مقدمة المترجم
الكتاب الأول: العدالة
الكتاب الثاني: المدينة السعيدة
الكتاب الثالث: دستور المدينة
الكتاب الرابع: الفضائل الأربع
الكتاب الخامس: المسألة الجنسية
الكتاب السادس: الفلاسفة
الكتاب السابع: المثل
الكتاب الثامن: الحكومات الدنيا
الكتاب التاسع: المستبد
الكتاب العاشر: التقليد وجزاء الفضيلة
مقدمة المترجم
الكتاب الأول: العدالة
الكتاب الثاني: المدينة السعيدة
الكتاب الثالث: دستور المدينة
الكتاب الرابع: الفضائل الأربع
الكتاب الخامس: المسألة الجنسية
الكتاب السادس: الفلاسفة
الكتاب السابع: المثل
الكتاب الثامن: الحكومات الدنيا
الكتاب التاسع: المستبد
الكتاب العاشر: التقليد وجزاء الفضيلة
جمهورية أفلاطون
جمهورية أفلاطون
تأليف
أفلاطون
ترجمة
حنا خباز
مقدمة المترجم
الدولة برجالها والأمة بآحادها. على هذا المحور يدور القسم الأكبر من مباحث الجمهورية، والتاريخ كله أدلة قاطعة تثبت هذه النظرية؛ فقد أنشأ الإسكندر المكدوني الدولة اليونانية، وشارلمان بابين الدولة الفرنسية، وبطرس الكبير الدولة الروسية، وغاريبلدي ورفقاؤه الدولة الإيطالية، وقس على ذلك مئات الشواهد في كل العصور.
تحيا الأمة أو تموت، وتعلو أو تسفل، وتسعد أو تشقى؛ بقياس ما فيها من الآحاد - النوابغ - وبقياس معاملتها أولئك الآحاد، فأمة أو دولة تقدر آحادها أقدارهم وتطلق أيديهم في إبراز ما أوتوا من علم أو فن أو إبداع، وتمهد لهم الوسائل للفوز والفلاح؛ هي أمة أو دولة سعيدة خالدة، أما الدولة التي تغل أيدي نوابغها وتقيم العقبات في سبيلهم، فهي دولة معتسفة تاعسة.
فتربية الرجال ومكانتهم ورعايتهم وما لهم من النفوذ في الدولة، يشغل القسم الخيالي في جمهورية أفلاطون، وقد رمز بذلك إلى الرجل الفذ الأريحي، الحكيم الشجاع العفيف العادل، الذي يدعوه «المثل الأعلى»، وهو ركن الدولة المثلى. فإذا سرح القارئ رائد طرفه في الجمهورية رأى أمامه جوا صافيا حافلا بالمثل، مزدانا بغرر الأفكار، فتثور في نفسه محبة الجمال، وتنطبع تلك النفس بطابع الجمال الذي رأت مثله في تفكير أفلاطون من نزاهة نفس، وسديد رأي، وثاقب نظر، وعالي همة، وترفع عن التقليد والزلفى، وعن مسايرة البيئة؛ وبالإجمال، عن كل ما يغل الفكر من عادات وتقاليد وأوهام؛ ففي هذا الموقف يتجلى للذهن جمال الحقيقة الخلاب، فتصير ضالته المنشودة وإلاهته المعبودة. هذا هو الرجل الذي يفتقر شرقنا إليه، وهو ما أرجو أن تكون هذه الجمهورية من وسائل خلقه وتنشئته.
فالنتيجة الصحيحة لهذه المقدمة في منطق القارئ النبيه، هي أن تكون ترجمتي سهلة المأخذ، واضحة البيان، لتكون في متناول العامة إذا أمكن، فتقود النفس بسهولة إلى رؤية الجمال. ذلك ما توخيته في الترجمة، وقد علقت على صفحات الكتاب الهوامش، وبدأت كل فصل منه بتمهيد يشتمل على خلاصته، ووضعت في الهوامش الأرقام التي تسهل على المطالع المراجعة والاستشهاد؛ كل ذلك لتسهيل فهمه على مطالعيه.
وقد كان بين يدي ثلاث ترجمات إنكليزية، هي ترجمة تيار، وترجمة سبنس، وترجمة دافيس وفوغان، فكنت أقابل كل جملة فيها من أول الكتاب إلى آخره، وأقف على صورة التعبير في كل منها، وقد بذلت وسعي في اختيار أصحها؛ لأنها تختلف في كثير من مواقفها اختلافا كبيرا؛ فكنت أوثر أقربها لروح أفلاطون، معتمدا بالأكثر ترجمة دافيس وفوغان؛ لأني علمت أنها معتمدة في جامعة أكسفرد، ولأن أكابر الكتاب والفلاسفة والعلماء يعتمدونها، كدورانت ورسل والإنسكلوبيديا.
ولا يسعني إلا التنبيه إلى ما ورد في كتاب الجمهورية من الأشعار من نظم هوميروس وهسيودس، وغرض أفلاطون في ذلك نقدها وتفنيد ما تتضمنه من المبادئ الفاسدة والتعاليم المنكرة؛ فلا يضعن القارئ قلبه عليها، فإن مسألة شاعريتها وبلاغتها غير مرادة هنا.
ولا يفوتني إثبات شكري الوافر لحضرة فؤاد أفندي صروف، رئيس تحرير المقتطف، صاحب الفضل في نشر هذا الكتاب، وفي معاونته لي في مراجعة مسوداته، وقد راجعت مع ابني توفيق (ب. ع.) مدرس الترجمة في كلية غردون بالخرطوم - بالسودان - كل الكتاب، والترجمات الثلاث بين أيدينا؛ فأصلح وعدل في الترجمة شيئا كثيرا. فإذا شام القارئ في الترجمة شيئا من الضبط والاتساق، فالفضل بالأكثر لشريكي المذكورين، أما الأغلاط والخطيئات الواردة فيه فهي على مسئوليتي وحدي.
ورجائي إلى القارئ النبيه ألا يسرع في تقليب صفحات هذا الكتاب؛ لأنه ليس كتاب تسلية ولهو، بل هو من تحف الأدهار، وكما هو من نتاج أزكى العقول، فهو عشيق أزكى العقول. وحسب مؤلفه أفلاطون فخرا أنه قد مر على تأليفه نحو 2300 سنة، وهو يدرس اليوم في أرقى جامعات الدنيا، مع أن ملايين من المؤلفات التي صدرت من عهد أفلاطون إلى اليوم قد أصبحت نسيا منسيا، وكأي من مؤلف ضربت العناكب على تأليفه ولم تفسد أكفانه. وهذا كتاب الجمهورية يحسبونه كتاب الكتب في عصر بلغ النقد فيه أسمى مبالغه؛ فأرجو القارئ أن يتأنى في قراءته، وأن يعطيه حقه من الروية والإمعان؛ لأنه خير كاشف عن باطن أكبر فيلسوف عاش في كل الأجيال.
أجل إننا لسنا نوافق أفلاطون في كل نظرياته، وقد نشرناها على مسئوليته، ولكنا معجبون وأكثر من معجبين بنظام تفكيره، ورحابة صدره، وضبطه في الأحكام، وفيض بلاغته وبيانه، ونشاركه في غرض التأليف العام وهو «السعادة»، وفي الوسيلة الخاصة المؤدية إلى ذلك الغرض وهي «الفضيلة»، ونوافقه في أن الفضيلة تراد لذاتها ونتائجها، وفي أن الفرد دولة مصغرة والدولة جسم كبير، وأن ما يسعد الدولة يسعد الفرد، وأن الرجل الكامل - المثل الأعلى - هو الذي تحكم عقله في شهواته، وانقادت حماسته إلى حكمته، وعاش ومات في خدمة المجموع.
حنا خباز
مصر، 12 أغسطس سنة 1929
أفلاطون (نقلا عن كتاب «قصة الفلسفة»، تأليف الدكتور ول دورانت).
الكتاب الأول: العدالة
خلاصته
لما انحدر سقراط وغلوكون إلى بيرايوس لحضور حفلة العيد الذي اقتبسوه حديثا من الثراكيين، التقى ببوليمارخس وأديمنتس ونيسيراس وغيرهم من الأصحاب، فأقنعهما هؤلاء أن يصحباهم إلى بيت سيفالس والد بوليمارخس، وتحادث سقراط وسيفالس في محن الشيخوخة وآلامها، فأفضى بهما الحديث إلى هذه المسألة: ما هي العدالة؟ فانسحب سيفالس تاركا ميدان البحث لولده بوليمارخس.
فبدأ بوليمارخس البحث بإيراد حد العدالة المأثور عن سيمونيدس، وخلاصته: العدالة هي أن يرد للإنسان ما هو له. فاعترضتهما مسألة أخرى، وهي: ماذا عنى سيمونيدس بكلمة «له» أو حقه؟ لأنه واضح أنه أراد بها أكثر قليلا من حق التملك، وعنده أن طبيعة الحق تتوقف على طبيعة العلاقة بين المتعاملين؛ وعليه: جعل العدالة «نفع الأصحاب ومضرة الأعداء».
فسأله سقراط أن يحدد «الأصحاب»، ولما أجابه بوليمارخس أن الأصحاب «هم الذين نعتقد فيهم الأمانة والصلاح»، رد عليه سقراط قائلا: لما كنا معرضين للخطأ في الحكم في صفات الناس، فإن ذلك - ولا شك - يجرنا إما إلى مضرة الصالحين، وهو تعليم فاسد، أو إلى أن العدالة هي مضرة الأصحاب، وهو ضد حد سيمونيدس على خط مستقيم.
فللتخلص من هذا المشكل عدل بوليمارخس موقفه، وأفرغ نظرية سيمونيدس بهذا القالب: العدالة هي مساعدة الأصحاب الأمناء ومضرة الأعداء الأشرار.
فبرهن سقراط في رده على أن الإضرار بالإنسان يجعله أكثر شرا وأقل عدالة، فكيف يمكن أن يضعف الإنسان العادل بعدالته عدالة الآخرين؟ فحد سيمونيدس، حسب التعديل الأخير، غير صحيح.
فتعرض ثراسيماخس للبحث، وبعد اللتيا والتي حدد العدالة بأنها: منفعة الأقوى. وأسند تحديده إلى البرهان الآتي:
انتهاك حرمة الشريعة يحسب تعديا عند كل حكومة.
تسن الشرائع لصيانة مصلحة الحكومة.
الحكومة أقوى من الرعية.
والنتيجة أن العدالة هي مصلحة الأقوى، أو: «الحق للقوة.»
فرد سقراط بأن الحكومة قد تخطئ في سنها شرائع مضرة بمصلحتها، والعدالة في رأي ثراسيماخس توجب على الرعية إطاعة الشريعة في كل حال؛ فإذا: كثيرا ما تكون العدالة إضرار الرعية بمصلحة الحكومة، فتكون العدالة ضد مصلحة الأقوى. فلا يمكن قبول هذا الحد.
فهربا من هذه النتيجة تراجع ثراسيماخس من موقفه هذا وقال: إن الحاكم اصطلاحا لا يغلط باعتبار حاكميته، فالحكومة كحكومة تسن دائما ما هو في مصلحتها، وذلك ما توجب الشريعة على الرعية إطاعته. فأثبت سقراط في رده أن كل فن - وبالجملة فن الحكم - لا يتناول مصلحة أربابه أو الأعلى، بل مصلحة المحكوم أو الأدنى. فاقتضب ثراسيماخس الكلام محولا الموضوع إلى أن الحكام يعاملون الشعب معاملة الراعي قطيعه، فإنه يرعاه ويسمنه لمصلحته هو؛ ولذلك فالتعدي أفضل وأنفع كثيرا من العدالة.
فأصلح سقراط هذا القول بأن الراعي لا يسمن المواشي لمصلحته الخاصة، وأخذ من قاعدة ثراسيماخس أن غرض الرعاية الخاص توخي مصلحة الرعية. زد على ذلك: كيف نعلل قبض الحاكم راتبا على عمله إن لم يكن ذلك العمل لخير الشعب وليس لخيره ؟ فكل فني، بأدق معاني الكلام، يكافأ بفنه مكافأة غير مباشرة، ولكنه يكافأ مباشرة بما أسماه سقراط «فن الأجور»، وهذا يصحب غيره من أنواع المكافأة. ثم أعاد النظر في القول: التعدي الكلي أنفع من العدالة التامة؛ فاستخرج من فم ثراسيماخس الاعتراف ب «أن العدالة فطرة صالحة»، و«التعدي سياسة حسنة»؛ وبالتالي سياسة حكيمة صالحة فعالة، فقاده سقراط بذلاقة لسانه إلى التسليم بما يأتي: (1)
يحاول المتعدي خدعة العادل والظالم معا، أما العادل فيقتصر على خدعة الظالم فقط. (2)
كل حصيف في فن وهو صالح وحكيم، لا يحاول غلبة الحصيف، بل غلبة الغبي. (3)
فلا يحاول الصالحون سبق أمثالهم، بل سبق الأغيار، فينتج من ذلك أن العادل حكيم وصالح، والمتعدي شرير وجاهل. وحينذاك تقدم سقراط لتبيان أن التعدي يلد النزاع والانقسام، أما العدالة فتؤدي إلى الاتساق والوئام، وأن التعدي يقضي على كل ميل إلى الاتحاد في العمل، في الأفراد وفي الجماعات؛ لذلك كان التعدي عنصر ضعف لا قوة.
وأخيرا أوضح سقراط أن النفس كالعين والأذن وغيرهما من الحواس، لها عمل أو وظيفة تتمها، ولها أيضا فضيلة بها تتمكن من ذلك الإتمام، وتلك الفضيلة في النفس هي العدالة، فلا تستطيع النفس إتمام عملها إتماما حسنا دون سلامة فضيلتها؛ لذلك لا يمكن أن يكون التعدي أنفع من العدالة. مع ذلك صرح سقراط أن هذه الحجج غير قاطعة؛ لأنه لم يتوصل بعد إلى اكتشاف طبيعة العدالة الحقيقية.
متن الكتاب
المتكلمون: سقراط، وسيفالس، وبوليمارخس، وغلوكون،
1
وأديمنتس، وثراسيماخس.
الرواية بلسان سقراط. المكان: بيت سيفالس في بيرايوس.
قال سقراط: انحدرت البارحة إلى بيرايوس، صحبة غلوكون بن أريسطون، لتقديم العبادة للإلاهة، مع الرغبة في مشاهدة حفلات العيد وكيفية إقامتها، وقد اعتزموا على ممارستها للمرة الأولى؛
2
فسرني موكب مواطني الأثينيين، على أن موكب الثراكيين لم يكن دونه بهاء. وبعد الانتهاء من مراسم العبادة، وإشباع عاطفة حب الاستطلاع، قفلنا راجعين إلى أثينا، فرآنا بوليمارخس بن سيفالس عن كثب ونحن راجعون، فأرسل غلامه يستوقفنا ريثما يصل هو، فأمسك الغلام بأطراف ردائي من وراء قائلا: سيدي بوليمارخس يرجوكما انتظاره قليلا. فالتفت وسألته: أين هو؟ قال: ها هو قادم، فانتظراه. قال غلوكون: إنا منتظران. وللحال وصل بوليمارخس، وأديمنتس أخو غلوكون، ونيسيراتس بن نيسياس، وآخرون غيرهم كانوا راجعين من الحفلة، فبدأ بوليمارخس الكلام.
بوليمارخس :
يا سقراط، إذا لم أخطئ الظن، فأنتما عائدان إلى المدينة؟
سقراط :
لم تخطئ الظن.
بوليمارخس :
أفلا تريان وفرة عددنا؟
سقراط :
دون شك إنا نراها.
3
ب :
فعليكما إما أن تبرهنا على أنكما أقوى منا فتسيران، أو مكانكما.
س :
بل إن هنالك رأيا آخر، وهو أن نقنعكم أنه يجب أن تأذنوا لنا بالذهاب.
ب :
أويمكنكما إقناعنا إذا نحن أبينا الإصغاء؟
غلوكون :
كلا.
ب :
فكونا على يقين أننا لن نسمع لكما.
أديمنتس :
أولا تعلمان أنه سيكون الليلة طراد بالمشاعل إكراما للإلاهة؟
س :
أعلى متون الخيل؟ إنه شيء جديد، أفعازمون هم على تبادل المشاعل بالأيدي والخيول مغيرة بهم؟ أو ماذا تعني؟
ب :
إنه كما تقول، عدا ذلك سيكون عندنا الليلة احتفال يستحق الفرجة، فسنقوم عن العشاء ونشهد الحفلة، فنجتمع بكثيرين من الشبان ونطارحهم الحديث. فالمرجو أن لا ترفضوا التماسنا.
غلوكون :
يظهر أن بقاءنا لازم.
س :
فلنبق إذا شئت. (فسرنا إلى بيت بوليمارخس، حيث لقينا أخويه ليسياس وأثيديموس، وثراسيماخس، وشارمنتيدس البيوني، وكليتيفون بن أريستونيموس. وكان سيفالس والد بوليمارخس أيضا في البيت، وقد تبينت فيه ملامح الهرم؛ إذ لم أكن قد رأيته من عهد بعيد، وكان جالسا في سريره مكللا بإكليله الكهنوتي؛ لأنه كان يقدم الذبائح في السراي. فجلسنا حوله، ولما رآني حياني قائلا):
سيفالس :
أطلت الغيبة يا سقراط، فلم تزر بيرايوس، والأمل أنك لا تبخل زيارتنا، ولو كان الصعود إلى المدينة سهلا علي لما كان عليك أن تتحمل مشقة المجيء إلينا، أما وإنا على ما ترى فأتوقع أن تواصل افتقادنا، وأؤكد لك أني وجدت ضعف الملذات الجسدية يتناسب مع زيادة ميلي إلى المحادثة الفلسفية، والرغبة في المسرة الناشئة عنها؛ فلا ترفض طلبي ولا تحرم هؤلاء الشبان فوائد الاجتماع بك، بل زرنا كأصدقاء حميمين.
س :
حقا أيها السيد سيفالس إني أسر بمحادثة الشيوخ، رغبة في الإفادة منهم كسابقين تقدمونا في طريق ربما بلغناها بعدهم فنعرف منهم ما هي؟ أوعرة أم سهلة؟ أو هينة أم عسرة؟ ويسرني أن آخذ عنك وأنت قد بلغت الموقف الذي يدعوه الشاعر «عتبة الأبدية»، فأعرف ما هو رأيك في هذا الطور، أثقيلة الحياة فيه أم ماذا؟
سيفالس :
إني أفضي إليك باختباري الخاص يا سقراط، فإننا نحن الشيوخ نجتمع معا حينا بعد حين، ونحن أقران سنا، طبقا للقول: «شبيه الشيء منجذب إليه.» فيندب أكثرنا سوء حاله أسفا على مسرات الصبا، وما فيها من ولائم وغرام وحلقات شرب وطرب، وما إلى ذلك؛ فيندبون زمن الفتوة وخسرانهم مسراته المستحبة، وأنهم كانوا حينذاك يعيشون عيشة راضية، أما الآن فيحسبون أنفسهم في عداد الموتى، ويشكو بعضهم ما يلقى ضعفهم من ازدراء الأقارب، حاسبين الهرم علة هوانهم. على أني يا سقراط لا أراهم يلمون بسبب تعاستهم الحقيقي، فلو أن الهرم هو العلة لكنت شريكهم فيها، ولكان كل هرم من مذهبهم، والواقع خلاف ذلك كما أكد لي كثيرون من الشيوخ، أخص بالذكر منهم صفوكليس الشاعر، فإنه لما سئل في حضرتي: ما هو شعورك بلذائذ الغرام يا صفوكليس؟ أقادر أنت على التمتع بها؟ أجاب السائل قائلا: يا صاح، يسرني أني نجوت من تلك اللذات، نجاتي من سيد غبي غضوب. فرأيت أنه بحكمة أجاب؛ لأن في دور الهرم سلاما طافحا وحرية تامة من القيود الثقال، فمتى خفت حدة الشهوات وهانت مغالبتها، حق قول صفوكليس وتحررنا من سادة عنف. أما الشكاوى التي ذكرها رصفائي، وما يلقونه من معارفهم من صنوف الهوان، فلها سبب واحد لا غير، ليس هو الهرم يا عزيزي سقراط، بل هو خلق الشيوخ، فلو أن لهم عقولا حسنة الاتزان، لينة العرائك، لما كان الهرم عليها حملا ثقيلا، وإلا فكلا الأمرين - الشيخوخة والشباب - ثقيل. (قال سقراط: فاعتبرت ما أملاه علي سيفالس، ورغبت في استدراجه استزادة للفائدة، فقلت له):
س :
أظن يا سيدي سيفالس أن الكثيرين لا يوافقونك في ذلك، بل يرون أنك استسهلت الشيخوخة ، لا لحسن خلقك بل لثروتك الطائلة؛ لأن في الغنى تعزيات جمة.
سيفالس :
أصبت في قولك إنهم لا يوافقونني في ذلك، وفي ما قالوه شيء من الحق، ولكن ليس بقدر ما وهموا؛ فلقد أجاد ثموستكليس القول ردا على من ازدراه من السيرافيين، زاعما أن شهرته لم تستند إلى كفاءته الشخصية بل إلى قوميته؛ قال: «ولو كنت سيرافيا نظيرك لما اشتهرت، ولا أنت لو كنت أثينيا نظيري.» وهو قول ينطبق على فقراء الشيوخ الذين يئنون تحت أثقال الهرم: لا يهون حمل الهرم على الفقير وإن كان ذا كفاءة، ولا يريح الثراء عديمها.
س :
أوطارف ثراؤك أم تالد يا سيدي سيفالس؟
سيفالس :
تسألني هل جنيت ثروتي، فأجيبك أني من حيث المالية بين أبي وجدي، فلما كان جدي وسميي «سيفالس» في سني، كان يملك ما أملك الآن، وقد ضاعف ثروته أضعافا؛ أما والدي ليسباس فأنقصها عما هي الآن، وأنا راض بأن يرث أولادي ليس أقل مما ورثت عن والدي، بل أكثر قليلا.
س :
سألتك هذا السؤال لأني أراك معتدلا في حب الثروة شأن الذين ثراؤهم تالد، أما الذين جنوه فحرصهم عليه أضعاف حرص أولئك، وكما يولع الشعراء بحب ما نظموا، والوالدون بحب من نسلوا، هكذا الذين جنوا ثروة هم كلفون بها، لا لمجرد استخدامها كما يفعل السوي؛ بل لأنها جني حياتهم، وذلك يجعلهم عشراء سوء؛ لأنهم لا يمتدحون إلا الثروة.
سيفالس :
هذا صحيح.
س :
فقل لي بحقك، ما هو الخير الأعظم الذي جنيته من الثروة؟
سيفالس :
إذا أبديت رأيي، فقلائل هم الذين يوافقونني فيه، فكن على يقين يا سقراط أنه متى شعر المرء بدنو الأجل، خامرت قلبه المخاوف والهموم التي لم تكن تروعه فيما سلف، يوم كان يهزأ بروايات ما وراء القبر، ومعاقبة الإنسان عما جنى. أما الآن فغدا يضطرب جزعا مخافة أن تكون تلك الروايات صحيحة، ويزيده تصديقا لها إما ضعفه الناشئ عن الهرم، أو قربه منها فعلا. ومهما يكن العامل فإنه تملؤه المخاوف والريب، فيأخذ يفكر: ترى هل أساء إلى أحد بشيء ؟ فإن كان قد أساء كثيرا في حياته، فإنه يستيقظ حينذاك من غفلته يقظة الأحداث من نومهم، وقد علت فوقهم الصيحات، فيسوده الذعر والشقاء. أما إذا لم يشعر بأنه أساء، فهو كما قال بندار:
يظل مبتهجا مهما يطل أجلا
وفي الرجاء له بشر وتهليل
وكلماته البديعة يا سقراط توضح إيضاحا جميلا أن كل من اتصف بالعدالة والطهارة، ففيه القول:
نور الرجاء جلا داجي الخطوب وقد
أحيا مسرته في لجة الهرم
4
وإن نأت عن سواه كل تعزية
فقلبه راتع في دوحة النعم
ففي شعر بندار هذا أدب ناضج وحكمة بالغة؛ وعليه: أرى أن الثروة جزيلة النفع، ربما ليس لكل إنسان، بل لصلحاء القلوب؛ لأنها تحررنا من التعرض للغش والخداع، فتنقذنا من مخاوف الانتقال من هذا العالم مدينين بشيء من الذبائح للآلهة، أو بشيء من الأموال للناس. وللثروة فوائد كثيرة غير ذلك. أما أنا، فبعد أن وزنت كلا منها، فإني أرى أن ما ذكرته منها هو أقل فوائد الثروة للحكيم.
س :
أحسنت البيان يا سيدي سيفالس، ولكن ماذا نفهم بالعدالة؟ وماذا نقول فيها؟ أنحدها بأنها ليست أكثر ولا أقل من صدق المقال ورد ما للغير؟ أم نقول إن الفعل الواحد يحسب في بعض الأحوال عدلا، وفي بعضها تعديا؟ أعني أن كل إنسان يسلم أنه إذا استعار من صديقه أسلحة خطرة، وصديقه سليم العقل، فليس من العدالة أن يردها له وقد أصيب في عقله وصار وجودها في يده خطرا على حياته، فلا يحسب من ردها عادلا، كما لا يحسب عادلا من أخبر إنسانا كهذا، في حال كهذه، كل الحقيقة.
سيفالس :
أصبت.
س :
فرد العارية وصدق القول ليس تحديدا صحيحا للعدالة.
بوليمارخس :
ليس إلا صحيحا يا سقراط، إذا كنا نثق بسيمونيدس.
سيفالس :
وعلى كل فإني أترك الحديث لكما؛ إذ قد حان وقت ذهابي للذبائح.
س :
فيرثك بوليمارخس في الحديث، أليس كذلك؟
سيفالس (مبتسما) :
من كل بد (قال ذلك وخرج لإتمام فريضة الذبائح) .
س :
قل لي يا وارث الحديث، ما هو حد العدالة المأثور عن سيمونيدس ؟
بوليمارخس :
العدالة هي أن يرد لكل ما له. وأرى أن سيمونيدس قد أجاد بهذا التحديد.
س :
يعز علي أن أرفض تحديد سيمونيدس لأنه حكيم وملهم، وربما تفهم أنت معناه يا بوليمارخس، أما أنا فلم أوفق إلى فهمه؛ لأنه واضح أنه لا يعني شيئا مما ذكرنا، أي: «رد الإنسان لصديقه مجنونا، ما أودعه إياه عاقلا»، مع أني أسلم أن الوديعة هي لصاحبها، أليست له؟
ب :
بلى.
س :
ومع ذلك فإذا طلبها في حال جنونه، فلا يجوز ردها له، أيجوز؟
ب :
حقا إنه لا يجوز.
س :
فالظاهر أن سيمونيدس قصد شيئا آخر بقوله: «إن العدالة هي أن يرد للمرء ما هو له.»
ب :
مؤكد أنه قصد شيئا آخر؛ لأنه يرى أنه على الأصدقاء أن يفعلوا لأصدقائهم خيرا لا شرا.
س :
فهمت، فمن رد ذهبا أودعه، وكان في الرد والاسترداد مضرة للصديق، فليس رده عدالة، مع أن الذهب هو لمن استرده. أليس هذا ما ترتئي أن سيمونيدس يعنيه؟
ب :
هذا هو بالتأكيد.
س :
حسنا، أفنرد لأعدائنا ما هو لهم؟
ب :
دون شك نرد ما هو لهم، فللعدو على العدو دين، قد يكون ضارا، والضرر مأثور في موقف كهذا.
س :
فيظهر أن سيمونيدس أعطانا حدا مبهما كاللغز في ما هي العدالة، وظاهر أنه يفهم جيدا أن العدالة هي إعطاء كل ما يوافقه. ذلك ما أسماه «حقه»، أو ما هو «له»، فائذن لي أن أسألك أن تجود علي هنا برأيك؛ لو أن سائلا سأله قائلا: يا سيمونيدس، إذا كان ذلك كذلك، فما هي الأشياء المقدمة للناس كواجبة ومفيدة في فن يدعونه طبا؟ وما الذي يتناولها؟ فماذا تظن أنه يجيب؟
ب :
لا ريب في أنه يجيب أن المتناول هو الجسم، والأشياء المقدمة هي العقاقير والطعام والشراب.
س :
وما الفن الذي يؤتي المواد ما يلائمها ويدعى طهيا؟ وما الذي يتناولها؟
ب :
الأشياء هي التوابل والبهارات، تتناولها أنواع الطعام.
س :
حسنا، فماذا يقدم الفن الذي يدعى عدالة؟ ومن الذين يتناولونه؟
ب :
إذا رمنا الصواب يا سقراط، باعتبار ما قررناه آنفا، فالجواب هو: أن العدالة تقدم النفع والضرر، والذين يتناولونهما هم الأصحاب والأعداء.
س :
فسيمونيدس يحسب نفع الصديق ومضرة العدو عدالة، أهذا معناه؟
ب :
هكذا أظن.
س :
فمن هو الأقدر على منفعة أصحابه ومضرة أعدائه إذا مرضوا، باعتبار الصحة وعدمها؟
ب :
هو الطبيب.
س :
ومن الأقدر على صنع الخير للأصدقاء أو الضرر للأعداء في أسفار البحار بالنسبة إلى أخطارها؟
ب :
الربان.
س :
حسنا، ففي أي عمل وأية حال يكون العادل أقدر على نفع الصديق ومضرة العدو؟
ب :
في حال الحرب، بمحالفته الفريق الواحد وعدائه الفريق الآخر.
س :
حسنا، فالطبيب يا عزيزي بوليمارخس عديم النفع للأصحاء؟
ب :
حقيقة.
س :
والملاح عديم النفع لمن هم على اليابسة؟
ب :
نعم.
س :
فهل العادل أيضا عديم النفع لمن ليسوا في حرب؟
ب :
لا أظن.
س :
فالعدالة إذا مفيدة حتى في وقت السلم.
ب :
مفيدة.
س :
وكذلك الزراعة، أليس كذلك؟
ب :
بلى.
س :
وذلك لاجتناء ثمر الأرض؟
ب :
نعم.
س :
كذلك فن السكافة نافع؟
ب :
نعم.
س :
كواسطة للحصول على الأحذية.
ب :
حقيق.
س :
فأي نفع أو نيل تضمن العدالة في السلم؟
ب :
العهود يا سقراط.
س :
ألشركة تعني بالعهود أم شيئا آخر؟
ب :
الشركة لا غير.
س :
أفالعادل هو الشريك الأنفع في لعب النرد أم اللاعب البارع؟
ب :
اللاعب البارع.
س :
وفي رصف الحجارة وتنضيد القرميد، العادل أنفع أم البناء القانوني؟
ب :
البناء القانوني.
س :
فباعتبار أية شركة يمتاز العادل على العواد، ما دام العواد أمهر منه بضرب الأوتار؟
ب :
أظن في الشركة المالية.
س :
ربما يستثنى من ذلك يا بوليمارخس حال استعمال المال، كما في شراء حصان أو بيعه؛ فحينذاك يكون تاجر الخيل أنفع من العادل.
ب :
ظاهر أنه أنفع.
س :
وفي شراء سفينة أو بيعها، بانيها أو ربانها أنفع من العادل.
ب :
هكذا أرى.
س :
فوالحالة هذه، متى يكون العادل أنفع الناس طرا في أمر الفضة والذهب؟
ب :
حين تروم إيداع أموالك في حرز حريز يا سقراط.
س :
أي حين حفظه في الخزنة وعدم استعماله في أي عمل؟
ب :
تماما هكذا.
س :
ففائدة العدالة ماليا محصورة في حال عدم التصرف بالمال.
ب :
هكذا يظهر.
س :
والعدالة مفيدة أيضا للفرد والشركة حين حفظ المكسحة، ولكن في حال استعمالها تخلي العدالة الميدان لفن التشذيب؛ لأنه هو الأنفع.
ب :
الأمر جلي.
س :
أوتعني أن العدالة نافعة في حال حفظ الدرع والناي وعدم استعمالهما، ولكن في حال استعمالهما تحتاج إلى فن الجندي والموسيقي؟
ب :
لا بد.
س :
وهكذا الحال باعتبار كل شيء، العدالة عديمة النفع حين استعماله، ولكنها نافعة في حال إهماله؟
ب :
هكذا يظهر.
س :
فلا يمكن أن تكون العدالة يا صاحبي أمرا ذا شأن كبير، إذا انحصر نفعها في حال الإهمال. ولكن دعنا نبحث هكذا: أليس الخبير في الملاكمة - حربا أو لعبا - خبيرا أيضا في تلقي الضربات؟
ب :
أكيد.
س :
أوليس أكيدا أيضا أن الأخصائي في دفع المرض وصد هجماته، بارع أيضا في نفثه في الآخرين؟
ب :
هكذا أظن.
س :
ولا ريب في أن الخفير الساهر على الجيش هو قادر أيضا على سرقة خططه وحركاته.
ب :
بالتأكيد.
س :
فكل ما الإنسان بارع في حفظه هو بارع في سرقته؟
ب :
هكذا يظهر.
س :
فإذا كان العادل خبيرا في حفظ الدراهم، فهو خبير أيضا في سرقتها.
ب :
أعترف أن المحاورة تتمشى في هذه الوجهة.
س :
فأدى بنا البحث إلى أن العادل لص باعتبار ما. والظاهر أنك أخذت ذلك عن هوميرس، فإنه قد أعجب بأوتوليخوس جد أوليسيس لأمه؛ لأنه فاق الجميع في السرقة والبهتان. فبناء على كلامك وكلام هوميرس وسيمونيدس، تظهر العدالة نوعا من اللصوصية، والغرض منها نفع الصديق ومضرة العدو. أهذا ما تعني؟
ب :
كلا، لكنني لا أعرف ما عنيته. وعلى كل أرى نفع المرء أصحابه ومضرته أعداءه عدالة.
س :
أفمن يبدون الصداقة تحسبهم أصحابا، أم الذين هم حقيقة أمناء وإن لم يبدوها؟ وعلى القياس نفسه تحدد الأعداء؟
ب :
أتوقع أن يحب الإنسان كل من يحسبهم أمناء، ويبغض من يعتقد أنهم خبثاء.
س :
أولا يخطئ الناس في ظنهم، فيعدون الخائنين أمناء، والأمناء خائنين؟
ب :
يخطئون.
س :
فيصير الصالحون أعداءهم، والأشرار أصدقاءهم. ألا يصيرون؟
ب :
يصيرون بالتأكيد.
س :
فالعدالة - والحالة هذه - عندهم هي مساعدة الشرير ومضرة الصالح.
ب :
واضح أنه هكذا.
س :
ولكن الصالحين عادلون، والتعدي غريب عن طبعهم.
ب :
حقيق.
س :
فينتج من كلامك أن العدالة هي الإساءة إلى العادلين؟
ب :
لا سمح الله يا سقراط، والظاهر أن ذلك تعليم فاسد.
س :
فالعدالة مضرة المتعدي ونفع العادل؟
ب :
هذا القول أفضل من سابقه.
س :
والنتيجة يا بوليمارخس أنه قد يخطئ كثيرون من الناس في كثير من الأحوال، لجهلهم حقيقة صحبهم جهلا مطبقا، فيحسبون مضرة أصحابهم الأبرار عدالة؛ لأنهم توهموهم أشرارا، ويوجبون نفع أعدائهم لحسبانهم إياهم صالحين. فتكون العدالة عكس المعنى الذي نسبناه إلى سيمونيدس على خط مستقيم.
ب :
هذه هي النتيجة، فدعنا نستأنف التحديد، فإن تحديدنا الصديق والعدو غير صحيح.
س :
فكيف حددناهما يا بوليمارخس؟
ب :
أن من يظهر أمينا فهو الصديق.
س :
فما هو التحديد الجديد؟
ب :
أن من دل ظاهر أمانته على حقيقة باطنه فهو الصديق، أما من أظهر الأمانة وأضمر نقيضها فليس بصديق، بل هو متظاهر بالصداقة تظاهرا. وعلى القياس يحدد العدو.
س :
فالصالح بحسب هذا الكلام هو الصديق، والشرير هو العدو.
ب :
نعم.
س :
فتروم أن نضيف إلى مدلول العدالة معنى آخر علاوة على ما أعطيناها لما قلنا إنها نفع الصديق ومضرة العدو؟ وإذا كنت قد فهمتك فأنت تبغي جعل حد العدالة هكذا: العدالة نفع الصديق صالحا، ومضرة العدو رديا.
ب :
بالتمام هكذا. وأظن أن هذا تعبير صحيح.
س :
أفمفروض على العادل أن يضر أحدا؟
ب :
بلى، فيجب أن يضر أعداءه الأشرار.
س :
إذا ضرت الخيل فماذا تصير؟ أأفضل أم أردأ؟
ب :
أردأ.
س :
وبأي اعتبار؟ أكخيل أم ككلاب؟
ب :
كخيل.
س :
أفتزداد الكلاب رداءة ككلاب لا كخيل؟
ب :
دون شك.
س :
أفلا تقول بحكم القياس يا صديقي أن الناس إذا ضروا صاروا أردأ إنسانيا؟
ب :
بالتأكيد.
س :
أوليست العدالة فضيلة إنسانية؟
ب :
إنها كذلك بلا شك.
س :
فإذا ضر الناس يا صديقي صاروا أقل عدالة.
ب :
هكذا يظهر.
س :
أفيقدر الموسيقيون أن يجعلوا الناس بالموسيقى لا موسيقيين؟
ب :
لا يقدرون.
س :
أويجعل الخيالة الناس بطرادهم ضعاف الفروسية؟
ب :
لا.
س :
وعليه: أفيقدر العادلون بعدالتهم أن يجعلوا الناس ظالمين؟
ب :
لا، إن ذلك مستحيل.
س :
حقا، فإذا لم أكن مخطئا فليس من خصائص الحرارة أن تجعل الأشياء باردة، بل ذلك من خصائص ضدها.
ب :
نعم.
س :
وليس من خصائص الجفاف أن يجعل المواد رطبة، بل إن ذلك من خصائص الضد.
ب :
أكيد.
س :
فليس من خصائص الصالحين أن يضروا أحدا، بل إن ذلك من خصائص الطالحين.
ب :
واضح أنه هكذا.
س :
فهل العادل صالح؟
ب :
يقينا إنه كذلك.
س :
فليس من خصائص العادلين يا بوليمارخس أن يضروا أحدا، بل إن ذلك من خصائص المتعدين.
ب :
يظهر أنك مصيب كل الإصابة يا سقراط.
س :
فإذا قال قائل: إن العدالة إعطاء كل حقه. وهو يفهم بذلك أن من الحق مضرة العدو ونفع الصديق، فليس هو بحكيم؛ لأن هذا التعليم ليس حقا؛ إذ قد اكتشفنا أنه ليس من العدالة في حال من الأحوال أن نضر أحدا.
ب :
أسلم بأنك مصيب.
س :
فلندفع متحدين كل من ينسب إلى سيمونيدس أو بياس أو بيتاكس أو أي إنسان آخر من الحكماء المنعمين ما هو من هذا القبيل.
ب :
حسن جدا. إني على تمام الأهبة لمشاركتك في الدفاع.
س :
أفتعلم لمن أعزو هذا القول: العدالة نفع الصديق ومضرة العدو؟
ب :
لمن؟
س :
أعزوه لبرياندر، أو لبرديكاس، أو زركسيس، أو أسمانياس الثيبي، أو غيرهم من الأغنياء ممن ظن في نفسه المقدرة.
ب :
أنت مصيب كل الإصابة.
س :
وإذ حبط سعينا في تحديد العادل والعدالة، فأي حد آخر يمكن اقتراحه؟ (وكان ثراسيماخس قد هم مرارا بمقاطعتنا في عرض الحديث باعتراضاته الشديدة، ولكن الحضور منعوه رغبة منهم في سماع تتمته. فلما قلت عبارتي الأخيرة وتوقفنا عن الكلام، لم يقدر أن يضبط نفسه بعد، فجمع قواه وانقض علينا كوحش ضار يروم أن يمزقنا، فذعر كلانا أنا وبوليمارخس لما صاح في وسط الجماعة قائلا):
ثراسيماخس :
أي كلام فارغ يشغلكما يا سقراط ويا بوليمارخس؟ ولماذا تخدعان الناس بتأنقكما المتبادل؟ فإذا كنت حقيقة تريد تحديد العدالة، فلا تقتصر على توجيه الأسئلة وتتسلى بإفساد الأجوبة الواردة عليها؛ لأنك عالم أن توجيه الأسئلة أسهل من إجابتها، فأجب أنت وقل: ما الذي تدعوه عدالة؟ وحذار أن تقول إنها هي ما يجب، أو ما ينفع، أو يربح، أو يليق، بل اجعل حدك جامعا مانعا، فلن أقبل لك جوابا وهو من لغو الكلام. (قال سقراط: فلما سمعت الكلام دهشت، ورفعت نظري إليه مذعورا، ولو لم أكن قد سبقته بالنظر لأبكمت
5
وجمدت كالصنم، ولكن كانت قد حانت مني التفاتة إليه لما بدأ بالقول فسبقته بالنظر؛ ولذا تمكنت من مجاوبته، فقلت بقليل من الرعشة):
س :
لا تقس علينا يا ثراسيماخس، وإذا كنا أنا وبرليمارخس قد أخطأنا في بحثنا فكن موقنا أن ذلك لم يكن تعمدا، ولا يبرحن فكرك أننا لو كنا نبحث عن الذهب لما تساهل أحدنا مع الآخر مستسلما فضل عن العثور عليه، فأرجوك أن لا تظن أننا ونحن نبحث في العدالة - وهي أثمن كثيرا من شذور الذهب - نكون أقل دقة في تمحيص الآراء بغية إدراك الحقيقة، ويمكنك أن تعلم يا صديقي أن الموضوع فوق طوقنا؛ فنحن بإشفاق حصيف نظيرك أجدر منا بملامه وتعنيفه. (فقهقه ثراسيماخس أوقح قهقهة لما سمع جوابي وقال):
ث :
يا لهرقل! إنها إحدى مظاهر الاتضاع التهكمي المتمكنة من نفس سقراط، ولقد عرفت ذلك فيك وقلته لمن حولي، أعني أنك لا تجيب عن مسألة البتة إذا سئلت، بل تتجاهل.
س :
أنت حكيم يا ثراسيماخس، وتعلم جيدا أنك لو سألت أحدا: كم هي أضلاع العدد اثني عشر، وقلت له حذار أن تقول إنها ضعفا الستة، أو ثلاثة أضعاف الأربعة، أو أربعة أضعاف الثلاثة، وقلت له إنك لا تقبل منه هذه السخافات، فإني أجرؤ على القول إنك تعلم أن لا أحد في الدنيا يجيب عن سؤال مقدم على هذه الصورة. فإذا قال لك المسئول: يا ثراسيماخس، أوضح فكرك؛ أيمكنني أن أجيب بغير ما ذكرت؟ أو أن أجيب بغير الحق؟ وإلا فماذا تعني؟ فبماذا كنت تجيبه؟
ث :
لو أن هذه كتلك لأجبت، ولكن أين هذا من ذاك؟
س :
إنهما سيان، ولكن هب أنهما ضدان، ولكن المسئول ظن أن أحد هذه الأجوبة صحيح، أفتظن أن إنكارنا عليه جوابه يحوله عن إعطاء الجواب الذي يراه معقولا؟
ث :
ألا تعني أن ذلك ما تنوي أن تفعله الآن؟ وأنك ستجيب بأحد الأجوبة التي أنكرتها عليك؟
س :
لا يستغرب أن أفعل ذلك إذا لاح لي بعد الإمعان أنه صواب.
ث :
وما قولك إذا أريتك طريقا أصلح وجوابا أوضح من الأجوبة التي نبذتها في حقيقة العدالة، وهو يفوقها جمعاء؟ فأي قصاص ترى أنك تستحق؟
س :
قصاص الجاهلين، وهو أن يتعلموا من الحكيم. هذا هو القصاص الذي أرى أني أستحقه مع زملائي.
ث :
حقا إنك شخص طروب، ولكن عليك - علاوة على الإرشاد - أن تدفع مالا.
س :
سأدفع حين أملك شيئا من المال.
غلوكون :
إنك تملك، فإذا كان الأمر متوقفا على المال فقل يا ثراسيماخس، فإن كلا منا مستعد أن يسلف سقراط.
ث :
ذلك مؤكد وعليه: فيمكن سقراط أن يتبع معي أسلوبه الخاص؛ أي إنه لا يجاوب، بل ينتقد ويفند أجوبة غيره.
س :
وأنى يجيب المرء يا ثراسيماخس الجزيل الاحترام، إذا كان أولا لا يحسن الجواب وقد أقر بعجزه. وثانيا، إذا كان عنده آراء ولكن حظر عليه إنسان غير غبي إيراد شيء منها، فالأقرب إلى حكم العقل إذا أن تكون أنت المجيب؛ لأنك قلت أنك عالم بالأمر، وأن عندك ما تقوله لنا، فلا تتأخر بل تفضل علي بالجواب، ولا تتردد في إفادة غلوكون والآخرين. (عندها سأله غلوكون والرفاق أن يجيب، وظهر أنه يميل إلى التكلم ليربح الاستحسان؛ إيماء إلى أن عنده فصل الخطاب، فطلب أولا أن أكون أنا المجيب، على أنه أخيرا عدل عن ذلك، وارتضى أن يكون المجيب . قال):
ث :
هذه حكمة سقراط، فإنه إذ لا يريد أن يعلم، يجول مقتبسا عن الغير ولا يشكره على الدروس.
س :
أما أني أتعلم من الغير، فقد قلت الحق يا ثراسيماخس، وأما قولك إني لا أعوضه شكري فهو خطأ منك، فإني أدفع كل ما في إمكاني، وإذ لا مال لي فإني أرد الشكر، وسرعان ما أشكر إذا رأيت المتكلم مصيبا كما ستتبين ذلك سريعا؛ لأني واثق أنك ستحسن القول.
ث :
فاسمع إذا. تعليمي هو أن العدالة إنما هي «فائدة الأقوى». حسنا، فلماذا لا تشكرني؟ إنك لا تريد ذلك.
س :
كلا، بل إني أنتظر أن أفهم معناك، فإني لم أدركه بعد. إنك تقول إن فائدة الأقوى عدالة، فماذا تعني بذلك يا ثراسيماخس؟ فإني أرتئي أنك لا تعني هذا: إذا كان بوليداماس الرياضي أقوى منا، وكان أكل لحم الخنزير مفيدا له لتقوية جسمه، كان ذلك الطعام مفيدا لنا نحن الضعفاء؛ ولذا فهو عدالة.
ث :
ذلك عيب يا سقراط؛ لأنك فهمت تعليمي بصورة تسهل عليك إفساده.
س :
لا لا يا صديقي الفاضل، فزد إفصاحا عما تعني.
ث :
ألا تدري أن بعض المدائن يحكمها الخاصة، وبعضها الديموقراطيون، وغيرها الأرستقراطيون؟
س :
من المؤكد أني أعلم ذلك.
ث :
أولا تستقر القوة في كل بلد في الطبقة الحاكمة؟
س :
مؤكد أنها تستقر.
ث :
وأن شرائع كل حكومة مصوغة في قالب يضمن فائدتها؟ فشرائع الديموقراطيين ديموقراطية، وشرائع الأوتقراطيين استبدادية؛ فكأن هذه الحكومات بعملها هذا تصرح أن ما فيه مصلحتها عدل لرعيتها، ومن عرج عن ذلك عاقبوه كمجرم ضد العدالة والقانون. فمعناي يا سيدي أنه في كل بلد منفعة الحكومة هي العدالة، وأرى أن القوة العليا في حيازة الحكومة. فنتيجة البحث الحق هي أن منفعة الأقوى هي العدالة في كل مكان.
س :
قد فهمت ما تعني، وسأرى أصحيح هو أم لا. فأنت تثبت يا ثراسيماخس منفعة العدالة، مع أنك أنكرت علي هذا القول، إلا أنك أضفت إليه كلمة «الأقوى».
ث :
ولكنها إضافة زهيدة.
س :
سنرى هل هي زهيدة أو عظيمة . ولكنا مرتبطون بهذا الأمر: أحق كلامك أم لا؟ فقد سلم كلانا أن العدالة نافعة، لكنك أزدت على ذلك أنك حصرت نفعها في «الأقوى»، وأنا أرتاب في صحة ذلك؛ ولذا نحن ملزمون أن ندرس الموضوع.
ث :
أرجو أن تدرسه.
س :
فتفضل أجبني عن هذه المسألة: لا ريب في أنك مصر على أن من العدالة إطاعة الحاكمين.
ث :
إني مصر على ذلك.
س :
أفمعصوم الحاكمون في مختلف المدائن، أم معرضون للخطأ؟
ث :
لا شك في أنهم معرضون للخطأ.
س :
أفيعرض لهم في اشتراعهم أن يسنوا بعض الشرائع صوابا وبعضها خطأ؟
ث :
هكذا أظن.
س :
وهل الصواب في سنها كونها نافعة لهم، والخطأ كونها ضد مصلحتهم؟ أو ما هو حكمك؟
ث :
كما تقول تماما.
س :
أمصر أنت على أن ما سنه الحكام هو العدل الواجبة إطاعته على الرعية؟
ث :
مصر من كل بد.
س :
فينتج عن حكمك أن العدالة لا تنحصر فيما يفيد الأقوى، بل قد تكون فيما يضره. وبعبارة أخرى، أنها «نقيض المطلوب».
ث :
ماذا تقول؟
س :
أظن أني أقول نفس ما قلته أنت، فلنفحص المسألة بأكثر تدقيق. ألم نقرر أن الحكام قد يخطئون أحيانا فيما هو الأفضل لمصلحتهم فيما يسنونه من الشرائع؟ وأن ما سنوه هو العدالة الواجبة إطاعتها؟
ث :
هكذا أظن.
س :
فقد اعترفت إذا بعدالة غير النافع للحكام «والأقوى»؛ لأن رجال هذه الطبقة، إما جهلا أو سهوا، قد يوجبون ما يضرهم، ولما كنت مصرا على أنه من العدالة أن يطيع الناس ما أوجبه حكامهم في كل حال، أفلا ينتج عن ذلك حتما - أيها الفائق الحكمة ثراسيماخس - أنه قد يكون من العدالة أن نفعل ضد ما قلته على خط مستقيم؟ لأنه قد يتحتم على الأضعف أحيانا عمل ما يضر مصلحة الأقوى.
بوليمارخس :
نعم يا سقراط، إن ذلك غاية في الوضوح.
كليتيفون :
نعم، إذا كنت أنت شاهد سقراط المزكى.
ب :
وما الحاجة إلى شهود؟ فقد سلم ثراسيماخس أن الحكام قد يوجبون ما يضرهم، وأن من العدالة أن تطيعهم الرعية.
ك :
لا يا بوليمارخس، إن ثراسيماخس قرر أن إطاعة أمر الحكام هو العدالة.
ب :
نعم يا كليتيفون، وقد قرر أيضا أن منفعة «الأقوى» هي عدالة، وبعدما قرر هذين الركنين سلم أيضا أن «الأقوى» قد يأمر «الأضعف» - رعاياه - أن يعملوا ما هو ضار بمصلحته. ونتيجة هذه المقررات أن منفعة «الأقوى» ليست أعدل من مضرته.
ك :
ولكنه أراد بمنفعة الأقوى ما فهم «الأقوى» أنه لفائدته الخاصة، فمركزه هو أن هذا ما يجب على «الأضعف» أن يعمله، وأن هذه هي وظيفة العدالة.
ب :
ليس ذلك ما قاله.
س :
لا بأس يا بوليمارخس، فإذا كان ثراسيماخس يختار أن يورد رأيه الآن بهذه الصورة فلا نضادنه.
فقل يا ثراسيماخس، أهذا هو حد العدالة الذي عنيته؟ أن ما لاح «للأقوى» أنه في مصلحته، نفعه أو ضره، أفتحسب ذلك تحديدا منك للعدالة؟
ث :
كلا البتة. أفتظن أني أحسب من يخطئ أقوى في حال خطئه ممن لا يخطئ؟
س :
هكذا ظننت، لما سلمت أن الحكام غير معصومين، وأنهم قد يخطئون.
ث :
إنك تحرف الكلم عن مواضعه يا سقراط في معرض الإدلال، أفتدعو من أساء معالجة المرضى طبيبا باعتبار إساءته؟ أو تدعو من أخطأ في الحساب محاسبا باعتبار خطئه؟ من المؤكد أننا نقول إن الطبيب أخطأ، وإن المحاسب أو الكاتب مخطئ. على أني أرى أن كلا من هؤلاء لا يغلط في فنه ما دام كما ندعوه، فلا يخطئ في فنه كفني، وعليه: فبأدق معاني الكلم - لأنك تحاج بالتدقيق - لا فني يخطئ كفني، ومن خطئ فقد خطئ لنقص علمه بالفن، فلا يكون فنيا في حال خطئه، فلا فني ولا فيلسوف ولا حاكم يخطئ إذا كان اسما لمسمى، مع أنه يقال عادة أن الطبيب يخطئ وأن الحاكم يخطئ. فاعلم أني بهذا الاعتبار جاوبتك لتفهم رأيي، ولكن أضبط صورة للجواب هي أن الحاكم كحاكم لا يخطئ، وبما أنه لا يخطئ فهو يسن الأفضل لنفسه، وذلك ما يجب على الرعية اعتباره، فأنا عند قولي الأول: أن العدالة هي منفعة الأقوى.
س :
لا بأس يا ثراسيماخس ، أفتزعم أني أتلاعب في الكلام؟
ث :
نعم، وتلاعبا كبيرا.
س :
أوتظن أني وجهت إليك هذه المسألة لقصد سيئ لإفساد حجتك؟
ث :
ذلك ما أتيقنه، ولكنك لن تجني منه نفعا، فلا تضرني بأخذك إياي على غرة، ولا تتمكن من الفوز علي في ميدان المحاورة.
س :
لم أفكر في ذلك يا صديقي العزيز، وأرجو أن لا يتكرر ذلك فيما بعد. فقل الآن: هل تعني «بالحاكم» و«الأقوى» ما يدل عليه المعنى المألوف؟ أو ما يدل عليه أدق معاني الكلم؟ وأنك بهذا الاعتبار تقول إن على الأضعف أن يعمل ما هو لمصلحة الحاكم لكونه الأقوى؟
ث :
بل أعني «الحاكم» بأدق معاني الكلمة، فتلاعب ما شئت إلى التلاعب والتحريف سبيلا، فلست لأسترحمك، ولكن محاولتك عقيمة.
س :
أفتظنني أحمق فأحاول حلاقة الأسد بتحريفي أقوال ثراسيماخس؟
ث :
لقد حاولت ذلك، ولكن ساء فألك.
س :
كفى مزاحا، فقل: هل الطبيب الذي تعنيه بأدق معاني الكلمة هو جامع المال أو شافي المريض؟ ولا يفوتنك أنك عن الطبيب الحقيقي تتكلم.
ث :
هو شافي المريض.
س :
ومن هو الربان؟ أأحد البحارة أم رئيسهم؟
ث :
رئيسهم.
س :
فلا نهتم بكونه يقلع بالسفينة أو في كونه ملاحا؛ لأنه ليس لهذا السبب يدعى ربانا، بل باعتبار فنه وسلطته على الملاحين.
ث :
هذا حق.
س :
أفليس لكل من هؤلاء الأشخاص نفع خاص في فنه؟
ث :
بالتأكيد.
س :
أوليست الغاية القصوى في فنهم أن يطلبوا ما هو لمصلحة كل منهم ويحرزوه؟
ث :
بلى.
س :
وهل للفنون غاية أخرى تنشدها غير كمالها الأسمى؟
ث :
ماذا تريد بهذا السؤال؟
س :
لو سألتني أيكفي الجسم الإنساني كونه جسما أم يحتاج إلى شيء آخر؟ لأكدت لك أنه يحتاج إلى شيء آخر؛ لذلك لزم استنباط الطب؛ لأن الجسم ناقص، فلا يكفيه كونه جسما، فلإمداده بما يتطلبه من المنافع وضع الطب. أمصيبا تراني بكلامي أم مخطئا؟
ث :
مصيبا.
س :
أفناقص فن الطب وكل فن آخر في ذاته فيحتاج إلى مزية إضافية، افتقار العيون إلى البصر والآذان إلى السمع، فتحتاج هذه الأعضاء إلى فن يتقصى إبلاغها غاياتها الآتية؟ أفي الفن نقص فيفتقر كل فن إلى فن آخر يرعى مصالحه؟ وهل هذا الفن بدوره يفتقر إلى فن ثالث للغرض نفسه، وهلم جرا؟ أو أن كل فن يتقصى مصلحته لنفسه بنفسه؟ وهل هو غير ضروري للفن، ولا لغيره من الفنون، أن يبحث عن علاج ناجع لشفاء أدوائه؟ إذ ليس هنالك من نقص في فن ما من الفنون، ولأنه ليس من واجب الفن السعي في مصلحة غير ما لأجله كان فنا؟ لكونه حرا وسليما كفن حقيقي ما دام في حال سلامته التامة؟ فاعتبر المسألة بأدق معاني الكلم كما سبق الاتفاق، أفهكذا هو الحال أم لا؟
ث :
ظاهر أنه هكذا.
س :
فلا يهم الطب ما هو لنفعه كفن، بل ما هو لنفع الجسم.
ث :
نعم.
س :
ولا يعني فن سياسة الخيل بما ينفع الفن، بل بما ينفع الخيول، وليس من فن آخر يتناول ما هو لنفعه الخاص؛ إذ ليس من حاجة فيه إلى ذلك، بل يتناول ما لأجله وضع.
ث :
هكذا يظهر.
س :
جيدا، ويمكنك أن تسلم يا ثراسيماخس أن الفن يسوس ويحكم، وأنه أقوى مما وضع لأجله. (وبصعوبة عظيمة سلم ثراسيماخس بهذه القضية.)
فلا علم يتوخى منفعة الأقوى أو يوجبها، بل يتوخى ويوجب منفعة الأضعف؛ المحكوم. (وبعدما أفرغ ثراسيماخس وسعه في المقاومة سلم، فاستأنفت على الأثر كلامي قائلا: أليس حقا أيضا أن لا طبيب كطبيب يوجب ما هو لمصلحته، بل كل الأطباء يسعون إلى ما فيه خير مرضاهم؟ لأننا اتفقنا أن الطبيب الحق هو حاكم الأجسام لا حاشد الأموال. ألم نتفق؟ فسلم أننا اتفقنا.)
وأن الربان - بحصر المعنى - هو رئيس الملاحين، لا أحدهم.
ث :
اتفقنا.
س :
فربان أو حاكم كهذا لا يطلب فائدته الشخصية ولا يوجبها، بل يطلب فائدة البحارة والمحكومين. (فأذعن ثراسيماخس مرغما.)
وهكذا يا ثراسيماخس كل أرباب الأحكام في مناصبهم لا يكترثون لمصالحهم الشخصية ولا يوجبونها، بل يكترثون لمصالح الرعية التي لأجلها يمارسون مهنتهم. وفي كل ما يقولون ويفعلون يصرفون النظر عن أنفسهم ، وعما هو مفيد وملائم لهم. (فلما بلغنا هذا الحد في البحث، ووضح للجميع أن تحديد العدالة هو عكس ما قال ثراسيماخس، قال عوضا عن الجواب):
ث :
أفلم تكن لك مرضع يا سقراط؟
س :
ولم هذا السؤال قبل أن تجيب؟ أفما كان الأجدر بك أن تجيب عن أسئلتي من أن تسأل؟
ث :
لأنها أهملت أنفك فلم تمسحه، وأنت في حاجة إلى ذلك، ونتيجة إهمالها أنك صرت لا تميز بين الراعي والرعية.
س :
وما الداعي إلى هذا الظن؟
ث :
لأنك تقول إن رعاة المواشي يرعونها ويسمنونها، وعيونهم على غير منفعتهم الخاصة ومنفعة أربابها، فتزعم أن الذين يحكمون الأمصار يهتمون بالمحكومين غير اهتمام الرعاة بالمواشي، وأنهم يسهرون عليها آناء الليل وأطراف النهار لغير أرباحهم ومنافعهم الشخصية. فأنت في أقصى البعد عن مواطن الصواب في أمر العدالة والتعدي، وأمر العادل والمتعدي؛ ولذا يفوتك أن العدالة إنما هي لمصلحة الغير؛ أي لمصلحة الحاكم والأقوى، وأن خسارتك أنك تابع وعبد، أما المتعدي فعلى الضد من ذلك، يسود العادلين والبسطاء، فيعملون كرعية ما هو لمنفعة المتعدي الذي هو أقوى منهم، فيزيدون سعادته بخدماتهم دون سعادتهم الخاصة، ويمكنك أن ترى أيها الساذج سقراط فيما يلي من الأمثلة، أن العادل في كل الأحوال ينال أقل مما يناله المتعدي، أولا في معاملتهما المتبادلة كالشركة بينهما، فلا ينال العادل أبدا قسطا زائدا عن قسط أخيه في حل الشركة، بل دائما يأخذ أقل منه؛ كذلك في المصالح المدنية، حيث يجب دفع رسوم متساوية عن حاصلات متساوية، فالعادل يدفع دائما أكثر مما يدفعه الظالم، ولكن حين القبض تنقلب الآية، فيئوب العادل صفر اليدين، ويطمع الظالم بالكل، ومتى تربع كلاهما في دست الأحكام، خسر العادل على الأقل إدارة مصالحه الخاصة اشتغالا بالمنصب، فيعمل فيه التشويش والضرر. زد على ذلك أنه لا يجني من المنصب نفعا لأنه عادل، فتمنعه عدالته من أن يمد يده إلى أموال الدولة، ثم إنه يصير مكروها من خدمه وصحبه كلما أبى أن يؤثر مصالحهم على العدالة، أما المتعدي فعلى الضد من ذلك. أشير فيما سبق بيانه إلى المتعدي الذي في طوقه أن يجعل ميدان التعدي واسعا. إلى هذا يجب أن توجه تأملك إذا رمت أن تحكم حكما صائبا في مدى الفائدة، ومتى يجنيها المتعدي بعروجه عن سنن العدالة.
ويمكنك أن تفهم ذلك بأتم درجات السهولة إذا وجهت نظرك إلى أفظع صور التعدي، التي تجعل مقترفها المتعدي سعيدا، والمظلومين الذين أبوا الانتقام شر التاعسين. هذا هو الاستبداد الذي ينتزع الأرزاق من أيدي أربابها إما جهرا أو سرا، سواء كانت مقدسة أو محرمة، شخصية أو عمومية؛ فيفضي الأمر به إلى جرائم لو ارتكبها أحد الأفراد لحل به العقاب ونزل به احتقار الناس، ويلقب من اجترح واحدة من هذه الجرائم باسم ما اجترحه: سارق هياكل، لص، ناقب، سالب ... إلخ.
وإذا تعدى على الأشخاص أنفسهم بدلا من ممتلكاتهم لقب - بدل تلك الألقاب الشائنة - بصاحب السعادة والغبطة، لا بلسان مواطنيه فقط، بل أيضا بلسان الكثيرين من الناس الذين علموا ما اقترفه من الجرائم.
وحين ينبذ الناس المنكرات فلا يكرهونها لذاتها، بل مخافة تبعتها الممقوتة؛ فقد وضح يا سقراط أن التعدي أوفر حرية ونفوذا وقوة من العدالة. وكما قلت في البداءة، إن العدالة هي مصلحة الأقوى، ولكن التعدي هو مصلحة الإنسان وفائدته الشخصية. (قال ثراسيماخس ذلك وهم بالذهاب، بعدما صب كلامه في آذاننا صبا كما يفعل خادم الحمام، بسيل منهمر من حديثه المتواصل، فلم يدعه الأصحاب يذهب، بل حملوه على البقاء للمناقشة فيما قال، وأنا نفسي ألححت عليه كثيرا، فقلت له):
س :
يا ثراسيماخس البار، أتتركنا بعدما ألقيت على مسامعنا هذا البحث الغريب قبلما تكمل تعليمنا، أو قبلما تعلم هل كلامك في محله أو لا؟ أتظن أنك تعاني أمرا طفيفا هو دون المبادئ التي عليها يشيد كل منا حياته ليبلغ أوج السعادة؟
ث :
ليس هذا هو الواقع في حسباني.
س :
هكذا يظهر وإلا فلا يهمك أمرنا، وسيان عندك أشقياء عشنا أم سعداء، ونحن نجهل ما قلت إنك تعرفه. فأرجوك يا ثراسيمخاس الصالح أن تجود علينا بأن نشاطرك تلك المعرفة، ومهما تسبغ على هذه الجماعة الغفيرة من نفع فلن يضيع لك فضل. أما أنا فأصارحك أنني لم أقتنع بصحة ما قلته، ولا أصدق أن التعدي أنفع من العدالة، ولو أطيلت يد المتعدي دونما قيد أو نظام، فعمل ما تشتهيه نفسه بلا معارض. وبالعكس يا سيدي الكريم، هب أن إنسانا تعدى فأفلح بالتعدي، إما بالتستر أو بالقوة، مع ذلك لا يمكنك أن تقنعني أن التعدي أنفع من العدالة، وربما كان بعض الحاضرين من رأيي، فأقنعنا يا صديقي الفاضل أننا مخطئون بوضعنا العدالة فوق التعدي.
ث :
وكيف أقنعكم إذا كان ما قلته آنفا لم يقنعكم؟ أفأحقن عقولكم بأدلتي حقنا؟
س :
لا سمح الله أن تفعل ذلك، ولكن قبل كل شيء اثبت على ما قلته، وإذا كنت تروم أن تغير فكرك فغيره صراحة ولا تغشنا؛ لأنك يا ثراسيماخس (دعنا لا نحيد عن بحثنا) لما حددت الطبيب الحقيقي، لم تر أن من الضرورة قياس الراعي الحقيقي عليه في خدمة قطيعه، بل بالعكس ترى أنه كراع يرعى قطيعه غير ناظر إلى ما هو لخير النعاج، بل كالنذير المزمع أن يؤدب مأدبة يأكله بها رغبة في نيل الثناء والمديح، أو كتاجر يربح من بيعه. على أن فن الرعاية ليس له غرض آخر إلا ما وضع لأجله؛ أي ليوافي المواشي بالعلف على قدر ما يتطلبه كمالها، وذلك على ما أرى كل ما يشتمل عليه لقبه الخاص، وعلى نفس القياس يخيل إلي أن الضرورة تحتم علينا أن نسلم أن كل حكومة لا تطلب كحكومة إلا ما هو لخير المحكومين، الذين أنيط بهم أمرهم، خصوصية كانت تلك الحكومة أو عمومية. أوتظن أن السياسيين وحكام الدول، الذين هم حكام بمعنى الكلمة، يحكمون باختيارهم؟
ث :
لا أظن ذلك ظنا، بل أتيقنه يقينا.
س :
ألا تلاحظ يا ثراسيماخس أنه في الحكومات الراقية لا أحد يتقلد منصب حاكم إذا أمكنه التنصل منه؟ وأن كلا منهم يطلب المكافأة على الحكم؟ لأن فائدته لا تعود على الحكام بل على المحكومين. أولم نقل أن كل فن يمتاز على غيره من الفنون بمزية خاصة؟ فتفضل أجبني يا سيدي العزيز عن هذه المسألة، ولا تجب ضد اقتناعك، وإلا فلا يمكننا أن نحرز شيئا من الفوز في هذا البحث.
ث :
نعم، إن ذلك ما يميز كل فن.
س :
أولا يسدينا كل فن فائدة ممتازة؟ فيهبنا فن الطب الصحة، وفن الملاحة السلامة في الأسفار البحرية، وهكذا بقية الفنون؟
ث :
بالتأكيد.
س :
أولا يسدي فن المرتزقة مكافأة مالية، وهو غرضه الخاص؟ فهل الطب والملاحة عندك سيان؟ فإنك إذا حددتهما تحديدا تاما كما أوجبت ذلك سابقا، فإنك ترى أنه وإن ربح الملاح صحته بأسفار البحار، فإن حصوله على الفائدة الصحية بصفة استثنائية لا يجعل الملاحة طبا. أيجعلها؟
ث :
حقا إنه لا يجعلها.
س :
ولا أراك تدعو فن المرتزقة طبا؛ لأن المرتزق يحتفظ بصحته وهو يتقاضى أجوره.
ث :
كلا، لا أدعوه.
س :
أفتدعو الطب مرتزقا لأن الطبيب يقبض مكافآت مالية على تطبيبه؟
ث :
كلا.
س :
أفلم تعترف بوجود فائدة ذاتية في كل فن؟
ث :
وهو كذلك.
س :
فكل نفع خاص يعود على أرباب الفنون كافة، وبسعي واحد.
ث :
هكذا يظهر.
س :
وقد أصررنا على أن هؤلاء الأشخاص استفادوا بقبض الأجور، فذلك عائد إلى فن الربح، وهو إضافي للفن الخاص. (فسلم ثراسيماخس بذلك مرغما.)
أفلا تشمل هذه الفائدة قبض المكافأة؛ كل ذي فن بفنه؟ ففائدة الطب عند الحصر هي سلامة الصحة، وفائدة المرتزقة حشد الأموال، وفائدة البناء الحصول على المسكن، ولكن قبض الأجرة فائدة ترافق الفائدة الخاصة، فلكل فن فائدته الخاصة، ومنفعته الخاصة، التي لأجلها وجد. فإذا لم تكن هنالك مكافأة، فهل من فائدة للفني في فنه؟
ث :
واضح أنه ليس له من فائدة.
س :
أفلا يفيد إذا عمل مجانا؟
ث :
بلى، على ما أرى.
س :
فترى واضحا يا ثراسيماخس أن كل فن (أو حكومة) يسعى (أو تسعى) ليس للمنفعة الذاتية، بل كما قلت آنفا: إنها توجب حصول تلك الفائدة للأدنى أو المحكوم وليس للأقوى؛ ولذا قلت يا عزيزي ثراسيماخس إنه لا أحد يحكم مختارا، أو يتحمل مشقة إصلاح شئون الآخرين المختلة ما لم يتقاض أجرة؛ لأن من رام النجاح في فنه فلا تتناول تلك الممارسة فائدته الشخصية، ولا يروم في حكمه ما هو أفضل له، بل ما هو لخير الآخرين الذين يحكمهم ما دام ضمن حدود فنه؛ ولذلك وجب إغراء رب الفن بالمال أو بالشرف لقبول الوظيفة، أو بالقصاص إذا هو رفضها.
غلوكون :
وكيف ذلك يا سقراط؟ فقد فهمت نوعين من المكافأة، أما أن يكون القصاص مكافأة، وأنك تدرجه في صف المكافآت، فذلك أمر لم أفهمه.
س :
إنك لم تعرف مكافأة أفضل الناس، التي لأجلها يرضى أكثرهم جدارة أن يحكم، ألا تعلم أن الطمع والنهم محسوبان عارا؟ وحقا إنهما عار.
غ :
أعلم ذلك.
س :
فلذلك لا يسعى الأفاضل إلى تبوء المناصب رغبة منهم في حشد المال، ولا طمعا في إحراز الشرف. أما الأول فلأنهم لا يريدون أن يدعوا مأجورين بقبضهم المال علنا، أو لصوصا بقبضه سرا؛ وأما الثاني، أي إنهم لا يرغبون في المنصب لأجل الشرف؛ فلأنهم ليسوا من ذوي الأطماع، فبالضرورة إذا أنهم يتربعون في دست الأحكام مخافة العقوبة إذا هم أبوا، وربما كان هذا السبب في حسبان قبول الإنسان منصب الحكم مختارا، وعدم انتظاره حتى يرغم على قبوله، عارا عليه.
وأثقل مصائب الناس أن يحكمهم أسافلهم إذا رفض فضلاؤهم الأحكام، فأرى أن الأفاضل يتبوءون منصات الحكم تفاديا من حصول هذه النتيجة، فيقبضون على أزمة الأحكام لا لأنها خير بالذات، ولا ليجنوا منها نفعا ذاتيا، بل لأن الحاجة المعنوية اضطرتهم إلى قبولها، لا لمسرة ذواتهم بل لأنهم أكثر فضلا وأقل شرا. فإذا عم الفضل العالي أمة من الأمم، رغب رجالها عن مناصب الأحكام، وصار النزاع بينهم ليس على نيل الوظائف كما هو الواقع بيننا، بل على الانسحاب منها بنفس الرغبة التي بها يتهافت الأدنياء على تسلم مقاليدها، وحينذاك يتضح أن من يقبل وظيفة حاكم، لم يرم فيها إلى خير نفسه، بل إلى خير المحكومين. وكل رجل حكيم القلب يؤثر نفعه الذاتي على نفع الآخرين، وذلك في رأيي لا ينطبق على مذهب ثراسيماخس «أن العدالة هي منفعة الأقوى»، وسننظر في ذلك فيما بعد. أما الآن فنخص بالنظر ما قاله ثراسيماخس، وهو: «أن حياة المتعدين خير من حياة العادلين.» لأن هذا عندي أجدر بالاهتمام؛ ففي أي الجانبين أنت يا غلوكون؟ وأي الرأيين تؤثر وتراه الأقرب إلى الصواب؟
غ :
أرى أن حياة العادل خير من حياة المتعدي.
س :
أوسمعت كم عدد ثراسيماخس من الجواذب في حياة المتعدي؟
غ :
سمعت ولكنني لم أقتنع.
س :
أفتستحسن أن أقنعه، إذا كان إبراز الحجج ميسورا لنا، أنه ليس من صحة فيما قال؟
غ :
بلا شك، أستحسن.
س :
فإذا قرعنا الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، فنحصي منافع العدالة، وثراسيماخس يرد علينا، فنعيد الكرة بالرد عليه، فيلزمنا إحصاء مزايا كل من الجانبين والموازنة بينهما، وأخيرا يلزمنا حكم يصدر قرارا بالفصل بيننا، ولكن إذا بدأنا أبحاثنا كما عملنا مؤخرا بنظام التسليم المتبادل، فإننا نجمع في أشخاصنا وظائف المحكمين والمحامين.
غ :
حتما هكذا.
س :
فأية خطة تؤثر؟
غ :
الأخيرة.
س :
فهلم يا ثراسيماخس نستأنف البحث، وتفضل علينا بالجواب. أتدعي أن التعدي الكلي خير من العدالة التامة التي توازنه؟
ث :
بأعظم تأكيد ادعيت، وقد أوردت الحيثيات.
س :
فكيف تنعتهما باعتبار آخر؟ الأرجح أنك تدعو أحدهما فضيلة والآخر رذيلة.
ث :
بلا شك.
س :
أي إن العدالة فضيلة والتعدي رذيلة؟
ث :
على كيفك يا صديقي المازح! لأني أسلم أن التعدي مفيد، والعدالة بالعكس.
س :
فماذا تقول إذا؟
ث :
بالعكس فيهما تماما.
س :
أفتدعو العدالة رذيلة؟
ث :
لا، بل أدعوها فطرة صالحة خارقة.
س :
أفتدعو إذا التعدي فطرة ردية؟
ث :
لا، بل أدعوه حسن سياسة.
س :
أفتظن يا ثراسيماخس أن المتعدين حتما حكماء وصالحون؟
ث :
نعم، القادرون منهم أن يمارسوا التعدي إلى حد التمام، ولهم قوة على إخضاع مدن وأمم برمتها واستعبادها. ربما تظن أني أتكلم في النشالين، ولكن حتى عمل هؤلاء أسلم بأنه مفيد إذا ظل أمرهم مكتوما، على أنهم لا يستحقون المقابلة مع من ذكرتهم الآن.
س :
فهمت مرادك تماما، وأتعجب من درجك التعدي في سلك الفضيلة والحكمة، ووضعك العدالة فيما هو عكس ذلك.
ث :
ولكنني هكذا أرتبهما.
س :
إنك اتخذت الآن موقفا أكثر تعنتا، فلم يبق سهلا علينا الكلام معك. ولو أنك جعلت التعدي مفيدا، وحكمت أنه رذيلة كما يفعل بعضهم، لكان عندنا ما نجيبك به بناء على المبادئ المسلم بها عموما، ولكنه واضح تمام الوضوح أنك مصر على حسبانه جميلا وفعالا، وتنسب إليه كل ما تنسبه إلى العدالة، حتى بلغت بك الجرأة أنك تحسبه قسما من الفضيلة والحكمة.
ث :
إنك تتكهن بدقة فائقة.
س :
ولأني أراك تعني ما تقول فلا أتنكب عن البحث معك؛ لأني إذا لم أكن مخطئا لا أراك تمزح يا ثراسيماخس، بل تقول ما تعتقده حقا.
ث :
وما الفرق عندك اعتقدته أو لم أعتقده؟ أفلست بقادر على دفع حججي؟
س :
لا فرق عندي، ولكن أتريد أن تجيبني عن مسألة أخرى؟ وهي: أتظن أن العادل يرغب في تجاوز عادل نظيره؟
ث :
كلا، وإلا لما كان ساذجا كما هو.
س :
أفيتجاوز العادل حد العدالة في سلوكه؟
6
ث :
لا، ولا في هذا يرغب.
س :
أفيرمي إلى تجاوز حدود المتعدي دون تردد، حاسبا ذلك عدلا أو لا؟
ث :
بل يحسبه عدلا، لا يتردد في فعله، لكنه لا يقدر.
س :
لم أسأل عن ذلك، بل هل يروم العادل أن يتجاوز رجلا متعديا لا رجلا عادلا، وبرغبة يفعل ذلك؟
ث :
هذا هو الواقع.
س :
وكيف الأمر مع المتعدي؟ هل ينوي تجاوز العادل وتجاوز حد العدالة في تصرفه؟
ث :
دون شك، عندما يأخذ على عاتقه سبق كل أحد في كل شيء.
س :
أفلا يتجاوز المتعدي حدود متعد آخر نظيره موغلا في التعدي، قصد بلوغ ما لم يبلغه سواه؟
ث :
بلى يتجاوز.
س :
فلنفرغ الجملة في هذه الصيغة: إن العادل لا يتجاوز نده، بل ضده، أما المتعدي فيتجاوز الاثنين، نده وضده.
ث :
أحسنت.
س :
وإن المتعدي حكيم وصالح، والعادل خلافه في الأمرين.
ث :
وبهذا أيضا أحسنت .
س :
أفلا يماثل المتعدي الحكيم والصالح، بينما العادل لا يماثلهما؟
ث :
من كل بد، فإن من كان ذا سجية فإنه يماثل أربابها، أما ضده فلا يماثلهم.
س :
فسجية كل امرئ بادية فيمن يماثلهم هو.
ث :
أوعندك غير ذلك؟
س :
جيدا يا ثراسيماخس، أفتدعو أحدهما موسيقيا والآخر لا موسيقيا؟
ث :
نعم أدعوهما.
س :
فأي الاثنين تدعوه حكيما، وأيهما غير حكيم؟
ث :
الموسيقي حكيم واللاموسيقي غير حكيم.
س :
أفلا تحسب هذا صالحا بقياس كونه حكيما، وذلك شريرا بقياس جهله؟
ث :
بلى.
س :
أوتقول هذا القول في الطبيب؟
ث :
أقوله.
س :
أفتظن يا صديقي الفاضل أن الموسيقي يرمي حين دوزنة أوتاره إلى تجاوز موقف موسيقي نظيره وادعاء التفوق عليه؟
ث :
لا أظن.
س :
أيروم أن يدعي التفوق غير الموسيقي؟
ث :
لا ريب في أنه يروم.
س :
أويروم أن يتجاوز طبيب طبيبا آخر، ويفوت حدود الطبابة فيما يتعلق بالأطعمة؟
ث :
كلا البتة.
س :
فهل يبغي أن يتجاوز غير الطبيب؟
ث :
نعم.
س :
فانظر الآن باعتبار كل أنواع المعرفة وأضدادها؛ هل تحسب العالم عالما من أي نوع كان إذا هو اختار أن يتجاوز عالما آخر قولا أو فعلا، غير مكتف بمماثلته في فعله، وهو نده في حذقه؟
ث :
الرأي الثاني هو الصحيح.
س :
وما قولك في الجاهل؟ ألا يتجاوز العالم وغير العالم على السواء؟
ث :
أرجح ذلك.
س :
ولكن العالم حكيم.
ث :
نعم.
س :
والحكيم صالح.
ث :
نعم.
س :
فالحكيم الصالح لا يرغب في تجاوز من ماثله، بل من غايره وضاده؟
ث :
هكذا يظهر.
س :
أما الشرير الجاهل فيروم تجاوز الاثنين: نده وضده.
ث :
بكل وضوح.
س :
حسنا يا ثراسيماخس، أفلا يتجاوز الجاهل حدود نده وضده؟ أليس هذا حكمك؟
ث :
هذا هو.
س :
ولكن العادل لا يروم سبق نده، بل سبق ضده فقط.
ث :
نعم.
س :
فالعادل يشبه الصالح الحكيم، أما المتعدي فيشبه الشرير الجاهل.
ث :
هكذا يظهر.
س :
ولكنا اتفقنا أن صفات كل منهما تحكي صفات نده.
ث :
اتفقنا.
س :
فوضح أن العادل حكيم وصالح، والمتعدي شرير وجاهل. (فسلم ثراسيماخس بهذه القضايا، ولكن ليس بالسهولة التي بها أروي الحديث، فكان يسلم بعد تردد كثير وعرق غزير، كما لو كان في فصل الصيف الحار. هنا رأيت في ثراسيماخس ما لم أره قط، وهو أنه قد احمر خجلا. ولما تقرر أن العدالة من الفضيلة والحكمة، وأن التعدي رذيلة وجهل، استأنفت الكلام قائلا):
حسن جدا، فقد انتهت المسألة. ولكنا قلنا إن التعدي شديد الساعد، ألا تذكر ذلك يا ثراسيماخس؟
ث :
أذكره، ولكني غير مقتنع باستنتاجاتك الأخيرة، وعندي ما يقال فيها، على أني إذا أفصحت عن أفكاري فإني مؤكد أنك تقول إني أخطب خطابة، فاختر لنفسك إذا أحد أمرين: إما أن تأذن لي بأن أتكلم قدر ما أشاء، أو أني ألتزم جانب السؤال إذا كنت تؤثر ذلك، وأتصرف معك تصرف العجائز في حال القصص، فأقول «حسنا» وأنغض رأسي مصادقة، أو أهزه إنكارا حسب مقتضى الحال.
س :
إذا كان هكذا فلا تسئ إلى آرائك.
ث :
إني أعمل ما يسرك؛ لأنك لا تأذن لي أن أتكلم، أفتريد مني أكثر من ذلك؟
س :
أؤكد لك أني لا أريد أكثر ولا أقل، ولكن إذا كنت تفعل ذلك فافعله وأنا أسألك.
ث :
فابتدئ إذا.
س :
إني أكرر السؤال الذي قدمته سابقا، فنستأنف البحث فيه، فبماذا تقوم المقابلة بين العدالة والتعدي؟ فقد قيل إن التعدي أقوى من العدالة وأعظم فعلا، أما الآن وقد رأينا أن العدالة حكمة وفضيلة، والتعدي جهل مطبق، فبسهولة يثبت أنها أقوى من التعدي، وليس من يجهل ذلك. ولكني لا أختار فصل الخطاب بهذه الصورة الجازمة يا ثراسيماخس، بل أعالج القضية بهذه الصورة، أتسلم أن الدولة المتعدية قد تستعبد غيرها ظلما وتنجح في ذلك، فتخضع لها الأمصار؟
ث :
دون شك إني أسلم، فإن أفضل الدول - أي أكثرها غزوا - هي أكثر من سواها اغتصابا.
س :
فهمت أن هذا مركزك، ولكن المسألة التي نعالجها هي: أتتوطد صولة الدولة الغاصبة دون عدالة؟ أم بحكم الضرورة لا غنى لها عن التزام العدالة؟
ث :
إذا صح رأيك أن العدالة حكمة، فمن اللازم الحصول على نجدتها. ولكن إذا صح رأيي، فالتعدي هو المستند.
س :
ويسرني أنك لم تكتف بإنغاض الرأس وهزه، بل أراك تجيب بكل وضوح.
ث :
وقد فعلت ذلك لأسرك.
س :
فلك علي الفضل والمنة، فسرني أيضا بالإجابة عما يلي: هل من مدينة أو جيش أو عصابة لصوص أو أية جماعة أخرى وطنت النفس على انتهاج منهج التعدي بالتضامن، أتنجح في مسعى وقد فشا التعدي فيما بين أفرادها؟
ث :
مؤكد لا.
س :
وإذا عرجوا جميعا عن الشنآن المتبادل، أفليس ميسورا نجاحهم؟
ث :
بلى تأكيدا.
