مدونة أحكام الوقف الفقهية" أحد مشاريع "الدولة المنسقة لجهود الدول الإسلامية في مجال الوقف".
ولا يسعنا ختاما، إلا أن نتوجه بالشكر الجزيل إلى كل من أسهم في إنجاز هذه الموسوعة والمعلمة الفقهية المتميزة، من العلماء والباحثين المستكتبين، والمراجعين، والمحررين، وكذلك الإدارات والمسؤولين في الأمانة العامة للأوقاف، وجميع اللجان العلمية والإدارية، حيث كان لجهودهم الأثر البارز في تسخير كافة الإمكانات وتذليل كافة العقبات لإخراج موسوعة "مدونة أحكام الوقف الفقهية" على ما هي عليه بحلتها البهية، ونخص بالذكر "اللجنة العلمية المنتدى قضايا الوقف الفقهية"، و"إدارة الدراسات والعلاقات الخارجية" بالأمانة العامة للأوقاف، وفريق عمل استكمال إنجاز مدونة أحكام الوقف"، امتثالا لقول النبي ﷺ: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" والله نسأل أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتهم.
سائلين المولى ﷿ أن يبارك في هذا العمل، وأن يجعل فيه النفع الجليل والفائدة المرجوة.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
الأمين العام
محمد عبد الله الجلاهمة
1 / 15
تقديم اللجنة العلمية لمنتدى قضايا الوقف الفقهية
لقد هدفت "اللجنة العلمية المنتدى قضايا الوقف الفقهية" من خلال الإشراف على إنجاز "مدونة أحكام الوقف الفقهية" إخراج موسوعة فقهية شاملة تتناول كل ما كتبه فقهاء المذاهب الإسلامية المعتبرة حول الأحكام الشرعية الخاصة بالوقف، وهي: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والإمامية والزيدية والإباضية والظاهرية.
وقد حرصت اللجنة العلمية على إخراج المدونة بطريقة علمية رصينة ميسرة للمختصين وعموم القراء والمهتمين، فاتبعت النهج الآتي:
أ) من حيث طريقة ترتيب المدونة ومعلوماتها: وذلك باتباع الطريقة الموضوعية المعروفة في كتب الفقه، وعرض المعلومات بذكر المذاهب المتفقة مندرجة في اتجاهات بدلًا من تكرارها منفصلة في كل مسألة فقيهة أو مجموعة متلازمة من المسائل، وذلك في غير مواضع الاتفاق، مع ذكر القيود والاشتراطات في كل مذهب. ويبدأ بالاتجاه الذي عليه الجمهور، وتلحق آراء فقهاء السلف والأمصار بما وافقها من اتجاهات وإلا أفردت باتجاه، كما تلحق الآراء المرجوحة في المذاهب بما وافقها من اتجاهات وإلا أفردت باتجاه.
ويتم ذكر أدلة كل اتجاه بعده مباشرة، ويبدأ بالآيات القرآنية ثم الأحاديث النبوية ثم القياس ثم الأدلة المختلفة فيها بأنواعها، مع بيان وجه الدلالة من الأدلة النقلية إن كان وجه الدلالة فيه خفاء.
ب) من حيث أسلوب تناول موضوعات المدونة: فقد تم فيها الالتزام بالأسلوب الواضح السهل الذي يفهمه عموم القراء، فضلا عن المختصين، فإذا كانت العبارة في كتب الفقه تحقق ذلك تم الالتزام بها، أما إذا كانت العبارة غامضة لا يفهم المراد منها إلا بالشرح أو إبدال الضمائر فيها بالظواهر تم التصرف فيها بالقدر الذي يزيل غموضها مع المحافظة على مراد المؤلف. وعندما تتنوع العبارات الفقهية ويكون مدلولها واحدًا تم اختيار أوضحها وأقربها لأسلوب عصرنا الحالي.
1 / 17
ج) من ناحية التوثيق: فقد كان توثيق المعلومات الواردة في المدونة بالعزو إلى مراجعها الفقهية، سواء نقل منها جميعها أم اجتزئ من بعضها بما يغني عن غيره من المراجع.
د) وضع ضوابط عامة: فقد وضعت اللجنة العلمية ضوابط عامة للباحثين الذين تم استكتابهم ليسيروا على ضوئها تتمثل في: ذكر الآراء والأقوال في المذهب الواحد، مع تبيان يبين الرأي المعتد في المذاهب، أو الذي عليه الفتوى عندهم، وعدم ذكر الآراء الخاصة للباحث أو ترجيحه الشخصي، كما تنقل المذاهب والآراء الفقهية من كتب أصحابها، ولا يمنع ضعف الحديث المستدل به من ذكره، كما لا يذكر من الأدلة إلا ما استدل به أصحاب كل مذهب لمذهبهم من كتبهم إلا إذا لم يتم الوقوف على دليل لهم من كتبهم فيمكن ذكر الأدلة من غيرها، مع عدم التعرض لمناقشات الأدلة إلا إذا كانت هذه المناقشة تضيف دليلًا فيستخلص من المناقشة ويصاغ كدليل.
