وقاطعه حمزة قائلا: أنا مختفي يا سعد، وعايز مكان الليلة لأن فيه ظروف خلتني أسيب المكان اللي كنت فيه. - مختفي؟ - أيوه هربان، فاهمني ازاي؟ - هربان! - ما عندكشي مكان؟ - طيب وهربان ليه يا حمزة؟! مش كويس كده، ما افتكرشي فيه داعي لهروبك، ما افتكرشي حد يعرف عنك حاجة، مافيش داعي أبدا. - اسمع يا سعد، مافيش داعي أنت تضيع الوقت، أنا لا بد عايز مكان دلوقت حالا، فإيه رأيك؟
وقبل أن يجيب سعد تصاعد صوت أنثوي من داخل العربة يقول: يالله يا سعد، يالله يا سونه اتأخرنا. - جي، جي يا فتفت، جي بسرعة، بس فيه حاجة مهمة، جي، ثم التفت لحمزة وقال: بس مكان إيه يا حمزة، مكان فين؟ أصل دول جماعة قرايبي ومدعوين، أيوه مدعوين في فرح، فرح ابن خالي، زميلي في المدرسة، دا كان عفريت قوي معرفش ايه اللي خلاه يجوز.
وهنا سمع سعد وحمزة صوتا أنثويا قبيحا صادرا من أنف وحلق واحدة من داخل العربة، واحمر وجه سعد الأصفر جدا، وثنى جذعه مرة أخرى وصاح في غضب: إيه قلة الأدب دي ، دا مش كلام ، مش أصول كده ياخوانا، مش طريقة.
وقوطع سعد بصوت مماثل يرد عليه، وهذه المرة كان صادرا عن شاب، وهنا ابتلت حمرة وجهه بقطرات من العرق ثم قال لحمزة: لا مؤاخذة يا حمزة، شبان، ما تآخذهمش، طيش، قلة أدب. - مافيش مكان يا سعد؟
فأجاب في صوت منخفض: والله يا حمزة أنت عارف أنا ساكن مع أهلي، ومش عارف أعمل ايه، مشكلة غريبة، طب مش تقوللي من يومين ثلاثة مثلا كنت عرفت أتصرف، كنت عرفت أعمل حاجة، لا مؤاخذة يا حمزة، باردون.
قال سعد هذا وابتسم ابتسامة واسعة جدا ومفاجئة تشبه الضحكة، ثم انقض على أذن حمزة في التو بابتسامته تلك وهمس: أصل الليلة عقبال عندك زي ما انت شايف فيه شغل عاجل قوي.
واقشعر جسد حمزة، ولم يكن ذلك لهمسة سعد، وإنما لإحساس غامر هبط عليه في تلك اللحظة، الإحساس بالحذر، الإحساس بالموجة الصاعدة وهي تهبط وتتلاشى، ثم يبدأ التراجع الذي يسحب معه كل ما كان عائما فوق الماء، وكل الفقاقيع، وكل ما ليس له جذور، الإحساس بأنه واقف على شاطئ رملي والماء يتسرب تسربا خفيا وينسحب عائدا إلى البحر ويسحب معه رمالا كثيرة ولا يتبقى إلا ما تحت قدميه فقط.
ووجد سعد يقول: وانت فين يا حمزة، فين أراضيك؟ ابقى خلينا نشوفك يا أخي، لازم نشوفك، دا ولا كأننا كنا نعرف بعض، دي مش أصول أبدا، كلام فارغ.
ولم يصدق حمزة أن كلاما كهذا ممكن أن يختم عاما طويلا من اللقاءات والاجتماعات والمعارك.
وكان يود أن يهب في وجهه سابا لاعنا مذكرا إياه بما كان، وبمنابر كلية الحقوق التي ارتجت بخطبه، وبما ظل يقوم به من كفاح إلى أسابيع قليلة مضت.
Shafi da ba'a sani ba