س :
لأن التعدي يا ثراسيماخس ينشئ انقساما وبغضاء بين الإنسان وأخيه، أما العدالة فتوثق أواصر الصداقة والوفاء، أليس هذا أثرها؟
ث :
ليكن كذلك، لكي لا أنازعك.
س :
شكرا لك يا صديقي الفاضل. فقل لي إذا كان شأن التعدي، أين فشا، خلق العصيان والشنآن، أفلا يلزم عن ذلك أنه متى شجر النزاع بين الأفراد، أحرارا كانوا أو عبيدا، أبغضوا بعضهم بعضا، فتوترت علاقاتهم وتخاذلوا، فعجزوا عن العمل؟
ث :
هكذا الحال بالتأكيد.
س :
وفي حال سقوط العدالة بين فردين، ألا يدب بينهما دبيب الخلاف، فيبغضان أحدهما الآخر، ويبغضان العادلين من الرجال أيضا؟
ث :
يبغضان.
س :
أفيفقد التعدي في الفرد الأثر الذي له في الجماعة أم يحتفظ به؟ قل يا ثراسيماخس الحبيب.
ث :
نقول إنه يحتفظ به.
س :
أفليس ذلك الأثر هو هو أين حل؟ سواء في مدينة، أم في عائلة، أم في جيش، أم في غير ذلك؟ فإن التعدي يستحيل معه التعاون في العمل، لما ينشئ بين الناس من الشقاق والنزاع، بل إنه يجعل المرء عدو نفسه، وعدو كل إنسان، ولا سيما العادلين، أليس هكذا؟
ث :
مؤكد هكذا.
س :
فإذا ملأ التعدي قلب امرء كانت مآتيه الطبيعية ما يأتي؛ أولا: العجز عن العمل لسبب النزاع والتقسم في داخله. ثانيا: يصير عدو نفسه وعدو العادلين. أليس كذلك؟
ث :
بلى.
س :
ولكن الآلهة عادلة أيها الصديق.
ث :
هكذا نفرض.
س :
فحليف البطل والتعدي عدو الآلهة، أما العادل فصديقها.
ث :
علل النفس بالحجج، فإني لن أضادك لئلا أكون خصما لجماعة «الآلهة».
س :
فلنكمل التعلل، فأجبني كما فعلت آنفا. إن العادلين أوفر حكمة وفضلا، أو أوفر قوة على العمل متساندين، أما المتعدون فيتعذر عليهم السير معا، وما أوردناه من أن الأشرار يعملون متعاونين هو غير واقع، فإنه لو بلغ الظلم في نفوسهم حده الأقصى لاستحال عليهم الاتفاق، أو أن يسلم أحد منهم من شر الآخر، فواضح أن في نفوسهم بقية من العدالة تؤذن بالتئامهم، وتهيب بهم عن إيقاع كل بأخيه وبفئته، وبهذه البقية الباقية من العدالة يتلاءمون. أما الذين تفاقم شرهم وفقدوا العدالة والإنصاف كل الفقد، فيستحيل عليهم التعاون والاتفاق. هذا هو الواقع على ما أعلم. ولننظر الآن في: هل يحيا العادلون حياة أفضل من حياة المتعدين وأسعد؟ وقد سبق القول إننا سننظر في الأمر، فقد حان وقت النظر؛ أما أنا فأرى أنهم يحيون حياة أفضل، ومع ذلك يجب أن ندقق البحث في هذه النقطة؛ لأننا لسنا نعالج مسألة ثانوية، بل ما يتعلق بكيفية قضاء المرء حياته.
ث :
فباشر في البحث.
س :
سأباشر. فقل: أتدعو ما يعمله الحصان أو غيره من الحيوان عمله الخاص إذا كان هو آلة إتمامه الوحدة؟ أو الآلة الفضلى؟
ث :
لم أفهم.
س :
فانظر إذا على هذا النمط: أيمكنك أن تنظر بغير العين؟
ث :
كلا.
س :
وهل تقدر أن تسمع بغير الأذن؟
ث :
لا.
س :
أفليس بحق ندعو النظر والسمع وظيفتي هذين العضوين؟
ث :
هذا أكيد.
س :
ثم إنه يمكنك تشذيب أغصان الكرمة بسكين أو بأزميل أو بأي آلة حادة؟
ث :
دون شك أن ذلك في الإمكان.
س :
ولكن لا آلة تحسن تشذيب الأغصان كالمكسحة المصنوعة خصيصا لهذا النوع من العمل.
ث :
هذا حقيق.
س :
أفلا نحدد التشذيب أو التقليم بأنه عمل المكسحة الخاص؟
ث :
من كل بد.
س :
فأراك تفهم ما استفسرتك إياه لما سألتك: أليست وظيفة الشيء هي العمل الخاص الذي هو آلة إتمامه الوحدة أو آلته الفضلى؟
ث :
فهمت تماما، وظهر لي أجلى ظهور أن هذه وظيفة الشيء في كل عمل.
س :
حسنا جدا، أفلا ترى أن كل ما له وظيفة خاصة له أيضا فضيلة أو مزية ملائمة؟ فلنعد إلى المثل نفسه: أفليس للعينين وظيفة خاصة؟
ث :
لهما.
س :
ولهما أيضا فضيلة أو مزية خاصة؟
ث :
نعم.
س :
أوتخص الأذنين بوظيفة؟
ث :
نعم.
س :
وهل لهما فضيلة؟
ث :
نعم.
س :
أوهذا هو الواقع في كل الأشياء؟
ث :
هذا هو.
س :
فتأمل الآن: أتستطيع العينان إتمام وظيفتهما الخاصة دون فضيلتهما الملائمة؟ أي إذا حل محلها علة؟
ث :
وكيف يمكنها ذلك؟ فقد تعني حلول العمى محل البصر.
س :
أية كانت فضيلتهما لم أسأل عن ذلك، بل سألت: هل تتم العينان وظيفتهما بواسطة مزيتهما؟ أو أنهما تعجزان عن إتمامها بسبب علتهما؟
ث :
تعجزان.
س :
أفنعمم هذا الحكم في كل المسائل من هذا النوع؟
ث :
هكذا أظن.
س :
فهلم ننظر في النقطة الثانية: هل للنفس البشرية وظيفة خاصة لا يمكن إتمامها إلا بها؟
ث :
مؤكد.
س :
مهما يكن من أمر ذلك الغير، مثلا: أيمكنك أن تعزو عادلا الترأس والحكم والتبصر وما شاكلها من الأفعال، إلى غير النفس؟ أو أنك تقول إن هذه الأفعال خاصة بها؟
ث :
لا نقدر أن نعزوها إلى غير النفس.
س :
وما قولك في الحياة؟ أيمكنك ان تعزوها لغير النفس؟
ث :
إنها خاصة النفس.
س :
أولا تجزم أيضا أن للنفس فضيلة؟
ث :
بلى.
س :
أتستطيع النفس إتمام وظيفتها دون فضيلتها؟ أم أنك ترى ذلك مستحيلا؟
ث :
أراه مستحيلا.
س :
فيلزم إذا أن النفس المعتلة تسوس سياسة خرقاء، وتعنى شر عناية، والنفس السليمة تتم هذه الوظائف أفضل إتمام.
ث :
من كل بد.
س :
فالنفس العادلة والرجل العادل يحيا حياة راضية، والمتعدي يحيا حياة ردية.
ث :
هذا أكيد حسب إدلالك.
س :
فيمكننا القول: «إن من يحيا حياة العدالة هو سعيد ومبارك، وعلى الضد من ذلك من يحيا حياة التعدي.»
ث :
من كل بد.
س :
فالعادل سعيد والمتعدي تاعس.
ث :
فلنقل إنهما كذلك.
س :
ومعلوم أن السعادة هي النافعة لا التعاسة.
ث :
دون شك معلوم.
س :
فليس التعدي يا ثراسيماخس الفاضل أنفع من العدالة.
ث :
حسنا يا سقراط، فليكن ذلك تعللك في وليمة بنديس.
س :
وعلي أن أشكر لك ذلك يا ثراسيماخس؛ لأنك استعدت خلقك وعدلت عن السخط علي. مع ذلك لست أتعلل التعلل التام، على أن اللوم في ذلك علي لا عليك؛ لأنه كما أن النهمين يذوقون كل صحن أولا ليروا ما يختارون بعده، هكذا أنا أراني أهملت المسألة الأولى التي كنا نفحصها فيما يختص بطبيعة العدالة قبلما آخذ الجواب عنها، مندفعا حول هذا الشيء المجهول لأرى أفضيلة هو أم رذيلة، أوحكمة أم جهل؟ ثم برزت مسألة «أن التعدي أنفع من العدالة»، فلم يمكنني إلا الخروج عن حدود المسألة الأولى والدخول في البحث الجديد؛ ولذلك كانت نتيجة بحثنا الحالي أني لم أعرف شيئا؛ لأني إذا كنت لا أعرف ما هي العدالة، فلا يمكنني أن أعرف أفضيلة هي أم رذيلة؟ أوسعيد صاحبها أو تاعس؟
الكتاب الثاني: المدينة السعيدة
خلاصته
يشغل غلوكون وأديمنتس في أول الكتاب ميدان البحث الذي أخلاه ثراسيماخس، وهما يسران باليقين أن حياة العدالة تؤثر على حياة المتعدي، على أنهما لا يمكنهما التعامي عن مغالاة المدافعين عن العدالة في صفاتها العارضة، معرضين عن صفاتها الذاتية، أفليس الإنسان ميالا للتعدي متى أمن العواقب؟ أوليست العدالة تسوية قضت بها الضرورة الاجتماعية؟ وهل مدحها الشعراء لذاتها؟ وبناء على اعتقاد وجود الآلهة فكيف تعامل هذه الآلهة العادلين والمتعدين من بني الإنسان؟ ألا تصفح عن آثام الأشرار بواسطة ذبائح التكفير؟ فيكون المتعدون كالعادلين من حيث السعادة الأخروية، وهم أوفر سعادة منهم في العالم الحاضر؟
فاعترف سقراط بصعوبة المسألة، واقترح أن يفحص طبيعة العدالة والبطل في ميدان أوسع ووسط أكبر. ألا تتصف الدول بالعدالة كالأفراد؟ وعليه: أفليس تجليها في الدول أتم وأوضح؟ فلنقتف أثر الدولة منذ نشأتها، فنتمكن من تبين نشأة العدالة والتعدي.
إن المرء لا يستغني عن إخوانه، هذا هو منشأ الهيئة الاجتماعية والدولة، ولا بد فيها من أربعة أو خمسة رجال على الأقل يمثلون العناصر الأولى في توزيع الأعمال، ويتسع مجال ذلك كلما نمت الجماعة، فتحتوي الحياة في بدء نشأتها على الزراع والبنائين والحاكة والأساكفة، يضاف إلى هؤلاء لأول وهلة النجارون والحدادون والرعاة، ومع الزمان تنشأ التجارة الخارجية التي تستلزم زيادة المنتوجات في الوطن لدفع بدل الواردات من الخارج، وازدياد المنتوجات يستلزم وجود طبقات من الباعة وأصحاب المخازن والصرافين، وتحتاج الأمة إلى تجار وبحارة ومستخدمين وعمال، وإذا نشأت الأمة على هذا النسق حصلت على حاجاتها، إذا لم يزد عددها على ثروتها نسبيا. على أنها إذا جهزت بالكماليات مع الحاجيات لزمها طهاة وحلوانيون وحلاقون وممثلون وراقصون وشعراء وأطباء، وذلك يستلزم طبعا مجالا شاسعا.
وقد يفضي إلى اشتباكها في الحرب مع جيرانها، فتحتاج الدولة إلى جيش دائم وطبقة حكام، فكيف يختار هؤلاء الحكام؟ وما هي الأوضاع التي يمتلكونها؟ يجب أن يكونوا أقوياء، سراعا، شجعانا، حماسيين، ولكن ودعاء وفيهم ميل إلى الفلسفة. فكيف يهذبون؟ أولا يجب أن نكون غاية في التأنق في انتقاء القصص التي تملى على أسماعهم في حداثتهم، فلا يباح في هذه القصص ما يمس كرامة الآلهة، فلا يقال فيها أنها تشهر حربا بعضها على بعض، أو أنها تنقض العهد والميثاق، أو أنها تنزل الكوارث بالناس، أو أنها تتلون في مظاهرها في الأرض، أو أنها تخدعنا بكذبها.
متن الكتاب
قال سقراط: لما قلت ما قلت خلت أننا انتهينا من المباحثة، والظاهر أنه لم يكن سوى مقدمة؛ لأن غلوكون الشجاع في كل معمعان لم يستحسن انسحاب ثراسيماخس من الميدان، فبدأ الكلام قائلا:
غلوكون :
يا سقراط، أمجرد الظهور تروم أنك أقنعتنا؟ أم الإقناع الحقيقي، أن العدالة خير من التعدي؟
سقراط :
إذا كان في إمكاني فإني أوثر إقناعكم إقناعا حقيقيا.
غ :
فلست عاملا ما تهوى إذا، فقل ما رأيك فيما يأتي: أتوجد خيرات يسرنا امتلاكها لذاتها لا للمنافع الناجمة عنها؟ كعاطفة السرور واللذات البريئة، فمع أنه لا ينشأ عن هذه اللذات نفع، فمجرد امتلاكها يسرنا.
س :
نعم، توجد خيرات من هذا النوع.
غ :
أوترى أنه توجد طائفة أخرى من الخيرات؟ وهي ما يراد لذاته ولنتائجه، كالحكمة والصحة والبصر، فإننا نرغب في هذه الخيرات طلبا للغرضين.
س :
نعم، توجد خيرات من هذا النوع.
غ :
أوتظن أنه توجد طائفة من الخيرات كالرياضة البدنية، واحتمال المعالجة الطبية في حال المرض، والطبابة، وكل الأعمال المنتجة؛ فهذه الأشياء مزعجة ولكنها تفيدنا، فمع أنها لا تراد لذاتها فإننا نقبلها لأجل الفوائد والمكافآت الناجمة عنها؟
س :
لا شك في أنه يوجد خيرات أيضا من هذا النوع، فماذا تقصدان بعد ذلك؟
غ :
ففي أي هذه الأنواع الثلاثة تدرج العدالة؟
س :
أظن أنها تدرج في أفضلها؛ أي إنها من الخيرات التي يقدرها من ينشد السعادة الحقيقية، فتراد لذاتها ولنتائجها.
غ :
ولكن الكثيرين من غير رأيك، فهم يرون أن العدالة من الأشياء المزعجة، فهي في ذاتها مكروهة ومنبوذة، ولكنها ترام لما فيها من الثقة بالمكافآت والصيت الحسن.
س :
أعلم أنها تظهر هكذا؛ ولذلك فندها ثراسيماخس وزكى التعدي، فالظاهر أني تلميذ خامل.
غ :
فاسمعني إذا وقل لي هل توافقني في رأيي، فإني أرى أنك قد رقيت ثراسيماخس، كما يرقي الحاوي الحية، بأسرع مما يلزم، أما أنا فلا أرى ما قيل في شرح العدالة والتعدي كافيا، فأحب الوقوف على ماهية كل منهما، وما لهما من النفوذ في النفس، مع صرف النظر عن الجزاء والنتائج الناشئة عنهما، فإذا كنت تريد فإني أبدأ البحث على المنوال الآتي بيانه: أستأنف حديث ثراسيماخس، فأخبرك أولا رأي الناس العام في طبيعة العدالة وأصلها. وثانيا أبين أن جميع الذين أرادوها لم يرغبوا فيها لذاتها، بل قبلوها مرغمين كحاجة لا غنى عنها، لا لأنها خير بالذات. وثالثا أن تصرفهم هذا نشأ عن تعقل وروية؛ لأن حياة الإنسان المتعدي - على قولهم - أفضل كثيرا من حياة العادل. إني لا أذهب مذهبهم يا سقراط، ولكن كلمات ثراسيماخس وألوف من أضرابه ما زالت تطن بها أذناي، فأراني في حيرة من أمري، فإني لم أسمع حديثا مفعما في أفضيلة العدالة. فأروم أن أسمع امتداحها منك وحدك على ما هي في ذاتها، وسأطنب في امتداح حياة المعتدين وأفضليتها على حياة العدالة، فأهب لك نموذجا به أحب أن أسمعك تفند البطل وتوجب العدالة، أفتستحسن رأيي؟
س :
كل الاستحسان، فماذا يسر العاقل أكثر من المداولة في موضوع كهذا المرة بعد المرة؟
غ :
أحسنت، فاسمع إذا كلامي في القضية الأولى، وهو «طبيعة العدالة وأصلها». يقولون إن التعدي مأثور لذاته، ولكن عاقبته ردية؛ لأن الشر الناشئ عن وقعه يربي كثيرا على الخير الناجم عن اقترافه؛ ولذا بعدما ظلم الناس بعضهم بعضا زمنا طويلا، وتحملوا ثقل وطأته على النفوس، واختبروا العدالة والتعدي كليهما، رأوا أن الأفضل للذين لا يقدرون أن ينبذوا أحدهما ويختاروا الآخر، أن يتفقوا ألا يظلموا ولا يظلموا، هذا منبت الشرائع والمعاهدات بين الإنسان وأخيه، فحسبوا ما أوجبته الشرائع عادلا مشروعا. قالوا: هكذا نشأت العدالة، وهي حلقة متوسطة بين الأفضل وهو التعدي دون عقوبة، وبين الأردأ وهو الانظلام مع العجز عن الانتقام، فالعدالة المتوسطة بين هذين الطرفين مرغوب فيها، لا لأنها خير بالذات، بل لأنها التحفت بشرف دفع التعدي. ويقولون إنه متى امتلك المرء المقدرة على التعدي مع اكتسابه أوضاع الرجال، فإنه لا يرضى قطعيا أن يستضعف، فيتقيد بنبذ التعدي. هذا ما قيل في طبيعة العدالة وفي أصلها. الحقيقة الثانية في بياني: يتبع الناس سنن العدالة غير مختارين، ويتنكبون عن الضرر لعجزهم عن إضرام ناره، ويمكن إيضاح ذلك إيضاحا تاما بالشاهد التالي:
لو أطلقنا أيدي العادلين والمتعدين سواء، وأبحنا لكل منهم أن يعمل ما تهوى النفس، وتتبعنا آثارهما لنرى إلى ماذا قادت كلا منهما ميوله؛ لوجدنا العادل منحدرا بكليته في تيار التعدي، كعديم العدالة تماما، راغبا في إحراز ما تجوع إليه نفسه من الملاذ وتنشده كل خليقة، كالخير المراد بالذات، ولكن الشرائع هي التي ردعته عن مطاوعة الشهوات وأرغمته على احترام المساواة.
ويمكن تحقق ذلك إذا تمتع الناس بالحرية التامة في العمل، من الأسطورة التي يروونها عن جيجيس الليدي. تقول الأسطورة: «كان راع يرعى مواشي ملك ليديا، ففي ذات يوم هطلت الأمطار وثارت العواصف؛ فتصدعت الأرض بفعل زلزال شديد، وحدثت في أرض المرعى هوة عميقة، فتعجب الراعي مما حدث، وانحدر إلى أسفل الهوة، فرأى غرائب جمة جاء وصفها في الأسطورة، منها حصان نحاسي مجوف، في جانبيه كوى، أطل منها الراعي فرأى في جوف الحصان جثة ميت أكبر من جسم الإنسان العادي، فلم يأخذ منها سوى خاتم ذهب كانفي إحدى الأصابع، ثم صعد من الهوة. فلما اجتمع الرعاة على جاري عادتهم الشهرية لينظموا قرارا يرفعونه إلى الملك في تبيان ما حدث لقطعانه، كان صاحبنا بينهم والخاتم في يده، وفيما هو جالس في الجماعة وهو يلعب بالخاتم، عرض أنه أداره في أصبعه، فلما صار الختم إلى باطن اليد اختفى لابس الخاتم عن النظر، فصار الرعاة يذكرونه بصيغة الغائب، فأدهشه منهم ذلك، وجعل يعالج الخاتم ليرده إلى موضعه، وحينذاك عاد فظهر للناظرين، وكرر التجربة ليرى هل للخاتم هذه المزية؟ فتكررت النتيجة، فثبت له أنه كلما دار الخاتم إلى باطن الكف غاب لابسه عن النظر، وإذا عاد إلى موضعه عاد لابسه إلى الظهور، فتطوع الراعي لمرافقة الوفد الذي يحمل التقرير إلى الملك، ولما وصل القصر راود الملكة، وكاد معها للملك فاغتاله وانتزع عرشه.»
فلو أن في الدنيا خاتمين من هذا النوع، أحدهما في يد العادل والآخر في يد المتعدي، لما تشبث أحدهما بالحرص على الإنصاف، فنكب عى سلب أموال جيرانه، وفي طاقة يده الحصول عليها وعلى ما يريد في الأسواق وفي البيوت دون رهبة؛ فيدخل البيوت ويواقع من أراد منهن، ويقتل من يشاء أو يفك أغلال من يشاء، ويفعل في الناس فعل الله في خلقه، فلا يختلف بذلك عن المتعدي، بل يسير كلاهما في سنن واحد، وذلك دليل قاطع على أن لا أحد يعدل مختارا، بل مرغما؛ لأن العدل ليس خيرا للأفراد، وكل يتعدى حيث يكون التعدي مستطاعا؛ لأنهم يرون أن التعدي أنفع كثيرا من العدالة، وهم مصيبون حسب هذا القسم من بحثنا، فلو أن لكل هذه الحرية ولم يمس ما للغير، لحسب في نظر العقلاء ذا مس من الجنون، مع أنهم يمدحونه في الوجه مخافة أن تصيبهم أضرار تعدياته.
أما ما يتعلق باختلاف حياة الرجلين المار ذكرهما، فيمكننا بلوغ نتيجة صحيحة فيه إذا قابلنا أعظم الناس عدالة بأوفرهم تعديا، وبذلك فقط يمكننا حل المسألة، فكيف نقابل بينهما؟ دعنا لا ننزع شيئا من تعديات المتعدي، ولا من عدالة العادل، بل يكون كل منهما كاملا في سجيته؛ أولا ليتصرف المتعدي تصرف رب الفن الحاذق، كربان من الطراز الأول، أو كنطاسي خبير، فيما يمكن أن يعمل وما لا يمكن أن يعمل في فنه، فيفعل هذا ويعرض عن ذاك، وإذا زل في خطوة كانت له قدرة على إصلاح الزلل. على هذا النحو يجري المتعدي تعدياته بمهارة خارقة، ويتمكن من إخفاء عمله عن الأنظار إذا أراد أن يكون ظلاما، وإذا ظهرت حقيقته حسبناه أخرق. وأقصى حدود الارتكاب أن يتلبس صاحبه بالعدالة، وهو خلو من حقيقتها. فنسلم للكلي التعدي أوسع الميادين في دوس العدالة، وأنه مع ارتكابه الكبائر يربح اسم العادل وشهرته، ويتمكن من ترقيع ما تمزق من سياسته بواسطة البلاغة في الخطابة، فيقنع الناس بعدالته إذا فشا أمر ارتكاباته، أو يقنعهم بالقوة والشجاعة والأصحاب والمال حيث يلزم ذلك.
وبعدما صورنا رجلا بكل هذه الأوصاف، فلنضع بإزائه لاستيفاء البحث رجلا طيب القلب، وليكن هذا الرجل عادلا حقيقيا طاهر الوجدان، ويرغب في العدالة كما قال أسخيلس، لا ظاهرا بل حقيقة، ولنجرد هذا العادل من ظاهرات بره وصلاحه؛ لأنه إذا اشتهر بالعدل فنال من الناس مكافأة وشرفا، لا يمكن التيقن إذ ذاك، هل رغب في العدالة لذاتها؟ أو لنتائجها؟ فلنجرده من كل شيء إلا العدالة، وليكن في عكس حال الرجل الآخر إلى جانبه، ومع سلامته من كل مغايرة يشاع عنه أنه مرتكب من الطبقة الأولى، فتمتحن عدالته امتحانا شديدا، فيشهر برهانا على سوء السمعة وما ينتج عنها، فيعاقب بالتعذيب عملا بأحكام العدالة، ولكنه لا يثنيه عن كماله خزي ولا عار، بل يظل ثابتا حتى الموت، وقد ظهر لنظر الناس غير مستقيم في حياته مع فرط استقامته وبره، وبهذا الاعتبار يبلغ كلا الرجلين أقصى مداه، الواحد عدالة، والآخر تعديا؛ وعندئذ يمكننا أن نعرف أيهما أسعد حالا.
س :
ما أعجب تجريدك كلا منهما لحكمنا كمثالين عريانين!
غ :
على قدر الإمكان، وبعدما وصفناهما كما سبق لا تبقى صعوبة في معرفة الحياة التي تترصد كلا منهما، فدعني أصفها، وإذا بدا الوصف سمجا فلا تنسبنه إلي كأنه مني يا سقراط، إنما هو ممن يؤثرون التعدي على العدالة، فإنهم يقولون إنه في موقف كهذا يجلد العادل المتهم ويعذب ويوثق بالأغلال، وتسمل عيناه بأسياخ حديدية محمية بالنار، وبعد أن يذوق كل صنوف العذاب يصلب، فحينذاك يعلم أن الأفضل له ليس فقط أن يكون عادلا، بل أن يعرف أنه عادل، وأن كلمات أسخيلس هي أكثر انطباقا على المتعدي منها على العادل؛ لأنه تأيد وتزكى كعادل لاذ بالحقيقة، ولم يعش حسب أهواء الناس الشريرة، وأنه لم يظهر ظهورا، بل كان بالحقيقة متعديا، وهذا هو قوله:
مستغلا دوحة النفس وقد
أينعت باللب خير المشورات
فتمكن أولا من تبوء المناصب لاشتهاره بالعدالة، وثانيا يختار من شاءها زوجا له، ويصاهر أولاده الأسر التي يريدها، ويعقد الاتفاقات المالية، والشركات التجارية مع من اختار، وفوق الكل ينمي ثروته بالدخل الوافر، ولا يعثر بما في نفسه من كوامن الخداع، ويكون فوازا في كل مضمار سرا وجهرا، ويتفوق على مزاحميه ويكيد أعداءه، ويتوشح بجلباب الفضيلة والتقى، فيقدم القرابين الثمينة إكراما للآلهة، وله حظ الرجل العادل بواسطة تقدماته للآلهة، ولمن اختار من الرجال، فهو أدنى من العادل الحقيقي لربح رضا السماء؛ ولذلك قالوا أيها العزيز سقراط: إن حياة المتعدي خير من حياة العادل، عند الله والناس. (ولما قال غلوكون ذلك هممت بالجواب، ولكن قبلما أفتح فمي قال أخوه أديمنتس):
أد :
لا تتصور يا سقراط أنه قد قيل ما يكفي لشرح التعليم.
س :
ولماذا لا؟
أد :
لأنه ينقصه القسم الأعظم مما يجب إيراده في هذا المقام.
س :
فقد أحسن من قال: الأخ عضد قريب، فأنت عضد أخيك، تقيه شر الاندحار، وسنده المتين، فتصونه من غوائل العثار، مع أن ما أبداه غلوكون كاف لسقوطي في الميدان، وغل يدي عن نصرة العدالة في ساحة الرهان.
أد :
إنك تتهكم، فاسمع ما يلي: فإن علينا أن نورد من الشواهد ما يعاكس منهج غلوكون، فنمدح العدالة ونذم البطل لتجلية ما أظن أنه المعنى الحقيقي الذي أراد الإعراب عنه، فأقول: يحث الوالدان أولادهم، والمعلمون تلاميذهم، وكل من تعاطى تهذيب الأحداث أحداثه؛ على اتباع سنن العدالة، ولكنهم لا يوجبونها لذاتها، بل لما تهب لهم من كرامة واحترام، فمرادهم أن يربح المرء لاشتهاره بالعدالة، فيضمن له هذا الاشتهار الفوز بالمناصب وبالزواج، وبكل ما ذكره غلوكون أنه مضمون للعادل بسامي صفاته. على أن الاشتهار بالعدالة يؤدي بأربابها إلى أبعد من ذلك، فإن فوزهم برضا الآلهة ينيلهم - على ما قالوا - سعادات لا توصف تسبغها على الناس، كما قال هسيودس وهوميرس الحكيمان. قال أولهما:
1
أن الآلهة تجعل أشجار العادلين السنديانية.
أفنانها بالجنى تزداد زينتها
وتحتها ما جناه النحل من عسل
وشاؤهم بجزاز الصوف زاهية
كأنها الثلج يكسو ذروة الجبل
وقال ثانيهما:
2
فيجلس سيدا مثل الإله
محاطا بالمفاخر والمباهي
كثيرا خيره زرعا وضرعا
وصيدا لا يدانيه تناهي
وقد وصل الإلهين موزيوس وابنه أومولبوس أنهما يسبغان على الأبرار بركات أسمى مما ذكر، فقد حملاهم إلى هادز، فاتكئوا مع جماعة الأبرار في الولائم المعدة لهم، مكللين بأكاليل المجد، وقضوا الزمان برشف كئوس الصفا، حاسبا رشف الكئوس إلى الأبد أسمى مجازاة الفضيلة. على أن بعضهم لم يقف عند هذا الحد في وصف البركات التي تسبغها الآلهة، فقالوا إن التقي حافظ العهود يترك وراءه أحفادا وذراري خالدة. هذه بعض الخيرات التي ينالها المرء جزاء اتصافه بالعدالة.
أما الفجار والظالمون فيغوصون في أوحال المستنقعات في هادز، ويقضى عليهم أن ينقلوا الماء بالغربال جزاء ما صنعت أيديهم، وأن يلتحفوا في حياتهم بالفضيحة والعار، فيحل بهم كل ما ذكره غلوكون من العقوبات التي حلت بالعادل الذي حسب متعديا، فيحلون بالمعتدين هذه العقوبات، ولا يستطيعون حمل أكثر منها . هذا هو نمطهم في إطراء الصفة الواحدة وذم الأخرى.
واعتبر أيها العزيز سقراط في أمر العدالة والتعدي نوعا آخر من البحث، وهو ما ورد في كتابات الشعراء وفي الحياة العادية، فقد أجمع الناس على أن الاتصاف بالعدالة والعفاف فضيلة عسرة المرتقى، وأن الانغماس في التعدي والفجور لذة سهلة المنال، ولكن الشرائع والرأي العام تنكرها، ويقولون إن الأمانة عموما أقل نفعا من الخيانة، ويغالون في تغبيط الأشرار وفي إكرامهم سرا وجهرا، من أغنياء ومتسودين، وفي نفس الوقت يزدرون الفقراء والضعفاء ويحتقرونهم، وهم يعلمون أنهم أفضل من أولئك.
وأغرب من كل ما ذكر ما قالوه في الآلهة وفي الفضيلة من هذا القبيل، ومنه: أن الآلهة تبلو كثيرين من الأبرار بالكوارث والمحن، وتسبغ على الأشرار سوابغ النعم، فيقرع المملقون والدجالون أبواب المثرين، ويؤكدون لهم نيلهم السلطان الإلهي ليغفروا لهم ما اجترحوه هم وآباؤهم من المظالم والفجور، لقاء القرابين والتسابيح والولائم وحفلات السرور. وإذا أراد أحدهم الإيقاع بعدوه أمكنه ذلك بنفقة زهيدة، بارا كان خصمه أو مجرما، فيقول لهم أولئك المداهنون إنهم يسترضون الآلهة بالتوسلات والطلاسم، فيحملونها على إجابة سؤلهم، ويستشهدون بالشعراء لإثبات ادعائهم في تسهيل الارتكاب، ومنها قول أحدهم:
3 «كن كيف شئت فإن الله ذو كرم
وما عليك وإن أخطأت من باس»
إن الخطيئة سهلا بات مرتعها
تزينه فائحات الورد والآس
أما الفضيلة فالخلاق يقرنها
بما يذيب الحشا في أفضل الناس
ويقولون إن سبل الفضيلة عسرة المرتقى كالشم الرواسي، ويستشهدون بهوميرس لإثبات تأثير الناس في نفوس الآلهة وتحويلها عن مقاصدها. قال:
4
حتى الإلاهات ترشى في محاكمها
فتعلن الصفح عما قد جنى الرجل
تجود بالعفو عنه بعد نقمتها
حتى غدا برضاها يضرب المثل
وقد أصدروا عددا عديدا من الكتب من تآليف موزيوس وأورفيوس ابني القمر والزهرة - اثنتين من إلاهات الفنون على ما يزعمون - فيها طقوس لإقناع الأمم والأفراد فقط أنه بواسطة الذبائح والولائم للأحياء والأموات، وبواسطة الرياضات الروحية التي يدعونها أسرارا، تغسل ذنوبهم وتستر عيوبهم وتطهر قلوبهم، وأن هذا هو سر نجاتهم من العذاب الأبدي الذي يحل بمن لم يستعدوا للفوز بالبر، بواسطة الذبائح والقرابين. فماذا عسانا أن نتصور يا سقراط أن يكون تأثير هذه الأقاويل وأمثالها في الفضيلة والرذيلة وجزائهما، في عقول شبابنا، وهي تملى على مسامعهم كل يوم بصور عديدة متنوعة؟ وبعضهم حصفاء أرباب فطن، قادرون على بلوغ قنن الأفكار كما تبلغ الجوارح قنن الجبال، فيتذوقون هذه الأقوال، ويفكرون بأية طريقة وأية أوصاف يمكنهم أن يجتازوا معارج الحياة؟ فمن أرجح الممكنات أن يناجي الشاب نفسه بقول بندار:
5
سيان إن كنت طودا للعلى شمخت
فيه العدالة والآداب والحلم
أو كنت ذا نقمة يغتال صاحبه
فالله يرضى بذا والشرع والأمم
فالرأي العام يقول: لا فائدة في كوني بارا إذا لم يذع فضلي ويشتهر بري وصلاحي في الملأ، فلا يصيبني من جراء ذلك سوى الاضطراب والخسران، مع أني لو كنت متعبدا وانتحلت شهرة عادل، فلي حياة سعادة لا توصف، فما دامت المظاهر الخارجية راجحة على الحقيقة الداخلية كما أوحي إلى الحكماء، وهي أول معارج السعادة، فيجب أن أستسلم بكليتي إليها، مستترا برداء الفضيلة، وأجر ورائي ذيلا ثعلبيا
6
من المكر والدهاء، على قول أرخيلوخس.
ورب قائل: إنه ليس من السهل استتار المنافقين طويلا. فنرد عليه أن ليس شيء من العظائم سهلا، وإذا رمنا السعادة فهذا هو سبيل الفوز بها، كما أثبت بحثنا ذلك؛ فلكي نخفي حقيقة خداعنا يجب أن نؤلف جمعيات سرية، وننشئ أندية أدبية، وهنالك أساتذة بارعون تجري البلاغة على ألسنتهم، قادرون على الإفحام في ميادين الشرع والبيان، وبهذه الوسائل الإقناعية، حسنت أو ساءت، نفوز بأغراضنا ونواصل أعمالنا الخداعية دون عقوبة. على أنه يقال إن مخادعة الآلهة والتغلب عليها مستحيلان. فنجيب: إذا كانت الآلهة غير موجودة، أو إذا كانت موجودة لكنها عديمة الاكتراث لشئون الخلائق، فلماذا نزعج أنفسنا مخافة مراقبتها أعمالنا ومعرفتها سرنا وجهرنا؟ وإذا كانت الآلهة موجودة وساهرة على مراقبة أمورنا، فلسنا نعرف عنها شيئا غير أساطير الشعراء الذين أوردوا أنسابها، فقد أخبرنا هؤلاء الثقات أن الآلهة تسترضى فتؤمن غوائلها وتحول عن مقاصدها بالذبائح والنوافل والتضرعات، فإما أن نؤمن بالقولين كليهما أو نرفضهما كليهما. فإذا قبلناهما سلكنا سبل التعدي وترضينا الآلهة بالذبائح المقتناة بالأموال التي ربحناها بجناياتنا؛ لأنه إذا كنا عادلين نجونا حقا من العقاب بين أيدي الآلهة، ولكنا بذلك ننفض أيدينا من الفوائد الناجمة عن التعدي. أما إذا كنا متعدين فلا نحرز هذه الفوائد فقط، بل نتمكن من التأثير في الآلهة بصلواتنا المرفوعة إليها بعد ارتكابنا المعاصي والآثام، فتعفو عنا. على أنه يعترض بأننا سنعاقب في هادز عن خطايا هذه الدار، التي نرتكبها نحن أو أحفادنا، بل بالحري يا صديقي (يستمر بطل الجدل في كلامه)
أن الطقوس السرية والآلهة الغفورة لها فاعليتها العظمى، كما اتصل بنا من أعظم الدول ومن أبناء الآلهة الذين تجسدوا شعراء وأنبياء ملهمين، فأثبتوا لنا صحة ذلك.
فماذا بقي إذا من الاعتبارات التي تحملنا على إيثار العدالة على شر صور التعدي، ما دام الحال معنا أننا إذا قرنا تعدينا بخشوع زائف، فزنا برضاء الآلهة والناس في هذه الحياة وفي الأخرى؟ استنادا إلى شهادة أكثر الثقاة عددا وأعلاهم كعبا. باعتبار كل ما تقدم يا سقراط، علام يحترم العدالة رجل هو على شيء من المزايا، كالمواهب السامية أو الثروة أو الشخصية البارزة أو شرف المحتد، عوض أن يستخف بها حين تتلى محامدها على سمعه؟ فلو أن إنسانا تمكن من كشف زيف ما قلناه، مقتنعا اقتناعا تاما بأفضلية العدالة، لاغتفر الكثير من الخطيئات ولم ينقم على الجناة، لعلمه أن لا أحد بار باختياره إلا الذين فيهم روح إلهية تحملهم على نبذ الفجور، أو الذين في نفوسهم من تأثير العلوم والفنون ما يصرفها عنه، إلا أنهم يطرحون التعدي لجبنهم، أو لهرمهم، أو لعلة أخرى تجعلهم عاجزين عن اقترافه. والدليل على صحة ذلك أنه متى امتلك أحد هؤلاء العاجزين قوة تمكنه من التعدي، كان أول من تهافت عليه بكليته، والعامل في كل ذلك هو ما أوردناه أنا وأخي في مستهل هذا الخطاب يا سقراط، قائلين مع الاحترام اللازم إنكم، أنتم المدعين نصرة العدالة، ابتداء من أبطال القديم الذين انتهت أخبارهم، إلى أبناء هذه العصور؛ قد جعلتم - بلا استثناء أحد منكم - امتداح العدالة وذم التعدي وسيلة توسلتم بها لنيل الشهرة والمجد والنعم الناشئة عنهما، ولكن ماهية كل منهما بما فيه من قوة خاصة كامنة في نفس صاحبها، خافية عن أعين الآلهة والناس، هذه الماهية لم توف حقها من البحث نظما أو نثرا، فترينا أن التعدي أقتل سم يتسرب إلى الجسم، وأن العدالة أعظم بركة، فلو كانت هذه لهجتكم بادئ ذي بدء، وحاولتم أن تقنعونا بها منذ حداثتنا، لما كانت ثمة حاجة لمراقبة أحدنا الآخر خشية تعديه، بل كان كل رقيبا لنفسه، لئلا يصمها بالعار بارتكابه التعدي.
فهذا يا سقراط، وربما أكثر من هذا، يمكن أن يقوله ثراسيماخس وغيره، وأجرؤ على القول، في العدالة والتعدي، فيقلبون على ما أرى - جهلا منهم - التأثير الطبيعي لكل منهما، أما أنا فأعترف لك - لأني لست أريد أن أخفي عنك شيئا - أني شديد الرغبة في أن أسمعك تدافع عن الوجهة المناقضة؛ ولذلك تكلمت بأقصى ما في من قوة.
فلا تحصر دفاعك في أن العدالة أسمى من التعدي، بل أرنا تأثير كل منهما في نفس صاحبه، بحيث يكون أحدهما خيرا والآخر شرا، واحذف شهرة كل منهما على النحو الذي رغب فيه إليك غلوكون؛ لأنك إذا تمنعت عن حذف شهرة كل منهما وإحلال ضدها محلها، قلنا إنك تمدح ظاهر العدالة لا حقيقتها، وإنك تقدح في ظاهر التعدي لا في حقيقته، وإنك إنما تنصح المرء بارتكاب التعدي مستترا، وإنك توافق ثراسيماخس في أن العدالة هي لخير الغير؛ لأنها مصلحة الأقوى، وأن التعدي هو منفعة المرء الذاتية، لكنه ضد مصلحة الضعيف؛ لأنك سلمت أن العدالة في مرتبة أسمى الخيرات، وأن امتلاكها بركة ثمينة لذاتها ولنتائجها، كالبصر والسمع والعقل والصحة، وغير هذه البركات التي هي خير بالذات لا بالاسم فقط، فخص بمدحك هذه الوجهة من العدالة، أريد بها فائدتها التي تسبغها على صاحبها، بإزاء الضرر الذي يحله التعدي في نفس صاحبه، ودع مدح الشهرة والمكافأة لغيرك ؛ لأني أتسامح مع الغير في مدحهم العدالة وذم التعدي، وهو منهم عبارة عن إطراء الظاهرات والنتائج المقارنة لها أو ذمها. أما معك فلا أتسامح هذا التسامح، إلا إذا كنت تطلبه؛ لأنك أفنيت الحياة في فحص هذه المسائل، فلا تكتف بأنك تبرهن لنا على أن العدالة أفضل من التعدي، بل أرنا تأثيرهما الخاص في نفس صاحبهما، الذي به يكون أحدهما بركة والآخر شرا، سواء عرف أمره عند الله والناس أو لم يعرف.
قال سقراط: فاحترمت مواهب غلوكون وأديمنتس كليهما، وعندها صارحتهما أن بيانهما سحرني، وقلت لهما: بحق قال فيكما من أعجب بغلوكون، يا ابني الرجل الوارد ذكره في أول بيت من إلياذته، على إثر فوزكما في معركة ميغارا:
إن أبناء أريسطو
أقدس الأبناء أصلا
ولدي شهم كريم
بلغ النجم وأعلى
فأراه أصاب كبد الحقيقة بهذا النعت يا صديقي؛ لأن في عقليكما أثرا إلهيا واضحا، إذ لم تسلما بأن التعدي خير من العدالة، وأنتما قادران أن توردا فيه ما ذكرتماه الآن، وإني لواثق بأنكما لن تسلما ذلك التسليم؛ لاستدلالي بما تبينته من مجموع سجاياكما، ولو اقتصر الأمر على خطابيكما لكانت لي فيكما غير هذه الثقة. على أني كلما زدت ثقة بكما زدت حيرة في كيف أتصرف بهذا الموضوع؛ لأني مع كوني لا أدري كيف أساعدكما بناء على عدم جدارتي الظاهر في رفضكما ما قلته لثراسيماخس، وأنا أزعم أني أثبت أفضلية العدالة على التعدي، أقول مع حيرتي هذه: لا أجرؤ على التنكب عن النجدة؛ لأني أخشى أن أرتكب إثما عظيما إذا أنا سمعت العدالة تمتهن، فانحلت عزيمتي وتخليت عنها وفي نسمة، فأرى من الحزم أن أنصرها بما لي من حول. (فألحف علي غلوكون وكل من حضر أن أنصر العدالة بكل ما في وسعي، ولا أسمح بانصرام الحديث، بل أبحث بالتدقيق في طبيعة كل من العدالة والتعدي، وما هو التعليم الحق النافع في كل منهما، فأبديت حينذاك شعوري، وهو أني لا أرى البحث الذي نخوض عبابه أمرا زهيدا، بل أراه يحتاج إلى ثاقب النظر . ولما كنت غير حصيف استحسنت صيغة خاصة للبحث تمكننا من إيضاحه، وهذا بيانها):
س :
افرض أننا سئلنا قراءة كتابة بحروف من قطع صغير عن بعد، ولم نتمكن من تبينها، ولكن أحدنا اكتشف أن تلك الكلمات نفسها مكتوبة في موضع آخر بحروف كبيرة وعلى رقعة أوسع، فمن المعقول أننا نقرأ الكلمات كبيرة الحروف أولا، ثم نحول نظرنا إلى الكتابة ذات الحرف الصغير، ونفحصها لنرى هل الكتابة واحدة في الرقعتين.
أديمنتس :
لا شك في أن ذلك واجب. ولكن أية علاقة بينه وبين بحثنا الحالي في العدالة؟
س :
سأريك العلاقة بينهما: العدالة عدالتان؛ عدالة في الفرد، وعدالة في الدولة. أليس كذلك؟
أد :
أكيد.
س :
والدولة وسط أكبر من الفرد.
أد :
أكبر.
س :
فالأرجح أن العدالة أظهر في الوسط الأكبر وأسهل تبينا، فإذا شئتم فإنا نبحث أولا في العدالة في الدولة، وبعدئذ نطبق البحث على العدالة في الفرد بالأسلوب نفسه، ملاحظين وجه الشبه في الاثنين.
أد :
أراك على هدى في رأيك.
س :
فإذا تتبعنا في أفكارنا نشأة الدولة التدريجية، أفلا نرى فيها نشأة العدالة ونشأة التعدي؟
أد :
الأرجح أننا نرى.
س :
أولا يكون لنا أساس للثقة بأننا سنجد ما ننشده بأوفر سهولة؟
أد :
أسهل جدا.
س :
فهل من رأيكم أن نجد في إنفاذ خطتنا؛ لأن الأمر ليس قليل الشأن؟ فتأملوه جيدا.
أد :
إنا لمتأملون، فجد كل الجد.
س :
أرى أن الدولة تنشأ لعدم استقلال الفرد بسد حاجاته بنفسه، وافتقاره إلى معونة الآخرين. أتتصور سببا آخر لنشأة الدول؟
أد :
كلا، فأنا أوافقك.
س :
ولما كان كل إنسان محتاجا إلى معونة الغير في سد حاجاته، وكان لكل منا احتياجات كثيرة، لزم أن يتألب عدد عديد منا من صحب ومساعدين، في مستقر واحد، فنطلق على ذلك المجتمع اسم مدنية أو دولة،
7
ألا نطلقه؟
أد :
بلى، من كل بد.
س :
فيتبادل أولئك الأشخاص الحاجات، وكل منهم عالم أنه سواء كان آخذا أو معطيا في ذلك التبادل، فالأمر عائد إلى فائدته الشخصية.
أد :
مؤكد.
س :
فلنختط في بحثنا مدينة خيالية، مبتدئين بها من أول أركانها، فيظهر إذا أنها أنشئت سدا لحاجاتنا الطبيعية.
أد :
بلا شك.
س :
وأول تلك الحاجات وأهمها القوت، قوام حياتنا كمخلوقات حية.
أد :
من كل بد.
س :
وثاني تلك الحاجات المسكن، وثالثها الكسوة، وهكذا.
أد :
حقا.
س :
فلننظر كيف يمكننا أن نجعل مدينتنا تقوم بسد حاجات عديدة. أفلا نبدأ بالزارع، ثم البناء فالحائك؟ أفيكفي هؤلاء أم نضيف إليهم الإسكاف واثنين أو ثلاثة من العمال القائمين بسد حاجاتنا الجسدية الضرورية؟
أد :
من كل بد.
س :
فأصغر ما يمكن تصوره من المدن يتألف من أربعة رجال أو خمسة.
أد :
هكذا نرى.
س :
فلنتقدم في البحث. أفيعمل كل من هؤلاء الأربعة ما يلزم للجميع من منتوجه، فيعد الفلاح مثلا، وهو أحدهم، ما يحتاج إليه أربعة أشخاص من الطعام، فيقضي في إعداد طعامهم أربعة أضعاف الوقت اللازم له لإعداد طعامه، ثم يقاسم إخوانه الثلاثة منتوجه، أم أنه يهملهم ويعمل ما يسد حاجته، فيقضي ربع وقته في إعداد ربع مقدار الطعام، ويقضي الثلاثة الأرباع الباقية في إعداد مسكنه وكسوته وحذائه، ولا يتعب نفسه في مبادلة إخوانه الحاجات، بل يعمل ما يحتاج إليه بذاته لذاته؟
أد :
الأرجح يا سقراط أن التعاون أسهل من الاستقلال بالعمل.
س :
رأيك غير بعيد عن الصواب، فقد خطر على بالي على إثر كلامك أن كل اثنين غيران، وكل واحد يختلف عن غيره موهبة، ففي الواحد من الناس استعداد خاص لنوع من الأعمال، وفي غيره استعداد لعمل آخر، ألا تظن هكذا؟
أد :
أظن.
س :
فأي أنجح؟ أتوزيع قوى الفرد العقلية على أعمال عديدة؟ أم حصرها في موضوع واحد؟
أد :
الأنجح حصرها في موضوع واحد.
س :
وأراه أمرا بينا أن الإنسان إذا أهمل الفرصة السانحة للعمل فإنها لن تعود.
أد :
واضح.
س :
لأن العمل في رأيي لا ينتظر وقت فراغ العامل، بل يجب أن يلوذ بعمله بحكم الضرورة، ولا يستهتر أو يحسبه أمرا ثانويا.
أد :
ذلك واجب.
س :
فينتج مما تقدم أن كل الأشياء تكون أوفر مقدارا وأجود نوعا وأسهل إنتاجا إذا التزم العامل ما يميل إليه طبعه من الأعمال، وأتمه في وقته الخاص غير متشاغل عنه فيما سواه.
أد :
بكل تأكيد.
س :
ولكنا يا أديمنتس نحتاج إلى أكثر من أربعة رجال أو خمسة لإعداد ما ذكرنا من الحاجات؛ لأن الفلاح لا يصنع محراثه بنفسه إذا أريد به أن يكون محراثا متقنا، ولا يصنع معوله ولا غيره من آلات الحراثة، وكذلك البناء لا يمكنه أن يصنع الآلات العديدة اللازمة له، وهكذا الحائك والإسكاف.
أد :
حقيق.
س :
فيلزمنا نجارون وحدادون، وغيرهم من الصناع على أنواعهم، فيصير هؤلاء أعضاء دولتنا الصغيرة، ويؤلفون وإخوانهم شعبا.
أد :
مؤكد.
س :
على أن المدينة لا تكبر كثيرا، إذا أضفنا إلى هؤلاء رعاة المواشي ومن هم من هذا القبيل، لإمداد الفلاحين بالثيران وغيرها من الحيوانات لجر المحراث، ومواد البناء للبنائين، ونقل الجلود والأصواف للأساكفة والحاكة.
أد :
فليست إذا مدينة صغيرة وفيها كل هؤلاء.
س :
على أنه يندر اختطاط مدينة، في أي واقع كان، دون افتقارها إلى واردات.
أد :
يندر.
س :
فيلزمنا أشخاص آخرون يجلبون ما نحتاج إليه من المدن الأخرى.
أد :
يلزم.
س :
إذا ذهب المندوب فارغ اليد مما يحتاج إليه الأقوام الذين نستمد منهم ما نفتقر إليه من المواد، عاد بخفي حنين، أليس كذلك؟
أد :
هكذا أظن.
س :
فلا تقتصر المدينة على ما تستهلكه، بل يلزم أن يزيد منتوجها على استهلاكها؛ ليكون لها ما تدفعه بدل ما تستورده من الخارج.
أد :
يجب ذلك.
س :
فتحتاج مدينتنا إلى زراع وصناع أكثر مما سبق ذكره.
أد :
تحتاج.
س :
وإلى وكلاء كثيرين لتصدير البضائع وتوريدها، وهؤلاء هم التجار، أليسوا كذلك؟
أد :
بلى.
س :
فإذا نحتاج إلى تجار أيضا.
أد :
مؤكد.
س :
وإذا كانت التجارة بحرية لزمنا كثيرون غيرهم من حذاق الملاحين.
أد :
كثيرون حقا.
س :
فأخبرني: كيف يتبادل أهالي المدينة أنفسهم المنتوجات؟ فإنك عالم أنه لأجل تبادلها ألفنا الجماعة وأسسنا الدولة.
أد :
واضح أن ذلك يتم بالبيع والشراء.
س :
وهذا يؤدي إلى فتح الأسواق وتداول النقود لتسهيل المعاملات .
أد :
بالتأكيد.
س :
فإذا فرضنا أن الفلاح أو غيره من الصناع جلب بضاعته إلى السوق ولم يحضر من يبادله إياها، أفلا يلبث في السوق كل الوقت ويعطل شغله؟
أد :
من كل بد.
س :
فهنالك أناس يرقبون هذه السانحة، وقد وقفوا أنفسهم لاغتنامها، ورجال هذه الفئة في المدن الكاملة التنظيم هم على العموم هزال الأبدان، لا يصلحون لعمل آخر، وشغلهم الخاص هو الإقامة في الأسواق، يمدون من يروم بيع بضاعته بالدراهم لقاء تسلمهم إياها، وقبض الدراهم ممن يروم شراء بضاعة وتسلمها، ويستدعي ذلك وجود تجار المفرق في المدينة. أفلا ندعو المقيمين في السوق للبيع والشراء «الباعة بالمرفق»، والذين يجولون من مدينة إلى مدينة تجارا؟
أد :
بالتمام هكذا.
س :
وهناك طبقة أخرى ممن ليست لهم قوى عقلية تؤهلهم لمصاف من ذكرنا، ولكن لهم قوة بدنية تمكنهم من العمل الشاق، فيبيع هؤلاء قدرتهم البدنية ويدعون ثمنها «أجورا»، وهم يدعون «عمالا». أليسوا كذلك؟
أد :
حتما.
س :
فالعمال المأجورون هم تتمة المدينة.
أد :
هكذا أظن.
س :
أفنقول يا أديمنتوس أن مدينتنا بلغت معظم نموها؟
أد :
على الأرجح.
س :
فأين نجد العدالة والتعدي فيها؟ إلى أي العناصر الذي ذكرناها يتسربان؟
أد :
لا أدري يا سقراط، إلا إذا كان في العلاقات المتبادلة بين الأشخاص المذكورين أنفسهم.
س :
من الممكن أنك مصيب، ولكن علينا فحص المسألة دون إحجام.
فلننظر أولا في نوع الحياة التي يحياها الناس المجهزون بما ذكرناه، وأظن أنهم يجنون ذرة وخمرا ويصنعون ثيابا وأحذية، ويشيدون لأنفسهم بيوتا، ويمكنهم العمل صيفا أكثر الوقت بدون أحذية ولا أردية. أما في الشتاء فيجهزون بما يلزمهم منها، ويقتاتون بالقمح والشعير، ويصنعون خبزا وكعكا، وينشرون الخبز الجيد والكعك اللذيذ على حصر محبوكة من القش، أو على أوراق الأشجار النظيفة، ويجلسون على أسرة مصنوعة من أغصان السرو والآس، ويتمتعون بصفاء العيش مع أولادهم، راشفين الخمور، مكللين بالغار، مسبحين للآلهة، معاشرين بعضهم بعضا بسلام، ولا يلدون أكثر مما يستطيعون أن يعولوا، احتسابا من الفاقة والحرب. (فقاطعني غلوكون الكلام قائلا):
غ :
يظهر أنك حصرت ولائم صحبك بالخبز، دون إدام وتوابل.
س :
بالصواب تكلمت، فإني نسيت أنه سيكون لهم من كل بد إدام وتوابل، كالملح والزيتون والجبن والبصل والملفوف، وسنضع أمامهم الفواكه والحلويات من تين وحمص وفول، ويشوون حب الآس والجوز، ويأكلون ويشربون باعتدال، ويقضون حياتهم بصحة وهناء، ويموتون ميتة صالحة، تاركين للذراري بعدهم أساسا لحياة سعيدة كحياتهم.
غ :
ولو أنك اختططت مدينة للخنازير فماذا كنت تطعمها غير ذلك؟
س :
فكيف تريد أن يعيشوا يا غلوكون؟
غ :
عيشة مدنية، فيتكئون على الأسرة إذا لم يرضوا شظف العيش، ويأكلون عن الموائد ألوانا من الأطعمة والحلويات من الطراز الحديث.
س :
حسنا جدا، لقد فهمتك، فإننا لسنا نبحث في مجرد إنشاء مدينة، بل في كونها سعيدة رخية، ولا أرى ذلك فكرة سيئة؛ لأننا باعتبار هذا البحث قد نتبين منبت العدالة والتعدي في المدن؛ فمدينة كالتي وصفناها هي حقيقية وصحية، وإذا رمت النظر في جعلها ضخمة رفيهة فليس ثمة مانع، فإن بعض الناس لا يكتفون بالضروريات على ما مر بك وصفه، بل يرومون أيضا أن يقتنوا أسرة وموائد، وكل أنواع الرياش، مع اللحوم والطيوب والعطور والحظايا، مع الإكثار من هذه الطيبات، فلا نحصر أنفسنا في الضروري من المواد التي ذكرناها ابتداء - القوت والمسكن والكسوة والحذاء - بل يلزمنا النقش والرسم والذهب والعاج وكل متاع ثمين. ألا يلزم إحراز كل هذه الأشياء؟
غ :
يلزم.
س :
فنضطر حين ذاك إلى توسيع المدينة؛ لأن المدينة الأولى الصحية ضاقت عن وسع كل ما ذكر، واستدعى الأمر مد أطرافها، وأن تملأ بالمهن المنوعة التي لا توجد في المدن لمجرد سد الحاجات الطبيعية، مثال ذلك الصيادون وأرباب الفنون النقلية - بما فيهم من مصورين ودهانين وموسيقيين - والشعراء والمنشدون والممثلون والراقصون والقصاصون والمقاولون، وصناع الأدوات على أنواعها، وصانعو البهارج وحلي النساء، فيلزمنا عمال كثيرون، أولا نحتاج أيضا إلى المربين والمراضع والممرضات والوصائف والحلاقين والطهاة والحلوانيين؟ ونحتاج أيضا إلى رعاة الخنازير - طبقة من الناس لم نكن نحتاج إليها في مدينتنا الأولى، ولكنا نحتاج إليها في هذه - ويلزمنا أيضا كثير من المواشي لأجل من يرغبون في أكل لحومها. ألا نحتاج؟
غ :
من كل بد.
س :
أولا نحتاج في هذه الحال إلى الأطباء أكثر من ذي قبل؟
غ :
بالتأكيد.
س :
أفلا تضيق أرباض المدينة ومسارحها الآن، بعدما كانت كافية للقيام بأود سكانها الأولين؟ أنقول هذا القول؟
غ :
بالتأكيد.
س :
أفلا نضطر إلى التسطي على أصقاع جيراننا الواسعة لمد نطاق مراعينا وحقولنا، اضطرار أولئك إلى عمل المثل، إذا كنا في سعة وهم في ضنك، فيتجاوزون حدود الضروريات، ويوغلون في طلاب الثروة بغير حد؟
غ :
لا مندوحة عن ذلك يا سقراط.
س :
أفنحارب يا غلوكون؟ أو ماذا نفعل؟
غ :
كما تقول.
س :
ولنعرض في هذا الموقف من بحثنا عن الحكم بمضرة الحرب أو نفعها، مقتصرين على القول إننا قد تتبعنا أصلها ومنبتها إلى أسبابها، وهي مصدر شر الويلات التي تحل بالدولة جماعة وأفرادا.
غ :
تماما هكذا.
س :
فيلزم دولتنا إضافة أراض واسعة لكي تسع جيشا لجبا يجول ويصول لصد غارات الغزاة، والذود عن الأرزاق والنفوس التي أتينا على ذكرها.
غ :
ألا يكفي الأهالي وحدهم لذلك؟
س :
كلا؛ لأننا اتفقنا جميعا، أنت والآخرون، في تصديق الخطة التي قررناها لإنشاء الدولة، فقد سلمنا إذا كنت تذكر أنه يستحيل على الفرد أن يتم أعمالا عديدة معا.
غ :
حق.
س :
وما قولك في الحرب؟ ألا ترى أنها فن قائم بذاته؟
غ :
دون شك.
س :
أوليس لنا داع كاف للاهتمام بفن الحرب كما بفن السكافة مثلا؟
غ :
بالتمام.
س :
ولكنا شرطنا على الإسكاف أن لا يكون مزارعا ولا صانعا ولا بناء، إذا رمنا أن يتقن صنع أحذيتنا، وعلى القياس نفسه أنطنا بكل صنف من الصناع نوعا واحدا من الأعمال حسب جدارته، وأطلقنا يد كل منهم في الحرفة التي اختارها دون غيرها ليجيد صنعها واقفا حياته لها، وغير مضيع الفرص. والآن نتساءل بخصوص الحرب، أليس إتقانها من أهم المصالح؟ أوسهلة هي فيستطيع أي واحد أن ينجح فيها، ويكون في الوقت نفسه فلاحا وإسكافا وعاملا بحرفة أخرى مع الجندية ؟ مع أنه لا يمكن أحدا في الدنيا أن يبرع في ألعاب النرد والداما، إذا اقتصر على مزاولتهما ساعات الفراغ بدل اتخاذهما موضوع درس خاص منذ حداثته. أفيستطيع المرء بمجرد تقلد السيف والترس وغيرهما من أدوات الحرب أن يصير بارعا في فن الضرب والكفاح، قادرا على تمثيل دور كبير في الملاحم الكبرى، أو في غيرها من الأعمال العسكرية؟ مع أن مجرد استعمال أدوات أخرى لا يؤهله إلى إتقان الصناعة أو الرياضة دون مرانة، ولن تكون هذه الآلات مفيدة لمن لم يدرس أغراضها ويتمرس باستعمالها.
غ :
إذا كان الأمر هكذا فآلات حربية كهذه ثمينة جدا.
س :
وقياسا على كون إدارة المدينة أهم الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الحكام، يلزم أن يتفرغوا لها وأن يعيروها انتباها وحكمة فائقين.
غ :
هكذا أرى تماما.
س :
أولا تستلزم أيضا صفات فطرية تتناسب مع هذا العمل الخاص؟
غ :
بلى، دون شك.
س :
فواضح أنه علينا، إن أمكن، اختيار الأوصاف الخاصة التي تؤهل أربابها لإدارة الدولة.
غ :
علينا أن نفعل ذلك.
س :
وأؤكد لك أننا أخذنا على عاتقنا عملا ليس طفيفا، على أننا لن ننكص ما دام فينا رمق من الحياة.
غ :
لن ننكص.
س :
أوتظن أنه يوجد فرق بين كلب أصيل وبين شاب شجاع، باعتبار الصفات اللازمة للحراسة؟
غ :
لم أفهم.
س :
أقول إنه يلزم كليهما أن يكون نبيها في اكتشاف العدو، وثابا في ميدانه، بطاشا في نضاله إذا التحما.
غ :
حقا إن كل هذه الأوصاف لازمة.
س :
فيجب أن يكونا شجاعين يحسنان النضال.
غ :
دون شك.
س :
أويخفى عليك شأن الحماسة التي لا تقهر، وبما تبثه في نفس صاحبها يكون كل مخلوق غير هياب في اقتحام الأخطار؟
غ :
قد أدركت ذلك.
س :
فقد عرفنا المزايا الجسدية اللازمة في حاكمنا.
غ :
عرفنا ذلك.
س :
وعرفنا أيضا المزايا العقلية التي تضرم فيه روح الهمة.
غ :
نعم.
س :
وإذا كانت هذه أوصافهم يا غلوكون، أفيحظر عليهم أن يكونوا شرسين بعضهم مع بعض ومع بقية الأهالي؟
غ :
يحظر.
س :
فمن الضروري أن يكونوا ودعاء مع أصحابهم، شداد الشكائم مع الأعداء فقط، ولا ينتظروا هلاك العدو بيد غيرهم، بل يكونوا السابقين إلى القضاء عليه بأيديهم.
غ :
حقيق.
س :
فماذا نعمل؟ أين نجد خلقا حماسيا ووديعا معا؟ لأن الوداعة تنافي الحماسة على ما أرى.
غ :
واضح أنها كذلك.
س :
وإذا تجرد المرء من إحدى هاتين الصفتين، الوداعة والحماسة، لم يصلح للحكم. ولما كان اجتماع الضدين محالا، فالحاكم الكامل غير موجود.
غ :
هكذا يظهر. (وبعد الذهول هنيهة، وترديد الفكر فيما تقدم من البحث قلت):
س :
حقا يا صديقي إننا ذهلنا؛ إذ شط بنا المزار عن المثال الذي وضعناه أمامنا.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
ألم يطرق سمعنا أنه توجد طباع تجمع بين هاتين المزيتين المتضادتين، وقد توهمنا عدم وجودها؟
غ :
وأين يجتمع الضدان؟
س :
ترى ذلك في كثير من الحيوانات، ولا سيما في الحيوان الذي اتخذناه مثالا لحكامنا، فإني أثق أنك تعرف أن صفة الكلب الطبيعية إذا تربى تربية حسنة أن يكون غاية في الوداعة والرقة مع أصحابه ومعارفه، وعلى الضد من ذلك مع الغرباء.
غ :
أعرف ذلك بالتحقيق.
س :
فذلك من الممكنات، ولسنا بمعاكسين الطبيعة، إذا أوجبنا هذا الخلق في حاكمنا.
غ :
هكذا يظهر.
س :
أوأنت من الرأي القائل إنه يجب أن يكون حاكمنا فلسفي النزعة مع حماسته، ليكون أهلا لمنصب الحكم؟
غ :
وكيف ذلك؟ فإني لم أفهم.
س :
صفة أخرى تلاحظها في الكلب، وهي أمر عجيب في الحيوان.
غ :
وما هي؟
س :
حين يرى إنسانا غريبا يثور غضبه عليه ولو لم يلق منه إساءة، ولكنه إذا لقي من يعرفه أبدى الدعة والتحبب ولو لم يلق منه معاملة حسنة. ألا تتعجب من ذلك؟
غ :
لا ريب في ذلك، على أني لم أنتبه له قبلا.
س :
وهذه الفطرة حكيمة جدا في الكلب، وهي ظاهرة فلسفية حقيقية.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
تعليقه الصداقة والعداء على مجرد معرفته هذا وجهله ذاك، أفليس ذلك كناية عن محبة المعرفة في الكلب؟ فجعلها أساس الألفة، وجعل عدمها أساس الجفاء ؟
غ :
إنه محب المعرفة.
س :
أوليست محبة المعرفة ميلا فلسفيا؟
غ :
بلى.
س :
ألا نقول واثقين أيضا في أمر الإنسان إنه إذا أبدى الوداعة لذويه ومعارفهم كان ولا بد ذا ميل للمعرفة والفلسفة؟
غ :
فليكن ذلك.
س :
فالحاكم الكفؤ في عرفنا، الذي تعد مواهبه بمسيره نحو الكمال، فلسفي النزعة، عظيم الحماسة، سريع التنفيذ، شديد المرأس.
غ :
دون شك.
س :
هذه هي أوصاف الحكام الفطرية، فكيف نربيهم ونهذبهم؟ وهل في تتبعنا هذا البحث شيء من المساعدة لنا في فهم غرضنا الخاص في كل هذه الأبحاث؟ أعني معرفة نشوء العدالة والتعدي في الدولة، لكي لا يفوتنا قسم من البحث، ولا نشغل أنفسنا بما لا طائل تحته؟ (هنا قال أديمتنس أخو غلوكون):
أد :
حسنا، أنا أرى ذلك جزيل المساعدة لنا في استجلاء موضوعنا.
س :
حقا يا عزيزي أديمنتس، إنه إذا كان الأمر هكذا وجب ألا نغفل البحث ولو كان مطولا.
أد :
حقا لا نغفله.
س :
فلنصف كيفية تهذيب هؤلاء الرجال، كما يفعل القصاصون الكسالى في محادثاتهم.
أد :
فلنصفها.
س :
فماذا يجب أن يكون تهذيبهم؟ ربما يشق علينا أن نجد تهذيبا أفضل مما جلاه الاختبار، وهو مؤلف - على ما أتيقن - من الجمناستك للجسد، والموسيقى للعقل.
أد :
يشق.
س :
أفلا تؤثر الابتداء بتهذيبهم بالموسيقى على الابتداء بالجمناستك؟
أد :
دون شك نؤثر ذلك.
س :
أوتدرج في الموسيقى القصص أو لا؟
أد :
أدرجه.
س :
وهنالك نوعان من القصص؛ حقيقي ووهمي.
أد :
نعم.
س :
فنهذب تلاميذنا بالنوعين، ولكنا نبدأ بالوهمي.
أد :
لم أفهم ماذا تعني.
س :
ألا تفهم أننا نبدأ بالقصص الوهمية في تعليم الأطفال؟ ويقال إجمالا في هذا النوع من القصص أنه وهمي، لكن مغزاه حقيقي، فنلقن الأحداث الأساطير قبلما نمرنهم بالجمناستك.
أد :
حقيق.
س :
ذلك ما عنيته بقولي: «تقديم الموسيقى على الجمناستك.»
أد :
إنك مصيب.
س :
أولا تعلم أن البداءة في كل شيء هي على أعظم جانب من الخطورة، ولا سيما فيما هو متصف بالحداثة واللين؛ لكونه في أوفق الأوقات لسهولة طبع ما يراد طبعه عليه ؟
أد :
حتما هكذا.
س :
أفنأذن لأولادنا أن يسمعوا كل أنواع الأساطير من أي شاعر كان بلا استثناء، وأن يقبلوا في قلوبهم آراء تتنافى مع ما يجب أن يرعوه متى بلغوا رشدهم؟
أد :
لا نأذن بذلك بوجه من الوجوه.
س :
فأول واجب علينا هو السيطرة على ملفقي الخرافات، واختيار أجملها ونبذ ما سواه، ثم نوعز إلى الأمهات والمرضعات أن يقصصن ما اخترناه من تلك الخرافات على الأطفال، وأن يكيفن بها عقولهم أكثر مما يكيفن أجسادهم بأيديهن. ويجب أن نرفض القسم الأكبر مما يملى عليهم من الخرافات في هذه الأيام.
أد :
وأيها تعني؟
س :
يجب أن نتبين أصغر الأساطير من أكبرها؛ لأن شكلها واحد، وكلها كبيرة وصغيرة واحدة الصيغة والأثر. ألا تظن هكذا؟
أد :
بلى، على أني لم أفهم ما تعني «بالأكبر»؟
س :
أعني ما رواه هسيودس وهوميرس وغيرهما من الشعراء، فقد نظموا روايات خيالية للبشر ونشروها في الملأ، وما زالت تملى على الأسماع.
أد :
وأيها تعني؟ وماذا تجد فيها من الخطأ؟
س :
الخطأ المستوجب أكبر وأثقل دينونة، ولا سيما في الأسطورة عديمة الجمال.
أد :
وما هو ذلك الخطأ؟
س :
هو تمثيل المؤلف صفات الآلهة والأبطال تمثيلا مشوها، فهو كالمصور الذي لا يشبه رسمه ما صوره من الأشياء.
أد :
يحق لك أن تلومهم على ذلك، فزدني إيضاحا واضرب مثلا.
س :
أولا اختلاق الشاعر قصة قبيحة فيها أشنع كذب في أهم المواضيع، كما أخبرنا هسيودس
8
ما صنع أورانوس، وأن كرونس انتقم منه. وكذلك ما روى عن كرونس،
9
فإن كانت فعال كرونس ومعاملة ابنه له حقائق بينة، لا أرى من الحكمة أن تتلى على السذج والأطفال دون أي تحفظ، بل بالعكس أرى أنه يجب حذفها بتاتا، وإذا مست الحاجة إلى تلاوتها فلتتل سرا، وعلى أقل عدد ممكن من الناس، وليس بعد تضحية خنزير،
10
بل بعد ذبح عظيم مقدس، فلا يسمعها إلا القليلون.
أد :
حقا، إنها أساطير ردية.
س :
نعم ردية؛ ولذلك يا أديمنتس لا يجوز أن تتلى في مدينتنا، ولا نقولن لسامعنا الفتى أنه لم يجن نكرا إذا ارتكب شر الموبقات، أو إذا عاقب والده على جرائمه بأبلغ صنوف الهوان؛ لأنه لم يفعل إلا ما فعله كبار الآلهة قبله.
أد :
أؤكد لك أني أوافقك كل الموافقة في أن قصصا كهذه غير لائقة.
س :
وكذلك القول إن الآلهة تشهر حربا بعضها على بعض، وتكيد، وتتقاتل؛ فلا يناسب أن تقال مثل هذه الترهات في حال من الأحوال؛ لأنها غير صحيحة، وإذا كان حكام دولتنا يحسبون التباغض والنزاع فيما بينهم، لأسباب تافهة، أمرا خسيسا، فإنه أمر أكثر خساسة وعيبا أخبار منازعات الأبطال، والضغائن المنسوبة إليهم، والتحام القتال بين الأبطال والآلهة، وبين أقاربهم وذويهم، واتخاذها موضوع نسج الأساطير وتزويق القصص. وإذا كان في الإمكان إقناعهم أنه عيب وحرام أن يبغض المتمدين أخاه أو يحاربه؛ لأن ذلك عمل غير مقدس ولا يرتكبه أحد أبناء الآلهة، فتلك هي الصيغة التي بها يجب أن تتلى على أسماع أولادنا في زمن الحداثة، بألسنة الشيوخ والشيخات، وهذا هو القيد الذي يجب أن يتقيد به الشعراء في صوغ منظوماتهم. أما أخبار الإلاهة هيرا التي قيدها ابنها بالقيود وكبلها بالأغلال، وقصة طرد هيفاستس من السماء لأنه حاول إنجاد والدته لما كان والده يجلدها، وكل حروب الآلهة التي رواها هوميرس؛ يجب حظرها في دولتنا، سواء صيغت في قالب الحقيقة أو في قالب المجاز؛ لأن الطفل لا يميز بين الحقيقة والمجاز، فيطبع في عقله ما سمعه في هذا السن، ويرسخ في نفسه حتى يتعسر نزعه، وغالبا يتعذر؛ ولهذه الأسباب أرى أنه يجب كل الاحتراس فيما يسمعه الأحداث؛ لئلا يكون في صيغة لا تلائم ترقية الفضيلة.
أد :
ولذلك سبب كاف، فإذا سئلنا ما هي الأساطير والقصص التي يوافق أن يلقنوها، فبماذا نجيب؟
س :
يا عزيزي أديمنتس، لا أنت ولا أنا في موقف شعراء، بل في موقف مؤسسي دولة، ويجب أن يعرف مؤسسو الدولة الصيغة التي يجب على الشعراء أن يصوغوا بها أساطيرهم، ويحظروا عليهم تجاوز حدودها. على أن المؤسسين غير ملزمين أن ينظموا لهم الأساطير.
أد :
أنت مصيب ، ولكني أستعمل كلماتك نفسها، فأقول: ماذا يجب أن تكون تلك الصيغ في اللاهوت؟
س :
أرى أن تكون كما يلي: يوصف الله في كل حال على ما هو في ذاته، سواء كان ذلك في الشعر القصصي أو الغنائي أو الروائي. هذا هو الحق.
أد :
نعم، إنه حق.
س :
فمن المؤكد أن الله صالح، ويجب وصفه بالصلاح والحق الذي فيه.
أد :
لا شك في ذلك.
س :
جيدا، ولا شيء من الصالح ضار. أيكون ضارا؟
أد :
لا أظن.
س :
وما ليس بضار هل يصنع ضررا؟
أد :
كلا البتة.
س :
ومن لا يضر هل يصنع شرا؟
أد :
أجيب كما سبق، لا.
س :
ومن لا يصنع شرا لا يسبب شيئا من الشرور؟
أد :
وكيف يمكن أن يسبب شرا؟
س :
حسنا، وهل الصالح نافع؟
أد :
نعم.
س :
فهو إذا علة الخير.
أد :
نعم.
س :
فليس الصالح علة كل شيء إنما هو كما هو الواجب بريء من ابتداع الشر.
أد :
بالتمام.
س :
وإذا كان الأمر كذلك، فالله على قدر ما هو صالح لا يمكن أن يكون علة كل الأشياء كما هو الشائع، بل على الضد، هو علة القليل من أحوال الناس، وليس هو علة القسم الأكبر منها؛ لأن شرورنا تفوق خيراتنا عددا، فلا نسند الخيرات إلى غيره، بل نفتش عن علة الشرور في غيره لا فيه.
أد :
يظهر لي أن هذا هو الحق الصراح.
س :
فيجب أن نبدي إنكارنا تعدي هوميرس أو غيره من الشعراء على حقوق الله بقوله:
11
على باب رب العرش حوضان فيهما
نرى البر والآثام كلا بتربة
وقد مزج الآنام من كل عنصر
لذلك كان الله أصل الخطية
فطورا ينيل المرء خيرا ونعمة
وطورا يوافيه بأثقل لعنة
أما الإنسان الذي ليس في جبلته هذا المزج، بل جبل من عنصر واحد فقال فيه:
يتيه بأرباض السعادات في الدنى
بجوع وعري وابتئاس ومحنة
ولسنا نقبل ما يأتي:
وقد وزع الآلاء والشر في الملا
إله تسامى فوق هذي البرية
وإذا زعم أحد أن زفس وأثينا نكثا العهود والمواثيق
12
التي وضعها بنداروس فلا نوليه استحسانا، ولا نأذن أن يقال إن طاميس وزفس أثارا النزاع واستعمال القوة بين الآلهة.
13
ولا نأذن للشبيبة أن تصغي إلى القول المنسوب لأخلس:
14
وإذا أراد الله قلب أمة
أنبت شرا وشقاقا بينها
وإذا نظم أحد الشعراء آلام نيوب كما فعل أخلس في الرواية التي اقتبست منها هذا البيت، أو كارثات بيت نيوب، ونكبات طروادة، أو ما هو من هذا النوع، فعليه إما أن يبحث عن الباعث له تعالى على ذلك، أو أن الذين تألموا فلخيرهم ومنفعتهم كان ألمهم. ولكنا لا نسمح لشاعر أن يقول إن الله سبب العقاب الذي آل إلى شقاء عبده، كلا، ولكن إذا كان يقول: لأن الأشرار تاعسون لزم أن يتألموا، وأن الله أحسن إليهم بأنه آلمهم لأجل خيرهم، فلا نعارض في ذلك. أما الادعاء أن الإله الصالح علة شر كائن من الناس فهو قول يجب أن نحاربه بما أوتينا من قوة؛ لأن المبدأ الذي تتضمنه أسطورة كهذه شعرا أو نثرا لا يقال ولا يسمع في المدينة، ولا يبيحه من يروم خير الدولة وارتقاءها، شيخا كان أو فتى؛ لأنها أقوال تنافي طهارة الحياة، وهي ضارة ومتناقضة.
15
أد :
أثني على اقتراحك سن هذا القانون، فإنه يسرني.
س :
فأولى الشرائع الإلهية التي نوجب على خطبائنا ومؤلفينا أن يطبقوا خطبهم وتآليفهم عليها، هي أن الله تعالى صانع الخير ليس إلا.
أد :
ولقد أقمت الدليل القاطع على صحتها.
س :
وثاني تلك الشرائع الجديرة بالاعتبار:
أتظن أن الله تعالى «مشعوذ» فيظهر بمختلف المظاهر في مختلف الأغراض؟ فتارة يظهر في شكل ما، ثم يغير شكله ويتخذ صورة جديدة، وآونة يخدعنا ويقودنا إلى الاعتقاد بأن تلك الصور حقيقية، أفتسلم بذلك؟ أوترى أن الله جوهر بسيط، فلا يتكيف ولا يخرج عن المظهر اللائق بذاته؟
أد :
لا أقدر أن أجيب فورا.
س :
فأجبني عما يأتي: إذا تغير كائن عن شكله العادي، أفليس بالضرورة أن ذلك التغير قد حصل حتما بفعله هو أو بتأثير كائن آخر؟
أد :
حتما.
س :
أوليس أفضل الأشياء في الوجود أقلها قبولا للتغير بتأثير خارجي، كتغير الجسم بالطعام والشراب والإجهاد، وكتغير النبات بحرارة الشمس والرياح والعواصف ونحوها من العوامل؟ أوليست التأثيرات على أضعفها في أقوى الأجسام وأصحها؟
أد :
بلى دون شك.
س :
ومن جهة العقل: أليست الاضطرابات الخارجية أقل تأثيرا في العقل الأوفر شجاعة وحكمة؟
أد :
بلى.
س :
ويصح هذا القول في كل مصنوع، من أثاث وبيوت وثياب، فأمتنها صنعا أقلها تغيرا بتأثيرات الزمان وغيره من العوامل.
أد :
هذا هو الواقع.
س :
فكل ما هو في حال حسنة باعتبار الطبيعة أو باعتبار الفن أو باعتبار كليهما هو أقل تعرضا للتغير بتأثير غيره فيه.
أد :
هكذا يظهر.
س :
فالله والأشياء المختصة بالألوهية هي في أفضل الحالات وأكملها.
أد :
دون شك.
س :
فهو تعالى أقل الأشياء تغيرا وتبدلا بفعل المؤثرات الخارجية.
أد :
نعم أقلها.
س :
أفيغير تعالى ذاته بذاته؟
أد :
الأمر واضح أنه إذا كان تغيره تعالى ممكنا فهو الفاعل في ذلك التغير.
س :
أفإلى مثل أفضل وأجمل يغير الله ذاته؟ أم إلى مثل أقل جمالا وصلاحا مما هو؟
أد :
لو كان تغيره تعالى ممكنا فلا يمكن أن يكون ذلك التغير إلا إلى مثل أدنى؛ لأننا لا نقدر أن نقول بوجه من الوجوه أن فيه تعالى شيئا من النقص جمالا وسموا.
س :
أصبت، وإذا تقرر ذلك أفتظن يا أديمنتس أن عاقلا، إلها كان أو إنسانا، يختار تغيير نفسه إلى ما هو أدنى؟
أد :
مستحيل.
س :
فمستحيل إذا أن يرضى الله بأن يغير نفسه، بل إن كل إله على قدر ما هو فائق جمالا وسموا يرغب في استمرار جماله وسموه، بدون تغيير مظاهره.
أد :
وأظن أن هذا الاستدلال ضروري.
س :
فلا ندعن شاعرا - أيها الوقور أديمنتس - يقول فيه تعالى ما ورد في هذا البيت:
يغير شكله في كل حين
كسفار يجول بكل أرض
16
ولا نسمح لأحد أن يكذب بروتيوس وثاطيس، ولا أن يصف الإلاهة هيرا في المآسي أو في غيرها من الأشعار أنها تنكرت في شكل كاهنة:
تجول جامعة إحسان ذي سعة
لكي تعول بني أرجيف عن سغب
17
ولا ندعن أحدا يملي على المسامع أكاذيب كهذه، ولا يجوز أن تقوي الأمهات ضلالات الشعراء، فيروعن أولادهن بقصص وهمية، منها أن الآلهة تتجول ليلا في شكل غرباء في كل بلد:
بزي السائحين بكل قطر
بمختلف المظاهر والمجالي
لئلا تكون قصصهن قذفا بالآلهة، فيغرسن في قلوب صغارهن الخوف والجبانة.
أد :
فلنحظر ذلك.
س :
ولكن الآلهة مع كونها عديمة التغير في ذاتها قد تغرينا بالسحر والخديعة، لتحملنا على الاعتقاد بأنها تتلون في مظاهرها؟
أد :
قد تفعل الآلهة ذلك.
س :
أفتظن أن إلها يكذب قولا أو فعلا، فيضع مثلا شبحا نصب عيوننا؟
أد :
لا أؤكد ذلك.
س :
ألا تؤكد أن الكذب الصريح إذا جاز استعمال هذا الاصطلاح مكروه من الله والناس؟
أد :
لا أدري ما تعنيه.
س :
لا أحد يقدم باختياره على استخدام أسمى ما فيه للخديعة، في أسمى مطالب الحياة، بل بالضد، كل واحد يحذر تسرب الخديعة إلى ذلك القسم كل الحذر.
أد :
لم أفهم مرادك.
س :
لأنك تتصور أني أتكلم في الغوامض والأسرار، بينما أنا أقول بكل بساطة أن الكذب أو كون المرء فريسة الكذب وخلو عقله من المعرفة في ما هو من أثبت اليقينيات، أن يسكت عن تسرب الكذب إلى نفسه، هو أبعد ما يرضاه عاقل؛ لأن كل الناس يكرهون الباطل في النفس كل الكره.
أد :
كرها شديدا.
س :
حسنا، ولكن كما كنت أتكلم الساعة، أن هذا ما يدعى بأكثر تدقيق كذبا صريحا، أي جهلا مستقرا في عقل الرجل المخدوع؛ لأن الكذب باللسان هو من نوع التقليد، وتجسيم ما كان مصورا في عقله وليس كذبا صراحا، أفمخطئ أنا؟
أد :
لا، بل أنت غاية في الإصابة.
س :
فالكذب الصريح ممقوت من الآلهة ومن الناس أيضا.