وقد أشرفت اللجنة العلمية للمنتدى على تخريج الأحاديث النبوية والآثار وعمل ملحق في نهاية المدونة التراجم الأعلام.
إذًا، وبشكل مجمل: فقد أنجزت اللجنة العلمية للمنتدى، من خلال إشرافها على أعمال فريق العمل المكلف باستكمال المدونة:
١ - فحص الأبحاث وتقويمها المبدئي من حيث التثبت من التزام كاتب البحث بخطة كتابة المدونة ومعالجته للمفردات الموضوعية المتعلقة بالبحث الذي كلف بإعداده.
٢ - استقصاء آراء المذاهب الفقهية التي كتبت والتي لم تكتب، وما قام به الباحثون من تعديلات وإضافات على بعض عناوين "مدونة أحكام الوقف".
٣ - إعادة ترتيب تبويب مواضيع وأبحاث المدونة حسب التسلسل المنهجي المعتمد من قبل الفريق.
٤ - التأكد من استيفاء الباحثين لعناصر كل بحث.
٥ - استحداث مباحث جديدة ظهرت الحاجة لها.
1 / 18
٦ - دراسة الأبحاث واعتمادها من حيث: استيفاء الآراء الفقهية المختلفة في كل جزئية ومسألة، وذكر الدليل الذي يعرف به وجه استنباط الحكم، ونقل آراء وأدلة كل مذهب من كتب المذهب نفسه، وسلامة العزو للمراجع، واستيعاب كل بحث للمفردات الموضوعية المتعلقة به، وخلو البحث من الحشو والاستطراد.
٧ - المراجعة الشاملة لكافة الأبحاث للتأكد من التزامها بالمعايير الموضوعة، واستيفائها كافة العناصر المطلوية.
٨ - متابعة التحرير العلمي لأبحاث المدونة لتخرج على نسق واحد.
٩ - الإشراف على الملاحق التفصيلية للمدونة واعتمادها من اللجنة العلمية للمنتدى.
١٠ - متابعة استكمال الأعمال المتعلقة بمراجعة أبحاث المدونة، علميا ولغويًا، والتعديل الالكتروني عليها.
ولا يسعنا ختامًا، إلا أن نتوجه بالشكر الجزيل إلى الأمانة العامة للأوقاف التي لم تأل جهدًا لتذليل كافة العقبات، وإصدار القرارات المنظمة، وتوفير كافة التسهيلات والخدمات لإنجاز أعمال مدونة أحكام الوقف الفقهية. والشكر موصول كذلك إلى السيد الأمين العام أ. محمد عبد الله الجلاهمة، وإلى إدارة الدراسات والعلاقات الخارجية، حيث كان لهم دور مشهود في الإسهام بإنجاز هذه الموسوعة والمعلمة الفقهية المتميزة. ولا ننسى بالشكر تلك الكوكبة من العلماء والباحثين المستكتبين، والمراجعين، والمحررين، حيث كان لجهودهم الأثر البارز في تسخير كافة الإمكانات وتذليل كافة العقبات لإخراج موسوعة "مدونة أحكام الوقف الفقهية" على ما هي عليه بحلتها البهية.
داعين الله ﷿ أن يبارك في هذا العمل، ويجعل فيه النفع الجليل والفائدة العميمة.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
رئيس اللجنة العلمية لمنتدى قضايا الوقف الفقهية
د. خالد مذكور المذكور
1 / 19
مدخل تمهيدي أهمية المدونات الفقهية والتعريف بمدونة أحكام الوقف الفقهية وتاريخ الوقف عبر العصور
1 / 21
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد؛
فهذه المدونة الفقهية لأحكام الوقف الإسلامي تصدرها الأمانة العامة للوقف في الكويت، وسيتضمن المدخل جانبين:
الجانب الأول: أهمية المدونات الفقهية والتعريف بمدونة أحكام الوقف الفقهية
الجانب الثاني: تاريخ الوقف عبر العصور.
الجانب الأول أهمية المدونات الفقهية والتعريف بمدونة أحكام الوقف الفقهية
نشأت فكرة المدونات الفقهية، بادئ ذي بدء، في سياق التطور النوعي لعمليات صياغة الفقه الإسلامي وإحكام موضوعاته؛ بما يلبي احتياجات الأمة اليومية من هذه الأحكام.
وقد عرفت البيئات العلمية مدونات الفقه مع عصر التدوين؛ إذْ كانت مدونة الإمام مالك بن أنس باكورة الإنتاج الفقهي الإسلامي في هذا السياق، وقد كان من أهَمِّ دوافع وضعها: صيانة الجهود من التشتُّت، وتسهيل سُبُل الوصول إلى الحكم الفقهي في المسألة الواحدة؛ سواء على صعيد المذهب الفقهي الواحد، أم المذاهب مجتمعة.
وتتميز المدونات الفقهية بكونها تُكسِبُ الفقه النظريَّ القابلية العملية للتطبيق، وتُصَدِّقُ على صلته الوثيقة بالحياة، فضلًا عن كون هذه المدونات تجمع بين نصوص الشرع وفقه المقاصد والأولويات، وبين فقه مراتب الأعمال وفقه المآلات، وهذه مزايا بطبيعتها لا تتوفَّر إلا في أعمال المدونات؛ لأن حاجات الواقع هي التي تقرر طبيعة العمل في المدونات، بل وتفرض تجديدها بين الحين والحين كلما دعت الحاجة.
