وحين يتحدث أبوه وفي فمه بقية من طعام، ويمضغ قليلا ثم يتابع الحديث الذي تحيطه هالة موسيقية من أصوات الملاعق وهي ترن في دقات معدنية هامسة، كان حينئذ يتصور أن أباه ينطق شهدا، ويستعذب الطعام الذي يمضغه دون أن يعرف ما هو حتى لو كان طعمية، ويطوح بيده ويشد الغطاء ويرخيه ويتمنى أن يقفز من الفراش ليكون قريبا من حديثه ونبراته.
وحين كان الحديث يعرج على الأولاد - أي على فتحي وإخوته - كان يتمنى أن يتعثر بائع الزبادي الذي ينادي بصوته المزعج في الخارج ويسقط في حفرة فيسكت، وأن يضرب جارهم امرأته التي تصرخ بصوتها الملسوع ولا تتوقف ويأمرها بالسكوت، وتصمت الدنيا كلها ليستطيع أن يسمع أباه وأمه وهما يتحدثان عنه، فأمامه في النهار لم يكونا يتحدثان إلا ليلوماه أو يأمراه بإحضار شيء أو يشتماه، أما حديثهما من ورائه - وهما معتقدان أنه نائم - فقد كان يود بحياته كلها أن يسمعه، ويسمع المشاريع التي يدبرانها له، يقول أبوه: نشتري له بدلة كاملة للسنة الجاية. ويدق قلب فتحي وكأن البدلة جاءت وارتداها، وتقول أمه: أحسن نوديه الزراعة المتوسطة يخلص بسرعة. ويغتاظ فتحي ويكاد في مرقده يقول لا بأعلى صوته، ولكن أباه يتولى الإجابة ويصر على دخوله الثانوي، فيقول فتحي في سره: يحميك يا أبي.
ويصبح حينئذ طرفا ثالثا في الحديث، طرفا بعيدا يسمع ويرضى ويفرح ويسخط ويثور، وهو آمن أنه يستمع إلى الحقيقة المجردة، وأن ما يقوله أبواه هو الذي سيقرر مصيره وليس الكلام المنمق الذي يسمعه في النهار.
ثم الكارثة، حين يحس فتحي - وقد تربى له من أجل ذلك إحساس مخصوص - أن الطعام قد انتهى؛ فيبدأ بطنه يمغص ولعابه يسيل، حين تنساب إلى أذنيه أصوات أبويه وهما يغمغمان في إيهام، وتبدأ أصوات مضغهما تأخذ طابعا معينا يعرفه فتحي جيدا؛ إذ في هذه الأثناء يكون دور «الكنافة» أو «قمر الدين» أو باقي القائمة قد أتى، ومع أن فتحي يكون عالما تماما أن سيناله من كل صنف نوب في الصباح، إنما فرق كبير بين أن يأكل الكنافة في السحور هكذا والسكون شامل والدنيا ظلام والنور جميل، وبين أن يأكلها في وضوح الصبح وشمسه الكثيرة وذبابه وضجيج إخوته ومنازعاتهم، فرق كبير.
حين يبدأ السحور كانت تبدأ سعادات فتحي، وكذلك تبدأ متاعبه، فإذا لم يعجبه الطعام ظل راقدا مستيقظا أسعد ما يكون برقدته واستيقاظه وسماعه حديث السحور، أما إذا لم يعجبه الحديث وسخط على مشاريع المستقبل أو هفت نفسه إلى صنف من أصناف الطعام، كان حينئذ لا يتحمل الرقاد فيقوم مدعيا الذهاب إلى دورة المياه مارا بالصالة، وحريصا على أن يري نفسه لوالديه في ذهابه وإيابه، وأن يريهم بالذات وجهه المتجهم الذي يكاد يبكي، بل أحيانا كان يبكي، وأحيانا كان يسأله أبوه عن سبب بكائه فيبكي أكثر، فإذا ألحف أبوه ادعى بعد لأي أن عنده مغصا مثلا أو أن برغاثا قرصه، فإذا ضحك أبوه ازداد بكاؤه، وكل همه أن يشعرهم أنه غاضب، وأحيانا كان يدعي أنه يحلم ويصرخ، فيجري عليه الوالدان ويمثل دور المستيقظ لتوه من كابوس تمثيلا - والحق يقال - رائعا، حتى إن واحدا من والديه لم يشك أبدا فيه، وكان ما يضايقه جدا أنهما لم يفهما أبدا ولم يدعواه أبدا إلى مشاركتهما السحور أو حتى الجلوس والاستماع إلى الحديث، كل ما يقولانه: نام ياخويا، نام يا حبيبي، اسم الله عليك، وكلام مثل هذا من كلام الشبعانين المتحدثين المستمتعين.
كان من الضروري جدا أن يصوم فتحي.
وظل ساخطا على الكبار وعلى أبيه بصفة خاصة، حتى أجابه إلى مطلبه أخيرا.
جاءت ليلة النصف من شعبان وأنذرهم فتحي بأنه لا محالة صائم، فطبطب أبوه على كتفه وقال: إن شاء الله.
وافرح يا فتحي وأخبر كل الأولاد والقرايب والعمات والخالات، خلاص انتهى كل شيء وابتسمت الدنيا: أجل سيصوم! قال له أبوه هذا وانتزع التصريح من أمه.
وجاء رمضان، وليلة أول سحور لم ينم، بل حتى لم يخرج من البيت ليلعب مخافة أن يغافله أبواه وهو في الخارج ويتسحرا، فإذا أصبح الصباح قالوا: معلشي لقد فاتك السحور فلا ينبغي أن تصوم.
Shafi da ba'a sani ba