أد :
هكذا أظن.
س :
فلنعد إلى المسألة ثانية، متى تظن أن الكذب مفيد؟ ولمن يكون كذلك؟ أي متى لا يكون مكروها؟ أيكون كذلك حين استعماله ضد الأعداء؟ أو حين يكون الأصحاب في خطر الإضرار بأنفسهم وهم في حال جنون أو نزق من أي نوع كان؟ أفلا يحسب الكذب حين ذاك مفيدا كعلاج لتحويلهم عن عزمهم؟ وفي الأساطير التي نحن في صددها، ولا ندري حقيقتها القديمة، أليس الكذب مفيدا لأنه يقربنا إلى الحقيقة؟
أد :
إنه كذلك تماما.
س :
ففي أي هذه الأحوال يكون الكذب مفيدا لله؟ أفيكذب في حكم تقريبي لأنه لا يعلم ما في القدم؟
أد :
ذلك سخيف.
س :
فليس في الله مجال لكذب الشعراء.
أد :
لا أظن.
س :
أفيكذب تعالى خوفا من أعدائه؟
أد :
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
س :
أو تنازلا لجنون أصفيائه وحماقتهم؟
أد :
لا مجنون ولا أحمق صفي للآلهة.
س :
فلا باعث في الآلهة للكذب.
أد :
لا باعث.
س :
فطبيعة الآلهة وما مثلها من الطبائع على كل حال خالية من آثار الكذب.
أد :
كل الخلو.
س :
فالله تعالى كلي النقاوة والحق في القول والفعل، فلا يغير ذاته ولا يخدع الآخرين، لا بالرؤى ولا بالكلام، ولا بالظواهر الخادعة، في يقظة ولا في منام.
أد :
حقا إنه يبدو لي هكذا، بعد أن قلت ما قلت.
س :
أفتوافقني إذا في أن المبدأ الثاني الواجب اتباعه في ما نقوله أو ننظمه في الآلهة هو أنها لا تتلون تلون المشعوذين، ولا تضلنا بالكذب لا قولا ولا فعلا.
أد :
أوافقك.
س :
فوإن أجزنا أشياء كثيرة في أشعار هوميرس فلا نجيز الحلم الذي ألقاه زفس على أغممنون،
18
ولا قول أسخيلس
19
الذي عزاه إلى ثاطيس تصف به إنشاد أبولون في زفافها:
بعد الولادة قامت
ذات البها بالصفاء
غنى أبولو ولاحت
فيه مجالي الهناء
أنت ملاذي وفخري
ومنيتي ورجائي
وبالشفاء حياة
قدسية اللأواء
قد كان قبلا عدوا
واليوم رب ولائي
أراش سهما فأصمى
بنبله كبريائي
فاغتال مهجة قلبي
توغلا بالعداء
واليوم صار قريني
وفيه طاب ثنائي
فحين يستعمل لغة كهذه في وصف الآلهة نغضب منه ولا نأذن له باعتلاء المسرح،
20
ولا نأذن لمعلمينا أن يستعملوا كتاباته في تهذيب الأحداث، إذا كنا نروم أن يكون حكامنا أنقياء روحيين خائفي الآلهة، على قدر ما يتاح للإنسان.
أد :
إني أوافقك في تأييد هذه المبادئ، وسأدرجها في الدستور.
الكتاب الثالث: دستور المدينة
خلاصته (تتمة ما ورد في خلاصة الكتاب الثاني في تهذيب الفتيان المعدين للحكم)
ولا يجوز تشجيع مخاوف الموت في قلوبهم بإخبارهم أن الحياة في العالم الآتي مظلمة، ولا تمثيل صفات أكابر الرجال لبصرهم وسمعهم بصورة محقرة أو مضحكة أو دنية، بل يجب أن تكون الشجاعة والحق وضبط النفس لحمة كل القصص المستعملة في تهذيبهم وسداها، وفي المقام الثاني: أن الصورة التي بها تزف القصص إلى عقولهم تؤثر في طبيعة نفوذها أعظم تأثير، فيجب أن يكون قرض الشعر إما تمثيليا صرفا كما في الرواية، أو قصصيا صرفا كما في خمرية باخس، أو مركبا من النوعين كما في الشعر القصصي. ولا يمكن الشخص الواحد أن يعمل أو يجيد تمثيل أشياء كثيرة، فمن ثم إن أتيح لهم درس التمثيل فليقتصروا على تمثيل رجال الصفات السامية المحترمة. والنسق الذي يستعمله أناس هذه الطبقة في الإلقاء وفي التأليف بسيط فعال، يندر أن يتلبس بالتمثيل، فهذا هو النسق الذي يجب أن يؤذن للحكام بأن يستعملوه في إلقائهم والذي يتبعه الشعراء القائمون على تهذيبهم، ويجب أن يسن لهم نظام شديد التدقيق في الأغاني والألحان والآلات الموسيقية، فلا يسلم لأمة كاملة آلات موسيقية تنشئ فيها الرخاوة وثبط العزائم، فيحظر عليهم كل الآلات الموسيقية إلا العود والقيثارة والزمر، ويحظر عليهم أيضا كل الألحان المركبة، والبسيط من هذه هو المباح لهم، وغرض كل هذه القوانين هو أن يتربى ويرتقي في عقول التلاميذ الشعور بالجمال والاتساق والاتزان، وهي صفات تؤثر في سجيتهم وفي علاقاتهم المتبادلة.
وبعد ما بحث سقراط بحثه السابق في الموسيقى الإغريقية، تقدم للنظر في الجمناستيك فقال: يجب أن يكون طعام الحكام بسيطا ومعتدلا وصحيا، وذلك يغنيهم عن الاستشارة الطبية إلا في أحوال استثنائية، وقد نخطئ في هذا الموقف إذا اعتبرنا أن نسبة الجمناستك للجسد هي نفس نسبة الموسيقى للعقل، ويجب القول إن الجمناستك يراد لترقية العنصر الحماسي في طبيعتنا، كما تراد الموسيقى لترقية العنصر الفلسفي، وأقصى أغراض التهذيب إعداد هذين العنصرين ومزجهما معا على نسبة عادلة متزنة.
هذا ما يقال في شأن تهذيب الحكام وتدريبهم، فمن هذه الطبقة العالية يجب انتقاء القضاة، ويلزم أن يكونوا من أكبر أعضاء الجسم الاجتماعي سنا، وأوفرهم فطنة، وأعظمهم جدارة، وأعرقهم وطنية، وأقلهم أنانية، هؤلاء هم الحكام الحقيقيون، والذين دونهم يسمون: مساعدين. ولكي نقنع الأمة بعدالة هذه الأنظمة وحكمتها ينبغي لنا أن نقص عليهم القصة التالية، وهي: أنهم كلهم قد نسجوا أولا في أحشاء الأرض، أمهم الكبرى، وقد سرت الآلهة أن تمزج بجبلة بعضهم ذهبا، وفي جبلة بعضهم الآخر فضة، وفي غيرهم نحاسا وحديدا، فالفئة الأولى: هم الحكام، والثانية: المساعدون، والثالثة: الفلاحون والصناع، ويجب رعاية هذا القانون وتخليده، وإلا حل بالدولة الدمار.
وأخيرا، يجب وقف محلة في المدينة لهؤلاء الحكام ومساعديهم، يعيشون فيها عيشة شظف وتقتير، ساكنين الخيام لا البيوت، معتمدين على تبرعات الأهالي. وأخيرا يجب أن لا يمتلكوا ملكا خاصا، وإلا انقلبوا ذئابا بدل كونهم كلابا حارسة.
متن الكتاب
قال سقراط: فهذه الأشياء وأمثالها هي ما يقال وما لا يقال في الآلهة على مسامع الجميع، منذ الحداثة فصاعدا، ممن يتوقع أن يكرموا الآلهة والوالدين، ولا يزدرون حقوق الصداقة والوداد.
أديمنتس :
نعم، وأظن أن آراءنا صائبة.
س :
فإذا كنا نروم أن ينشأ شبابنا على الشجاعة والبطولة، أفلا يجب أن نضيف إلى ذلك دروسا تحررهم من مخاوف الموت؟ أوتظن أنه يمكن أن يكون أحد شجاعا ما دامت المخاوف مستولية عليه؟
أد :
حقا إني لا أتصور إمكان ذلك.
س :
أوتظن أن من يؤمن بوجود «هادز» وأهوالها يمكنه أن يعيش حرا من مخاوف الموت؟ فيؤثره في ساحة القتال على هون الانكسار وذل الأسر؟
أد :
كلا البتة.
س :
فيتحتم علينا أن نسيطر على الذين أخذوا على عاتقهم تلفيق هذه الأساطير وأمثالها، فنلحف عليهم أن لا يشنعوا بوصف العالم الآخر تشنيعا فظيعا، بل يحسنوا فيه المقال؛ لأن ذلك غير مفيد ولا صحيح، ولا يوافق الذين سيكونون جنودا.
أد :
ذلك واجب علينا بالطبع .
ص :
فلنلغ هذه الأبيات وكل ما ماثلها، ومنها:
فأرى استعباد نفسي
لفقير في الأنام
1
هو خير من عروش
في أعاميق الظلام
وهذا:
ويكره الله دارا خص بالميت
حيث المخاوف زادت وحشة البيت
2
وهذا:
يا لهول الموت في داجي اللحود
حيث أمسي دون بشر أو سعود
3
وهذا:
يستمر المرء فردا
في قتام وقيود
4
ما له خل صفي
في مخيفات اللحود
وهذا:
فتترك النفس مغنى الجسم في كرب
وتسكن الرمس أدهارا بلا أمل
5
تبكي مصيبتها في دار محنتها
إذ بت شرخ صباها أقتل العلل
وهذا:
ونفسي كالدخان بلا سكون
تروعها مخيفات المنون
6
وهذا:
تصيح أرواحهم في دار محشرهم
كأنها سرب في موضع عال
7
يود كل جناحا يستعين بها
على النجاة ولكن ساء من فال
ونرجو أن لا يسوء هوميرس ولا غيره من الشعراء حذفنا هذه الأبيات وأمثالها؛ لأننا نحذفها لا إنكارا لشاعريتها ورغبة الكثيرين في سمع تلاوتها، بل قياسا على ما فيها من الشاعرية، نحظر سمعها على الكبار وعلى الصغار، الذين يجب أن يظلوا أحرارا، وعندهم الموت ولا ذل الاستعباد.
أد :
فلنحظرنها.
س :
ويجب أن نحذف كل الأسماء المخيفة المرجفة المتعلقة بهذه الموضوعات، مثل كوكيتوس، وستيكس، والزبانية، وتمزيق الأوصال، وكل الألفاظ المصوغة في هذا القالب؛ لأنها تروع سامعيها وتهز أعصابهم. قد تصلح ألفاظ كهذه لمقصد آخر، أما حكامنا فنخشى أن يصيروا فاتري العزم مخنثين فوق الحد.
أد :
وليس خوفنا هذا بدون أساس.
س :
أفنحذف هذه الاصطلاحات؟
أد :
نعم نحذفها.
س :
أويجب أن يكون الكلام والكتابة على عكس هذه الصيغة؟
أد :
ذلك واضح.
س :
ونحذف أيضا عويل مشاهير الأبطال وندبهم.
أد :
ذلك ضروري أيضا إذا حذفنا ما قبله.
س :
وتأمل في هل نصيب أو نخطئ في حذفه، والذي نتوخاه هو أن الرجل الصالح لا يحسب موت صديقه الصالح فاجعة.
أد :
نتوخى ذلك.
س :
فهو لا يندب شخصا كهذا كأن الخطب به جلل.
أد :
لا يندب.
س :
ونقول إن رجلا كهذا له في نفسه أوفر نصيب من كل ما هو ضروري لسعادة الحياة، ويختلف عن باقي الناس باستقلاله الخاص عن المصادر الخارجية.
أد :
حقا.
س :
فهو أقل الناس ذعرا لفقد ابن، أو أخ، أو ثروة، وما شاكل.
أد :
حقا.
س :
فهو أقلهم ندبا وعويلا، ويهون عليه تحمل الخطوب بوداعة وصبر.
أد :
بالتمام هكذا.
س :
فيحسن بنا أن نلغي ما عزى من الندب إلى مشاهير الرجال وفضلائهم ونعزوه للنساء، ولأدنى طبقات الرجال، فيربأ المرشحون للحكم بأنفسهم أن يكونوا نادبين على هذه الصورة الشائنة.
أد :
يحسن بنا أن نصنع هكذا.
س :
وثانيا: نطلب إلى هوميرس وغيره من الشعراء أن لا يصفوا أخلس ابن الإلاهة أنه:
قد غدا يبكي وحيدا
خوف أهوال اللحود
8
باضطجاع وانكباب
وقيام وقعود
ولا أنه:
فيذري بيديه حزنا
من رماد النار فوق رأسه
9
ولا أنه أوغل في العويل كغيره من الضعفاء كما نسب إليه هوميرس، ولا ننسب إلى بريامس سليل الآلهة أنه كان ينغمس بالأرجاس:
داعيا كل شجاع
باسمه كي ينجدوه
10
ونلحف على الشعراء بالأكثر أنهم مهما يكن من أمر فلا يصفوا الآلهة أنهم:
ويلنا مما ولدنا
فاق بالشر الجميع
11
ونرجوهم أنهم إذا لم يوقروا الآلهة كافة إلى هذا الحد، فعلى الأقل لا يصوروا أسماها صورة لا تليق بجلالة قدرها، كالقول:
دار محبوبي بأسوار البلاد
وأراني شر ما راع العباد
12
والقول:
ويح قلبي قد ردى بتروكلو
سر بدونا خير من حل الفؤاد
13
لأنه يا عزيزي أديمنتس إذا أصغى شبابنا إصغاء جديا إلى أقوال كهذه ولم يهزءوا بها كأوصاف سخيفة، ندر أن يحترم أحد منهم نفسه كرجل، مترفعا عن إتيان نظيرها قولا أو فعلا، متى توافر الداعي إليها، فيتمادى إذا لم يردعه الحزم أو الحياء في النواح والعويل لأصغر مصيبة.
أد :
كلامك غاية في الصواب.
س :
وذلك ينكر عليه كما تعلمنا من بحثنا الحالي، وسنحرص عليه إلى أن يقنعنا أحد بما هو أفضل منه.
أد :
حقا إنه ينكر عليه.
س :
ولا يجوز لحكامنا أن يغربوا في الضحك؛ لأن استسلام الإنسان للضحك المفرط يعقبه رد فعل عنيف.
أد :
هكذا أظن.
س :
فإذا مثل شاعر كبار الرجال مغربين في الضحك، أبدينا الأنفة من ذلك، وبالأحرى جدا إذا وصف الآلهة به.
أد :
بالأحرى، نعم.
س :
فلا نأذن لهوميروس أن يقول في الآلهة:
علت ضجاتهم بالضحك لما
رأوا هيفست يخمع كالظليع
14
لأنه جريا على مبادئك لا يجوز استعمال لهجة كهذه.
أد :
إذا شئت أن تحسبها مبادئ فلا شك في أنه لا يجوز.
س :
ويجب الاحتفاظ بقدر الصدق؛ لأنه إذا كنا قد أصبنا في ما قررناه وكان الكذب عديم النفع للآلهة وانحصرت فائدته في الناس كعلاج، فواضح أنه ينبغي حصر وسيلة كهذه في أيدي الأطباء، ولا يتدخل بها غيرهم من العامة.
أد :
واضح.
س :
فإن جاز الكذب لأحد فللحكام فقط في مخادعة الأعداء، أو في إقناع الأهالي بما هو لخير الدولة، ولا يباح لأحد الاشتراك معهم في هذا الامتياز، بل نحسب كذب الناس في ما يضير الدولة مساويا على أقل تقدير كذب العليل على طبيبه، والتلميذ على مدربه في أمر صحته، وكذب الملاح على ربانه في ما يتعلق بحال السفينة وبحارتها، ووصف حاله أو وصف حال رفقائه.
أد :
غاية في الإصابة.
س :
فإذا وجدت الحكومة كاذبا في المدينة:
من جماعات الأطبا
أو أساطين الفنون
15
أنبياء أو رغام
ساء ما يبتدعون
وجب أن تعاقبه؛ لأنه أحل بالأمة من عوامل الدمار ما يضارع تعطيل سفينة.
أد :
نعم، إذا كان الفعل يتلو القول.
س :
أولا يفتقر شبابنا إلى العفاف؟
أد :
دون ريب.
س :
أولا يدرج تحت الرصانة بمنطوقها العام المبادئ الآتية؛ أولا: إطاعة الحكام، ثانيا: قمع اللذات التي تستلزم استرسالهم في الطعام والشراب والهوى؟
أد :
هكذا أرى.
س :
نخص بالاستحسان من كل أقوال هوميرس ما رواه ديوميدس:
اسمعوا قولي صحبي
بهدوء ووقار
16
وقال في البيت التالي:
أظهر اليونان بأسا
طوع قواد كبار
وما ماثل ذلك من الأقوال.
أد :
نستحسنها.
س :
ولكن أيمكننا استحسان لهجة كهذه؟
يا شاربا مثل كلب والغ قلق
وقلبه كغزال في الورى شردا
17
وكل ما يتلو هذا البيت من التقريع شعرا ونثرا، إذ وجهه العامة نحو حكامهم.
أد :
كلا ، لا يمكننا استحسانها.
س :
فإني أظن أن سمعها لا يرقي صفة الرزانة في الشباب، وإذا أنشأت فيهم مسرات جمة فلا عجب. أهذا رأيك؟
أد :
هذا هو.
س :
فإذا صور أحكم الرجال، يتلو ما يحسبه أبهى منظر في الدنيا بقوله:
كثرة الخبز مع اللحم
ووفرة الشراب
18
حولها الولدان تملا
من دنانها القعاب
أفتظن أن هذه الأقوال تؤدي بالشاب إلى ضبط النفس؟ وكذلك القول التالي:
ساء حظ المرء حظا
حينما يهلك جوعا
19
وما قولك في وصف زفس وقد ثارت فيه الشهوة الجنسية فذهل عما سواها، وظل ساهرا وجميع الآلهة والناس نيام، فخلبت لبه رؤية الإلاهة هيرا، حتى خانه الصبر فلم ينتظر دخولها البيت، قائلا إنه قد تملكه الهيام تملكا أشد منه حين اجتمعا لأول مرة:
في خفية عن عيون الوالدين كما
يخفى اللصوص بأكناف الفراديس
وما قولك في مباغتة هيفاستس
20
الحبيبين أريس وأفروديت في مثل هذا الحال، فكبلهما بالأصفاد؟
أد :
وذمتي أن قصصا كهذه لهي أدنى من أن تقال.
س :
أما أفعال الشجاعة التي تتحمل كل أنواع المحن المنسوبة إلى آحاد الرجال بالأفعال والأقوال، فإليها نصغي وبها نفكر، كالبيت التالي مثلا:
قرع الصدر بعنف قائلا
احتمل يا قلب ما جنيته
21
أد :
من كل بد.
س :
ولا نسمح لأحد رجالنا أن يقبض رشوة أو يكون محبا للمال.
أد :
كلا بالتأكيد.
س :
ولا ننشدهم بيتا كهذا:
تربح الرشوة قلب الآلهة
وملوك الأرض أرباب الجلال
22
ولا نمدح فينكس مهذب أخلس، أو نجيز القول إنه كان حكيما بمشورته
23
عليه أن يساعد الإخائيين إذا قدموا له هدايا، وأن لا يخمد غضبه حتى يتسلم المال، ولا نصدق ولا نسمح أن يقال إن أخلس جشع، حتى إنه قبل هدايا أغممنون، وأنه لم يسلم الجثث دون فدية.
أد :
ليس من الصواب إباحة قصص كهذه.
س :
ولا يؤخرني إلا احترامي هوميرس عن القول: أن إسناد مثل هذه الأشياء إلى أخلس خطية عظيمة، كذلك تصديقها إذا رويت، أو تصديق القول إن أخلس قال لأبلو:
قد دهاني طعنكم يا ذا الإله
فقت أجناد الأعالي ضررا
24
ليتني أملك أقصى قوة
لانتقام فيه أقضي الوطرا
أو أنه أبدى شكاسة نحو نهر أرجيف
25
الذي هو إله، حتى إنه هب لنضاله وأنه أبدى سماجة أخرى لنهر سبرخس قائلا:
إنني أهدم هاتيك السدود
فتلاقي بتركولو في اللحود
26
وذلك حين كان الجبار بتركولو صريعا، وأنه فعل ما قال (هدم السدود).
وكذلك الروايات المتعلقة بجره جثة هكتور حول ضريح بتركولو،
27
ولا نصدق ذبح الأسرى في مأتم الجنازة.
ولا ندع شبابنا يعتقدون أن أخلس سليل إلاهة وبيليوس - الأمير الحصيف المحسوب ثالث زفس - وقد هذبه شيرون الكلي الحكمة، ينشأ فيه تشويش معيب، فتتفشى في نفسه علتان متضادتان، هما: الطمع تدنيا، واحتقار الناس والآلهة غطرسة.
أد :
إنك مصيب.
س :
فلا نقبلنها فيما بعد، ولا نسمح أن يقال إن ثيوس بن بوسيدون وبيريثوس بن زفس يرتكبان اغتصابا كهذا، ولا أن أحد أبناء الآلهة الأبطال يقدم على فعال خسيسة، كالتي أشاعوها عنهم كذبا في هذا الزمان. فلنوجب على شعرائنا إما أن ينفوا عن أولئك السامين ما نسبوه إليهم من الأعمال، أو أن يقولوا إنهم ليسوا أبناء الآلهة، والأفضل أن يعرضوا عن هذه وتلك، فلا يؤلهوهم ولا يذموهم، وأن يعرضوا عن تعليم أولادنا أن الآلهة ولدت الشرور، وأن الأبطال ليسوا أفضل من الناس، وقد أسلفنا أنه يستحيل أن يصدر مثل ذلك من الآلهة، وأن هذه الأمور سفيهة وكاذبة.
أد :
لا شك في أننا أسلفنا ذلك.
س :
زد على ذلك أن هذا الكلام يخدش آذان سامعيه، ويحمل الناس على الاستباحة حين يرون أن هذه الأشياء كان يمارسها حتى المقربون من الله، الذين:
من ذراري زفس قد تسلسلوا
وبهم روح الأعالي تلمح
والألي في رأي إيدا قد بني
لأبيهم زفس نعم المذبح
28
فنستأصل أساطير كهذه لئلا تنشئ في ناشئتنا ميلا عظيما إلى الشر.
أد :
أوافقك في ذلك كل الموافقة.
س :
فأي نوع من البحث بقي علينا، في ما يباح وما يحظر من الأساطير؟ فقد ذكرنا القوانين الواجبة مراعاتها في الكلام في الآلهة، والجبابرة، والأبطال، وأرواح الموتى؟
أد :
ذكرنا ذلك.
س :
فالباقي يختص بصيغة الكلام في الناس. أليس كذلك؟
أد :
واضح.
س :
لكنه يتعذر علينا أيها العزيز إنجاز ذلك في الدور الحالي من بحثنا.
أد :
وكيف ذلك؟
س :
لأني أرى أن الشعراء والناثرين سيان، خطلا في الكلام في أهم المصالح البشر، كقولهم إن أكثر الناس سعداء حال كونهم غير عادلين، وإن العادلين تاعسون، وإن فعل الشر يفيد فاعله كثيرا إذا خفي أمره، وإن العدالة تفيد الغير وتضر فاعلها. فنحظر هذه الأقوال، وما لا يحصى من أمثالها، ونأمر جميع الكتاب أن يعربوا عن نقيض هذه المعاني في أغانيهم وفي أساطيرهم. ألا تظن كذلك؟
أد :
لا بل أؤكده.
س :
فإذا كنت تسلم أني مصيب فيه أفلا يجوز لي أن أؤكد أنك سلمت معي في الفرض الذي هو موضوع بحثنا؟
أد :
فرضك صحيح.
س :
أفلا يجب أن نؤجل أمر الاتفاق اللازم اعتباره في الكلام في الناس، لكي نكتشف أولا طبيعة العدالة الحقيقية، ونبرهن على أنها مفيدة لصاحبها، عرف عادلا أو لا؟
أد :
إنك مصيب كل الإصابة.
س :
فلنحتم إذا البحث في الأقاصيص.
وخطوتنا الثانية على ظني: هي فحص الصيغة اللازمة لها، وإذا تسنى لنا ذلك وجهنا كل التفاتنا إلى ما يقال والصيغة التي بها يقال.
أد :
لم أفهم ماذا تعني بذلك.
س :
ومن المهم أن تفهم، قد تفهم أكثر إذا أنا أفرغته في هذا القالب: أليس كل ما أملاه الشعراء أو كتاب الأساطير أقاصيص عن الماضي والحاضر والمستقبل؟
أد :
وماذا يكون غير ذلك؟
س :
أولم يوردها مؤلفوها بصورة القصص أو بصورة التمثيل أو بالصورتين معا؟
أد :
وهذا أيضا يجب أن أفهمه أتم فهم.
س :
يظهر أني معلم عي؛ ولذا أتقدم لشرح كلامي كمن يعوزه البيان، ولا أتناول موضوع البحث إجمالا، بل أقتصر على وجهة خاصة منه، وأجهد في جعل كلامي واضحا لك، فقل: أتعرف مطلع الإلياذة؛ حيث يقول الشاعر: «فرجا كريسس أغممنون أن يطلق سراح ابنته، فغضب أغممنون عليه، فلما رأى كريسس أن طلبه قد رفض سأل إلهه أن ينتقم له من الإخائيين»؟
أد :
أعرفه.
س :
فتعرف إذا ما تقدم هذا البيت: فدعا على كل الإخائيين، لكن خصص ابني أثريوس القائدين.
مع أن الشاعر نفسه هو المتكلم، ولم يورد أقل إشارة لإفهامنا أن المتكلم شخص آخر غيره، لكنه في ما تلا يتكلم بلسان كريسس، وقد بذل الجهد ليحملنا على الاعتقاد أن ليس هوميرس المتكلم، بل الكاهن العجوز.
وعلى هذه الصورة نظم تقريبا كل وقائع طروادة وأثكا، وكل كارثات الأودسي.
أد :
هذا أكيد.
س :
فهي قصص. أليس كذلك؟ سواء كان الشاعر يروي خطبا تاريخية أو يصف الحوادث المتوالية. أد: لا شك في أنها قصص.
س :
ولكن إذا تكلم بلسان رجل آخر ألا نقول إنه في كل موقف كهذا يقصد أن يمثل الشخص الذي كان يتكلم بلسانه أقرب تمثيل؟
أد :
نقول دون شك.
س :
ولكن حين يتكلم أحد بلسان غيره، ويبدي أعظم مماثلة له في نغمته وإشاراته، ألا نقول إن ذلك تمثيل؟
أد :
لا شك في أنه تمثيل.
س :
فإذا لم يخف الشاعر نفسه كل الإخفاء لم يكن شعره أو قصته تمثيلا، ولئلا تقول إنك لم تفهم أيضا أفيدك: لو أن هوميرس تكلم بلسانه لا بلسان كريسس، بعد ما قال كيف التمس كريسس من اليونانيين - وخاصة من ملوكهم - أن يطلقوا سراح ابنيه، وهو يحمل إليهم فديتها، لكان كلامه قصصا لا تمثيلا، ولكانت الحكاية هكذا (إني أوردها نثرا لأني لست بشاعر):
فجاء الكاهن وتضرع إلى الآلهة، أن يفتح اليونان طروادة ويعودوا سالمين إذا أطلقوا ابنته وقبضوا الفدية خائفين الله، فعندها شملت الرهبة جميعهم، ومالوا إلى إعطائه سؤله، على أن أغممنون امتعض، وأمره أن ينصرف حالا ولا يعود لئلا ينثلم صولجانه ويذوي إكليل الغار المقدس، فإنه لن يرد له ابنته حتى يدركها الهرم عنده في أرغس، فليبرح وليكف عن إزعاجه إذا أراد أن يغنم سلامته. فخاف الشيخ لما سمع ذلك وانصرف صامتا، ولما خرج من المحلة رفع تضرعات حارة لأبلو متوسلا بأسماء الله الحسني ومواعيده الكريمة أن يستجيب له دعاءه بأن ينتقم منهم لدموعه بقوته الإلهية ، قال ذلك وأطلق سهمه في الهواء نحوهم، رمزا لحلول النقمة عليهم.
فذلك قصص بسيط أيها الصديق، لا تمثيل.
أد :
فهمت.
س :
أريدك أن تفهم أيضا أنه قد يعكس الحال وتحذف كلمات الراوي - الشاعر - الواردة بين أقسام الكلام، بحيث لا تبقى إلا واقعات الحادثة.
أد :
فهمت، والمأساة هي من هذا النوع.
س :
أصبت ظنا، وأظن أني أقدر أن أوضح لك الآن ما لم أقدر أن أوضحه قبلا، وهو أنه في الشعر كما في الأساطير ثلاثة أقسام: أحدهما تمثيلي كالمأساة والكوميديا، والآخر رواية الشاعر نفسه رواية بسيطة، وتجد هذا النوع بالأكثر في خمريات باخس، والثالث يجمع بين هذين النوعين: القصصي والتمثيلي، وهو يلاحظ في الشعر القصصي وكثير من أمثاله إذا كنت قد فهمتني.
أد :
الآن فهمت تماما ما عنيته بإشارتك السالفة.
س :
فاذكر ما قلناه سابقا، وفيه المسألة المتعلقة بمادة الإنشاء. بقي علينا النظر في أسلوبه.
أد :
إني أذكر.
س :
وهذا ما عنيته بالضبط: أنه حتم علينا أن نتفق في هل نأذن لشعرائنا أن يوردوا قصصهم تمثيلا كليا أو جزئيا (وما هو المقياس الذي يتبعونه إذا جاز لهم التمثيل)؟ أو أنه لا يجوز لهم التمثيل مطلقا؟
أد :
أظن أنك تفكر في: هل نبيح المأساة والكوميديا في مدينتنا؟
س :
ذلك ممكن، وقد ينظر في قضايا أخرى عدا المأساة والكوميديا. حقا إني ما زلت مترددا، ولكن علينا أن نستسلم للبحث استسلام السفينة للرياح الهابة.
أد :
إنك مصيب تماما.
س :
فإليك مسألة تنظر فيها يا أديمنتس: أيحسن بحكامنا أن يمثلوا أم لا؟ أوترى أنه يلزم عن أبحاثنا السالفة أن يختص الإنسان بنوع واحد من الأعمال لا أكثر، وأنه إذا حاول ذلك فاشتغل بأمور عديدة معا فشل فيها كلها، ولم يبلغ أربا ولا بواحد منها؟
أد :
لا شك في أن هذا هو الواقع.
س :
ألا يتمشى هذا الحكم نفسه على فن التمثيل؟ أي هل يمكن الفرد الواحد أن يجيد أنواعا عديدة من التمثيل، كما يجيد النوع الواحد منه؟
أد :
مؤكد أنه لا يمكنه.
س :
فمن أندر الأمور أن من يشغل منصبا مهما يتمكن معه من التمثيل على أنواعه، فيكون ممثلا بارعا مع عمل منصبه؛ لأنه حتى في نوعي التمثيل: المأساة والكوميديا، وهما لصيقان، لا يمكن الفرد الواحد أن يبرع، كما في تأليف المأساة والكوميديا، وقد صرحت الآن أن النوعين تمثيل، ألم تصرح؟
أد :
بلى.
س :
وبحق نقول إن الإنسان لا يمكنه أن يجمع بين النوعين معا، ولا يمكن الإنسان أن يكون راويا في الشعر القصصي وممثلا معا.
أد :
حقيق.
س :
بل إنه لا يمكن الممثل الواحد أن يمثل المأساة والمهزلة معا، مع أن كليهما تمثيل. أليسا تمثيلا؟
أد :
إنهما تمثيل.
س :
وأرى يا صديقي أديمنتس، أن الطبع الإنساني يذهب في تقسيم الأعمال إلى أبعد من ذلك، فلا يمكن أن يحسن المرء تمثيل أشياء عديدة معا، أو يقوم بما يرمز إليه التمثيل من الأعمال المنوعة.
أد :
بكل تأكيد.
س :
فإذا أصررنا على رأينا الأول، وهو أنه يجب إعفاء حكامنا من كل مهنة أخرى غير الحكم ليمكنهم أن يبلغوا أعلى مراتب الحذق في إحراز حرية الدولة، غير متعاطين إلا ما يؤدي إلى هذه النتيجة، فلا يرغب في أن يمثلوا أو يمارسوا أي عمل آخر، وإن عرض لهم أن يمثلوا فليمثلوا منذ حداثتهم ما ينطبق على مهنتهم، كتمثيل الرجل الشجاع الرزين المتدين الشريف وأمثاله. ولا يمارسوا أو يمثلوا الدناءة وكل أنواع السفالات؛ لئلا يلصق بنفوسهم ما مثلوه فيصير لهم سجية، أولا تدري أن التمثيل يتمكن في النفس بتأثير الإشارات، ونغمة الصوت، وطرائق الفكر، إذا مارسوه منذ الحداثة، فيصير عادة فيهم كطبيعة ثانية؟
أد :
أدري بالتأكيد.
س :
فلا نأذن لمن صرحنا أننا نهتم بهم ونرغب في صيرورتهم صالحين، أن يمثلوا وهم رجال واحدة من النساء، صبية كانت أو عجوزا، في حال مهاترتها الرجل أو تبجحها لدى الآلهة اعتدادا ببرها، ولا في نوائبها وأحزانها وشكواها، ولا نأذن لهم أن يمثلوا مريضا أو عاشقا أو عاملا.
أد :
هكذا بالتمام.
س :
ولا يؤذن لهم أن يمثلوا عبيدا، ذكورا أو إناثا في حال ممارستهم ما تقضي به العبودية.
أد :
كلا، لا يجوز لهم.
س :
ولا يمثلوا أسافل الناس كالجبناء، والذين سلوكهم على العموم ضد ما ذكرناه الساعة، كشتمهم بعضهم بعضا، وتحقيرهم أحدهم الآخر ببذيء الكلام، صاحين كانوا أو سكارى، في حال اقترافهم إحدى هذه الإساءات ضد الآخرين، أو بعضهم ضد بعضهم، مما يجعل الرجال مجرمين قولا أو فعلا، وأرى أنه لا يجوز أن تبيح لهم أن يمثلوا المجانين في عملهم وكلامهم؛ لأنه وإن جاز لهم أن يعرفوا المجانين فلا يجوز لهم أن يعملوا أعمالهم ولا أن يمثلوها.
أد :
بكل تأكيد.
ص :
وهل يمثلون الحدادين وغيرهم من الصناع كالمجذفين بالسفن، أو رؤسائهم أو ما هو من هذا النوع؟
أد :
غير ممكن، ولا نسمح لهم بالالتفات إلى هذه المهن.
س :
وهل يمثلون صهيل الخيل، أو جئير الثيران، أو خرير الأنهار، أو قصف الرعود، أو هدير البحار، ونحو ذلك من الظاهرات؟
أد :
كلا، فقد حظرنا عليهم الجنون وتقليد المجانين.
س :
فإذا كنت قد فهمت كلامك فهنالك أسلوب خاص من القصص، يختاره الرجل الشريف الحلو الشمائل إذا لزم أن يقص أي قصص، وهناك أسلوب ضده يلوذ به من كان على خلاف هذه السجايا في طبعه وتهذيبه.
أد :
وما ذانك النوعان؟
س :
أولهما: إذا بلغ الرجل الحسن الخلق في قصصه كلام الصالحين أو فعالهم تلاها عن رغبة دون خجل؛ لأنه يؤثر أن يمثل الرجل الصالح إذا اقترن ذلك التمثيل بالرصانة والتعقل، ولكنه حين يمثل رجلا اختل اتزانه لمرض أو عشق أو سكر مثله بأقل رغبة. ومتى بلغ في تمثيله ما لا يليق بكرامته فإنه يخجل من تمثيله، عوض الظهور بمظهر من هم دونه، إلا إذا كان التمثيل قصير المدى؛ لأنه متصف بالصلاح، ولأنه لم يألف مثل هذا النوع من التمثيل، أو لأنه لدى إمعان الفكرة ينفر من التبذل والتداني، على منوال السفلة، إلا إذا كان على سبيل التسلية.
أد :
وذلك ما ينتظر منه.
س :
أفلا يستعمل الأسلوب القصصي الذي ذكرناه في كلامنا السابق لما أشرنا إلى أشعار هوميرس؟ فيشتمل أسلوبه على الشعر الذي يجمع بين التمثيلي والقصصي العادي، وقلما يرد النوع الأول في سياق كلامه المطول. أفمخطئ أنا في كلامي؟
أد :
كلا، بل قد أبنت بمزيد التدقيق الصيغة الواجب اتباعها في قصص كهذا.
س :
ومن الجهة الأخرى، إن الإنسان الذي يختلف سجية عمن ذكرنا لا يجنح إلى حذف شيء من قصصه كلما زاد خساسة، ولا يترفع عن شيء مهما يسفل، فيمثل كل شيء بمزيد الجد، حتى على مرأى الكثيرين من الناس، بلا استثناء شيء مما ذكر آنفا، كقصف الرعود، ودمدمة العواصف، وتساقط البرد، وقعقعة العجلات، وأصوات الزمور، وكل آلات العزف، وعواء الكلاب، ومعاء الأغنام، وتغريد الطيور. فإما أن يكون كل همه تقليد الأصوات والملامح المقترنة بها، أو يقتصر على مزجها بالقليل من القصص.
أد :
بالضرورة القصوى.
س :
فهذان هما الأسلوبان اللذان عنيتهما.
أد :
حقا إنه يوجد هذان الأسلوبان.
س :
وهل ترى التنوعات الحاصلة في أحدهما طفيفة؟ وإذا طبقت اللحن والإيقاع على الأسلوب فقد يمكن في الإلقاء الصحيح أن تبتدئ بدون تعديل في الأسلوب، وفي نغم واحد - لأن التنوعات غير مهمة - وإيقاع واحد أيضا.
أد :
هذا هو الواقع حتما.
س :
أولا يستلزم الأسلوب الآخر كل أنواع الألحان والإيقاع إذا أريد إلقاؤه إلقاء لائقا، لكثرة ما فيه من التنوعات؟
أد :
يستلزم.
س :
وهل يستعمل جميع الشعراء والقصاصين أحد هذين الأسلوبين أو واحدا مؤلفا من كليهما؟
أد :
يلزم أن يستعملوا أحد هذين.
س :
فماذا نعمل؟ أنقبل في مدينتنا كل هذه الصور؟ أم نقتصر على إحداها؟ أعني: البسيطة أو المركبة؟
أد :
إذا كان رأيي مقبولا فأرى أن نختار الصور البسيطة التي تمثل الرجل الصالح.
س :
ولكن الصورة المركبة جذابة يا أديمنتس، ولا سيما للأطفال، ومن هم في حكم الأطفال، والسوقة، وذلك غير ما آثرته.
أد :
حقيق.
س :
ولكن قد تقول إنه لا يلائم طبيعة دولتنا؛ لأنه ليس فينا رجل متعدد المنازع، لاقتصار كل واحد على نوع خاص من العمل.
أد :
أنت مصيب أنه لا يلائم.
س :
أفلا نرى في دولتنا لهذا السبب دون غيرها من الدول، أن الإسكاف إسكاف فقط، وليس هو ربانا مع السكافة؟ والزارع زارع فقط، وليس قاضيا مع زراعته؟ والجندي جندي فقط وليس تاجرا مع جنديته؟ وهكذا بقية الصناع.
أد :
هذا حقيق.
س :
فإذا عرض أن مر بدولتنا إنسان بارع، قادر أن يتلبس بكل مظهر، وأراد إعلان مواهبه ونتائج أدبه بيننا، فإننا نبدي نحوه كل احترام كإنسان مقدس معتبر فتان، فنخبره أن لا يقطن مدينتنا شخص نظيره، وأن قانوننا المدني قاض بإقصاء من كان على شاكلته، فنرسله إلى بلد آخر بعد أن نسكب على رأسه الأدهان والطيوب، ونزين رأسه بعمامة صوفية بيضاء دليل الإكرام، ونستخدم بدلا منه شاعرا بسيطا ميثولوجيا أقل فتنة وأكثر ترصنا، فيفرغ قصصه في القالب الذي وصفناه في مستهل حديثنا حين تكلمنا في ما يتعلق بتهذيب جنودنا.
أد :
هكذا نفعل إذا كان الأمر راجعا إلينا.
س :
يظهر يا صديقي العزيز أننا قد أنجزنا البحث في القسم الموسيقي المختص بالوهميات وغيرها من القصص، فقررنا ما يجوز أن يقال وكيف يجب أن يقال.
أد :
هكذا أظن.
س :
فموضوعنا التالي في الأغاني والألحان. أليس كذلك؟
أد :
الأمر واضح.
س :
أفيعسر على أحد اكتشاف ما يجب أن نقول فيها وفي صفتها إذا رمنا الاعتصام بما سبق فقررناه؟
غلوكون (ضاحكا) :
أخاف يا سقراط أني لا أدخل تحت كلمة «أحد»، أي إنني لا أقدر الساعة أن أبلغ نتيجة مرضية في ما هي الأنواع التي نعتمدها؛ لأني على شيء من الريبة.
س :
أظنك على كل حال قادرا أن تعلم أن النشيد مؤلف من ثلاثة أركان: هي الألفاظ، واللحن، والإيقاع.
29
غ :
نعم، إني أقدر أن أؤكد ذلك.
س :
لا تختلف الألفاظ الغنائية عن غيرها من الألفاظ في شيء، باعتبار أنها منظومة في نفس الأساليب التي رسمناها.
غ :
دون شك.
س :
وتسلم أن اللحن والإيقاع يجب أن يلائما الألفاظ.
غ :
دون شك.
س :
وقد أسلفنا أن لا محل للندب والتذمر في المنظومات.
غ :
لا محل.
س :
فما هي الألحان الشجية؟ قل فإنك موسيقي.
غ :
هي الليدي المركب، والهيبر ليدي، وما ضارعهما.
س :
تلك ألحان يجب نبذها لأنها باطلة، لا تليق بالنساء فضلا عن الرجال.
غ :
أكيد.
س :
وأنت مسلم أن السكر والتخنث والكسل أقل الأشياء لياقة بحكامنا.
غ :
لا شك في ذلك.
س :
فما هي الألحان الأنثوية المطربة؟
غ :
هي الأيوني والليدي اللذان ندعوهما: اللحنين «الرخوين».
س :
أفتستعمل هذين اللحنين يا صديقي في تهذيب رجال الحرب؟
غ :
كلا، فإذا لم أكن مخطئا فلم يبق لك إلا اللحن الدوري، والفريحي.
س :
أنا لا أعرف الألحان، ولكن اترك لي اللحن الخاص الذي يمثل رنة صوت الجندي الشجاع وهديره في حملة حربية وفي اقتحام شديد الخطر، حيث يضع الجندي روحه في كفه إذا يئس من الفوز أو إذا أصيب بالجراح وقارب الموت أو نزلت به أية كارثة، تراه في كل هذه الملمات يدفع نوازل القدر بعزيمة لا تخور. واترك لي أيضا لحنا آخر، يعلن شعور رجل منهمك في شغل غير عنيف، بل هادئ لا إكراه فيه، فقد يكون إقناعا وتوسلا أو ابتهالا لله، أو تعليما وإرشادا، وقد يكون تقبل الابتهال أو الإرشاد أو الاقتناع من آخر، ويلي ذلك فوزه بالمرام، فلا يتصرف بغطرسة، بل يعمل في كل هذه الأحوال بترصن واعتدال، راضيا ما يأتي عليه، فاترك لي هذين اللحنين، المثير والهادئ، اللذين يمثلان بأبدع أسلوب حالي الرجل في الشدة وفي الرخاء، في الشجاعة وفي الهدوء.
غ :
إنك تحتم علي أن أترك لك ما ذكرته الساعة من الألحان.
س :
لسنا نحتاج في أناشيدنا وألحاننا إلى أوتار كثيرة.
غ :
كلا كما أثق.
س :
فلا نعبأ بصانعي العود والسنطير، وغيرهما من الآلات الكثيرة الأوتار، التي تعطي ألحانا متنوعة.
غ :
كلا.
س :
وهل تقبل في دولتك صانعي الناي والعازفين بها؟ وهل تراني مصيبا في قولي إنها أكثر أصواتا من كل آلة موسيقية، وأن «البنهرمونيوم» ليس إلا تقليد الناي؟
غ :
واضح أنك مصيب.
س :
بقي العود والقيثارة، وهما ذات فائدة في المدينة، أما في الأرياف فيستعمل الرعاة نوعا من القصب.
غ :
هذا هو مؤدى البحث في أقل تقدير.
س :
فلا بدع يا صديقي إذا آثرنا أبلو وآلاته على مارسياس وآلاته.
غ :
لا بدع في ذلك.
س :
أقسم أننا على غفلة منا نظفنا المدينة التي قلنا الساعة إنها في حال أعظم رفاهية.
غ :
وبحكمة فعلنا.
س :
فدعنا إذا نكمل التنظيف؛ فالأمر الثاني بعد الألحان هو قانون الإيقاع، مما يوجب علينا ألا نتبع كثرة الأنواع منها، أو أن ندرس كل الحركات دون تمييز، بل يجب أن نلاحظ الإيقاع الطبيعي الملائم حياة الرجولة المتزنة، ومتى اكتشفنا هذا وجب تطبيق التفعيل والنغم على شعور حياة كهذه، لا ذلك الشعور على التفعيل والنغم. ولكن ما هو هذا الإيقاع؟ هذا هو شغلك؛ لأنك ملحن.
غ :
كلا وذمتي لا أقدر أن أقول. أجل إني أستطيع أن أقول بناء على سابق ملاحظاتي واختباري: إنه توجد أربعة أصوات إليها ترجع كل الألحان، ولكن أي نوع من الإيقاع يعبر عن أي حال من أحوال الحياة؟ ذلك ما لا أعلمه.
س :
حسنا، فنستدعي دمون للمشورة في هذه المسألة، فيهدينا إلى أنواع الإيقاع التي تنفق مع الدناءة والسفاهة والجنون، ونحوها من الرذائل، والتي تتفق مع أضداد هذه الأوصاف. وأظن أني سمعته يذكر ثلاثة أنواع منها: هي إيقاع حربي مركب، وإيقاع عروضي، وآخر بطولي، ولا أدري كيف رتبها ليبين أن التفاعيل يوازن بعضها البعض الآخر في ارتفاعها وفي انخفاضها بحلها إلى مقاطع طويلة أو قصيرة، وسمى بعضها «رجزا» وبعضها «خفيفا»، واضعا لبعضها علامات طويلة أو قصيرة، ويستهجن في بعضها سير التفعيل أو يستحسنه، وكذلك يفعل بالإيقاع، وربما يدمج الاثنين في حكم واحد، وحكمي في ذلك ليس قاطعا، فلنترك هذه المسائل كما أسلفت لحكم دمون؛ لأن تسويتها تستلزم بحثا مستفيضا. أتخالفني في ذلك؟
غ :
كلا، لا أخالفك.
س :
على أنك في أقل الدرجات تقدر أن تقرر هذه المسألة، وهي أن الإجادة والركاكة ترافقان صحة الإيقاع أو فساده.
غ :
ذلك أكيد.
س :
وأما صحة الإيقاع وفساده فينتجان عن حسن الأسلوب أو قبحه، ويتمشى الحكم نفسه على اللحن الصحيح أو الفاسد، أي إن الإيقاع واللحن يطاوعان الألفاظ، إلا أن الألفاظ لا تطاوعهما.
غ :
يطاوعان الألفاظ.
س :
وما قولك في الأسلوب والألفاظ؟ ألا تعينهما نزعة النفس الأدبية؟
غ :
طبعا تعينهما.
س :
وهل يعين الأسلوب بقية الأشياء؟
غ :
نعم.
س :
فحسن البيان وصحة الوزن والجزالة والإيقاع كافة تتوقف على الطبيعة الصالحة، ولا أقصد بها السذاجة التي مجاملة ندعوها طبيعة صالحة، بل أقصد بها العقل السليم سلامة حقيقية، تجلت سلامته في السجية الأدبية الشريفة.
غ :
حتما هكذا.
س :
أفلا يجب أن يتصف شباننا بهذه الخلال في كل حال إذا كنا نروم أن يتموا عملهم الخاص؟
غ :
بلى، يجب أن يتصفوا بها.
س :
وأظن أن هذه المزايا تدخل إلى حد بعيد في فن النقش، وفي كل الفنون التي تحاكيه كالحياكة والتطريز والبناء، والصنائع المنوعة بمختلف الآلات، بل في بناء الأجسام الحية وكل أنواع النبات؛ لأن للرشاقة والمعاظلة دخلا في كل هذه الأوساط. وفقدان الجزالة والإيقاع واللحن حليف الأسلوب الفاسد والخلق الرديء. أما وجودها فحليف الخلق الحميد، أي الشجاعة والرزانة وإعلان له.
غ :
مصيب كل الإصابة.
س :
وإذا الحال هكذا، أفنحصر أنفسنا في مراقبة شعرائنا، فنوجب عليهم أن يطبعوا منظوماتهم بطابع الخلق الحميد وإلا فلا ينظموا؟ أو نوسع نطاق مراقبتنا فتشمل أساتذة كل فن، فنحظر عليهم أن يطبعوا أعمالهم بطابع الوهن والفساد والسفالة والسماجة، سواء في ذلك رسوم المخلوقات الحية، أو الأبنية، أو أي نوع آخر من المصنوعات، ومن لا يستطيع غير ذلك فننهاه عن العمل في مدينتنا؟ لكي لا ينشأ حكامنا في وسط صور الرذيلة نشوء الماشية في مراع ردية، فتتسرب الأضرار إلى نفوسهم فتفسدها بما تلتهم يوما فيوما من الأقوات من مختلف المواقع، فيتجمع في نفوسهم مقدار وافر من الشر وهم لا يشعرون. وعلى الضد من ذلك، أولا يجب علينا أن نستدعي فنيين من طراز آخر، فيتمكنون بقوة عبقريتهم من اكتشاف أثر الجودة والجمال، فينشأ شبابنا بينهم كما في موقع صحي، يتشربون الصلاح من كل مربع تنبعث منه آي الفنون، فتؤثر في بصرهم وسمعهم كنسمات هابة من مناطق صحية، فتحملهم منذ حداثتهم دون أن يشعروا على محبة جمال العقل الحقيقي والتمثل له ومطاوعة أحكامه.
غ :
إن ثقافة كهذه هي أفضل الثقافات.
س :
أفلهذا يا غلوكون نعزو إلى تهذيب الموسيقى شأنا خارقا؟ فإن الإيقاع واللحن يستقران في أعماق النفس ويتأصلان فيها، فيبثان فيها ما صحباه من الجمال، فيجعلان الإنسان حلو الشمائل إذا حسنت ثقافته، وإلا كان الحال بالعكس، ومن حسنت ثقافته الموسيقية فله نظر ثاقب في تبين هفوات الفن وفساد الطبيعة، فيفندها ويمقتها مقتا شديدا، ويهوى الموضوعات الجميلة ويفتح لها أبواب قلبه فيتغذى بها، فينشأ شريفا صالحا، وإذا كان منه ذلك وهو بعد فتى دون سن الرشاد قبلما يبرز في تلك الأمور حكما عقليا، فإنه متى بلغ رشده يزداد ولعا بها عن معرفة؛ إذ تربى عليها وألفها.
غ :
لا أرتاب في أن هذه هي أغراض التهذيب الموسيقي.
س :
ولست تجهل أننا في تعلمنا القراءة لا نحسب أننا قد أتقناها حتى نحيط علما بالحروف التي منها تتألف الكلمات، فلا نحتقر تلك الحروف ولا نهملها في كلمة كبيرة أو صغيرة، كأنها شيء لا يستحق الالتفات إليه، بل نبذل الجهد في تمييزها حيث ثقفناها، موقنين أنه يستحيل علينا أن نحسن التعلم ما لم يكن هذا ديدننا.
غ :
حق.
س :
أوليس حقا أيضا أننا لا نتمكن من تبين صور الحروف معكوسة عن مرآة صقيلة، أو عن سطح ماء ساكن، ما لم نعرف أولا الأصل الذي عنه انعكست؛ لأن معرفة الأصل ومعرفة ما انعكس عنه ترجعان إلى فن واحد ودرس واحد؟
غ :
حق بكل تأكيد.
س :
فقل لي: لكي أنتقل من المثل إلى ما أروم تبيانه به، أليس على القياس نفسه نعجز عن أن نكون موسيقيين حقيقيين، نحن والذين نعني بتنشئتهم حكاما، ما لم نعرف الصور الجوهرية للعفاف والشجاعة، والحرية والأريحية، وكل نسيبات هذه الفضائل؟ وما لم نميزها عن أضدادها أين عثرنا عليها؟ إما هي بنفسها أو صورها، فلا نستهين بكبيرها ولا بصغيرها، عالمين أن معرفة الصيغ الأصلية ومعرفة صورها المنعكسة عنها ترجعان إلى فن واحد ودرس واحد؟
غ :
يجب أن يكون الأمر هكذا بلا نزاع.
س :
فليس أجمل في عين كل ذي لب وإدراك من الرجل الذي جمع بين جمال الظاهر وجمال النفس الباطن، وقرن هذا بذاك؛ لأن كليهما منسوج على منوال واحد.
غ :
لا أجمل من ذلك.
س :
وأنت تسلم أن أجمل الأشياء أحبها إلى القلب؟
غ :
دون شك إنها كذلك.
س :
فالموسيقي الحقيقي يهوى الذين جمعوا جمعا تاما الجمال الأدبي والجمال الطبيعي، ومن ساده التنافر فلا يحب.
غ :
كلا لا يحب؛ لأن في نفسه عيبا، أما إذا كان العيب محصورا في جسده فإنه يحب تلطفا.
س :
فهمت أن لك حبيبا، أو أنه كان لك حبيب من هذا النوع؛ ولذا أسلم بذلك. ولكن قل لي: هل للتطرف في الملذات من صلة بالعفاف؟
غ :
وكيف يمكن أن يكون ذلك، والعقل وقد برحه العفاف حليف التألم؟
س :
أولها صلة بالفضيلة عامة؟
غ :
مؤكد لا.
س :
حسنا، أفلها صلة بالسفالة والفجور؟
غ :
بكل تأكيد.
س :
أفيمكنك أن تذكر لذة أعظم وأقوى مما يصحب التمتع بلذة الحب؟
غ :
لا يمكنني ذلك. ولا يوجد من تجاوز حدود العقل فيحاول ذلك.
س :
أوليس من طبع الحب المشروع الرغبة في الجميل المتزن بطبع رصين متزن؟
غ :
مؤكد أنه كذلك.
س :
فلا يجب أن يلامس الحب الشرعي شيء من الجنون والدعارة.
غ :
يجب أن لا يلامسه جنون ولا دعارة.
س :
فاللذة التي نحن في صددها لا تداني الحب، ولا يأتي المحب وحبيبه الذي يبادله الود المستقيم شيئا من هذا النوع.
غ :
حقا إنه لا يجوز أن يأتياه يا سقراط.
س :
فمن الواضح إذا أنك تسن في شريعة الدولة التي تنظمها الآن ما يتعلق بهذا الشأن: إنه مع أن المحب يلاصق محبوبه ويرافقه، ويقبله قبلة الأب ابنه لسبب جماله إذا ارتضى المحبوب منه ذلك، يجب أن ينظم علاقاته به على وجه لا يأذن بتجاوز هذا الحد إلى ما وراءه، وإلا عذل لفظاظته وعدم ذوقه.
غ :
سنسن ذلك.
س :
أفتشاركني في ظني أن نظريتنا الموسيقية انتهت؟ وعلى كل قد انتهت حيث يجب؛ لأن الموسيقى في مذهبي يجب أن تنتهي في محبة الجميل.
غ :
أوافقك في ذلك.
س :
وللجمناستك المقام الثاني في تهذيب شبابنا.
غ :
حقيق.
س :
لا شك في أن التمرين الجمناسكي كالتمرين الموسيقي، يجب أن يبدأ منذ نعومة الأظفار وأن يستمر مدى الحياة، ولكن ما يأتي هو الرأي القويم فيه حسب ظني، فبين رأيك. أما رأيي فهو أن الجسد مهما يكن من أمره لا يجعل النفس صالحة، وبالعكس إن النفس الصالحة هي التي بفضيلتها تجعل الجسد كاملا على قدر الإمكان. فما رأيك؟
غ :
رأيي فيه كرأيك.
س :
فإذا بدأنا أولا بالمعالجة اللازمة للعقل، ثم فوضنا إليه وصف المعالجة المختصة بالجسد، أفلا نكون مصيبين إذا اقتصرنا على ملاحظة المبادئ العمومية حذرا من التلبك؟
غ :
تماما هكذا.
س :
فقد قلنا إن على الرجال المذكورين أن يتجنبوا المسكر؛ لأن الحاكم على ما أرى هو آخر شخص في الدنيا يباح له أن يشرب فيفقد صوابه.
غ :
حقا، إن من السخافة أن يحتاج الراعي إلى من يرعاه.
س :
ومن جهة الطعام، إن رجالنا مجاهدون في أهم الميادين. أليسوا مجاهدين؟
غ :
بلى مجاهدين.
س :
أفيناسب أشخاصا كهؤلاء عادة الجري على النظام المتبع في تمرين الأجسام في مدرسة الرياضة؟
غ :
ربما ناسب.
س :
ولكنه طعام يجلب النعاس ويهدد الصحة، ألا تلاحظ أن الرجال في أثناء التدريب يقضون الحياة نياما، وإذا حادوا عن أطعمتهم قيد أنملة انتابهم شر الأمراض في أشد حالاتها خطرا؟
غ :
إني ألاحظ.
س :
فيلزم أفضل طعام لرجالنا الحربيين الذين يجب أن يكونوا يقظين كالكلاب الحارسة، وأن يكون لهم أسرع سمع وأحد بصر؛ لأنهم معرضون في أثناء تأدية الخدمة لتغير طعامهم وشرابهم، وتقلبات الحر والقر، لئلا تفقد أجسادهم مناعتها، فلا يوافق أن تكون لهم صحة مهددة.
غ :
أثق أنك مصيب.
س :
فهل أفضل جمناستك هو صنو الموسيقى التي وصفناها آنفا؟
غ :
ماذا تعني؟
س :
أعني به النظام البسط المعتدل، ولا سيما المعين لجنودنا.
غ :
وكيف يكون؟
س :
يمكننا أن نأخذ درسا في هذه الأمور حتى من هوميروس، فإنك تعلم أنه لم يقدم لأبطاله في الولائم في الميدان شيئا من السمك، مع أنهم كانوا على ضفاف الدردنيل، ولا سلقوا لحما، بل شووه شيا، وهو عند الجنود أسهل إعدادا؛ لأن المرء يرى إضرام النار أين حل أقرب تناولا من حمل الحلل والمقالي.
غ :
بالتأكيد.
س :
وإذا لم تخني الذاكرة فهوميرس لم يذكر المرق قطعيا؛ لأنه معلوم عند جميع المدربين، حسب وصف هوميرس أن من يروم أن يبقى في حال الصحة فليتجنب كل استرسال من هذا القبيل. أليس كذلك؟
غ :
معلوم؛ ولذلك أصابوا في إمساكهم.
س :
فإذا استحسنت الإمساك أيها الصديق الصالح فلا أراك تستحسن موائد السيراقوسيين، ولا كثرة أنواع الطعام عند الصقليين.
غ :
لا أظن أني أستحسنها.
س :
وتنكر على الرجال الذين يحبون أن يحرصوا على سلامة أجسادهم تسري الفتيات الكورنثيات.
غ :
بكل تأكيد.
س :
وهل تنكر على الاثنين تأنقهم في صنوف الحلوى؟
غ :
تأكيدا أنكره.
س :
فليس من الخطأ مقارنة نظام المعيشة والطعام بنظام الموسيقى والغناء المنطبق على البنهرمونيوم المستعمل في مختلف الأوزان.
غ :
لا شك في أنها مقارنة صحيحة.
س :
أوليس صحيحا أيضا أنه كما يولد التنوع الموسيقي فجورا في النفس تولد الأطعمة عللا في الجسد؟ أما البساطة في الجمناستك فتولد صحة، كما أنها في الموسيقى تولد العفاف؟
غ :
بكل تأكيد.
س :
وإذا انتشرت في المدينة الأمراض وصور الفجور، أفلا نضطر لإنشاء المستشفيات والمحاكم؟ أولا يتيه الطب والحقوق عجبا متى وقف كثيرون من الشرفاء حياتهم على هذه المهن بوافر الرغبة؟
غ :
وماذا عسانا أن نتوقع غير ذلك؟
س :
فأية حجة على سوء تهذيب المدينة وانحطاط سكانها أقطع من افتقار أهاليها إلى نطس الأطباء وأساطين القضاة؟ ليس فقط بين طبقات العمال الدنيا، بل أيضا بين من يدعون شرف النبعة. أولا تراه انحطاطا أدبيا ودليل نقص وتهذيب، اضطرارنا إلى شريعة يسنها الأجانب كسادة وقضاة لنا بسبب فقر الوطن؟
غ :
لا إهانة أعظم من ذلك.
س :
أوتظن أنها إهانة أخف على الإنسان أن يقضي الجانب الأكبر من حياته في المحاكم، بين مدع ومدعى عليه؟ بل إنه زاد على ذلك أنه جهلا منه يفتخر بأنه حريف في ارتكاب الكبائر، وأستاذ في الحيل والمواربة والدهاء والمكر، بتملصه من قبضة العدالة والنجاة من براثن العقاب، وكل ذلك لقاء أشياء طفيفة تافهة، جاهلا أفضلية الحياة المنظمة المستقيمة وجمالها على مثوله أمام قاض خامل؟
غ :
تلك إهانة أعظم مما سبق ذكرها.
س :
أولا تحسب الاحتياج إلى المعالجة الطبية عيبا، اللهم إلا ما كان لجرح أو لمرض موسمي وافد؟ أعني به احتياجنا إلى المعالجة بسبب كسلنا ونوع معيشتنا، فتملأنا الرياح والإخلاص كما تملأ المياه القذرة الحمأة، فيلزم أبناء أسكولابيوس أن يستنبطوا أسماء جديدة للأمراض كتطبل البطن والزكام؟
غ :
حقا إن هذه أسماء جديدة غاية في الغرابة.
س :
مما لم يعرف في عهد أسكولابيوس على ما أظن. أستنتج ذلك من أنه لما جرح يوربيلس في طروادة، لم يلم أبناؤه المرأة التي قدمت له جرعة مصنوعة من خمر براميني ممزوجا بدقيق الشعير والجبن، ولا أنبوا بتروكلس الذي ضمد الجراح. وغني عن البيان أن جرعة كهذه يظن أنها تسبب الالتهاب.
غ :
حقا إنها جرعة غريبة لمن كان في مثل حاله.
س :
كلا، إذا اعتبرت أن تلاميذ أسكولابيوس وأولاده لم يستعملوا طريقة المعالجة الحالية إلى عهد هيروديكس، وهي الطريقة القائمة بخدمة الأمراض خدمة العبيد أولاد أسيادهم، ولكن هيروديكس - وهو أستاذ ماهر - حل به السقام، فجمع بين الطب والجمناستك، فكان أول من أزعج نفسه بها، وقفى الآخرون على مثاله.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
بتأجيله مصرعه، إذ تتبع مرضه الخطر حذو القذة بالقذة، ولما كان عاجزا عن نيل الشفاء على ما أظن وقف كل وقته لمعالجته، فعاش معذبا كل يوم بالإمساك عن الطعام ومصارعة الموت زمنا طويلا، فتمكن ببراعته من بلوغ دور الهرم.
غ :
يا لها من مكافأة أحرزها بفنه.
س :
ذلك ما ينتظر ممن جهل ان أسكولابيوس لم يكتشف هذه المعالجة ولم يورثها لذريته جهلا منه أو نقص خبرة؛ بل لأنه عرف أنه في الهيئة المنظمة لكل عمل خاص يجب أن يتمه، وليس لأحد وقت فراغ يضاع بين يدي الطبيب. هي حقيقة نفهمها من حياة العمال، ومن التناقض المضحك أننا لا ندركها في حياة المترفين المحسوبين أغنياء وسعداء.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
إذا مرض النجار مثلا، تناول من طبيبه علاجا لإفراز مرضه بالقيء، أو بالإسهال، أو بالكي، أو بعملية جراحية، أما إذا أشار عليه طبيب بالمعالجة الدائمة، كالإمساك عن الطعام، والأربطة على الرأس، ونحو ذلك من أساليب العلاج نفر حالا، وأجاب مشيره الطبي أن لا وقت عنده لملازمة الفراش، وأن الحياة على هذا النظام لا تستأهل عناء الآلام الدائمة والمخاوف الشديدة، مهتما بمرضه مهملا عمله، فيودع طبيبه ويعود إلى حياته العادية، فإما أن يستعيد صحته ويستمر في عمله، أو - إذا لم تحتمل بنيته ذلك - أراحه الموت الزؤام من شقائه.
غ :
نعم، ذلك ما يظن أنه نفع المعالجة الطبية لرجل في مثل هذه الحال.
س :
أوليس ذلك لأن الرجل ذو عمل لا يجدر به أن يحيا ما لم يتمه؟
غ :
واضح.
س :
على أن الفني لا شغل له من هذا النوع، بحيث إنه إذا أهمله كانت الحياة عنده لا قيمة لها.
غ :
يظن أن ليس له.
س :
فلم ننتبه لقول فوسيليدس، وهو: متى حصل المرء على الكفاف فعليه أن يمارس الفضيلة.
غ :
نعم، بل وقبل حصوله على الكفاف أيضا.
س :
فلا نشاجرنه في ذلك، بل دعنا ننظر في هل يمارس الأغنياء الفضيلة كغرض الحياة؟ أو أن السقام وإن عرقل عقل النجار وإخوانه الصناع، فلا يعرقل المرء عن إطاعة وصية فوسيليدس؟
غ :
لا وذمتي، إني لم أجد عائقا في سبيلها أعظم من العناية بالجسد، عناية زائدة عما يفرضه الجمناستك؛ لأنه سيان عند المرء عائقا له اشتغاله بمصالح البيت، أو بالعمل في الحقل، أو بمنصب القضاء المدني.
س :
وشر ما في الأمر هو أن توقع الصداع والدوار عائق خطير لكل أنواع الطلب والتبحر والإمعان، فينحي المرء باللائمة على الفلسفة كأنها السبب في ذلك. ولما كانت الفضيلة تمارس وتؤيد بالدرس العقلي كان المرض قيدا لها؛ لأنه يحمل المرء على التوهم الدائم أنه مريض، فيقض مضجعه قلقه على صحته.
غ :
نعم، هذا هو فعله الطبيعي.
س :
أفلا نصر على أن أسكولابيوس لما فهم ذلك وضع فن الطب لفائدة الذين بنيتهم سليمة بطبيعتها، ولم يتلفوها بالعادات الضارة، إنما طرأ عليهم توعك خفيف، فيحاول استئصاله بالعلاجات والفصد دون تعرض لأشغالهم اليومية لئلا تتعطل مصالح الدولة؟ على أنه لم يعن بشفاء البنية التي تغلغلت فيها الأدواء والعلل، فلم يبلغ إطالة حياة شقية بتعيين نوع خاص من الطعام ينقصه حينا ويزيده حينا آخر بالتدريج، آذنا لمرضاه أن يلدوا أولادا يغلب أن يكونوا مصابين بأمراضهم؛ لأنه ظن أن المعالجة الطبية هي في غير محلها إذا تناولت عليلا لا أمل في استئنافه أعماله العادية؛ لأن مريضا كهذا عديم المنفعة لنفسه وللدولة.
غ :
إنك تجعل أسكولابيوس سياسيا كبيرا.
س :
كونه كذلك أمر واضح، ولا يفوتنك أنه لهذا السبب برهن أولاده على أنهم صناديد في معارك طروادة، ومارسوا الطب على ما سبق بيانه. أنسيت أنه لما جرح بنداروس منلاوس «غسلوا الجراح وضمدوها جيدا»؟
30
ولم يصفوا له ما يتعلق بطعامه وشرابه إلا ما وصفه يوربيلس، عالمين أن العقاقير والحشائش كافية لشفاء صحيحي البنية منتظمي المعيشة، ولو أنهم شربوا على إثر جراحهم مزيج خمر وجبن ودقيق، أما ضعاف البنية والمتهتكون فإن أولاد أسكولابيوس لا يرون أن بقاءهم غنم لهم وللدولة؛ لأنهم عالمون أن فنهم لا يراد به معالجة أناس كهؤلاء؛ ولذا رأوا من الخطأ محاولة شفائهم، ولو كانوا أغنى من ميداس.
غ :
فأبناء أسكولابيوس دهاة بناء على إفادتك.
س :
كونهم كذلك أمر مسلم به، ولكن مؤلفي المآسي و«بندار» يخالفوننا، فإنهم يقولون إن أسكولابيوس هو ابن أبلو، ومع ذلك يدعون أن الذهب أغراه فعني بشفاء غني كان في فم الموت؛ ولهذا السبب أصيب بالصاعقة. ونحن لا نسلم بالأمرين احتفاظا بمبدئنا، بل نصر على القول إنه إذا كان ابن إله فلم يكن طماعا، وإن كان طماعا فليس ابن إله.
غ :
فنحن في جانب الصواب في ذلك. وما رأيك يا سقراط في ما يأتي: ألا يجب أن يكون في مدينتنا نطس الأطباء؟ وإني أرى جريا على القياس نفسه، أن أبرع القضاة هم الذين امتزجوا بكل طبقات الناس.
س :
حتما أسلم بأن يكون لنا أطباء، ولكن أتعلم من هم الذين أحسبهم نطسا؟
غ :
أعلم إذا كنت تقول لي.
س :
سأحاول ذلك. على أني مقدمة له أقول إنك ترمي إلى أمرين مختلفين بنص واحد.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
صحيح أن الأطباء يحرزون مهارة عظيمة إذا قرنوا منذ الحداثة درس الطب بمعالجة عدد وافر من شر الحوادث المرضية، واختبروا في أشخاصهم كل أنواع المرض؛ ولذلك لا تكون لهم صحة جيدة، لأني لا أظن أن جسد الطبيب هو الذي يشفي أجساد الآخرين - وإلا لما جاز له أن يكون ذا علة أو أن يمرض - ولكن عقله هو الذي يشفي، فإذا أصيب في عقله تعذر عليه أن يكون طبيبا ماهرا.
غ :
إنك مصيب.
س :
ولكن القاضي يا صديقي يحكم العقل
31
بالعقل، فلا يجوز أن ينشأ عقله منذ نعومة أظفاره في بيئة فاسدة العقول، ويأتلف معشرها ويقترف كل أنواع الشرور اقتداء بها لكي يختبر في نفسه ماهية الإجرام، فيتمكن بهذا الاختبار من اكتشاف زلات الآخرين بقياسهم على نفسه على نحو تصرف الطبيب في الأمراض الجسدية، بل بالعكس يجب أن يكون الحاكم منذ الحداثة حرا من هذا الاختبار، وبمعزل عن عوامل الشر والفساد إذا أريد أن يتصف بالكمال الفائق ويحسن رعاية العدالة، وهذا هو السبب في سهولة انخداع الصالحين في شبيبتهم، إذ ليس في نفوسهم مثل يقيسون شرور الأردياء به.
غ :
نعم. وهم معرضون كثيرا لهذا الانخداع.
س :
ولذا لا يكون أفضل القضاة شابا، بل شيخا عرك الدهر وخبر الباطل لا كشيء استقر في نفسه، بل كأمر خارجي أدركه ودرسه درسا طويلا مدققا في حياة الآخرين، وبعبارة أخرى: إنه يقاد بالمعرفة لا بالاختبار الشخصي.
غ :
حقا إن ذلك أشرف نوع في الحكام.
س :
وهو صالح أيضا، هذه هي نقطة البحث؛ لأن ذا النفس النقية صالح، أما القاضي المريب الذي اقترف كثيرا من موبقات الآثام، وهو يزعم أنه بارع لكونه عاشر أمثاله من الشبان، فيبدو شديد الحذر قياسا على ما في داخله من نماذج الشر، وهي نصب عينيه كل يوم. على أنه متى اجتمع بالشيوخ والأبرار ظهر بإزائهم غرا أحمق، بريبته الشاذة وجهله السجية الكاملة لفقدانه مثلا لها في نفسه، وإنما لأن علاقاته بالأشرار أكثر منها بالأبرار لاح له ولأمثاله أنه حاذق لا أحمق.
غ :
غاية في الصواب.
س :
فلا ننشدن حاكمنا الصالح في هذا الصف، بل في سابقه؛ لأن الرذيلة لا يمكنها أن تعرف نفسها والفضيلة معا. أما الفضيلة في الكامل التهذيب فإنها بمرور الزمن تتمكن من معرفة الأمرين، نفسها والرذيلة، فالقاضي الحكيم في مذهبي هو هذا الفاضل، لا ذاك الرذيل.
غ :
أوافقك في ذلك.
س :
أفلا تنشئ في مدينتك إدارتين: طبية وقضائية، تتصف كل منهما بما ذكرناه من الأوصاف، فتسبغان بركات خدمتهما على أصحاء الأبدان والعقول، مع إهمال سقماء الأبدان فيموتون، وإعدام الأشرار الفاسدين غير القابلين للإصلاح؟
غ :
نعم، وقد تبرهن أن ذلك خير للدولة ولأولئك السقماء.
س :
وواضح أن الشبان يحترسون من افتقارهم إلى هذه الشريعة ما داموا يمارسون الموسيقى البسيطة التي قلنا إنها تنشئ رزانة النفس.
غ :
دون شك.
س :
فإذا اتبع الرجل المكمل في التهذيب الموسيقي هذا النوع من الجمناستك، أفلا يمكنه أن يستغني عن الطب إذا شاء ذلك، إلا في الأحوال الخارقة؟
غ :
أظن أنه يمكنه ذلك.
س :
وغرضه في التدريب (الرياضي) وفي الأعمال الشاقة التي فرضها على نفسه تربية حماسته لا ازدياد قوته البدنية، فلا ينحو نحو الرياضيين في أمر الأطعمة، بل يقصر جهوده على تقوية عضلاته.
غ :
إنك مصيب تماما.
س :
أومصيب أنا يا غلوكون في قولي إن الذين وضعوا نظام التهذيب «الموسيقي الرياضي» لم يكونوا مدفوعين إلى وضعه بالمقصد الذي يعزوه إليهم الآخرون، وهو ترقية النفس بأحد الفنين والجسد بالآخر؟
غ :
فماذا قصدوا، إذا لم يكن هذا مقصدهم؟
س :
الأرجح أنهم وضعوا الفنين معا لأجل النفس.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
ألا تلاحظ الصفات التي تميز عقول الذين ألفوا الجمناستك كل الحياة دون اتصال بالموسيقى، وأيضا عقول الذين جروا على نقيض هذه الخطة؟
غ :
إلى ماذا تشير؟
س :
إلى الخشونة والقسوة في الفريق الواحد، واللين والرقة في الفريق الآخر.
غ :
أجل، فالذين لاذوا بالجمناستك دون سواه صاروا خشني الطباع فوق حد الاحتمال، والذين اقتصروا على الموسيقى هم أكثر لينا مما يليق.
س :
وعلى كل فإننا نعلم أن الخشونة ثمرة طبيعية للعنصر الحماسي الذي إذا حسن تهذيبه كان صاحبه شجاعا، أما إذا تجاوز حده اللازم كان شرسا مشاغبا.
غ :
هكذا أظن.
س :
أوليس لين العريكة من أوضاع الخلق الفلسفي؟ فإذا تجاوزت هذه الصفة حدها غالت في الرقة واللين، فزادت نعومة عما يليق، ولكنها إذا هذبت تهذيبا صحيحا أفرغت في قالب اللياقة؟
غ :
حقا.
س :
ولكنا نرى أن حكامنا يلزم أن يجمعوا بين هاتين الصفتين.
غ :
ذلك واجب.
س :
ألا يجب التلاؤم المتبادل بينهما؟
غ :
بلا شك.
س :
وحيث كان ذلك التلاؤم فالنفس شجاعة وعفيفة.
غ :
مؤكد.
س :
وحيث لا يكون فالنفس جبانة سمجة.
غ :
تماما هكذا.
س :
وعليه: فحين يسلم الإنسان نفسه للموسيقى ويقبل عن طريق الأذن أن تفيض على نفسه سيول الأنغام الشجية البديعة التي مر بك وصفها، ويقضي الحياة مرنما هائما بالألحان، فمهما يكن في إنسان كهذا من النزق الشديد القسوة كالفولاذ فإنه يلين ويصير حرا بدل كونه قصما غير نافع. وإذا ثابر على ذلك منذ طفولته دون فتور وسر به نفسه، أذاب فعل الموسيقى ما فيه من نزق وغضب وحللها تحليلا، ولطف أخلاقه تلطيفا تاما، فيستأصل من أعماق نفسه جذور طبع غضوب، ويجعله محاربا دمثا.
غ :
بالتمام هكذا.
س :
فإذا كانت نفسه بطبيعتها عديمة النزق حصلت فيها هذه النتيجة سريعا، وإذا كانت نقيض ذلك فإنه بهذه الوسيلة يخفف حدتها ويلطف حماستها، فتصير سهلة القياد، تثار وتهدأ لأقل سبب. رجال كهؤلاء يصيرون شكسين غضوبين، فريسة نكد الطبع عوض كونهم ذوي حماسة.
غ :
حتما هكذا.
س :
ومن الجهة الأخرى، إذا واظب المرء على الجمناستك بمزيد الجهد، وعاش عيشة الترف، مع الإعراض عن الموسيقى والفلسفة، أفلا يوحي إليه حسن صحته الجسدية الاعتداد بالذات والحماسة، فيتشجع فوق طوره؟
غ :
بلى، إنه يصير هكذا.
س :
فماذا تكون نتيجة الاشتغال بعمل كهذا مع هجر الموسيقى الهجر كله؟ حتى لو فرضنا أنه كان فيه أولا شيء من الذوق العلمي، ولكن إذا لم يتغذ ذلك الذوق باكتساب المعرفة أو طلب العلوم، ولم يشترك في المباحث العقلية ومنازع العرفان، ألا تضعف نفسه فيصبح أصم وأعمى البصيرة لافتقاره إلى المنبهات والغذاء الروحي، ولأن ذهنه لم يتنق التنقية التامة؟
غ :
تماما هكذا.
س :
فيصبح رجل كهذا أميا يمقت البحث والطلب، ويهجر كل ما هو من ملكوت العقل، ويعمد إلى حل مشاكله كالوحش الضاري بالقوة والخشونة، ويعيش بالجهل وسماجة النفس بلا اتزان ولا جمال.
غ :
هذا هو الحال تماما.
س :
فلإصلاح الخلقين: الحماسي والفلسفي، أعطى أحد الآلهة على ما أرى فني الموسيقى والجمناستك، لا لإصلاح الجسد والنفس مستقلين إلا في أحوال ثانوية، بل للتوفيق بين هذين الخلقين، بشد الواحد ورخي الآخر (كأنهما وترا الحياة) إلى الدرجة المطلوبة، فيحصل التلاؤم المتبادل.
غ :
هكذا يظهر.
س :
فمن قرن الموسيقى بالجمناستك على أفضل أسلوب وأحلهما في نفسه في أضبط مقياس دعوناه عن جدارة أكمل الموسيقيين وأرقى المنشدين، وهو أرقى كثيرا من الموسيقي الذي يدوزن الأوتار.
غ :
نعم، وبتعقل عظيم تنطق يا سقراط.
س :
أولا تحتاج دولتنا احتياجا لازبا إلى ناظر كهذا يا غلوكون إذا رمنا خلودها؟
غ :
حقا. إن موظفا كهذا لا يستغنى عنه.
س :
هذه هي خلاصة التهذيب والتدريب في نظامنا، ولماذا يشتبك المرء في أبحاث مستفيضة في ما يتعلق بالرقص في دولة كدولتنا، وبالصيد والرياضيات في الحقول والأرياف، أو بالجمناستك وسباق الخيل؟ لأنه واضح أنه يجب تطبيق هذه الأشياء على ما سبق بيانه، وليس من الصعب إدراكها.
غ :
الأرجح لا.
س :
حسنا، فما هي النقطة الثانية للبت في أمرها؟ أليست هذه: أي الأشخاص الذين تهذبوا على ما وصفنا يجب أن يكونوا حكاما وأيهم رعايا؟
غ :
لا شك في لزوم البت فيها.
س :
ليس من شك في أن الشيوخ يجب أن يكونوا حكاما والشبان رعايا.
غ :
حق.
س :
وأن يكون الحاكمون أفضل أولئك الشيوخ.
غ :
وهذا أيضا حق.
س :
أفليس أفضل الفلاحين أكثرهم ميلا إلى الزراعة؟
غ :
بلى.
س :
أولا نجد أفضل الحكام الذين ننشدهم بين أكثرهم قدرة على إدارة الدولة؟
غ :
بلى.
س :
أولا يكونون لذلك ذوي فطنة وقوة وحرص على مصلحة الدولة؟
غ :
يجب أن يكونوا هكذا.
س :
والمرء كثير الحرص على ما يحب.
غ :
من كل بد.
س :
ومن المؤكد أنه يحب أعظم حب الذين يعتقد أن مصلحتهم ومصلحته واحدة، وأن مصيره مرتبط بسرائهم وضرائهم.
غ :
تماما هكذا.
س :
فيلزم أن نختار من جمهور الحكام الأفراد الذين ظهر لنا بعد المراقبة اللازمة أنهم ممتازون بالغيرة على القيام بكل عمل مفيد للدولة مدى الحياة، وينبذون ما يحسبونه ضارا.
غ :
نعم، هؤلاء هم الأشخاص المناسبون.
س :
فأرى من اللازم أن نراقبهم في كل أطوار الحياة؛ لنرى هل هم حكام ثابتون في هذا اليقين، ولا تزحزحهم عنه قوة ولا رقية لاطراحه ظهريا، بل يحرصون على الاقتناع بأنهم يجب أن يعملوا الأفضل للدولة.
س :
عن أي اطراح تتكلم؟
س :
سأقول لك: إني أرى أن الآراء تبرح العقل إما اضطرارا وإما اختيارا، فالرأي الفاسد يبرح العقل عفوا حين يقف صاحبه على خطئه، أما الرأي السديد فيبرح العقل اضطرارا.
غ :
فهمت البراح الاختياري، أما الاضطراري فلم أفهمه.
س :
أفلا تسلم معي أن الناس يتجردون من الأشياء الحسنة بدون اختيارهم، لكنهم باختيارهم ورغبتهم يهجرون الأشياء الردية؟ أوليس شرا مستطيرا أن لا يكون الإنسان صادقا حين يصف الأمور بما هي عليه؟
غ :
بلى، إنك مصيب. وأرى أن المرء يترك الآراء السديدة بغير اختياره.
س :
أولا يحصل ذلك بالسرقة أو الرقية أو الإرغام؟
غ :
لم أفهم.
س :
أخشى أني أتكلم كلاما غامضا ككلام المأساة، فإني أعني بمن سرقت أفكارهم الذين ضلوا أو نسوا يقينهم؛ لأن الحجة سرقتهم في الحال الأول، والوقت خانهم في الثاني، فأظن أنك فهمت.
غ :
نعم.
س :
والذين أرغموا هم الذين تغيرت آراؤهم بالآلام والأمراض.
غ :
وهذا أيضا فهمته، وأراك مصيبا فيه.
س :
والذين رقوا أظن أنك تقول هم الذين أغرتهم المسرات، أو ثبطت عزائمهم المخاوف.
غ :
نعم؛ لأن كل ما يخدعنا يرقينا.
س :
فكما قلت الساعة يجب أن ننشد أفضل الحكام ذوي الاقتناع الداخلي بأنهم يجب أن يفعلوا ما يحسبونه أفضل لمصلحة الدولة، ونراقبهم منذ حداثتهم، فنعطيهم من الأعمال ما يسحر الناس عادة ويقودهم إلى النسيان. فمن غلب هواه عوامل ضلاله وغلبت ذاكرته بواعث النسيان فإياه نختار للحكم، ومن لم يكن كذلك نبذناه قصيا. أليس كذلك؟
غ :
بلى.
س :
وعلينا أن نمتحنهم بالأعمال والآلام ونرقب خوضهم معمعانها لنرى ظاهرات صفاتهم.
غ :
بالصواب هكذا.