وتعكس المدونات الفقهية بطبيعتها روح التجرد في تمحيص الأحكام الفقهية قبل تدوينها، وتدقيق دراستها وإعادة النظر فيها، وضبط منهجية ترجيح بعضها على بعضٍ فيما لو وُجِدَتْ أحكامٌ أخرى تعارِضها، أو المفاضلة بين بعض الأحكام فيما لو
1 / 23
ترتَّبَتْ عليها أيَّةُ آثارٍ مفضيةٍ إلى أحكام أخرى، فيحصل الإحكام في صياغة الأحكام وتقويتها وتسديدها، وتخليصها مِمّا خالطها من تفصيلات لم يعد تداولها مستساغًا بحكم الواقع الأكثر حاجة إلى الاجتهاد والتجديد بما يغطِّي احتياجات الحياة، وهذا في حَدِّ ذاته مؤشِّرٌ على الثراء الفقهي وحيوية الاجتهاد.
وباختصارٍ شديد، فإنَّ مدونات الأحكام الفقهية هي التي تعيد للفقه اعتباره لدى العامة والخاصة، بل إنها تعيده مرة أخرى إلى حياة الناس وقضايا واقعهم المعيش، بعيدًا عن الإغراق في التنظير والتفصيل.
وبدورها، تأتي مدوَّنةُ أحكام الوقف تعبيرًا عن تراكمات التنوع في الإنتاج الفقهي وثراء الآراء من مختلف المذاهب، وهو ما يُسهم في تعزيز معطيات القدرة على استئناف شعيرة الوقف؛ لدورها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، مسنودةً بظهيرٍ فقهي لم يدع شاردةً ولا واردة إلا راعاها، وتطرق إليها، وعالج ما يتعلق بها من قضايا ومشكلات.
ومدونة أحكام الوقف تتفرد بمجموعة من السمات والخصائص المميزة لهذا العمل الحضاري لأسباب؛ منها:
أولًا: لأنها العمل العلمي الأول من نوعه على مرِّ تاريخ الفقه الإسلامي الذي ينشأ عن رغبة في ترويج ثقافة التآلُفِ المذهبي حول قضايا الوقف التي تقوم بها مصالح كُلٍّ من المجتمع والدولة والأمة، وبناء جسور التواصل المذهبي من خلال التأكيد على المسائل التي توافق حولها فقهاء المذاهب أجمعون.
ثانيًا: تُعَدُّ مدونة أحكام الوقف الفقهية تتويجًا لجهود الفقهاء عبر مختلف العصور، وتعزيزًا لكل اتجاه من شأنه تشكيل مناخ تشريعي متجدِّد في مجال الوقف، استنادًا لتلك الخبرة المتجذرة في تاريخ الفقه الإسلامي واجتهاداته المتراكمة في مختلف النوازل.
ثالثًا: أنَّ مدونة أحكام الوقف الفقهية في حَدِّ ذاتها هي بمثابة مقارَبَة علمية وفنية
1 / 24
بين الفقه والقانون، ومن ثمَّ، فإنَّ مجرد وجود مدونة بهذا المواصفات إنما تأتي مُعزِّزةً لجهود تقنين أحكام الوقف في مختلف البلدان العربية والإسلامية.
وبحكم ارتباط الأوقاف بكافة تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والثقافية وحتى السياسية وغيرها، الأمر الذي جعل كثيرا من أحكامها يشتبك مع كثيرٍ من القضايا الفقهية ومسائل النوازل والمستجدات اليومية عبر تاريخ الأمة المسلمة .. فكان الاتِّجاه إلى تدوين مختلف الأحكام الفقهية الوقفية ومسائلها وقضاياها، وتجميعها في سِفْرٍ واحِدٍ تيسيرًا للقضاة والمفتين والمحامين والمحتسبين وكافة المشتغلين بالعلوم الشرعية والقانونية، فضلًا عن كون هذه المدونة أحد أهم الضمانات الكفيلة؛ ليس بسلامة تطبيق أحكام الشريعة وسلامة إجراءات التقاضي في منازعات الأوقاف فحسب، بل وتضمن سلاسة الأحكام القضائية، وسلامة الاستشكالات القانونية والتظلمات المثارة حول قضايا الأوقاف؛ بما يضمن كذلك العدالة الناجزة في هذه القضايا.
وتأتي مدونة أحكام الوقف متضمنةً مدخلا، وثلاثة عشر فصلًا، وفهرسًا للأعلام والأماكن؛ إذْ يستعرض المدخل التمهيدي جوانب من تاريخ الوقف عبر مختّلف العصور البشرية، مُرَكِّزًا على تطور الوقف عبر العصور الإسلامية، ثم تأتي موضوعات المدونة الوقفية مفصلةً في ثلاثة عشر فصلًا، تتناول كافة ما يتعلق بتعريف الوقف، ومشروعيته، وأركانه إجمالًا، وحكمه، وحكمته ومقاصده، وصيغة الوقف وشروطها، والواقف وشروطه، والموقوف عليه وشروطه، وشروط الواقف، وألفاظ الواقفين ودلالتها، وتوثيق الوقف، والنظارة على الوقف، وإجارة الوقف، والإبدال والاستبدال، والمنازعات والدعاوي في الوقف، وانتهاء الوقف.
