ولم ينتظر إجابتها ومضى يقول: حلمت خير والصلى على النبي أن الهاتف جاني في المنام وقالي: هوه. قلت هوه، قاللي الفرج جايلك شايل شنطة. صبحت الصبح أخبط كف على كف وأنا عقلي ح يشت، يا ربي فرج ايه اللي شايل شنطة؟ قوم شوف، أدحنا، أهلا وسهلا.
وكان حمزة يستمع ويحاول تقدير ما سوف يدفعه ويليق بمقام «الفرج اللي شايل شنطة» مع أنه كان على شبه يقين أن كلام أبو دومة كله فارغ ولا يدخل عقله، وكان أبو دومة يتكلم بلا توقف وأحيانا يصغي إليه حمزة، ومعظم الأحيان يتأمل ما حوله، قبور، وقبور، وأحواش عليهما زهمة ولا صوت ولا هواء ولا حياة، ونور القمر مجرد كفن أبيض كبير يغطي المباني ويفرش الأرض، وأم محمود على رأسها «اللمبة أم ساروخ» ترتد نارها ودخانها إلى الوراء ويتصاعد من شريطها الشرر، ويبدو نورها الشيء الوحيد الذي أفلت من لون الكفن وثار في وجه القمر، وأصوات وقع الأقدام على الرمال التي تكاثفت حبيباتها تحتمي من البرد والليل والموتى، هذه الأصوات تأتي مكتومة، وأحيانا يسمع حمزة معها صوت أبو دومة الذي بدأ يلهث: اثنين في رقبتي: الأسطى حودة، وبسلامته أبو دومة، على اسم جده، الله يرحمه ويحسن إليه، الفاتحة له، حودة عال. قلت: يا واد وديه في ورشة مكانيك أقله يطلع أحسن منك. حاكم ماتلقاش يا سي حمزة افندي حد يرضى تطلع احسن منه إلا ابوك، المرحوم ابويا كان بيقوللي كده ، عليه رحمة الله، الفاتحة له وأمواتنا وأموات المسلمين، بسم الله الرحمن الرحيم، كان لازم نقرأ الفاتحة قبل ما نخش على أسيادنا الموتى ونستأذنهم، معلش يا سيادي الفاتحالكو، بسم الله، آمين، الانجليز، ولاد كلب عايزين الحرق، أنا مرة وأنا ف شبابي ...
ويبدو أن انخراط فوزية في الحديث مع أم محمود جعلها تنسى المكان الذي تمضي فيه والزمان؛ إذ سرعان ما توقفت حتى وصلها حمزة وأدخلت يدها بسرعة حول ذراعه وكانت ترتجف وتقول: أنا خايفة موت يا حمزة. - من ايه؟ ما تبقيش صغيرة أمال.
فقالت وهي تلتصق به أكثر ووجهها شاحب: أنا بترجف يا حمزة.
وسألها حتى تتكلم وتنسى: أنت كنتي عمالة بتكلمي معاها في ايه؟
فقالت وأسنانها تصطك: دددي، وووليه ك ك ك ويسه، ج ج ج ج جدا دددا، ت ت ت تصور ب ب ب ت ت ت ح ب، جوجو جوزها ااا وي، بتقول ااانه ع ع عندها ا ح ح ح س س سن من أأأ نور وج ج ج دي.
وخلع حمزة «جاكتته» وألبسها إياها بالقوة، فصنعت بها ما صنعته جاكتة العسكري بحودة، وكانت كل رجفة منها تعتصر نفسه اعتصارا، لقد كان يتساءل من التجربة التي تذيب الإنسان في الإنسان وما تخيل أبدا أنها ممكن أن تكون على هذه الصورة، وهو يرتجف من البرد وهي ترتجف من البرد والخوف، تائهين في العالم الآخر، وحودة وأبواه يقودانهم من ممر إلى ممر، ممرات جرباء متشابهة وصور لآلاف الأشباح تترامى، وجلد فوزية وكذلك جلده قد تحبب وأصبع كجلد الطائر بعد نتف ريشه، والمشوار لا يبدو له آخر، وليلة طويلة لا يعلم أحد كيف تنتهي.
وفجأة قفز حمزة مذعورا مخلوع القلب؛ فقد صرخت فوزية بجوار أذنه تماما صرخة مشحونة بالرجفة والذعر المروع، وظلت تصرخ بلا انقطاع وتقول: رجليا رجليا رجليا رجليا.
وانحنى حمزة وقلبه لا يزال مخلوعا يرى ما في رجليها، ثم ضحك ضحكة هستيرية طويلة وهو يمد يده ويجذب عرف الكافور الجاف من بين قدميها، ولم تصدق فوزية ولم تكف عن الاستغاثة حتى حين أراها العرف، وما إن تبينته أخيرا حتى انهارت مغمى عليها، وتلقفها حمزة قبل أن تسقط وأبو دومة يقول: يا حول الله، يا حول الله، داحنا كنا وصلنا.
وحملها حمزة على كتفه، وخيل إليه من فرط ما كان يحس به ناحيتها أنه يستطيع حملها الليلة بطولها، ولكن بعد خطوات قليلة بدأ ينوء ويلهث، ويسأل أبو دومة.
Shafi da ba'a sani ba