س :
ونمتحنهم ثالثة بالنوع الخلاب ونرقب تصرفهم، وذلك كتعريض المهاري للصيحات والضجات لتبين جبنها، هكذا نمتحن الشبان بالمروعات ثم بالمسرات، ونمتحنهم ولا امتحان الذهب بالنار؛ لنرى أصلب عودهم في كل الأحوال فلا يخدعهم التدجيل؟ فتثبت كياسة تصرفهم حسن الإدارة لأنفسهم وللموسيقى التي ثقفوها، مبرهنين في كل حادثة على محافظتهم على قوانين اللحن والإيقاع، ساعين جهدهم ليكونوا أعظم النافعين لأنفسهم وللدولة، فمن جاز الامتحان المرة بعد المرة حدثا وشابا وكهلا، وخرج من كور التجربة سليما، فهو الذي نختاره حاكما ومديرا، ويجب إكرامه في حياته وفي مماته، ويخول أعظم الامتيازات بمراسم الجنازة والذكريات بعدها. ومن كانت صفاتهم نقيض ذلك نرفضهم. هذا هو يا غلوكون النمط الأفضل لاختيار حكامنا الذين مر بك وصفهم مختصرا دون تدقيق.
غ :
أنا من رأيك تماما.
س :
أوحقا تسمية هؤلاء «بالحكام الكاملين» لاتصافهم بالعناية والسهر حتى لا يريد أصحابهم في الوطن ولا يقدر أعداؤهم في الخارج أن يحدثوا أدنى ضرر للدولة؟ والشبان الذين دعوناهم الساعة حكاما نسميهم «مساعدين»، وهم الذين وظيفتهم إنفاذ قرارات الحكام؟
غ :
هكذا أرى.
س :
وإذا كان الحال كذلك ، أفيمكننا أن نخلق وسيلة حكيمة نتمكن بها من تمثيل دور وهمي، كالقصص التي ذكرتها آنفا، فنقتنص حتى الحكام بأفعل الذرائع، وإلا فنقنع العامة فقط؟
غ :
أي نوع من القصص؟
س :
ليس شيئا جديدا، بل قصة فينيقية تداولتها ألسنة الشعراء، والناس موقنون بصحتها، على أنها لم تحدث في عصرنا، ولا علم لي بأنها حدثت في غيره من العصور، ولكنا نقدر أن نجعلها خبرية موثوقا بصحتها، فنحتاج إلى حيلة نافذة لإقناعهم.
غ :
أرى أنك تتردد في الإفصاح.
س :
وسترى ترددي طبيعيا متى أخبرتك إياها.
غ :
فقل غير هياب.
س :
سأقول، ولا أدري بأية جرأة وأي إيضاح أوردها. فأولا: أحاول إقناع الحكام أنفسهم، ثم إقناع الجنود معهم، وبعدهم سائر الأمة، أن كل ما أمليناه عليهم لتهذيبهم حدث كأمر واقعي، ولكنه حلم، وفي حقيقة الأمر أنهم هذبوا وثقفوا في جوف الأرض حيث طبعوا أسلحتهم وأدواتهم وكمل تهذيبهم، وحين ذلك ولدتهم أمهم الحقيقية، وهي الأرض، أي إنها قذفت بهم إلى سطحها، فيجب أن يهتموا بالمنطقة التي هم فيها كأم ومرضع، فيصدون عنها الغزاة، ويحسبون سكانها إخوتهم، أبناء الأرض.
غ :
ولسبب كاف كنت تخشى أن تورد هذه الخزعبلة.
س :
فسمعا لبقية القصة: سنخبر شعبنا بلغة ميثولوجية: كلكم إخوان في الوطنية، ولكن الإله الذي جبلكم وضع في طينة بعضكم ذهبا ليمكنهم أن يكونوا حكاما، فهؤلاء هم الأكثر احتراما، ووضع في جبلة المساعدين فضة، وفي العتيدين أن يكونوا زراعا وعمالا، ووضع نحاسا وحديدا، ولما كنتم متسلسلين بعضكم من بعض، فالأولاد يمثلون والديهم، على أنه قد يلد الذهب فضة، والفضة ذهبا، هكذا يلد كل ما يلد، وقد أودع الحكام من الله قبل كل شيء وفوق كل شيء هذه الوصية: أن يخصوا أولادهم بالعناية ليروا أي هذه المعادن في نفوسهم، فإذا ولد الحكام ولدا ممزوجا معدنه بنحاس أو حديد فلا يشفقن والدوه عليه، بل يولونه المقام الذي يتفق مع جبلته، فيقصونه إلى ما دونهم من الطبقات، فيكون زارعا أو عاملا، وإذا ولد العمال أولادا ثبت بعد الحك أن فيهم ذهبا أو فضة وجب رفعهم إلى منصة الأحكام، أصحاب الذهب حكاما، وأصحاب الفضة مساعدين، ولقد جاء في القول الحكيم: أن المدينة التي يحكمها النحاس والحديد فهي إلى البوار. فهل عندك من حيلة لإقناعهم بهذه الخزعبلة؟
غ :
لا حيلة في إقناع أبناء هذا الزمان، على أنني سأبتدع حيلة تقنع أبناءهم وأحفادهم وكل الأجيال التالية بصحة هذه الأسطورة.
س :
وحتى هذه تفيد في جعلهم أكثر اهتماما بالدولة وبعضهم بالبعض الآخر، فإني أظن أني فهمتك، ولكنا سنترك الأسطورة إلى ما قضي به عليها، وإذا تقلدنا زمام أبناء هذه الأرض فلنقدهم إلى الأمام بإدارة قوادهم، ومتى بلغوا المدينة اختاروا فيها محلة تمكنهم من حفظ النظام، فيجلون عنها الأهالي ويحلون محلهم، وإذا وجد متمرد أو أجنبي دفعوا الأجانب والعصاة دفع الذئاب، ثم يضربون خيامهم فيها ويقدمون الذبائح للآلهة المحلية، وبعد ذلك يعدون مواقع مبيتهم. أصواب كل ذلك؟
غ :
صواب.
س :
ويلزم أن تكون تلك الخيام كافلة وقايتهم من تأثير الإقليم صيفا وشتاء.
غ :
حسنا، فيظهر أنك تعني بها أن تكون بيوتا لا خياما، هذا إذا لم أكن مخطئا في ظني.
س :
نعم، ولكن بيوتا عسكرية، لا بيوت أغنياء.
غ :
فما الفرق بين هذه وتلك؟
س :
سأريك، فإن من أفظع أعمال الرعاة وأدعاها إلى الخزي في الرعية أن كلابهم التي ربوها لحراسة القطيع تهجم على الأغنام، إما لسبب جوعها أو نهمها، فتمزقها بأنيابها، فتكون ذئابا لا كلابا حارسة.
غ :
حقا إنه أمر شائن.
س :
أفلا يلزم الاحتياط لئلا يفعل مساعدو حكامنا هكذا بالأهلين لأنهم أقوى منهم، فيصيرون وحوشا ضارية بدل كونهم حلفاء صادقين؟
غ :
يلزم ذلك.
س :
أولا يتسلحون بأفضل ضمان إذا تهذبوا تهذيبا حسنا؟
غ :
لقد سبق أن سلمنا أنهم مهذبون.
س :
ليس من الضرورة يا عزيزي غلوكون الوقوف عند هذه النقطة، ولكن الأمر الأجدر بأعظم أهمية هو الإصرار على ما قلناه، وهو أنه يجب أن يهذبوا تهذيبا صحيحا مهما يكن من أمرهم، إذا أريد بهم الحصول على أعظم مؤهلاتهم للحنان واللطف نحو رفاقهم ونحو الذين يحكمونهم.
غ :
حق.
س :
علاوة على ذلك التهذيب فإن الرجل الحكيم يقول: يجب أن تكون بيوتهم مما لا يحول دون كونهم حكاما كاملين، ولا تمكنهم من الإضرار بالآخرين.
غ :
وبحق يقول.
س :
فاعتبر الرأي التالي: أيوافق حياتهم وسكنهم إذا أريد أن يكونوا على ما ذكرت من الأوصاف الأمور التالية؟ (1) أن لا يتملك أحدهم عقارا خاصا ما دام ذلك في الإمكان.(2) ولا يكون لأحدهم مخزن أو مسكن يحظر دخوله على الراغبين، فليكونوا في أسمى ما يتطلبه الأعفاء الشجعان المدربون تدريبا حربيا، ويجب أن يقبضوا من الأهلين دفعات قانونية أجرة خدمتهم، بحيث لا يحتاجون في آخر العام ولا يستفضلون، ولتكن لهم موائد مشتركة كما في ثكنات الجنود، وأن يخبروا أن الآلهة ذخرت في نفوسهم ذهبا وفضة سماويين، فلا حاجة فيهم إلى الركاز الترابي، وعيب عليهم أن يدنسوا بصناعة الآلهة السامية بمزجها بالذهب الفاني؛ لأن نقود العامة فيها دخل كثير، وهي مجلبة لكثير من الشرور، ولكن ذهب الحكام السموي عديم الفساد، فهم وحدهم من بين كل رجال المدينة مستثنون من مس الفضة والذهب، فلا يدخلونهما تحت سقفهم ولا يحملونهما ولا يشربون بكئوس صيغت منهما، وبذلك يصونون أنفسهم ودولتهم. لكنهم إذا امتلكوا أراضي وبيوتا ومالا ملكا خاصا، صاروا مالكين وزراعا عوض كونهم حكاما، فيصيرون سادة مكروهين لا حلفاء محبوبين، ويصبحون مبغضين ومبغضين، يكاد لهم ويكيدون، فيقضون الجانب الأكبر من حياتهم في هذا العراك، وخوفهم العدو الداخلي أكثر جدا من خوفهم العدو الخارجي.
ففي حال كهذه يسرعون بالدولة إلى الدمار. فلأجل كل ما ذكر، هل نبرم ما قررناه في مصير حكامنا بالنظر إلى بيوتهم وغيرها، ونربط ذلك بأحكام الدستور أم لا؟
غ :
نبرمه ونربطه.
الكتاب الرابع: الفضائل الأربع
خلاصته
هنا اعترض أديمنتس قائلا: إن حياة طبقة الحكام على هذه الحال لن تكون سعيدة. فأجابه سقراط: ذلك ممكن، ولكن ليس إسعاد الحكام غرضنا، فغرض الشارع الخاص إسعاد طبقات السكان الثلاث: الحكام، والمنفذين، والمنتجين. فقاده ذلك إلى النظر في واجبات الحكام، وهي: (1)
أن يحولوا دون الميل إلى إثراء بعض الأهالي وفقر غيرهم فقرا مدقعا. (2)
أن يسهروا ضد اتساع الأراضي اتساعا سريعا. (3)
أن يشددوا في قمع البدع في فني الموسيقى والجمناستك، مع ترك بقية القوانين لفطنة القضاة في وقتها، وتوكل الطقوس الدينية والحفلات لوحي أبلو إله دلفي.
وبعد ما تتبع سقراط نشأة الدولة من أولها إلى آخرها أعاد الكرة على المسألة: ما هي العدالة؟ وفي أي أقسام الدولة توجد؟
الدولة إذا حسن تنظيمها كاملة الصلاح، وإذا كانت صالحة فهي ولا بد حكيمة شجاعة عفيفة عادلة. فإذا حسبنا فضيلتها عبارة عن الحكمة والشجاعة والعدالة والعفاف فإنا إذا وجدنا ثلاثة من هذه تمكنا بواسطتها من اكتشاف الرابعة، فحكمة الدولة تستقر في طبقة القضاة والحكام القليلة العدد، وتستقر شجاعة الدولة في المساعدين والجنود، وهي تقوم بقدرهم قدرا صحيحا، ما هو مخيف أو غير مخيف، ولباب العفاف ضبط النفس، وخلاصته سياسيا تقرير حق الحكام إطاعة الأمة وولاءها، فلا ينحصر العفاف في طبقة واحدة من الأمة كالحكمة والشجاعة، بل ينبث في الأمة عامة، وهي عبارة عن رضا شامل بهذا الشأن، فعليه قد وجدت الثلاث، فأين الرابعة؟
فبعد إخراج الثلاث: الحكمة والشجاعة والعفاف، بقيت الرابعة، وهي تئول إلى تأصل الثلاث المذكورة في جسم الدولة وصيانتها، فهي ولا بد: العدالة. ويمكن تحديدها بأنها: التزام كل عمله الخاص، وعدم التدخل في شئون غيره.
فهي تمزج طبقات الأمة الثلاث معا، وتحفظ كلا منها في مركزها، ونقيضها التعدي السياسي، وهو: روح الفضول الذي يلابس الطبقات الثلاث، فيقود كلا منها إلى التدخل في وظائف غيرها وأعمالها وواجباتها، فلنطبق هذه النتائج على الفرد؛ لأن في الدولة ما في الفرد، وإنما وصل الدولة عن طريق الأفراد الذين منهم تتألف، فنتوقع أن نجد في الفرد ثلاثة مبادئ نقارن طبقات الدولة الثلاث، فلننظر هل كان ذلك الترفع على أساس.
في العقل عاملان متضادان لا يمكن نشوءهما عن أصل واحد: إنسان عطشان ولا يريد أن يشرب، ففيه إذا مبدآن، أحدهما يدفعه إلى الشرب، والآخر يصده عنه، فالأول يصدر عن الشهوة أو الرغبة، والآخر عن الذهن، فوجدنا في النفس عنصرين متمايزين: الواحد عقلي، والثاني غير عقلي، فهو شهوي. وعلى المبدأ نفسه ترانا ملزمين بأن نجد عنصرا ثالثا، هو مقر الغضب والحماسة والغيظ، ويمكن أن يدعى القسم الغضبي، فإذا تنازع المبدآن: العقلي والشهوي، كان هذا الثالث أبدا في جانب العقلي، ففي الفرد ثلاثة عناصر: هي العقلي، والغضبي، والشهوي، يقابلها في الدولة: الحكام، والمنفذون، والمنتجون.
فالفرد حكيم بفضيلة الحكمة في عنصره العقلي، وشجاع بفضيلة الشجاعة في عنصره الحماسي، وعفيف حين يسود عنصره العقلي، مع القبول التام من جانب العنصرين الآخرين، وأخيرا هو عادل حين تقوم كل من هذه الثلاث بعملها الخاص، غير متدخلة في عمل غيرها. أولا يتجلى اتفاق قوى العقل الداخلية بإتمام كل الأعمال المحسوبة عادلة وتجنب التعدي؟
أما التعدي فيشوش هذه الصفات ويلبكها، ويتجلى هذا التشويش في الأفعال الجنائية المتنوعة، فالعدالة نوع من الوئام الطبيعي، وهي حال العقل الصحية، والتعدي نوع من التنافر غير الطبيعي أو المرض، فمن تحصيل الحاصل السؤال: أي الاثنين أنفع لصاحبه.
متن الكتاب
قال سقراط: هنا تدخل أديمنتس في البحث، قال: وبماذا تدفع عن نفسك يا سقراط إذا احتج أحد عليك بأنك لم تبلغ برجال هذه الطبقة (الحكام) أوج السعادة؟ مع أن اللوم عليهم في عدم سعادتهم؛ لأن الدولة دولتهم عند التحقيق، ومع ذلك فليس لهم فيها حظ الذين يملكون الأراضي ويشيدون الأبنية الفخمة ويفرشونها فرشا يتفق مع فخامتها، ويضحون للآلهة، ويولمون للأصحاب، ويملكون الفضة والذهب وكل ما هو ضروري لإسعاد الناس، وقد يقال إنهم كصغار المستخدمين، ليس لهم في المدينة إلا الخفارة.
س :
نعم، بل يظهر أنهم يقتصرون على القوت، ولا يأخذون معه مالا كالآخرين، فلا يمكنهم السفر على نفقتهم إذا أرادوه، ولا تقديم الهدايا للحظايا، وإنفاق الأموال على الرغائب الأخرى كما يفعل المحسوبون سعداء، وأمثال ذلك من الأمور مما طويت عنه كشحا.
أديمنتس :
فأضيف إلى ذلك شكواي.
س :
أفتسألني أي دفاع أقدم؟
أد :
نعم.
س :
أظن أننا إذا استأنفنا السير في الجهة نفسها أدركنا الدفاع المطلوب، مع أنه لا يستغرب كون هؤلاء الحكام أسعد السعداء، حتى في هذه الأحوال. على أننا لم نؤسس الدولة لمجرد إسعاد قسم من أهلها، بل لإسعاد الجميع معا على قدر الإمكان، فغرضنا في إنشاء الدولة اكتشاف العدالة. كما أننا في دولة أخرى ساء نظامها نكتشف التعدي، وبعد اكتشاف هذي وتلك يمكننا البت قي المسألة التي أمامنا، فنحن جادون في الوقت الحاضر في إنشاء دولة سعيدة، لا في أن نخص أفرادا منها بالسعادة، بل أن نسعد جميع أفرادها على السواء. ثم ننظر في دولة هي نقيض هذه أحوالا، فلو صورنا شخصا بشريا فانتقدنا منتقد بأنا لم نزين أجمل أقسام الصورة بأبهى الألوان لأن العيون - وهي أجمل أعضاء الجسم - لم تلون بالأرجواني، بل بالأسود، فيجب أن نفكر في أنه دفاع كاف قولنا له: أيها الناقد مهلا، لا تتوقع منا أن نلون العيون باللون الجميل بحيث لا تبقى عيونا. وهكذا يقال في بقية أعضاء الجسم، ولكن انظر أنا جعلنا الجسم كله جميلا، بتلوين كل عضو فيه باللون الملائم.
فجريا على الطريقة نفسها في مثلنا الحالي توجب علينا أن نسبغ صنوف السعادة على الحكام، فيصيرون غير ما هم؛ لأنا نعرف جيدا أنه تمكنا على المبدأ نفسه أن نكسو الفلاحين الملابس الفضفاضة، ثم نأمرهم أن يحرثوا الأرض على خاطرهم، ونتوجهم بتيجان الذهب، أو أن ندع الخزافين تجاه الأتون، مرخين أيديهم آكلين وشاربين، مهملين دولاب الخزافة، ولا يشتغلون إلا كما يروقهم، فإننا إنما نسبغ البركات على الجميع لإسعاد الدولة بمجموعها، فلا تنصحنا نصحا كهذا؛ لأننا إذا وافقناك في رأيك لا يبقى الفلاح فلاحا، ولا الخزاف خزافا، ولا غيرهما من أصحاب المهن اللازمة لتكوين الدولة.
أما بالنظر إلى وظائف غير الحكام فالأمر أقل شأنا، فإن عدم جدارة الإسكاف أو عدمها أو ادعاءه فوق جدارته ليس فيه كبير خطر على الدولة، ولكن إذا عدم الحكام وحماة الدولة والقانون الحقيقة، واقتصروا على الظاهر، فإنك ترى مقدار الدمار الذي يحلونه بالدولة؛ لأنهم هم وحدهم القادرون على توفير أسباب النجاح والسعادة العمومية. فإذا عينا حكاما للدولة أقل الناس إضرارا بها، فإن الخصم ينشئ صفا من الفلاحين يسرحون ويمرحون في الولائم والحفلات الرسمية، لا مدنيين ممتازين، وذلك يعني شيئا آخر غير الدولة. فيلزم النظر في:
هل غرضنا في تعيين الحكام أن نضمن لهم التمتع بأوفر نصيب ممكن من السعادة؟ أو أن واجبنا باعتبار السعادة هو أن نرى الدولة كلها سعيدة؟ موجبين عليهم كحكام مخلصين ومساعدين أمناء للحكم، القيام بواجباتهم خير قيام، وتحقيق غرض وجودهم، وعلى القاعدة نفسها نعامل جميع الطبقات. ومتى نمت المدينة وكمل نظامها نفتح أبوابا للقبائل، فيدخلونها ويشتركون في السعادة التي تشتهيها نفوسهم على قدر استعدادهم.
أد :
إن ما أبديته هو في أتم صور الهدى.
س :
أوتراني على هدى أيضا في شقيق هذا الموضوع؟
أد :
وما هو؟
س :
هو النظر في أرباب الحرف الأخرى، هل فسدوا هم أيضا بالحالات الآتية؟
أد :
أية حالات تعني؟
س :
الغنى والفقر.
أد :
وكيف ذلك؟
س :
هكذا: أترى الخزاف، وقد أثرى يظل مكترثا لفنه؟
أد :
مؤكد لا.
س :
أفلا يتهاون في فنه ويكسل، خلاف ما كان عليه في سالف عهده؟
أد :
كثير جدا.
س :
أفلا يصير خزافا أردأ حينذاك؟
أد :
بلى، أردأ كثيرا.
س :
ومن الجهة الأخرى: إذا حاق به الفقر فغل يده عن إحراز ما تحسن به صنعته من آلات وغيرها من أدوات فنه، انحطت صناعته وقصر أولاده وصناعه في الفن؟
أد :
لا مهرب من ذلك.
س :
فبهذين الأمرين، الغنى والفقر، تنحط منتوجات الصنائع ويضعف الصناع.
أد :
هكذا يظهر.
س :
فقد اكتشفنا أشياء أخرى تستدعي سهر الحكام، فيلزم أن يتيقظوا كل التيقظ لئلا تفوتهم ملاحظتها، فتتسرب إلى جسم الدولة.
أد :
وأية الأشياء تعني؟
س :
الغنى والفقر، ينشئ أولهما الرخاء والكسل والملاهي، والثاني ينشئ، عدا الملاهي، الخساسة ويفسد المصنوعات.
أد :
هكذا بالتمام. ولكن تأمل يا سقراط كيف يمكن لدولتنا أن تخوض غمار الحرب إذا عدمت الثروة؟ ولا سيما إذا نازلت دولة غنية كثيرة السكان؟
س :
واضح أنه يصعب عليها أن تحارب دولة واحدة كهذه، ولكن محاربة دولتين معا أسهل .
أد :
ماذا تقول؟
س :
إذا اضطروا أن يحاربوا، أفليس عدوهم غنيا وهم جنود مدربة؟
أد :
هذا صحيح.
س :
أفلا تصدق يا أديمنتس أن الملاكم الخبير ينازل اثنين أو أكثر معا من الأغنياء وهم عديمو الخبرة في فن الملاكمة؟
أد :
قد لا يستطيع ذلك مع الاثنين معا.
س :
كيف لا؟ فإنه يتراجع حتى يفصلهما، ثم يبدأ في قتال الأقرب إليه، ثم يوالي هذه الحركة في حر الشمس. أفلا يستطيع ملاكم كهذا أن يغلب أكثر من اثنين على هذه الصورة؟
أد :
مؤكد، وليس في ذلك كبير غرابة.
س :
أولا تظن أن الغني أكثر خبرة في فن الملاكمة نظريا وعمليا منه في فن الحرب؟
أد :
أظن.
س :
فالأرجح أنه يهون على جنودنا المدربة أن تحارب ضعفي عددها أو ثلاثة أضعافه.
أد :
أسلم معك لأني أراك مصيبا.
س :
وإذا فرضنا أن جيوشنا أرسلوا سفارة إلى سكان إحدى الدولتين يخبرونهم بواقعة الحال، وقالوا إننا لا نقتني فضة ولا ذهبا لأن اقتناءهما محظور علينا، أما أنتم فمباح لكم، فحالفونا في القتال ولكم المغنم. أفتظن أن أحدا سمع ذلك يكون أكثر رغبة في محاربة الكلاب الهزيلة منه في محالفة الكلاب على كباش سمينة رخصة؟
أد :
أظن لا. أولا تظن أن حشد المال في دولة ما خطر يهدد دولة فقيرة؟
س :
أهنئك برأيك، فلا دولة تستحق أن تدعى دولة إلا ما كانت على شاكلة الدولة التي تنظمها.
أد :
لماذا؟ ماذا عندك؟
س :
يجب أن تدعى المدن الأخرى بأسماء أعظم؛ لأن كلا منها مؤلف من أقسام عديدة لا من قسم واحد، كما في ألعاب المدائن،
1
ففي كل دولة قسمان، قسم غني وقسم فقير، وفي كل من هذين القسمين فروع عديدة، فإذا اعتبرتها كلها قسما واحدا فقد أخطأت خطئا عظيما، ولكن إذا اعتبرتها عديدة الأقسام وخصصت أحد أقسامها لامتلاك الأرزاق والقوة، حتى ونفوس الناس، كنت أبدا كثير الحلفاء قليل الأعداء. وما دامت مدينتك محكومة بفطنة، جريا على المبادئ التي أسسناها عليها، فيجب أن تكون كبيرة، ولا أقول إنها ستتمتع بالشهرة ، بل إنها تكون الكبرى ولو لم يزد حماتها على الألف؛ لأنه يعز وجود بلد كهذا في اليونانيين والبرابرة، مع أنه يمكنك أن تجد مدنا كثيرة تظهر أكبر منها أضعافا.
أد :
كلا لا يوجد.
س :
فيمكن اتخاذ ذلك مقياسا لحكامنا في تنظيم حجم المدينة، فتتفتق مساحة أراضيها مع حجمها.
أد :
وما هو ذلك المقياس؟
س :
المقياس هو: ما دامت المدينة محافظة على وحدتها فلا بأس في نموها، ولكن يجب أن لا تتجاوز ذلك الحد.
أد :
حبذا القانون.
س :
فيجب أن نلقي على عاتق حكامنا هذا القانون الإضافي، وهو أن يعتنوا اعتناء زائدا بأن لا تكون المدينة صغيرة ولا كبيرة، بل تظل معتدلة الحجم مع حفظ وحدتها.
أد :
الأرجح أن هذا واجب خفيف عليهم.
س :
وسنضيف إليه ما هو أخف منه كثيرا، وقد لمسناه آنفا لما قلنا إنه يجب إقصاء من سفل من مواليد الحكم إلى فئة أدنى، ورفع من تفوق من أنسال العامة إلى مصاف الحكام، والقصد من ذلك تأهيل كل فرد من سكان المدينة لممارسة الفن الذي أهلته الفطرة له، فيتمكن بذلك من إنجاز عمله، ولا يكون متعدد الذاتية، بل إنسانا واحدا، وعلى هذا القياس تكون المدينة كتلة واحدة غير منقسمة.
أد :
حقا إن ذلك أخف مما سبق ذكره.
س :
وليست أوامرنا هذه واجبات ثقيلة أيها العزيز أديمنتس كما يظنها الآخرون، ولكنها تهون إذا اعتصم حكامنا بالنقطة المهمة جريا على القول: مدينة مكتفية خير من مدينة عظيمة.
أد :
وما هي تلك النقطة؟
س :
هي الإعالة والتهذيب، فإذا صاروا بالتهذيب الراقي عقلاء تمكنوا من التبصر في هذه الأمور بسهولة، وفي غيرها مما نغضي عنه الآن، كالعلاقات الجنسية، والزواج، وانتشار النوع؛ لأن في هذه الأمور جميعها تجب إطاعة المثل القائل: «كل شيء مشاع بين الأحباب».
أد :
نعم، إن ذلك أصوب رأي.
س :
وإذا تألفت دولة على هذا النسق كانت كالحلقة محكمة الاتصال، ومضمونة الثبات والسعادة، استنادا إلى نظام الإعالة والتهذيب، وحيث توافرت الثقافة والتعليم أنشأ فطرا صالحة، وإذا حازت الفطر الصالحة على التعليم الصالح صارت أفضل، وارتقت في أبنائها صفة التوليد، كما ترى ذلك في طوائف الحيوان الدنيا.
أد :
بالطبع هكذا.
س :
وإذا رمنا الاختصار قلنا: يجب أن يحرص نظار الدولة على هذا المبدأ لئلا يفسد على غفلة منهم، بل يجب أن يسهروا عليه فوق كل شيء، أعني به المبدأ الذي يحظر إدخال أية بدعة في الموسيقى أو الجمناستك على النظام المقرر، ويحرصوا عليه كل الحرص مخافة أن:
يعشق الناس نشيدا
فيه للبدعة دخل
2
وقد يظن أن الشاعر لم يعن أغنية جديدة، بل أسلوبا موسيقيا جديدا، فيبيح البدعة، مع أن البدعة يجب أن لا تباح ولا تزكى، ولا أن نفهم الألفاظ هكذا، ويجب الحذر من قبول نوع جديد من الموسيقى؛ لأنه يهدد كل الدولة، فلا يحدث تشويش في أساليب الموسيقى ما لم يحدث ذلك أعظم أثر في الدوائر السياسية. هكذا يجزم دمون وأنا أثق به.
أد :
ويمكنك إدماجي في عداد الواثقين بهذا الرأي.
س :
وأظهر ما يكون أنه يجب على حكامنا أن يشيدوا مخافرهم هنا في ميدان الموسيقى.
أد :
وعلى كل فإن الفوضى تتسرب إلى هذا الميدان دون أن يشعر بها.
س :
نعم، تتسرب من باب التسلية حيث لا يتوقع ضرر.
أد :
لا، لا يتوقع منها ضرر، إلا أنها تتسرب خلسة إلى المسالك والعادات، وتبرز فيها بأعظم قوة وتتطرق إلى العقود، ومنها تتخطى إلى الهجوم على الشرائع والقوانين، مبدية في ذلك صفاقة يا سقراط، فينتهي بها الحال إلى قلب كل شيء فردي وعمومي.
س :
حسنا. أهكذا هو؟
أد :
دون شك.
س :
وكما قلنا سابقا، ألا يقتصر أولادنا من البداءة على الملاهي والتسليات المشروعة؟ لأنه متى كانت الملاهي غير مشروعة، وانغمس الأحداث فيها، استحال أن يشبوا رجالا مخلصين.
أد :
دون شك.
س :
وعليه: فإذا بدأ صغارنا بتسليات قويمة منذ حداثتهم، حل الولاء في عقولهم بواسطة الموسيقى، فتكون النتيجة نقيض ما سبق بيانه؛ لأن الولاء يلازمهم في كل شيء ويوسع نطاق نجاحهم، ويرفع منشآت الدولة بعد خفضها.
أد :
نعم، هذا حق.
س :
فيكتشف هؤلاء حتى القوانين التي عطلها الآخرون إذ حسبت زهيدة في نظر من سبق ذكرهم من الرجال.
أد :
وأي قوانين تعني؟
س :
أمثال هذه: التزام الصمت والاحتشام في حضرة الشيوخ، الوقوف لهم متى دخلوا، الاكتراث الكلي للوالدين، كذلك قوانين الزينة ولبس الأحذية، وملابس الجسد عموما، وكل ما كان من هذا القبيل. أفما هذا رأيك؟
أد :
بلى.
س :
على أنه من الحماقة سن هذه الشرائع على ما أظن، وأني أتيقن أن ذلك لم يعمل قط، ولا يتناول هذه الأشياء تشريع شفاهي يوجب دوامها.
أد :
فما العمل؟
س :
الأرجح يا أديمنتس أن ميل الإنسان الناشئ عن تهذيبه هو الذي يعين هذه الأشياء، أفلا يلد الشيء نظيره؟
أد :
لا شك في أنه يلد نظيره.
س :
وأخيرا يجب أن نتوقع أن يختم نظامنا بنتيجة كاملة وعظيمة، خيرا كانت أو شرا.
أد :
حقا إنه يجب.
س :
فلهذه الأسباب لا أحاول أن يمتد تشريعنا فيتناول نقطا كهذه.
أد :
أنت على حق.
س :
فأخبرني أيضا عما يتعلق بالمعاملات العمومية بين الأفراد في الأسواق، مشتملة إذا شئت عقود الصناع، والقدح، والتحامل، ولوائح المحاكم، وقرارات المحلفين، ونظام الضرائب، ونظام جمعها في الأسواق وفي الثغور. وعلى العموم، كل القوانين والمسائل المتعلقة بالأسواق والبوليس والجمرك وأمثاله، أفيلزم سن ما يختص بها؟
أد :
كلا، لا يناسب تحديد هذه الأمور للأقوام الصالحين المهذبين، فإنهم في أكثر الأحوال قلما يجدون صعوبة في استنباط ما يلزم لها من التشريع اللازم.
س :
نعم يا صديقي، إذا قدرهم الله على الاستمساك بما سننا من الشرائع.
أد :
وإلا قضوا العمر في التعديل والتغيير في شرائعهم المتعلقة بهذه الأمور، مغذين السير فيها نحو الكمال.
س :
إنك تعني أن أشخاصا يقضون الحياة كالمرضى؛ نظرا إلى ضعف سلطتهم على أنفسهم، فلا يتمكنون من التنكب عن مسلك الحياة المضر.
أد :
حتما.
س :
ولا بد أن أولئك يحيون حياة محيرة! ومع كونهم أبدا بين أيدي الأطباء لا يستفيدون، بل يسيرون من رديء إلى أردأ، وعلى الدوام يرجون أن يرشدهم أحد إلى علاج به شفاؤهم.
أد :
هذا هو الحال في هذا النوع.
س :
أوليس مدهشا أيضا أن أبغض الناس إليهم من يصارحهم الحقيقة، ويؤكد لهم أنهم ما لم يعدلوا عن النهم والشرب والفجور والتراخي فلا يفيدهم عقاقير ولا كي ولا بتر أطراف ولا تعاويذ ولا أربطة ولا شيء آخر من أمثال هذه؟
أد :
لا خير في من يكره مرشده.
س :
والظاهر أنك لا تعتبر هذا النوع من الناس.
أد :
حقا إني لا أعتبره.
س :
حتى ولو أجمعت المدينة كلها على هذا التصرف فلست تستحسنه. أولا ترى أن الدول تتصرف تصرف أفراد كهؤلاء؟ فحين يكون لها نظام سيئ تأمر رعاياها أن لا يتعرضوا لدستورها تحت طائلة الإعدام، بينما كل إنسان إذا كان في استطاعته أن يخدمهم خدمة مرضية ضمن حدود سياستهم الحالية ملتمسا رضاهم بالمصانعة والتمليق وببراعته في استطلاع رغائبهم وسدها، حسبوه فاضلا مملوءا بباهر الحكمة، فأوجبوا إكرامه.
أد :
نعم، إني لا أرى فرقا بين الأفراد والدول من هذا القبيل، ولا يمكنني أن أستحسن هذا التصرف.
س :
ومن الجهة الأخرى، ألا تعتبر براعة وشجاعة من الراغبين في خدمة دول كهذه؟
أد :
أعتبرهم، إلا حينما تخدعهم براعتهم وشجاعتهم، فيتوهمون أنهم من كبار السياسيين؛ لأن الكثيرين يمدحونهم.
س :
وماذا تقول؟ ألا تتسامح معهم؟ وهل تظن أن رجلا يجهل القياس جهلا تاما، ينكر أقوال الكثيرين من الجهلاء أمثاله، إذا قالوا إن طوله ست أقدام؟
أد :
كلا، ذلك غير ممكن.
س :
فلا تغضبن عليهم؛ لأنهم حقيقة أغرب أهل الدنيا، فإنهم يظنون أنهم بواسطة شرائعهم الخالدة وتعديلاتها، فيما يتعلق بمواضيع ذكرناها آنفا سيجدون طريقا لإبطال الحيل المستعملة في عقودهم، والمشاكل التي أتيت على ذكرها، وقلما يشعرون أنهم إنما يحاولون قتل الهيدرا الكثيرة الرءوس.
أد :
حقا إنهم لا يحاولون غير ذلك.
س :
أما أنا فلا أظن أنه يتحتم على الشارع الحقيقي أن يعبأ كثيرا بفروع هذه الحكومات والشرائع، سواء كانت دولته معتلة النظام أو سليمة الأحكام، أما في الأولى فلأن لا فائدة في قوانين كهذه، وأما في الأخرى فلأنه سهل على كل فرد من أهاليها إدراك بعض القوانين الملائمة بذاته لذاته، والبعض الآخر يتلوها بسبب حسن التهذيب الباكر.
أد :
فما بقي علينا كشاعرين؟
س :
لم يبق علينا شيء، ولكن بقي لأبلو إله دلفي أن يسن أشرف الشرائع وأعظمها وأسماها.
أد :
وما هي؟
س :
هي تشييد الهياكل، وترتيب الذبائح، وغير ذلك من طقوس العبادات لإكرام الآلهة والجبابرة والأبطال، وإحراق الموتى، وكل الطقوس المتعلقة بهم التي علينا إدراكها لموافقة سكان العالم الآخر، ولا نقدر بذواتنا أن نفهمها في حال تأسيس دولة، ولا نقبل شرحا، إذا عقلنا، إلا شرح إله البلاد؛ لأن هذا الإله هو المفسر الأوحد لجميع الناس في مواضيع كهذه، جالسا في نقطة الكون المركزية.
أد :
أصبت كل الإصابة، وذلك ما يجب أن نفعله.
س :
قد تم إنشاء مدينتنا يا ابن أريسطون، والشيء الثاني الذي عليك أن تعمله هو أن تفحصها، وتستمد النور اللازم من أية ناحية ممكنة، فاستدع لمساعدتك أخاك وبوليمارخس ورفقاءهما، وسلهم مساعدتنا لنعرف «مقر العدالة والتعدي فيها»، وبماذا يتباينان؟ وأيهما يؤثر من يروم أن يكون سعيدا، عرفه جميع الآلهة والناس أو لم يعرفوه. (فصاح غلوكون: ذلك غير كاف، فإنك وعدت أن تبحث فيه على أساس أنك تكون مجرما إذا تنكبت عن نصرة العدالة بما لك من حول.)
صدقت في ما ذكرتني به، ويجب أن أعمل بموجبه، ولكن يجب أن تساعدوني.
غلوكون :
سنساعدك.
س :
وأرجو أن نكتشف موضوع بحثنا هذا، فإني أرى أن دولتنا، وقد أحسن تنظيمها، تكون دولة صالحة.
غ :
بالضرورة.
س :
فواضح أنها تكون حكيمة، عفيفة، شجاعة، عادلة.
غ :
واضح.
س :
فإذا وجدنا بعض هذه الصفات في الدولة، ظلت الصفات التي لم تكشف مجهولة.
غ :
دون شك.
س :
فافرض وجود أربعة أشياء من أي نوع كان، في أي موضوع كان، وافرض أننا كنا نبحث عن أحدها، فإذا عثرنا عليه قبل الثلاثة الباقية اكتفينا. ولكنا إذا لم نجده واكتشفنا الثلاثة الأخرى عرفنا الرابع الذي ننشده؛ إذ لم يبق سواه، استدلالا بالمعلوم على المجهول.
غ :
مصيب.
س :
أفلا نختار هذا النوع من التفتيش في البحث عن الغرض الذي بين أيدينا؟ فإن الصفات المذكورة هي أربع أيضا.
غ :
وجوب ذلك واضح.
س :
فلنبدأ إذا. أولا أرى أن الحكمة ظاهرة في موضوعنا، ولكن يلابسها شيء من التناقض.
غ :
وما ذلك؟
س :
إذا لم أكن مخطئا، فالمدينة التي أتينا على وصفها حكيمة ما دامت مشورتها حكيمة. أليس هكذا؟
غ :
بلى.
س :
ومن الراهن أن الحكمة في المشورة هي نوع من المعرفة؛ لأن المعرفة لا الجهل تجعل الناس يفكرون بحكمة.
غ :
واضح.
س :
على أن في الدولة أنواعا عديدة من المعرفة.
غ :
فيها، دون شك.
س :
فهل تكون الدولة حكيمة المشورة باعتبار معرفة النجارين؟
غ :
كلا، فإنها باعتبار هذا النوع من المعرفة إنما تكون راقية في النجارة.
س :
فليست إذا معرفة الأواني الخشبية في أحسن شكل، هي التي تزكي تسميتنا المدينة حكيمة.
غ :
مؤكد لا.
س :
أفبالمعرفة المتعلقة بالأواني النحاسية وما هو من هذا النوع، تدعى المدينة حكيمة؟
غ :
لا، ليست في شيء من هذا النوع.
س :
ولا تحسب الدولة حكيمة بمعرفتها طريقة استغلال الأرض، بل تحسب بهذا الاعتبار دولة ناجحة في الزراعة.
غ :
هكذا أرى.
س :
فقل لي إذا، هل في دولتنا المستحدثة نوع من المعرفة يستقر في قسم من أهاليها، يتناول البحث ليس في قسم خاص فيها، بل في شئونها إجمالا، ليسير بعلاقاتها الداخلية والخارجية في أفضل اتجاه؟
غ :
أؤكد ذلك.
س :
فما هو ذلك النوع من المعرفة؟ وعند من يوجد؟
غ :
هو علم الوقاية، ومعرفته تستقر في طبقة الحكام الذين أسميناهم الساعة: «كاملين».
س :
وبماذا تصف المدينة باعتبار هذه المعرفة؟
غ :
أصفها بأنها حسنة الإدارة و«حكيمة».
س :
ومن هم أوفر عددا في المدينة؟ النحاسون أم الحكام الحقيقيون؟
غ :
النحاسون أوفر عددا من الحكام.
س :
فهل الحكام أقل عددا من الفئات العديدة التي في كل منها معرفة خاصة بفنها، ولها لقبها الخاص؟
غ :
أقل كثيرا.
س :
فالمعرفة مستقرة في أصغر طبقة أو أصغر قسم، أعني في الطبقة الحاكمة التي حادت على الدولة، المنظمة تنظيما يتفق مع الطبيعة باسم «حكيمة» بمجموعها، تلك الطبقة التي من حقها وواجبها الاشتراك في المعرفة التي بها وحدها بين كل أنواع المعرفة، تدعى المدينة «حكيمة»، هي على ما يظهر القسم الأقل عددا في الدولة.
غ :
هو ما تقول.
س :
فقد عرفنا بطريقة من الطرق واحدة من الصفات الأربع، وعرفنا في أية طبقة من الدولة تستقر.
غ :
معرفة تامة حسب حكمي العقلي.
س :
فيمكنا أن نؤكد أنه لا تعسر علينا معرفة «الشجاعة» والفئة التي فيها تستقر، وبسبب شجاعتها تدعى المدينة شجاعة.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
من ينظر في تسمية الدولة شجاعة أو جبانة إلى غير الفئة المحاربة، القائمة على الدفاع وخوض المعمعان في مصلحتها؟
غ :
لا أحد ينظر إلى قوة أخرى.
س :
كلا؛ ولذلك لا أرى شجاعة الدولة أو جبانتها تستقر في الفئات الأخرى.
غ :
لا تستقر.
س :
فالدولة تكون شجاعة كما تكون حكيمة بالنظر إلى قسم خاص من سكانها؛ لأن لها في ذلك القسم قوة تمكنها من حفظها سالمة انقطاع بالرأي السديد، في ما يخيف من الأشياء التي تنبئ أنها هي ما قصده الشارع في التهذيب المقرر. أليس ذلك ما تدعوه شجاعة؟
غ :
لم أفهم كنه ما قلته، فتفضل بإعادته.
س :
أقول إن الشجاعة نوع من التأمين على النفس.
غ :
وأي نوع من التأمين تعني؟
س :
تأمين الآراء التي كونتها الشريعة في سياق التهذيب، في ما يخشى من الأشياء باعتبار ماهيتها ونوعها. وحينما قلت «حفظها سالمة بلا انقطاع»، عنيت حفظها سالمة «في اللذة والألم»، في الرغبة والنفرة على السواء، فلا تسقط أبدا، وإذا كنت تريد فإني أصوره لك بمثل أراه ملائما.
غ :
إني أريد.
س :
حسنا، ألا تعلم أن الصباغين حين يباشرون صبغ الصوف باللون الأرجواني الثابت مثلا، يختارون من شتى الألوان الصوف الأبيض أولا؟ ثم يعدونه بعمليات عديدة ليمكنه قبول اللون المطلوب على الوجه الأتم، وبعد إعداده كذلك يصبغونه. فإذا صبغ الصوف على هذه الصورة كان لونه ثابتا لا يزول ولو غسل بالصابون أو بغيره، ولا يزول بهاؤه ، وإذا لم يعد على ما تقدم فأنت أدرى بما يكون من أمره، سواء صبغ بالأرجواني أو بغيره.
غ :
أعلم أن لونه يزول بالغسيل على صورة مضحكة.
س :
فاعلم أننا نحن أيضا بما فينا من مزية قد نحونا هذا النوع لما انتقينا جنودنا وعنينا بتهذيبهم بالموسيقى والجمناستك، فكانت عنايتنا تتجه بنوع خاص إلى إطاعتهم الأوامر، وتشربهم الشرائع على أفضل وجه تشرب الصوف الصباغ؛ ليكون رأيهم سديدا في ما يخشى وما لا يخشى، بعامل فطرتهم وتهذيبهم القانوني، فلا تقوى شداد العوامل على إحالة صبغتهم الفكرية، ومن تلك العوامل «اللذات»، وهي أفعل في حل الصبغة الروحية من القلي والبوتاس في حل الأصباغ والألوان، ومنها «الخوف»، و«الرغبة»، وهي أفعل المحللات في الدنيا، بل يتغلبون عليها كلها، فالقوة التي تتشبث تشبثا راسخا بالرأي السديد في ما يخشى وما لا يخشى، هي ما أدعوه شجاعة، إلا إذا كان عندك رأي آخر.
غ :
ليس عندي اسم آخر لها. ويلوح لي أن قوة كهذه إذا نشأت في النفس بدون تهذيب كما في الهمج والعبيد حسبت غير شرعية، وإنك تدعوها باسم آخر.
س :
بكل تأكيد.
غ :
فأسلم بهذا البيان في أمر الشجاعة.
س :
فسلم أيضا بشجاعة رجال الدولة تكن مصيبا، وسنبحث فيها فيما بعد أوفى بحث إذا شئت؛ لأنها غير مقصودة بالذات في بحثنا الحاضر، وإنما غرضنا الخاص هو «العدالة»، وأظن أن ما أوردناه في الشجاعة كاف.
غ :
مصيب.
س :
بقي أمران في الدولة يلزم اكتشافهما، وهما: العفاف والعدالة، والأخيرة هي سبب كل هذه الأبحاث.
غ :
تماما هكذا.
س :
فإذا رمنا إراحة أنفسنا من البحث في العفاف، فهل لنا من وسيلة لاكتشاف العدالة؟
غ :
لا أدري. ولا أريد الابتداء بالعدالة قبل استيفاء البحث في العفاف، فإذا كنت تسرني فابدأ به.
س :
أريد ذلك على قدر ما أنا أمين.
غ :
فابدأ بحثك.
س :
سأبدأ. لقد لاح لنا من موقف بحثنا الحالي أن العفاف أكثر شبها بالوئام من أختيه السابقتين.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
العفاف على ما أظن: نوع من الاتساق وامتلاك أعنة الرغائب واللذات، وعليه: نسمع الناس يقولون: أن فلانا سيد نفسه باعتبار ما، وما ماثل ذلك من الاصطلاحات الشائعة المعربة عن المعنى المراد.
غ :
وهي كذلك بكل تأكيد.
س :
ولكن أليس الاصطلاح «سيد نفسه» أمرا سخيفا؟ لأن كونه «سيد نفسه» يستلزم أنه «عبد نفسه» أيضا، فيكون سيدا ومسودا في وقت واحد.
غ :
دون شك.
س :
والظاهر أن مفاد هذا الاصطلاح أن في الإنسان - أي في نفسه - مبدأ صالحا ومبدأ شريرا؛ فحين يسود مبدؤه الصالح المبدأ الشرير نعبر عن ذلك بقولنا إنه سيد نفسه، وهو مدح، أما إذا تغلب فيه المبدأ الشرير، إما لسوء تربيته، أو لتأثير المعشر الردي من صحبه الكثيرين، نعت في هذه الحال بأنه «عبد نفسه» و«زنيم» تهكما.
غ :
يظهر أنه بيان كاف عنه.
س :
فنظرة ثمة إلى دولتنا الجديدة، تجد فيها أحد هذين الحالين، فإنك تسلم بدعوتها «سيدة نفسها» إذا سادها العفاف وضبط النفس سيادة العنصر الصالح العنصر الردي (في الإنسان).
غ :
قد نظرت حسب إشارتك، وأرى قولك حقا.
س :
فبالأحرى تسلم أن هذه الرغائب واللذات والآلام الكثيرة المنوعة توجد على الخصوص في الأحداث، والنساء، والخدم، وفي جمهور العامة، وأيضا بين الأحرار اسما.
غ :
هكذا.
س :
أما الرغائب المعتدلة البسيطة المقارنة العقل، والرأي السديد المسترشد بالتفكر، فإنما توجد في فئة قليلة من الناس، هي متصفة بأفضل المزايا الطبيعية وأسمى آثار التهذيب.
غ :
حقيق.
س :
أولا ترى ما يوازي ذلك في دولتك؟ وبعبارة أخرى أن رغائب الأكثرية من عامة الناس وأهل الطبقات الدنيا هي محكومة برغائب فئة المهذبين القليلة العدد وفطنها؟
غ :
بلى، إني أرى ذلك.
س :
فإذا كان هنالك دولة بحق تدعى سيدة نفسها وضابطة رغائبها ولذاتها، فدولتنا الحائزة على هذه الصفات هي تلك الدولة.
غ :
بالتأكيد.
س :
أفلا ندعوها عفيفة بناء على كل هذه البيانات؟
غ :
تأكيدا ندعوها.
س :
وإذا ساد دولة الاتحاد بين الحاكم والمحكوم في من يجب أن يتولى الأحكام، ففي دولتنا ذلك الاتحاد. ألا تظن هكذا؟
غ :
بكل تأكيد.
س :
ففي أي القسمين نقول إن العفاف يستقر إذا سلك أهلوها هذا المسلك؟ أفي الحكام أم في الرعية؟
غ :
في الفريقين.
س :
وهل ترى أننا لم نسئ التكهن لما زعمنا أن العفاف نوع من الاتزان؟
غ :
ولماذا؟
س :
ليس العفاف كأختيه: الشجاعة والحكمة، ينحصر في فئة خاصة من الناس، وبها تكون الدولة حكيمة أو شجاعة، بل هو صفة تعم جميع الفئات على السواء، فينشئ ترابطا بين الأقوى والأضعف ومن بينهما، سواء قست هذه الطبقات بقياس القوة البدنية، أو بالفهم، أو بالعدد، أو بالثروة، أو بما تشاء من الأقيسة، فيحق القول: إن الجامعة العامة هي العفاف: وهو رباط يضم أفضل عناصر الدولة طبعا إلى أسوئها فطرة، سواء في ذلك الفرد والمجموع، في ما يتعلق بمن يحق له الحكم.
غ :
أوافقك كل الموافقة.
س :
حسنا، فقد اكتشفنا في مدينتنا ثلاثة مبادئ من أربعة على أقل تقدير. هذا هو اقتناعنا الحالي، فما هو المبدأ الرابع الباقي الذي به تشترك الدولة بالفضيلة؟ إننا نؤكد أنه: «العدالة.»
غ :
واضح أنه العدالة.
س :
فيجب أن نكون الآن يا غلوكون كالصيادين الذين يحيطون بالغابة كي لا تفلت طريدتهم، فلننتبه لئلا تفلت العدالة من بين أيدينا؛ لأنه ثابت أنها موجودة، فنظرة في المحيط علك تلمحها قبلي فتخبرني.
غ :
أتمنى لو أن ذلك يتسنى لي، وإنك لتحسن إلي كثيرا إذا عاملتني عوض ذلك معاملة من يقتفي خطواتك ليتمكن من رؤية ما يشار إليه.
س :
فهلم ورائي بعد أن تشاركني في الصلاة.
غ :
سأتبعك فابدأ.
س :
حقا إن الطريق أمامي عسرة المسالك كثيرة الشعاب، وسبيل الاكتشاف أبدا وعر مظلم، ولكن يجب أن نتقدم.
غ :
نعم، يجب أن نتقدم.
س :
هنا أرى قبسا. هه، هه، أمامنا آثار يا غلوكون، فلا أظن أن الطريدة تفلت من أيدينا.
غ :
يا للبشرى.
س :
حقا إننا كنا في وهدة الحماقة.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
يظهر يا سيدي العزيز أن ما ننشده مضى عليه زمان طويل وهو أمامنا ولم ننتبه له، بل أتينا عملا سخيفا كالذين يفتشون عما هو بين أيديهم، هكذا نحن، عوض التحديق في ما هو أمامنا أرسلنا النظر بعيدا ففاتنا إدراكه.
غ :
وماذا تعني؟
س :
ذلك ما أعني، كنا نتحدث في العدالة، وفاتنا أننا قد أبناها.
غ :
ويا طولها مقدمة على المشتاق إلى الإيضاح!
س :
فاسمع وقل أمصيب أنا أم لا؟ إن القانون الذي وضعناه في بدء تأسيسنا الدولة هو العدالة، فقد قررنا وأعدنا القول مرارا إذا كنت تذكر أنه: على كل من أبناء الدولة أن يلوذ بشيء واحد تمثيل إليه فطرته.
غ :
قلنا ذلك.
س :
فيظهر يا صديقي أن: العدالة هي اقتصار الإنسان على ما يخصه. أتعلم من أين اقتبست ذلك؟
غ :
لا، فقل من أين؟
س :
ظننت أن الباقي في الدولة بعد طرح الصفات التي نظرنا فيها - أي العفاف والشجاعة والحكمة - هو الذي يجعل الدخول إليها ممكنا، ويحفظ من دخلها ضمن حدودها، وقد قلنا الساعة إن الفضيلة الباقية من طرح ثلاث من الأربع هي العدالة.
غ :
نعم، إنها كذلك دون شك.
س :
وإذا رمنا الحكم في أي هذه الفضائل الأربع إذا جدت في المدينة كان لها أعظم أثر في إكمال فضيلة سكانها، عسر علينا القطع، أهي الوئام بين الحكام والرعية؟ أم هي ثاقب الرأي في الجيش في ما يخشى وما لا يخشى؟ أم في حكمة الحكام وسهرهم؟ أم في ظهور آثار هذه الرابعة (العدالة) في كل ولد وكل سيد، وكل عبد وكل حر، وكل صانع وكل حاكم، في الدولة كافة؟ موجبة عليهم أن يلزم كل منهم عمله ويحذر الفضول.
غ :
لا شك في أنه يصعب القطع في الأمر.
س :
فالظاهر أنه في ترقية فضيلة الدولة، تستطيع القوة التي تحمل كلا على القيام بعمله الخاص، أن تباري حكمتها وشجاعتها وعفافها.
غ :
حقا إنها تباري.
س :
وإذا كان هنالك مبدأ يباري هذه الصفات في ترقية فضيلة الدولة، أفلا تجزم أنه «العدالة»؟
غ :
بكل تأكيد.
س :
فانظر إلى المسألة نظرا آخر، وقل هي تنتهي إلى النتيجة نفسها. هل تخص حكام الدولة بالقضاء في الدعاوى؟
غ :
بالتأكيد.
س :
أفلا يكون رائدهم في قضائهم فوق كل شيء، أن لا يمس أحد مال غيره، ولا يمس أحد إلا ماله؟
غ :
بلى، هذا هو همهم الخاص.
س :
ألأن ذلك عدل؟
غ :
نعم.
س :
فنسلم جريا على هذا الرأي «أن عمل ما يخصنا وتمتعنا به هو العدالة».
غ :
حقيق.
س :
فتفكر في نفسك، أمن مذهبي التالي أنت؟ إذا أخذ النجار على عاتقه أن يعمل عمل الإسكاف، أو الإسكاف عمل النجار، إما بتبادلهما الأدوات والميزات، أو بقيام أحدهما بعمل الاثنين معا، مع ما بين المهنتين من التباين، فهل يحل بالدولة كبير ضرر من جراء ذلك؟
غ :
ليس كبيرا.
س :
على أني أرى أنه إذا ترفع قلب أحد الصناع أو المنتجين من أي نوع كان، إما بعامل الغنى، أو بعامل القرابة، أو اعتدادا بالقوة البدنية، أو بأي عامل كان، فتطاول إلى مصاف المجاهدين، أو إذا تطفل أحد المحاربين على مجلس الأعيان عن غير جدارة، أو إذا تبادل هؤلاء الأدوات والميزات، أو إذا زعم أحدهم أنه يقوم بكل هذه الأعمال معا، فأرى أنك تسلم معي أن ذلك الفضول وتلك الفوضى يؤديان حتما إلى دمار الدولة.
غ :
بكل تأكيد.
س :
فأي تدخل من هذه الأنواع الثلاثة أو تبدلها إحداها بالأخرى يسبب دمارا عظيما في الدولة، وبكل عدالة وبأصدق تعبير يدعى عملا شريرا.
غ :
هكذا تماما.
س :
أولا تسلم أن إساءة الإنسان إلى الدولة شر إساءة هو تعد؟
غ :
دون شك إنه تعد.
س :
فهذا إذا تعد. وإذا تقيد كل منهم بعمله الخاص المنوط به، معرضا عما لا يعنيه في دوائر الصناعة والحرب والحكم فذلك التصرف عدالة، وبه تكون المدينة عادلة.
غ :
أسلم كل التسليم.
س :
فلا نجزمن في الأمر كثيرا، ولكن إذا وجدنا في تطبيق هذا الحكم على الفرد أن ذلك منه ظاهرة عدالة أعلنا مصادقتنا، وماذا نروم أكثر؟ وإلا حاولنا الدخول في بحث جديد، أما الآن فلنتمم بحثنا الذي بدأناه، موقنين أننا إذا تصورنا العدالة في الوسط الكبير أولا هان علينا إدراكها في الوسط الصغير في الفرد الواحد من الناس، وقد رأينا الدولة أفضل وسط نختاره لهذا الغرض؛ لذلك أنشأنا المثل الأعلى من الدول، عالمين أن العدالة تستقر في أفضلها. فلننتقل إذا من المثال الذي وضح لنا في الدولة إلى تطبيقه على الفرد، فإذا طابقت النتيجة فيه النتيجة في الدولة فبها ونعمت، وإذا اختلفت فيه عنها فيها في أمر من الأمور عدنا إلى الدولة لاستئناف الامتحان. وبوضع الدولة والفرد جنبا إلى جنب والجمع بينهما تسطع منهما شرارة العدالة سطوع النور لدى فرك قطعتين من الخشب الجاف إحداهما بالأخرى، ومتى سطعت أنوار العدالة أمام عقولنا حكمنا في حقيقتها.
غ :
في اقتراحك أسلوب حسن فلنتبعه.
س :
فأتقدم إلى السؤال: إذا دعونا شيئين مختلفين مقدارا باسم واحد باعتبار الصفة المشتركة بينهما، أفمثلان هما أم غيران؟
غ :
مثلان.
س :
فلا يختلف الفرد العادل عن الدولة العادلة، بل الاثنان سيان باعتبار اشتمالها على حقيقة العدالة.
غ :
سيان.
س :
فنحكم إذا يا صاح في أمر الإنسان الفرد إذا هو امتلك في نفسه أنواع الأقسام المذكورة، أن من الصواب تلقيبه بالألقاب التي أطلقناها على الدولة باعتبار وحدة رغبات هذه الأقسام في الدولة وفي الفرد.
غ :
لا مندوحة عن ذلك.
س :
فقد عرضت لنا أيها الصديق الفاضل مسألة ثانية سهلة بخصوص طبيعة النفس البشرية، وهي «الأقسام الثلاثة فيها أم لا؟».
غ :
إنها مسألة لا يستهان بها. ولقد حق القول يا سقراط «إن الجميل عسر المنال».
س :
هكذا يظهر، وأقول لك صراحة يا غلوكون أننا حسب رأيي، لن نبلغ حقيقة هذا الموضوع بالأساليب التي نجري عليها في بحثنا الحالي، ولا يزال السبيل المؤدي إليها طويلا وعرا. وأجرؤ على القول إننا قد ندرك الحقيقة بواسطة أساليبنا الحالية في صورة ليست دون أبحاثنا وحججنا السالفة.
غ :
أفلا نكتفي بذلك؟ أما أنا فأكتفي الآن.
س :
وأنا أيضا أكتفي.
غ :
فلا يفت في عضدك إذا، بل اشرع في البحث.
س :
فقل: أيمكننا أن ننكر أن في كل منا نفس المبادئ الأصلية والأوصاف التي في الدولة؟ فلست أرى أنها تسربت إلى الدولة من غير هذا الأصل. ومن المستهجن التصور أن المبدأ الحماسي اتصل بالدولة إلا عن طريق الأفراد المتصفين بالحماسة، كما هو الحال في الثراكيين والسكيثيين وسكان الأقاليم الشمالية كافة، وكذلك حب المعرفة الذي بحق ينسب إلى أمتنا، وحب الثراء المنسوب إلى الفينيقيين والمصريين.
غ :
حقيق.
س :
ذلك حق واضح لا يعسر علينا فهمه.
غ :
كلا لا يعسر.
س :
هنا تبرز صعوبة، وهي: هل نتم كل أعمالنا بقوة واحدة سائدة فينا؟ أو أن هنالك ثلاث قوى تعمل كل منها على حدة في أعمالنا المختلفة؟ فنتعلم بإحداها، ونغضب بأخرى، وبثالثة تتوق نفوسنا إلى لذائذ الطعام والشراب والتوليد؟ أو أننا نعمل كلا من هذه الأفعال بمجموع قوى النفس كتلة واحدة؟ إنه يعسر علينا القطع في هذه المسألة قطعا مرضيا.
غ :
هكذا أظن.
س :
فلنجرب الخطة الآتية لنرى أمتمايزة القوى العاملة فينا أم واحدة؟
غ :
وما هي خطتك؟
س :
من البين أن شيئا واحدا لا يمكنه أن يعمل عملين متضادين، أو يكون في حالين متباينين في وقت واحد وفي موضوع واحد، فحيثما اتفق لنا أن نكون في موقف كهذا حكمنا أن الموضوعات ليست واحدة بل متعددة.
غ :
حسنا جدا.
س :
فتأمل في ما سأقوله.
غ :
تفضل.
س :
أيمكن أن يكون القسم الواحد في الشيء الواحد ساكنا ومتحركا معا في وقت واحد؟
غ :
كلا لا يمكن.
س :
فلنتفاهم أكثر لئلا نختلف متى تقدمنا، فإذا قيل إن الإنسان الذي يقف ويحرك يديه ورأسه هو ساكن ومتحرك في وقت واحد، فلا نسلم بصحة هذا القول؛ لأن قسما من ذلك الإنسان ساكن، وقسما آخر متحرك. أليس هذا هو الواقع؟
غ :
بلى.
س :
وإذا قال الخصم موغلا في المداعبة في قالب لطيف: إن الدوامات «النحلات» تكون ساكنة ومتحركة معا حين يدور أعلاها ورأسها مستقر في موضع خاص لا يبرحه، أو إن أي شيء آخر يدور في نفس المكان فهو ساكن ومتحرك معا، فلا نقبل هذه الأقاويل؛ لأن تلك الأشياء ليست ساكنة ومتحركة في وقت واحد باعتبار واحد. وردنا على الخصم هو: أن لها محورا أو محيطا، فهي ساكنة باعتبار المحور، دائرة باعتبار المحيط، إذا كانت لا تميل من ناحية إلى أخرى، وإذا مال محورها عن العمودي في أثناء دورانها إلى الأمام أو إلى الوراء أو اليمين أو اليسار، فحينذاك يتعذر القول إنها ساكنة.
غ :
حقيق.
س :
فلا تخيفنا مقاومة من هذا النوع، ولا تقنعنا بأن شيئا واحدا في وقت واحد وفي قسم واحد وبالنسبة إلى موضوع واحد، ينفعل انفعالين متضادين، وينتج مفعولين متباينين.
غ :
يمكنني الجواب عن نفسي.
س :
فلا نضيعن الوقت في رد اعتراضات كهذه وفي إقناع أنفسنا بأنها باطلة. فدعنا نفرض أن الحقيقة هي كما قلنا، ولنتقدم إلى الأمام ونحن على بينة من أمرنا، أننا قبلنا رأيا مخالفا لما قلناه، كان كل ما نبنيه عليه من النتائج عرضة للسقوط لا محالة.
غ :
هذه هي الخطة المثلى.
س :
حسنا، فهل تدرج في سلك المتضادات الاتفاق والتباين، قبول موضوع ورفضه، الجذب والدفع، وأمثال ذلك من المتضادات؟ وسواء كانت فاعلة أو منفعلة فلا يغير ذلك حكمنا؟
غ :
نعم إني أدرج.
س :
أفلا تدرج مطردا الجوع والعطش والرغبات عامة، والإرادة الميل لأمر ما، تحت أحد الصفين المذكورين؟ مثلا: ألا نقول إن عقل الإنسان يشتهي مدفوعا بالرغبة في الحصول على مطلوبه، أو يجتذب إلى صدره ما يهواه؟ أو إنه على قدر ما يرغب في امتلاك مطلب ما يستحسن في قلبه الحصول عليه، كأنه يطلبه بلسانه مشتاقا إلى سد شهوته؟
غ :
إني أدرج.
س :
أولا تصف الكراهية والنفار والمقت وأمثالها في صف الرفض العقلي والصد، وبالإجمال نقيض اللائحة الآنفة الوصف؟
غ :
دون شك.
س :
أفتقول والحالة هذه أن الرغبات تؤلف صفا واحدا، وأشهر ما فيها الجوع والعطش؟
غ :
نقول.
س :
الأول رغبة في الطعام، والآخر في الشراب؟
غ :
نعم.
س :
فهل العطش كعطش رغبة في أكثر من الشراب؟ أي هل هو عطش إلى الشراب الحار أو إلى الشراب البارد مثلا؟ أو إلى الكثير من الشراب أو إلى القليل منه ؟ أوليس بالأحرى حقا أنه إذا صحب العطش حر كانت الرغبة في الشراب البارد، وإذا صحبه برد كانت الرغبة في الشراب الحار، وإذا اشتد العطش كانت الرغبة في الكثير من الشراب، وإلا ففي القليل؟ ولكن العطش بحد ذاته لا ينشئ شوقا إلى أكثر من الشراب البسيط الذي تتطلبه الطبيعة. وعلى هذا يقاس الجوع أيضا.
غ :
أنت مصيب. فكل رغبة في حد ذاتها تتجه إلى غرضها الخاص الذي تطلبه بصورة بسيطة، أما الرغبة في نوع المطلوب أو مقداره فهي إضافية.
س :
فلا ندعن أحدا يشوش أفكارنا بالمعارضة لنقص اختبارنا، قائلا أن لا أحد يرغب في مجرد الشراب، بل في الشراب الجيد، أو في مجرد الطعام، بل في الطعام الجيد؛ لأن الناس عموما يرغبون في الجيد من كل شيء. فإذا كان العطش رغبة فهو رغبة في الجيد من الشراب، والحكم واحد في الشرب وفي غيره سواء بسواء، وينطبق هذا الحكم على كل الرغائب.
غ :
حقيقة، قد يكون هنالك سر في المضادة.
س :
وعلى كل فأذكر أنه في كل الحدود النسبية، إذا كان الحد الأول مقيدا كان الثاني مقيدا، وإذا كان الأول مطلقا كان الثاني مطلقا.
غ :
لم أفهمك.
س :
ألا تفهم أن «الأعظم» حد إضافي ينطوي على حد آخر؟
غ :
حقيقة.
س :
فينطوي على «الأدنى» و«الأقل». ألا ينطوي؟
غ :
بلى.
س :
والأوفر عظمة ينطوي على الأكثر قلة أو صغارة؟
غ :
نعم.
س :
وهل يشير الزائد ماضيا إلى الناقص ماضيا من باب الطباق، والزايد مستقبلا إلى الناقص مستقبلا؟
غ :
من كل بد.
س :
أولا يتمشى هذا القياس على الحدود المطابقة «كالأكثر والأقل»، و«المضاعف والمناصف»، وكل الكميات النسبية؟ وأيضا «الأثقل والأخف»، و«الأسرع والأبطأ»، و«البارد والحار»، وكل النعوت المماثلة؟
غ :
يتمشى بالتأكيد.
س :
وكيف الحال في الفروع العملية المنوعة؟ ألا يصح فيها هذا الحكم؟ أي إن المعرفة المجردة تنحصر في «المعروف» فقط، وكل ما يمكن أن يكون موضوع المعرفة المطلقة، أما العلم الخاص بنوع خاص فله موضوع خاص؟ ولإيضاح ما أعنيه أقول : حين بدأ فن البناء، ألم يتميز عن غيره من العلوم فدعي علم الأبنية؟
غ :
دون شك.
س :
أوليس ذلك لأنه ذو صفة خاصة لا يشاركه فيها علم آخر؟
غ :
بلى.
س :
أو لم تتفرع صفته الخاصة من صفة موضوعه الخاص؟ أولا يمكنا إطلاق هذا الحكم على جميع العلوم والفنون؟
غ :
يمكنا.
س :
فهذا ما عليك أن تفهم أني أعنيه بكلامي السابق، وعليه: فأنت تفهم حكم الحدود الإضافية، فإذا كان أول المتضايفين مطلقا كان ثانيهما مطلقا، وإذا كان ثانيهما مقيدا فأولهما مقيد. ولا أعني بذلك أن صفات الاثنين واحدة، كأني أقول مثلا إن «علم الصحة صحيح»، «وعلم المرض مريض»، أو إن «علم الشر شرير»، و«علم الصلاح صالح»، لا بل إنه حالما ينسلخ العلم عن الإطلاق ويضاف بنوع خاص، كالمثل الوارد أعلاه في أحوال الصحة والمرض، تحول العلم إذ ذاك إلى التقيد بنعت من النعوت، فلا يدعى فيما بعد «علما» بإطلاق اللفظ، بل يتقيد بإضافته إلى موضوعه الخاص، كقولنا مثلا: علم الطب.
غ :
فهمت، وأرى قولك حقا.
س :
فلنعد إلى أمر العطش، أفلا تحسبه أحد الأشياء التي تستلزم طبيعتها موضوعا نسبيا ملائما، بناء على تسليمنا أن هنالك ما يسمى عطشا؟
غ :
أسلم، وموضوعه الشرب.
س :
فللشرب الخاص عطش خاص، ولكن العطش المطلق لا يتقيد بكثرة الشرب أو بقلته ولا بجودته أو عدمها، وبالاختصار: لا يتناول نوعا خاصا من الشرب، بل هو عطش مطلق إلى الشرب. أليس كذلك؟
غ :
بأتم ضبط.
س :
فلا تتناول نفس العطشان رغبة في غير الشراب المطلق، فالشراب ترغب وإياه تطلب.
غ :
هذا هو الحال بوضوح.
س :
فإذا جذب النفس العطشى جاذب عن الشرب، فذلك الجاذب جزء آخر في النفس متميز عن الجزء الذي عطش وصبا إلى الشرب صبو الأيل إلى الماء. أو لم نقل إن الشيء الواحد يستحيل أن يعمل عملين متضادين في وقت واحد في وسط واحد باعتبار واحد.
غ :
مؤكد أنه يستحيل.
س :
وعلى القياس نفسه رامي النبال، لا يجوز أن نقول إن يده تجذب وتدفع معا، بل إنه يجذب بيد ويطلق السهم بالأخرى.
غ :
حقيقة إنه يفعل هكذا.
س :
أفيمكننا أن نقول إن الناس يأبون الشرب أحيانا وهم عطاش؟
غ :
نعم، كثيرا ما يحدث ذلك للكثيرين من الناس.
س :
فماذا يقول المرء في أشخاص كهؤلاء إلا أن في نفوسهم مبدأ يوجب الشرب، ومبدأ آخر يحظره، وأن الثاني متميز عن الأول وأقوى منه؟
غ :
هذا هو رأيي.
س :
أولا ينشأ الوازع الذي يحول دون تهتك كهذا في النفس عن القوة الذهنية، بينما القوة التي تقود العقل وتجذبه إلى التهتك تنشأ عن مرض في النفس؟
غ :
هكذا يظهر.
س :
فلنا أساس معقول للادعاء أن هاتين القوتين متميزتين في نفس الإنسان، فندعو قسم النفس الذي به تعقل «القوة الذهنية»، والقسم الذي به تجوع وتعطش وتختبر تقلب الرغبات الأخرى، نلقبه بلقب غير العقلي أو: «القوة الشهوية»، وهي حليفة اللذة والانقياد.
غ :
نعم، التفكير على هذا النمط ليس بدون أساس معقول.
س :
فلنحسبها مسألة مبتوتة أن في النفس هذين المبدأين المتمايزين، فهل المبدأ أو القسم الذي به نغتاظ ثالث متميز عنهما؟ وإلا فإلى أي القوتين هو أميل بطبيعته؟
غ :
قد يمت بنسب إلى القوة الشهوية.
س :
ولكنني سمعت عن ليونتيوس بن أغلايون قصة أصدقها، وهي أنه لما خرج من بيرايوس، وشعر بوجود أشلاء قتلى في مجرى ماء تحت سورها الشمالي والقاتل إلى جانبها، كان في نفسه رغبتان، تهيب به الواحدة إلى رؤية الأشلاء، والأخرى إلى الاشمئزاز منها والإعراض عنها، فكان في داخله حرب شعواء بين هاتين الرغبتين، فأغمض عينيه أولا ومر بالجثث فلم يرها، على أنه لما تغلبت فيه الشهوة فمال لرؤية الجثث فتح عينيه بأصابعه قائلا بغضب: «هلمي أيتها العيون التاعسة وتمتعي بهذا المنظر الشهي!»
غ :
وأنا أيضا سمعتها.
س :
فهذه القصة ترينا أن الغضب يضاد الشهوة، والنتيجة أنهما مبدآن متباينان.
غ :
حقا إنه يضاد الشهوة.
س :
أولسنا نرى أن الإنسان وقد حملته الشهوة على مضادة أحكام الذهن يؤنب نفسه ويغضب على القوة المتحكمة في داخله؟ وحين تتصادم القوتان يكون الغضب إلى جانب القوة الذهنية؟ ويخوض معارك حامية ضد الشهوات حين يقرر الذهن أنه لا يجوز أن يتفقا عليه؟ فستقول لي إنك لم تشعر في نفسك بشيء من ذلك قط ولاحظته في غيرك.
غ :
لم أشعر بشيء من هذا القبيل.
س :
فحين يرى الإنسان أنه قد خطئ أفلا يكون هدوء روحه مقيسا بكرم أخلاقه، فيتحمل تبعة عمله من جوع وبرد وإضرابهما من يد من أساء إليه، معتقدا أنه نال جزاءه العادل؟ وكما قلت سابقا إنه لا يستفزه الغضب فيقوم على من عاقبه.
غ :
هذا حقيق.
س :
ولكنه حين يرى أن قد مسه الضر ظلما وعدوانا ألا تتقد فيه جذوة الغضب حنقا؟ فينضوي تحت ما يحسبه «العدالة» ويتحمل أقصى الجوع والبرد وأمثالهما في سبيل الجهاد، إما فوزا أو موتا، أو يصده النهى عن ذلك صد الراعي كلبه؟
غ :
ينطبق ذلك على ما تعنيه انطباقا تاما، وحقا إننا قد عينا المعاونين في دولتنا تحت إدارة الحكام ككلاب رعاة الأمة.
س :
أرى أنك فهمت جيدا ما أعنيه، فاحرص أن تفهم ما يأتي.
غ :
وما هو؟
س :
هو أن رأينا الحديث في القوة الغضبية نقيض ما سلف، فقد خلناها حليفة القوة الشهوية، والآن نراها بعيدة عنها، وفي حال النزاع الروحي الناشب داخل النفس تنحاز إلى القوة الذهنية.
غ :
حتما تنحاز إليها.
س :
أفمستقلة هي عن القوة الذهنية؟ أو إنها مجرد تعديل، بحيث يكون في النفس قوتان «لا ثلاث متمايزة»، هما القوة العقلية والقوة الشهوية؟ أو إنه في النفس - كما في الدولة - ثلاث قوى متمايزة هي: المفكرة، والمنفذة، والمنتجة، يقابلها في النفس ثلاث قوى، ثالثتها الغضبية، حليفة الذهن الطبيعية ما لم يفسد بناء النفس سوء التربية؟
غ :
بالضرورة هي قوة ثالثة.
س :
نعم، إذا ثبت أنها متميزة عن القوة الذهنية كما رأينا أنها منفصلة عن القوة الشهوية تمام الانفصال.
غ :
وليس ذلك بخاف عن النظر؛ لأن المرء يرى حتى في الأطفال أنهم منذ نعومة أظفارهم يتميزون غضبا، مع أن بعضهم لم يبد فيه أقل أثر للقوة العقلية بعد، ولا يدركونها قبل مرور السنين الكثيرة، وفي رأيي أن بعضهم لن يدركها.
س :
نعم نعم، إنك لمصيب، ويمكن المرء أن يلاحظها أيضا في البهائم، ففيها ما تكلمت عنه، عدا ذلك فإن في البيت الذي أوردناه عن هوميروس، وهو: فقرع الصدر وفي القلب ندم: قد أوضح بهذا البيت اختلافا بين القوتين، مبينا أن القسم الذي يعرف الخير والشر يؤنب القسم الذي انغمس في الشر بدون تفكر.
غ :
أنت مصيب كل الإصابة.
س :
وأرانا قد بلغنا شط السلام ولو بعد جهاد مبرح، وأيقنا يقينا راسخا بوجود مطابقة تامة بين أقسام الدولة وأقسام نفس الفرد.
غ :
حقيق.
س :
أفلا ينتج عن ذلك أن الأفراد يحسبون حكماء، على القاعدة نفسها التي بها تحسب الدولة حكيمة؟
غ :
دون شك إنهم يحسبون.
س :
وبهذه الصورة وهذا المبدأ الذي به يكون الفرج شجاعا تكون الدولة كذلك، وقس عليه الاعتبارات الأخرى، فإن نسبة النفس إليها كنسبة الدولة، وكل ما يفضي إلى وجود الفضيلة في الفرد يفضي إلى وجودها في الدولة.
غ :
ذلك لازم.
س :
فيمكننا القول يا غلوكون إن الرجل عادل كما نقول إن الدولة عادلة.
غ :
وبهذا تتفقان ضرورة.
س :
فلم ننس أن ما يجعل الدولة عادلة هو التزام كل من أقسامها الثلاثة عمله الخاص.
غ :
أظن أننا لم ننس.
س :
فليرسخ في ذهن كل منا أنه إذا أتم كل قسم من أقسام العقل عمله الخاص كان صاحبه بهذا الاعتبار إنسانا عادلا، عاملا عمله الخاص.
غ :
حقا، يجب أن يرسخ ذلك في الذهن.
س :
أفليس من الجوهري أن يكون الحكم في قبضة مملكة الذهن لكونها حكيمة، فتقوم بتدبير مصالح النفس كلها، وتكون مملكة الحماسة في النفس بمثابة حليفة ورعية؟
غ :
بلى، بالتأكيد.
س :
أوليس اقتران الموسيقى بالجمناستك - كما أسلفنا - يقرن هذين القسمين - الذهن والحماسة - فيغذي الأول ويرقيه بالمحادثات العلمية السامية، ويلطف الثاني ويكسر حدته بالخطاب اللطيف، فيصير إلى الأنس بعد الوحشة بفعل اللحن والإيقاع.
غ :
حتما هكذا.
س :
وإذا تدرب القسمان هكذا أتقنا دروسهما وحصلا على التهذيب الحقيقي وسادا القسم الشهوي الذي يؤلف الجانب الأكبر من نفس كل إنسان، وهو طبعا الأشد نهما، وراقباه مراقبة مدققة لئلا يعال بما نسميه «اللذات الجسدية»، فيزداد نموا وقوة، ويتعدى حدوده ويأبى أن يلزم عمله الخاص، ويطمح إلى التسلط على الأقسام الأخرى سلطة مطلقة لا تجوز له، فيئول ذلك إلى دمار المجموع.
غ :
حقا إن ذلك يخرب كل قوى النفس.
س :
أولم يتأهبا - الذهن والغضب - أفضل تأهب لحراسة النفس والجسد ضد هجمات الأعداء الخارجيين، فيمارس الواحد الشورى، والثاني يخوض المعارك إطاعة للقوة الحاكمة، مجهزا بالشجاعة لإنفاذ قرارها؟
غ :
حقيق.
س :
هكذا ندعو الفرد شجاعا باعتبار العنصر الحماسي في طبيعته، حيث يثبت هذا القسم في الألم وفي السرور، حسبما أملى عليه الذهن ما الذي يخشى وما الذي لا يخشى.
غ :
نعم، وبالصواب ندعوه شجاعا.
س :
وندعوه حكيما باعتبار القسم الصغير المتسلط في نفسه، الذي يملي هذه الإرشادات، وله العلم في ما يفيد هذه الأقسام الثلاثة مفردة ومجموعة.
غ :
بالتمام هكذا.
س :
أولا ندعو الإنسان عفيفا باعتبار تلاؤم هذه الأقسام والقوى واتزانها وائتلافها؟ أي حين يتفق القسمان المحكومان مع القسم الحاكم، حاسبين القسم العقلي صاحب الحق الملوكي؟
غ :
ليس العفاف إلا هكذا في الفرد وفي الدولة.
س :
وأخيرا، يكون الإنسان عادلا بالطريقة والوسائل التي وصفناها تكرارا.
غ :
لا شك في كونه كذلك.
س :
فقل لي: هل وجدنا في بحثنا في العدالة فارقا بينها في الفرد وبينها في الدولة؟
غ :
لا أظن.
س :
لأننا نقدر أن نجعل رأينا مبرما بتطبيقنا الحكم العام عليه، إذا كان في عقولنا شكوك من هذا القبيل.
غ :
وأي نوع من الأمثلة تعني؟
س :
مثلا، إذا طلب منا الرأي في معرض الكلام على دولتنا المثلى والفرد الذي يماثلها طبعا وتهذيبا، هل تظن أن امرأ كهذا ينكر ما أودعه من ذهب أو فضة؟ أو أن أحدا يحسب إنسانا كهذا أكثر تهافتا على هذا العمل ممن لا يشاكله؟
غ :
لا أحد يظن هذا الظن.
س :
أولا يكون بريئا من ريبة السرقة وانتهاك الحرم وزيف الصداقة وخيانة الدولة؟
غ :
يكون.
س :
علاوة على ذلك لا ينكث عهدا ولا يحنث في وعد من الوعود.
غ :
واضح أنه كذلك.
س :
فهو أبعد الناس في الدنيا عن جريمة الزنى، وعقوق الوالدين، وإهمال العبادة الإلهية.
غ :
حقيق أنه أبعدهم.
س :
أوليس مرجع كل ذلك إلى أن كل قوة من قوى نفسه الداخلية تلزم عملها الخاص باعتبار العلاقات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم؟
غ :
يمكن رد كل ذلك إلى ما ذكرت.
س :
أفلا تزال تبحث عن بيان آخر للعدالة غير «أنها ما ينشئ دولا كهذه ورجالا كهؤلاء»؟
غ :
كلا، لن أبحث بعد.
س :
فقد صحت أمنيتنا كل الصحة، وتحققت الأماني التي أيدناها في مستهل شروعنا في تأسيس الدولة، والظاهر أننا كنا مقودين بعون إلهي إلى نموذج العدالة الأصلي.
غ :
حقا قد صح.
س :
والحقيقة يا غلوكون أنه وصف غير أنيق للعدالة، ولكنه نافع، المبدأ القائل: خير للمرء الذي أعدته الطبيعة للسكافة أن يلزمها، والرجل الذي أعدته للتجارة أن يلوذ بها. وهلم جرا.
غ :
هكذا يظهر.
س :
فحقيقة العدالة بأجلى مظاهرها هي ألصق بحياة الإنسان الداخلية ومصالحه الجوهرية منها بمظاهر حياته الخارجية وصورة عمله السطحية، فلا يدع العادل قواه الروحية تتجاوز حدود اختصاصها وتتدخل في اختصاص غيرها، فتعمل عمل ذلك الغير، بل يحسن ترتيب بيته. وإذ هو سيد نفسه يعقل خلقه ليكون على أتم وئام مع نفسه، ويجعل القوى الثلاث تعطي نغمة واحدة ارتفاعا وانخفاضا ووسطا، وبعد قرن هذه معا ورد عناصر نفسه العديدة إلى وحدة حقيقية كإنسان دمث متزن يتقدم إلى عمله، سواء كان ذلك في اجتناء الثروة، أو في الحصول على حاجات الجسد، وسواء كان ذلك في مصالح الدولة أو في مصالحه الخاصة في كل ما يؤمن ويعترف أن المسلك الشريف هو ما يصون سجية العقل التي سلف ذكرها ويقويها، وأن المعرفة الصحيحة التي تسيطر على تصرف كهذا هي «الحكمة». ومن الجهة الأخرى عنده عمل التعدي يعرض الخلق للدمار، وأن الرأي المجرد المسيطر على التصرف الباطل هو حماقة.
غ :
كلامك غاية في الصواب.
س :
حسنا جدا. فإذا قلنا إننا وجدنا الإنسان العادل والدولة العادلة وحددنا العدالة فيهما، فلا أرى أننا كاذبون.
غ :
لا لعمري.