وقد رُوِعيَ أن يكون توزيع هذه الفصول مقارِبًا الأعراف التبويب الموضوعي لمباحث الوقف في الفقه والقانون، فالمدونة في مجموعها عبارة عن مقاربات فقهية تشريعية معنية بتقديم صياغاتٍ علميةٍ مُحْكَمةٍ، صالحة للتناول الفقهي والتداول العلمي والاستعمال التشريعي والقانوني بصفة عامة.
1 / 25
الجانب الثاني تاريخ الوقف عبر العصور
يعد الوقف ثمرة من ثمار الإسلام المباركة، ومظهرًا من مظاهر الحضارة الإسلامية الذي انفردت به عن بقية الحضارات الإنسانية، وهو بأبعاده الروحية، وتعبيراته الثقافية، وإجراءاته الاقتصادية، وتعاملاته الاجتماعية، العامل الأهم في تقدم وازدهار الحضارة الإسلامية.
إن الوقف هو أحد أفضل أعمال البر والإحسان التي تتحقق بها مقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء، وهو المحضن الذي تبلورت فيه قيم التكافل الاجتماعي، ورعاية حقوق الضعفاء، والإنفاق في أوجه البر، وهو المورد الذي يفيض بالخير على كثير من المؤسسات، والمرافق الاجتماعية، والثقافية، والدينية، والمعمارية، فمن موارده شُيّدت المساجد، والمدارس، والمكتبات، والمشافي، وأقيمت السُبُل لخدمة أبناء السبيل، وأيتام المسلمين، ومسحت دموع الأرامل، والعجائز، وكبار السن، وفُرّج عن المسجونين والغارمين، وفُكّ أسرى المسلمين، ومن أموال الوقف أيضًا حفظت كرامة ذوي الاحتياجات الخاصة، وأصحاب الأمراض المزمنة، وبُنيت المرافق العامة، ورُصفت الطرق، وحُفرت الآبار، ومُدّت الجسور، ووُفرت الملابس، والأطعمة للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغرباء، وبُنيت الحمامات والخانات والحدائق ليستمتع بها الفقراء بكل شرائحهم، بل تعدى الأمر إلى توفير أوقاف لإيناس الغرباء، ورفع معنويات المرضى .. إلى غير ذلك من المؤسسات التي كانت تلتمس أولًا وأخيرًا الأجر والمثوبة من الله تعالى، والفوز برضوانه وجنته.
إن هذه النظرة الشمولية للخدمات التي يقدمها الوقف ما كان لها أن تكون لولا حرص الأمة على الاستجابة لتوجيهات ربها، وإرشادات نبيها محمد ﷺ الداعية لفعل الخير؛ يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (^١)، والتي تشجع على البذل والعطاء لنيل الدرجات العلى يوم
_________
(^١) سورة الحج، آية ٧٧.
1 / 26
القيامة؛ يقول تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (^١)، وقد حدّد المصطفى ﷺ المسارات الرئيسة للوقف؛ حين قال: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا نشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه بعد موته" (^٢).
إن الوقف هو صانع الحضارة الإسلامية، وسجل تاريخها الحافل بالشواهد الصادقة المصدقة على خيرية هذه الأمة، التي جسدت تعاليم ربها وتوجيهات نبيها ﷺ في الواقع المعاش؛ سلوكًا وممارسة، ولعل آلاف المساجد القائمة، والمبرات الخيرية ومئات السبل والخانات، والأربطة، والزوايا التي لا تزال تفيض بعطائها وما تزال آثارها الباقية، تشهد على فعالية الوقف في حياة الأمة.
لقد تنافس في أعمال البر والإحسان، الرجل والمرأة، والحاكم والمحكوم، والعربي والأعجمي، والقائد العسكري، والقاضي، والعالم، والحاكم الإداري، والأشراف، والموالي، بل يندر أن نجد حاكمًا، أو أميرًا، أو قائدًا مشهورًا، أو ثريًّا إلا وقد ترك أثرًا وقفيًّا تنتفع به شريحة من شرائح المجتمع الضعيفة، وكل ذلك طمعًا في الأجر والثواب، لا شيء سواه.
ولعل من أبرز ما يميز الوقف في الحضارة الإسلامية أنه مُحَصَّنٌ بسياج من التشريعات والقوانين، وآليات المراقبة والمحاسبة؛ ما جعله من أرقى الأنظمة الاقتصادية التي أنتجها الفكر الإسلامي، فعزت من الفاعلية الحضارية للأمة على امتداد عصور التاريخ.