س :
أفنقول ذلك إذا؟
غ :
نقول.
س :
وفي الدرجة الثانية علينا أن نفحص التعدي لنرى ما هو.
غ :
واضح أنه علينا أن نفعل ذلك.
س :
أفليس التعدي عبارة عن تنازع ناشب بين القوى الثلاث تنازعا به تتعدى هذه القوى حدودها وتتدخل في ما ليس من اختصاصها؟ أو عبارة عن قيام قسم من العقل ضد مجموعه، راميا إلى الاستئثار بالحكم خارج حدود اختصاصه، بعد ما كان على ذلك القسم أن يخدم بقية القوى ويخضع للقوة الحاكمة خضوعا صحيحا؟ وأرى أن ندعو هذا وما ينجم عنه من الضوضاء والتشويش تعديا وفجورا وجبانة وحماقة، وبالاختصار: «رذيلة.»
غ :
حتما هكذا.
س :
أفلم نبين بوضوح ماهية التعدي ومن المتعدي؟ ومن جهة أخرى: ماهية العدالة، فاهمين طبيعة كل من العدالة والتعدي؟
غ :
وكيف ذلك؟
س :
لأن هذه الظاهرة في النفس كظاهرة الصحة والمرض في الجسم.
غ :
وبأية طريقة؟
س :
القواعد الصحية تصون الصحة، وأسباب الأمراض تسبب مرضا.
غ :
نعم.
س :
وعليه: أفلا تنشئ ممارسة العدالة سجية العدل في النفس، ومزاولة التعدي سجية البطل؟
غ :
دون تخلف.
س :
فيقوم إنشاء الصحة بتنظيم قوى الجسد، بحيث تسود أو تساد حسب مقتضى الطبع، ويجعل المرض القوى تسود أو تساد بخلاف مقتضى الطبع.
غ :
حقيق.
س :
وبالمثل، أليست ثمرة العدالة تنظيم قوى النفس فتسود أو تساد حسب حكم الطبيعة؟ وثمرة التعدي جعل قوى النفس تسود أو تساد خلاف حكم الطبيعة؟
غ :
تماما هكذا.
س :
فالفضيلة صحة النفس وجمالها وسجيتها الصالحة، والرذيلة داؤها وتشويهها وفسادها.
غ :
حقيق.
س :
أولا يمكننا أن نضيف إلى ذلك أن السعي الحميد يؤدي إلى طلب الفضيلة، والسعي الذميم إلى الانغماس في الرذيلة؟
غ :
بلا شك.
س :
فالظاهر أنه بقي علينا أن ننظر في: هل «يفيد» المرء أن يعمل بعدل، ويتبع المقاصد الشريفة ويكون عادلا، عرف ذلك عند الناس أو لم يعرف، أو أن يعمل التعدي ويكون متعديا إذا لم يعاقب ولم يصلحه التأديب.
غ :
لا يا سقراط. أرى البحث يتدانى بعد ما ظهرت لنا طبيعة العدالة والتعدي بالنور الذي سبق بيانه، أويحسب الناس أن للحياة قيمة وقد تهدمت أركان الصحة، ولو توافرت أنواع الطعام والشراب والثروة والقوة بلا حد ولا نهاية؟ وهل للحياة من قيمة في عيوننا، وقد فسد نظام نحيا به فسادا كليا؟ فليعمل المرء ما تهوى النفس. يستثنى من ذلك ما يحرره من الرذيلة والتعدي، ويخوله طلب العدالة والفضيلة وإدراك حقيقة الأشياء التي مثلناها.
س :
نعم يتدانى، وإذ قد بلغنا هذه النقطة فلا يضطرب قلبنا حتى نتأكد أوضح تأكد ممكن من صحة نتائجنا.
غ :
كل شيء ولا اضطراب القلب.
س :
فلننظر كم هي أنواع الرذيلة. أعني الأنواع التي تستحق الذكر.
غ :
قل كم هي، فإني أتبعك.
س :
أما وقد بلغنا هذه القمة في المحاورة فإني أستطيع أن أرسل نظري من عل، فأرى للفضيلة شكلا واحدا لا غير. أما صور الرذيلة فلا تحصى، أخص منها بالذكر أربعة.
غ :
ماذا تقول؟
س :
يظهر أنه يوجد صور للعقل بعدد أنواع الحكومة.
غ :
وكم عددها؟
س :
أنواع الحكومات خمسة، وصفات النفس خمس.
غ :
أفصح.
س :
أولها: التي أتينا على وصفها، ويمكن أن نطلق عليها اسمين مختلفين؛ لأنها ملكية إذا حكم الفرد، وأرستقراطية إذا تعدد الحاكمون.
غ :
حقا.
س :
ويندمج كلاهما في صف واحد؛ لأنه سواء توحد مرجع السلطة أو تعدد فشرائع الدولة الرئيسية لا تتزعزع إذا كان تهذيب الحكام وتدريبهم كما وصفناه.
غ :
حقا لا تتزعزع.
الكتاب الخامس: المسألة الجنسية
خلاصته
لما وصل سقراط إلى هذه النقطة - المذكورة في ختام الكتاب الرابع - تقدم لوصف التنظيم السياسي، فقاطعه بوليمارخس وأديمنتس بالاتفاق مع سائر الحضور، ملتمسين منه بسط الكلام في «شيوعية النساء والأولاد» التي كان قد ذكرها مختصرا، فقبل التماسهم بعد تردد كثير.
فهو يذهب إلى وجوب تهذيب النساء وتدريبهن كالرجال تماما؛ لأن المرأة تقدر أن تتقن فن الموسيقى والجمناستك كالرجال، وفيها ما فيه من الكفاءة لمختلف الأعمال، وينحصر الفرق بين الجنسين في الدرجة دون النوع، وسببه ضعفها إذا قيست بالرجل، فالنساء اللائي يبدين ميلا إلى الفلسفة أو الحرب يجب أن يصحبن الحكام أو المساعدين ويشاركنهم في واجباتهم ويصرن أزواجا لهم. ويجب أن تكون علاقات الجنسين المتبادلة تحت مراقبة القضاة، وأن تبارك بإجراء المراسم الدينية. ويفصل الأولاد عن والديهم ويربون في معاهد خاصة تنشئها الحكومة، فبهذه الوسيلة وحدها يمكن الحكام ومساعديهم أن يتحرروا من كل ميل للملكية، ويرغبوا في الاشتراك بالمصلحة التي تضم الفئتين معا، وتقرن أفرادهما بعضهم ببعض.
ثم تقدم سقراط لسن القوانين لانتظام الأولاد الباكر في سلك الحربية، والقوانين المتعلقة بمعاملة الجبناء والشجعان، وسلب القتلى، وتشييد الأنصاب. هنا سأله أديمنتس مع تسليمه بأن شيوعية النساء والأولاد مستحبة باعتبارات كثيرة، أن يبين: هل يستطاع تطبيق تلك النظم؟ فأجابه سقراط أن غرضه الخاص تبيان نظام الدولة الكاملة؛ سعيا وراء الغرض المقصود منها، وهو اكتشاف طبيعة العدالة، أما إمكان إنشاء دولة كهذه بالفعل فهي مسألة أخرى، ليس لها أقل أثر في سلامة النظام وصحة نتائجه. وكل ما يصح أن يطلب منه هو أن يبين كيف يمكن الهيئات الناقصة الحاكمة حاليا، أن تبلغ أقرب نقطة ممكنة إلى مدى السياسة الكاملة التي مر وصفها.
وهنالك انقلاب واحد لا بد منه لتحقيق هذا الغرض، وهو تسليم مقاليد السياسية إلى الفلاسفة، وللتخلص مما يلابس ذلك من وجوه المقاومة يلزم أن نلوي عنان البحث إلى تحديد الفيلسوف الحقيقي.
أولا: الفيلسوف الحقيقي هو المغرم كل الغرام بالحكمة في كل فروعها، وعلينا أن نميز في هذا الموقف أدق تمييز، بين الفيلسوف الحقيقي وبين المدعي حب الفلسفة تدجيلا. وتستقر نقطة الفرق بينهما في أن الدجال يكتفي بدرس الموضوعات الجميلة مثلا. أما الفيلسوف الحقيقي فلا يقف عند ذلك الحد، بل يتجاوزه إلى إدراك الجمال المطلق. ويمكن وصف حال الأول العقلي بأنه «تصور»، وحال الثاني أنه «معرفة حقيقية»، أو «علم»، فهنالك الوجود الحقيقي الذي يتناوله العلم، واللاوجود أو العدم الذي نسبته إلى الجهل نسبة الوجود الحقيقي إلى العلم، ويتوسط بين العلم وبين الجهل التصور. فنستنتج أن التصور يتناول الوجود الظاهري، فالذين يدرسون الوجود الحقيقي يدعون: محبي الحكمة أو «فلاسفة»، والذين يدرسون الوجود الظاهري يدعون: محبي التصور، لا فلاسفة.
متن الكتاب
قال سقراط: هذه هي الدولة، أو النظام، وهذا هو الفرد، وقد وصفناهما بالإصابة والصلاح، فإذا كانا صوابا فكل ما سواهما خطأ ورديء، فنطلق هذه الأوصاف على تنظيم الدول وتكوين خلق الأفراد. ويمكن رد الأنواع الردية إلى أربع صور.
غلوكون :
وما هي تلك الصور؟ (قال سقراط: وفيما أنا أتأهب لإيرادها بالترتيب كما لاحت لي الواحدة تلو الأخرى، مد بوليمارخس يده وأمسك بثوب أديمنتس عند الكتف، إذ كان جالسا وراءه، وهمس في أذنه بضع كلمات لم نسمع منها سوى قوله: أفندعه إذا يفلت؟ أم ماذا تفعل؟ فأجابه أديمنتس بصوت جوهري: كلا البتة. فقلت لهما: فمن الذي لن تدعوه يفلت؟ أجاب أديمنتس: هو أنت يا سقراط.)
سقراط :
ولماذا؟
أديمنتس :
لأنه يلوح لنا أنك تحجم ضاربا على جانب مهم من الحديث، رغبة في التخلص من إيراده. ونراك واهما أننا لا ننتبه إلى تجاوزك عنه مكتفيا بإشارة طفيفة إليه، فحواها أن القاعدة القائلة إن «كل شيء مشاع بين الأصحاب» يمكن تطبيقها على النساء والأولاد.
س :
أفلست مصيبا في ذلك؟
أد :
بلى. على أن كلمة «مصيبا» كباقي الكلمات، تفتقر إلى الإيضاح، فيلزم أن نعرف بأي الطرق العديدة الممكنة تطبق هذه الشيوعية، فلا تتأخر عن إفادتنا ما هي الطرق التي تقترحها، فلطالما توقعنا أنك تعين الحالات التي بها يولد الأطفال، وطريقة تربيتهم بعد ولادتهم، وبالأحرى أن تصف شيوعية النساء والأولاد التي تعنيها وصفا تاما؛ لأننا نرى أن لتطبيق هذه النظرية خطأ كانت أو صوابا علاقة كبيرة بحياة الدولة. والآن وقد لويت عنان البحث نحو نوع آخر من أنواع الحكومات قبلما توفي هذه النقطة حقها من البحث؛ رأينا من المناسب ما سمعتنا نقوله: أن لا ندعك تفلت قبلما تأتي على تبيان هذه الأشياء تبيانا تاما كما أبنت غيرها .
غلوكون :
وأنا أؤيد طلبه.
ثراسيماخس :
ويمكنك يا سقراط أن تعتبرنا مجمعين على هذا القرار.
سقراط :
ما أعظم المسألة التي تتوخون طرقها، كأننا نبدأ من جديد في إنشاء الدولة. ولو اكتفيتم بما قيل وطويتم كشحا عن هذه النقاط لكان سروري عظيما، فقلما أدرك خيالكم أي عدد من المسائل تثيرون بفتحكم أبواب هذه المواضيع، وقد سبقت فرأيت ذلك، فتجاوزته لئلا يؤدي بنا إلى اضطراب لا حد له.
ثراسيماخس :
أفتظن أننا لسبك الذهب
1
حضرنا وليس للبحث الفلسفي؟
س :
نعم، ولكن إلى حد معقول.
غلوكون :
حقا يا سقراط، إن الشعب يرى أن الحياة كلها هي الحد المعقول لأبحاث كهذه، فلا يهمك أمرنا، ولا يثقل عليك سرد آرائك لنا في المواضيع التي سألناك بيانها، أي ماهية شيوع النساء والأولاد بين حكامنا، وتربية الأطفال بين المهد والمدرسة، وهي أعسر أوقات الحياة وأوفرها مشقة، فابن لنا على مبدأ ينم ذلك.
س :
ليس من الهنات الهينات يا صديقي البارع البحث في هذه القضية.
أولا:
لأن إبراز خطتنا إلى حيز الفعل أمر لا يصدق، وهي أعوص ما طرقنا من الأبحاث.
ثانيا:
إذا فرضنا إمكان تطبيقها إلى حد التمام، فهنالك عراقيل وريب في كونها مستحبة؛ لذلك أحجم عن مس هذا الموضوع حذرا من أن أظهر يا صديقي العزيز أني أطرق بحثا خياليا.
غ :
لا تحجم، فليس سامعوك بلداء ولا جاحدين ولا خصوما.
س :
أفتشجيعا تقول ذلك لي يا صديقي الفاضل؟
غ :
نعم.
س :
فاسمح لي أن أقول إن لكلامك أثرا يناقض ما تتوقع، فلو أني أثق أني فاهم ما أقول لأصاب تشجيعك مرماه؛ لأن التحدث في أهم الموضوعات وأجلها شأنا في جمهور من العقلاء عمل سليم العاقبة إذا كان المتكلم مالكا ناصية موضوعه، أما إنه يتناول البحث في مذهب وهو لا يزال باحثا مترددا فيه - كما ينتظر أن أفعل الآن - فعمل كثير المهاوي ويحملني على الوجوم، لا خوفا من تعرضي للازدراء - ذلك أمر صبياني - ولكن خشية من أن تزل قدمي عن الحقيقة، فأسقط وأجر أصدقائي معي في ميدان يخشى فيه السقوط، فاضرع أن لا توقع بي الإلاهة نماسيس يا غلوكون فيما أقول؛ لأني أعتقد اعتقادا راسخا أن قتل رجل سهوا هو جرم أقل من خديعته في ما يتعلق بالنظم الشريفة والصالحة والعادلة، واقتحام هذا الخطر بين الأعداء أقل إساءة منه بين الأصحاب، فمن حسن حظك العروج عن هذا التشجيع.
غلوكون (ضاحكا) :
دمنا ليس على رأسك إذا أضر بنا رأيك يا سقراط، فإننا نبرئك من تهمة خديعتنا، فقل غير هياب.
س :
قال الشرع: «إن من برأته المحكمة من ذنبه كان بريئا في العالم الثاني»، فالأرجح أنه يكون بريئا في هذا العالم.
غ :
حسنا، فلا يثنين عزيمتك هذا الخوف.
س :
فعلي أن أرجع إلى قسم من موضوعنا كان يجب أن أبحث فيه قبلا في موضوعه المناسب، وعلى كل فالترتيب الحالي هو الأفضل، فبعد ما مثلنا دور الرجال نشرع في تمثيل دور النساء، ولا سيما وهذا طلبكم.
إن الخطة المثلى لهم في مذهبي في أمر اقتناء الأزواج والأولاد للرجال الذين ولدوا وتربوا على الصورة التي مر بك وصفها، تقوم في اتباعهم الدوافع الأصلية التي أبلغناهم إياها. وكان غرض نظريتنا في ما أعتقد أن نجعل رجالنا كرعاة قطيع.
غ :
نعم.
س :
فلنتبع هذا السبيل، فنسن قوانين تماثل تلك لتكثير النوع وتربية الصغار، ودعنا ننظر في: هل تلك القوانين مناسبة أو لا؟
غ :
ماذا تعني؟
س :
ذلك ما أعني: أتظن أن زوجات كلاب الرعاة صالحة لمشاطرة ذكورها حراسة القطيع، والصيد، ومشاركتها في كل واجباتها؟ أو أنها يجب أن تلزم أماكنها لأنها غير قادرة، لاشتغالها بولادة الأجرية وتربيتها، وأن على الذكور العمل والسهر؟
غ :
ننتظر أنها تشاطر الذكور كل شيء، إنما نعاملها معاملة الضعيف، وذكورها معاملة القوي.
س :
أفيمكن استخدام الحيوانات في عمل واحد ما لم تستعد له استعدادا واحدا تدريبا وتهذيبا؟
غ :
كلا.
س :
فإذا رمنا استخدام النساء في عمل الرجال وجب تهذيبهن كالرجال.
غ :
وجب.
س :
وقد خولنا الرجال تعلم الموسيقى والجمناستك.
غ :
نعم.
س :
فيجب تهذيبهن في الفنين كالرجال مع التدريب العسكري، ومعاملتهن معاملة الرجال.
غ :
ذلك ينتج طبعا عما قلته.
س :
وقد يلوح كثير من تفاصيل القضية التي أمامنا سخيفا فوق العادة إذا طبقت في الطريقة التي رسمناها.
غ :
هكذا تلوح دون شك.
س :
فأي هذه الأمور أبعث على السخرية؟ أليس هو اشتراك النساء مع الذكور في مدارس الرياضة عاريات الأبدان، فتيات وطاعنات في السن - كالطاعنين في السن من الرجال في مدارس الجمناستك - مولعات بالتمارين الرياضية، بالرغم من تغضن أساريرهن وشناعة وجوههن؟
غ :
بلى، في الوقت الحاضر يظهرن مزدرى بهن.
س :
حسنا، وإذ قد طرقنا هذا الباب فلا نخشين صور التهكم الجمة من جانب الرجال المعتبرين إزاء بدعة كهذه في الجمناستك والموسيقى، زد على ذلك تقلدهن السلاح وركوبهن الخيل.
غ :
أصبت.
س :
وبالعكس، إذا بدأنا هذا البحث فلنتقدم إلى أشد مطالب قانوننا، راجين أولئك الهازئين أن يعرجوا عن ديدنهم ويأخذوا الأمر بعين الجد والترصن، ونذكرهم أنه إلى عهد غير بعيد كان تعري الرجال عيبا وهزءا عند اليونانيين، كما هو اليوم عند أكثر البرابرة. ولما بدأ الكريتيون فاللقدمونيون بالتمارين الرياضية هزأ بهم مزاح عصرهم وتخذوهم موضوع تسلية لهم. ألا تظن كذلك؟
غ :
أظن.
س :
ولما أثبت الاختبار أن تجريد الجسم خير من ستره، ولى التأثير السخري الذي كان لتلك العادة في النظر، أمام الحجج القاطعة التي أيدت فائدته، فحينذاك ثبت أن من يحتقر إلا الرذيلة، ومن يهزأ بغير الشر والجنون فهو أحمق. وكذلك من يترصن ويجد في غير ما هو صالح.
غ :
بأعظم تأكيد.
س :
أفلا يجب أن نتفق في: هل القوانين المطروحة للبحث ممكنة الإجراء أو لا؟ ونفسح مجالا لكل واحد هازئا كان أو جادا للبحث في المسألة: هل تمكن الأنثى طبيعتها من مشاطرة الذكور أعمالهم، أو أنها غير كفء لشيء من أعمال الذكور؟ أو أنها كفء لبعض الأعمال دون البعض الآخر؟ وإذا كان الأمر كذلك، ففي أي صف تضع الأعمال الحربية؟ أليس ذلك أفضل بداءة نختارها، وقد تكون أفضل نهاية؟
غ :
تماما هكذا.
س :
أفتريد أن ندخل البحث بعضنا ضد البعض الآخر، كي لا يبقى الوجه السلبي بدون دفاع أمام هجومنا؟
غ :
لا سبب يمنعنا من ذلك.
س :
فلنقل بالنيابة عن الخصم: - «لا لزوم يا سقراط ويا غلوكون لتقديم الآخرين شيئا ضدكم؛ لأنكم أنتم أنفسكم في بدء سعيكم في تأسيس الدولة سلمتم بأنه يجب أن يختص كل فرد من الناس بعمل واحد، حسب استعداده الطبيعي.» - قررنا ذلك فلا يمكننا مخالفته. - «أفيمكنك أن تنكر وجود فرق كبير بين طبيعة الذكر وطبيعة الأنثى؟» - من المؤكد أنه يوجد فرق. - «أفليس من الحزم تخصيص كل جنس بنوع من العمل يتفق مع طبيعته؟» - دون شك. - «فأنتم إذا مخطئون، وقد ناقضتم أنفسكم بتحتيمكم عملا واحدا على الرجال والنساء مع اختلافهن في الاستعداد.»
فهل عندك من دفاع يا صديقي النبيه؟
غ :
ليس من السهل الإجابة فورا، ولكني سأفوضك، بل أفوضك الآن في إقامة الأدلة على صحة مذهبنا وفي شرحها لنا.
س :
ذلك يا غلوكون وكثير من أمثاله سبقت فرأيته؛ لذلك خشيت التدخل في أمر اقتناء الأزواج والأولاد وتربية الأطفال.
غ :
حقا إن ذلك ليس سهلا.
س :
كلا، وواقع الحال هو أنك إذا ألقيت في بحيرة صغيرة أو في البحر الخضم فعليك أن تجتهد في السباحة في الموضعين على السواء.
غ :
تماما.
س :
أفلا يجب أن نسبح للنجاة من هذا العباب، حتى يقيض لنا دلفين آخر
2
يحملنا على ظهره إلى شط الأمان، أو تتسنى لنا وسيلة غير منتظرة.
غ :
هكذا يظهر.
س :
فهلم ننظر هل يمكننا أن نجد منفذا إلى النجاة؟ فقد سلمنا أن طبائعهن تختلف عن طبائعهم، ومع ذلك أوجبنا على الفريقين أعمالا واحدة. أفهذه هي الشكوى ضدنا؟
غ :
يقينا.
س :
إن فن التناقض خارق الحد يا غلوكون.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
لأنه يظهر لي أن كثيرين يسقطون فيه ضد إرادتهم، وهم يزعمون أنهم يبحثون مع أنهم يتجادلون، ولا يقدرون أن يفهموا حدود مسألة واحدة من مسائل أبحاثهم، فيقتصرون على مقاومة ما تقرر بمهاجمة الألفاظ، مستخدمين فن الجدل في البحث الفلسفي.
غ :
حقا إن هذا هو الواقع، أفينطبق علينا أيضا الآن؟
س :
ينطبق أدق انطباق، وظاهرة الحال تدل على أننا سقطنا في هوة التناقض اللفظي غير متعمدين.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
إننا أعرنا حرف العقيدة شأنا خطيرا في أنه لا يجوز فرض أعمال واحدة لطبائع مختلفة، وبأوضح تعبير أننا نسينا كل النسيان معنى الكلمات: «طبائع مختلفة»، و«طبيعة واحدة»، وماذا قصدنا بتخصيص مختلف الأعمال بمختلف الطبائع، وأعمالا واحدة بطبيعة واحدة.
غ :
حقا إننا لم ننتبه إلى ذلك.
س :
ففي وسعنا - والحالة هذه - أن نسأل: أسيان طبيعتا الصلع والمسترسلي الشعر أم مختلفتان؟ وبعد أن نتفق في أنهما مختلفتان نتقدم للسؤال التالي: إذا صنع الصلع أحذية، فهل يؤذن لمسترسلي الشعر أن يصنعوا أحذية كذلك؟ وإذا صنع هؤلاء أحذية أفنحظر صنعها على أولئك؟
غ :
إنها مسألة سخيفة.
س :
وهل سخافتها إلا في عدم استعمالنا الكلمة «واحدة» و«مختلفة» باعتبار عام، وقوفا عند أمر التباين والتشابه المتجهين رأسا إلى الأعمال التي نحن في صددها؟ مثلا قلنا إن رجلين فيهما ميل عقلي إلى فن الطب لهما طبيعة واحدة. ألا تظن أنهما هكذا؟
غ :
أظن.
س :
ولكن الإنسان الميال إلى الطب يختلف عن الميال إلى التجارة.
غ :
معلوم أنه يختلف.
س :
كذلك طبائع الرجال والنساء إذا بدت لنا مختلفة باعتبار فن أو وظيفة، قلنا إنه يجب أن يناط هذا العمل بأحدهما. ولكنا إذا وجدنا أن الاختلاف بين الجنسين مختص بالأقسام التي يشغلونها في النسل علمنا أن اختلافهما لا يتعارض مع مقصدنا، بل على الضد من ذلك، يجب أن يتقلد حكامنا ونساؤهم أعمالا واحدة.
غ :
بالصواب تكلمت.
س :
أفلا نتقدم فنطلب من خصومنا أن يرشدونا إلى ما هو الفن أو الدرس الخاص المتعلق بتنظيم الدولة الذي لا يتساوى فيه الرجال والنساء، بل هما فيه متضادان؟
غ :
حقا إننا مفوضون أن نفعل ذلك.
س :
وقد يورد آخرون ما قلته الساعة: ليس من السهل إجابة ذلك فورا إجابة وافية، وإن الأجابة بعد التأمل غير متعسرة.
غ :
حقا إنها غير متعسرة.
س :
أفتريد أن نرجو من يثيرون اعتراضا من هذا القبيل أن يصحبونا لنرى، هل نقدر أن نريهم أنه ليس في أعمال إدارة الدولة عمل يختص بالنساء؟
غ :
من كل بد أريد.
ص :
فنقول له ما يأتي: أجب يا هذا: أليس ما تعنيه لما قلت أن رجلا من الرجال مفطور على موهبة خاصة لدرس خاص وأن رجلا آخر خال منها، وأن الأول يتعلم بسهولة والآخر بصعوبة؟ وأن الأول يفهم ما قرأه لنفسه بقليل إرشاد، أما الآخر فبالرغم من وافر الإرشاد وعظيم العناية لا يستقر العلم في عقله، وأن عقل الواحد حصل على المساعدة اللازمة، والآخر خانته قوى الجسد؟ أليست هذه هي الفوارق الوحيدة التي بها تحد امتلاك المواهب الطبيعية ولزومها لكل عمل؟
غ :
كل واحد يقول هذا القول.
س :
أفتعرف فرعا صناعيا ليست النساء فيه دون الرجال؟ وهل يلزم أن نخطو خطوة أخرى فنذكر فن النسج، وصنع الكعك، وحفظ المأكولات، التي يفقن بها الرجال، حتى إن تقصيرهن فيها مستغرب؟
غ :
بالصواب أجبت. إنه على العموم يفوق أحد الجنسين أخاه الجنس الآخر في بعض الأشياء، وأن كثيرات منهم يفقن كثيرين منهم في أمور كثيرة، ولكن الحكم العام هو ما قلته أنت.
س :
فليس في الأعمال المتعلقة بإدارة الدولة - أيها الصديق - ما يختص بالمرأة كامرأة، أو بالرجل كرجل، ولكنها مواهب موزعة على أفراد الجنسين سواء بسواء، فالمرأة باعتبار جبلتها صالحة لكل عمل كالرجل، مع أنها أضعف منه بوجه عام في الأعمال على كل حال.
غ :
حتما هكذا.
س :
أفنخص الرجال بكل الأعمال ولا نترك للمرأة عملا؟
غ :
وكيف يمكننا ذلك.
س :
وبالعكس، نرى إحداهن ميالة إلى الطب، والأخرى خالية من ذلك الميل، وإحداهن موسيقية الميل دون أختها.
غ :
دون شك.
س :
أولا نقول أيضا إن إحداهن مجهزة بصفات تؤهلها للرياضة والحرب، وغيرها لا تميل إلى الحرب ولا ذوق لها في الألعاب الرياضية؟
غ :
أظن أننا نقول ذلك.
س :
أولا يمكن أن تمتلك إحداهن حب المعرفة وأختها كره المعرفة؟ وأن تكون إحداهن حماسية دون أختها؟
غ :
وهذا أيضا حق.
س :
وعليه : فبعضهن صالحات لمنصة الحكم دون البعض الآخر، أوليست هذه هي الأوصاف التي اخترناها دليلا على جدارة الرجال بذلك المنصب؟
غ :
بلى، هذه هي.
س :
فلا فرق إذا بين طبائع الرجال وطبائع النساء باعتبار حكم الدولة، إنما هو تفاوت بينهما في الدرجة قوة وضعفا.
غ :
واضح أنه لا فرق بينهما.
س :
فنختار ربات الجدارة لمساكنة أربابها ومشاركتهم في الأحكام؛ لأنهن أكفاء في الإدارة، وهن نسيبات الرجال في الطباع.
غ :
تماما.
س :
أولا ننيط العمل الواحد بالطبائع الواحدة؟
غ :
ننيطه.
س :
فقد انتهينا الآن إلى مركزنا السابق، وسلمنا أنه لا ينافي الطبع إباحة الموسيقى والجمناستك لأزواج حكامنا.
غ :
حتما هكذا.
س :
فليس تشريعنا هذا خياليا غير عملي ما دام منطبقا على حكم الطبيعة، بل بالحري إن تصرفنا الحالي الذي يخالف تشريعنا الجديد يخالف الطبيعة أيضا.
غ :
هكذا يظهر.
س :
فمدار بحثنا هو: هل النظام المقترح عملي أو لا؟ وهل هو المرغوب فيه أو لا؟ أليس مدار هذا بحثنا؟
غ :
بلى.
س :
أمتفقون نحن في أنه عملي؟
غ :
نعم.
س :
فالنقطة الثانية التي نبتها هي أن هذا النظام هو النظام المرغوب فيه.
غ :
نعم واضح.
س :
جيدا، فإذا كانت المسألة كيف نؤهل المرأة للحكم، أفلا نجعل تهذيبها خلاف تهذيب الرجل؟ ولا سيما والفطرة التي نهذبها فيهما هي واحدة؟
غ :
كلا، بل يكون تهذيب الفريقين واحدا.
س :
وأروم أن أعرف رأيك في الفكرة التالية.
غ :
وما هي؟
س :
على أي أساس تفاضل بين رجل وآخر؟ أو هل تراهم جميعا أكفاء؟
غ :
لست أفاضل بينهم.
س :
فأي الطبقتين في دولتنا المثلى تراها أفضل؟ طبقة الحكام المهذبين كما وصفناها؟ أم الأساكفة المعدين للسكافة؟
غ :
السؤال سخيف؟
س :
قد فهمتك. أفليس حكامنا أفضل الرجال؟
غ :
أفضل كثيرا.
س :
أفلا تكون حاكماتنا فضليات النساء؟
غ :
يكن.
س :
وهل أفضل للدولة من اشتمالها على أفاضل الرجال وفضليات النساء؟
غ :
لا أفضل من ذلك.
س :
أولا يمكن الحصول على هذه النتيجة بواسطة الموسيقى والجمناستك المستعملين على ما أبناه؟
غ :
بلا شك.
س :
فيجب أن تتعرى أزواج حكامنا في تمرينات الجمناستك؛ لأنهن يسترن ببرد الفضيلة بدلا من الثياب، ويشاطرن الرجال الحرب والأعمال التي يشتمل عليها حكم الدولة دون غيرها من الأعمال. على أننا نختصهن بأخف الواجبات بسبب ضعفهن الجنسي. أما هزء الرجال بهن بسبب تعريهن من الثياب في أثناء التمرينات الرياضية اللازمة لإدراكهن التهذيب العالي، فلا يجني صاحبه «إلا ثمر الحكمة غير الناضج»،
3
وهو لا يدري على ما يضحك ولا ما يفعل، فإنه كان ولا يزال مبدأ ساميا القول: «إن المفيد شريف والضار دنيء.»
غ :
بكل تأكيد.
س :
فقد عبرنا ما أدعوه: العقبة الأولى التي كانت تعترض سبيلنا في البحث في شريعة النساء، فبدلا من أن نحمل بالكلية بتيار القول إن الواجب على الذكور والإناث أن يكون لهم كل شيء مشتركا، ينحصر بحثنا في إمكان ذلك وإيثاره.
غ :
نعم، وليست العقبة التي عبرتها بهينة.
س :
على أنك لن تقول إنها كئود متى رأيت ما بعدها.
غ :
كمل كلامك لأراها.
س :
في الشريعة الأخيرة وفي التي قبلها عقبة أخرى من هذا القبيل.
غ :
وما هي؟
س :
أن تكون أولئك النساء بلا استثناء أزواجا مشاعا
4
لأولئك الحكام، فلا يخص أحدهم نفسه بإحداهن. وكذلك أولادهم يكونون مشاعا، فلا يعرف والد ولده، ولا ولد والده.
غ :
هذه الشريعة أكثر مما قبلها مثارا للشك في تطبيقها وفي فائدتها.
س :
أما من جهة فائدتها فلا أظن أن أحدا يمكنه أن ينكر أن شيوعية النساء ومن يلدن جمة الفوائد، اللهم إذا كان تطبيقها ممكنا، على أني أتوقع أعظم مقاومة في تطبيقها بالفعل.
غ :
في الأمرين كليهما فائدتهما وتطبيقها مجال واسع للجدال.
س :
لا بد أن يكون هذان الأمران محطا للنزاع، وإني أعدو هاربا من أحدهما إذا وافقتني في فائدة الفكرة وانحصر بحثي في إمكان تحقيقها.
غ :
على أنك لم تتخلص من النقد، فإننا نتوقع منك شرح الأمرين.
س :
وعلي أن أخضع للعدالة فقط إذا جدتم علي بهذا المبغى، وهو أن تسمحوا لي بيوم راحة، كالبطيئي الأفهام الذين تختمر فكرتهم في وحدتهم. فأناس كهؤلاء كما لا يخفى يهملون البحث في إمكان حصول ما يرغبون فيه أو استحالة حصوله قبل ما يكتشفونه، تجنبا للتعب في التفكير، فيفرضون أنهم حصلوا عليه، ويتقدمون إلى النظر في سائر أقسام الموضوع، فيروقهم الإسراع في ما يرغبون أن يعملوا في الأحوال التي عينوها، مغالين في التراخي والاستهتار، فأنحو نحوهم راغبا في خطة الكسل وفي تأجيل البحث في إمكان حصول هذه الأمور. على أني أفرض الآن أنه ممكن، وأبحث إذا أذنت لي في كيفية تصرف حكامنا حين إنفاذ قانوننا، لكي يبينوا أنه أنفع أسلوب للدولة والحكام، فأبحث بحثا مدققا، ثم أتقدم إلى حل المسألة الأخرى إذا كنت تشاء.
غ :
إني أسمح لك، فتقدم.
س :
أظن أنه حين يكون حكامنا ومعاونوهم اسما لمسمى يكون الأولون آمرين والآخرون منفذين، طبقا لأحكام الشريعة في الجانبين، مستعملين إرادتهم في ما تركناه لحريتهم واختيارهم.
غ :
ممكن، فإن ذلك ما نتوقعه منهم.
س :
فعليك كشارعهم أن تنتقي أكفاء النساء كما انتقيت أكفاء الرجال، وأن تجمع بين الفريقين متوخيا بقدر الإمكان أن يكونوا متشابهي الطبائع، ولما كان مسكنهم وطعامهم مشاعا، ولا أحد منهم يخص بملك أو عقار خاص، فيعيش الجنسان معا، ويشتركون بالتمرينات وغيرها من مهام الحياة، فتكون نتيجة ائتلافهم ومشاركتهم الانقياد بالفطرة إلى المودة والاصطحاب. ألا ترى أن ذلك ضروريا؟
غ :
ليس بالضرورة الهندسية، بل بالضرورة الحبية، وهي أقوى من تلك وأبعد نفوذا في إقناع جمهور الرجال.
س :
بالتمام. على أن الاجتماع بدون نظام يا غلوكون أو بالأحرى: الفوضى على أنواعها أمر غير مقدس في مدينة السعداء، ولا يبيحه الحكام.
غ :
بالصواب.
س :
فواضح أن ثاني واجباتنا تقديس الروابط الزوجية على قدر الإمكان، وهذا التقديس يلازم الزواج الذي يعود بأعظم فائدة على العامة.
غ :
حتما.
س :
فكيف يمكن بلوغ هذه الغاية يا غلوكون؟ إني أرى في بيتك كلاب صيد، كما أني أرى كثيرا من أنواع الطير، فأظن أنك تجود علي بالإفادة في: هل وجهت الالتفات إلى كيفية مزاوجة هذه الحيوانات واستيلادها؟
غ :
بأي اعتبار؟
س :
أولا: مع أن كلها أصيل، ألا يوجد فيها ما هو أفضل من غيره؟ أو ما سيصير أفضل؟
غ :
يوجد.
س :
أفتستولدها كلها على السواء؟ أم تعني باستيلاد الأفضل بقدر الإمكان؟
غ :
أستولد الأفضل.
س :
وفي أي عمر تستولدها؟ أفي الحداثة؟ أم في شرخ الصبا؟ أم في الهرم؟
غ :
في شرخ الصبا.
س :
وإذا لم تسلك في استيلاد حيواناتك هذا المسلك، أفتظن أن جنس الكلاب والطيور ينحط كثيرا؟
غ :
أظن.
س :
أفتختلف الخيول وسائر أنواع الحيوان في هذا الحكم؟
غ :
لا أظن، ومن العبث أن يظن هذا الظن.
س :
فبالله أيها الصديق الحميم، أي حكام ممتازين نفوز بهم إذا طبقنا ذلك على النوع الإنساني؟
غ :
لا ريبة في الأمر، ولكن لماذا «ممتازين»؟
س :
لأن هنالك ضرورة لوصفهم علاجات في دائرة واسعة، وأراك تسلم أنه إذا كان الداء لا يفتقر إلى كثير معالجة بل تكفيه الحماية والاعتدال، فطبيب عادي يكفي لسد الحاجة. أما حيث تدعو الضرورة إلى علاجات فالحالة تستدعي أطباء أوفر خبرة.
غ :
هذا صحيح، ولكن ما هو وجه الشبه في ذلك؟
س :
وجه الشبه ما يأتي: الأرجح أن حكامنا سيضطرون إلى استعمال كثير من الخداع والغش لخير رعاياهم، وقد سبق الكلام في أن ذلك علاج نافع.
غ :
نعم، وكنا مصيبين في ذلك.
س :
يظهر أن هذه القاعدة الصحيحة تتطبق في أمر الزواج والتناسل بنوع خاص.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
ينتج عما تقدم أنه يجب أن نكثر من تزويج أفضل الرجال بأفضل النساء، وأن نقل تزويج أدنياء الرجال بمثيلاتهم من النساء، وأن يوجه الالتفات إلى تهذيب أولاد الأولين وإهمال أولاد غيرهم إذا كنت تروح الحصول على أرقى دولة، ويجب الاحتفاظ بهذا السر، فلا يكشف إلا للقضاة؛ ليكون جمهور الحكام في مأمن من الناس من النزاع على قدر الإمكان.
غ :
غاية في الصواب.
س :
فعلينا أن نولم ولائم خاصة ونزف عرائسنا في أثناء الولائم، فنقدم الذبائح وننشد الأناشيد التي نظمها شعراؤنا لائقة بالمقام، ولكنا نترك عدد الزواجات لاستحسان الحكام ، بحيث يحفظون الموازنة في عدد السكان من غير زيادة ولا نقصان، غير مغضين عن تأثيرات الحروب والأمراض ونحوهما في ذلك، فتظل مدينتنا - ما استطعنا إلى ذلك سبيلا - لا أكبر مما هي ولا أصغر.
غ :
صواب.
س :
ويجب استنباط نظام قويم للاقتراع عليهن يجعل أدنياء الرجال الذين سبقت الإشارة إليهم ينسبون زواجهم إلى القدر لا إلى الحكام.
غ :
حقيق.
س :
ويجب أن نخص الشبان المبرزين في الحرب وغيرها بحرية الاختلاط بهن مع الامتيازات والمكافآت الأخرى؛ لتكثر تحت هذا الستار مواليد والدين كهؤلاء.
غ :
مصيب.
س :
وحال ولادة الأطفال يتسلمهم موظفون مختصون بهذا الغرض، إما نساء أو رجال أو من الجنسين؛ لأني أرى أن الوظائف في الدولة متاحة للجنسين سواء بسواء.
غ :
نعم يتسلمونهم.
س :
فيحمل الموظفون أولاد الوالدين الممتازين إلى المراضع العمومية، تحت عناية مرضعات يسكن أحياء خاصة بمعزل عن الناس. أما أطفال الوالدين المنحطين وكل الأطفال المشوهين فيخفونهم قاطبة في مواضع مستترة مجهولة تلائمهم.
غ :
هذا إذا أرادوا أن تكون طبقة الحكام نقية.
س :
ويشرف هؤلاء الموظفون أنفسهم على الأطفال، ويستدعون والداتهم لإرضاعهم حين تفيض ثديهن، متخذين الاحتياطات اللازمة لكي لا تعرف والدة طفلها. وإذا كان لبن الوالدات غير كاف يأتون بغيرهن لإرضاع الأطفال. أولا يجب تحديد أوقات الرضاعة وتعيين مربيات وخادمات، يقمن بواجب السهر وبما تستلزمه الطفولة من المهام.
غ :
إنك تسهل على نساء حكامنا ولادة الأطفال.
س :
نعم، وهذا هو الواجب. ولنحول أيضا النظر إلى ثاني مواضيع البحث، فقد قلنا إذا كنت تذكر أنه يجب استيلاد الذين في شرخ الصبا.
غ :
نعم.
س :
فهل توافقني في أن شرخ الصبا هو سن العشرين للإناث والثلاثين للذكور؟
غ :
وإلى كم يمتد هذا الطور؟
س :
الحد الذي أعينه للمرأة هو سن الأربعين، أما الرجل فإلى ما بعد اجتيازهم أوعر مسالك الحياة، فينسل للدولة إلى الخامسة والخمسين.
غ :
لا شك في أن هذا هو شرخ الصبا للجنسين جسدا وعقلا.
س :
فإذا نسل الرجل قبل هذا السن أو بعده حسبنا عمله تعديا على الدين والعدالة، فولادة مولود للدولة أمر لا يجوز إخفاؤه، بل يزود بالذبائح والصلوات التي يرفعها الكهان والكاهنات وجميع الأفراد في كل قران، ليكون طرفاه بريئين نافعين، فيكون النسل أبر وأنفع. أما الزرع غير المقدس فقد ولد في ظلمات الخفاء بسبب الاسترسال في المعاصي.
غ :
أنت مصيب.
س :
ويجب أن يكون القانون واحدا لمن نسل من الرجال ضمن حدود السن ولكن دون اطلاع القاضي، فنحسبه مجرما؛ لأنه أوجد للدولة نسلا غير شرعي ولا مقدس وبدون كفيل.
غ :
غاية في الإصابة.
س :
ومتى بلغ الجنسان السن القانوني أبحنا للرجال من يشاؤهن، إلا بناتهم وأمهاتهم وجداتهم وحفيداتهم، كذلك يباح للمرأة كل رجل إلا آباءها وأولادها وسلفها وخلفها، وذلك بعد أن نوصيها بفعل الأفضل، وهو: إذا حبلت إحداهن عرضا (في غير الحال المقررة) فلا يرى جنينها النور، وإذا لم تتمكن من ذلك فيلزم التخلص من الطفل، على أساس أن ثمرة اجتماع هذا لا تجوز تربيتها.
غ :
كل ذلك معقول، ولكن أنى تعرف بناتهم آباءهن والأقارب الآخرين الذين ذكرتهم؟
س :
لا يعرفونهم بتاتا، لكنهم يدعون جميع الأطفال الذين يولدون بين الشهر السابع والعاشر من قرانهم أبناءهم وبناتهم، وهؤلاء أيضا يدعون الذكور آباءهم والإناث أمهاتهم، وأولاد المواليد أحفاد، ووالدي الوالدين أجداد وجدات، والمواليد الذين ولدوا في دور التوليد المضروب لوالديهم يدعون بعضهم بعضا إخوة وأخوات. ويحظر على الإخوة والأخوات مس بعضهم بعضا، ولكن الشريعة تبيحه إذا أصابتهم القرعة ووافقت كاهنة دلفي على ذلك.
غ :
غاية في الصواب.
س :
هذه هي شيوعية النساء والأولاد في حكام دولتك يا غلوكون. وعلينا أن نشرع في تبيان أن هذه الفكرة متمشية مع سائر أنظمة حكومتنا، وأنها أفضل ما يمكن تصوره، وإلا فهل تقترح مسلكا آخر؟
غ :
افعل ما قلته من كل بد.
س :
أوليست الخطوة الأولى نحو الاتفاق في هذه النقطة عرض السؤال الآتي: ما هو الخير الأعظم في إنشاء الدولة الذي يجب على الشارع أن يراعيه في تشريعه؟ وما الشر الأعظم كذلك؟ ثم نبحث في: هل تتفق شرائعنا مع ما حسبناه خيرا وتتنافى مع ما حسبناه شرا؟
غ :
من كل بد.
س :
أفيوجد شر أعظم مما يمزق الدولة تمزيقا بدل كونها كتلة واحدة؟ وهل من خير أعظم مما يضمها ويحفظ وحدتها؟
غ :
لا يوجد.
س :
أولا تضمها شركة الألم والفرح، فيفرح جميع سكانها معا أو يحزنون معا في سرائهم وضرائهم؟
غ :
إنه كذلك.
س :
أولا يحدث الاستقلال في العواطف انقساما، فيكون بعضهم فرحا وغيره حزينا في حادث واحد يحل بالدولة وسكانها؟
غ :
مؤكد يحدث.
س :
أولا تنشأ تلك الحال عن عدم اتفاقهم في كلمة «لي» وكلمة «ليس لي» في الشيء الواحد، وكذلك باعتبار كلمة «للآخر» و«للغير»؟
غ :
حتما هكذا.
س :
فأفضل الطرائق في سياسة الدول استعمال أكثرية أهلها كلمة «لي»، أو «ليس لي» بفم واحد للشيء الواحد.
غ :
هذا هو الأحسن.
س :
وبعبارة أخرى: حينما تدنو الدولة من حالة الفرد، فإنه إذا جرحت إحدى الأصابع شعر الجسم كله بالألم لوحدة مركز الشعور، فيشارك الأعضاء جميعهم العضو المصاب بالألم والحزن، فنقول إن هذا الإنسان مصاب بأصبعه، وهكذا بالنظر إلى بقية أعضاء الجسم سواء من حيث الألم حين يكون العضو متألما، أو من حيث اللذة حين يكون مسرورا.
غ :
وهو كذلك. فنعود الآن إلى مسألتك: أن هنالك شبها تاما بين الجسم وبين الدولة المحكومة أفضل حكم.
س :
فإذا أصابت أحد أفراد الدولة أذية، أو حظي بنعمة، هبت المدينة جمعاء تشعر معه فرحا وحزنا؛ لأنه عضو في جسمها، فتفرح معه كلها أو تحزن كلها.
غ :
ويجب أن يعم الدولة هذا الشعور إذا حسن نظامها.
س :
قد حان الوقت للعودة إلى دولتنا، لنرى هل تمتلك أوفر نصيب من الصفات التي أوصلنا إليها بحثنا؟ أو تفوقها دولة أخرى في ذلك؟
غ :
يلزم أن نفعل ذلك.
س :
حسنا، أليس في الدولة الأخرى كما في دولتنا قضاة وعامة؟
غ :
فيها.
س :
أويدعو الناس بعضهم بعضا «مواطنين»؟
غ :
يدعون.
س :
فبماذا يلقبون الحكام غير كلمة مواطنين؟
غ :
يلقبونهم في أكثر الدول ب «سادة»، وفي الديموقراطية منها يلقبونهم ب «حكام» فقط.
س :
وماذا تطلق عامتنا على حكامنا عدا كلمة «مواطنين»؟
غ :
يدعونهم: «حفظة ومساعدين.»
س :
وماذا يدعو الحكام رعاياهم؟
غ :
يدعونهم: «صرافين وكافلين.»
س :
وماذا يدعونهم في غير مدينتنا؟
غ :
يدعونهم: «عبيدا.»
س :
وماذا يدعو الحكام بعضهم بعضا؟
غ : «القضاة الرصفاء.»
س :
وحكامنا؟
غ : «الحفظة الزملاء.»
س :
أتذكر أن أحد حكام الدول حين يتكلم عن مساعديه يحسب أحدهم قريبا وغيره غريبا؟
غ :
كثيرون يفعلون ذلك.
س :
أولا يعتبر بعمله هذا القريب خاصته ويدعوه كذلك، والغريب بعكسه؟
غ :
يفعل ذلك.
س :
فهل يحسب أحد حكامك مساعده غريبا وينعته بهذا النعت؟
غ :
كلا البتة؛ لأنه أيا لقي حسبه أخا أو أختا أو أبا أو ابنا أو ابنة أو سلفا أو خلفا.
س :
كلامك جميل جدا، فأجب عن هذه الأسئلة: أتكتفي بالألقاب العائلية؟ أو توجب عليهم أن يطبقوا تصرفهم على أحكامنا في كل الأحوال، فيقومون للآباء بكل واجبات الأبناء، كالطاعة والاحترام والخدمة، وإلا ساءت حالتهم في نظر الله والناس؟ ومن فعل ذلك فعمله تمرد على الدين والعدالة، فهل توجب أن تطرق آذان أولادنا هذه الشرائع بادئ ذي بدء نحو من أقيموا عليهم مقام الوالدين ونحو جميع الأقارب؟
غ :
سنسن ذلك؛ لأنه من السخافة الاقتصار في النسب العائلي على الألفاظ الشفاهية دون تطبيقها فعلا.
س :
فأرقى الأمم هي التي إذا أصاب أحد أفرادها خطب أو حلت به نعمى قالوا في الرواية عنه مثلا: «من لنا مبسوط»، أو «من لنا مصاب.»
غ :
بأعظم تأكيد.
س :
أولم نقل إن الشعور العام بالمسرة والألم يصحب هذا الأسلوب قولا وفكرا؟
غ :
بلى، بالصواب قلنا.
س :
أولا يمتاز مواطنونا باشتراكهم جميعا في مصلحة يدعونها «لي»، وإذا لهم هذه المصلحة يتصفون إلى حد بعيد بالمشاركة بالمسرة والألم؟
غ :
نعم، إلى حد بعيد.
س :
أوليس مرجع ذلك وغيره من أقسام الدستور إلى شيوعية نساء الحكام وأولادهم؟
غ :
بلى، إلى الشيوعية بالأخص.
س :
وقد سلمنا إذا كنت تذكر أن في هذا خير الدولة الأعظم، قياسا للدولة الحسنة النظام على الجسم العضوي باعتبار مشاركته كلا من أعضائه في اللذات والآلام.
غ :
نعم، وبالصواب فعلنا.
س :
فقد اكتشفنا إذا أن شيوعية نساء الحكام وأولادهم هي سبب خير الدولة الأعظم.
غ :
تماما هكذا.
س :
وهكذا نتفق مع ما سبق تقريره لما قلنا إنه يجب أن لا يملك الحكام ملكا خاصا، لا بيوتا ولا عقارا ولا شيئا آخر، بل يتناولون نفقاتهم من الأهالي جزاء عملهم، وينفقون مشتركا إذا راموا أن يكونوا حكاما حقيقيين.
غ :
حقيقة.
س :
أفلا تجعلهم القوانين السالفة مع هذه الأخيرة حكاما ثقات وتحول دون تمزيقهم المدينة بكلمة «خاصتي» التي يطلقونها على كل شيء خاص، عوض إطلاقها على شيء واحد، فيحملون كل إلى بيته ما أمكنه الحصول عليه دون غيره، ومن الجملة «الأزواج» والأولاد، فيخلقون مسرات وآلاما خاصة بواسطة المصالح الخاصة، ويسببون في نفوس إخوانهم آلاما عميقة باحتكارهم الخيرات، فتحول قوانيننا دون ذلك، وتحملهم معا على اجتذاب كل خير للمركز العام، فيكون لهم رأي واحد في ما يمتلكون، وشعور واحد في السراء والضراء.
غ :
حتما.
س :
أولا تقصى من بينهم الشكايات المتبادلة لعدم وجود ملكية خاصة إلا أجسادهم وكل ما سواها مشاع؟ أولا يحررهم ذلك من الضغائن التي تحل بالناس لسبب التنازع على الأموال والأولاد والأصحاب؟
غ :
ليس إلا التجرد من هذه الأشياء.
س :
ولا يحدث بينهم اغتصاب أو هجوم عدائي أو طعان، وإنما لأجل الدفاع عن سلامة أجسادهم نحسب التعاون في صد هجمات الآخرين منطبقا على قواعد الشرف والعدالة؛ لأن المحافظة على الحياة ضرورة مقدسة.
غ :
بالصواب.
س :
ولهذا القانون الفائدة التالية، وهي أنه إذا كان في أحدهم موجدة على أخيه فإنه يجد لها منصرفا بالمواجهة الشخصية، فلا يتفاقم الشر في ما بينهم.
غ :
يقينا.
س :
فيسيطر كبيرهم على صغيرهم ويؤنبه.
غ :
واضح.
س :
ومن المؤكد أنه لا ينتظر أبدا أن يحاول الأصغر أن يضرب الأكبر أو يمس كرامته، إلا إذا تعين للتنفيذ من قبل الحكام. ولا يهين صغير كبيرا بوجه من الوجوه، إذ هنالك مانعان لردعه هما الخوف والخجل ، فيحول الخجل دون رفعه يده على أي كان ممن يحسبهم آباء، كذلك الخوف حذر انتصار الآخرين لهم من أخوة وأبناء.
غ :
نعم، هذه هي نتائج قوانيننا.
س :
وعلى كل، تضمن الشرائع السلام بين رجالنا.
غ :
ضمانا وثيقا.
س :
وإذا تحرروا من المنازعات الداخلية أمنوا قيام الأهالي عليهم أو قيام بعضهم على بعض.
غ :
أمنوا ذلك.
س :
وهنالك شرور زهيدة لا أختار ذكرها (في القانون) نظرا لتفاهتها، كتمليق الأغنياء، واضطراب الرجال وغضبهم في تربية العائلة، وفي إحراز الأموال اللازمة لسد نفقات الأسر والخدم، تارة يقترضون، وطورا يطلقون نساءهم، وآونة يستنبطون الحيل لجمع ثروة يضعونها بين أيدي النسوة والخدم واثقين بتدابيرهم، وكل الاضطرابات التي تسببها هذه الأحوال هي واضحة يا صديقي وضوحا تاما، عدا كونها تافهة.
غ :
واضحة حتى للعميان.
س :
وإذ ينجون من كل هذه الشرور يعيشون بسلام عيشة أكثر سعادة واغتباطا من عيشة الذين أحرزوا الفوز في الألعاب الأولمبية.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
إن السعادة المخصصة بالفوز في الألعاب هي زهيدة بالنسبة إلى سعادة رجالنا، ففوزهم أمجد وتعضيد الدولة إياهم أكمل؛ لأن فوزهم هو سلامة الدولة كلها، وسينالون التيجان وأكاليل الغار هم وأولادهم جزاء جهودهم. هذا عدا ضمان لوازم حياتهم، ثم يدفنون بالتجلة والاحترام.
غ :
حقا إنها امتيازات مجيدة.
س :
أوتذكر الاعتراض الذي أورده بعضهم
5
في سياق أبحاثنا السابقة، وهو أننا لم نجعل حكامنا سعداء لأنهم لا يملكون شيئا، مع أنه في إمكانهم أن بيتزوا ثروة الأهالي. ورددنا عليه أننا سننظر في هذه النقطة فيما بعد إذا عرضت لنا في طريقنا؟ وكنا حينذاك ننظر في جعل حكامنا حكاما حقيقيين لأجل سعادة المدينة إجمالا على قدر إمكاننا، دون تمييز فئة من أهلها وخصها بالسعادة؟
غ :
أذكر ذلك.
س :
وقد رأينا أن حياة معاوني حكامنا أشرف كثيرا من حياة الفائزين بالجعالات الأولمبية. أفيمكن أحد أن يتصور أن حياة الأساكفة والزراع وغيرهم من أرباب الحرف تقابل بها؟
غ :
لا أظن.
س :
فمن المناسب على كل حال أن أعيد هنا ما قلته هنالك، وهو : إذا قصد بالحكام أن يكونوا سعداء بحيث لا يبقون حكاما، ولم يقبلوا الحياة المعتدلة الراهنة التي نحسبها الفضلى، بل علقوا بحماقة الحداثة وغرورها في ما يتعلق بالسعادة، فتدفعهم حماقتهم إلى استخدام قوتهم في انتهاك حرمة كل ما في المدينة من الخيرات، فحينئذ يتحققون حكمة هسيودس
6
أن النصف خير من الكل.
غ :
إذا قبلوا مشورتي فإنهم يقفون عند حدهم.
س :
فتسلم معي بمبدأ وضع النساء مع الرجال على قدم واحدة كما أوضحنا في التهذيب وفي تربية الأطفال وفي سياسة الأهالي. وفي حال إقامتهن في المدينة وحال خروجهن إلى الحرب يشاطرن الرجال واجبات الحكم، ويرافقنهم في الطراد ككلاب الصيد، ويكون كل شيء عندهم مشاعا قدر الاستطاعة، وبذلك ينهجن أفضل منهج، ولا يسئن إلى العلاقة التي تسود أواصر المودة المتبادلة بين الجنسين.
غ :
أسلم بكل ذلك.
س :
أفليس الباقي لدينا هو النظر في إمكان تعميم الشيوعية بين الناس كما هي بين البهائم؟ وفي أي حال يمكن ذلك؟
غ :
سبقتني إلى ما كنت عازما أن أقوله.
س :
أما بالنظر إلى الحركات الحربية فأرى أنه واضح كيف يتصرفون.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
يخرج الجنسان معا إلى ميادين القتال، ويصحبان أولادهما الأشداء لكي يروا كغيرهم من أبناء الحرف الأخرى الأعمال التي يجب أن يمارسوها بإتقان متى راهقوا، ومع الفرجة يخدمون في كل ما يلزم الحرب، ويساعدون آباءهم وأمهاتهم في الميدان كخدم، وينتظرون خروجهم من المعارك، ولا شك في أنك تلاحظ ما يجري في الفنون المنوعة، فإن أولاد الخزافين مثلا يساعدون آباءهم طويلا قبلما يمارسون صناعة الخزف بأنفسهم.
غ :
حقا إني لاحظت.
س :
أفيكون الخزافون أكثر اهتماما بأولادهم من حكامنا بإطلاعهم إياهم على ما يتعلق بحرفهم الخاصة؟
غ :
من السخافة أن يكون ذلك كذلك.
س :
ثم إن كل مخلوق يبلي البلاء الحسن في الحرب في حضرة أولاده.
غ :
هذا هو الواقع. على أن هنالك خطرا كبيرا يا سقراط: إذا هم انكسروا فيهلك الأولاد مع والديهم، فتضعف المدينة ضعفا لا يحتمل.
س :
قولك حق، ولكن دعني أسألك: هل نجعل عدم تعرضنا لخطر متوقع أول واجب؟
غ :
قطعا لا.
س :
أولا يكون تعرضهم للخطر وسيلة رجولتهم في حال انتصارهم؟
غ :
واضح أن ذلك محتوم.
س :
أوتظن أنه أمر زهيد لا يستحق مصادمة الأخطار، أن يشهد الأحداث الحرب منذ نعومة أظفارهم إذا كانوا مزمعين أن يكونوا جنود المستقبل؟
غ :
بل إنه أمر عظيم باعتبار ما شرحته.
س :
فيلزم سن قانون لحمل الأولاد على أن يشهدوا الحرب، مع الاهتمام بسلامتهم، وعندها يهون كل أمر، أليس كذلك؟
غ :
بلى.
س :
أولا يحكم آباؤهم، أية الحملات خطرة وأيتها غير خطرة؟
غ :
الأرجح أنهم يحكمون.
س :
فيقودونهم إلى هذه ويعرجون بهم عن تلك.
غ :
حق.
س :
وأؤكد أنهم يعينون ضباطا لإرشادهم وتعليمهم، وليس أولئك الضباط من حثالة الجند، بل من القواد المدربين الذين حنكهم الاختبار.
غ :
مناسب جدا أن يفعلوا ذلك.
س :
ويجب أن نعلم أن كثيرين منهم يلقون خلاف ما توقعوا.
غ :
نعم، كثيرا جدا.
س :
فتداركا لمفاجآت كهذه يا صديقي العزيز يجب أن نضع لأولادنا جناحين ليهون عليهم الفرار حين اللزوم.
غ :
ماذا تعني؟
س :
يجب أن يمتطوا ظهور الخيل منذ الحداثة، ومتى تعلموا الطراد يؤخذون إلى ساحة الهيجا، لا على متون الصافنات الشديدة المراس، بل على متون أسرع الخيول وأطوعها للعنان، فيكونون في أنسب موقف لملاحظة عملهم المستقبل، وفي الوقت نفسه يتمكنون من الهرب متى دعت الحاجة بأتم سلامة وراء قوادهم الشيوخ.
غ :
أرى خطتك حكيمة.
س :
ولنأت الآن إلى قوانين الخدمة العسكرية: فما هو موقف جنودك تجاه إخوانهم وتجاه الأعداء؟
غ :
عرفني ما هو موقفهم؟
س :
ألا يجب أن نهبط بكل من يخلي صفه ويلقي سلاحه أو يأتي عملا من أعمال الجبانة إلى طبقة الصناع والزراع؟
غ :
حتما.
س :
وإذا وقع جندي أسيرا في أيدي الأعداء، أفلا يكون هبة بيد مالكه يصنع به ما شاء؟
غ :
بلى، من كل بد.
س :
وإذا برهن أحد الجنود على كفاءة راجحة فربح ثقة الدولة، ألا تظن أنه يجب أن يكلله بالغار رفقاؤه الجنود في ساحة الحرب كبارا وصغارا؟
غ :
أظن هكذا.
س :
وما قولك في مصافحتهم إياه باليمين؟
غ :
يصافحونه.
س :
ولكنني لا أراك تقبل اقتراحي التالي.
غ :
وما هو؟
س :
أن يبادلوه القبلات واحدا فواحدا.
غ :
أقبله بالتأكيد. وأضيف إلى القانون أن لا يتمنع أحد منهم والحرب حامية الوطيس من إجابته إلى رغبته إذا أراد أن يقبله، حتى إذا مال جندي إلى أحدهم أو إحداهن يزداد همة لحلول رغبته هذه في قلبه محل شارة الظفر.
س :
حسنا، وقد سبق القول بأن يمتاز الجندي الشجاع على غيره بالتوسع في حرية الزواج، ويتمتع بحرية خارقة في اختياره الزوجة ما أمكن، حتى يكثر نسل والد كهذا.
غ :
صحيح إننا قلنا تلك.
س :
وهنالك شرف آخر تقضي العدالة بإسباغه على الشبان الممتازين بحسن السلوك، حتى بحكم هوميرس، فقد روى أنه لما برز أجاكس في الحرب، كوفئ في وليمة الظفر بأن خص بفخذ العجل كله،
7
وذلك الإكرام علاوة على ما فيه من الشرف يؤدي إلى زيادة القوة الجسدية، فالشاب في شرخ الصبا جدير به.
غ :
رأي ثاقب.
س :
فعلينا بأقل الدرجات أن نتبع رأي هوميرس في إكرام جنودنا المستحقين في حفلات الشكر وفي سائر الحفلات، بالنسبة إلى ما أبدوه من ظاهرات الهمة، فيكافئون بالامتيازات التي مر بيانها، وبالأناشيد، وبكئوس مترعة أيضا، وباللحوم الطيبة، وبمراتب الشرف.
8
فنقوم بإكرامهم خير قيام، ونخدمهم خدمة أكابر الرجال، ولا نرمي فقط إلى إكرام الرجال والنساء، بل أيضا إلى ترقية الفن العسكري.
غ :
فكرة جميلة.
س :
حسنا جدا. وإذا قتل أحد الجنود في الحملة، أفلا نعلن أولا أن الذين ماتوا ميتة شريفة هم من الجنس الذهبي؟
غ :
بكل تأكيد نعلن.
س :
أولا تصدق هسيودس في ما رواه، أنه حين يموت أحد رجال هذه الطبقة:
9
يضحون من أسمى جبابرة العلى
مقصين شر الظالمين عن الملا
غ :
مؤكد نصدقه.
س :
فنسأل الوحي كيف نجنز الأطهار الفائقين، ثم ندفنهم بالطقوس التي أوحاها إلينا.
غ :
مؤكد نسأل.
س :
ونقيم على احترام مدافنهم وإكرامها أبد الدهر كمدافن الجبابرة ، ونحرص على إتمام هذه المراسم، كما نتمها لمن اشتهر من الأهلين بالشجاعة إلى أن يموت حتف أنفه أو تحل به كارثة.
غ :
حقا، إن هذا هو الإنصاف.
س :
وما هو موقف جنودنا أمام أعدائهم؟
غ :
بأي اعتبار؟
س :
أولا في أمر الاستعباد. أفمن العدالة أن يستعبد اليونانيون مدنا يونانية حرة؟ أولا يجب أن يأنفوا من ذلك جهد المستطاع، ويقيموا على خفارة القبائل اليونانية لئلا يستعبدها البرابرة؟
غ :
إن إنقاذها أفضل جدا من استعبادها.
س :
فالأفضل لنا أن لا يستعبد جنودنا يونانيين، وأن يوعزوا إلى اليونانيين بلزوم الكف عن هذه العادة.
غ :
من كل بد، وتتفرغ أفكارهم حينذاك للبرابرة عوض اشتغالهم بمقاتلة بعضهم بعضا.
س :
أويليق بهم تجريد القتلى بعد قهرهم إلا من أسلحتهم؟ أولا يمنح ذلك العمل عذرا للجبناء في قعودهم عن مطاردة الأعداء الأحياء اشتغالا بأشلاء الموتى؟ أولم تهلك جيوش كثيرة بسبب النهب؟
غ :
لا ريب في أن كثيرين هلكوا.
س :
ألا ترى سلب الموتى طمعا دنيا؟ أوليس من الأوضاع النسائية وصفات العقول الصغيرة، النظر إلى جثة الميت نظرة عدائية، مع أن العدو الحقيقي قد ولى قصيا، تاركا وراءه الآلات التي كان يحارب بها (أي الجثة)؟ أوتحسب من أتى ذلك خيرا من الكلاب التي تثور على حجر رميت به تاركة راميه؟
غ :
ليسوا خيرا منها ولا قيد أنملة.
س :
فعلينا بالتنكب عن تجريد الجثث والتدخل في نقلها.
غ :
ولا نحمل أسلحة المغلوبين إلى الهياكل لتكرسيها، ولا سيما أسلحة اليونانيين، إذا رمنا توثيق عرى التفاهم معهم، بل يجب الحذر من أن يكون حمل أسلحة إخواننا إلى الهياكل تدنيسا لها، إلا إذا أوجب الوحي ذلك.
غ :
غاية في الصواب.
س :
وكيف يعامل جنودك الأعداء اليونانيين باعتبار نهب بلادهم وحرق بيوتهم؟
غ :
يسرني أن أعرف ما هو رأيك في هذا الأمر؟
س :
رأيي أن لا يفعل بها شيء من الأمرين المذكورين، بل تؤخذ منها حاصلات سنة واحدة. أفتريد أن أخبرك السبب؟
غ :
نعم أريد.
س :
كما أننا نستعمل كلمتي «حرب ونزاع» مختلفتين دلالة، فهنالك نوعان متباينان من المشادة، أحدهما بين الأقارب والأصحاب، والآخر بين الأجانب، فالخلاف بين الأولين أدعوه «نزاعا»، وبين الغرباء أدعوه: «حربا.»
غ :
لا شيء غير معقول في ما تقول.
س :
فاصغ وتأمل، فإن ما أقوله معقول أيضا، فإني أؤكد أن أفراد الأمة اليونانية إخوان وأقارب بعض لبعض، ولكنهم غرباء وأباعد عن البرابرة.
غ :
أوافقك في هذه الفكرة.
س :
فلا يبرح فكرك ما قيل الساعة في أمر النزاع، فإذا حدث شيء من ذلك أينما كان وانشقت الدولة، فنهب كل فريق بلد الآخر وحرق بيوته، كانت تلك الخصومة خطبا فاضحا، وحسب الفريقان غير وطنيين، ولو كانوا وطنيين لما أقدموا على مضرة والدتهم ومرضعهم، فحسب الظافر مغنما أن هذا الشعور يعرب عن رقي إنساني أكثر من ذاك.
س :
جيدا، أفليست الدولة التي تؤسسها يونانية؟
غ :
هكذا يلزم أن يكون.
س :
أولا يكون أهلها كرام النفوس؟
غ :
من كل بد.
س :
أوليسوا يونانيين ويحسبون بلاد اليونان كلها وطنهم؟ ويشاركون إخوانهم اليونانيين في شعائر ديانتهم العامة؟
غ :
من كل بد.
س :
أفلا يحسبون المشادة مع اليونانيين باعتبار كونهم إخوانهم نزاعا لا حربا؟
غ :
بلى.
س :
فيشعرون في أثناء النزاع شعور الأصحاب الذين لا بد أن يتصافوا؟
غ :
تماما هكذا.
س :
فيصالحونهم بروح الإخاء، ويؤنبونهم دون أن يفكروا في استعبادهم ودمارهم، بل يعاملونهم معاملة الأستاذ تلاميذه، لا معاملة العدو أعداءه.
غ :
بالتمام.
س :
ولما كانوا يونانيين فلا يدمرون بلاد اليونان، ولا يحرقون البيوت، ولا يحسبون جميع الأهالي أعداءهم رجالا ونساء وأولادا، بل يحصرون هذه التسمية بالقليلين الذين أوروا زنادها، فلا يدكون البيوت، ولا يخربون البلاد، فإن أصحابها أصدقاؤهم، بل يقتصرون على خوض غمارها حتى يقتص الأبرياء من المذنبين.
غ :
أسلم أنه على شعبنا احترام هذه القوانين في معاملة أعدائهم، وأريد أن يعاملوا البرابرة كما يعامل اليونانيون بعضهم بعضا في هذه الأيام.
غ :
فعلينا أن نضيف إلى شرائعنا قانونا يحظر على حكامنا حرق البيوت وتدمير البلاد.
غ :
فلنصنع ذلك، وهو مع كل ما قررته صواب.
ولكن يظهر لنا يا سقراط أنه إذا سمحنا لك أن تستمر في هذه الخطة فإنك لا تذكر ما نحيته جانبا لما ولجت هذه الأبحاث، وهو أن تبين أن هذا النظام من الممكنات، وتبين أيضا طريق تحقيقه؛ لأن في مساق الإدلاء على تحقيقه تتبين المنافع الجمة الناجمة عنه لمدينة كانت قاعدة له، وإني أستطيع أن أورد حقائق كثيرة أغفلتها أنت، منها:
أن جنودا كهؤلاء إنما يبلون في حربهم البلاء الحسن لأنهم يأنفون التخاذل، وذلك لازم عن حسبانهم بعضهم بعضا آباء وأبناء وأخوة، فيألفون هذه التسميات العزيزة، ويأبون التخلي بعضهم عن البعض الآخر، وإذا صحبتهم النساء إلى الحرب سواء حللن الصفوف كتفا إلى كتف مع الرجال، أو لبثن وراءهم كاحتياط لإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، فحسب رأيي أنهم لا يدحرون. وإني أعلم كل ما حذفته أنت من الفوائد التي يتمتعون بها في الوطن، ولكنك ضربت عنها صفحا، ولما كنت عالما بكل مزايا هذا النظام وبألوف من أمثالها فلا لزوم للإطالة في شرحها، فلنقنع أنفسنا الآن بأن المسعى عملي، ولنبين طريقة تحقيقه، ونغفل ما سوى ذلك.
س :
بأية مفاجأة جابهت حجتي، ولم ترث لما بي من نصب، وربما إنك لم تفقه أنني جهدت في تخطي العقبتين السابقتين، فتسوق الآن علي ثالثة هي أثقل الثلاث وقعا وأعظمها خطرا. ولا بد من أنك بعد ما رأيت ذلك وسمعته تعذرني عن ترددي ووجومي، وتسلم بتوافر الأسباب لتخوفي من فتح باب نظرية مخيفة والدخول في شعاب تمحيصها.
س :
كلما أطنبت في وصف هذه الشدة قلت حريتك وتعذر إعفاؤك من تبيان إمكان هذا النظام، فهات بيانك وكفى تأخرا.
س :
ولا ننس أولا أننا بلغنا هذه النقطة سعيا وراء البحث في طبيعة العدالة.
غ :
حقيق. ولكن ما شأن ذلك هنا؟
س :
لا شيء، ولكن إذا عرفنا ما هي العدالة أفنتوقع أن لا تختلف سجية العادل عن حكمها في أمر ما، بل تكون صورتها وقسيمتها حذو القذة بالقذة، أم أننا نكتفي ببلوغه (العادل) أقرب نقطة إليها، وكونه أكثر الناس عملا بها ؟
غ :
نكتفي بذلك.
س :
فغرض أبحاثنا هو: في طبيعة العدالة نفسها، وسجية العادل الكامل، وإمكان وجوده، وكذلك طبيعة التعدي، وسجية الرجل البالغ أقصى حدوده، فلنتخذهما نموذجين، ولننظر في كل منهما لنتبين نسبتهما إلى السعادة وإلى الشقاء، وبذلك يمكننا الحكم أن من اقتفى خطواتهما ونسج على منوالهما شاركهما في مصيرهما. ولم يكن غرضنا النظر في إمكان حصول هذه الأمور بالفعل.
غ :
هذا هو الحق الصراح.
س :
فإذا رسم فنان مثلا إنسانيا أعلى، ولم يكن رسمه ناقصا في شيء، أفتظن أنه يجرح لأنه عجز عن نصب الدليل على إمكان وجود شخص ينطبق عليه هذا الرسم؟
غ :
لا أظن.
س :
أفلم نقل أنا توخينا في بحثنا أن نرسم نموذجا للمدينة الكاملة؟
غ :
بالتأكيد.
س :
أفيجرح نظريتنا في شرعك العادل عجزنا عن إثبات وجود مدينة منظمة من الطراز الذي وصفناه؟
غ :
كلا ثم كلا.
س :
فهذه هي واقعة حالنا، ولكني إذا وجب علي لأجل مسرتك أن أجهد نفسي في تبيان تحقيق مثلنا الأعلى بأي اعتبار كان، فأسألك أن تسلم بما سلمت به قبلا.
غ :
وبم سلمت؟
س :
هو هذا: أيمكن إنفاذ نظرية ما، في أي موضوع كان إنفاذا تاما؟ أو أن من شرائع الطبيعة أن التطبيق لا يبلغ مبلغ النظرية من الكمال؟ ولا بأس إذا رأى بعضهم خلاف رأينا، أفتسلم بهذا أم لا؟
غ :
أسلم.
س :
فلا تطلب مني تطبيق النظرية تطبيقا تاما. على أنه إذا أمكننا أن نثبت إمكان تنظيم دولة في أقرب الحالات التي صورناها، وجب عليك التسليم بأنا اكتشفنا إمكان تحقيق الخطة التي سألتني تبيانها، أفلا نكتفي بالفوز بذلك؟ أما أنا فأكتفي.
غ :
وأنا أيضا أكتفي.
س :
فيجب أن تكون خطتنا الثانية تبيان ما في دولتنا من نقص يحول دون كمال أوصافها المقررة نظريا، مقتصرين على تغير واحد أو اثنين أو أقل ما يمكن من التغيير عددا وتأثيرا.
غ :
فلنتقدم إلى ذلك بأعلى همة.
س :
أرى أن هنالك تغييرا واحدا يضمن حدوث الثورة، ولكنه ليس صغيرا ولا سهلا، إلا أنه ممكن .
غ :
وما هو؟
س :
أنا الآن على وشك المصارحة بالبيان الذي شبهناه بالموجة الكبرى، ولكن الحق أولى بأن يقال ولو أغرقتني الموجة التي كالموج الطبيعي تنتهي بضجة وذعر، فأعرني سمعك.
غ :
تفضل.
س :
يا عزيزي غلوكون، لا يمكن زوال تعاسة الدول وشقاء النوع الإنساني ما لم يملك الفلاسفة أو يتفلسف الملوك والحكام فلسفة صحيحة تامة. أي: ما لم تتحد القوتان: السياسية والفلسفية في شخص واحد، وما لم ينسحب من حلقة الحكم الأشخاص الذين يقتصرون على إحدى هاتين القوتين، فلا تبرز الجمهورية التي صورناها في بحثنا إلى حيز الوجود، ولا ترى نور الشمس. والذي حملني على التردد في إبداء هذا الرأي هو شعوري أنه يضاد الرأي العام كل المضادة؛ لأنه يعسر الإقناع بأنه وسيلة لحصول الفرد والدولة على السعادة.
غ :
يا سقراط، إن اللهجة التي تتكلم بها والآراء التي توردها تثير عليك جموعا من عتاة الخصوم، فسينقضون عليك مستبسلين دون ما تردد، فيطرحون أرديتهم ويشرعون ضدك ما طالته أيديهم من سلاح، فإذا لم تصد هجماتهم بقاطع برهانك ليتسنى لك الإفلات من أيديهم، حلت بك عقوبة المستهزئين الجاحدين.
س :
أفلست أنت الذي جلب علي كل ذلك؟
غ :
بلى، وبالصواب فعلت. على أني لن أتخلى عنك في هذه المعمعة، بل سأدفع عنك بما لدي من سلاح، وسلاحي هو حسن النية والثقة، وقد أبدي في أجوبتي من الحذق ما يقصر عنه السوي، فتقدم مستندا إلى هذه النجدة وأر المشككين أصالة رأيك.
س :
يجب أن أتقدم ما دمت أنت حليفي العظيم، وإذا رمنا التخلص من المهاجمين الذين أشرت إليهم فأرى من اللازم أن نعطيهم تحديدنا «الفلاسفة» الذين يحق لهم الحكم، حتى متى تجلت مزاياهم لنظر الجمهور فرأى من نعني بالفلاسفة أمكننا حينذاك الدفاع عن أنفسنا، فندعي أن طلب الفلسفة هو حق طبيعي لهؤلاء الناس، وأن يتقلدوا زمام الحكم، وتنحصر دائرة اختصاص الغير في ترك الفلسفة وشأنها، والخضوع للفلاسفة الحاكمين.
غ :
إنه وقت ملائم إيراد تحديد كهذا.
س :
فهلم ورائي نجرب أن نشرح فكرتنا بصورة مقبولة .
غ :
تفضل.
س :
هل يلزم أن أذكرك أو أنت تذكر لذاتك ما قلناه في خلال البحث؟ وهو: إذا أحب أحد شيئا فلا يحصر محبته في قسم مما أحب دون غيره، بل يحبه كله بجميع أجزائه؟
غ :
أرجو تذكيري، فلم أفهم ذلك تماما.
س :
إن اعترافا كهذا يجدر بسواك يا غلوكون، أما رجل ذو فطرة حبية نظيرك فلا يجوز أن ينسى أن من فتن بالحب شغف بمن فتنوه وهم في شرخ الصبا؛ لأنه يراهم جديرين بشغفه وتزلفه. أليس هذا هو الأسلوب الذي تجري عليه، فتمدح في الفتى قصر الأنف لأنه جذاب؟ والأنف الأقنى عندك ملوكي المظهر؟ وثالث الأنوف وهو المتوسط بين هذين، يجعل الوجه أكثر اتساقا وجمالا؟ وترى سمر الألوان ذوي رجولة، وشقر الألوان أبناء الآلهة. ومن صاغ هذه العبارة «الأصفر الزيتوني» إلا العاشق الذي انتحل لنفسه عذرا لما رأى صفرة وجنة الحبيب؟ وبالاختصار: إنك تخلق أنواع الأعذار، وتستخدم كثير الأمثلة، ولا تعرج عن حب من كان في نضارة الحياة.
غ :
إذا أردت اتخاذي وسيلة للحكم بأن العشاق يتصرفون هذا التصرف فإني أسلم بذلك جدلا.
س :
ولنورد مثلا آخر: ألا ترى أن المولعين بالخمرة يضربون على الوتر نفسه، فيختلقون الأعذار لرشف كل نوع من الخمور؟
غ :
بلى يقينا.
س :
وأراك ولا بد تفهم أن عشاق المجد إذا لم يتسن لهم قيادة جيش تعللوا بقيادة فصيلة، وإذا لم يحصلوا على إكرام أكابر الرجال وفضلائهم اكتفوا بامتداح قليلين ممن لا وزن لهم؛ لأنهم مولعون بالمجد بأية صورة كان.
غ :
حتما هكذا.
س :
فأجب عن هذا السؤال سلبا أو إيجابا: إذا وصفنا إنسانا بالشوق إلى شيء، أفنعني أنه يشتاق إلى كل ما يحبه أو إلى قسم منه فقط دون القسم الآخر؟
غ :
يشتاق إليه كله.
س :
أفلا نجزم أن الفيلسوف أو محب الحكمة هو الذي يشتاق إلى الحكمة اشتياقا كليا لا جزئيا؟
غ :
حقيقي.
س :
فمن أقام العقبات في سبيل دروسه، ولا سيما وهو حديث السن غير قادر أن يميز بين النافع والضار، حسبناه غير محب الدرس أو الحكمة. كذلك من لا يرضيه نوع من الطعام لا نراه جائعا إلى القوت ولا راغبا فيه، فبدلا من أن نحسبه مولعا بالطعام نصفه بضعف الشهية.
غ :
نعم، وإنا مصيبون في ذلك.
س :
أما الراغب في تذوق كل أنواع المعرفة فيكب على دروسه بسرور ورغبة ولا يكف. إن إنسانا كهذا بحق ندعوه فيلسوفا. ألا ندعوه؟
غ :
إن وصفك هذا يشمل عددا عديدا، ويضم طائفة مستهجنة، وبحسبه كل عشاق الطلب فلاسفة؛ لأنهم راغبون في المعرفة، وكذلك المنصبون على سمع القصص هم طبقة خاصة بين الفلاسفة، أعني بهم الذين لا يشهدون محاورة فلسفية ولا غيرها من أنواع المحاورات على أنهم سامعون مواظبون لا يغيبون عن حفلة ديونيسية
10
في مدينة أو قرية، فكأنهم آجروا آذانهم للسمع لكل جوقة في وقتها. أفنهب لهؤلاء لقب الفلاسفة، ولأمثالهم ممن لاذ بأي نوع من الدروس، ولأساتذة الفنون الصغرى؟
س :
مؤكد لا، بل ندعوهم فلاسفة زائفين.
غ :
فمن هم الذين تدعوهم فلاسفة حقيقيين؟
س :
هم الذين يحبون أن يروا الحقيقة.
غ :
لا يمكن أن تخطئ في هذا، ولكن هل تريد أن توضح ما تعنيه؟
س :
ليس ذلك سهلا مع غيرك، أما أنت فتجود علي بالتسليم الذي أنشده.
غ :
وما هو ذلك التسليم؟
س :
هو في ما يأتي: لما كان الجمال ضد القبح فهما شيئان.
غ :
مؤكد أنها شيئان.
س :
وإذا كانا شيئين فكل منهما واحد على حدة.
غ :
وهذا أيضا حق.
س :
ويتمشى هذا الحكم نفسه على العدالة والتعدي، وعلى كل التصورات العمومية، فكل منها شيء واحد، لكنه يظهر متعددا باعتبار علاقاته المتبادلة بالأشياء والأعمال التي بها يتجلى في كل مكان.
غ :
أنت مصيب.
س :
واستنادا إلى هذا المبدأ أميز بين الذين وصفناهم الآن أنهم عشاق النظر والصناعة ومحبة الفنون ورجال العمل من جهة واحدة، وبين الذين نحن في صددهم، وهم وحدهم نسميهم فلاسفة في الجهة الأخرى.
غ :
أوضح ما تعني.
س :
أعني أن محبي النظر والسمع يعجبون بالجميل من الأصوات، والأشكال، والألوان، والصور، وكل ما دخلت في تركيبه هذه الأشياء من منتوجات الفن، ولكن فهمهم يقصر عن إدراك كنه الجمال واعتناقه.
غ :
نعم، إنه كما تقول.
س :
أوليس القادرون على التفكر الحر في الجمال المطلق هم قلائل؟
غ :
حقا إنهم قلائل.
س :
فإذا أدرك امرؤ وجود الأشياء الجميلة ولكنه جحد الجمال المطلق، وعجز عن اتباع من تقدمه إلى إدراكه، أفحلما تحسب حياة إنسان كهذا أم يقظة؟ تأمل، أليس الحالم في يقظة أو في منام هو الذي يخلط بين الحقائق وبين الصور المنعكسة عنها؟
غ :
أعترف أن امرأ كهذا حالم.
س :
وما قولك في من غايره ففهم الجمال المطلق وامتلك قوة التمييز بين هذا الجوهر وبين الأوساط التي يتجلى بها، فلا يخطئ في حسبان المجالي جوهرا ولا الجوهر مجالي، أفحلما تحسب حياة هذا أم يقظة؟
غ :
يقظة دون شك.
س :
أفلسنا مصيبين إذ ذاك في تسمية فعل الشخص الثاني العقلي معرفة لأنه أدرك الحقيقة، وفعل سابقه تصورا لأنه تصور فقط؟
غ :
غاية في الصواب.
س :
حسنا، فإذا امتعض من سميناه متصورا لا عارفا وغضب علينا مدعيا أن ما قلناه غير صحيح، فهل لنا من سبيل لتلطيف غضبه وإقناعه برقة ولين، ساترين عنه حقيقة حاله، وهي أنه ليس في حال الصحة؟
غ :
ذلك أمر مرغوب فيه.
س :
فانظر في ما يلزم أن نقول له، أتستحسن أن نحادثه مسلمين أنه لو عرف شيئا لما حسدناه على علمه أقل حسد، بل كنا نسر بأنه كما يدعي. ولكنا نقول له: أجب عن هذا السؤال: إذا عرف ذو الحجى فهل عرف شيئا أو لا شيء؟ أجب عنه يا غلوكون.
غ :
أجيب أنه عرف شيئا.
س :
أوموجود ذلك الشيء أو لا موجود؟
غ :
بل موجود؛ لأنه كيف يمكن غير الموجود أن يعرف؟
س :
أفمتثبتون نحن من هذه الحقيقة في أية صيغة نظرنا فيها؟ أي: إن الموجود حقيقة يعرف معرفة تامة، أما المعدوم فمجهول بتاتا؟
غ :
إنا متثبتون منها كل التثبت.
س :
حسنا. فإذا كان هنالك شيء متردد في الوقت نفسه بين الوجود وبين العدم، أفلا يوضع في رتبة متوسطة بين الموجود يقينا وبين المعدم بتاتا؟
غ :
يلزم أن يوضع.
س :
فإذا خصت المعرفة بالموجود والجهل بالمعدوم، أفلا يلزم أن نجد حالة متوسطة بين العلم والجهل تختص بما هو متردد بين الوجود والعدم.
غ :
يقينا.
س :
أنقول إن التصور شيء؟
غ :
بلا شك.
س :
أفنحسبه قوة متميزة عن العلم؟ أم نحسبه العلم نفسه؟
غ :
هو شيء متميز عن العلم.
س :
فنخص العلم بدائرة نفوذ، والتصور بدائرة أخرى بطبيعة ما في كل منهما من قوة؟
غ :
تماما.
س :
أفليست طبيعة العلم المختص بالموجود هي معرفة كيف وجد أو لا؟ وإلا فهنالك فرق واضح يلزم تحديده.
غ :
وما هو؟
س :
إن القوى كمجموع قائم بذاته هي ما نعمل به نحن وكل أحد ما يمكن عمل؛ مثلا: إني أدعو السمع والبصر قوتين، إذا كنت تدرك الفكرة الخاصة التي أروم أن أصورها.
غ :
إني أدركها.
س :
فاسمع ما أراه فيها: لست أرى في القوة شكلا ولا لونا ولا غيرهما من الأعراض التي أراها في مختلف الأشياء، وبها أميز (أي بالأعراض) بين شيء وشيء. أما في القوة فأعتبر وظيفتها ودائرة نفوذها. وبذلك توصلت إلى تسميتها، فأدعو القوى التي من نوع واحد وتعمل عملا واحدا ولها وظيفة واحدة: «قوى واحدة». ولكن القوى التي تختلف دوائر نفوذها وتتفرع وظائفها فأدعوها: «قوى متنوعة»، فما قولك؟
غ :
هكذا بالتمام.
س :
فأخبرني يا صديقي الفاضل، في أية رتبة تضع العلم؟ أتحسبه قوة؟
غ :
نعم أدعوه قوة، وهو أعظم القوى كافة.
س :
وهل التصور قوة؟ أو ندرجه في سلك ندرجه في سلك آخر؟
غ :
لا آخر؛ لأن ما به نتصور لا يكون إلا تصورا.
س :
وقد اتفقنا الساعة أن العلم والتصور غيران.
غ :
وهل يجمع العاقل بين الخطأ والصواب؟
س :
أحسنت. فنتفق في أن التصور شيء غير العلم.
غ :
غيره.
س :
فلكل منهما بطبيعته ميدان نفوذ خاص وتأثير خاص.
غ :
الاستنتاج قاطع.
س :
فميدان نفوذ العلم هو معرفة طبيعة الموجود.
غ :
نعم.
س :
وميدان نفوذ التصور هو «الظن».
غ :
نعم.
س :
أفيتناول التصور حتما وفعلا مادة العلم؟ وبعبارة أخرى هل مادة التصور هي نفس مادة العلم؟ أو أن ذلك محال؟
غ :
إنه محال بناء على ما قررناه. أي إنه إذا سلمنا أن للقوى المتنوعة دوائر نفوذ مختلفة، وأن العلم والتصور قوتان متميزتان، وقد جزمنا بذلك، فهذه المقدمات تجعل توحيد مادة العلم ومادة التصور محالا.
غ :
طبيعي.
س :
فإذا كان الموجود مادة العلم فمادة التصور هي حتما شيء آخر غيره.
غ :
يلزم أن يكون غيره.
س :
فهل يتناول التصور المعدوم؟ أو أن تصور المعدوم غير ممكن أصالة؟ أفتكر من يتصور ألا يوجه أفكاره نحو شيء؟ أفيمكن أن يكون تصور في اللاشيء؟
غ :
غير ممكن.
س :
فمن تصور فقد تصور شيئا.
غ :
نعم.
س :
ولكن المعدوم لا يدعى شيئا، بل هو لا شيء.
غ :
بالتمام.
س :
وقد التزمنا أن نخص الجهل بالمعدوم والمعرفة بالموجود.
غ :
وبالصواب فعلنا.
س :
فموضوع التصور ليس الموجود ولا المعدوم.
غ :
لا هذا ولا ذاك.
غ :
فليس التصور معرفة ولا جهلا.
س :
أفيستقر وراء أحدهما فيفوق المعرفة يقينا ويفوق الجهل إبهاما؟
غ :
يظهر أنه ليس كذلك.
س :
فقل: أتحسب التصور أقل وضوحا من المعرفة؟ وأقل خفاء من الجهل؟
غ :
نعم، وهو متميز عن الاثنين كثيرا.
س :
فهو إذا بين هذين الطرفين.
غ :
نعم.
س :
فنحسب التصور إذا شيئا بين الاثنين.
غ :
بالتمام.
س :
أولم نقل الساعة إنه إذا بان لنا شيء أنه موجود وغير موجود في وقت واحد فيجب وضعه بين الموجود الحقيقي وبين المعدوم المطلق؟ فلا يكون إذا مادة علم ولا مادة جهل، بل هو مادة قوة ثالثة بين العلم والجهل يجب اكتشافها.
غ :
قلنا ذلك.
س :
وقد اكتشفنا الآن قوة بين الاثنين دعوناها تصورا.
غ :
واضح أنا اكتشفناها.
س :
بقي أن نكتشف ما يشترك في الموجود والمعدوم وليس هو أحدهما بكليته. فإذا ظهرت لنا ماهيته دعوناه بحق: «مادة التصور»، ناسبين للطرفين ما هو لهما، وللوسط ما هو له. ألست مصيبا؟
غ :
إنك مصيب.
س :
فإذا وضعنا هذه الفروض فإني أسأل ذلك الرجل المعتبر، الذي ينكر وجود شيء كلي أو أي صورة من صور الجمال المطلق التي تظل إلى الأبد كما هي غير قابلة التغير، مع أنه يعترف بوجود أشياء عديدة جميلة، ذلك الذي يحب المنظورات، وهو لا يحتمل أن يقال له أن الجمال واحد وأن العدالة واحد وهلم جرا، فأقول له: يا سيدي العزيز، أيوجد بين كل الأشياء الجميلة شيء واحد لا قبح فيه؟ وبين كل الأشياء العادلة عادل واحد لا ظلم فيه؟ وبين كل الأشياء الطاهرة طاهر واحد لا دنس فيه؟
غ :
كلا، بل تظهر كلها بلا تخلف، جميلة وقبيحة، عادلة ومعتدية، بارة ودنسة باعتبارين.
س :
وأيضا ألا يمكن اعتبار المضاعفات الكثيرة أنصافا علاوة على أنها مضاعفات؟
غ :
تماما كما أنها أيضا مضاعفات.
س :
وجريا على الأسلوب نفسه، هل للأشياء التي ندعوها كبيرة وصغيرة وخفيفة وثقيلة، حق في أن تدعى كذلك أكثر من أضدادها؟
غ :
كلا، بل كل منها يمكن أن يدعى بالاسمين على السواء.
س :
فتكون أقرب إلى الصحة إذا وصفنا كلا من هذه الأشياء بأنه قد يكون وقد لا يكون كما وصف؟
غ :
إنك تذكرني بأحجية التضاد التي تتلى على موائد الطعام (للتسلية)، ولغز
11
الأولاد عن الخصي الذي رمى الخفاش بما رماه به، هو جاثم على ما هو جاثم عليه؛ لأن الأشياء المشار إليها فيها الغموض نفسه، فلا يمكن الإنسان أن يميز هل هي موجودة أو غير موجودة معا.
س :
أفيمكنك إفادتي ماذا تعمل بها، أو هل عندك رتبة لها أفضل من الرتبة الوسطى بين الموجود والمعدوم؟ لأنها في مذهبي ليست أخفى من المعدوم لتكون أكثر عدما منه ولا أوضح من الموجود فتكون أثبت منه وجودا.
غ :
إنك مصيب كل الإصابة.
س :
فقد اكتشفنا أن الأفكار الشائعة في الجمهور في العدالة والجمال وأخواتهما هي تائهة بين الوجود المطلق وبين العدم المطلق.
غ :
اكتشفنا.
س :
وقد سلمنا سابقا أنه إذا ظهر شيء من ذلك دعي تصورا لا معرفة، وأن ما يتراوح بين الأمرين يفهم بقوة متوسطة.
غ :
قد سلمنا هذا التسليم.
س :
ولذلك حين تقع عين الناس على شتى الأشياء الجميلة، ولكنهم لا يقدرون أن يروا الجمال بالذات ولا أن يتبعوا من يقودهم إليه، وحين يرون أشياء عديدة عادلة ولا يرون العدالة بالذات، وهكذا في كل مثل. فإنا نقول إن لهم في كل موضوع تصورا لا معرفة حقيقية في الأشياء التي يتصورونها.
غ :
الاستنتاج ضروري.
س :
ومن الجهة الأخرى: ماذا يجب أن نقول في أولئك الذين يفكرون في الأشياء على ما هي في ذاتها، كائنة دون فناء ولا تغير؟ أفلا نقول إنهم عارفون وليسوا متصورين؟
غ :
وهذا أيضا استنتاج ضروري.
س :
أفلا نقول إن هؤلاء يعجبون بمواضيع المعرفة ويحبونها، وأولئك يعجبون بمواضيع التصور؟ لأننا لم ننس أننا قلنا إنهم يحبون ويطلبون الأصوات والألوان البديعة ونحوها من الأعراض، ولكنهم لم يسمعوا بوجود الجمال المطلق.
غ :
لم ننس.
س :
أفنخطئ إذا سميناهم: محبي التصور، بدلا من تسميتهم «فلاسفة»؟ أو يستاءون كثيرا إذا سميناهم كذلك؟
غ :
كلا إذا قبلوا رأيي؛ لأنه من الخطأ أن يسوءنا الحق.
س :
فالذين يحبون الموجود والحقيقي في كل موضوع لا ندعوهم محبي التصور، بل فلاسفة.
غ :
نعم، من كل بد.
الكتاب السادس: الفلاسفة
خلاصته
قد تبينا الفرق بين الفلاسفة الحقيقيين وبين الدجالين، وواضح أن الأولين هم الذين يعينون حكاما في الدولة، فنتقدم الآن إلى تعداد مزايا الفطرة الفلسفية الحقيقية، وهي: (1)
الرغبة الوقادة في معرفة كل الموجودات الحقيقية. (2)
بغض الكذب ومحبة الصدق محبة صادقة. (3)
احتقار اللذات الجسدية. (4)
عدم الاكتراث للمال. (5)
سمو المدارك وحرية الفكر. (6)
العدالة والدماثة. (7)
سرعة الخاطر والذاكرة الحافظة. (8)
فطرة موسيقية قانونية متزنة.
هنا اعترض أديمنتس قائلا: مع أنه لا ينكر قوة حجج سقراط، قد وجد فعلا أن طلاب الفلسفة الأخصاء يصبحون دائما عديمي النفع وشاذين، إذا لم نقل ساقطين كل السقوط.
فأجابه سقراط أن ذلك صحيح، ولكن على من يقع اللوم في أحوال كهذه؟ إنه يقع على السياسة وعلى ساسة هذا الزمان، لا على الفلسفة؛ لأن أوصاف الفلسفة الحقيقية في الأحوال الحاضرة معرضة للفساد بتأثير قوى مضادة، ومتى تنكب الموصوفون بأنهم فلاسفة حقيقيون عن طلب الفلسفة، ملأ مراكزهم عديمو الكفاءة من ضعاف الطلاب الذين أفسدوا سمعة الفلسفة بسفسطتهم وترهاتهم، فعرج من ثم القلائل المخلصون الولاء للفلسفة عن منصات السياسة، وآثروا العزلة على الفساد لدى احتكاكهم بالناس.
فكيف نعالج هذا الخلل؟ يجب أن تنظم الدولة دروس الفلسفة، وتسهر على طلابها ليطلبوها بالطرق القانونية وفي السن الملائم، وعندئذ يحق لنا أن ننتظر أن يصدقوا قولنا إنه: إذا شاءت الدولة إحراز الفلاح فلتسلم مقاليد أحكامها للفلاسفة، فإذا نفذ ذلك كما هو الراجح، تحققت دولتنا المثلى، وبلغنا النتيجة التالية: أن النظام الآنف هو الأفضل إذا أمكن تحقيقه، وأن تحقيقه عسر، لكنه غير مستحيل.
فالنتيجة واضحة: وهي أن هؤلاء الفلاسفة الحقيقيين هم حكام الدولة المثلى. وهكذا تطرق سقراط إلى استئناف البحث في تهذيب الحكام، وكان قد ذكر قبلا عدة امتحانات يجوزونها قبلما يتمتعون بحقوق الحكم. والآن نقول إنه علاوة على تلك الامتحانات يلزم امتحانهم في دروس جمة، فيرقون تدريجيا من الأدنى إلى الأعلى لاستكشاف صفاتهم العقلية والأدبية.
فما هي الدروس العليا؟ سماها كلها درس «الخير» الذي يطمع كل إنسان في امتلاكه كل الطمع، مع أن لا أحد يستطيع أن يؤدي بيانا واضحا في ما هي طبيعته. أفليس واضحا أنه ينبغي لحكام الدولة أن يدرسوا «الخير»؟ فإنهم ليعجزون عن إتمام واجباتهم بدونه.
فسأل أديمنتس: ما هو «الخير»؟ فأقر سقراط بعجزه عن إجابة هذا السؤال بالضبط، ولكنه يستطيع إبداء رأيه فيه على سبيل التشبيه. لنا في عالم الحس: الشمس، والعين، والأشياء المنظورة، يقابلها في العالم العقلي: الخير، والذهن، وصور النماذج الأصلية، وبلغة سقراط: «المثل». ويمكننا أن نصف الفكرة لأنفسنا وصفا أكثر تدقيقا على الصورة التالية: يوجد عالمان: العالم المنظور الذي تتناوله الباصرة، والعالم العقلي الذي تتناوله البصيرة، وفي كل منهما قسمان يتدرجان من الخفاء إلى الوضوح هكذا: (أ)
العالم المنظور، وفيه: (1) الصور: أي الظلال، والانعكاس. (2) الموضوعات: أي الأشياء المادية حية وجمادية . (ب)
العالم العقلي، وفيه: (1)
المعرفة المحصلة بواسطة المقدمات، وعليها تبنى النتائج كافة، ويستخدم لأجل إيضاحها الفرع الثاني من العالم المنظور، كالهندسة مثلا. (2)
المعرفة التي ليس في أبحاثها أشياء مادية، بل تقتصر على الصور الجوهرية التي تعالج الفروض للتوصل إلى مبدأ أولي مطلق، نستخرج منه نتائج صحيحة. يقابل هذه الأقسام الأربعة حالات عقلية أربع، تتقدم من الخفاء إلى الوضوح هكذا: (1) الظن. (2) الاعتقاد. (3) الفهم. (4) الإدراك.
متن الكتاب
سقراط :
فهؤلاء هم الفلاسفة الحقيقيون يا غلوكون، وأولئك هم الأغيار، وقد عرفنا ذلك بعد البحث الطويل الشاق في من هم الفلاسفة الحقيقيون ومن هم غير الحقيقيين.
غ :
نعم، وربما لم يكن اختصار البحث سهلا علينا.
س :
واضح أنه لم يكن سهلا. على أني ما زلت أرى أنه كان يمكننا بلوغ النتيجة على وجه أوضح لو حصرنا كلامنا في هذا ولم نشتبك في شتى المواضيع التي تترصد التفاتنا، إذا رمنا أن نثبت ما يقوم به فضل حياة البر على حياة الشر.
غ :
فماذا نصنع بعده؟
س :
كل ما علينا هو أن نتخذ الخطوة الثانية في الترتيب: لما كان الفلاسفة هم القادرين على إدراك الأبدي غير المتغير، ولما كان العاجزون عن إدراكه تائهين في بيداء التغير وتعدد الصور ليسوا فلاسفة، فأي الفريقين يجب أن يحكم؟
غ :
بماذا أجيب إذا رمت أن أنصف القضية؟
س :
سل نفسك: أي الفريقين قادر على رعاية قوانين الدول وعاداتها؟ وليكن هؤلاء الحاكمين.
غ :
أنت مصيب.
س :
أفيمكن أن نسأل: هل الأعمى أو البصير هو أهل للحكم ولحفظ كل شيء؟
غ :
لا محل لهذا التساؤل.
س :
أفتظن أن هنالك أقل فرق بين حال العميان وحال الذين تجردوا كل التجرد من معرفة الأشياء على ما هي في ذاتها، وليس لهم في نفوسهم مثل واضح، وليسوا بقادرين أن يتفرسوا في الحقيقة الكاملة تفرس المصورين، فيتخذونها نموذجا دائما يتأملونه ويدرسونه بأتم عناية قبلما يتقدمون للعمل في النظم الأرضية، في ما هو جميل وصالح وعادل، واضعين هذه الأشياء في محلها اللازم، ساهرين على حفظها حيث وجدت؟
غ :
كلا، ليس بينهم كبير فرق.
س :
أفهؤلاء نعين حكاما، ونؤثرهم على العارفين كل شيء معرفة حقيقة، وليسوا أقل من إخوانهم اختبارا، ولا هم دونهم في دوائر الفضل الأخرى؟
غ :
من الجنون تولية غيرهم؛ إذ إنهم لا ينقصون جدارة، ولأن النقطة التي يتفوقون فيها هي أهم كل شيء.
س :
أفنتقدم الآن لتبيان كيفية امتلاكهم نوعي الجدارة؟
غ :
من كل بد.
س :
إذا كان الأمر كذلك، وجب أول كل شيء أن ننظر نظرا ثاقبا في سجيتهم الخاصة كما قلنا في مستهل بحثنا، وأظن أنا إذا اتفقنا فيها اتفاقا كافيا اتفقنا أيضا في إمكان اقتران الجدارتين في الأشخاص أنفسهم، وأن أرباب هذه الصفات دون غيرها هم الذين يحكمون الدول.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
دعنا نسلم أن أرباب الفطرة الفلسفية هائمون بكل أنواع المعارف، لتتجلى لهم حقيقة هذا الوجود الخالد الذي لا يغيره الزمن، ولا تسطو عليه عوادي المحن.
غ :
فلنسلم.
س :
ولنفرض أيضا أنهم شغفون بحقيقة الوجود الخالد لا يرضون منه بديلا، ولا أن يحذف فرع من فروعه، كبيرا كان ذلك الفرع أو صغيرا، معتبرا أو مستصغرا كما أبنا ذلك سابقا في كلامنا في أرباب المطامع والحب.
غ :
أنت مصيب.
س :
والآن نتقدم لنرى هل في الإمكان أن نجد صفة ثالثة في خلق الذين تنطبق أوصافنا عليهم؟
غ :
وأية صفة تعني؟
س :
أعني صفة الصدق، أي العزم على تجنب الكذب في كل صوره ما أمكن، ومقته مقتا كليا، ومحبة الصدق محبة حقيقية.
غ :
نعم، والأرجح أننا سنجد فيهم هذه الصفة.
س :
ليس الأرجح فقط يا صديقي، بل إنها ضرورة لا مندوحة عنها؛ فإن من كان فيه شغف فطري بشيء سر بكل ما اقترن بذلك الشيء اقترانا وثيقا.
غ :
يقينا.
س :
أفتجد حليفا ألصق بالحكمة من الصدق؟
غ :
مؤكد لا.
س :
أفتستطيع فطرة واحدة أن تحب الحكمة، وفي الوقت نفسه تحب الكذب؟
غ :
لا يمكن ذلك قطعا.
س :
فالنتيجة هي: أن عاشق المعرفة الحقيقية يصبو إلى الصدق منذ الطفولية صبوا شديدا.
غ :
نعم يصبو .
س :
ولا نرتاب في أن من تنصب رغباته على شيء انصبابا شديدا يضعف ميلها إلى سواه، كالماء الذي يتحول عن مجراه.
غ :
نعم، لا شك في ذلك.
س :
فمتى تحول التيار نحو العلم بكل فروعه حامت رغبات المرء حول اللذات العقلية، هاجرة اللذات التي محورها الجسد، هذا إذا كانت محبته الحكمة حقيقية لا مصنعة.
غ :
لا يمكن أن يكون غير ذلك.
س :
ثم إن إنسانا كهذا يكون عفيفا لا يسوده الطمع؛ لأنه أبعد أهل الدنيا عن اعتبار الأشياء التي تحمل المرء على الاستماتة في حب المال مهما يكلفه الأمر.
غ :
يقينا.
س :
وهنالك نقطة أخرى ينبغي لك اعتبارها في تمييز السجية الفلسفية عما سواها.
غ :
وما هي؟
س :
إنها تحذر التغاضي عن أية وصمة سافلة؛ لأن الصغارة أعظم ضد للنفس المتصفة بالميل التام لامتلاك الحقيقة الإلهية والبشرية، في حالي وحدتها وتعميمها في كل أين وآن.
غ :
غاية في التأكيد.
س :
أفتظن أن النفس المملوءة بالأفكار السامية الممتازة بالتفكر يمكنها أن تعلق شأنا كبيرا على الحياة الحاضرة؟
غ :
كلا، ذلك غير ممكن.
س :
فإنسان كهذا لا يحسب الموت حادثا مروعا.
غ :
مؤكد أنه لا يحسبه كذلك.
س :
فلا حظ للفطرة الجبانة في الفلسفة الصحيحة.
غ :
لا أراها تتمكن منها.
س :
أفيمكن عقلا متزنا حرا من الطمع والسفالة والعجرفة والجبانة، أن يكون صعب المراس أو متعديا؟
غ :
غير ممكن.
س :
فحين تراقب ظاهرات الخلق الفلسفي والخلق غير الفلسفي، يجب أن تلاحظ أيضا منذ الصغر هل ذلك العقل لطيف عادل؟ أو شرس ووحشي؟
غ :
تماما هكذا.
س :
وهنالك نقطة أخرى لا أخالك تغفلها.
غ :
وما هي؟
س :
أبسرعة يتعلم ذلك العقل أم ببطء؟ لأنك لا تستطيع أن تتوقع أن يحب أحد عملا ما محبة كاملة وهو يتعاطاه بصعوبة وانزعاج، فيكون تعبه كثيرا ونجاحه قليلا.
غ :
كلا، ذلك مستحيل.
س :
وإذا كان حليف النسيان فلم يذكر شيئا مما حصله، أفلا تفرغ جعبته من المعرفة؟
غ :
تفرغ.
س :
أفلا تظن أن جهوده العقيمة تنتهي به إلى كرهه نفسه ووظيفته؟
غ :
دون شك.
س :
فلا ندرجن حليف النسيان في عداد النفوس الفلسفية، بل نطلب ذوي الذاكرة الحافظة.
غ :
من كل بد.
س :
ونقول عن يقين أن النفس المرتبكة غير المهذبة هي كلية الاتجاه إلى عدم الاتساق.
غ :
حقيق.
س :
أوحليفة الاتساق الحقيقة أم حليفة عدمه؟
غ :
حليفة الاتساق.
س :
فندرج في عداد مطالبنا عقلا مطبوعا على الجمال والاتساق، في من تأذن له غرائزه أن يفهم صور الأشياء على ما هي في ذاتها.
غ :
من كل بد.
س :
فماذا إذا؟ هل تظن أن الأوصاف التي ذكرناها ضرورية، أو أنها متناقضة في النفس التي ترمي إلى امتلاك الوجود الحقيقي امتلاكا تاما؟
غ :
بل على الضد من ذلك، هي أكثر الأوصاف ضرورية.
س :
أويمكنك أن تجد عيبا في عمل يتطلب ممن تعاطاه عن جدارة، أن يكون ذا ذاكرة حافظة، سريع الخاطر، زكي الفؤاد، حلو الشمائل، محبا وحليفا للحقيقة والعدالة والشجاعة والعفاف؟
غ :
كلا، إن نابغة النقد نفسه لا يمكنه أن يجد عيبا في عمل كهذا.
س :
أفتتردد في أن تعهد إلى هذه الخلال في إدارة مصالح الدولة، وقد أنضجها السن والتهذيب، فأهلها لوظيفتها هذه؟ (فقاطعنا أديمنتس الكلام قائلا: حقا يا سقراط، إنه لا يمكن أحد أن ينكر هذه النتائج، ولكن كل الذين يسمعون ما أبديته من النظريات يشعرون بشيء من الريبة: أنهم نظرا إلى عدم تعودهم أسلوب بحثك سؤالا وجوابا، يشعرون أن كل جملة تقولها تبعدهم عنك قليلا، وفي ختام البحث يؤلف مجموع تلك الفروقات الزهيدة بينك وبينهم ثغرة هي كخطوة عنك، تقودهم ضد اقتناعاتهم الأولى. وكما أن لاعبي الداما الضعفاء تنحصر حجارتهم في آخر اللعب في زاوية الداما تجاه حجارة اللاعب الماهر، فيعجزون عن نقل أي حجر منها. هكذا سامعوك ينحصرون أخيرا أمامك، ويفحمون بهذا النوع من الداما الذي تقوم فيه الكلمات مقام الحجارة، وفي ختام البحث لا يمكنهم الاقتناع قطعا أن النتيجة التي بلغوها حاسمة، أقول ذلك باعتبار بحثنا الحالي، فقد يصارحك الواحد منهم أنه وإن لم يقدر أن يناقضك في كل سؤال كلمة فكلمة، لكنه يرى فعلا أن جميع الذين خاضوا عباب الفلسفة ردحا من الزمن، كانوا راغبين في التخلص منها في عهد الصبا، بدلا من أن يستخدموها في التهذيب، فصار أكثرهم إلى حال الجمود إن لم أقل صار منحطا، حتى إن الذين هم أكثر كفاءة صاروا أردأ حالا باعتبار ما أوجبته من الأعمال، فكانوا بلاء على أمتهم.)
أفتظن أن المعارضة غير حقيقية؟
أد :
لست مؤكدا، وإنما يسرني أن أسمع رأيك.
س :
دعني أخبرك أني أراها معارضة حقيقية.
أد :
فكيف يصح قولك: أن تعاسات الدول لا تزول حتى يحكمها الفلاسفة الذين نراهم عديمي النفع؟
س :
إنك تسألني مسألة يلزمها التمثيل.
أد :
ويظهر أنك لست متعودا ضرب الأمثال!
س :
إنك تهزأ بي، وقد قدتني إلى موضوع يعسر إيضاحه، فاسمع مثلي تر شدة حرصي على العمل. إن آلام الرجال المعتبرين في إدارة مصالح الدولة بالغة من التبريح مبلغا لا يضارعه تبريح الآلام في مركز غيرهم، فألتزم في دفاعي عنهم أن أجمع المواد من جهات شتى، كما يفعل الرسامون في رسم الأيائل ونحوها من الوحوش، فتصور في عقلك أسطولا أو سفينة واحدة تجري الحوادث فيها على النحو الآتي بيانه: يفوق رئيسها جميع البحارة طولا وقوة، لكنه أصم حاسر النظر؛ ولذلك كان عاجزا في فن الملاحة، فتنازع الملاحون في ما بينهم، زاعما كل منهم أنه هو الذي يجب أن يكون الربان، مع أنه لم يتعلم هذا الفن ولا يمكنه أن يذكر أستاذا له فيه أو يقول متى درسه. زد على ذلك أنهم يقولون إن فن الملاحة لا لزوم لتعلمه، ومن خالف قولهم هذا هموا بتمزيقه.
ثم إنهم يتألبون حول الرئيس ويلحفون عليه بالرجاء والتوسل أن يسلم دفة السفينة إلى أيديهم، فإذا لم ينجحوا في إقناعه، وهم يرون أن غيرهم قد نجح في ما فشلوا هم به، تثور حفيظتهم عليه، فإما أن يقتلوا من زاحمهم أو يطرحوه على ظهر السفينة، أما الربان فيغلونه يدا ورجلا، إما بواسطة الخمرة والمخدرات، أو بغيرهما من الذرائع.
ويصبحون سادة السفينة ويسيرونها حسب أهوائهم بمساعدة ملاحيها، ويقضون وقتهم في الشرب والطرب كما ينتظر من أمثالهم في مثل حالهم. ويجودون بالألقاب، كقولهم: «البحار الكفء»، و«الملاح الحاذق»، و«الربان الممتاز»، على أي بحار ساير رغباتهم أو أرغم الرئيس على التسليم بها. ويحسبون كل من خالفهم عديم النفع، غير فاهمين أن الربان الحقيقي يلزمه الانتباه إلى فصول السنة، وحالة الجو والنجوم، ومهاب الريح، وكل ما يتعلق بفنه إذا رام أن يكون ربانا كفؤا، ويظنون أنه يستحيل إتقان فن الملاحة وإدارة الملاحين أرادوا أو لم يريدوا. وإذ الأحوال على هذا النحو، ألا تظن أنهم يدعون الرئيس الحقيقي المتقن فنه في سفينة كهذه وأحوال كهذه: «مهذارا عديم النفع وراعي النجوم»؟
أد :
بلى، يدعونه كذلك.
س :
فلا أراك تفتقر إلى تفسير هذا المثل، فتذكر أنه صورة حقيقية لدولنا في ما يتعلق بمعاملتها الفلاسفة، بل أراك فاهما ما أعنيه تمام الفهم.
أد :
نعم، بالتمام.
س :
وعليه: فإذا تعجب أحد من أن الفلاسفة غير معتبرين في دولنا، فأورد له مثلنا هذا، وأقنعه أن الأمر كان يكون أعجب لو أنهم معتبرون.
أد :
سأفعل ذلك.
س :
وواصل كلامك فأخبره أنه مصيب في قوله إن أكثر الذين تعاطوا الفلسفة اعتبارا هم عديمو النفع في الدنيا، ولكن دعه يلقي اللوم في ذلك على الذين رفضوا خدمة هؤلاء الصالحين، لا عليهم هم؛ لأنه ليس أمرا ينطبق على طبيعة الأمور أن يلتمس الربان من البحارة أن يأذنوا له في أن يديرهم، ولا أن يقرع الحكيم أبواب الغني، ومن قال كذلك فهو على خطأ مبين. والحقيقة الراهنة هي أن المريض فقيرا كان أو غنيا هو الذي يقرع أبواب الطبيب، هكذا كل الذين يحتاجون إلى الحاكم ينشدون رب الكفاءة؛ لأنه ضد الطبيعة أن الحاكم الذي هو على شيء من الجدارة، يستعطف الرعايا لكي تخضع لحكم، فلا تخطئ كثيرا إذا قابلت مثل البحارة الآنف ذكرهم بحال الساسة في هذا الزمان، والثرثارين عديمي النفع كما يدعونهم بالربابنة الحقيقيين.
أد :
غاية في الإصابة.
س :
في أحوال كهذه وبين أقوام كهؤلاء، لا يهون اشتهار أشرف الأعمال بين الذين تناقض هذه الأعمال تصرفاتهم. على أن التحريف الأكثر أضرارا وسماجة تحت علم الفلسفة ينشأ عن منتحليها، وهم الذين بلا ريب يعنيهم شاكوها بقولهم فيهم ما أوردته أنت: أن أكثرهم منحطون، وأن أفضلهم عديم النفع، وقد سلمت بصحة ذلك في كلامي السابق. ألم أسلم؟
أد :
قد سلمت.
س :
وقد أوضحنا السبب في كون أفضلهم عديم النفع. ألم نوضحه؟
أد :
أوضحناه بالتأكيد.
س :
أفتريد أن نتقدم بعده إلى البحث في سبب انحطاط أكثرهم، ونبين إذا كان التبيان في مستطاعنا أن الفلسفة بريئة الساحة من هذه الجريمة؟
أد :
أريد من كل بد.
س :
فسمعا لما يقال، ولنرجع إلى النقطة التي كنا عندها نصف ما يجب أن تكون سجية البار الطبيعية، وأن أول شارات تلك السجية وأهمها إذ كنت تذكر، هي «الصدق» الذي يتحتم على المرء التزامه بتمام الإخلاص، وإذا كان دجالا سقطت كل دعاويه في انتمائه إلى الفلسفة الصحيحة.
أد :
نعم، قلنا ذلك.
س :
أفليست هذه إحدى النقاط التي تضاد الرأي الذائع في عصرنا الحالي على خط مستقيم؟
أد :
إنها لهي.
س :
أولا ندفع دفاعا معقولا إذا قلنا: إن عاشق المعرفة الحقيقي يسوق كل عرق نابض في جسمه إدراك الوجود الحقيقي، نائيا أقصى النأي عن الوقوف عند الظاهرات الكثيرة، التي ينحصر وجودها في دائرة التصورات، فيتخطاها، ولا ينثني عزما أو يفتر شغفا حتى يفهم طبائع الأشياء على ما هي في ذاتها بالقسم المختص من نفسه بإدراك موضوع كهذا باعتبار التجاذب بينها، ومتى بلغ بواسطتها الوجود الحقيقي ولاذ به، تفجرت في نفسه ينابيع الحكمة، وحينذاك ليس إلا، يعرف الحياة الحقيقية ويتمتع بها، ويحصل على الغذاء الحق، وينجو أخيرا من آلام السياحة.
أد :
ذلك أفضل دفاع ممكن.
س :
أفيوصم رجل كهذا بمحبة الكذب؟ أم أنه يبغضه بغضا شديدا.
أد :
يبغضه.
س :
ومتى كان الصدق قائدا فلا يمكنا التسليم بأنه سيتبعه قطار من الشرور.
أد :
مؤكد لا نسلم.
س :
بل نجزم أنه يرافقه ميل صحيح عادل، يتلوهما الترصن.
أد :
حقيق.
س :
ولسنا في حاجة إلى تكرار ما أسلفنا من بيان، فنعيد الكرة على ترتيب حاشية الخلق الفلسفي، لأنا قد تبينا - كما لا بد أنك تذكر - أن في حاشيته الطبيعية الرجولة، وعزة النفس، وسرعة الخاطر، والذاكرة الحافظة. فعارضت قائلا إنه لو أن كلا ملزم بالتسليم بصحة نتائجنا، فإنه حين يعرج عن البحث ويحول نظره إلى الأشخاص الذين هم موضوع ذلك البحث، يتولد فيه الاقتناع أن بعضهم عديم النفع، وأن أكثرهم منحط؛ ولذلك بحثنا في أسباب هذا التحامل وبلغنا هذا السؤال: لماذا كان أكثرهم منحطا؟ هذا هو سبب عودتنا إلى النظر في خلق الفلاسفة الحقيقيين، وقد رأينا أننا مفتقرون إلى تحديده.
أد :
حقيق.
س :
فمن الضروري درس العوامل المضرة، التي تفسد الخلق الفلسفي في الكثيرين، وقليلون فقط من ينجون من تأثيراتها، وهم الذين تدعوهم عديمي النفع، ولكنهم ليسوا بمنحطين. ثم ننظر في الطبائع المقلدة الفلسفة الحقيقية المقتفية خطواتها، فنبين كنهها عقليا، وكيف تطرقت إلى مهنة أسمى منها وأصلح، وارتكبت خطيئات كثيرة فألصقت بالفلسفة في كل زمان ومكان التهمة التي ذكرتها.
أد :
ما هي التأثيرات المضرة التي تعنيها؟
س :
سأعيد وصفها لك إذا أمكن، وأظن أن كل واحد يسلم معنا أن خلقا كهذا مع كل المزايا التي أوجبنا كونها في من يروم أن يكون فيلسوفا، هي مما يندر وجوده في الناس، أتظن خلاف ذلك؟
أد :
كلا لا أظن.
س :
فانظر ما أكثر الأخطار التي تصدم هذه الصفات النادرة.
أد :
وما هي؟
س :
هي أغرب ما طرق المسامع، وهو أن كلا من المزايا التي أوجبناها في فطرة الفلاسفة تميل إلى إفساد النفس التي تمتلكها، وتقصيها عن مواطن الفلسفة. أعني بتلك المزايا: الرجولة والعفاف وأخواتهما التي سبقت فذكرتها.
أد :
ذلك غريب جدا.
س :
عدا ذلك فكل فوائد الجمال والغنى والثروة والقوة الجسدية وتوثق العرى في الدولة، وكل ما له نسابة إلى هذه الأشياء يفسد النفس ويدمرها دمارا، فلك هنا خلاصة ما عنيته.
أد :
نعم، وبسرور أحب أن أسمعه على وجه يكون أكثر تفصيلا.
س :
فافهم الجملة تمام الفهم تبد واضحة لك بنور صاف، فلا يلوح ما قلته لك غريبا.
أد :
فماذا تأمرني أن أفعل؟
س :
نعلم أن في كل أنواع البذور وكل ما ينمو من نبات وحيوان ما لا يحصل على ما يلائمه غداء وتربة وبيئة، فكلما كانت طبيعتها أقوى كان فسادها وتشويه محاسنها الخاصة بها أشد؛ لأن الشر على ظني أكثر مضادة للخير منه لغيره.
أد :
نعم يمكننا أن نعلم ذلك.
س :
أفلا نقول يا أديمنتس بالقياس نفسه إن العقول الكبيرة إذا بليت بثقافة ردية فسدت فسادا بليغا؟ أوتظن أن الجرائم الكبرى والانحطاط التام ينشآن عن سجية ضعيفة، لا عن سجية سامية أفسدها سوء المعاملة؟ أو أن الطبيعة الواهنة تولد شيئا عظيما، خيرا أو شرا؟
أد :
كلا، ظني كظنك.
س :
فأرى بحكم الضرورة أن الطبيعة التي قررنا وجودها في الفيلسوف إذا حصلت على التهذيب الملائم، نمت وامتلكت كل فضيلة وجمال، على أنها إذا غرست في تربة غير صالحة، واستمدت غذاء رديا أمست خلاف ما ذكرنا، اللهم إلا إذا أمدها أحد الآلهة بعون خاص. أوتظن ظن الأكثرين أن بعض الناس أفسدهم السفسطائيون في صغرهم، وأن السفسطائيين يفسدون السجايا إفسادا كبيرا؟ أولا ترى أن الذين يقولون هذه الأقوال هم أكثر سفسطة؟ فيبثون تعليمهم في النفوس بأفعل الذرائع، ويطبعون بطابعهم الشبان والشيوخ ذكورا وإناثا.
أد :
ومتى؟
س :
متى احتشدوا في الأندية أو في أندية القضاء أو في المسارح أو في ثكن الجنود أو في غيرها من المجتمعات العمومية، يفندون الخطب أو التمثيل بصيحات وضجات، وعلى هذا القياس يزكون غيرها، مغالين في تفنيدهم وتزكيتهم، فتردد الأرض والحجارة أصداء صيحاتهم، فتتضاعف، فأي ضبط نفس تنتظر من الشاب في موقف كهذا؟ أو أي نصح يسكن جأشه، فلا يراع بصدمات المدح والقدح، ويحمل بتيارهما الجارف أين سار، فيصير يستحسن لهجة هؤلاء الأقوام في ما هو معتبر أو محتقر، فيقلدهم ويصير واحدا منهم؟
أد :
إنها نتيجة صحيحة يا سقراط.
س :
على أننا لم نذكر بعد أعظم أثر ينجم عن ذلك.
أد :
وما هو؟
س :
هو أن هؤلاء السفسطائيين المهذبين، متى عجزوا عن بث تعاليمهم عمدوا إلى القوة كما لا يخفى عليك، فعاقبوا من عجزوا عن إقناعهم بحرمانهم من الحقوق المدنية وبالتعزيم وبالموت.
أد :
حتما أنهم يفعلون ذلك.
س :
فأي سفسطائي أو أية تربية يمكن أن تتغلب على هذه العوامل؟
أد :
لا أظن أن شيئا يتغلب عليها.
س :
كلا، لا يتغلب، بل إن مجرد محاولة ذلك جنون مطبق؛ لأنه لم يكن ولا كان ولن يكون خلق يعتبر الفضيلة خلاف هذا الاعتبار، إذا ثقف الثقافة التي تبثها فيه المجتمعات المألوفة. أتكلم إنسانيا يا صديقي؛ لأنه على كل حال «تستثنى العناية» كما يقول المثل، فكن على يقين أنك لا تخطئ في قولك إن كل ما حفظ من نظم الدول وصيغ بالصيغة الواجبة فقد صيغ وحفظ بعناية إلهية.
أد :
وأنا من هذا الرأي.
س :
فأريد أن تضيف إلى لائحة آرائك ما يأتي.
أد :
وما هو؟
س :
أن هؤلاء النفعيين الذين يدعوهم الجمهوري سفسطائيين، ويحسبونهم مزاحمين في هذا الفن، لا يعلمون من العقائد إلا ما يستحسنه العامة في مجتمعاتهم ويسمونه حكمة، فهم كمن درس طبائع وحش ضار كان يعوله، وخبر ملامحه أبان هياجه، وعرف رغباته، وتعلم كيف يدانيه وكيف يلمسه، وفي أي الأحوال والأوقات يكون أكثر خطرا أو أكثر هدوءا، وفي أي الأحوال يصدر مختلف الأصوات، وأي الأصوات التي تصدر عن الجمهور تثيره أو تهدئه. ولما تعلم كل ذلك بملازمة الوحش طويلا، سمى معلوماته هذه «حكمة»، فنظم فنا وفتح مدرسة، مع أنه يجهل كل الجهل أي هذه الرغبات والمجون جميل أو قبيح، وأيها صالح وأيها رديء، وأيها عادل وأيها باطل؛ ولذا يكتفي بإطلاق هذه الأسماء بحسب حالات الوحش، فيدعو ما يسره خيرا، وما يسوءه شرا، وليس عنده مقياس آخر للحكم، إنما يدعو الأشياء عادلة وجميلة، مع أنها صنعت بحكم الضرورة، فلم ير ولا يقدر أن يبين للسوي ما هي طبائع الأشياء الضرورية والصالحة، ودرجات تفاوتها، فبحق السماء قل: ألا ترى شخصا كهذا معلما غريب الشك؟
أد :
هكذا أرى.
س :
أوتظن أن هنالك أي فرق بين شخص كهذا وبين رجل يزعم أن الحكمة مؤلفة من درس غضب الجمهور المتنوع ومسراته المتقلبة، في ما يتعلق بالتصوير والموسيقى والسياسة؟ لأنه مع التسليم أن الإنسان إذا امتزج بالجمهور وأراهم شعرا أو أثرا فنيا أو عملا سياسيا يعود بالنفع على الدول، وجعلهم حكما فيه، واضعا نفسه بين أيديهم أكثر مما هو ملزم بذلك، إذا فعل ذلك وجد نفسه مضطرا لعمل ما يأمرونه به. وهل سمعت أن أحدا أورد سببا غير واهن يثبت أن ما يرضي الجمهور هو بالحقيقة صالح وجميل؟
أد :
لم أسمع ذلك، ولا أظن أني سامعه.
س :
فإذا حفظت كل ذلك في قلبك، فدعني أذكرك بنقطة أخرى: أيمكن الجمهور أبدا أن يسلم بوجود «الجمال الجوهري» بإزاء مواضيع الجمال العديدة؟ أو وجود صور جوهرية بإزاء ظاهراتها الخاصة المنوعة؟
أد :
بالتأكيد لا يمكنه.
س :
فلا يمكن الجمهور أن يكون متفلسفا بمجموعه.
أد :
لا يمكنه.
س :
فأساتذة الفلسفة منبوذون من الجمهور.
أد :
منبوذون.
س :
وبنوع خاص من المغامرين الذين يسايرون رغبات الغوغاء ويصحبونهم.
أد :
واضح.
س :
فأية سلامة ترى للسجية الفلسفية فتستمر في مجراها لإدراك كمالها؟ واعتبر نتائجنا السالفة، فقد قررنا أن سرعة الخاطر والذاكرة الحافظة والرجولة وعزة النفس هي مزايا السجية الفلسفية.
أد :
نعم قررنا.
س :
أفلا يصير إنسان كهذا، الأول في كل شيء منذ نعومة أظفاره؟ ولا سيما إذا كانت بنيته الجسدية تتفق مع مواهبه العقلية؟
أد :
مؤكد يصير.
س :
وأظن أنه حين يتقدم في السن يميل أصحابه ومواطنوه إلى استخدامه في قضاء مصالحهم الخاصة.
أد :
بلا شك.
س :
وبالنتيجة يترامون على قدميه ويرفعون إليه آيات التوسل والمجاملة، ويجهزون بتمليقه متوقعين له مستقبلا زاهرا.
أد :
هكذا يحدث عادة.
س :
فماذا تظن أن شخصا كهذا يعمل في حال كهذه؟ ولا سيما إذا اتفق أنه كان غنيا، شريف المحتد، باهي الجمال، من دولة عظيمة؟ ألا تملأ دماغه الأحلام، فيتوهم في نفسه الكفاءة لإدارة مصالح اليونانيين والبرابرة ، فيرتفع على أسس غير راسخة، حتى تبتلعه أخيرا العنجهية والغرور والاعتداد بالذات؟
أد :
لا شك في أنه يتوهم.
س :
فإذا دنا أحد من إنسان كهذا بلطف وصارحه الحقيقة، وهو على ما وصفنا، قائلا له أنه خلو من الحكمة الحقيقية، بل هو غاية في الافتقار إليها، وأنه لا يفلح في طلبها إلا من وقف نفسه عليها، أفتظن أنه أمر سهل استمالة نظره والمؤثرات الردية تتنازعه؟
أد :
كلا، إن ذلك بعيد جدا عن السهولة.
س :
وإذا تحول إنسان كهذا بفضل ما فيه من خلق وذوق تالد، وصار يرغب في الفلسفة، وجد في طلابها مستسلما خاضعا، فماذا تظن أن أولئك الذين خسروا صحبته والمنافع المادية التي كان يغدقها عليهم يفعلون به؟ ألا يبذلون كل واسطة قولا وفعلا ليثبطوه عن قبول الرأي الحكيم، كائدين له، فيجرونه إلى المحاكم علنا؟
أد :
أكيد، ذلك ما يفعلونه.
س :
أفلا ترى مدى إجابتنا في قولنا، إنه حتى مميزات الخلق الفلسفي نفسها إذا منيت بسوء التهذيب قد تكون علة تنكب المرء عن طلاب الفلسفة، كما أنها تؤدي إلى النتيجة نفسها ملابسات الغنى، وكل أنواع الأبهة الخارجية؟
أد :
بلى إنها نظرات صائبة.
س :
فهذا هو الدمار يا صديقي الفاضل، وهكذا يكون محزنا الفساد الذي يحل بأفضل سجية في سبيل أشرف المطالب، سجية نادرة المثال كما أسلفنا. ولا شك في أن بين أفراد هذه الطبقة من يسبب أعظم ضرر للأفراد وللدول، كما أنه يوجد الذين يسعون لأجل خيرهم متى جرى التيار على مشتهاهم. أما العقول المحدودة فلا تصنع شيئا عظيما للدول ولا للأفراد.
أد :
ذلك حقيق.
س :
وهكذا يحدث أن الذين هم الأقربون إلى الفلسفة عجزوا عن تأييدها، وهووا من حالق مجدهم، تاركين الفلسفة ناقصة مهجورة، وإذ يختارون حياة لا تتفق مع مكانتهم ولا هي صحيحة البناء، يتطفل على الفلسفة غير أهلها؛ لكونها يتمت من أهلها وهجرت، فيسيء هؤلاء إليها ويحملونها العار الذي أشرت إليه، وبه يعيرها الناس، قائلين إن أكثر طلابها عديمو النفع ولا وزن لهم، أو أنهم كما هو الواقع في أكثر الأحوال، يستحقون صارم العقوبات.
أد :
حقا إن هذه الملاحظات صائبة.
س :
نعم، وطبيعية أيضا؛ لأن أناسا آخرين ناقصي الخلق إذ رأوا المجال فسيحا، مع أنهم أغنياء بالأسماء العظيمة وألقاب الشرف الفارغة، كان سرورهم عظيما بأن يهجروا حرفهم ويتهافتوا على الفلسفة تهافت المجرمين على براح السجون والالتجاء إلى الهياكل، كلما أبدوا مهارة في مهنتهم الحقيرة. ومع ما حل بالفلسفة ما زالت أبهى رونقا وأسمى رتبة جدا من أية حرفة أخرى، وذلك ما يطمع فيه كثيرون ممن فسدت مواهبهم الطبيعية من البداءة، وقد شوهت نفوسهم تشويها محزنا ووهنت بحياة الاستعباد، كما شوهت أجسادهم بكدحهم في الصناعة والتجارة. أليس هذا هو الواقع؟
أد :
مؤكد أن هذا هو الواقع.
س :
أفتراهم يختلفون كثيرا عن أجير الحداد الأصلع الذي جمع دريهمات قليلة على أثر خروجه من السجن، ولبس بذلة جديدة ومرح كعريس، عازما أن يتزوج من ابنة معلمه، يشجعه على عزمه هذا ما حاق بوالدها من ضيق ذات اليد؟
أد :
لا أدري أي اختلاف بينهما.
س :
فأي نسل يلد قران كهذا؟ أليس نغولا سافلين؟
أد :
ليس إلا.
س :
فإذا اقترن بالفلسفة غير أهلها ظاهرين بمظهر منكر، فبماذا نصف طبيعة التصورات التي يلدها؟ ألا نصفها وصفا مدققا بأنها سفسطات، مولود غير شرعي، خالية من كل أثر للنظر الثاقب؟
أد :
نعم حتما.
س :
بقي قليلون من أرباب السجية السامية ممن تعاطوا الفلسفة عن جدارة يا أديمنتس. ويتألف هؤلاء إما ممن فيهم سجية شريفة مهذبة تهذيبا حسنا، وقد حكم عليهم بالنفي وهم بعيدون عن عوامل الفساد، فحفظوا أنفسهم وثبتوا في الفلسفة، أو أنهم من ذوي العقول الكبيرة، وقد نشئوا في دويلات صغيرة فازدروا سياسة بلدهم. ومن الممكن أن يكون قد انضم إليهم فريق صغير من أرباب الحرف الأخرى، حملهم على احتقار حرفهم ما فيهم من المواهب الطبيعية، فشكمتهم شكيمة صديقنا ثاجس الذي قيدته صحته فعجز عن مزاولة علاقاته الاجتماعية، مع أن كل عامل آخر كان يدفعه إلى هجر الفلسفة، ولست أذكر العامل الخارق الذي يصدني أنا؛ لأنه على زعمي لو عرض لأحد فإنما كان ذلك لقليلين من الناس قبل أيامي.
فمن كان من أفراد هذه الفئة القليلة العدد وقد تذوق حلاوة المباحث الفلسفية وغناها، وراقب جنون الكثيرين من العامة، موقنا أنه يندر وجود من يخطو خطوة ثابتة في حياته المدنية، وأن لا حليف يرافقه ليشد أزره في نصرة العادل، بل إنه لو حاول ذلك لكان كالواقع بين أولئك الوحوش، فلا يريد أن يشاركها في شرها، ولا يقدر أن يدفع عنه ثورتها، فيهلك قبلما يستطيع أن يفيد بلاده وصحبه، فغدا عديم النفع لنفسه وللآخرين، إن إنسانا كهذا إذا سبق فوزن كل هذه الواقعات لبث هادئا صامتا، يلوذ بشئونه الخاصة كمن يلجأ إلى جانب جدار، تسترا مما تثيره الرياح من غبار تليه العواصف والسيول الجوارف. وإذ يرى وهو قابع في محله الفوضى ناشرة جناحيها على عامة الجنس البشري، يكتفي بضمان سلامته من المظالم والأرجاس. ومتى أزف وقت إطلاق سراحه خرج من المأزق الحرج مستوحشا بالرجاء الصالح، مسرورا رصينا.
أد :
لم يعمل أدنى عمل قبل خروجه.
س :
ولا أهم عمل، إذ لم يجد دستورا سياسيا يلائمه؛ لأنه في دستور كهذا يبلغ أوج الرفعة، بل يتمكن من صيانة مصالحه ومصالح بلاده أيضا.
لقد بينا تبيانا كافيا أسباب التحامل على الفلسفة وما في ذلك التحامل من روح التعدي، إلا إذا كان عندك ما يقال غير ذلك.
أد :
كلا، لا أقول أكثر من السؤال: أي نظام في عصرنا أكثر ملاءمة للفلسفة؟
س :
ليس ولا واحد ممن أدعوه هكذا، وما أشكوه هو: ليس في نظامنا الحالي، جمهورية هي بيئة ملائمة للطبيعة الفلسفية؛ ولذا أرى تلك الطبيعة قد التوت وفسدت، فتغيرت تغير البذار الغريب الذي زرع في تربة لا تلائمه، ففقد مزاياه الخاصة، وينحط إلى مستوى النبات العادي الذي هو دونه في تلك البيئة. هكذا هذا النوع من السجايا في هذه الأيام، قد حبط مسعى في حفظ سجاياه الخاصة، فهبط إلى غير مستواه، ولو لاقى هذا النوع النظام الأفضل، كالمثل الأعلى للفضائل التي فيه، لتبرهن له على أنه بالحقيقة من طراز إلهي، وأن كل أنواع الصفات والمهن الأخرى إنسانية. وظاهر أنك تروم أن تسألني: ما هو هذا النظام؟
أد :
أخطأت، فإن ما كنت عازما أن أسأله هو: أمتجه أنت بفكرك وجهة هذا النظام الذي بحثنا في تأسيسه؟ أم أنك تفكر في غيره؟
س :
فيه نفسه في كل النقاط إلا واحدة، وقد أشرنا إلى هذه النقطة في خلال البحث، لما قلنا إنه من الضروري أن يكون في الدولة سلطة تنظر في النظام بالنور الذي استنرت به أيها الشارع لما سننت القوانين.
أد :
حقا قد أشرنا إليها.
س :
على أنها لم تتضح اتضاحا كافيا؛ لأني خشيت مقاومتك التي دلتني على أن إيضاحها أمر عسير شاق. وليس القسم الباقي من بحثنا أسهل مما مر بوجه من الوجوه.
أد :
وما هو ذلك القسم؟
س :
هو: كيف تتفلسف الدولة، دون أن تجلب على نفسها دمارا تاما. إننا نعلم أن كل الأشياء العظيمة خطرة، وكما يقول المثل: النفائس صعبة المنال.
أد :
وعلى كل دع بحثنا يتم في إيضاح هذه النقطة.
س :
إذا كان عندي مانع فليس هو نقص الإرادة، بل نقص المقدرة، ولما كنت حاضرا فسترى غيرتي رأي العين، وسترى بأية غيرة قلت إنه يجب على الدولة أن تجرب درس الفلسفة على غير النمط المألوف.
أد :
وكيف ذلك؟
س :
إن أكثر طلاب الفلسفة في الوقت الحاضر هم فتيان لم يكادوا يخرجون من طور الصبوة، وقد حصروا درس الفلسفة في فترات أعمالهم اليومية وخدمتهم البيتية، وبعد أن درسوا أعوص أقسام الفلسفة - أي فن المنطق - هجروا الدرس هجرا كليا، هؤلاء هم أرقى فلاسفة هذا الزمان، بعد ذلك إذا دعاهم أحد المشتغلين بهذا الفن حسبوا قبولهم دعوته تنازلا عظيما منهم؛ لأنهم يزعمون أن الفلسفة يجب أن تكون عملا ثانويا لا أكثر. على أنهم متى تقدموا في السن انطفئوا - إلا القليل منهم - ولا انطفاء شمس هيرقليطس،
1
فلا ينيرون بعد انطفائهم إلى الأبد.
أد :
فما هي الخطة المثلى؟
س :
هي على الضد من ذلك تماما، أي أن يعكفوا على درسها أحداثا درسا يتفق مع سنهم، وتدرجهم نحو الرشاد. ويلزم الانتباه لهم انتباها خاصا لمساعدتهم في درسها، ومتى بلغوا رشدهم ونضجت عقولهم وجب أن تكون التمارين العقلية صعبة، وأخيرا حين تأخذ قواهم الجسدية في الانحطاط ويعفون من الخدمة العسكرية والمدنية، فحينذاك يجب أن يقفوا حياتهم وقواهم على درس الفلسفة لا غير، إذا راموا أن يحيوا سعداء على الأرض. وبعد موتهم تتوج الحياة التي قضوها في هذه الدار بمصير يطابقها في العالم الآخر.
أد :
لا أشك في غيرتك في كلامك يا سقراط، ومع ذلك أتوقع أن يعارضك أكثر سامعيك، وأولهم ثراسيماخس بغيرة شديدة، ويعلنوا خروجهم عليك.
س :
لا تسع بيني وبين ثراسيماخس، فقد صرنا صديقين، ولا أعني بذلك أننا كنا قبلا عدوين، فإني لا آلو جهدا في معالجة هذا الموضوع، فإما أن أربحه ومن معه إلى جانبي، أو أني أضمن انتفاعهم في المستقبل إذا عرض لهم مثل هذه المباحث في العالم الثاني.
أد :
يا له من تأجيل قصير المدى!
س :
بل هو لا شيء إذا قيس بالأبدية، وليس غريبا عدم اقتناع الجمهور بتعاليمي؛ لأنهم لم يروا تطبيق نظريتنا بعد، وغاية ما هنالك أنه طرقت أسماعهم آراء تشبهها، ولكنهم أجبروا على تفرقة الكلمة في ما بينهم كما هو الحال اليوم، عوض الاتفاق الاختياري. أما الرجل الذي هو «مثل الفضيلة الأعلى» الذي تنطبق عليه أوصافها أتم انطباق قولا وفعلا، فلم يقفوا له على أثر. أتظن أنهم عثروا عليه؟
أد :
لا أظن.
س :
وبالحري يا صديقي العزيز، إنهم لم يثابروا على سمع المحاورات الحرة الراقية التي يقصد بها تلقف الحقيقة بدقة واجتهاد، رغبة في مجرد معرفة الحقيقة بكل وسيلة ممكنة، بل قضوا حياتهم في الأبحاث الفنية والمماحكات المدنية التي هدفها الخاص إطالة البحث وكسب الاستحسان، بعيدين عن الجهود الحكيمة الجدية.
أد :
مصيب أيضا.
س :
ولهذه الأسباب وتفاديا من حصول هذه النتائج، حملتني قوة الحق بالرغم من مخاوفي، على أن أجهر في ما سلف أنه لا دولة ولا نظام ولا فرد يمكن أن يبلغ أو تبلغ الكمال، ما لم تلق مقاليد الأحكام فيها إلى أيدي الفلاسفة القلائل الذين نعتوا الساعة بأنهم عديمو النفع، ولكنهم غير منحطين، أراد هؤلاء تقلد الأحكام أو لم يريدوا، وهي في دورها تجد نفسها ملزمة بالخضوع لهم، أو أن يحصل الملوك والسلاطين الحاليون أو أولادهم بإرشاد إلهي على محبة حقيقية للفلسفة الصحيحة. أما زعم استحالة إحدى هاتين الحالتين أو استحالة كلتيهما فأراه زعما غير معقول، ولو استحالتا لكنا أضحوكة كأصحاب نظريات وهمية. ألست مصيبا؟
أد :
مصيب.
س :
ولو أن الضرورة القصوى في ما سلف من الدهور، أرغمت فلاسفة الطبقة الأولى أن يحكموا الدولة، أو لو أن أمثالهم يحكمون اليوم في بعض الأرجاء خارج آفاقنا، أو أنهم سيحكمون، لكنت أتفانى في الدفاع عن صحة الدعوى بأن النظام الذي مر بك وصفه كائن وسيكون حيثما تتسلم إلاهات الفن مقاليد الأحكام؛ لأن تحقيق ذلك ليس بمستحيل، وليست فروضنا مجرد نظريات، مع أننا نعترف بصعوبة تطبيقها.
أد :
وأنا من هذا الرأي.
س :
أعلى استعداد أنت للتسليم بأن الأكثرين ليسوا من هذا الرأي؟
أد :
على الأرجح.
س :
فحذار يا صديقي الفاضل من أن تشكو الجمهور شكوى في هذه الدرجة من الخطورة، ولا ريبة في أنهم يغيرون أفكارهم إذا عرجت عن الخصومة، وحاولت بلطف وتؤدة أن تزيل تعصبهم ضد محبة المعرفة، بإظهارك لهم من هم الذين تحسبهم فلاسفة، محددا فطرتهم وثقافتهم على نحو ما عملنا الساعة، حتى لا يتوهموا أنك تعني بالفلاسفة أرباب السجايا التي في متصورهم. وهل تجرؤ على التشبث بأنهم إذا رأوهم كما تراهم أنت خالفوك رأيا وأجابوا بجواب آخر؟ وبعبارة أخرى: أتظن أن رجلا مسالما ولطيفا يخاصم رجلا وديعا أو يفكر بأذية من لا يؤذيه؟ أتوسم أنك تسلم معي بأن الطبع يكون فاسدا في القليلين من الناس، ولكن لا يكون كذلك في أكثر النوع الإنساني.
أد :
إني بكليتي من رأيك.
س :
أولست من رأيي أيضا في أن سبب استياء الجمهور من الفلسفة يرجع إلى تصرف الذين كالسكارى يقتحمون ما لا يعنيهم، ويسيئون بعضهم إلى بعض، ويسرون ببث الفتن والاغتياب، وبالإجمال: الأشخاص الذين لا تتفق تصرفاتهم مع الفلسفة؟
أد :
حقيق أنها لا تتفق.
س :
وبالتأكيد يا أديمنتس، أن من وجه أفكاره نحو الأشياء الموجودة حقيقة ليس له متسع من الوقت للاشتباك بمصالح الآخرين ومنازعتهم، فتتسرب إليه عدوى أذاهم. بل على الضد من ذلك، يقف أوقاته على التفكر بأشياء صحيحة ثابتة. وإذ يرى أنها لا تضر إحداها الأخرى، ولا تني خاضعة للنظام، وهي على أتم وفاق مع العقل، يجتهد في درسها والتشبه بها. أوتظن أن الإنسان يستطيع أن لا يتمثل بما يلازمه ويحترمه؟
أد :
غير ممكن.
س :
فالفيلسوف الذي يلازم ما هو إلهي متزن يصير إلهيا متزنا، مع أنه هنا كما في كل موقف آخر، مجال واسع للتزييف.
أد :
أنت مصيب تماما.
س :
فإذا وجد نفسه ملزما بأن يبث في عادات الأفراد والجماعات المألوفة الأشياء التي لفتت نظره إلى الملأ الأعلى، وحاول أن يطبع نفسه والآخرين بطابعها، أفتظن أنه يكون عديم الاكتراث لنتاج العدالة والعفاف وسائر الفضائل الاجتماعية؟
أد :
كلا.
س :
وإذا أحس الجمهور أنا نقول الحق في إنسان كهذا، أفيغضب على الفلاسفة ويحتقر قولنا إن الدولة لن تكون سعيدة ما لم يرسمها رسامون ينسخون عن أصل إلهي؟
أد :
إذا أحسوا بالواقع فلا يغضبون. ولكن ماذا تعني «برسمهم» إياها؟
س :
أن يتخذوا قماشهم الدولة وطبيعة الجنس البشري الأدبية، ويشرعون بتنظيف ذلك القماش وتلوينه، وليس ذلك بالأمر السهل. على أنهم يختلفون عن إخوانهم الفنيين كافة في أنهم يرفضون التدخل في شئون الفرد والدولة، ويترددون في وضع الشرائع، حتى يكون لهم قماش أبيض (نظيف)، أو أنهم يبيضونه بسعيهم الخاص.
أد :
وهم مصيبون بذلك.
س :
وبعدئذ، ألا ترى أنهم يرسمون الخطوط الأساسية في رسم نظامهم؟
أد :
بلا شك.
س :
وأظن أن عملهم الثاني هو أن يكملوا الرسم، وفيما هم يفعلون ذلك يتلفتون إلى الجانبين ليروا أولا مثل العدالة والعفاف وإخوانهما، ثم الآراء الشائعة بين الناس، فيؤلفون رسمهم الإنساني بجميع نتائج درسهم، ورائدهم في عملهم ما تجلى منه في صفات الناس، وهو ما سماه هوميرس: «المثل الإلهي الأعلى.»
أد :
أنت مصيب.
س :
ويستمرون في عملهم فيمحون شيئا ويثبتون غيره، ليجعلوا سجية الإنسانية مرضية عند الآلهة ما أمكن.
أد :
فيكون رسمهم غاية في الجمال.
س :
فهل لنا من وسيلة لإقناع المتهجمين علينا، الذين تقول إنهم أثاروا علينا حربا شعواء، أن رسام النظم هذا هو الرجل الذي امتدحناه على مسامعهم مؤخرا، فسخطوا علينا، لأنا اقترحنا أن تناط به شئون الدولة. أفيكونون الآن أقل امتعاضا وهم يسمعوننا نعيد ما قلناه؟
أد :
أقل كثيرا إذا عقلوا.
س :
هكذا أرى؛ لأنه كيف يمكنهم أن يهاجموا مركزنا؟ أفيمكنهم أن ينكروا علينا أن الفلاسفة عشاق الوجود الحقيقي وعشاق الحقيقة؟
أد :
كلا، لا يمكنهم.
س :
أفيقولون إن سجية كهذه وقد ثقفت تثقيفا تاما بالدرس الملائم، تقصر عن أن تصير صالحة وفلسفية ككل سجية؟ وهل يؤثرون أولئك الذين نحيناهم جانبا؟
أد :
كلا بالتأكيد؟
س :
أفيظلون ساخطين علي لقولهم إنه لا نهاية لتعاسة الدول وشقاء سكانها ما لم تتقلد طبقة الفلاسفة مقاليد الإدارة العليا في الدولة؟ ويتعذر تحقيق النظام الخيالي الذي وصفناه.
أد :
الأرجح أنهم يكونون أقل سخطا.
س :
وما قولك في زعمنا أنهم ليس فقط أقل سخطا علينا، بل إنهم هدءوا هدوءا تاما واقتنعوا بحملنا إياهم على التسليم ولو خجلا، إذا لم تجد وسيلة أخرى؟
أد :
فلنحسبهم إذا مقتنعين بذلك إلى الآن. ولكن هل من يجزم بأن الملوك والسلاطين لا يمكنهم بأية وسيلة كانت أن يلدوا أولادا مفطورين على الفلسفة؟
أد :
لا أحد في الدنيا يجزم بذلك.
س :
أفيستطيع أحد أن يقول إنهم وقد ولدوا مفطورين على الفلسفة لا بد من أن يفسدوا؟ لأني أسلم أن ضمانهم أمر عسير. ولكن هل من يجزم أنه لا يمكن في كل الزمان حفظ فرد واحد من التلوث بالشر؟
أد :
من يمكنه الجزم بذلك؟
س :
فكن على يقين أن شخصا واحدا إذا وجد وخضعت له الدولة، ففي مستطاعه تحقيق النظريات التي تدحض الآن.
أد :
نعم في مستطاعه.
أد :
ومتى سن الشرائع والعادات التي أوضحناها الآن فلا يستحيل أن يوافقوه على إنفاذها.
أد :
كلا لا يستحيل.
س :
أفهو عجيب أم وراء حدود الإمكان أن ما ظهر لنا صوابا يظهر كذلك لغيرنا؟
أد :
أما أنا فلا أظن أنه عجيب.
س :
فقد اقتنعنا إذا كل الاقتناع في بحثنا السالف أن خطتنا هي المثلى إذا تسنى تحقيقها.
أد :
بالتمام.
س :
فالنتيجة التي أفضى إليها تشريعنا هي: أن القوانين التي سنناها هي الفضلى إذا أمكن تحقيقها، وأن تحقيقها عسير ولكنه غير مستحيل.
أد :
يقينا أن هذه هي نتيجتنا.
س :
حسنا. فإذ قد تم إذا هذا القسم من موضوعنا، أفنتقدم إلى البحث في المسائل الباقية؟ وهي: بأي أسلوب وبواسطة أي أعمال أو دروس تضمن وجود فئة من الرجال قادرين أن يحفظوا النظام؟ وما هو السن الذي فيه يمكن تلقين هذه الدروس العديدة لكل في دوره؟
أد :
فلنفعل ذلك.
س :
فلم أستفد شيئا من حذف المسائل المزعجة في معاملة النساء والأولاد وتعيين القضاة التي اضطررت إلى تركها، عالما بمقدار الكره الذي يسببه نظام كامل كهذا، والصعوبة التي تحول دون إنفاذه، أما الآن فقد أزف الوقت للنظر فيها بالرغم من حيطتي. أما ما يتعلق بالنساء والأولاد فقد فصل فيه، وبقي علينا أن نستأنف النظر في ما يتعلق بالقضاة، فقد قلنا إذا كنت تذكر: أنه يجب امتحانهم بالمسرات والآلام ليثبتوا وطنيتهم ويبرهنوا على أنهم لا ينبذون هذه المبادئ، لتعب أو خطر أو أي صرف من صروف الدهر، ومن لا يستطع ذلك يخسر منصبه، ومن خرج من كور الامتحان سليما كالذهب المصفى بالنار فإليه يسند منصب القضاء، ويكافأ في حياته وبعد مماته. هذا كان هدف بحثنا تقريبا، وقد توارى عن النظر خشية إثارة المشاكل المعلقة.
أد :
أذكر ذلك جيدا، وإن بيانك صحيح كل الصحة.
س :
نعم يا صديقي، قد تلكأت عن المجازفة برأيي، أما الآن فأخاطر بهذا البيان، قائلا إنه يجب تنصيب أكمل الفلاسفة حكاما.
أد :
إننا نسمعك.
س :
وأذكر ما أقل ما عندك من هؤلاء الرجال؛ لأن المميزات العديدة للسجية التي حسبناها ضرورية للفلاسفة يندر أن تنمو بمجموعها، ويغلب أن تنمو مستقلة.
أد :
ماذا تعني؟
س :
إنك تعلم أن الأشخاص المتصفين بسرعة الخاطر والذاكرة الحافظة والحكمة والذكاء وما يرافقها من الفضائل، هؤلاء الأشخاص لا يبلغون حدود النبل وسمو العقل في آن واحد، بحيث يقبلون بأن يحيوا حياة هادئة حازمة، بل بالضد، يحملهم ذكاؤهم كل محمل، فيبرح الحزم حياتهم.
أد :
حقيق.
س :
أما الصفات الثابتة غير المتقلقلة التي عليها يعتمد، وتحمل المرء على الرغبة في استعمالها ولا تروعها مخاطر الحرب، فتتصرف هكذا في طلب العلوم، أي إنها تتعلم مترهلة حين تضطر إلى عمل ما، خاملة كأنها مخدرة، دائمة النعاس والتثاؤب.
أد :
هذا صحيح.
س :
ولكننا قلنا: ما لم يمتلك الشخص قدرا وافرا من هاتين المزيتين: الثبات وعدم التغير، حرم من كل اتصال بالتهذيب والشرف وبمناصب الحكم.
أد :
أنت مصيب.
س :
أفلا تتوقع أن يكون الاحتياط من صفات كهذه شحيحا؟
أد :
أتوقع ذلك بكل تأكيد.
س :
ولذلك لا نكتفين بتجربتهم بالأشغال والأخطار والمسرات التي ذكرناها قبلا، بل يجب أن نمتحنهم أيضا بما حذفناه من الوسائل، فنمرنهم على أنواع الدروس ونراقبهم، لنرى هل تدرك موهبتهم ساميات المواضيع أو أنها تفشل في الامتحان فشل غيرها في أحوال أخرى.
أد :
لا شك في أن امتحانهم بهذه الصورة مناسب. ولكن ما هي ساميات المواضيع؟
س :
أظن أنك تذكر أننا بعد ما قسمنا النفس إلى ثلاثة أقسام استنتجنا الطبائع العديدة للعدالة والعفاف والحكمة والشجاعة.
أد :
ولولا تذكري ذلك لما استحققت أن أسمع بقية المحاورة.
س :
فتذكر أيضا الإشارة التي تقدمت ذلك الاستنتاج.
أد :
وما هي؟
س :
أظن أننا قلنا إنه لبلوغ أفضل رأي في هذه المسألة يلزم أن نختار طريقا طويلا يوصلنا إلى الموضوع. بقي أنه من الممكن تذييل شرح القضية الناجم عن نتائجنا السالفة. وعنده قلنا إن شرحا كهذا كاف لك، ثم تلا ذلك هذه المباحث التي هي في مذهبي ناقصة تدقيقا، فلك أن تقول لي إذا كنت تكتفي بها أو لا؟
أد :
بالأصالة عن نفسي أقول إن البحث الذي بحثناه كاف واف، والظاهر أن رفقائي يرون ما أرى على حد القياس.
س :
ولكن يا صديقي لا مقياس ناقص عن الحق يمكن أن يكون كافيا وافيا، إذ لا يقاس بالناقص شيء، ولو أن الناس أحيانا يزعمون به التمام، وأن لا ضرورة لزيادة التحري.
أد :
إنها عادة كثيرة الشيوع ناتجة عن التراخي، ولكنها عادة غير مستحسنة في شرائع الدولة في حاكمها.
س :
وإذا الحال كذلك يا صديقي، وجب أن يدور شخص كهذا في الطريق الأطول، وأن يعمل بجد في دروسه وفي رياضته البدنية، وإلا فلا يبلغ الغاية في العلم الذي هو من حقوقه كما قلنا الساعة.
أد :
ماذا تقول؟ أليست هذه الأشياء هي أفضل الأشياء؟ أفيوجد ما هو أسمى من العدالة والفضائل الأخرى التي بحثنا فيها؟
س :
يوجد، حتى أسمى منها، وهنا لا نفكرن في أوعر المسالك كما هي خطتنا، بل على الضد، يجب ألا نرضى بأقل من أكمل إيضاح، أوليس من السخافة أن يهتم المرء في مواضيع تافهة جادا كل الجد في إتقانها وكمالها، وفي الوقت نفسه لا يحسب أهم المصالح وأسماها جديرة بتلك العناية، ليبلغ بها أوج الكمال؟
أد :
الشعور غاية في الصواب، ولكن أتظن أن أحدا يدعك تذهب ما لم يسألك ما هو العلم الذي تدعوه «الأسمى»، وماذا تتناول أبحاثه؟
س :
حقا إني لا أظن هذا الظن، فسلني أنت. ولقد سمعت الجواب مرارا كثيرة، فإما أنك نسيته الآن، أو أنك تريد أن تشغلني بالمعارضة، وأرجح الثاني؛ لأنك سمعت مرارا: «أن صورة الخير» هي موضوع العلم الأسمى، وأن امتزاج هذا الجوهر بالأشياء العادلة وسائر الأجسام المخلوقة يجعلها نافعة ومفيدة، وسترى الآن دون ما ريبة أنني سأقول هذا، وأقول عدا ذلك إننا لم نتعرف هذا الجوهر معرفة تامة. وإذا كان ذلك كذلك فإذا قلت إنا عرفنا كل شيء آخر معرفة تامة إلا هذا، فإنك تدرك أن علمنا لا يفيدنا شيئا، كما أن امتلاكنا كل شيء دون امتلاك الخير لا يفيدنا. أوتظن أن امتلاكنا كل شيء مع استثناء الخير يحسب ربحا؟ وبعبارة أخرى: أن نتجرد من كل فهم صالح وجميل؟
أد :
صدقني إني لا أظن.
س :
وأنت عالم أن الخير الأعظم عند العامة هو «السرور»، وعند الخاصة هو «البصيرة».
2
أد :
مؤكد أني أعلم ذلك.
س :
وإنك عالم يا صديقي أن دعاة الرأي الثاني لا يمكنهم تبيان ما يعنون «بالبصيرة»، وهم مضطرون أن يفسروها بأنها إدراك باطني «للخير».
أد :
نعم، فإنهم في مشكل سخيف.
س :
حقا إنهم كذلك، ما داموا يزدروننا لجهلنا «الخير» وعلى الأثر يخاطبوننا مخاطبة العالمين ما هو. فإنهم يقولون لنا إن الخير الأعظم هو: «إدراك باطني للخير»، زاعمين أننا نفهم معناهم حالما يلفظون كلمة «خير».
أد :
صحيح تماما.
س :
أوليس خطؤهم كخطأ الذين وحدوا الخير والسرور، مع أنهم أجبروا على التسليم بأن بعض المسررات شر، ألم يجبروا؟
أد :
حقا إنهم أجبروا.
س :
فينتج عن ذلك أنهم ولا بد يسلمون بأن الشيء الواحد يكون في وقت واحد خيرا وشرا. أليس كذلك؟
أد :
يقينا إنه ينتج عنه هكذا.
س :
أفلا يتضح أن في هذا الموضوع تناقضا تاما؟
أد :
فيه تناقض دون شك.
س :
وشيء آخر: أليس واضحا أن أشخاصا كثيرين مستعدون أن يعملوا أو يظهروا أنهم يعملون وأن يمتلكوا أو يظهروا أنهم يمتلكون ما يظهر أنه عادل وجميل، دون أن يكون الواقع ما ظهر؟ على أنه لا أحد يكتفي في الخيرات بمجرد الظاهر، بل كل إنسان يطلب الحقيقة، وأشباه الحقيقة هنا إذا لم تكن في موضع آخر منبوذة ومحتقرة عند الناس.
أد :
نعم، إن ذلك واضح.
س :
فهذا الخير هو ضالة كل نفس المنشودة، وهو غاية غايات مساعيها، وتحسبه إلهيا لكنك تتلبك في استكناهه، عاجزة عن التمتع بالثقة الراهنة باتصالها به، كما تتمتع باتصالها بغيره من الأشياء؛ ولذلك تخسر كل فائدة يمكن استخراجها من تلك الأشياء، فتجزم أن التعامي الذي وصفناه في موضوع جليل الشأن كهذا أشهر المميزات في سجية رجال الدولة، الذين أنيط بهم كل شيء.
أد :
كلا، كلا.
س :
فما دامت الأشياء العادلة والجميلة غير معروفة بأي صورة تكون خيرا، فلا أرى لهذه الأشياء قدرا كبيرا عند حاكم يجهل هذه النقطة. وأرى أن لا أحد يبلغ حد المعرفة التامة في كنه الجميل والعادل، ما لم يعرف كنه الخير.
أد :
إنك مصيب في رأيك.
س :
أفلا يكون ترتيب نظامنا كاملا إذا كان الحاكم الذي يراقبه متضلعا من معرفة هذه الموضوعات؟
أد :
من كل بد. ولكن يا سقراط أنقول إن الخير الأعظم هو العلم أو السرور؟ أو شيء آخر يختلف عنهما؟
س :
هيهات يا صديقي، فإني طالما رأيتك لا تعدل عن آراء الغير في هذه المواضيع.
أد :
وأراه خطأ بينا يا سقراط أن يقف المرء الزمن الطويل لهذه المسائل، فيتعرف آراء الآخرين دون أن يكون رأيا خاصا فيها.
س :
أفمن الصواب أن يتكلم المرء في ما لا يعلمه بصورة من يعلم؟
أد :
ليس بصورة من يعلم، ولكني أرى أنه من الصواب أن يميل إلى إبداء رأيه في ما هو جدير بالاهتمام.
س :
ألا ترى أن الآراء الخالية من العلم قبيحة، وخير ما يقال فيها أنها عمياء؟ أوتظن أن من لا يقودهم الذهن الصافي ولا يتمكنون من امتلاك صائب الرأي يمتازون بشيء عن العميان، الذين يزعمون وهم عميان أنهم سائرون في قويم المسالك؟
أد :
لا يمتازون البتة.
س :
أفتروم النظر في مواضيع قبيحة وعمياء ومعوجة، وفي إمكانك أن تسمع آراء الآخرين في الأشياء الجميلة البهية؟ (فصاح غلوكون: أتوسل إليك يا سقراط أن لا تكف عن البحث كأنك انتهيت منه. فإنا لنرضى أن نستأنف محاورتك في الخير الأعظم ولو مقتصرا على المنهج الذي انتهجته في محاورتك في العدالة والعفاف وأخواتهما.)
وأنا أرضى كل الرضا يا صديقي. على أني لا أثق بمقدرتي، وأخشى أن يجعلني تهوري الأخرق موضوع هزء. فيا سيدي العزيز، دعنا نطوي كشحا عن كل بحث يتعلق في كنه «الخير الأعظم» في الوقت الحاضر؛ لأني أرى ذلك أسمى مما أتيح لنا بلوغه في شوطنا الحالي. على أنني أرغب في محادثتكم في «وليد الخير الأعظم» الحامل أقرب صور المشابهة له، بشرط أن يرضيكم ذلك، وإلا فإني أعتزله أيضا.
غلوكون :
لا، لا تعتزل. أخبرنا عن هذا الوليد وستظل مدينا لنا برأس المال.
س :
كنت أود لو أني قادر على دفع رأس المال عوض الاقتصار على أرباحه، فها أنا أقدم لكم أغصان «الخير الأعظم» وثماره، فقط حذار أن أخدعكم عن غير قصد مني بإعطائي إياكم أوصاف الابن غير الشرعي.
غ :
سنتوقى ذلك ما أمكن، فتفضل قل.
س :
سأقول حالما يتم الاتفاق بيننا وتتذكرون المقررات التي أوردناها في القسم السابق من بحثنا، وقد تكررت قبل الآن مرارا عديدة.
غ :
وما هي تلك المقررات؟
س :
قد حكمنا في بحثنا بوجود أشياء كثيرة جميلة وصالحة، إلخ.
غ :
حقا إنا حكمنا.
س :
وحكمنا أيضا بوجود الجمال الجوهري، ووجود الصلاح الجوهري، وهكذا، برد كل تلك الأشياء التي كنا قد اعتبرناها متعددة إلى صيغة واحدة، ووحدة واحدة، تتصف كل وحدة منها بأنها كائن مستقل.
غ :
تماما هكذا.
س :
وقلنا إن الأفراد تتمثل للعين لا للذهن الصرف، أما المثل فتتمثل للعقل لا للعين.
غ :
يقينا.
س :
فبأي أقسام أجسادنا نرى المرئيات؟
غ :
بالعين.
س :
وبالأذن ندرك المسموعات، وببقية الحواس سائر المحسوسات؟
غ :
نعم.
س :
فهل لاحظت أن صانع الحواس كون حاسة البصر أبدع تكوين، فكان بصرا؟
غ :
ليس بالتمام.
س :
فانظر بالأمر بالصورة الآتية: أيوجد نوع آخر تطلبه الأذن والصوت لإتمام وظيفتها، فتكون هي سامعة وهو مسموعا، وبفقده تتعطلان، فلا الصائت بمسموع ولا الأذن بسامعة؟
غ :
لا يوجد شيء من هذا القبيل.
س :
وعندي أنه يندر وجود حاسة أخرى تطلب شيئا ثالثا من هذا النوع، على فرض وجودها. أفتقدر أن تذكر واحدة منها؟
غ :
لا أقدر.
س :
أما في حاسة البصر والشيء المنظور، أفلا نرى أنهما يستلزمان شيئا آخر إضافيا؟
غ :
وكيف ذلك؟
س :
مع وجود البصر في العين، ومحاولة صاحبها أن يستعملها، ومع وجود اللون في المرئيات، فما لم يكن هنالك شيء ثالث مختص بهذا الغرض فإنك عالم أنه لا العين ترى ولا الألوان ترى.