وتشير المصادر إلى أن نسبة عالية من المؤسسات الخدمية والتعليمية والدينية والاجتماعية في المدن الإسلامية الكبرى كانت تدار من أموال الوقف.
_________
(^١) سورة آل عمران، الآية ٩٢.
(^٢) أخرجه ابن ماجه في سننه، باب ثواب معلم الناس الخير، حديث ٢٤٢، قال عنه الألباني: حديث حسن، وابن خزيمة في صحيحه في كتاب الزكاة، باب فضل بناء السوق لأبناء السابلة وحفر الآبار للشرب حديث رقم ٢٤٩٠، قال الأعظمي: إسناده حسن لغيره لشواهده.
1 / 27
ولقد زادت وتيرة الوقف، وتنوعت مصارفه، وتنامت موجوداته، منذ العصر الأيوبي؛ ليبلغ الذروة في العصرين المملوكي والعثماني، فقد أسهم الوقف في العصر الأيوبي في إعادة الوجه العربي الإسلامي للمدن الشامية بعد أن مسخه الاستعمار الصليبي، إذ قام صلاح الدين الأيوبي بتشجيع الوقف ودعمه بكل السبل، وقاد بنفسه مشروعات الوقف الكبرى في مختلف المجالات، وعلى رأسها المجال الثقافي، وازدهرت الأوقاف وتطورت في العصر المملوكي، وتضاعفت في بعض الأقاليم في أقل من قرن ونصف اثني عشرة مرة، وفي العصر العثماني فقد زادت الأوقاف تنظيما ونضجًا، وظهرت المشاريع الوقفية الكبرى، وظهر وقف النقود لأول مرة في تاريخنا الإسلامي، وصدرت عديد من القوانين والتشريعات المنظمة للأوقاف، والتي أفضت في نهاية المطاف إلى تكليف شيخ الإسلام في إسطنبول بالإشراف على الأوقاف في كل الولايات العثمانية.
ومن الملاحظ أن الحرمين الشريفين، والمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، والمسجد الأموي في دمشق، وجامع القرويين في فاس، والجامع الأزهر في مصر، تعد أكثر المساجد حيازة للأملاك الوقفية وأكثرها ثراء وأثرا في مسيرة الأمة الحضارية، كما تعد مؤسسة خاصكي سلطان الوقفية في القدس، ومؤسسة الحرمين الشريفين في الجزائر، وخط سكة حديد الحجاز .. من أكبر المؤسسات الوقفية التي عرفها التاريخ الإسلامي.
وتؤكد المصادر المسطورة والآثار المنظورة بأن المرأة المسلمة تركت بصمات واضحة في مسيرة الوقف في مختلف المجالات الثقافية والخيرية العامة والخاصة، ولعل بناء جامع القرويين، ومشروع عين زبيدة، ووقفية خاصكي في القدس والحرمين الشريفين، ومكتبة الخالدية في القدس، وأخيرًا جامعة القاهرة .. من أبرز ما يؤكد على فاعلية المرأة في هذا الحقل المهمِّ من حقول عطاء الإسلام في مجال البر والإحسان.
1 / 28
إن نهضتنا العلمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية مدينة إلى حد كبير للوقف وما قدمه من خدمات أسهمت في محاربة الفقر والجهل والمرض، وحفظت كرامة الإنسان، بل حوَّل الطبقات التي كانت تعيش على هامش الحياة من ذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء والمساكين إلى صُنَّاع للحياة والحضارة، كما لا يوجد إقليم من الأقاليم التي دخلها الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها إلا وهو مدين للوقف في تنويره بتعاليم الدين الحنيف.
وكذلك لا يوجد عالم يشار له بالبنان إلا وهو مدين للوقف الذي وفَّر له الظروف المناسبة للإبداع؛ من كتاتيب، ومدارس ومكتبات منظمة، تنفق على طلبة العلم بسخاء، بل إن العجماوات لو نطقت لأثنت على ما قدمه لها الوقف من خدمات حفظت حياتها وحقوقها بتوفير الطعام، والعلاج، والمأوى، وبعبارة أخرى كان الوقف يمثل تيارا عاما في حضارتنا الإسلامية، لم يقتصر على إقليم دون آخر، بل انتشرت فاعليته مع انتشار الإسلام، وغدا لكل إقليم من الأقاليم نكهته الخاصة في أعمال البر والإحسان التي تلبي حاجياته (^١).
وخلال هذا التمهيد التاريخي نستعرض رحلة الوقف عبر العصور، نختار منها نماذج على سبيل المثال، لتتكامل معالم الصورة الحضارية لمؤسسة الوقف لدى الأجيال المسلمة، ولتُلُقِي بعض الأضواء على جهود الأمة - حكاما ومحكومين في تفعيل هذه المؤسسة الفريدة في نظرتها وشمولية خدماتها، وسمو رسالتها التي عُنِيَتْ بإنسانية الإنسان وكرامته، بل تعدت بخيرها إلى الطير والحيوان على حد سواء.
_________
(^١) H. A. R. Gibb and H. Bowen، Islamic Society and the West (London، Oxford
University Press، ١٩٥٧)، Vol.II، PP. ١٦٨ - ١٦٧.