غ :
ما هو ذلك الشيء الثالث الذي تشير إليه؟
س :
معلوم أني أشير إلى النور.
غ :
مصيب.
س :
فيظهر أن حاسة البصر بين كل الأزواج المار ذكرها ومزيتها التي هي فعل البصر، قد ارتبطا بأشرف الربط الذي طبيعته جليلة الشأن، إلا إذا كان النور عديم الاعتبار.
غ :
كلا، إنه أعظم من أن يحسب عديم الاعتبار.
س :
فمن من آلهة السماء هو مبدع النور وناشره؟ ومن الذي يمكن نوره عيوننا من أن ترى واضحا، ويكشف عن وجود المرئيات؟
غ :
هنالك رأي واحد فقط، وهو أن سؤالك يشير إلى: الشمس.
س :
فالعلاقة بين بصر العين وبين هذه الإلاهة هي من النوع التالي. أليس كذلك؟
غ :
صف ذلك النوع.
س :
ليس البصر ولا العين نفسها التي هي مركز البصر يمكن حسبانها هي والشمس شيئا واحدا.
غ :
كلا بالتأكيد.
س :
ومع ذلك فالعين في ظني أشبه الأشياء بالشمس.
غ :
نعم بالتمام.
س :
أوليست القوة التي تمتلكها العين موهوبة لها من الشمس؟ ومستقرة فيها كشيء مكتسب؟
غ :
حقا تماما.
س :
فاعلم إذا أن الشمس هي ما عنيته «بمولود الخير»، وقد ولدها «الخير الأعظم» على صورته ومثاله، أي إن علاقتها بالعالم المنظور، بالبصر وبأشيائه، هي كعلاقة الخير الأعظم في العالم الروحي بالذهن والموضوعات.
غ :
وكيف ذلك؟ زدني إيضاحا إذا شئت.
س :
وهل تعلم أنه متى حول الإنسان نظره عن المرئيات التي نشر النور عليها حلة بهية بديعة الألوان، وشرع ينظر بنور الليل الضعيف من قمر ونجوم ضعفت عيناه، فيكون قريبا من حال العمى، كأن ليس في عينيه قوة البصر؟
غ :
أعلم ذلك تمام العلم.
س :
ولكن الشخص نفسه متى حول نظره إلى المرئيات بنور الشمس، رأت عيناه كل شيء جليا، فكانت مقر البصر؟
غ :
لا شك في ذلك.
س :
وبهذا القياس نفسه أفهم حال النفس كما يأتي: متى اتجهت نحو موضوع سطعت عليه أنوار الحقيقة والوجود الحقيقي، أدركت ذلك الموضوع بفعل الذهن، ففهمته وبرهنت بذلك على أن فيه إدراكا. على أنها إذا اتجهت نحو ما اكتنف بالظلام من موضوعات عالم الولادة والموت، استقرت على قمة «التصور»، فضعف بصرها، وكان تصورها مترددا متقلقلا، فكأنها فقدت قوة الإدراك؟
غ :
حقيق أنها كذلك.
س :
فهذه القوة التي تهب للموضوعات ما فيها من معرفة يقينية، فتجعلها معروفة وتهب لعارفها قوة الإدراك، هي ما يجب اعتباره «صورة الخير» الجوهرية، ويجب أن تحسبها أصل العلم والحقيقة، على قدر ما يتاح إدراك الحقيقة، ومع أن المعرفة والحقيقة كلتيهما جميلة جدا، فمن الصواب أن تحكم أن الخير شيء ممتاز عنهما ويفوقهما جمالا. وكما في حال المشابهة هكذا هنا، من الصواب حسبان النور والبصر ممثلين الشمس، ولكنه من الخطأ حسبانهما والشمس شيئا واحدا. كذلك العلم والحقيقة، فإن من الصواب حسبانهما مثل الخير، ولكن من الخطأ اعتبار أحدهما الخير نفسه؛ لأن قيمة الخير أسمى منهما جدا.
غ :
الذي يشتمل على ما لا يوصف من معاني الجمال، وإذا كان ليس أصل العلم والحقيقة فقط، بل يفوقها جمالا، فلا أظن أنك تعني به «اللذة»، السرور.
س :
صه. لا كلمة واحدة من هذا النحو. بل الأجدر بك أن تفحص الإيضاح بالطريقة التالية.
غ :
أرني كيف؟
س :
أظن أنك تسلم أن الشمس تهب للمرئيات حيويتها ونماءها وغذاءها، لا ظهورها فقط، مع أنها هي غير متصفة بالحياة.
غ :
مؤكد أنها غير متصفة بالحياة.
س :
فسلم إذا أن مواضيع المعرفة بالقياس نفسه تستمد من «الخير الأعظم» يقينية وجودها وجوهريته، لا معروفيتها فقط، مع أن «الخير» نفسه أسمى من أن يوحد مع الوجود الحقيقي، بل هو يفوقه فعلا قوة وسموا.
غ (ضاحكا) :
يا للسماء! ما أعجب هذا التفوق!
س :
أنت الملوم؛ لأنك أرغمتني على إبداء آرائي في الموضوع.
غ :
لا لا، أرجوك أن لا تتوقف حتى تكمل شرح المشابهة في الشمس، إذا كنت قد أغفلت أحد وجوهها.
س :
حقا إني أغفلت وجوها كثيرة.
غ :
أرجوك أن لا تغفل حتى ولا الزهيد منها.
س :
أظن أني سأغفل كثيرا، ولو أذنت لي الأحوال لما أغفلت شيئا مختارا.
غ :
أرجوك أن لا تغفل.
س :
اعلم إذا أن من المقرر عندنا أن هنالك قوتين حاكمتين، الواحدة في العالم العقلي، والأخرى في العالم المنظور ومواضيعه الحسية، وإذا استعملت كلمة جلد
3
فقد تظن أني أريد بها التورية، حسنا، فهل فهمت هذين النوعين: العقلي والمنظور؟
غ :
نعم فهمت.
س :
فافرض أنك أخذت خيطا مقسوما إلى قسمين غير متساويين، يمثل أحد قسميه الموضوعات المنظورة، والآخر العقلية، ثم اقسم كلا منهما إلى قسمين على النسبة نفسها. فإذا اتخذت طول القسمين مثلا لتباين درجات الوضوح والخفاء، فأحدهما الذي يمثل العالم المنظور يمثل (بأحد القسمين) الصور، أعني بها أولا: الظلال. ثانيا: ما عكس عن سطح الماء والمواد الصقيلة اللامعة وما هو من نوعها، إذا كنت قد فهمتني.
غ :
قد فهمت.
س :
ويمثل القسم الثاني الموضوعات الحقيقية، أي الحيوانات التي حولنا، وكل عالم الطبيعة والفن.
غ :
جيدا جدا.
س :
أفتريد أن نقول إنه باعتبار هذا الصف يوجد فارق بين الحقيقة والوهم كما بين الأصل وما نسخ عنه، أي بين موضوع التصور وموضوع المعرفة؟
غ :
مؤكد أني أريد.
س :
فلنتقدم إلى النظر في نمط قسمة الخيط الذي يمثل العالم العقلي.
غ :
وكيف نقسمه؟
س :
نقسمه كما يلي: قسم منه يمثل ما تضطر النفس أن تدركه، مستعينة اضطرارا بأقسام الخط الأول التي تستخدمها الصور مبتدئة من الفروض، ومتجهة ليس إلى مبدأ أولي، بل إلى نتيجة.
س :
ويمثل القسم الآخر موضوعات النفس المرتقية من الفروض إلى مبدأ أول،
4
ليس هو فرضا ولا مستعانا على إدراكه بالصور التي استخدمها القسم السابق، وهي (النفس)، تصوغ تقدمها بمساعدة الصيغ الجوهرية الحقيقية.
غ :
لم أفهم وصفك على قدر ما أريد أن أفهم.
س :
فلنعد الكرة، تفهم جيدا متى أعدت ملاحظاتي السابقة. أظن أنك تفهم أن طلاب المواضيع الرياضية كالهندسة والحساب يستخدمون المواد في كل بحث، في الأعداد الفردية والزوجية، وفي الأشكال كالزوايا الثلاث مثلا، وغير ذلك من المواد. فيقصدون أن يفهموا هذه الأشياء كفروض ومثل، فلا يعلقون عليها أهمية في البحث، لا لأنفسهم ولا للآخرين؛ لأنها أمور بينة في ذاتها، لكنهم يستخدمونها كأساس ويتقدمون إلى صلب الموضوع، وأخيرا يبلغون بتمام الاتفاق ما جعلوه غرض بحثهم.
غ :
أعلم ذلك تماما.
س :
فتعلم أيضا أنهم يستخدمون أشكالا منظورة، ويدرسونها وأفكارهم ليست عليها لذاتها، بل على الأصول التي تمثلها، فلا يدرسون هذا المربع المرسوم، أو ذلك القطر الذي رسموه، بل يرمون بفكرتهم إلى المربع المطلق والقطر المطلق، وهكذا، فإنهم مع استخدامهم هذه الأشكال والمجسمات كصور، وهي أيضا لها أشباح معكوسة عن المياه، ولكنهم بالحقيقة يرمون إلى إدراك الحقائق المجردة التي إنما يدركها الإنسان بالفكر.
غ :
حقيق.
س :
هذه هي الأشياء التي دعوتها عقلية، وقلت إن النفس تدركها مستعينة اضطرارا بالفروض في مجال البحث، متقدمة، ليس إلى مبدأ أول لأنه يتعذر عليها أن تتخطى دائرة فروضها، بل تستعمل صور الأشياء السفلى كأشباح، وهي كنسخ عن الأصل الذي تقابله، وتعتبر عادة متميزة عنه، وبحسب ذلك تتعين قيمتها.
غ :
فهمت أنك تتكلم في موضوع الهندسة المنوع الفروع، وفي الفنون المنتسبة إليه.
س :
فافهم أيضا أني أعني بالقسم الثاني من خط العقليات المحضة التي تدرك بفن المنطق، وتستعين بالفروض لا كمبادئ أولى، بل كفروض أصلية، أي درجات ودوافع بها تخترق النفس طريقها إلى ما ليس فرضيا، فتبلغ المبدأ الأول لكل شيء وتدركه، وحينذاك تتحول إلى إدراك ما ارتبط بالمبدأ الأول، حتى تبلغ أخيرا نتيجة لا تفتقر معها إلى الاستعانة بالمواضيع الحسية، بل تستخدم التجريد والأشياء الكائنة بذاتها، وتنتهي عندها كما انتهت قبلها.
غ :
لم أفهمك كما أرغب؛ لأنك تتكلم كما يظهر في مواضيع عسرة المرتقى، ولكني على كل حال أعلم أنك تروم أن توضح جيدا أن منطقة الوجود الحقيقي والعقل النقي كما يفهم بعلم المنطق هي أكثر يقينية مما يدعى «فنونا»، وفيها فروض تؤلف مبادئ أولى، يلتزم الطلاب أن يفهموها بالعقل لا بالحواس، ولما كانوا لا يرجعون في مجرى البحث إلى مبدأ أولي، بل يتخطون إليه بواسطة مقدمات فرضية، ترى أنهم لم يستعملوا الذهن النقي في المسائل التي تشغلهم، مع أنهم يتخذون هذه المسائل المرتبطة بمبدأ أولي ضمن حكم الذهن الصرف، وأرى أنك تستعمل كلمة «فهم» لا عقل نقي للخلق العقلي في أناس كالرياضيين، حاسبا المعرفة درجة متوسطة بين التصور وبين الذهن النقي.
س :
قد فهمت معناي أجلى فهم. وأرجو أن تقبل هذه الأحوال العقلية الأربع كمطابقة لتلك الأقسام الأربعة، أي إن الذهن المجرد يطابق الأشياء العليا، والفهم يطابق الصف الثاني، والاعتقاد الثالث، والظن الأخير. وأرجو أن ترتبها حسب درجاتها، عالما أنها تشترك في الجلاء بدرجة تطابق حقيقة موضوعاتها المتبادلة.
غ :
فهمتك، وأوافقك، وسأرتبها حسب رغبتك.
الكتاب السابع: المثل
خلاصته
يتخطى سقراط إلى تبيان ما للتهذيب الحقيقي من الشأو الخطير الذي سبق وصفه، فلنتصور طائفة من الناس مكبلين بالسلاسل منذ ولادتهم، يقيمون في كهف تقابل ظهورهم مدخله، وراءهم نار مشتعلة ذات لهب، بينها وبينهم طريق يمر عليه أناس، أمامهم جدار إلى مستوى رءوسهم فيخفيها، ويأذن برؤية ما حملوه فوقها، فتلقي ظلالها بسبب اللهب التي وراءها على جدران باطن الكهف أمام عيون السجناء، فتظهر تلك الظلال لهم أنها هي اليقينيات الوحيدة. فافرض أن أحد السجناء حل من أغلاله وصعد إلى ضوء النهار، وألف بالتدريج رؤية ما حوله، فتسنى له إدراك حقيقتها، فنسبة شخص كهذا إلى السجناء السفليين كنسبة الفيلسوف إلى العامة المهذبين تهذيبا ناقصا، فإذا عاد هذا إلى الكهف واستأنف مركزه وعمله السالفين كان في أول الأمر موضوع هزء الرفاق، كما أن الفيلسوف الحقيقي موضوع هزء الناس، على أنه متى استرد ألفته للسجن كانت معرفته فائقة معرفة رفقائه السجناء باعتبار الظلال والحقائق التي وراءها. هكذا الفيلسوف إذا هو اشتغل بالمصالح البشرية تفوق على مناوئيه بسلاحهم، وذلك ما يجب أن يكونه حكامنا. ولنوسع المشابهة إلى أبعد حدودها، فنقول: كما أن جسم السجين الذي فكت أغلاله التفت إلى الوراء ليرى الجهة الآتي منها النور، هكذا غرض التهذيب، لفت النفس لترى ببصيرتها أو ذهنها وجهة الصواب. فالتهذيب لا يخلق ولا يلقن مبدأ جديدا، إنما يرشد ويوقد إلى مبدأ موجود. وكيف تحصل هذه النهضة في النفس؟ الجواب أنها تحصل بالدرس الذي يرمي إلى اجتذاب العقل من الحسيات إلى اليقينيات، من المنظورات إلى غير المنظورات والأبديات. وكل ما يثير العقل إلى التفكر في طبيعة الأشياء الجوهرية يؤدي إلى إحراز النتيجة نفسها.
وتشتمل سلسلة الدروس اللازمة لذلك على الحلقات التالية: (1)
الحساب. (2)
الهندسة السطحية. (3)
الهندسة المجسمة. (4)
الفلك باعتبار حركات أجرامه المجردة. (5)
علم التوازن. (6)
المنطق البرهاني. أو علم الوجود الحقيقي.
ولما فرغ سقراط من البحث في طبيعة التهذيب الحقيقي تقدم إلى وضع قواعد عامة لانتقاء الأشخاص الذين تسبغ عليهم نعمة التهذيب، والمدة التي يشغلها كل فرع من فروعه، وفوق الكل المدة اللازمة لدرس المنطق، فلا يجوز التبكير فيه لئلا يفسده سوء الاستعمال. وهنا ينتهي البحث في الدولة الكاملة وفي الإنسان الكامل.
متن الكتاب
سقراط :
فمن ثم نقابل حالنا الطبيعية باعتبار الجهل والتهذيب بالمثل التالي: تصور طائفة من الناس تعيش في كهف سفلي مستطيل، يدخله النور من باب في طوله، وقد سجن فيه أولئك الأقوام منذ نعومة أظفارهم، والسلاسل في أعناقهم وأرجلهم، فاضطرتهم إلى الجمود والنظر إلى الأمام فقط لحيلولة الأغلال دون التفاتهم. ثم تصور أن وراءهم نارا ملتهبة في مواضع أعلى من موقفهم، وأن بينهم وبينها دكة عليها جدار منخفض كسياج المشعوذين الذي ينصبونه تجاه مشاهديهم، وعليه: يجرون ألعابهم المدهشة.
غلوكون :
إني أتصور ذلك.
س :
وتصور أناسا يمشون وراء ذلك الجدار، حاملين تماثيل بشرية وحيوانية، مصنوعة من حجارة وأخشاب ضخمة من كل أنواع الأواني مرفوعة فوق الجدار. وافرض أن بعض أولئك المارة يتكلم كما هو المنتظر وبعضهم صامت.
غ :
إنك تصور مشهدا غريبا وسجناء مستغربين.
س :
ولكنهم يمثلوننا. وأولا أسألك: هل تظن أن أولئك السجناء يقدرون أن يروا بعضهم بعضا، أو يرون شيئا سوى الظلال التي أحدثها اللهيب وراءهم؟
غ :
مؤكد أنهم لا يرون سواها؛ لأنهم أرغموا ألا يلتفتوا مدى الحياة.
س :
أوليست معرفتهم بما يمر أمامهم من الأشياء محدودة على القياس نفسه؟
غ :
من كل بد.
س :
ولو أنهم تمكنوا من المحادثة، أفلا تظن أنهم كانوا يسمون الأشياء التي يرونها تمر أمامهم؟
غ :
يسمونها بلا شك .
س :
ولو رد الجدار تجاههم الصدى كلما فتح أحد المارة فاه، أفتظن أن السجناء يحسبون المتكلم إلا تلك الظلال التي يرونها على الجدار؟
غ :
من كل بد إنهم يعزون الكلام إليها.
س :
فاليقينيات الوحدة عندهم هي ظلال الأدوات المصنوعة.
غ :
لا شك في أن أشخاصا كهؤلاء يحسبونها كذلك.
س :
فتأمل في ما يحدث لهم إذا أفضى مجرى الأمور الطبيعي إلى تحريرهم من القيود، وشفائهم من جنونهم على ما يأتي: لنفرض أن أحدهم حلت أغلاله ونهض واقفا على قدميه، فتمكن من الالتفات إلى الوراء، والسير بعينين مفتوحتين في جهة النور. ولنفرض أن عينيه تتألمان لأن النور بهرهما، فعجزتا عن رؤية الأشياء التي كان يرى ظلالها فيما سلف، فما ظنك في ما لو أخبره أحد أن ما كان يراه سابقا ليس إلا أشباحا، وأنه الآن يرى حقائقها وأصولها، فهو الآن أدنى إلى الحقيقة منه قبلا؛ لأنه اتجه نحو ما هو أكثر يقينية ووضوحا، وعلاوة على ذلك أنه يرى ما يمر أمامه من الأمور المنوعة، فيسأله عنها، ويحمله على الإجابة عما رآه؟ أفلا تظن أنه يتحير في أمره، ويحسب الأشباح التي كان يراها فيما مضى حقائق أكثر من الحقائق التي يراها الآن؟
غ :
بلى، بأكثر تدقيق.
س :
وإذا أجبر على النظر إلى النور، أفلا تتألم عيناه فيتحاشاه، ويحول النظر إلى الأشباح لأنه يستطيع التحديق بها، فيزعم أنها أكثر وضوحا من تلك؟
غ :
تماما هكذا.
س :
وإذا جذبه أحد بعنف إلى فوق في المرتقى الصعب، ولم يتركه حتى أوصله إلى نور الشمس، أفلا يستاء ويتألم من جراء عنف كهذا؟ ومتى وصل إلى فوق ألا يجد أن عينيه قد بهرتا، حتى تعذر رؤية شيء من الأشياء التي تدعى حقيقية؟
غ :
نعم، هذا هو حاله في البداءة.
س :
ولذا أرى من الضرورة أن يأتلف أشياء العالم الأعلى ليفهمها، فيصيب أولا أعظم قسط من النجاح في تمييز الظلال، ثم يميز صور الناس وصور غيرهم منعكسة عن الماء، وبعدها يرى اليقينيات بعينها، ثم يرفع عينيه إلى القمر والنجوم في الليل، فيجد درس الأجرام السموية والسماء معا أسهل عليه ليلا من درس الشمس ونورها نهارا.
غ :
بلا شك.
س :
ويخيل إلي أنه يتمكن أخيرا من رؤية الشمس ذاتها والتفكر بها، لا معكوسة عن سطح الماء أو ممثلة بأشباح، بل يراها ذاتها في منطقتها.
غ :
معلوم.
س :
والخطوة الثانية هي أنه يستنتج أن الشمس علة توالي الفصول والسنين، وأنها الحاكم الأعلى على العالم المنظور، وأنها علة كل ما كان يراه ورفاقه من الأشياء.
غ :
واضح أن هذه ثاني خطواته.
س :
وحين يذكر مسكنه الأول وما فيه من حكمة وأصحابه في الأغلال، أفلا تظن أنه يحسب نفسه سعيدا، فيغتبط بنفسه ويشفق عليهم؟
غ :
ذلك أكيد.
س :
وإذا كان من عادتهم أن ينال الشرف والمكافأة من كان أكثرهم تدقيقا في ما يمر أمام عيونهم من الصور، ويمتلك ذاكرة أحفظ في معرفة السابق واللاحق، وما رافق الصور، حتى صار قادرا أن ينبئ بما بعدها. أفتظن أن صاحبنا يطمع في تلك الجعالات، وتحسد من أحرز مجدا ونفوذا بينهم؟ أولا تظن أنه يؤثر بالأحرى أن يتحمل ما قاله هوميروس:
فأرى استعباد نفسي
لفقير في الأنام
هو خير من عروش
في أعاميق الظلام
مؤثرا احتمال كل شيء على الاستسلام للتصورات الوهمية، والمعيشة على ذلك النحو.
غ :
أما أنا فإني من هذا الرأي. وأظن أنه يؤثر احتمال أي شيء كان على تلك المعيشة.
س :
فتصور ما يحدث إذا هبط ذلك الإنسان ثانية إلى الكهف، واستعاد مقره السابق، أفلا يغشى الظلام عينيه لانتقاله فجأة من نور الشمس الساطع إلى ظلمات ذلك المكان؟
غ :
مؤكد أنه يغشاها.
س :
وإذا اضطر إلى إبداء رأيه في تلك الظلال ومجادلة الراسفين في القيود كل الدهر بخصوصها، حال كون عينيه حسيرتين. وإذا ظل على تلك الحال زمنا طويلا، أفلا يصير موضوع هزء؟ أولا يقولون: إنه صعد سليم النظر وعاد عليله، فليس من الصواب برح هذا الكهف. وإذا حاول أحد فك أغلالهم وإصعادهم إلى النور، أفلا يستاءون منه إلى حد أنهم يغتالونه، إذا كان في طاقة يدهم الإيقاع به؟
غ :
بلى إنهم يغتالونه.
س :
فيلزم تطبيق هذا المثل الخيالي بأجمعه يا صديقي غلوكون على حالنا السالفة، مقابلين مدى النظر بالسجن، واللهب التي فيه بنور الشمس الساطع، وإذا قابلت الصعود إلى سطح الأرض ورؤية ما عليها من الأشياء بارتقاء النفس من سجن جهلها إلى العالم العقلي الأعلى، فإنك حينذاك تلمس ظنوني ما دمت ترغب في معرفتها، والله وحده يعلم أصحيحة هي أم لا. وعلى كل فإن الرأي الذي اخترته بهذا الشأن يتمشى على ما يأتي: أن «صورة الخير» الجوهرية في عالم المعرفة هي حد أبحاثنا، وآخر ما يمكن فهمه، ولكن متى أدركناها لا يمكننا إلا أن نستنتج أنها في كل حال أصل كل ما هو جميل وباه، ففي العالم المنظور تلد النور وربه، وفي العالم العقلي تمنح بمطلق سلطانها الحق والعقل. وكل من رام أن يتصرف بحكمة فردا كان أو مجموعا، يجب أن يضع نصب عينيه «صورة الخير» الجوهرية.
غ :
أوافقك في ذلك جهد الطاقة.
س :
وإذ الحالة هذه فوافقني أيضا في نقطة ثانية دون ما تعجب، وهي: أن من حلقوا في أعالي السمو يترفعون عن الاشتباك بالمصالح البشرية؛ لأن نفوسهم تأبى أن تهجر العالم الأعلى. وكيف يمكن أن يكون الحال خلاف ذلك إذا كانت المشابهة السالفة تمثل حالهم تمثيلا صحيحا؟
غ :
بالحقيقة إنه يندر أن يكون الحال خلاف ذلك.
س :
حسنا، أفتظنه أمرا عجيبا أن من عرج عن التفكر في الإلهيات إلى درس النقائص البشرية يبدي الارتباك ويصير أضحوكة؛ لأنه وهو مشيح عنه ببصره ولم يأتلف الظلمة التي تكتنفه، ملزم أن يجاهد في قاعات القضاء وفي غيرها في ما يختص بظلال العدالة، أو الأشباح التي أحدثت هذه الظلال، وأن يدخل معمعان النضال المفعم بالفروض التي يقبلها الذين لم يدركوا قبسا من مطالع العدالة الجوهرية؟
غ :
ليس عجيبا.
س :
لأن الرجل العاقل يعلم أن العيون تتشوش بأمرين متمايزين، أو سببين متباينين، هما: الانتقال فجأة من النور إلى الظلام، أو من الظلام إلى النور، وإذ يعلم أن ذلك ينطبق كل الانطباق على حال النفس لا يهزأ هزءا سفيها بمن يراه حائر العقل، قلق الأفكار، غير قادر أن يميز بين الأشياء، بل ينعم النظر ليرى أمن حال أكثر بهاء قدمت تلك النفس فغشيها الظلام؟ أم من دياجير الظلام إلى حال أبهى فبهرها النور؟ وحينذاك، وليس إلا، يهنئ الواحدة على حظها السعيد وحياتها الحرة، ويشفق على الأخرى لمصابها الثقيل. ولو جاز له أن يهزأ فهزؤه بالنفس الصاعدة من الظلام إلى النور هو أقل سماجة من الهزء بالنفس الهابطة من النور إلى الظلام.
غ :
بتعقل تام تتكلم.
س :
فإذا صحت هذه الأحكام فلا مندوحة لنا عن التسليم بأن طبيعة التهذيب الحقيقية تخالف ما يزعمه بعض أساتذته، الذين يدعون أنهم يبثونه في العقل معرفة كان خلوا منها، بث البصر في الأعين العمياء.
غ :
حقا إن هذا هو ادعاؤهم.
س :
على أن بحثنا أرانا أن في كل منا آلة تساعدنا في تحصيل العلم، كما أنه لا يمكن تحويل العين من النور إلى الظلام بدون أن يتحول الجسم كله، هكذا أمر هذه القوة مع النفس، فيلزم تحول النفس كلها عن العالم الفاني، ليمكنها التفكر في عالم الحقيقة وفي أبهى قسم منه، وهو ما ندعوه: «صورة الخير». ألست مصيبا؟
غ :
مصيب.
س :
فيستلزم هذا التحول فنا يعلمنا كيف نحول الجسم بأسهل الطرق وأعظمها تأثيرا، وليس عمله أن يخلق في الشخص قوة البصر، بل أن يسلم بوجودها فيه، ولكنها ذاهبة في وجهة خاطئة، فلا تتجه إلى حيث يلزم، فغرض ذلك الفن هو إصلاح هذا الخطأ.
غ :
هكذا يظهر.
س :
ولذلك فمع أن فضائل النفس تحكي فضائل الجسد باعتبار أنها لم تكن أصلا في النفس، وإنما نشأت فيها بمرور الزمان بالعادة والمرانة، فمن الجهة الأخرى تنتمي فضيلة الحكمة إلى أقدس عنصر، وهي لا تفقد قوتها بتغيير المكان، وإنما تصبح نافعة ومريحة، وإلا ظلت عقيمة وضارة؛ لأنك ولا بد قد لاحظت ما أحد نظر النفوس الصغيرة في من اشتهروا بالذكاء وهم أشرار، وما أكثر تدقيقهم في ما اتجهت إليه أنظارهم. فيدلنا ذلك على أن قوة البصر فيهم غير ضعيفة، مع أنهم بكليتهم عبيد الشر والفساد، وأن شرورهم مقيسة بحدة نظرهم.
غ :
نعم، هذا هو الواقع.
س :
على أنه لو تحررت هذه المزايا منذ طفولة الإنسان من الأثقال الناجمة عن اللذات والشهوات الجسدية المرتبطة بها، كالولائم والنهم وأمثالهما التي تستميل البصيرة إلى أسفل الأمور، فإذا تحررت النفس من هذه الآفات إلى الحقائق، ووجهت بصيرتها نحو الأشياء الحقيقية، لكان لنفوس أولئك الأشخاص نظر ثاقب في أعمال كهذه، كما في الأعمال التي يزاولونها.
غ :
ذلك مرجح.
س :
أوليس مرجحا أيضا، بل بالحري: أليس نتيجة لازمة لأبحاثنا السالفة أنه لا يستطيع عديمو التهذيب والاطلاع ولا جاهلو الحقيقة ولا الذين يتسكعون الحياة بطولها في الطلب، أن يكونوا نظار الدولة؟ أما الأولون فلأنه ليس في حياتهم غرض خاص اتخذوه هدفا لتصرفاتهم الفردية والاجتماعية، وأما الآخرون فلأنهم لا يعملون إلا مرغمين، ظانين أنهم وهم أحياء قد انتقلوا إلى جزر الأبرار.
غ :
هذا حقيق.
س :
فعملنا الخاص إذا أن نحشد في مستعمرتنا أشرف الصفات، توصلا إلى العلم الذي قلنا الساعة أنه «الأسمى»، وأن نثبت النظر على «الخير»، مع تسلق ذلك المرتقى الذي ذكرناه. ومتى صعدوا إلى فوق واتسع نطاق نظرهم، فلن نبيح لهم من الحرية ما يباح الآن.
غ :
فما هو المباح الآن؟
س :
هو المكث حيث هم، كارهين الانحدار ثانية إلى السجناء ليشاركوهم في جهودهم وفي ما يحسب عندهم شرفا، حقيرا كان أو جليلا.
غ :
أفنظلمهم بزجهم في حياة هي دون حياتهم الحالية؟
س :
لقد نسيت يا صديقي أنه لا يهم الشريعة أن تعيش طائفة خاصة في الدولة عيشة ممتازة، بل هي ترمي إلى حصول الدولة جمعاء على تلك النتيجة التي لأجلها صار ضم الناس معا، بالإقناع أو بالإرغام، وحملوا على اقتسام المغانم التي بها يتمكنون من نفع المجموع، وهي تخلق رجالا يمتلكون هذه السجية السامية، لا لإطلاق أيديهم كل حسب هواه، بل لاستخدامهم في تعزيز بناء الدولة.
غ :
حقا إني قد نسيت .
س :
فحذار يا غلوكون أن نفسد فلاسفة المستقبل، بل لنعاملهم بعدالة تامة بإلزامهم أن يراقبوا إخوانهم المدنيين ويعتنوا بهم. وسنقول لهم: هنالك سبب لاعتزال زملائكم في الدول الأخرى المدنية؛ لأنهم قطنوا المدن باختيارهم رغم القانون النافذ فيها، وهو حق أن من نشأ لنفسه بنفسه، غير مدين لأحد بمساعدة، أن يكون حرا من أداء ما يتوجب على المرء للآخرين. أما أنتم فقد ولدناكم للدولة، كما لأنفسكم؛ لتكونوا قوادا وملوكا في القفير، وقد هذبتم تهذيبا أفضل وأتم من تهذيب الآخرين، فكنتم أكثر استعدادا منهم لتمثيل الأسلوب الأفضل، فعلى كل منكم في دوره أن ينحدر إلى عند الجماعة (في الكهف) ويختلط بها، فتتعودوا البحث في غوامض المواضيع، ومتى ألفتموها فهمتم أكثر من أفراد الجماعة ألف ضعف، وعرفتم ماهية كل ظل وأصله، وباطلاعكم على الحقيقة التي علمناكم إياها بخصوص الأشياء الجميلة والعادلة والصالحة، والأصل الذي عنه نسخت، وبهذه الوسيلة ترون ونرى أن حياة هذه الدولة أمر واقع، وليست شبحا وهميا، كحياة الأمم الحاضرة المؤلفة من أقوام يتحارب أفرادها على الظلال، ويثيرون النضال على مناصب الحكم كأنها شيء عظيم. والحقيقة التي أراها هي: أن المدينة التي يحكمها أقل الناس رغبة في السلطة هي أسعد حالا، وأكملها انتظاما، وأقلها نزاعا. والدولة التي يحكمها خلاف من ذكرنا هي ضدها حالا ومآلا.
غ :
غاية في الإصابة.
س :
أفتظن أن تلامذتنا يعصوننا إذا خاطبناهم بهذه الصورة، فيرفضون مناوبتنا العمل في خدمة الدولة، بينما يقضون أكثر أوقاتهم في المنطقة البهية؟
غ :
مستحيل؛ لأننا أعطيناهم وصية عادلة، ومن يطعها هو عادل، فسيدخل كل منهم إدارته كأمر لا مندوحة عنه، ويتقلد منصبه كواجب لازب، ويحكم خلاف حكم القائمين بالأمر في كل دولة.
س :
حقا يا صديقي، إن الأمر يجري هكذا إذا كان في إمكانك أن تجد للحكام العتيدين حياة خيرا من حياة الحكم، فإنما يكون ذلك في تحقيق إنشاء دولة حسنة الإدارة؛ لأن فيها وحدها يحكم الأغنياء الحقيقيون، الأغنياء لا بالفضة والذهب، بل بثروة الإنسان السعيد، أي: حياة البر والحكمة. وإذا تسلط في الدولة الفقراء المعدمون المتهافتون على المنافع الذاتية، فقبضوا على أزمة الأحكام بأجمعها، عازمين على استغلال هذه السلطة لذواتهم، فسدت الأحكام بأجمعها؛ لأنه بذلك يصبح منصب الحكم موضوع النزاع في ما بينهم، فتشتعل نيران الحرب الأهلية، ولا تقف عند حد التهام الفئات المتنازعة، بل تلتهم الدولة بأجمعها.
غ :
غاية في الصواب.
س :
أفتقدر أن تذكر حياة لا تأبه للمناصب إلا حياة الفلسفة الصحيحة؟
غ :
حقا أني لا أقدر.
س :
ويجب أن يتقلد الأحكام غير الراغبين فيها، وإلا نشبت الحرب بين المتزاحمين عليها.
غ :
دون شك.
س :
فمن هم الذين تلزمهم بالحكم إذا كنت ترفض أوفرهم خبرة في الأمور التي بها تتوافر الوسائل الضامنة أسمى إدارة في البلاد، والذين يمتلكون شرفا أبقى وحياة أرقى؟
غ :
لن أرفض هؤلاء، بل أخصهم بالحكم.
س :
أفتريد أن نبحث في هذه المسألة: بأية واسطة ينشأ رجال كهؤلاء في الدولة؟ وكيف يبرزون إلى النور، كالأبطال الذين قيل فيهم إنهم صعدوا من العالم السفلي إلى السماء؟
غ :
حقا إني أريد أن تفعل ذلك.
س :
وهي مسألة لا تنحصر في تقليب الأصداف
1 (تغيير الظاهر)، بل في تحويل النفس، أي انتقالها من ليل ظلام دامس إلى نهار الوجود الحقيقي، وهذه هي الطريق التي بحق ندعوها الفلسفة الحقيقية.
غ :
تماما هكذا في رأيي.
س :
أفلا يلزم النظر في أي فرع من فروع العلم أن تستقر القوة المطلوبة؟
غ :
يقينا إن ذلك واجب.
س :
أفتقدر يا غلوكون أن تخبرني عن علم ينقل النفس من الفاني إلى الحقيقي (الباقي)؟ فإني فيما أنا أتكلم تذكرت أننا قلنا: يجب أن يروضوا بفنون الحرب منذ حداثتهم. ألم نقل؟
غ :
بلى قلنا.
س :
فيجب أن يتصف العلم المطلوب بهذه الطريقة وبالتي قبلها.
غ :
وأية صفة؟
س :
الصفة التي يمكن المحاربون أن يستعملوها.
غ :
ذلك مستحسن إذا أمكن.
س :
وقد عولنا في بحثنا السالف على تهذيب تلامذتنا بالموسيقى والجمناستك.
غ :
يقينا.
س :
فالجمناستك يتعلق بما هو متغير وفان؛ لأنه يتناول نمو الجسد وانحلاله.
غ :
ذلك واضح.
س :
فلا يمكن أن يكون الجمناستك الفرع الذي ننشده.
غ :
كلا، لا يمكن.
س :
وما قولك في الموسيقى، إذا نظرنا إليها كما تعلمنا في بحثنا الآنف؟
غ :
ولا هذه لأنها قسيمة الجمناستك إذا كنت تذكر؛ لأنها تهذب حكامنا بتأثير العادة، وتبلغ قلوبهم لا كعلم بل كنوع من الاتزان بواسطة الاتساق، ونوع خاص من الوزن، والمواضيع التي تعالجها وهمية كانت أو حقيقية. وتمثل سلسة أخرى من الصفات شقيقاتها، ولكنها لا تحتوي على فرع من الدرس يأتي بنفع كالذي أنت في صدده.
س :
ذاكرتك حافظة، فإن الموسيقى لا تمتلك شيئا من هذا النوع. ولكن يا صديقي الفاضل غلوكون، أين نجد هذا الشيء الذي نحتاج إليه؟ فقد حسبنا كل الفنون تسفل بصاحبها.
غ :
لا شك في أننا قد حسبناها كذلك، فأي درس بقي غير الجمناستك والموسيقى والفنون المفيدة؟
س :
إذا لم نجد شيئا وراء هذه مستقلا عنها، فلنأخذ أحد الدروس العامة التطبيق.
غ :
وما هو هذا الدرس؟
س :
هو العلم العام الذي منه تستمد كل الفنون والعلوم وجودها وارتباط الأفكار (في ميدانها)، وهو أول ما يجب على المرء إحرازه من العلوم.
غ :
أخبرني ما هي طبيعته؟
س :
إني أشير به إلى طريقة تمييز الأعداد، واحد، اثنان، ثلاثة، وأدعوه اختصارا: علم العد والحساب. ألا ترى أن كل علم وكل فن مفتقر إلى الاشتراك فيه؟
غ :
بالضرورة إنها تشترك فيه.
س :
أوليس فن الحرب أحد هذه الفنون؟
غ :
إنه أحدها بلا شك.
س :
وإليك مثلا من المأساة: أن بالاميدس في كل حادث يجعل أغممنون قائدا محتقرا جدا، وقد ذكرت أنه ادعى ترتيب صفوفه في طروادة بواسطة استنباط الأعداد، وأنه أحصى السفن وكل قواته، كأن ذلك أمر جديد لم يكن قبل عصره، وكأن أغممنون نفسه كان يجهل - على ما يظهر - عدد مشاته، وذلك ناتج عن جهله كيف يعدهم. فما رأيك في أغممنون كقائد؟
غ :
إذا صدقت الحكاية فأرى أنه كان قائدا غريبا.
س :
فهل هنالك مندوحة عن الاستنتاج أن علم العد والحساب فرع لا غنى عنه للجندي ؟
غ :
كلا، بل هو لازم جدا ليعرف القائد كيف يرتب جنوده، وبالأحرى ليكون رجلا.
س :
أفتتفق فكرتك في هذا الأمر مع فكرتي؟
غ :
وما هي؟
س :
إنه أحد العلوم التي نبحث عنه، والتي تقود طبعا إلى التفكر. ويظهر أن لا أحد يستعمله استعمالا صحيحا كأداة تقودنا إلى الوجود الحقيقي.
غ :
أوضح معناك.
س :
سأجتهد في إيضاح رأيي الخاص لك. وأنت في دورك يجب أن تشاركني في درس الأشياء التي تبينتها في عقلي، كمؤدية إلى الغاية المطلوبة أو غير مؤدية، وأن تبين مصادقتك أو مخالفتك، لكي نرى في الدرجة الثانية على وجه أوضح أمصيب أنا أم مخطئ في تبيان ماهية هذا العلم.
غ :
أرجوك أن تبدأ تبيانك.
س :
سأبدأ. إذا لاحظت فإنك ترى أن بعض المحسوسات لا تنبه فينا عمل التفكر؛ لأنها كلها ضمن دائرة الحس، وأن عوامل أخرى تنبه فينا فعل التفكر لتفحصها؛ لأن الاقتصار فيها على شهادة الحواس يؤدي إلى نتائج غير صحيحة.
غ :
واضح أنك تشير إلى الأشياء التي نراها مجسمة بسبب بعدها عنا.
س :
إنك لم تفهم قصدي.
غ :
فأي نوع من الأشياء تعني؟
س :
أحسب كل الأشياء التي تؤثر فينا تأثيرين متناقضين معا غير منبهة، أما الأشياء التي تفضي إلى ذلك فأدعوها منبهة، أعني بها الأشياء التي فيها الشعور عن قرب وعن بعد، يقرن تأثيرين متساويين في وضوحهما ولكنهما متناقضان، ويمكنك أن تتبين معناي على وجه أوضح هكذا: هنا ثلاث أصابع، ندعوها: الخنصر، والبنصر، والوسطى.
غ :
جدا.
س :
فافرض أني أتكلم فيها كما تظهر عن كثب، وهنا النقطة التي أريد أنك تفحصها باعتبار الأصابع.
غ :
وما هي؟
س :
واضح أن كلها أصابع على السواء، فلا خلاف بينها بهذا الاعتبار في الوسط كانت أو في الطرف، بيضاء أو سوداء، غليظة أو دقيقة، وهكذا. فما دمنا نتقيد بهذه النقاط يندر أن يشعر الذهن بأنه ملزم أن يسأل الفكر: ما هي الأصبع؟ لأن النظر لا يخبر العقل بحال من الأحوال، أنها أصبع وغير أصبع معا.
غ :
كلا، لا يخبره .
س :
فشعورنا هذا: طبعا لا ينبه الفكر أو يثيره.
غ :
يقينا لا.
س :
وما هي الحال بالنظر إلى حجم الأصابع النسبي؟ هل يميز النظر بينها تمييزا تاما؟ أو لا يهمه هل هي في الوسط أو في الطرف؟ وكذلك اللمس، هل يقدر غلظها ودقتها وخشونتها ونعومتها قدرا كافيا؟ أوليس هنالك من نقص رسائل بقية الحواس في مثل هذه الأحكام؟ وبالأحرى: ألا تبتدئ كلها هكذا؟
ولنبدأ بالحس الذي يتناول معرفة الأشياء القاسية: ألا يتناول الحس أيضا الأشياء اللينة، أولا ينبئ العقل أنه أحس بأن الشيء الواحد خشن وناعم معا؟
غ :
إنه هكذا.
س :
أولا يقع العقل في حيرة في معرفة ما يعنيه هذا الحس «بالقاسي» أو «بالخشن»، وهو ينبئ أن الشيء نفسه «ناعم» أيضا؟ وماذا يعني الحس بالثقيل والخفيف في أمر الوزن، حين يخبر العقل أن الثقيل خفيف والخفيف ثقيل؟
غ :
بلى، إن هذه الأحكام تبدو للعقل غريبة ويلزم فحصها.
س :
فطبيعي أن العقل في أحوال كهذه يستعين بالتفكر ليكتشف النبأ الوارد إليه بطريق الحس، أمفرد هو أم مزدوج؟
غ :
بلا شك.
س :
فإذا مال إلى الرأي الثاني، أفليس واضحا أن كل نبأ في كل قسم له وحدة خاصة وأوصاف خاصة؟
غ :
واضح.
س :
وإذا كان كل منها واحدا، وكلاهما اثنين، استنتج العقل أن الاثنين متمايزان، وإذا لم يتمايزا تعذر الازدواج، وحكم الذهن أنهما واحد لا اثنان.
غ :
حقا.
س :
فنقول إن حاسة البصر نقلت إلينا الشعور بالكبير والشعور بالصغير متحدين لا متمايزين. ألست مصيبا؟
غ :
مصيب.
س :
ومن الجهة الأخرى متى عكس التفكر فعل البصر اضطر لأجل التأثير الحسي أن يعتبر الأشياء الكبيرة والصغيرة متمايزة لا متحدة.
غ :
حقا.
س :
ألا تولد فينا مناقضة من هذا النوع ميلا إلى السؤال: ما هو الكبر، وما الصغر؟
غ :
تولد دون شك.
س :
وعلى هذا النمط نقاد إلى التمييز بين مواضيع التفكر ومواضيع النظر.
غ :
غاية في الصواب.
س :
ذلك هو المعنى الذي حاولت تبيانه لما قلت إن بعض الموضوعات من شأنه إيقاظ الفكر وبعضها لا يوقظه، ففي النوع الأول كل ما يقرع أبواب الحواس بعلاقته بما يضاده، وفي النوع الآخر ما ليس كذلك.
غ :
فهمتك، وإني أوافقك.
س :
فتحت أي القسمين ترى العدد والوحدة ينطويان؟
غ :
لا أقدر أن أجزم.
س :
حقيق! فاتخذ ملاحظاتنا السابقة تساعدك لبلوغ نتيجة، فإذا كانت الوحدة بذاتها لذاتها مدركة إدراكا تاما بالبصر أو بغيره من الحواس، كالأصبع في مثلنا السابق، فليس لها صفة استمالة العقل إلى الوجود الحقيقي. ولكن إذا صحبها مناقضة في كل ظاهراتها فأظهرتها وحدة وغير وحدة معا، فحينذاك تدعو الحاجة إلى حكم، فيحار العقل في هذه المعضلة، فيوقظ قوة الفكر الداخلية للفحص، ويعرض عليها هذه المسألة: «ما هي الوحدة بذاتها بعد كل حساب؟» وبهذا الاعتبار يقودنا درس الوحدة إلى التفكر في الوجود الحقيقي.
غ :
أنت مصيب، فإن ملاحظة الوحدة تمتلك هذه الصفة إلى درجة عالية؛ لأن الشيء الواحد يمثل في الوقت الواحد شيئا واحدا، وما لا يحصى من الأشياء.
س :
وإذا كان هذا حالنا مع الوحدة، أفلا يكون كذلك في كل الأعداد بلا استثناء؟
غ :
بلا شك.
س :
ولكن العد والحساب يتناولان العدد لا غير.
غ :
يقينا يتناولانه.
س :
فيظهر أنهما يقوداننا إلى الحقيقة.
غ :
نعم، وبطريقة غير عادية.
س :
فيظهر أن علم الأعداد هو أحد الدروس التي ننشدها، فلا غنى للقائد عنه لترتيب جيوشه، ويلزم الفيلسوف في درسه؛ لأنه ملزم بأن يسمو فوق التغيير ويلوذ بالثابت، وإلا فلا يكون مفكرا ذكيا.
غ :
حقيق.
س :
ولكن حاكمنا كما تقدم جندي وفيلسوف.
غ :
لا شك في أنه كذلك.
س :
ولذلك يا غلوكون يجدر بنا إيجاب هذا الدرس بمادة شرعية، ولأجل إقناع العتيدين أن يشتركوا في أهم مصالح الدولة بأن يدرسوا العد، ويقفوا حياتهم على درسه، لا كهواة، بل درسا متواصلا، حتى يبلغوا بمساعدة الذهن النقي درجة التفكر في طبيعة الأعداد، لا كعمل يختارونه لأجل البيع والشراء تجارا وباعة، أو لأغراض حربية، بل لسهولة انتقال النفس من المتغير إلى الحقيقي الثابت.
غ :
حبذا ما تقول.
س :
وفيما أنا أتكلم في هذا العلم الذي يبحث في العد، تجلت لي طرافته وقيمته بطرق شتى لإنفاذ رغباتنا، بشرط أن يطلب حبا بالمعرفة لا لأغراض تجارية.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
لأنه كما قلنا الساعة: قد يرفع النفس إلى فوق، ويحملها على البحث في الأعداد المجردة، معرضا عن ذلك البحث متى كان للأعداد مسميات محسوسة ترى وتلمس، لأني أعتقد أنك عالم أن حصفاء الرياضيين يهزءون بقسمة الواحدة في مجرى المحاورة، وينكرونها إنكارا تاما. وإذا قسمتها أنت إلى أقسام كتصريف النقود، عادوا فجمعوها معا، وحرصوا على وحدتها حرصا شديدا لئلا تتفكك عرى وحدتها وتبدو متعددة.
غ :
حقيق تماما.
س :
فإذا سألهم سائل يا غلوكون قائلا: يا أصحابي الأفاضل، في أي الأعداد تبحثون؟ وأين الأعداد التي بها تتحقق الوحدة وصفكم إياها، وهو أن كل وحدة تساوي أختها دون أدنى اختلاف، وليس فيها أقسام؟ فماذا تظن أن سيكون جوابهم؟
غ :
أظن أنهم يجيبونه هكذا: أن الأعداد التي يتحدثون فيها إنما تدرك بالفكر، ولا يمكن تداولها بطريقة أخرى.
س :
فيا صديقي، أترى أن هذا العلم ضروري لنا جدا في كل حال؛ لأنه يجبر العقل على استخدام الفهم الخالص في طلاب الحقيقة الخالصة.
غ :
حقا إن له هذه الخاصة بدرجة عالية.
س :
ثم هل لاحظت أن المنصبين على الحساب إلا النادر منهم سريعو الخاطر في كل العلوم؟ وأن البطيئي الأفهام إذا تثقفوا وتمرنوا بهذا الدرس، ولو لم يحصلوا منه على فائدة أخرى، يصيرون أسرع فهما مما كانوا؟
غ :
هذا حقيق.
س :
وأؤكد أنك قلما تجد علما يكلف طالبه مشقة وعناء كالحساب.
غ :
كلا، لا أجد.
س :
فلأجل كل هذه الدواعي لا نحذف هذا العلم، بل بالحري نستخدمه في تهذيب أسمى السجايا.
غ :
أوافقك في ذلك.
س :
فلنحسب هذه النقطة مفروغا منها. ولنسأل بعدها: هل نهتم بالعلم المجاور للحساب؟
غ :
وما هو؟ أتعني به الهندسة؟
س :
نعم أعنيها.
غ :
واضح أن القسم المختص منها بالحيلة الحربية يهمنا؛ لأن هنالك فرقا عظيما في كون الجندي يعرف الهندسة أو يجهلها ، وذلك في ما يتعلق بمواقع الجنود وتوزيعهم، وفي ضمهم وامتداد صفوفهم، وفي كل المناورات، في الميدان، وفي الزحف.
س :
ولكن الزهيد من المعرفة الحسابية والهندسية كاف لهذه الأغراض، فالمسألة التي أمامنا هي: هل يفضي بنا أهم أقسامها وأسماها إلى سهولة التفكر «بصورة الخير» الجوهرية؟ ففي مذهبنا هذه خاصة كل ما يحمل النفس على الانصراف إلى المنطقة المحتوية على أسعد قسم من الوجود الحقيقي، الذي رؤيته أهم أغراض النفس.
غ :
أنت مصيب.
س :
فتهمنا الهندسة، إذا كانت تصرف النفس إلى التفكر بالوجود الحقيقي، ولكنها إذا اقتصرت على التفكر بالعرض الفاني فلا تهمنا.
غ :
لقد جزمنا بذلك.
س :
فلا ينازعنا حتى ولا صغار المهندسين في النقطة التالية، وهي: أن هذا العلم يناقض صيغ الكلام التي يستعملها أربابه مناقضة تامة.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
إنهم يتكلمون بأسلوب هو غاية في السخافة والوهن، ذاكرين على الدوام سحب الخطوط والتربيع وضم الأشكال، ونحو ذلك، كأنهم يتعاطون عملا اقتصاديا، أو كأن لكل قضايا هذا الفن غاية عملية. على أن هذا الفن إنما يراد لأجل المعرفة.
غ :
أكيد إنه كذلك.
س :
بقيت نقطة يجب أن نتفق عليها، أليس كذلك؟
غ :
وما هي؟
س :
أن هذا العلم يراد لأجل معرفة الدائم الوجود، لا لأجل ما يوجد حينا ثم يزول.
غ :
سنتفق على ذلك حالا؛ فإن الهندسة بالحقيقة هي على علم الدائم الوجود.
س :
فإذا كان ذلك كذلك يا صديقي الفاضل، وجب أن تجتذب الهندسة النفس نحو الحقيقة، وتضرب الضربة الحاسمة في ميدان الروح الفلسفية، فترفع ما خفضناه خطأ في وقتنا الحاضر.
غ :
نعم، ستفعل ذلك بأعظم قوة.
س :
فعليك أن تستعمل ما لك من نفوذ في إقناع أهالي مدينتك الجميلة، ألا يتأخروا عن الإكباب على درس الهندسة؛ لأنه حتى فوائدها الثانوية ليست بزهيدة.
غ :
وما تلك الفوائد؟
س :
إذا أعرضنا عما ذكرته مما يختص بفن الحرب، فإني ما زلت أؤكد الحقيقة التي أوضحناها بنوع خاص: أن الفرق عظيم جدا بين كون الطالب يعرف الهندسة، وكونه يجهلها، ولو فهم أي نوع كان من أنواع العلوم.
غ :
بلا شك.
س :
أفنوجب ذلك على شبابنا كدرس؟
غ :
نعم نوجبه.
س :
أفنجعل الفلك درسا ثالثا؟ أو أنك لا تستحسن ذلك؟
غ :
بل إني أستحسنه؛ لأن معرفة الفصول والشهور والسنين معرفة تامة لا تنحصر في الزراع والملاح، بل يشاركهما فيها القائد الحربي إلى حد المساواة.
س :
يسرني خوفك من الظهور أمام الجمهور بمظهر من يوجب علوما عقيمة. على أنه لا يهون، بل هو من الصعوبة بمكان، الاعتقاد أن هذه الدروس تشفي عضو النفس من التعامي، وتبعث من موت أدبي أدى إليه غير ما نذكر من الأعمال، عضوا سلامته أفضل من ألف عين؛ لأن به وحده يمكننا إدراك الحقيقة. والنتيجة أن الذين يشاركوننا بالفكر يستحسنون الدروس التي وصفتها، أما الذين لا علاقة لهم بها فيرون ذلك عبثا، وعندهم أن لا فائدة تجنى منه دون تطبيقها بالفعل. وإذا واصلت البحث حاملا عبء المسئولية وحدك دون إشارة إلى إحدى الفئتين، فلست تأتي بأدنى فائدة بذلك الحديث لكائن من الناس.
غ :
إني أؤثر المسلك الأخير، أي: أن أقدم سؤالاتي وأجوبتها معتمدا على نفسي بنوع خاص.
س :
فلنرجع خطوة إلى الوراء، فقد أخطأنا منذ برهة بما اتخذناه من العلوم تاليا للهندسة.
غ :
فأي علم نتخذ؟
س :
كان الصواب أن ننتقل من البحث في الهندسة الثنائية الأبعاد (المسطحة أو البسيطة)، إلى الثلاثية الأبعاد (الهندسة المجسمة)، وذلك يؤدي بنا إلى المكعبات ذوات الكثافة.
غ :
حقيق يا سقراط. ولكن هذه الموضوعات لم تكشف بعد على ما أعلم.
س :
إنها لم تكشف بعد، وذلك لسببين؛ أولهما: أنها قضايا صعبة، وكان فحصها ضعيفا، إذ لا دولة تقدرها قدرها. وثانيا: أن الباحثين فيها يفتقرون إلى ناظر يحل معضلاتها التي لا يفهمونها بدونه، والحصول على هذا الناظر صعب، وإذا حصل كما هو الحال اليوم، فإن كبرياء الباحثين تحول دون اعتبارهم آراءه. ولو أن الدولة بمجموع عقلها أعطت هذا الدرس حقه من الاعتبار وأقامت نفسها رقيبا على درسه، لخضع لها الطلاب وتجلت طبيعة الموضوع الحقيقية، بعد فحصها على هذه الصورة فحصا مستمرا مدققا؛ لأن درسها ما زال ضعيفا وغامضا، ليس عند العامة فقط، بل عند الخاصة القلائل، الذين يدرسونها وهم عاجزون عن تبيان منافعها، ومع ذلك فإن هذا الدرس ناجح بالرغم من كل هذه العقبات، بفضل ما فيه من الجمال الذاتي. ولست أستغرب زوال كل تلك العقبات.
غ :
هنالك هيام به، ولكن أرجوك أن توضح ما قلته الساعة، فقد حددت الهندسة على ما أظن بأنها علم يبحث في السطوح.
س :
هكذا حددتها.
س :
ثم أتبعت الفلك بها. على أنك عدت فسحبت كلامك.
س :
نعم، فإني كلما أسرعت ساء مسيري، فإن البحث في الفضاء الثلاثي الأبعاد يلي الهندسة (المسطحة)، ولكن لما كانت تدرس باستهتار أهملت الكلام فيها، وجعلت الفلك يتلو الهندسة البسيطة، وهو عبارة عن حركات الأجرام في الفضاء.
غ :
أنت مصيب.
س :
فلنجعل علم الفلك درسا رابعا، حاسبين العلم الذي حذفناه الآن موجودا، وإنما يتوقع الفرصة السانحة لالتفات الدولة إليه.
غ :
إنه رأي معقول يا سقراط، وإذا ذكرت الملام الذي وجهته إلي منذ برهة لأني مدحت الفلك مدحا بسيطا، فإني أستحسن الخطة التي جريت عليها؛ لأني أظن أنه واضح لكل أحد أن الفلك في كل حال يحمل النفس على النظر إلى ما فوق، ويجتذبها من هذا العالم إلى العالم الآخر، قد يكون واضحا لكل أحد سواي؛ لأنه ليس هذا رأيي.
غ :
فما هو رأيك؟
س :
رأيي هو أن الفلك على ما يتناوله طلاب الفلسفة اليوم يحول نظر النفس إلى أسفل.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
أظن أن الشجاعة لم تفتك في تصوير ما فهمته من طبيعة الدرس الذي يتناول الأمور العليا، والأرجح أن الإنسان إذا رفع نظره وتعلم شيئا عن سقف منقوش فإنك تزعم أنه يدرسه بذهنه لا بعينيه، فقد يكون رأيك صوابا ورأيي خطأ، أما أنا فلا أرى علما يرفع نظر النفس إلى ما فوق إلا إذا تناول الأمور الحقيقية غير المنظورة. ولا فرق بين أن يكون الإنسان محدقا في الجلد، أو في الأرض، ما دام يحاول درس موضوع محسوس. فإني أنكر عليه القول إنه تعلم شيئا؛ إذ لا شيء من المحسوسات يعالج معالجة علمية؛ ولذاك أصر أن نفسه ناظرة إلى أسفل، لا إلى فوق. ولو استلقى على ظهره وعيناه إلى السماء في البر كان أو في البحر.
غ :
قد حل بي من العقاب ما أستحق، ولكني أرجوك أن توضح معنى قولك: أن الفلك يجب درسه بأسلوب يختلف عن الأسلوب الحالي كل الاختلاف، إذا أريد أن يدرس درسا مفيدا، طبقا للمقاصد التي أمامنا.
س :
لك ذلك. ما دام الجلد المرقط قسما من العالم المنظور فإنا ملزمون أن نعتبره دون الدوران الحقيقي، وأن يكن أجمل الأشياء المنظورة وأكملها؛ لأن الدوران الحقيقي الذي تجري سرعته الحقيقية أو بطؤه الحقيقي على مقادير معينة وفي صيغ حقيقية، إنما يتم دوراته إتماما نسبيا بعضها إلى بعض، حاملة أجرامه كل ما عليها. وهو إنما يدرك بالفكر، لا بالنظر. فهل لك رأي آخر؟
غ :
كلا.
س :
لذلك وجب اتخاذ الجلد المرقط رسما ونموذجا للتقدم في الدرس الذي يرمي إلى أغراض عليا، على النحو الذي به اتخذ الأشكال الهندسية المرسومة بإتقان وضبط، بقلم المهندس ددلوس أو بأقلام غيره من المصورين؛ لأني أرى أن الشخص المثقف الذي تعلم الهندسة حالما يرى رسما، يدرك حالا درجة إتقانه، لكنه يزدري اتخاذه غرضا مقصودا من الدرس، إنما يستخرج منه حقائق المعادلة أو التضاعف، وغيرهما من النسب.
غ :
لا شك في أنه مزدرى جدا.
س :
ألا تظن أن الفلكي الحقيقي ينظر إلى حركات النجوم بهذا الاعتبار نفسه؟ أعني: ألا يحسب السماء نفسها وما فيها من الأجرام قد نظمها المهندس السموي في أحسن تكوين يمكن إبداعه؟ أما نسبة الليل إلى النهار ونسبة كليهما إلى الشهر، ونسبة الشهر إلى السنة، ونسبة النجوم إلى الشمس والقمر، ونسب بعضها إلى بعض، ألا تظن أن رجلا يزعم أن أشياء مادية كهذه ثابتة لا تتغير رجل محتقر؟ زاعما أنها مستثناة من كل اضطراب، وأن الجهود المبذولة في استكناه شأوها هي من ضروب العبث؟
غ :
بلى ، هكذا ظننت فيما أنت تتكلم.
س :
فندرس الفلك كما درسنا الهندسة مستعينين بالأشكال، وإذا رمنا أن نفهم كنه الفلك فهما حقيقيا، فلنصرف نظرنا عن الأجرام السماوية، أعني بذلك أن نصرف ملكة الفهم تصريفا مفيدا، معرضين عما لا يفيد.
غ :
أتيقن أن الخطة التي تصفها هي عملية أضعافا مضاعفة أكثر من أسلوب درس الفلك الحالي.
س :
نعم. وأرى أن نصف كل شيء على هذا القياس نفسه، إذا رمنا أن نكون نافعين كشارعين. ولنستأنف الآن سيرنا: فما هو الأمر الذي تقترحه في هذه النقطة؟
غ :
لا أقدر أن أخترع شيئا في فترة قصيرة كهذه.
س :
إذا لم أكن مخطئا فإن الحركة تمدنا بأنواع عديدة من العلوم، وقد يوفق الفيلسوف إلى إيرادها كلها معا. أما ما يتجلى لأناس نظيرنا فاثنان منها.
غ :
وما هما؟
س :
قد أبنا منها واحدا، والثاني شقيقه.
غ :
وما هو؟
س :
يظهر أنه قصد بآذاننا أن تضبط الحركة المتسقة، كما قصد بعيوننا أن تتناول حركات الأجرام. وأن هذين يؤلفان علمين شقيقين، كما يقول الفيثاغوريون، وكما نحن مستعدون أن نسلم بما قالوا يا غلوكون. وإلا فأي مسلك تختار؟
غ :
أختار المسلك الذي ذكرته آنفا، أي إننا نسلم بالقضية.
س :
فما دام العمل ينذر بالإطالة فنستشير الفيثاغوريين في هذه المسألة، وربما في غيرها من المسائل، ونظل في الوقت نفسه محتفظين بمبدئنا الخاص.
غ :
وأي مبدأ تعني؟
س :
أن لا ندع تلاميذنا يتعلمون فرعا غير كامل من هذه العلوم حينا من الأحيان، أو أن يتعلموا أي شيء يقصر عن بلوغ النقطة التي إليها تتجه كل الدروس، كما قلنا الآن في الفلك. ولست تجهل أن اللحن الموسيقي يعامل معاملة الفلك في ما يأتي: أن أساتذته كالفلكيين، يكتفون بقياس اللحن والإيقاع الذي تدركه الآذان الواحد ضد الآخر؛ ولذلك يتعبون لغير جدوى.
غ :
يقينا، بل يجعلون أنفسهم سخرة، فيكررون ويتنصتون كأنهم يتلقفون الصوت عن جارهم. ويقول فريق منهم إنهم يسمعون صوتا متوسطا، أو أن الفرق بينه وبين بقية الأصوات زهيد، وأنه أخفض من بقية الأصوات ، بينما فريق آخر يزعم أن كل الأصوات متماثلة، وأن الفريقين يخضع العقل للآذان.
س :
أرى أنك تشير إلى البارعين الذين يشدون الأوتار ويلفونها على الأشظة، ولئلا يكون التشبيه مملا بإطالة ضربة الريشة على الأوتار وعدم مرونتها؛ لذلك أعدل عن وصف الأسلوب، وأقول إني لا أعني هؤلاء الرجال، بل الذين اخترناهم، والآن نستشيرهم في أمر الأنغام؛ لأن نوع عملهم كعمل الفلكيين تماما، أعني أنهم يبحثون في النسب العددية الكائنة بين الألحان المسموعة، لكنهم لا يحملون أنفسهم على فحص الأعداد، لحنية وغير لحنية، وعن سبب الاختلاف بينها.
غ :
إن ما تذكره يستلزم قوة تفوق حدود العقل البشري.
س :
فادع السعي وراء الصالح والجميل عملا مفيدا، وإلا كان غير مفيد.
غ :
نعم، إن ذلك غير بعيد عن الصواب.
س :
أضف إلى ذلك أنه إذا أدى بنا درس هذه العلوم التي ذكرناها إلى الائتلاف والعلاقات المتبادلة، وعرفنا شأن الربط التي تجمعها معا، فإني واثق أن الاجتهاد في معالجتها يفضي بنا إلى تقدم الموضوعات التي نبحث فيها، وأن العمل الذي هو عقيم بدونها يصير بها من كبار النعم.
غ :
وأنا أشعر شعورك يا سقراط، لكنك تتكلم في عمل عظيم جدا.
س :
أإلى المقدمة تشير أم إلى ماذا؟ فلسنا في حاجة إلى التذكير أن كل ذلك لم يكن سوى مقدمة للنشيد العملي الذي يجب أن نتعلمه، ولست أظن أنك تنظر إلى البارعين في هذه الدروس نظرك إلى المناطقة.
غ :
كلا البتة. إلا أفراد استثنائيين عرضوا لي في الطريق.
س :
ومن المعلوم أنك لا تظن أن الأشخاص العاجزين عن الاشتراك في بحثنا في المبادئ الأولى، يمكنهم أن يعرفوا مثقال ذرة من الأشياء التي أوجبنا عليهم معرفتها.
غ :
لا يقدرون أن يفعلوا ذلك أبدا.
س :
أفليس لنا يا غلوكون نشيد عملي غايته التعقل المنطقي؟ هذا النشيد يقع في منطقة السلطة العقلية، وهو يجاهد كما أسلفنا لينظر نظرا قويما أولا في الحيوانات، ثم في النجوم، وأخيرا في الشمس ذاتها. وهكذا يشرع المرء يبحث بمساعدة المنطق، ناشدا كل أنواع اليقين بفعل الذهن البسيط، مستقلا عن كل معونة حسية، ولا يكف حتى يدرك بفعل الذهن النقي طبيعة «الخير» الحقيقية، فحينذاك يبلغ آخر مدى العالم العقلي، كما بلغ الشخص المذكور آنفا آخر مدى العالم المنظور.
غ :
من كل بد.
س :
أفلا تدعو هذا المنهج منطقا؟
غ :
مؤكد أني أدعوه.
س :
ومن الجهة الأخرى فك أغلال السجناء وانتقالهم من ظلال الأشباح إلى الأشباح نفسها، وصعودهم من أسفل الكهف إلى نور الشمس، يمكنهم وهم هناك من النظر إلى الصور المنعكسة عن سطح الماء، لا إلى الحيوانات والنباتات ونور الشمس مباشرة التي عنها انعكست تلك الصور، وهي إلهية وظلال الأشياء الحقيقية، عوض كونها ظلال الأشباح التي يلقيها النور، وهي نفسها قد تدعى صورة إذا قوبلت بالشمس: فلهذه النقاط ما يقابلها في ما ذكرناه من الفنون التي ترقي أشرف أقسام النفس، وترفعها إلى التأمل في أسمى الموجودات، كما يتمكن كل عضو في الجسد من التمتع بأبهى ما في العالم المادي المنظور.
غ :
أما أنا فإني أسلم بهذا البيان، ومع ذلك فقد وجدت قبوله صعبا.
س :
وفي الوقت نفسه، إذا نظرنا إليها من ناحية أخرى، رأينا إنكارها صعبا. وعلى كل فلما كان البحث فيها غير محصور في الوقت الحاضر، بل قد يتكرر في المستقبل، فلنفرض صحة رأيك الحالي، وعلى هذا الأساس نتقدم إلى النشيد نفسه، ونفحصه كما فحصنا المقدمة. فأخبرنا ما هي صفة المنطق العامة؟ وما هي أقسامه العلمية؟ وأخيرا: ما هي أساليبه؟ فالمرجح أن تلك الأساليب ستكون السبيل المؤدي إلى البقعة التي عندها ينتهي مسيرنا، فنستريح من سياحتنا.
س :
إنك غير قادر أن تواصل متابعتي يا عزيزي غلوكون، مع أن رغبتي لم تفتر، فلن تستمر مقتصرا على رؤية المشابهة التي أتينا على وصفها، بل سترى الحقيقة نفسها، وفي الشكل الذي به تجلت لي. وسواء أكنت مصيبا أم لا فإني لا أجرؤ على تخطي موقفي إلى التأكيد، لكنني أظن أني عالم أننا لسنا بعيدين عن مواطن الصواب.
غ :
لا شك في أنك عالم.
س :
أولا يجوز لي أن أجزم أن المنطق وحده يقدر أن يعلن الحقيقة لمن قبض على أزمة العلوم التي ذكرناها الساعة؟ وأن المعرفة غير ممكنة في ما سوى ذلك؟
غ :
بلى، ولك ما يسوغ الجزم في هذه النقطة.
س :
فلا أحد يضادنا إذا ادعينا أن لا أسلوب آخر جرب تجربة منتظمة يصوغ صورة ذهنية لطبيعة كل شيء الحقيقية، بل بالضد من ذلك، كل الفنون إلا القليل منها تتجه كل الاتجاه، إما نحو آراء الناس وحاجاتهم، أو نحو تركيب الأجسام ونتاجها، أو معالجة الأشياء التي تنمو وهي مركبة، وعند القليلين من الناس المستثنين من الحكم العام، أن علوما كالهندسة ورفيقاتها التي ارتأينا أنها تتناول ما هو يقيني نوعا، نرى أنها مع كونها قد تحلم بالوجود الحقيقي لا تقدر أن تراه في حال يقظتها، ما دامت تعتمد الفروض التي لم تمتحن، ولا يمكنهم أن يعطوا بيانا عنها. وحين يحسب المرء ما لا يعرفه مبدأ أوليا، ويشيد عليه الفروض الثانوية والنتائج النهائية، فكيف يمكن أن تؤلف قضايا كهذه علما؟
غ :
حقا، إن ذلك غير ممكن.
س :
وعليه: فالأسلوب المنطقي ليس إلا هو المعتمد في ما يأتي: لأنه يرجع بفروضه إلى المبدأ الأول لكل الأشياء ليضمن رسوخها. وإذ يجد البصيرة قد دفنت بكليتها في مغاوص الجهالات البربرية، ينهضها بلطف ويرفعها، مستخدما الفنون التي محصناها، خدما وأعوانا في الدوران، وهي التي يغلب أن ندعوها علوما؛ لأن تسميتها هكذا أمر مألوف، لكنها تتطلب اسما آخر يدل على ما هو أوضح من الرأي، وأخفى من العلم، وقد استعملنا لها في بعض أبحاثنا اسم: «معرفة»، إيضاحا لهذا الفعل العقلي، على أني لا أرى أن من خواصنا المشاحنة في التسمية، وقد آلينا على أنفسنا اعتبار المواضيع المهمة.
غ :
أنت مصيب، فنحتاج إلى اسم إذا أطلق على حالة عقلية يوضح بجلاء الظاهرات التي يصفها.
س :
على أني راض كما سبق القول عن تسمية القسم الأول علما، والثاني معرفة، والثالث اعتقادا، والرابع ظنا. وتسمية القسمين الأولين إدراكا، والأخيرين تصورا، وأن التصور يتناول الفاني، والإدراك يتناول الكائن الحقيقي، وأن نسبة الكائن الحقيقي إلى الفاني كنسبة الإدراك إلى التصور، ونسبة الإدراك إلى التصور كنسبة العلم إلى الظن، والأفضل حذف المشابهة بين هذه الأفعال العقلية وبين قسمي التصور والإدراك، لئلا نثقل أنفسنا يا صديقي بمباحث تفوق مباحثنا السابقة عددا.
غ :
حسنا، إني أوافقك في هذه النقطة على قدر فهمي إياها.
س :
أفتدعو كل من يفكر في لباب الأشياء منطقيا؟ أو تسلم أن فشل المرء في تكوين بيان واضح لنفسه وللآخرين ناشئ عن عجزه عن استعمال الذهن النقي في البحث؟
غ :
نعم، لا ريبة عندي في ذلك.
س :
أوتستعمل التعبير نفسه بالنظر إلى الخير؟ فما لم يتمكن المرء من تحديد طبيعته الجوهرية بواسطة فعل التفكير، وما لم يتمكن من اختراق طريقه في وسط الصعوبات، نابذا ما ناقض فكرته، لا بقواعد التصور، بل بقواعد الوجود الحقيقي، وما لم يتقدم في وسط المشاكل نحو النتيجة النهائية المرغوب فيها دون أن يزل في خطوة واحدة من سلسلة أفكاره، ما لم يعمل كل ذلك، أفلا تقول إنه لم يفهم الخير الجوهري، ولا خيرا غيره؟ وإن كان شبح اتفق له أن فهمه فإنما هو ثمر التصور لا ثمر العلم؟ وسيقضي حياته الحاضرة نائما يضرب في بوادي الأحلام، ولن يستيقظ في هذا الجانب من العالم الآتي، الذي قضى عليه أن ينام فيه نوما أبديا؟
غ :
نعم، سأقول ذلك بأعظم حتم.
س :
وإذا كنت تهذب أولادك تهذيبا صحيحا، مراقبا تهذيبهم وطبيعتهم، فلا يمكنني أن أتصور أنك تدعهم يصيرون قضاة شارعين في هذه الدولة، يفوض إليهم الفصل في أكثر الأمور خطورة، وهم خالون من العقل خلو جرة القلم.
غ :
حقا إني لا أدعهم.
س :
فتسن لهم إذا قانونا يوجب عليهم أن يلوذوا بتهذيب يمكنهم من استخدام المنطق على أفضل منهج علمي.
غ :
سأسن ذلك القانون بمساعدتك.
س :
أفلا يظهر لك أن المنطق رأس زاوية في صرح العلوم؟ وأن من الخطأ وضع أي علم آخر فوقه؛ لأن سلسلة البناء قد ختمت به؟
غ :
بلى، أرى أنك مصيب.
س :
بقي عليك تعيين من تخصهم بهذه الدروس، وتقرير المبدأ اللازم في توزيعها عليهم.
غ :
واضح أن ذلك هو الباقي.
س :
أتذكر أي نوع من الرجال اخترنا في بحثنا السابق، لما كنا ننتقي أفضل القضاة؟
غ :
معلوم أني أذكر.
س :
فألفت نظرك إلى ما ذكرناه من الصفات على قدر ما علقنا انتخاب أربابها على امتلاكهم إياها، أي إننا مرتبطون بإيثار أوفرهم حزما وأكثرهم رجولة، وعلى قدر ما يتاح لنا أوفرهم لياقة. يضاف إلى ذلك أنهم يجب أن تكون فيهم طبيعة أدبية شريفة راسخة، ويجب أن يمتلكوا المؤهلات المستحبة الملائمة نظام التهذيب هذا.
غ :
وأية صفات توجبها عليهم؟
س :
يكون لهم نظر ثاقب في الدروس يا صديقي الفاضل، وأن يتعلموا بسهولة؛ لأن الدرس العنيف يمتحن نشاط العقل أكثر من التمرين الرياضي، ولأن العمل هنا في محله أكثر مما هو هناك، لكونه محصورا في العقل عوض اشتراك الجسد فيه.
غ :
حقيق.
س :
فيجب أن ندرج في عداد الأشياء التي نفتش عنها: الذاكرة الحافظة، والسلوك الحسن، ومحبة العمل محبة تامة، وإلا فكيف تتوقع أن تغري المرء بأن يتحمل أعباء العمل الجسدي مع مزاولة الدروس والتمارين؟
غ :
كلا، لا يمكنا إغراء من لم يحرز مواهب من الطبقة العليا.
س :
وعلى كل يمكن رد الخطأ في شأن الفلسفة الفاشي الآن وسوء السمعة الذي بليت به كما قلت سابقا إلى هذه الحقيقة، وهي أن الناس يقبلون على درس الفلسفة من غير جدارة شخصية فيهم، مع أن درسها مختص بأبنائها الحقيقيين دون الأبناء غير الشرعيين.
غ :
وماذا تعني بالحقيقيين؟
س :
أولا: على من يطلب الفلسفة أن لا يعرج في محبة العمل. أعني لا يكون متراوحا بين العمل والكسل، شأن من يحب التمرين والمحاضرة (الجري) ويكره الدرس، شاعرا بالرغبة عن البحث والاستماع، وبغض كل الأعمال العقلية.
ثانيا: أن من يكره الأعمال البدنية هو أيضا أعرج.
غ :
قولك غاية في الصواب.
س :
أولا نحسبه عرقلة في النفس أنها مع بغضها بغضا شديدا الكذب الاختياري وإنكارها إياه إنكارا تاما، حتى ليسوءها جدا أن يكذب أحد مختارا، مع ذلك تتساهل في قبول الكذب الاضطراري بكل ارتياح، وعوض اغتمامها بسبب نقص معارفها تنغمس في حمأة جهلها كخنزير بري؟
غ :
لا شك في أنك مصيب.
س :
وقبل كل شيء يجب التمييز بين الابن الشرعي والابن غير الشرعي باعتبار العفاف، والشجاعة، وسمو العقل، وكل الفضائل واحدة فواحدة؛ لأنه متى أغضت الدول أو الأفراد عن صفات كهذه تورطت، جهلا منها في اختيار العرج قضاة وأصدقاء، وهم نغول باعتبار إحدى هذه الفضائل.
غ :
لا شك في ذلك.
س :
فعلينا اتخاذ أعظم درجات الحيطة في كل ما هو من هذا النحو. فإذا أمكنا أن نحرز أشخاصا سليمي الأجساد والعقول، ونشأناهم على الدروس العالية والتهذيب الصارم، فلا تجد العدالة فينا لوما، وبذلك نصون دولتنا ونظامها. أما إذا اخترنا تلامذة من طراز آخر انقلب نجاحنا فشلا، وجلبنا على الفلسفة أعظم عار.
غ :
حقا إن ذلك عار.
س :
حقا إنه عار، على أني جلبت الساعة ذلك العار؟
غ :
وبماذا؟
س :
بأني نسيت أننا لم نكن مترصنين ولم نتكلم بجد، فإني نظرت إلى الفلسفة وأنا أتكلم، فرأيتها تهاجم بهزء لا تستحقه، فاستأت وثارت حفيظتي على المسئولين عن ذلك الهزء، وأعتقد أني أبديت مزيد الحدة.
غ :
كلا، لم تبد شيئا من ذلك، أو على الأقل أني لا أظن أنك أبديته وأنا أسمعك.
س :
بل شعرت أني فعلت ذلك وأنا أتكلم، ولنستأنف البحث: فلا ننس أنه في هذا الموقف لا يمكننا اختيار الشيوخ كما فعلنا سابقا، ولا يغونا صولون فنتوهم أن الإنسان يزداد علما ما زاد سنا؛ لأن الشيخ أقدر على الركض منه على التعلم، فيجب إلقاء الأحمال على مناكب الفتيان.
غ :
من كل بد هكذا يجب.
س :
فيجب تلقين تلاميذنا منذ حداثتهم الحساب، والهندسة، وكل فروع العلوم الابتدائية التي تمهد السبيل لفن المنطق، مع الاعتناء بتلقينهم العلم بطريقة غير إجبارية.
غ :
ولماذا؟
س :
لأنه لا يجوز أن يمزج تهذيب الحر بشيء من ملابسات الاستعباد؛ لأن إرغام الجسد على الأعمال الجسدية لا يحدث تأثيرا في الجسد. أما في أمر العقل فلا يتأصل علم في الذاكرة إذا أتاها بطريق الإرغام.
غ :
حقا.
س :
فيجب أيها الصديق الفاضل، إعطاء الدروس للأحداث بأسلوب الألعاب والتسلية دون أدنى ظاهرة إرغام، لكي يتمكن كل منهم من معرفة ميله الخاص.
غ :
رأيك سديد.
س :
أفتذكر قولنا إنه يجب أن يشهد الأحداث الحرب على متون الخيول، وأن يدخلوا ميدانها وهم في مأمن من الخطر، وأن يتذوقوا الدم ككلاب الصيد؟
غ :
أذكر ذلك.
س :
وعليه: ننظم لائحة انتخاب، ندرج فيها من تجلى فيه ضبط النفس في وسط كل هذه الأعمال والدروس والمخاطر.
غ :
وفي أي سن يجب إنجاز ذلك؟
س :
حالما ينهون تمريناتهم الجسدية الضرورية. ولا يعمل شيء آخر في أثناء التمرين الذي يشغل زهاء سنتين أو ثلاث؛ لأن التعب والنوم هما ألد أعداء الطلب، عدا ذلك أن تصرف كل من الطلاب في خلال تمرينهم هو امتحان مهم جدا من حيث تبيان سجيته.
س :
وبعد هذا الفصل يلزم أن نخول أرباب السجايا الممتازة، ممن بلغوا العشرين ربيعا، شرفا أعظم من شرف سواهم. ويجب جمع العلوم المختارة التي حصلوها في صباهم في امتحان واحد، ليتبينوا العلاقات المتبادلة بينها، وليعرفوا طبيعة الوجود الحقيقي.
غ :
حقا إن هذا هو التهذيب الوحيد الذي سيرسخ في الذين قبلوه.
س :
نعم، وهو أعظم وأقوى مقياس للسجية المنطقية؛ لأن المرء يكون منطقيا أو غير منطقي، بقياس إدراكه الموضوع إدراكا إجماليا، أو بقياس عدم إدراكه ذلك الإدراك.
غ :
أوافقك في ذلك.
س :
ولذا يجب أن تلاحظ الذين يبدون أعظم مقدرة وأرسخ ثبات في هذه المسائل، وأثبت عزيمة في الحرب وفي غيرها من فروع التهذيب، وليس في الدروس فقط، ويجب أن نختارهم من بين رفقائهم الممتازين، ونخولهم شرفا أعظم. يبدأ ذلك من سن الثلاثين فصاعدا، وتمتحنهم بالقسم الباقي في المنطق، لترى من منهم يستغني عن مساعدة عينيه، ومساعدة غيرها من الحواس، ويتقدم لفهم الوجود الحقيقي بمساعدة الحقيقة. وهنا يلزم يا صديقي أعظم حرص.
غ :
ولأي سبب خاص؟
س :
ألم تتبين مبلغ الشر الذي يساور فن المنطق في وقتنا الحاضر؟
غ :
وما هو؟
س :
التمرد الذي قد يألفه المناطقة.
غ :
حقا إنك مصيب.
س :
أوتستغرب ذلك؟ أولا تتساهل مع الأشخاص المذكورين؟
غ :
أوضح مرادك.
س :
تصور ما يماثل ما نحن فيه، فافرض أن دعيا نشأ في وسط غني، ذي علاقات واسعة بأسر شريفة، يحيط به جمهور من المملقين. وافرض أنه لما بلغ رشده عرف أن اللذين ادعياه ليسا والديه، على أنه لا يمكنه اكتشاف والديه الحقيقيين. أفتقدر أن تنبئني ما يكون تصرفه نحو مملقيه، ونحو المحسوبين والديه؟ أولا حين كان يجهل حقيقة أمره، وثانيا بعد ما عرفها؟ أو أنك تريد أن تسمع ذلك مني؟
غ :
بل أريد أن أسمع.
س :
أظن أنه ما دام يجهل الحقيقة يكرم المحسوبين والديه وأقاربه، ويعتبرهم من المملقين، ولا يهمل أولئك إهماله هؤلاء في حال عوزهم، ويكون عصيانه هؤلاء ومخالفته رغباتهم قولا وفعلا في المهم من الأمور أكثر إمكانا من عصيانه المحسوبين والديه.
غ :
ذلك مرجح.
س :
ولكنه متى عرف حقيقة حاله فتر في إكرام ذينك الوالدين واحترامهما، أما المملقون فزاد اعتبارا لهم وإصغاء لتمليقهم عن ذي قبل، وشرع يعيش حسب هواهم ويصحبهم دون تستر، وإذا لم يكن ذا فطرة صالحة فلا يوجه نحو الذين ادعوا أنهم والداه وأقاربه ولا يكترث لهم.
غ :
وصفك طبيعي الصبغة، ولكن ما وجه الشبه بينه وبين طلاب المنطق؟
س :
هذا هو وجه الشبه: إني أعتقد أن عندنا منذ الصبوة آراء جازمة في ما هو العادل وما هو الجميل، وقد نشأنا على احترام هذه الآراء وطاعتها، كما نشأنا على طاعة الوالدين واحترامهم.
غ :
حقيق.