1 / 29
المبحث الأول الوقف عند الأمم القديمة
تؤكد المصادر أن الوقف بنظرته الشمولية، وعمله المنضبط بالنصوص الشرعية، والهادف أولا وأخيرا إلى مرضاة الله ﷿، لم يُعرف إلا بعد مبعث المصطفى ﷺ، أما الوقف بنظرته الجزئية وأهدافه الضيقة القائمة على حب السمعة والرياء، وإن كان موجها للمعابد ورجال الدين، وبعض الشرائح الضعيفة في المجتمع؛ فقد عرفته البشرية قديمًا، ولعل هذا ما يُفهم من قول الإمام الشافعي: "ولم تحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارًا ولا أرضًا تبرُّرًا بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام" (^١).
إن الوقف - بوصفه حبس المال على شيء معين - ظاهرة لا تخطئها العين عند دراسة المخلفات الأثرية للأمم القديمة، فعديد من المعابد والكنس اليهودية والكنائس النصرانية لا تزال قائمة ويعود تاريخها لآلاف السنين؛ مما يؤكد وجود الوقف الديني عند تلك الأمم، حيث كانت تحبس الأراضي والأموال والأدوات الخدمة دور العبادة والكهنة ورجال الدين، وكان الكهنة وسدنة المعابد يوكلون في الكثير من الحالات بتوزيع الإعانات العينية والنقدية على الفقراء والمعوزين لثقة الناس بهم.
وتتحدث الآثار والنقوش المكتشفة حديثًا في مصر عن وقف بعض العقارات على بعض الكهنة في عهد الأسرة الفرعونية الرابعة، وأن رمسيس الثاني منح معبد "آبدوس" أملاكًا واسعة، وأنه نقل ملكية هذه الأراضي في احتفال رسمي أمام الشعب، كما كان بعض أثرياء مصر الفرعونية يخصصون بعض الأراضي الزراعية لصالح الكهنة؛ لتغطية نفقاتهم ونفقات دور العبادة التي يشرفون عليها، وهناك بعض الإشارات المتناثرة التي تشير بأن الفراعنة عرفوا الوقف الذُّرِّي،
_________
(^١) الأم، الشافعي، القاهرة، المكتبة القيمة للطباعة والنشر، ١٩٨٩ م، ٤/ ٧٤، والوقف في التشريعات القديمة، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، مرجع سابق،٧٩.
1 / 30
حيث كانوا يختصون أولادهم وذريتهم بريع ومنافع الأعيان المحبوسة، من غير أن يحقَّ لهم تملك هذه الأعيان أو تمليكها للآخرين (^١)، إلا أن ذلك لم يمثل ظاهرة في المجتمع المصري آنذاك.
وتشير المخطوطات الصينية والآثار القائمة في الصين اليوم للمعابد البوذية وغيرها عن معرفة الصينيين للوقف، بل إن أباطرة الصين كانوا بين الفينة والأخرى يُطلقون النداءات لرعاياهم لتقديم العون والمساعدة للشرائح الضعيفة في المجتمع، وكانوا في بعض الأحيان يقدمون المساعدات للمحتاجين بأنفسهم؛ ليكونوا قدوة صالحة لرعاياهم (^٢).
وقد عرفت الحضارة اليونانية عديدًا من الأوقاف الثقافية؛ من مدارس ومكتبات ومسارح، منذ إنشاء أفلاطون الأكاديمية الشهيرة على الأرض التي وقفها "سيمون الأثيني" لغرض عام، وقد أوصى أفلاطون قبل وفاته عام ٣٤٧ ق. م بأن يخصَّص الريع الناشئ من الأرض الموقوفة لدعم الأكاديمية، حيث استمر هذا الوقف في دعم الأكاديمية حوالي تسعين عامًا (^٣).
وتؤكد المصادر بأن التشريعات اليونانية والرومانية كانت تحرم تحريمًا قطعًا مد اليد إلى الأوقاف التي تخصصت للمعابد والآلهة، أو حتى تسخيرها في أي عمل لا يرتبط بالمعبد (^٤).
_________
(^١) انظر: الوقف الإسلامي .. تطوره، إدارته، تنميته، د منذر قحف، دار الفكر المعاصر، دمشق، ٢٠٠٠ م، ١٨، والوقف وتاريخه، جواد منصور الحلواني، وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، مملكة البحرين، ٢٠١٢ م، ومحاضرات في الوقف، محمد أبو زهرة، ٧ - ٨، وأحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، محمد عبيد الكبيسي، مطبعة الإرشاد، بغداد، ١٩٧٧ م، ١/ ٢١.
(^٢) انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بن عبد الله، مجلة دعوة الحق، ع ٢٣١، ذو الحجة ١٤٠٣ هـ محرم ١٤٠٤ هـ / سبتمبر أكتوبر ١٩٨٣ م، ٧٦، ولمزيد من التفاصيل انظر: الوقف وتاريخه، جواد منصور الحلواني، وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، مملكة البحرين، ٢٠١٢ م.
(^٣) انظر: الوقف وتاريخه، جواد منصور الحلواني، وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، مملكة البحرين، ٢٠١٢ م.
(^٤) انظر: الوقف الإسلامي: تطوره، إدارته، تنميته، د منذر قحف، ١٨.
1 / 31
ويعدُّ اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين للديانة النصرانية في القرن الرابع الميلادي نقطة تحوُّل في تاريخ الوقف؛ إذ أخذت الأوقاف تتوجه للكنائس والأديرة، وأخذ رجال الدين يستثمرون تلك الأوقاف لصالح الكنيسة (^١)، وأخذ أباطرة بيزنطة يتنافسون في وقف الأوقاف لصالح الكنيسة، ولعل من أعظم الأوقاف الدينية التي وقفها أباطرة بيزنطة وذويهم أوقاف والدة الإمبراطور قسطنطين "هيلانه"، التي شيدت عدة كنائس غدت محجًا للنصارى، وعلى رأسها كنيسة القيامة في القدس التي شيدتها عام ٣٣٥ م، وفي عام ٣٩٢ م شيدت امرأة رومانية كنيسة الصعود في بيت المقدس، وبنى القديس سابا "دير سابا" على مقربة من مدينة سلوان شرقي القدس عام ٢٨٤ م، وغيرها من الأوقاف الكنسية المنتشرة في الشرق والغرب (^٢).
لقد طور الرومان بعد اعتناقهم للديانة النصرانية نظام الوقف، وجعلوه مؤسسة تابعة للكنيسة، وكلفوها بإدارته لصالح الطبقات الضعيفة في المجتمع، كما تشير المصادر إلى أن الإمبراطور "جستنيان" الذي حكم في القرن السادس الميلادي - قام بإلغاء الأحباس الأهلية إذا تجاوزت أربع طبقات، وأوجب تمليكها لهذه الطبقة الأخيرة؛ مراعاة للمصلحة العامة (^٣).
وكان الجرمان يسمحون للمتبرع برصد كُلِّ ماله أو بعضه لأسرة معينة مدة محدودة، أو لحين انقراضها، ولم يكن من الممكن عند الجرمان بيع الأحباس أو توريثها أو هبتها، وليس لمستحقها سوى الانتفاع بريعها وثمراتها.
_________
(^١) انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بن عبد الله، مجلة دعوة الحق، ع ٢٣١، ذو الحجة ١٤٠٣ هـ - محرم ١٤٠٤ هـ/سبتمبر - أكتوبر ١٩٨٣ م، ٧٩ وما بعدها.
(^٢) انظر: الممتلكات والأوقاف المسيحية في القدس - دراسة في التراث الثقافي لمدينة القدس، فادي شامية، ٢٥٥، والفاتيكان، أسامة أمين، مجلة المعرفة، وزارة التربية والتعليم، المملكة العربية السعودية، ع ١٠٤، ذو القعدة ١٤٢٤ هـ/ يناير ٢٠٠٤ م، ٨.
(^٣) انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، ٧٩ وما بعدها.
1 / 32
وتشير المصادر إلى أن ملوك بابل في العراق كانوا يهبون بعض موظفيهم حقَّ الانتفاع ببعض أراضيهم، دون أن يملكوها أو يتصرفوا فيها ببيع أو هبة أو نحوها، وكان القانون يسمح بانتقال حق الانتفاع لهذه الأراضي إلى ورثة الموظفين بعد موتهم، بحسب الشروط الموضوعة في الاستحقاق الترتيبي (^١).
وفي بلاد فارس انتشرت الأراضي والأموال الموقوفة على معابد بيوت النار، كما كانت للهنود أوقاف واسعة على معابدهم وأصنامهم المشهورة، فيذكر ابن كثير أنه كان على الصنم الأعظم "بسومنات" من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة وقد امتلأت خزائنه أموالًا، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه (^٢).
وتؤكد النقوش اليمانية أن الوقف في جنوبي الجزيرة العربية في عهد كل من دولة معين" و"سبأ" و"حمير"، وغيرها من الممالك القديمة .. كان جله على المعابد، وأن كثيرًا منها كان يهدف إلى طلب الشفاء، أو النصر، أو اتقاء الكوارث الطبيعية، مما يجعل المعابد تتوافر على أراضي شاسعة كانت تؤجر بموجب عقود مع المعبد (^٣).
وتعد الكعبة المشرفة التي بناها إبراهيم ﵇ وولده إسماعيل ﵇ أقدم وقف عرفته العرب في قلب الجزيرة العربية، إذ جعلها إبراهيم ﵇ مُصلىً عامًا للعرب على اختلاف قبائلهم، ثم جعلها العرب بعد أن بدلوا ديانة التوحيد معبدًا لأصنامهم، وأخذ العرب وغيرهم يقفون عليها الأوقاف، فكان ملك حمير "أسعد أبو كَرِب" أول مَنْ كسا الكعبة، ووقف عليها، وذلك قبل الهجرة بقرنين، كما كستها "نبيلة بنت
_________
(^١) انظر: موسوعة حضارة العالم، محمد أحمد عوف.
(^٢) انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، مكتبة المعرفة، بيروت، ١٢/ ٢٢ - ٢٣.
(^٣) انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، ٧٧، والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، دار العلم للملايين، بيروت، ١٩٧١ م، ٦/ ٤١٩.
1 / 33
حباب" أم العباس بن عبد المطلب بالحرير فكانت أول عربية في الجاهلية تفعل ذلك، كما أهدى ملك الفرس "ساسان بن بابك" غزالين من ذهب وبعض الجواهر وسيوفًا للكعبة (^١).
وقد تسابق زعماء وأثرياء مكة المكرمة إلى إطعام وسقاية الحجاج والمعتمرين، فوقف "قصي بن كلاب" بئر العجول في مكة لسقاية الحجاج والمعتمرين، وهي أول سقاية احتُفرت في مكة (^٢)، كما وقف حياضًا من أدم كانت توضع في فناء الكعبة، ويسكب فيها الماء العذب من الآبار، محمولًا على ظهور الإبل من أطراف مكة البعيدة (^٣)، ووقفت كذلك "قبيلة بني سهم" بئر الغمر على زوار بيت الحرام، وكانت الناس تستقي من بئر السنبلة التي وقفتها بني جمع في مكة المكرمة (^٤)، واحتفر عبد المطلب بئر زمزم وجعلها صدقة موقوفة على الحجاج (^٥).
وكانت قريش تعتبر السقاية والرفادة (سقاية وإطعام الحجاج) مفخرة من المفاخر؛ لذا جعلوها من مناصب مكة المعتبرة، وكان "العباس بن عبد المطلب" يلي السقاية أيام الرسول ﷺ (^٦).
_________
(^١) انظر: الوقف في التشريعات القديمة، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، ٨١، والأوقاف والمجتمع (مجموعة بحوث عن العلاقة التبادلية بين الأوقاف والمجتمع)، د. عبد الله السدحان، الرياض، ٢٠١٠ م، ٣٨.
(^٢) انظر: فتوح البلدان، البلاذري، تصحيح: صلاح الدين المنجد، القاهرة، ١٩٥٦ م، ٤٨، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، مطبعة فضالة، ١٩٩٦ م، ٥/ ٤٧.
(^٣) انظر: تاريخ مكة، أحمد السباعي، ١/ ٥٠، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، ٤/ ٤٥.
(^٤) انظر: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية، عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الأندلسي أبو القاسم، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الإسلامية، ١٩٦٧ م، ١/ ١٧٥.
(^٥) انظر: المرجع السابق، ١/ ١٧١، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، ٤/ ٤٨.
(^٦) انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، ٦/ ٤١٩.
1 / 34
وكانت العرب في الجاهلية تحرص على أن يكون المال الذي تنفقه على الوقف الديني مالًا حلالًا، فقد تجنبت قريش حين أرادت إعادة بناء الكعبة بعد أن هدمها السيل أن تُدْخِلَ فيه مالًا حرامًا، وقد نادى مناديهم قبيل الشروع في البناء: "لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبًا، لا تُدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ريا، ولا مظلمة أحد من الناس" (^١).
وقد عرف العرب في الجاهلية حبس الحيوانات في نذورهم وعبادتهم؛ مدَّعين أن الله أمرهم بذلك كذبًا وزورًا، قال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (^٢).
وهكذا كان الوقف عند الأمم القديمة بسيطًا في مبناه، نخبويًا في عطائه، لا تحكمه قوانين محددة، ولا يمثل ظاهرة واضحة في المجتمع، وكان هدفه في الغالب الأعم السمعة والرياء، عكس ما هو الحال في الحضارة الإسلامية التي تميز فيها الوقف بسمو الغاية، وشمولية النظرة، وصرامة الضوابط والأحكام، حيث مثل ظاهرة عامة شارك فيها الحاكم والمحكوم وكل شرائح المجتمع، كما سنرى في الصفحات الآتية.
_________
(^١) الروض الأنف في شرح السيرة النبوية، عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الأندلسي أبو القاسم، ١/ ٣١٠، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بنعبد العزيز بنعبد الله، ٤/ ٤٥.
(^٢) سورة المائدة، آية ١٠٣، البحيرة: هي الناقة تلد خمس أبطن، فإن كانت الخامسة أنثى شقوا أذنها وحرمت على النساء، والسائبة: كانوا يسيبونها ولا يركبون لها ظهرًا، ولا يحلبون لها لبنًا، والوصيلة: الشاة تلد سبع أبطن، فإن كان السابع ذكرًا أو أنثى قالوا: وصلت أخاها، ولا تُذبح، وتكون منافعها للرجال دون النساء، فإن ماتت اشترك فيها الرجال والنساء، والحام: الفحل ينتج من ظهره عشرة أبطن؛ فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه للأصنام، ولا يُحمل عليه، ثم يقولون بأن الله ﷿ أمرهم بذلك. انظر: تلبيس إبليس، ابن الجوزي، عند ذكر التلبيس على الجاهلية، والوقف وأثره في تنمية موارد الجامعات، سليمان أبو الخيل، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ٢٠٠٤ م، ٧٨.
1 / 35