س :
ثم إن تلك الآراء قد صدمتها أعمال مستحبة تملق نفوسنا وتحاول أن تجذبها إليها، ولكنها تعجز عن استمالتنا إذا كنا أفاضل كاملين؛ لأننا حينذاك نحتفظ باحترام تلك الآراء، ونقيم على الإخلاص لها.
غ :
يقينا.
س :
ولكن إذا عرضت لأحدنا مسألة: ما هو الجميل، وأجاب عنها كما كان قد تلقن من شارعه، وخطئ عملا بقواعد المنطق، وأثبت له التكرار أن ما كان يحسبه جميلا فيه من العيب والتشويه قدر ما فيه من الجمال. وكذلك في العدالة والصلاح وسائر الأشياء التي كان لها عنده أسمى درجات الاعتبار، فما ظنك في تصرفه نحو الآراء القديمة من حيث طاعتها واعتبارها؟
غ :
مؤكد أنه لا يعتبرها ولا يطيعها كما كان يفعل قبلا.
س :
وما دام لا يعرف الحقيقة ولا يعتبر اعتقاده السابق كما كان يفعل قبلا، وفي الوقت نفسه يعجز عن اكتشاف الحقيقة، أفلا يسلم نفسه للتمليق كل التسليم؟
غ :
يسلم.
س :
وبعبارة أخرى أرى أنه يهجر الولاء ويصير مستبيحا.
غ :
لا شك في ذلك.
س :
أفليست هذه طبيعة طلاب المنطق؟ أولا يجب أن يعاملوا بالرفق كما قلت الساعة؟
غ :
وبشفقة أيضا.
س :
ولئلا تتحمل عبء هذه الشفقة على أبناء الثلاثين، ألا يجب اتخاذ كل احتياط في تعليمهم المنطق؟
غ :
مؤكد.
س :
أوليس أعظم أنواع الاحتياط منعهم عن تعاطي ذلك الفن في حداثتهم؟ وأظن أنه لا يفوتك أن الأحداث وقد تمنطقوا يتخذون المنطق آلة لهو وتسلية، ويستخدمونه لمجرد المعارضة، ويقلدون في أعمالهم من اتصف بالمغالطة، مسرورين كالأجرية بتخديش كل من داناهم وتمزيقه بواسطة المنطق؟
غ :
يفعلون ذلك في دائرة واسعة.
س :
وإذا أحرزوا فوزا كبيرا أو أصابهم الاندحار هبطوا سريعا إلى جحد شعورهم السالف، فيحقرون أنفسهم والفلسفة في نظر الآخرين.
غ :
من كل بد.
س :
أما من كان أكبر منهم سنا فلا يسلم نفسه لهذا الجنون، بل يميل إلى اقتفاء آثار الذين يبحثون عن الحقيقة ويفحصونها لا غير، دون الذين يعارضون لمجرد التسلية. والنتيجة أن حزمه وتبصره يزدادان، عوض أن يسبب استهتارا عاما في نفسه في كل المذاهب.
غ :
مصيب.
س :
أولم نكن ندرس وسائل الاحتياط أيضا لما قلنا في بعض المرات السالفة: أن السجايا التي يجب أن يدرس أربابها المنطق يجب أن تكون ثابتة منظمة، وذلك ضد النسق المتبع اليوم، الذي يبيح درس المنطق لأي كان، ولو عديم الجدارة.
غ :
تأكيدا كنا ندرس رسائل الاحتياط.
س :
أفيكفي لدرس المنطق أن يستمر الرجل دارسا برغبة واجتهاد، تاركا لأجله كل ما سواه جانبا، كأن يترك كل شيء لأجل التمرين الرياضي، مضاعف المدة المخصصة للتمرين الرياضي؟
غ :
هل تعني أن تكون المدة أربع سنوات أو ستا؟
س :
لا بأس في جعلها خمسا، وبعدها نرسلهم إلى الكهف الذي وصفناه، ونأمرهم أن يتقلدوا القيادة في الحرب، وفي المناصب التي تستلزم شبيبة، ليمكنهم أن يحفظوا مركزهم إزاء جيرانهم. وهنا أيضا يمتحنون ثانية؛ ليظهر هل يثبتون رغم كل غواية؟ أو يتزعزعون قليلا عن ثباتهم؟
غ :
وكم من الزمان تعين لذلك؟
س :
خمس عشرة سنة. ومتى بلغوا الخمسين من العمر يرفع الذين غلبوا التجارب منهم، وفاقوا الأقران في كل فرع علما أو عملا، إلى المرتبة العليا، فيوجهون بصائرهم نحو الذي أفاض على الكائنات باهر أنواره، ويثبتونها عليه. ومتى رأوا «جوهر الخير» وجب أن يتخذوه مثلا ينسجون على منواله في تنظيم بلدهم ومواهبهم وأنفسهم. ويجب أن يشغل كل منهم في دوره باقي الحياة. ومع أنهم يشغلون القسم الأكبر من وقتهم في الأبحاث الفلسفية، فعلى كل منهم متى حان دوره أن يقف نفسه على مهام الدولة الصعبة، ويشغل المناصب لخير دولته ومصلحتها، لا كشيء مرغوب فيه، بل كواجب لا مندوحة عن القيام به. ومتى علموا وأعدوا من الاحتياطي عددا كافيا كما استعدوا هم ليملئوا مناصبهم كحكام الدولة، انسحبوا هم إلى جزائر الأبرار، فتقيم لهم الدولة الأنصاب على نفقة الجمهور، وتقدم لهم الذبائح كجبابرة (أنصاف آلهة) إذا أذن وحي بيثيا لذلك، وإذا لم يبح الوحي ذلك اقتصر على إكرامهم إكرام الأفاضل الأتقياء.
غ :
أنت كمثال يا سقراط، وقد وصفت نموذج حكامنا خاليا من كل عيب.
س :
قل: و«نساؤنا أيضا» يا غلوكون، ولا تزعمن أن تعاليمي تتطبق على الرجال أكثر مما على النساء، بناء على تمكننا من إيجاد نساء ربات مواهب تتفق مع المنصب.
غ :
أنت مصيب، إذ يشاطرن الرجل كل عمل حسب مبدأ المساواة الذي قررناه.
س :
أفتوافق أن نظريتنا في الدولة والنظام ممكنة التطبيق وليست مجرد رغبة وإن يكن تحقيقها صعبا؟ ويقوم إمكان تحقيقها بوسيلة واحدة، وهي أن تناط السلطة التامة في الدولة بفيلسوف واحد يشعر شعورا عميقا بخطورة الحق والشرف الناشئ عنه، ويحتقر الفخفخة احتقارا شديدا، ويعتبر العدالة أسمى الواجبات وأحقها، فيجري - كخادم ومحب خاص للعدالة - إصلاحا تاما في دولته.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
يجب فصل كل الذين تجاوزوا العاشرة، وإرسالهم إلى الأرياف، ويجب تربية أولادهم بعيدين عن تأثيرات السجية الشائعة التي يتصف بها آباؤهم وأتراب آبائهم، حسب قوانين الفلاسفة وعاداتهم التي مر وصفها. فقل: أليس هذه أسهل وسيلة وأسرعها لتمكين دولة ودستور كالذين مثلناهما، من الوجود والنجاح، فيكونان في الوقت نفسه بركة للأمة التي تأصلا في تربتها؟
غ :
بكل تأكيد هكذا. وأرى أنك أبنت يا سقراط الوسائط اللازمة لتحقيق دستور كهذا، إذا كان تحقيقه من الممكنات.
س :
أوليس ما قلناه كافيا في شأن الدولة وشأن الفرد الذي يمثلها؟ لأني أرى أي نوع من الرجال يجب أن يكون.
غ :
واضح، وأرى أن بحثك قد بلغ نهايته.
الكتاب الثامن: الحكومات الدنيا
خلاصته
يستأنف سقراط الكلام في مطلع الكتاب الثامن في الموضوع الذي كان قد بدأه في ختام الكتاب الرابع، لما قاطعه الكلام أديمنتس وبوليمارخس، وهو: بيان الأنواع الأصلية في النظام العقلي والتنظيم السياسي.
يمكن قسمة الحكومات إلى خمسة أنواع كبرى، هي: الأرستقراطية، والتيموكراسية، والأوليغاركية، والديموقراطية، والاستبدادية. ومن ثم كان هنالك خمسة أنواع عظمى من صفات الأفراد تطابق أنواع الحكومة الخمسة؛ لأن الدولة (يقول سقراط) نتائج أفراد أهاليها، فيرجع في درس سجيتها إلى درس سجيتهم.
بحثنا في الدولة الكاملة وفي الفرد الكامل، أي في الأرستقراطية والأرستقراطي، فبقي علينا أن نتتبع أصل الحكومات الدنيا الأربع، وأن نأتي على بيان سجيتها.
كل ذي بداءة ميال إلى الذبول، وعليه: ففي مجرى الزمان ينشأ الانقسام بين طبقات الأمة الكاملة الثلاث، كما بين أفراد كل منها. والنتيجة الراجحة هي حصول تسوية بين أحزاب الطبقتين العليين، غرضها اقتسام ثروة الطبقة الثالثة والهبوط بها إلى درك الخدمة والعبودية. وأشهر أوصاف دولة كهذه: ترجيح كفة العنصر الحماسي البادي في الحرب وروح المطامع والقلق، وهي ما يدعوه سقراط: التيموكراسي، الذي يتغلب فيه العنصر الحماسي ومحبة الشرف، ويمكن تمثيله لأنفسنا: بابن الأرستقراطي الذي أغرته العوامل الردية على العروج عن اقتفاء آثار والده، فتنمو محبة الثروة التي أدخلتها التيموكراسية نوعا، وتتزايد حتى تحوله إلى الأوليغاركية، التي لبابها جعل الثروة أساس الجدارة. وهو إثم فظيع، ومن نتائجه أن الثروة والفاقة يبلغان في الدولة أقصى مداهما، فتنقسم المدينة إلى قسمين: غني، وفقير، يبغض أحدهما الآخر ويكيد له. وعلى هذا النحو نمثل لأنفسنا الأوليغاركي ابن التيموكراسي، الذي صرمت فجأة حبال مطامعه، فعرج ولده عن مسلكه الشريف واستسلم لحب الربح، فيصير الانقسام في داخله كالدولة الأوليغاركية، مع أنه يحافظ على المظاهر لكي تقرب آماله بالنجاح في طلاب الثروة، فتنشأ بالتدريج طبقة خطرة على الدولة، هي طبقة الفقراء المعدمين، التي تنزع أخيرا إلى السلاح، فتقصي الأغنياء عن حدودها، وتوجب المساواة في الحقوق المدنية. هذه هي الديموقراطية، وأشهر أوصافها: «الحرية» المائلة إلى الاستباحة.
وجريا على الطريقة نفسها يقال إن الديموقراطي هو الرجل الذي أجلت رغبة الإسراف والتهتك فيه الرغبات المعتدلة وحب الاحتشام الموروثة عن والده، فيعيش متمتعا باللذات، تقوده مبادئ غيرمنتظمة، متنقلا من لذة إلى لذة كما يسوقه الهوى؛ لأن اللذات في مذهبه متماثلة، وتستحق التربية والرعاية على السواء، وبالاختصار شعاره: الحرية والمساواة.
ثم إن التطرف في الحرية التي امتازت بها الديموقراطية، يهيئ الطريق بواسطة رد الفعل إلى الاستبداد. ومستبد المستقبل هو:
أولا:
بطل الأمة المختار في النزاع بين الأحزاب الأوليغاركية، فتنمو قوته تدريجيا، وإذا نفي عاد أقوى مما ذهب.
ثانيا:
اختيار حرس خاص له تحت ادعاءات مريبة.
وأخيرا:
يتحول مستبدا تاما.
متن الكتاب
سقراط :
قد اتفقنا يا غلوكون في النقاط الآتية:
إذا أريد انتظام الدولة أفضل انتظام، وجب تقرير شيوعية النساء والأولاد، والتهذيب في كل فروعه، وكذلك شيوعية المناصب في حال السلم والحرب، وأن يكون الملوك ممن أظهر أعظم مكانة في الفلسفة، وأشد ميل إلى الحرب.
غ :
نعم، اتفقنا إلى هذا الحد.
س :
يضاف إلى ذلك أننا سلمنا أنه متى رسخ مركز الحكام لزم أن يحلوا جنودهم في مساكن مقررة الأوصاف، ولا يباح فيها حسب قرارنا ملك شخصي، بل تكون ملكا مشاعا للجميع، وقد قررنا - عدا تحديد حال البيوت إذا كنت تذكر - إلى أي حد نأذن لهم أن يقولوا عن شيء ما إنه ملكهم الخاص.
غ :
نعم، أذكر أننا قررنا أن لا يمتلك أحدهم ثروة، كما يفعل جميع الملوك الحاليين. وجزمنا أنه يحق لهم كحكام وجنود مدربة أن يتناولوا من الأهالي رواتب سنوية مقابل حكمهم، وأن يحصروا جهودهم في السهر على أنفسهم وعلى المدينة.
س :
أصبت. والآن قد أنهينا هذا الموضوع، فلنذكر نقطة افتراقنا لكي نتمكن من استئناف السير في سبيلنا القديم.
غ :
ليس ذلك بعسير، فقد كنت تتكلم بجد كما تفعل الآن، لتفهمنا أنك أنهيت البحث في الحكومة المثلى ووصفتها «بالصالحة»، ووصفت الرجل الذي يمثلها «بالصالح». مع أنه كان في إمكانك على ما يظهر أن تخبرنا عن أفضل دولة وأفضل رجل، وقد صرحت في ذلك الحين أنه إذا كانت دولتك على هدى فكل دولة سواها على ضلال. وأذكر أنك قلت في ما يتعلق بالنظم الباقية أن هنالك أربعة رئيسية جديرة بالاعتبار، ملاحظا مساويها، عاطفا النظر على الأفراد الذين يمثلونها في دورهم، حتى إذا ما وقفنا على أحوالهم كافة، واتفقنا من هو أفضلهم وأرداهم، تمكنا من النظر في: هل أفضلهم أسعدهم وأرداهم أشقاهم؟ ولما سألتك أن تصف النظم قاطعك بوليمارخس وأديمنتس الكلام، فانتهجت في الحديث المنهج الذي أفضى لك إلى موقفك هذا.
س :
نعم الذاكرة ذاكرتك.
غ :
فاسمح لي إذا أن أغالبك كالمصارعين في موقفي السابق فأعيد مسألتي الآنفة، وتفضل بإبداء ما في فمك من كلام.
س :
سأبذل جهدي.
غ :
فرغبتي الخاصة هي أن أعرف الحكومات الأربع التي ذكرتها.
س :
لا صعوبة في إجابة سؤالك، فالنظم التي أشرت إليها هي ذات الأسماء التالية:
الأولى :
حكومة كريت وسبرطا التي أجمع الناس على امتداحها.
الثانية :
تليها في الترتيب الحكومة الأوليغاركية كما يدعونها، وهي ملأى بالمساوي.
الثالثة :
الديموقراطية، ضد الأوليغاركية وخليفتها.
الرابعة :
وأخيرا الحكومة الزاهية، وهي «الاستبداد»، المغايرة كل الحكومات الآنفة، بل هي عبارة عن شر أدواء الدولة. ولا أراك قادرا أن تذكر هيئة سياسية أخرى مستقلة الوضع، لعلمي أن الحكومات الصغرى من سلطنات وإمارات وما على شاكلتها من الهيئات المنظمة، يمكن اعتبارها داخلة في سلك هذه الأربع كحلقات صغرى، وهي معروفة عند اليونانيين والبرابرة.
غ :
إنا نسمع كثيرا عن حكومات كهذه.
س :
أوتعلم أن أنواع السجية البشرية تساوي أنواع النظم عددا؟ أوتظن أن تلك الدول نبتت على شجرة أو صخرة، لا على تربة صفات الأفراد الأدبية في كل دولة باعتبار رجحان كل صفة منها في كفة الميزان، وجرها كل شيء في أثرها؟
غ :
أظن أن النوع الثاني هو أصلها الوحيد.
س :
فإذا كانت أنواع الحكومات خمسة، فهنالك حتما خمسة أنواع من النظام العقلي في أفراد الناس.
غ :
يقينا.
س :
لقد نظرنا في الإنسان الذي يمثل الأرستقراطية، وبالصواب حكمنا أنه عادل وصالح.
غ :
نظرنا وحكمنا.
س :
فهل نخفض النظر إلى أنواع الناس الدنيا، وهم: الجشع المشاغب الذي يطابق نظام سبرطا، والأوليغاركي، فالديموقراطي، فالمستبد، لكي نرسل النظر في أبعدهم عن العدالة، ونقابلهم بأعدل الناس؟ وعلى هذه الصورة نتمم بحثنا في جزاء العدالة الخالصة، والتعدي الكلي، باعتبار سعادة أصحابهم أو شقائهم، فإما أن نسمع كلام ثراسيماخس ونتبع التعدي، أو نخضع لبينات البحث الحالي فنتبع العدالة.
غ :
يجب أن نفعل ذلك من كل بد.
س :
فننظر جريا على أسلوبنا الذي اخترناه منذ البداءة في صفات الدولة الأدبية، قبل النظر في صفات الأفراد؛ لأن هذا الأسلوب يؤدي إلى وضوح أتم، فإذا شئت نبحث أولا في النظام الطموحي (ليس عندي اسم أطلقه عليه، فأدعوه تيموكراسية أو تيماركية)، ومنه أتقدم إلى النظر في الرجل الطموح. ثم ننتقل إلى الأوليغاركية والأوليغاركي. وبعد نظرنا في الديموقراطية نحول النظر إلى الرجل الديموقراطي. وأخيرا ندخل الدولة التي يحكمها مستبد، وننعم النظر فيها وفي النفس التي تمثلها، وحينذاك يمكنا أن نكون قضاة أكفاء للحكم في القضية.
غ :
أسلوب كهذا أقل ما يقال فيه أنه معقول.
س :
فلننظر أولا في نشوء التيموكراسية من الأرستقراطية، أفلا يصح أن نضع القاعدة الآتية: يبدأ التطور في كل نظام بلا استثناء في الهيئة الحاكمة، وفيها فقط حين تتصدع؟ وما دام أفراد تلك البيئة على وفاق يستحيل أن تهتز الدولة مهما تكن صغيرة؟
غ :
بلى، إن ذلك حق.
س :
فكيف تتزعزع دولتنا يا غلوكون؟ وكيف يحصل الشقاق بين الحكام ومساعديهم، أو بين أفراد هاتين الفئتين؟ أمن رأي هوميروس أنت؟ فترجع إلى إلاهات الفن لتنبئك كيف حصل أول تصدع؟ أو تقول إنهم يتلاعبون في الكلام بأسلوب من أساليب المآسي، فيوردونه بصورة الجد والترصن، وهم يهزءون بنا كأننا أطفال لديهم؟
غ :
وما هو جوابهم؟
س :
هو مقارب ما يأتي: يعسر أن تتزعزع دولة تنظمت على ما ذكرنا. ولكن لما كان كل مخلوق في هذه الدنيا عرضة للزوال، فليس من المحتمل أن يبقى إلى الأبد حتى ولا نظام كهذا، بل ينحل ويكون تفكك أوصاله على النحو الآتي: ليس المملكة النباتية وحدها، بل والحيوانية معها أيضا، معرضة لتعاقب الخصب والقحل جسدا وعقلا، وهذا التعاقب يجري طبقا لنظام دوري تقصر مدته أو تطول، حسب طول حياة الأشياء. وبالنظر إلى خصب جنسك أو قحله أقول، ولو كان الأشخاص الذين هذبتهم وأعددتهم للمناصب حكماء، إلا أنهم لارتباط عقولهم بالحواس، فبالرغم من كل ملاحظة وحساب يجهلون الوقت الملائم، فتزل بهم القدم ويلدون أحيانا في غير الوقت الصحيح. أما دورة التوليد الإلهي فهي في العدد التام، وأما دورة مواليد الناس فتتعين بعدد هندسي، وعليها تتوقف حالة المواليد من خير أو شر، فحين يأذن حكامك جهلا منهم بقران في غير وقته، فلا تكون ثمرة قران كهذا سعيدة أو منعمة، فيتملك أفضلهم بقوة السلف عن غير جدارة ذاتية. ولما كانوا قد شغلوا مناصب آبائهم فإنهم يبتدئون يستخفون بنا، مسيئين في الواجب عليهم كحكام، فيزدرون أولا الموسيقى، ثم الجمناستك، فيتهذب شبانك تهذيبا رديا، والنتيجة أنه يتبوأ المناصب من يقصر عن التمييز بين أجناسك وبين أجناس هسيودس، أي بين الذهب والفضة، وبين النحاس والحديد. وإذا مزج الحديد بالفضة، والنحاس بالذهب، ولد شذوذا متنافرا عديم المساواة، وحيث تأصل ذلك أثمر عداء وحربا، فيمكننا الجزم في أن قيام جيل كهذا مصحوب بالتصدع.
غ :
نعم، وسنسلم أن جواب إلاهات الفنون هو الجواب الصحيح.
س :
كيف لا وإلاهات الفنون قد قالت؟
غ :
وماذا قالت إلاهات الفنون أيضا؟
س :
متى حصل التصدع مال القسمان إلى التباعد، فيميل العنصران الحديدي والنحاسي إلى الأرباح، واقتناء الحقول والفضة والذهب، ويتحول العنصران الغنيان البعيدان عن الفاقة نحو الفضيلة ونظام الأشياء القديمة. على أن النزاع المتبادل بين الحزبين ينتهي بالتفاهم المتبادل والاتفاق على اقتسام الأراضي والبيوت، واستعباد أصحابها السالفين وتحويلهم إلى طبقة سفلى كعبيد أرقاء، للخدمة في الحرب والدفاع عن سلامة أسيادهم.
غ :
أتيقن أنك وصفت الانتقال إلى التيموكراسية.
س :
أولا يؤسس هذا النظام وسطا بين الأرستقراطية والأوليغاركية؟
غ :
بالتأكيد.
س :
فما هي خطة الدولة بعد التحول؟ أليس واضحا أنها والحالة هذه لما كانت في منتصف الطريق بين حكومتها الماضية وبين الأورليغاركية، ماثلت الماضية ببعض الأوصاف والأوليغاركية بالبعض الآخر، مع وجود خصائص ذاتية فيها؟
غ :
حتما هكذا.
س :
فحينذاك باعتبار ما تؤديه الطبقة المحاربة للقضاة، وباعتبار تنحيها عن الزراعة والصناعة وسائر الحرف المنتخبة، وبفتحها مطاعم قومية، ومزاولتها الجمناستك الذي تستلزمه الحرب، في كل هذه النقاط تماثل النظام القديم. ألا تماثله؟
غ :
بلى.
س :
أما تخوفها في من توليه منصب الحكم؛ لأن الحكماء الذين في حيازتهم طبقة غير نقية تمام النقاوة، بل هم مزيج، يميلون في انحطاطهم إلى الذين يتغلب فيهم ضيق الصدر والحدة ورجحان الميل الحربي، وفي قدرهم الحركات التي يستلزمها فن الحرب، وفي قضائهم الحياة بالضغائن، في كل هذه الأمور تبدي خلقا ذاتيا. ألا تبدي؟
غ :
تبدي.
س :
فبينما فطرتهم الجشعة تسوقهم إلى إنفاق أموال الآخرين مع الضن بأموالهم الخاصة؛ لأنهم يقدرونها عظيم القدر ويكتمون أمرها، مستمتعين بملاذهم السرية، هاربين من الشريعة هرب الصغار من والديهم؛ لأنهم بالقوة تربوا لا بالإقناع، لاستهتارهم بالموسيقى الحقيقية المقرونة بالبحث الفلسفي العظيم، وإيثارهم الجمناستك عليها.
غ :
حقا إنك تصف نظاما مركبا من خير وشر.
س :
نعم إنه مركب، على أنه باعتبار تعظيم العنصر الحماسي. وهنالك أمر خاص في أظهر مجاليه، وهو روح التحزب وحب التمايز.
غ :
حتما.
س :
هذا هو أصل النظام، وهذه هي أوصافه إذا اكتفينا بالتلخيص دون أن ندقق فيها، وهو أمر لا نقصده؛ لأننا لا نقدر أن نميز بين الرجل الأعدل والأظلم في هذا الملخص، ولأن التمادي في شرح الأوصاف مما لا طائل تحته.
غ :
مصيب.
س :
فأي رجل يمثل هذا النظام؟ ما أصله وما صفته؟
أديمنتس :
أراه باعتبار روح الحزبية يمثل صاحبنا غلوكون أضبط تمثيل.
س :
ربما صح فيه ذلك كحزبي، ولكن باعتبار النقاط الآتية لا أرى طبيعة غلوكون تطابقه.
غ :
وما هي تلك النقاط؟
س :
إنه أعند من غلوكون، وأقل غراما بالآداب، ومع أنه يدرس ويرغب في سمع الخطباء ليس بخطيب. رجل هذه خلته لا يحتقر العبيد كالإنسان الكامل التهذيب، مع كونه قاسيا في معاملتهم ولطيفا في معاملة الأحرار. يخضع كل الخضوع للقضاة، ولوعا بالشهرة والمدح، لا يتطلبهما بواسطة الخطابة والسلاح والأعمال الحربية والسياسية، واقفا وقته على الجمناستك والرياضية.
أد :
حقا، إن هذا هو الخلق الذي يطابق هذه الحكومة.
س :
زد على ذلك: ألا يكون شخص كهذا مزدريا الثروة في صباه، لكنه يزداد حبا لها كلما كبر؟ فإنه على احتكاك دائم بطبيعة محبي المال، وسجيته غير سليمة من الوصمة؛ لأنه اعتزل أفضل حاكم.
أد :
ومن هو ذلك الحاكم؟
س :
البحث العقلي الممتزج بالفلسفة، وهو وحده بوجوده واستقراره يقي صاحبه، ويمكنه من الاحتفاظ بالفضيلة مدى الحياة.
أد :
حسنا تكلمت.
س :
هذا هو خلق التيموكراسي، الذي يمثل الدولة التيموكراسية.
أد :
يقينا.
س :
ويمكن تعقب أصله على الصورة الآتية: أنه ابن رجل فاضل، ولا يبعد أنه سكن مدينة ساء نظامها، فتجنب الرفعة والمناصب والمرافعات، وأمثال ذلك مما يلابس الروح المتمردة، مؤثرا الخسارة على المشاغبة.
أد :
صف لي تكون خلق كهذا.
س :
يؤرخ ذلك منذ إصغاء الشاب لوالدته تتذمر من تنكب زوجها عن مناصب الحكومة، فصيرها بذلك وضيعة القدر بين زميلاتها، ومن أنها لم تره يعبأ كثيرا بالمال، ولم يزاحم أحدا ولم يناضل أحدا كغيره من المرافعين في رده القضاء، وفي المجامع المدنية، فكان يزدري كل هذه الأمور. وكانت تلوح عليه دائما ظاهرات التفكر، ولم يوجه نحوها اعتبارا كبيرا، مع أنه لا يحتقرها. فإذ تمتلئ حنقا على هذا كله تقول لولدها: أن أباه ليس رجلا، وأنه كثير الإهمال والتراخي، وأمثال ذلك من الأقوال التي اعتادت الزوجات أن تفوه بها لإعابة أزواجهن.
أد :
ولهن كثير مما يقال جريا على خلقهن الخاص.
س :
وأنت عالم أن خادمات شخص كهذا المكترثات لمصالح سيدهن، يتلون أحيانا عبارات من هذا النوع على مسمع ولده، فإذا رأين أحد مديني والده، أو ممن أساءوا إليه بشيء ولم يصدر بحقهم قرار محكمة، فإنهن يحرضن الولد متى بلغ سن الرشد على الانتقام من أناس كهؤلاء، فيكون أشد رجولة من أبيه.
وحين يخرج الشاب إلى الخارج تطرق سمعه وبصره أشياء كهذه من الآخرين، منها أن المسالمين العاكفين على أعمالهم الخاصة في المدينة يدعون سذجا، وهم قليلو الاعتبار، والذين يكثرون التدخل في شئون الغير هم مكرمون ومحترمون.
فإذ يسمع الولد ويرى كل ذلك، ويقارن بينه وبين ما كان يسمعه من والده، وهو قلما وفق في فحص مسالك الآخرين فحينذاك يصير بين قوتين تتجاذبانه إلى جهتين متضادتين: من الجهة الواحدة والده يغذي القسم العقلي فيه ويسقيه، ومن الجهة الأخرى الناس يغذون العنصر الغضبي والشهوي في طبيعته ويسقونه. ومع أنه ليس شابا رديا فقد اختلط بمعشر ردي، فبلغ بتأثير العوامل المتضادة فيه نقطة متوسطة بين القوتين، وسلم زمام الحكم في داخله للعنصر المتوسط فيه، الحاد المزاج المشاغب، فصار نزقا ذا حدة وأطماع.
أد :
يلوح لي أنك أتيت على تصوير نشوء هكذا بالضبط.
س :
فقد وقفنا على النظام الثاني والإنسان الثاني.
أد :
وقفنا عليهما.
س :
أفلا تقول مع أسخليس:
لمختلف الممالك في البرايا
رجال بالطباع ذوو اختلاف
أولا نبدأ بوصف الدولة اطرادا لخطتنا؟
أد :
من كل بد.
س :
حسنا، فالنظام الذي يليه في الترتيب هو الأوليغاركي.
أد :
وماذا تعني بالنظام الأوليغاركي؟
س :
أعني به قدر الرجال بثروتهم، فيحتكر الأغنياء الحكم، وليس للفقير فيه حظ ما.
أد :
فهمت.
س :
أفلا نصف خطوات الانتقال الأولى من التيموكراسية إلى الأوليغاركية؟
أد :
بلى، نصفه.
س :
لا شك في أنه حتى الأعمى يدرك كيف حصل ذلك الانتقال.
أد :
وكيف ذلك؟
س :
إن الذهب المتدفق إلى كنوز القوم هو الذي قوض دعائم النظام الذي أتينا على ذكره؛ لأن أول نتائجه هي أن أرباب تلك الأموال اكتشفوا طرقا للإنفاق، فنبذوا الشرائع نبذ النواة ظهريا، وداسوا أحكامها هم وأزواجهم.
أد :
وإنه لمستغرب أن لا يفعلوا ذلك.
س :
وإذا لم أكن مخطئا فإنهم يشرعون في مراقبة أحدهم الآخر بعين الغيرة، فينطبع هذا الخلق على المجموع الذي هم أعضاؤه.
أد :
ذلك ما نتوقعه.
س :
فيتهافتون على حشد المال، فيفقدون الفضيلة ويفقدون قدرهم بقياس ذلك التهافت. هل تنكر الشقة الواسعة بين الفضيلة والثروة؟ فإنهما إذا وضعتا في كفتي ميزان رجحت إحداهما بقدر ارتفاع الأخرى.
أد :
ذلك حق بالتمام.
س :
ومتى علا قدر الثروة والمثرين في دولة، بخست الفضيلة والفضلاء أقدارهم.
أد :
واضح.
س :
وكل ما عظم راج، وكل ما حقر أهمل.
أد :
يقينا.
س :
فبعد ما كان أشخاص كهؤلاء محاربين طموحين، تحولوا عباد الأرباح، فيمدحون الأغنياء ويجلونهم ويولونهم المناصب، ويزدرون الفقراء ويهملونهم.
أد :
أكيد إنهم يفعلون ذلك.
س :
فيسنون شريعة هي لباب النظام الأوليغاركي، ويعينون مبلغا من المال كثر أو قل حسب المبدأ الأوليغاركي، يحظرون الاشتغال بالحكم على من لا يملكه، وينفذون شريعتهم بقوة السلاح إذا لم ينجحوا قبلها بتأليف الحكومة بالأراجيف التي سبقوا فنشروها.
أد :
إنك مصيب.
س :
هذا هو النظام الأوليغاركي بالحرف الواحد.
أد :
حقيق. فما هي صفة هذا النظام، والمساوي التي نعزوها إليه؟
س :
أول مساويه دستوره، تأمل ماذا تكون النتيجة إذا انتقينا ربابنة السفن باعتبار ثروتهم دون جدارتهم الفنية، ورفضنا ذا الجدارة في الملاحة لفقره.
أد :
تكون حالة محزنة في أسفار البحر.
س :
ألا ينطبق هذا الحكم على كل إدارة وكل عمل مهما يكن نوعه؟
أد :
هكذا أظن.
س :
أفتستثني الدولة من هذا الحكم؟ أم ترى أنه يشملها؟
أد :
بل أراه يشملها بقياس صعوبة إدارتها وسموها.
س :
فهذه واحدة من مساوي الأوليغاركية، وهي محزنة.
أد :
بكل وضوح.
س :
وهل الخطيئة الثانية أخف منها؟
أد :
وما هي؟
س :
تخسر مدينة كهذه وحدتها وتصير اثنتين، الواحدة مؤلفة من الفقراء، والأخرى من الأغنياء، والفريقان ساكنان معا، يكيدان أحدهما للآخر.
أد :
أؤكد أنها ردية.
س :
ولا يستحسن عجزهم (كما لا بد أن يكون) عن أصلاء نار الحرب؛ لأنهم إذا سلحوا العامة واستخدموهم، روعهم هؤلاء أكثر من العدو الخارجي، وإذا ترددوا في استخدامهم وجب أن يظهروا أوليغاركيين حقيقيين في المعركة الفعلية. ويجب أن نضيف إلى ذلك أن محبتهم المال تعارض الميل لدفع ضرائب الحرب.
أد :
إنك مصيب.
س :
ولنرجع إلى النقطة التي ذكرناها تكرارا فيما سلف: أتظن أن من الصواب أن يتعاطى الأفراد أكثر من عمل واحد في وقت واحد، من زراعة وتجارة وحرب، وهو الواقع في نظام كهذا؟
أد :
لا، لا كلام في هذه الخطيئة.
س :
فانظر هل الخطيئة التالية أفظع الخطيئات التي يؤدي إليها هذا النظام؟
أد :
وما هي؟
س :
أريد بها عادة السماح لواحد أن يبيع ثروته، فيقتنيها سواه، فيسكن البائع الدولة من غير أن يكون جزءا منها؛ لأنه ليس تاجرا، ولا صانعا، ولا فارسا، ولا جنديا من المشاة، بل فقيرا معدما.
أد :
لم يسمح بفعلة كهذه في أحد النظم السالفة.
س :
ولا يمتنع سقوط ضحايا كهذه في مدن النظام الأوليغاركي، وإلا لما كان بعض أتباعه غاية في الثراء، والبعض الآخر غاية في الفاقة.
أد :
حقيق.
س :
دعني ألفت نظرك إلى نقطة أخرى: لما كان المرء ينفق الدراهم في أيام غناه، هل كان فيه مثقال ذرة من الفائدة للدولة، باعتبار السبب الذي نصفه الساعة؟ أو أنه مع ظهوره بأنه واحد الحكام لم يكن واحدا منهم على التحقيق ولا خادما للدولة، بل هو مستهلك ثروتها؟
أد :
بل هو ذاك الثاني، فإنه وإن ظهر حاكما فإنما هو مستهلك.
س :
أفتريد أن نحسبه كذكر النحل الذي هو كوباء في القفير؟ هذا هو المسرف بلاء على الدولة.
أد :
لا شك في ذلك يا سقراط.
س :
أوليس صحيحا يا أديمنتس، أنه وإن لم يسلح الله ذكور النحل الطائرة بحمات، فقد سلح ذكور النحل البشريين بحمات لاذعة؟ ومع أن الخالين من الحمات يقضون العمر متسولين، فأصحابها هم الذين يؤلفون كل نوع من المجرمين.
أد :
بأكثر تحقيق.
س :
فواضح إذا أنك متى رأيت متسولين في مدينة، تعلم أنه يكمن فيها لصوص ونشالون وسارقو هياكل، وأخدان كل نوع من أمثال هذه الجرائم.
أد :
حقيق.
س :
ألا ترى المتسولين كثيرين في مدن الحكم الأوليغاركي؟
أد :
بلى، كل الأهالي عدا الحكام متسولون.
س :
أفمن رأينا ما يأتي أم لا؟ أن هنالك أشرارا كثيرين أيضا في أمة ذات حمات من هذا النوع، والحكام يجهدون في خضدها.
أد :
إنه من رأينا بكل تأكيد.
س :
أفلا نقول إن نقص التهذيب، وسوء حال الجمهورية، وفساد نظام البلاد، هي العوامل التي أوجدت هذا النوع من الناس فيها؟
أد :
بلى نقول.
س :
حسنا، فهذه وأمثالها هي حال دولة تحت الحكم الأوليغاركي، وهذه هي خطيئاتها إذا لم نقل أكثر من ذلك.
أد :
لست بعيدا عن الصواب.
س :
فلنختم بحثنا في الجمهورية المدعوة أوليغاركية، وهي التي يتعين حكامها بقياس الثروة، ولننظر في الإنسان الذي يمثلها، كيف نشأ؟ وأي نوع من الناس هو؟
أد :
فلننظر في ذلك من كل بد.
س :
ألا يتم انتقال الإنسان من التيموكراسية إلى الأوليغاركية، على الصورة التالية أو ما يقاربها؟
أد :
وما هي؟
س :
كان للتيموكراسي ولد يفتخر بوالده ويقتفي خطواته، فانتبه الولد بغتة، وإذا به يرى والده غائصا مع الدولة كما لو كان على صخرة غارقة، يراه بعد ما قاد جيوش وطنه، أو شغل ساميات المناصب قد قيد للمحاكمة؛ لأن الوشاة عطلوا سمعته، فإما أن يحكم عليه بالإعدام، أو ينفى، أو تنتزع حريته ويسلب كل أرزاقه.
أد :
ذلك ممكن الحدوث.
س :
حسنا يا صديقي. فلما رأى الولد ذلك وفقد كل ثروته، ذعر ذعرا شديدا، وسقطت للحال عن عرش نفسه المطامع والمروءة، ولانت شكيمته، وأكب على جمع المال بسبب فقره، فاقتصد دريهمات قليلة، أنماها وزادها حتى جمع ثروة. أفلا تظن أن إنسانا كهذا ينصب على عرش نفسه عنصري الشهوة والطمع ويمسحهما ملكا شرقيا مزدانا بالتاج المثلث والصوالجة والختوم؟
أد :
أظن.
س :
وأظن أنه يطرح الصفتين: العقلية والحماسية، إلى جانبيه كخدم وعبيد، فلا يأذن للأولى أن تبحث في شيء أو تسأل عن شيء، إلا كيف تنمي الثروة. ولا يدع الأخرى تحترم أو تكرم سوى الغنى والأغنياء، ولا ترغب في مطمع إلا المال أو ما يؤدي إلى إحرازه.
أد :
لا تغير أشد وأسرع من تغير هذا الشاب من طامح إلى الرفعة، إلى طامح بالربح.
س :
فقل لي: أأوليغاركي شخص كهذا أم لا؟
أد :
على كل حال إن الولد الذي ولد منه هذا الإنسان يمثل نظاما هو سابق نظام الأوليغاركية.
س :
فلننظر هل يمثل هذا (الولد) الأوليغاركية.
أد :
فلننظر.
س :
أول كل شيء: ألا يمثل الأوليغاركية بتعليقه أعظم شأن بالمال؟
أد :
أكيد إنه يمثلها بذلك.
س :
وأيضا في كونه مقترا كدودا، يقتصر على سد رمقه بأقل نفقة.
أد :
بالتمام.
س :
وبعبارة أخرى: إنه إنسان خسيس، ينتزع الربح من كل مصدر ويحرص عليه. رجلا يجله الكثيرون من الناس. أمخطئ أنا في زعمي أن هذا هو حال رجل يمثل النظام الذي نصفه؟
أد :
إذا أردت رأيي فإني أراك مصيبا. على كل فالدولة الأوليغاركية والشخص الذي هو تحت البحث، كلاهما يقدر المال فوق كل شيء.
س :
وأظن أن سبب ذلك هو أنه لم يكلف نفسه عناء التهذيب.
أد :
لا أظن، وإلا لما اتخذ له قائدا أعمى وشرفه فوق الحد.
س :
فدعني أسألك ألا يمكننا القول إن رغباته الطفيلية، المماثلة رغبات ذكر النحل، وهي إما تسولية أو جنائية، تنمو فيه لسبب نقص تهذيبه، وأن اعتبارات أخرى حكيمة تقمعها؟
أد :
مؤكد يمكننا القول.
س :
أوتعلم أين يجب أن نفتش على مضارها؟
أد :
أين؟
س :
في كون «ذكور النحل» أوصياء على اليتامى، أو ما هو من هذا النوع مما يسهل فيه الارتكاب.
أد :
حقيق.
س :
أفلا يتضح من ذلك أنه في معاملاته الأخرى التي يضمن له فيها ظاهر عدالته حسن السمعة، إنما كان يقمع طائفة من الشهوات الردية في نفسه التي لم يخضعها بواسطة الذهن، أو بالامتناع بأن أكفاءها خطأ فظيع. ولكن الضرورة ومخاوفه الخاصة علمته أن يقمعها؛ لأنه كان يرتجف خوفا على ثروته.
أد :
واضح كل الوضوح.
س :
حقا يا صديقي، إن إنفاق هؤلاء القوم ما ليس لهم يريك أنهم يمتلكون شهوات ذكور النحل.
أد :
يمتلكونها بكل تأكيد.
س :
إنسان كهذا هو بعيد عن السلام الداخلي، رجل ذو رأيين، لا ذو رأي واحد، مع أنه غالبا يشعر أن رغباته الدنيا مقهورة أمام العليا.
أد :
حقيق.
س :
ولذا أظن أن هذا الإنسان يبدي ظاهرا أفضل من ظاهر كثيرين، أما فضيلة النفس الحقيقية المقترنة بالاتساق، فهي مناط الثريا.
أد :
هكذا أظن.
س :
والمقتر مزاحم صغير في الحياة المدنية في كل ما سبق، وفي كل مكافأة على امتياز شريف؛ لأنه لا ينفق من ماله ليربح لنفسه شهرة، حذارا من إيقاظ ملكة الإنفاق في نفسه، باستفزازها للاشتراك في معترك كهذا، فيتبع في جهاده النمط الأوليغاركي، أي إنه يحارب بقسم صغير من قوته. وعلى الغالب يصون كيسه ويرضخ للاندحار.
أد :
تماما هكذا.
س :
أفنتردد في تصديق المطابقة التامة والمشابهة الصحيحة، بين الدولة الأوليغاركية وبين المقتر المتصيد الأموال؟
أد :
كلا البتة.
س :
والآن نلوي عنان البحث لفحص الطرق التي بها تنشأ الديموقراطية، والسجية التي تقتبسها يوم تنشأ؛ لكي نتمكن من الكشف عن طبيعة الرجل الذي يمثلها ونقيمه أمامنا للحكم عليه.
أد :
نعم، يلزم أن نخطو هذه الخطوة.
س :
ألا يتم الانتقال من الأوليغاركية إلى الديموقراطية بالرغبة الوثابة العفيفة في الثروة الطائلة، التي يعتقد العامة أنها أعظم البركات، ويحسبون اقتناءها ضربة لازب؟ ويتمشى الانتقال على الصورة التالية.
أد :
أرجوك أن تصفها.
س :
لما كانت قوة الحاكمين في الدولة الأوليغاركية متوقفة كل التوقف على ثروتهم، كانوا يأبون أن يمنعوا شبان العصر المتهتكين من تبذير ثروتهم؛ لأنهم يأملون أنهم بانتزاع أرزاق هؤلاء بإقراضهم إياهم الأموال بالفوائد الفاحشة، يزدادون ثروة وشرفا.
أد :
ليس في ذلك أدنى شك.
س :
أوليس واضحا أنه يستحيل على أفراد الدولة حينذاك إطراء الثروة، مع المحافظة التامة على العفاف؛ لأنهم لا يأمنون إغفال أحد المطلبين: إما الغنى، أو العفاف.
أد :
غاية في الوضوح.
س :
فحكام دول كهذه بإباحتهم غير المشروعة التهتك المطبق، قد يجرون الشبان الكرام المحتد إلى الفقر.
أد :
نعم يجرونهم.
س :
فيكمن شبان بلوا بالفقر على هذه الصورة في زوايا المدينة، مجهزين بالأسلحة وبالحمات، بعضهم مدفوع بالديون، وبعضهم بحرمانه من الحقوق المدنية، وبعضهم مدفوع بالأمرين معا، فيكيدون للأغنياء المحدثين ويبغضونهم لانتزاعهم ثروتهم منهم، كذا يفعلون بكل من يفضلهم كثيرا، ويهيمون بحب الثورة.
أد :
حقيق.
س :
ومن الناحية الأخرى: هؤلاء الماليون يظلون يرمقون مصلحتهم بالنظر، كأنهم لا يرون موقف أعدائهم، ومتى آنسوا فرصة في أحد المتخلفين طعنوه في الصميم بنبال أموالهم المسمومة، واستردوا منه الفوائد أضعاف رأس المال، وبهذه الوسيلة يكثر المتسولون وذكور النحل في الدولة.
أد :
ذلك ما يفعلون.
س :
ولا تتجه همتهم إلى استئصال شأفة هذا الشر المستطير، بميسم تحريم بيع الشعب أرزاقه للإنفاق على لذاته، أو بوضع قانون جديد لاتقاء هذا الخطر.
أد :
وأي قانون تعني؟
س :
أعني به القانون الذي يلي قانوننا الأول حسنا، موجبا على الأهالي اقتناء الفضيلة؛ لأنه إذا جعل قانون العقود الاختيارية على مسئولية المتعاقدين، كانوا أقل وقاحة في معاملاتهم المالية في المدينة، وكانت الشرور التي نحن في صددها أقل انتشارا.
أد :
نعم، أقل كثيرا.
س :
فوالحالة هذه، حين يقابل الحكام والرعية أحدهما الآخر، إما في سفر أو في شغل آخر، سواء أكان ذلك زيارة الأماكن المقدسة، أم حملة عسكرية يخدمون فيها في الجيش أو في البحرية، أم حين يشهد أحدهم تصرف الآخر في ساعات الخطر، حيث لا يسع الغني أن يزدري الفقير؛ لأنه كثيرا ما يحدث أن الغني الذي تربى في بحبوحة العيش، وأتخم بوفرة الخيرات، يجد نفسه كتفا إلى كتف مع فقير شديد العضل لوحته الشمس، وهو (الغني) يلهث منهوكا، فحينذاك أتظن أنه يذهب عن ذهن الفقراء في موقف كهذا، أن نذالتهم كانت العامل في إثراء أقوام عديمي الجدارة كهؤلاء؟ أوتظن أنه يمكن أحدهم ألا يهمس إلى أذن أخيه قائلا: إن حكامنا طبول فارغة؟
أد :
كلا، إني أعلم أنهم يفعلون هكذا.
س :
كما أن الجسم المصاب لا يحتاج إلى أكثر من سبب من الخارج ليثور عليه المرض، وأحيانا ينقسم على ذاته من غير عامل خارجي، هكذا الدولة، فإنها تمثل الجسم المعتل في شئونها، فلا تحتاج إلى أكثر من مستند طفيف من حليف خارجي اتصل بأحد أحزابها من مدينة أوليغاركية، أو من حليف آخر من مدينة ديموقراطية، لتفشي داء خطر ونشوب حرب أهلية. أولا تضطرم منازعات الأحزاب أحيانا دون ما تأثير خارجي؟
أد :
تضطرم بالتأكيد.
س :
فتنشأ الديموقراطية بفوز الفقراء، فيقتلون بعض خصومهم، وينفون غيرهم ويتفقون مع الباقين على اقتسام الحقوق والمناصب المدنية بالتساوي، ويغلب في دولة كهذه أن تكون المناصب بالاقتراع.
أد :
لقد وصفت نشأة الديموقراطية، سواء تم ذلك بالحرب أو بانسحاب خصومها من الميدان مذعورين.
س :
فأخبرني كيف يتصرف هؤلاء في إدارة الدولة؟ وما هي صفات هذا النظام الثالث؟ وواضح أننا سنجد الإنسان الذي يمثله مطبوعا بطابعه وموسوما بميسمه.
أد :
حقيق.
س :
فأول كل شيء: أليسوا أحرارا، أوليست حرية القول والفعل فاشية في الدولة، فيفعل المرء ما يشاء؟
أد :
هكذا قيل لنا.
س :
وحيث فشت الإباحة رتب كل فرد نظام حياته وفقا لملذاته.
أد :
واضح أنه يرتبه.
س :
وعليه: أرى أن ينشأ في هذه الجمهورية أعظم تباين في الخلق.
أد :
ينشأ من كل بد.
س :
وقد يكون هذا النظام أجمل النظم؛ لأنه مزخرف بكل أنواع السجايا، فيلوح جميلا كالثوب المزركش بكل أنواع النقوش، وقد يعجب الكثيرون بهذه الجمهورية كأجمل الأشياء إعجاب النساء والأولاد بالثياب الزاهية الألوان.
أد :
كثيرون يعجبون بلا شك.
س :
نعم يا صديقي الفاضل، وإذا كنا نفتش عن جمهورية فمن حسن الرأي إيجادها.
أد :
ولماذا؟
س :
لأنها تحوي كل أنواع الحكومات بسبب الإباحة التي ذكرتها، وإذا أراد أحد أن يؤسس دولة كما كنا نعمل الساعة، فليقصد إلى مدينة ديموقراطية، سوق الجمهوريات، ويختار الصفة التي تخلب لبه ويؤسس دولته عليها.
أد :
ويمكننا أن نقول آمنين سلامة العواقب: إنه لن يحار في اختيار نماذج.
س :
ثم إنك غير مضطر أن تتوج منصبا في هذه الدولة، وإن تكن فيك المواهب التي يستلزمها الحكم، ولا تضطر إلى الخضوع للحكومة إذا لم تكن مريدا، أو أن تذهب إلى الحرب لأن مواطنيك خاضوا عبابها، أو تطلب السلام لأنهم طلبوه. ثم تأمل في أنه ولو أنكر القانون عليك أن تتولى المناصب، أو تتقلد الحكم، فإنك تفعل هذا وذاك إذا تسنى لك، غير هياب. فقل: أليس نمط حياة كهذه سارا كثيرا، ولو إلى حين؟
أد :
نعم، ربما إلى حين.
س :
أوليست وداعة بعض المجرمين في المحكمة أمرا نفيسا؟ أولم تلاحظ أن أناسا محكوما عليهم بالإعدام أو بالنفي في هذه الدولة، لا يزالون يسرحون في عرض الشارع ويمرحون مرح الأبطال في ميدان العرض، كأن لا أحد يراهم أو يسأل عنهم؟
أد :
لاحظت أمثلة كثيرة من هذا القبيل.
س :
أوليس بديعا صبر الحكومة وتفوقها التام في زهيد الأمور، بل كرهها التعليم الذي أثبتناه لما أسسنا دولتنا، وهو أنه: لا أحد يمكنه أن يكون صالحا ما لم يكن ذا عبقرية خارقة، وقد ألف الموضوعات الجميلة منذ حداثته، ودرس الدروس العالية؟ فما أفظع فعلتها في دوس هذه القوانين بقدميها، دون أن تكلف نفسها أقل عناء، في اقتفاء آثار السابقين في مضمار السياسة ممن بلغ مراتب الشرف، إذا أبدوا حسن نية نحو العامة.
أد :
كبرت فعلة تصدر منهم.
س :
هذه بعض خصائص الديموقراطية، ويمكننا أن نضيف إليها بعضا آخر من أمثالها، والأرجح أن تكون جمهورية مستحبة، فوضوية، ملونة، تعامل جميع الأفراد بالمساواة، سواء كانوا متساوين أو لا.
أد :
إن حقائق تجليها هي غاية في الوضوح.
س :
فأذن لي أن أسألك أن تفحص خلق الفرد الذي يطابقها، فهل نبدأ بالبحث عن أصله كما فعلنا بالجمهورية؟
أد :
نعم.
س :
أفلست مصيبا في ظني أنه الابن الأوليغاركي الشحيح، الذي تربى في كنف والده وتخلق بخلقه؟
أد :
دون شك إنه هو.
س :
وهذا الابن كأبيه، يقمع الشهوات التي تميل به إلى التبذير، لا إلى جمع المال. أعني الشهوات التي عرفت أنها لذات غير ضرورية.
أد :
إنه يقمعها.
س :
ولئلا نخبط خبط عشواء، أفتريد أن تحدد الشهوات الضرورية والشهوات غير الضرورية؟
أد :
إني أريد.
س :
أفليس من العدالة إطلاق لفظ «ضرورية» على الشهوات التي يتعذر علينا هجرها، والتي سدها خير لنا؟ لأن طبيعتنا لا يمكنها ألا تشعر بهذين النوعين من الرغبات. أيمكنها؟
أد :
مؤكد أنه لا يمكنها.
س :
فنحن إذا مزكون بادعائنا ضروريتها.
أد :
مزكون.
س :
أولسنا مصيبين إذا قلنا إن الشهوات غير الضرورية هي ما يمكننا تركه في التهذيب الباكر، والتي وجودها لا يأتينا بنفع، بل قد يكون ضارا.
أد :
إنا مصيبون.
س :
أفلا يحسن بنا أن نورد مثلا من نوعي الشهوات كليهما، ليكون عندنا صورة عامة منهما؟
أد :
ذلك لازم حتما.
س :
أفليست شهوة الطعام (الخبز واللحم البسيط) اللازم للصحة والذي اعتاده الجسم، ضرورية للحياة؟
أد :
هكذا أظن.
س :
وشهوة اللحم ضرورية، على الأقل لسببين، كونها نافعة، وكونها ضرورية لقوام الحياة.
أد :
نعم.
س :
وشهوة الخبز ضرورية بقياس تأديتها إلى تحسين صحة الجسم.
أد :
مؤكد.
س :
وأما شهوة اللحوم الأخرى غير البسيطة التي يمكن الأكثرين تجنبها، وهي مضرة للجسم وللنفس أيضا في سبيل طلابها الحكمة والعفاف، فمن الصواب إدراج شهواتها في قائمة «الشهوات غير الضرورية».
أد :
غاية في الصواب.
س :
ألا تحسب شهوات النوع الثاني خاسرة والأولى رابحة؛ لأنها تساعد على الإنتاج؟
أد :
بلا شك.
س :
أفيمكننا أن نحكم في الحب وفي باقي الشهوات هذا الحكم نفسه؟
أد :
نعم.
س :
أولم نصف الرجل الذي لقبناه مؤخرا «بذكر النحل» بأنه مثقل باللذات والرغبات الخاسرة، وأنه محكوم بشهوات غير ضرورية؟ ووصفنا الرجل الذي تحكمه الشهوات الضرورية بأنه شحيح وأوليغاركي.
أد :
وصفناهما دون شك.
س :
فلنعد إليهما، ونبين كيف تحول الأوليغاركي ديموقراطيا؟
أد :
وكيف حصل ذلك؟
س :
أريد أن تفرض أن بدء تحول الشاب من أوليغاركي قلبا وقالبا إلى ديموقراطي يؤرخ منذ ذاق عسل ذكور النحل، بعدما نشأ كما كنا نقول الساعة في الجهل والشح، وتعرف إلى وحوش ضارية جهنمية، قادرة أن تمده بكل نوع من اللذات العديدة والوجهات المتنوعة.
أد :
لا يمكنني إلا أن أفرض.
س :
أويمكننا أن نقول: إنه كما تحولت الدولة إلى أحد النوعين بمساعدة حليفة خارجية تجمعها بها صبغة مشتركة، كذلك يتحول الشاب بمساعدة خارجية تساعدها أنواع الشهوات، فتهيب بها إلى أحد النوعين اللذين فيه بداعي العلاقة والمجانسة؟
أد :
مؤكد أنه يمكننا.
س :
وإذا عضد العنصر الأوليغاركي حليف خارجي ناشئ إما عن والده أو عن أقاربه الذين أنبوه وبكتوه، فحينذاك ينشب في داخله نضال هائل بين الميلين.
أد :
بلا شك.
س :
وقد يستسلم الميل الديموقراطي في داخله إلى القوة الأوليغاركية، فتتمزق بعض الشهوات، أو تنفى بسبب وجود حاسة الخجل في عقل الشاب، فيستتب فيه النظام.
أد :
ذلك ما يحدث أحيانا.
س :
على أن شهوات جديدة نسبية التي أبعدت تنشأ فيه خفية، وبسبب نقص في تدريب والده تزداد عددا وحولا.
أد :
هذا هو الواقع عادة.
س :
فتجره هذه الشهوات إلى محبة القديم باقترانها فيه سرا، فتتوالد بكثرة.
س :
وأخيرا تحاصر الشهوات حصن قلب الشاب لخلوه من المعرفة الصحيحة والطلب الجميل، والنظريات السديدة التي تسهر على مراقبة نفوس الذين تحبهم الآلهة.
أد :
وذلك هو أفضل.
س :
ولتعزيز مركزها تنفث في نفسه ميلا إلى الصلف والغرور وآراء زائفة، فتنتزع منه حصن النفس.
أد :
هكذا تفعل.
س :
أفلا يعود إلى الشهوات ويساكنها؟ وإذا بعث أحد أقاربه بنجدات إلى العناصر المقتصدة في نفسه أوصد الميل إلى الغرور والصلف في وجهها أبواب الحصن الملوكية، فتحول دون دخولها، وتمنع وصول النصائح إلى نفسه كالسفراء الدوليين. أولا تقاتلها مواجهة وتربح المعركة، فتصف الحياء بالحماقة، وتطرحه خارجا كأسير حقير، وتطرد العفاف مهانا، ملقبة إياه جبانة؟ أولا تبرهن بمساعدة الشهوات الأخرى العديمة النفع، على أن التوفير والاتزان فظاظة وجهل، فتبعدهما إلى ما وراء الحدود؟
أد :
هكذا تفعل بكل تأكيد.
س :
فبهذه الصورة تخلي نفس أسيرها من الفضائل، وتحل محلها المخازي الكبرى، وتتقدم إلى إرجاع التمرد والتهتك والوقاحة، تصحبها السفاهة والشراهة بحاشية كبيرة بأبهة عظيمة وهي متوجة، فتفخمها وتلقبها ألقابا أنيقة، فتدعو السفاهة: حسن التربية، والتمرد: دماثة، والفوضى: حرية، والتهتك: فخامة، والوقاحة: شجاعة. أفليس هذا هو الطريق الذي فيه يهوي الشاب بعد ما تربى على رعاية الرغبات الضرورية فقط، لينجو من رق الاستعباد، ويقمع الشهوات غير الضرورية واللذائذ الضارة؟
أد :
ينحدر بكل وضوح.
س :
ثم ينفق هذا الإنسان مالا ووقتا وجهودا على اللذات غير الضرورية كما على الضرورية، وإذا كان حسن الحظ لم يغرق في الفجور. ومتى تقدم في السن وخف ضوضاء الشهوات في نفسه، يسترد بعض تلك الفضائل المقصاة عنه، ولا يسلم نفسه للغزاة تسليما كليا، وفي تلك الحال لا يميز بين لذاته، بل يسير مع أية لذة عرضت له في طريقه، وبعد أن يسد هذه يلتفت إلى الأخرى، فلا يحتقر إحداها، بل يرعاها سواء بسواء.
أد :
بالتمام هكذا.
س :
وإذا قيل له إن بعض اللذات صالح شريف وبعضها سافل شرير، وإنه يجب اتباع تلك واعتبارها، وهجر هذه واحتقارها، رفض هذا التعليم الصحيح ولم يأذن بدخوله إلى نفسه، بل يهز رأسه لدى سماع هذه الأقوال هزة الإنكار، مصرا على أن الشهوات كلها متماثلة، وتلزم رعايتها على السواء.
أد :
نعم، هذه حاله وهذا هو تصرفه.
س :
فيعيش يوما فيوما يساير الشهوة الطارئة، آونة يشرب على نغمات الموسيقى مع مزاولة التمارين الرياضية، وآونة يكسل فيهمل كل شيء، ثم يعيش عيشة طالب الفلسفة، ويغلب أن يشترك في المصالح العمومية وينهض إلى الخطابة، مدفوعا إليها بعامل حالي، وتارة يقتفي خطوات كبار القواد، متهافتا على امتيازاتهم، ثم يتحول تاجرا حسدا منه للتجار الناجحين. وليس في حياته نظام ولا قانون رادع ، بل يعكس على مسراته وحريته وسعادته إلى نهاية الحياة.
أد :
لقد أجدت وصف الحياة التي يحياها من كان شعاره «الحرية والمساواة».
س :
نعم، وأراها حياة متعددة الوجهات، كثيرة الأوصاف، وأرى هذا الإنسان بما فيه من مختلف الأوصاف الجميلة يمثل بطبعه المدينة التي أتينا على وصفها: رجلا يحسده كثيرون وكثيرات، وفيه مثل كثيرة لمختلف الجمهوريات والنظم.
أد :
حقيق.
س :
فماذا نفعل إذا؟ أنجعله مثلا للديموقراطية ثقة منا بأنه بحق دعي ديموقراطيا؟
أد :
نجعله كذلك.
س :
بقي علينا فقط أن نصف أجمل الجمهوريات وأجمل الناس، أي الاستبدادية والمستبد.
أد :
إنك مصيب تماما.
س :
هلم يا رفيقي العزيز، وقل كيف نشأ الاستبداد؟ فالواضح أنه يتخطى إليه من الديموقراطية.
أد :
واضح.
س :
فهل تلد الديموقراطية الاستبداد حتما على النحو الذي ولدتها الأوليغاركية؟
أد :
أوضح ذلك.
س :
الخير الأعظم عند الأوليغاركي هو المال الكثير، الآلة التي بها شيد بنيانه. أليس كذلك؟
أد :
نعم، هو المال.
س :
فالرغبة الزائدة في طلب المال والتضحية بكل شيء في سبيل الحصول عليه، قوضتا ركن الأوليغاركية.
أد :
حقا.
س :
أفيمكننا أن نقول إن الديموقراطية كالأوليغاركية، تقتلها الرغبة الزائدة في ما تحسبه خيرها الأعظم؟
أد :
وما الذي تظنه خيرها الأعظم؟
س :
هو «الحرية»، فإنها أجمل ما في الديموقراطية؛ ولذا كانت الملاذ الأوحد لمن فطر على حب الحرية.
أد :
حقا، إن هذه هي اللهجة المتبعة.
س :
فلنعد إلى العبارة التي كنت أحاول الساعة أن أصوغها، وهي: أمصيب أنا في قولي إن الرغبة الزائدة في شيء واحد وإغفال كل ما سواه، تحول الديموقراطية كما حولت الأوليغاركية، وتمهد السبيل إلى الاستبداد؟
أد :
وكيف ذلك؟
س :
حين تزول الدولة الديموقراطية المتعطشة إلى الحرية تحت سيطرة رؤساء أشرار، وتتجاوز الحد في ارتشاف كئوس الحرية، أرى أنها تشرع في مقاضاة حكامها كأوليغاركيين أشرار، وتروم معاقبتهم بهذه التهمة، إلا إذا رضخوا لها كل الرضوخ، وصبوا لها كأس الحرية مترعة.
أد :
ذلك ما يحدث.
س :
وتهين الخاضعين للحكام وتلقبهم «عبيدا مختارين» و«حاشية النفع». أما الحكام الذين يقلدون الرعية والرعية التي تقلد الحكام، فتمدح على السواء وتكرمهما سرا وجهرا. ألا ينتج عن ذلك أن الحرية تبلغ في هذه الدولة أقصى مداها؟
أد :
أكيد، إنه ينتج.
س :
نعم يا صديقي، أفلا تتسرب عدوى الفوضى الفاشية في الدولة إلى البيت وتنتشر في كل ناحية، وأخيرا تتأصل حتى في البهائم؟
أد :
وماذا نفهم من ذلك؟
س :
أعني أن الوالد يقلد طفلا فيبدي الخوف من أولاده، والولد يقلد رجلا فيمتهن والديه ولا يهابهما إظهارا لحريته. وأن الأهالي والدخلاء والأجانب كلهم على قدم المساواة.
أد :
إنك مصيب باعتبار نتائج هذه الأشياء.
س :
أطلعتك على بعض النتائج، فدعني أطلعك على بعض آخر. يهاب الأستاذ تلاميذه في تلك الأحوال ويملقهم، ويحتقر الطلاب معلميهم ومهذبيهم، وبالإجمال: يمثل الأحداث الشيوخ ويقارعونهم قولا وفعلا، ويسفل الشيوخ في تمثيل الصغار فرحا ومرحا، لئلا يظهروا على زعمهم شكسين أو متنفذين.
أد :
تماما هكذا.
س :
وأقصى ما يبلغ أهالي هذه الجمهورية من الحرية أيها الصديق، هو تطاول العبيد من الجنسين على حرية أسيادهم، وقد فاتني أن أذكر إلى أي حد تمتد هذه الحرية المتبادلة بين الرجال والنساء.
أد :
أفلا ننبس ببنت شفة، جريا على قول أسخيلس.
س :
من كل بد، وإني ممن يفعلون ذلك حين أخبرك أن من لم يختبر بنفسه لا يصدق أن البهائم تمتلك حرية في هذه الحكومة أكثر من كل حكومة أخرى، فتبدي الخيول والحمر بطرها بما أحرزت من حرية ورفعة، فتجري سراعا صادمة كل من لا يحيد عن سبيلها. وعلى هذا القياس تتمادى الحيوانات الأخرى في الحرية.
أد :
إنك تقص علي حلمي، فإن ذلك ما اختبرته في تجوالي في الأرياف.
س :
فلنجمع كل هذه الأمور معا، أفتدري أنها تنتهي عند هذا الحد، وهو أن الأهالي نظرا إلى شدة إحساسهم لا يحتملون أدنى إشارة إلى الاستعباد؟ وأنت عالم أن الأمر ينتهي بهم إلى ازدراء الشرائع المكتتبة والشفاهية لئلا يروا - على قولهم - «ظل سيد».
أد :
أعلم ذلك جيدا.
س :
فهذه هي البداءة الجميلة السارة أيها الصديق، إذا لم أكن مخطئا ، التي منها يتولد الاستبداد.
أد :
حقا إنها سارة. فماذا يحدث بعد ذلك؟
س :
يفشو في الديموقراطية الداء الذي فشا في الأوليغاركية فدمرها، ويزيد في هذه سما وفتكا بسبب إباحة المحيط، فيؤدي ذلك إلى الاستعباد. وكل محاولة تبذل للتغلب على سير الحوادث العامة تؤدي إلى نقيض المقصود منها. هذا الحكم نافذ في كل أنواع الحكومات، ولا يختص بفصول السنة، وبمملكتي النبات والحيوان.
أد :
إن ذلك طبيعي.
س :
ولا يمكن أن تفضي الحرية الزائدة إلى غير العبودية الزائدة، سواء في هذا الحكم الدول والأفراد.
أد :
إنها تفضي إلى ذلك.
س :
فالأرجحية الكبرى قاضية بأن تكون الديموقراطية والديمقراطية وحدها واضعة أسس الاستبداد، أي إن أشد حرية وأعظمها تضع أسس أشد استبداد وأثقله.
أد :
أجل، إنه بيان معقول.
س :
ولكن ليست هذه مسألتك، بل كنت تسأل: ما هو الداء الذي يشتد في الأوليغاركية والديموقراطية فيحول هذه إلى الاستعباد؟
أد :
هذه هي مسألتي.
س :
حسنا. إني أشير إلى طبقة الكسالى والمسرفين التي يكون فيها الشجاع قائدا والجبان تابعا، وقد شبهنا أولهما بذكر النحل ذي الحمة، والثاني بعديم الحمة إذا كنت تذكر.
أد :
أذكر ذلك. وبحق هما كما تقول.
س :
فهاتان الفئتان هما كالبلغم والصفراء في الجسم العضوي، يسببان اضطرابا في كل حكومة، فيلزمهما طبيب نطاسي وقاض خبير كمربي النحل، يحتاط للأمر فيحول دون نشوئهما إذا أمكن، وإذا ظهرا فإنه يقصيهما بأسرع ما يمكن مع أقراص الشهد التي يصنعانها.
أد :
ذلك هو الواجب من كل بد.
س :
فلنضع المسألة بهذه الصورة لنرى ما نروم رؤيته على وجه أوضح.
أد :
وكيف ذلك؟
س :
لنفرض أن الديموقراطية قسمت إلى ثلاث فئات كما هو الواقع، يؤلف الذين وصفناهم كما أسلفنا إحدى هذه الفئات، وتنتشر فيها الإباحة كما في الأوليغاركية.
أد :
حقيق.
س :
ولكنها أشد في الأولى منها في الأخرى.
أد :
وكيف ذلك؟
س :
كانت هذه الفئة في الأوليغاركية مرذولة محرومة من المناصب، فاتصفت بالضعف ونقص الخبرة. أما في الديموقراطية فهي - إلا بعض أفرادها - صاحبة الأمر، فيجهر أشد أعضائها بالقول والفعل، ورفقاؤهم من حولهم على المقاعد يجأرون بالاستحسان دون معارضة، فتدار كل أعمال الجمهورية - إلا ما ندر - بأيدي هؤلاء.
أد :
مؤكدا.
س :
أضف إلى ذلك فئة ثانية فصلت عن المجموع.
أد :
وما هي؟
س :
إذا انصب الجميع على حشد المال فأكثرهم انتظاما بالطبع يصيرون أغناهم.
أد :
أرجح حدوث هذا، فأستخلص من ذلك أن أسرع وأغزر ما يجني هؤلاء الناس عسل يشتريه ذكور النحل.
أد :
الأمر أكيد؛ لأنه كيف يتسنى للفقراء أن يشتروه؟
س :
ويدعون مثرين، وذلك يعني في عرفانهم أنهم علف ذكور النحل.
أد :
ذلك قريب جدا من الواقع.
س :
وجمهور العامة هو الفئة الثالثة، وهم العاملون بأيديهم. لا يتدخلون في السياسة وليسوا أغنياء كثيرا. وهذه الطبقة أوفر عددا في الديموقراطية وأعظم شأنا، اللهم إذا اجتمعت كلمتها.
أد :
حقيق. ولكن اجتماع كلمتها نادر، إلا إذا أصابت قسطا من العسل.
س :
ولذا تصيب على الدوام قسطا منه، بشرط أن يحتفظ زعماؤها لأنفسهم بالقسم الأكبر من أموال المثرين التي يستلبونها منهم، ويوزعونها على العامة إذا أمكنهم ذلك.
أد :
لا شك في أنها تصيب سهما من العسل بهذه الوسيلة.
س :
فتقضي الضرورة على المسلوبين بالتزام خطة الدفاع عن أنفسهم، بالخطب في جماهير العامة على قدر طاقتهم.
أد :
دفاعهم مقرر.
س :
ولهذا السبب يتهمون بالثورة على الأمة ولو كانوا لا يريدون الثورة، وبأنهم أوليغاركيون.
أد :
لا شك في ذلك.
س :
فيصيرون أخيرا أوليغاركيين حقيقيين أرادوا أو لم يريدوا؛ لأنهم يرون العامة مقتنعة بأنهم أوليغاركيون لنقص معلوماتها، وقيام الوشاة ضدهم بحملة منظمة، قصد إفساد سمعتهم وإقناع العامة بأن الأغنياء أوليغاركيون. هذه إحدى مساوي ذكور النحل أرباب الحمات، الذين أتينا على ذكرهم.
أد :
حتما هكذا.
س :
فتقوم المرافعات ويثور الاضطهاد، وتصدر الأحكام من كل فئة ضد أختها.
أد :
حقيق.
س :
أوليس من عادة العامة اختيار بطل خاص يولونه قضيتهم، ويحتفظون به ويعظمونهم؟
أد :
نعم، إنها عادتهم.
س :
وحيث نشأ الاستبداد كان ممكنا الرجوع في درس تاريخه إلى هذه البطولة، وهي الأصل الذي منه نشأ الاستبداد.
أد :
ذلك واضح.
س :
فما هي الخطوات الأولى في تحول البطل إلى مستبد؟ أيمكننا أن نرتاب في أن التحول يؤرخ منذ شروع البطل في عمل الرجل المذكور في أسطورة هيكل زفس الليسي بأركاديا؟
أد :
أية أسطورة؟
س :
إن العابد الذي يذوق معى الإنسان ممزوجة بمعى الذبائح يتحول ذئبا. ألم تسمع هذه الأسطورة؟
أد :
بلى سمعتها.
س :
فمتى رأى بطل العامة منها هذا الرضوخ إلى حد أنه لا حاجة فيه إلى إراقة دم القريب، أفلا يضطهدهم بدعوى مختلقة شأن أمثاله؟ فيلطخ يديه بالدم ويزهق الأرواح البشرية، فيمتص دماءهم بشفتين نجستين، ويلحسهما بلسان غير طاهر؟ فينفي ويقتل ويصدر أمرا بإلغاء الديون وإعادة توزيع الأراضي. ألا يلزم عن ذلك أن رجلا كهذا، إما أن يغتاله أعداؤه، أو أنه يزداد استبدادا فيتحول ذئبا؟
أد :
لا مندوحة عن أحد هذين الأمرين.
س :
هذا مصير الرجل الذي يناوئ الماليين.
أد :
هذا هو.
س :
فإذا نفي ثم عاد من منفاه رغما عن مقاومة أعدائه، أفلا يعود مستبدا تاما؟
أد :
واضح أنه هكذا يحدث.
س :
وإذا رأى أعداؤه أنهم عاجزون عن نفيه بواسطة الشكاية يكيدون له سرا لاغتياله.
أد :
هذا ما يحدث عادة.
س :
فتداركا لهذا الخطر ابتكر كل من ولي الأحكام الحيلة المبتذلة، وهي أنه يطلب من الأمة أن يعين حرسا خاصا لئلا يخسروا صديقهم المفدى.
أد :
تماما هكذا.
س :
فيلبي العامة هذا الطلب لجزعهم عليه، مع أنهم آمنون على حياتهم.
أد :
تماما هكذا.
س :
والنتيجة: أنه متى لاحظ ذلك مثر، ممن يمقتون الديموقراطية، فحينذاك يحدث ما نص عليه الوحي وهو بيد كريسيس، وهو:
يطير ملتفا بثوب هرمس
دون وقوف في دياجي الغلس
لجبنه شأن أخس الأنفس
أد :
لا مندوحة له عن الجبانة.
س :
ومن قبض عليه من أعدائه فإلى الإعدام.
أد :
بالتأكيد.
س :
أما البطل ففي مأمن ممن وقعوا تحت نيره الثقيل، فلقد أوقع كثيرين وفاز بنفسه بمركبة الدولة، وتحول إلى مستبد عظيم.
أد :
لا غنى عن ذلك.
س :
أفنبحث في سعادة الإنسان وسعادة المدينة التي ينشأ فيها ابن الموت هذا؟
أد :
بكل تأكيد. فدعنا نفعل ذلك.
س :
أفلا يهش في مستهل حكمه وأوائل استبداده ويبش؟ أولا يحيي من قابله منكرا أنه مستبد؟ ويكثر من الوعود في السر والعلن؟ أوليس مما يفعله أيضا إلغاء الديون، وتوزيع الأراضي على العموم، ولا سيما على أشياعه؟ ويتظاهر بالوداعة والحنان على الجميع؟
أد :
لا يمكن أن يكون غير ذلك.
س :
ومتى أراح نفسه من أعدائه، بعضهم نفيا وبعضهم صلحا، يشرع في شن الغارات ليظل الشعب في حاجة إلى قائد؟
أد :
هذا مسلكه الطبيعي.
س :
أوليس من مقاصده أن يفقر شعبه بكثرة الضرائب، فيصيرون محتاجين إلى القوت اليومي؛ ولهذا السبب يصبحون أقل استعدادا للتآمر عليه.
أد :
واضح أنه كذلك.
س :
أومخطئ أنا في ظني أنه إذا ارتاب في بعضهم بأنهم يبثون في الأمة روح الحرية لكي لا يدعوه يملك بسلام؛ وطن النفس على القذف بهم إلى ميدان الأعداء لينجو منهم، فيكون شغله الشاغل إصلاء نار الحرب؟
أد :
ذلك لازم.
س :
أفلا تزداد الرعية بذلك مقتا له؟
أد :
من كل بد.
س :
أولا ينتج بالضرورة أن بعض أشياعه يصارحه برأيه ويبادله الأفكار عائبا عليه إدارته؟
أد :
هكذا ينتظر الإنسان.
س :
فإذا رام الطاغية أن يستتب له الأمر، وجب أن ينحي كل هؤلاء من طريقه، فلا يبقى على ذي جدارة من أعدائه ولا من أصدقائه.
أد :
واضح أنه يفعل ذلك.
س :
فيرقبهم مدققا ليرى من فيهم رجل، ومن كريم النفس، ومن نبيه أو غني. ولحسن حظه أراد أو لم يرد فالضرورة قاضية عليه أن يكون عدوا للجميع، وأن يكيد لهم حتى يطهر المدينة منهم.
أد :
واضح أنه يفعل ذلك.
أد :
يا له من تطهير عظيم.
س :
نعم. فإنه يفعل ضد ما يفعله الأطباء في تطهير الأجسام، أولئك يخرجون من الجسم المواد الفاسدة ويبقون الجيدة، أما المستبد فيخرج الجيد ويبقي الفاسد.
أد :
هذه خطته: الوحدة ليستتب له الحكم.
س :
فهو مقيد بأقصى ضرورة، إما أن يعيش بين أشخاص منحطين أكثرهم عديمو النفع ويكون مكروها منهم ، أو أنه لا يعيش.
أد :
هذا هو التخيير.
س :
وبقياس ازدياد بغضهم له لسوء سلوكه، يرى أنه في حاجة إلى حرس أوفر عددا وأصفى إخلاصا له. أليس كذلك؟
أد :
من المعلوم أنه كذلك.
س :
فمن يأتمن إذا؟ ومن أين يأتي بخدم أمناء؟
أد :
يأتونه على جناح السرعة إذا جاد عليهم بالمال.
س :
أقسم أنك تفكر بمجموع من أجانب ذكور النحل.
أد :
لم تخطئ الظن.
س :
أفيتردد في تجنيد الجنود في الحال؟
أد :
وبأي طريقة.
س :
بانتزاع العبيد من حوزة الوطنيين وتحريرهم، وإدماجهم في الحرس الخاص.
أد :
لا يتردد في ذلك لأن أشخاصا كهؤلاء محط ثقته.
س :
وما أسعد تعنته بالاستبداد إذا اتخذ رجالا كهؤلاء أصدقاء وملازمين أمناء بعد أن أفنى الأولين!
أد :
حقا إنه يسلك هذا المسلك.
س :
أفلا يعتبره أصحابه هؤلاء كثيرا ويصحبه الشبان منهم، أما الكاملون فيبغضونه ويهجرونه؟
أد :
وكيف يمكن أن يكون غير ذلك؟
س :
فلم يخطئ الناس في حسبانهم المآسي مجلى حكمة، ويوربيدس أمهر كتابها حكيما.
أد :
لأي سبب؟
س :
لأنه قال القول التالي، وهو مظهر عقل وتفكر: المستبدون حكماء في محادثة الحكماء. ولا ريب في أنه أراد بالحكماء: أشياع المستبد.
أد :
ومن مزايا الاستبداد العديدة أنه محسوب إلهيا عند يوريبيدس وعند غيره من الشعراء.
س :
فسيعذرنا كتاب المآسي كأناس حكماء، مع مقتبسي نظامنا جمهوريتنا، على رفضنا دخولهم في دولتنا لأنهم مطرئو الاستبداد.
أد :
وأظن أن كل كتاب المآسي الأدباء سيعذروننا.
س :
وأعتقد أنهم في الوقت نفسه سيطوفون الدول الأخرى ويجمعون الجموع ويستأجرون أناسا مفوهين ذوي أصوات عالية، يجرون الناس إلى الديموقراطية والاستبداد.
أد :
مؤكد أنهم يفعلون ذلك.
س :
فيكافئون على هذه الخدمات، ولا سيما من قبل المستبدين، كما نتوقع من قبل الديموقراطية في دائرة ضيقة. وعلى قياس ارتفاعهم في الدولة يقل إكرامهم بالتدريج، كأنه عجز عن الارتقاء لضيق النفس.
أد :
تماما هكذا.
س :
قد خرجنا عن موضوع البحث، فلنعد إليه. كيف يعال جيش المستبد القوي الجرار، المتعدد الأنواع، المعرض لأنواع التغير والتبدل؟
أد :
الأمر واضح : أنه إذا كان في المدينة أوقاف فإن المستبد يبيعها وينفق ثمنها عليهم مهما ينتج عن ذلك، ويوالي هذا العمل من حين إلى حين، تخفيفا للضرائب عن مناكب الأمة.
س :
وإذا نضب هذا المورد، فماذا يفعل؟
أد :
واضح أنه يمد يده إلى أرزاق والديه لإعالة نفسه ورفاقه الثملين ورجاله ووصيفاته.
س :
فهمتك. إنك تعني أن العامة الذين ولدوا الطاغية يعولونه وأتباعه.
أد :
لا يمكنه التنصل من ذلك.
س :
أرجو أن توضح فكرك، فإذا رفض الجمهور هذه المهنة، وزعموا أنه ليس من العدالة أن يعول الوالد ابنه الراشد، بل بالعكس، يجب على الابن أن يعول والده، وأنهم ولدوا الطاغية وعالوه لا ليصيروا عبيدا له متى اشتد ساعده، ويمولونه مع جماعة الغوغاء، بل لكي يتحرروا تحت إدارته من أغنياء الأمة «السراة» كما يدعون. وعلى فرض أنهم طردوه من المدينة مع رفقائه كما يطرد الوالد ولده من بيته مع أصحابه السكيرين المشاغبين، فماذا يلي؟
أد :
لا ريب في أن العامة سيفعلون ذلك؛ لأنهم يكتشفون ضعفهم إزاء من ولدوا وربوا وعظموا، وأنهم وقفوا في طرده موقف الضعيف تجاه القوي.
س :
ماذا تعني؟ أيجرؤ الطاغية على والده، فيرفع يده عليه ويضربه إذا عجز عن إقناعه؟
أد :
نعم، إنه يفعل ذلك متى انتزع سلاح والده.
س :
فطاغيتك إذا عقوق يغتال والده، قاسي القلب على الشيوخ، فتكون الحكومة من ثم مستبدة جهرا، كما يقول المثل: قفز العامة من مقلاة الأحرار، فسقطوا في نيران الاستبداد التي أضرمها العبيد. وبعبارة أخرى: إنهم أبدلوا الحرية السابقة أوانها، باستبداد هو أشد مرارة من كل أنواع الاستبداد.
أد :
هذا هو مجرى الأمور بلا ريب.
س :
حسنا. أفيخالفوننا إذا حسبنا أننا قد بحثنا بحثا كافيا في انقلاب الديموقراطية إلى استبدادية، وأبنا أوصاف الاستبداد حين نشأ؟
أد :
قد بحثنا بحثا كافيا.
الكتاب التاسع: المستبد
خلاصته
وأخيرا نأتي إلى المستبد، وهو ابن حقيقي للديموقراطي: رجل تسوده شهوة واحدة، تسعى تدريجيا لحماية كل الشهوات الأخرى وسد أشواقها، وهو مملوء بالأشواق ميال أبدا لسدها بتضحية كل رباط طبيعي ، وهو متمرد متعد نجيس. هذا هو مستبد دولة الاستبداد المستقبل.
الدول كالأفراد باعتبار نسبتها إلى السعادة والشقاء، وواضح أن الدولة الأرستقراطية أفضل الدول وأسعدها، ولا نكير أن الاستبدادية أشدها تعسا وشقاء؛ ولذا كان الأرستقراطي أفضل الحكام وأسعدهم، والاستبدادي بالقياس نفسه أردؤهم وأتعسهم.
ثم إن في نفس الإنسان كما بينا ثلاثة مبادئ خاصة: العقلي أو الحكيم، والغضبي أو الشريف، والشهوي أو محب الكسب؛ فالفيلسوف يعظم الحكمة كمصدر أعظم لذة، ورب الجهود يمجد الشرف، ومحب الربح يطري الثروة، فأي هؤلاء الثلاثة على هدى؟ أيهم يحكم أعدل حكم؟ واضح أنه الفيلسوف؛ لا لأنه وحده مختبر أنواع اللذات الثلاثة فقط، بل لأن العضو الذي يصدر الأحكام مختص به. فنستنتج أن لذائذ الحكمة لها المنزلة الأولى، ولذائذ المجد المنزلة الثانية، وللثروة الثالثة. فقد وجدنا أن الحكمة والفضيلة والسعادة أمور متلازمة لا تفترق، وأيضا: من يستطيع أن يقول ما هي اللذة بالتحقيق؟ من غير الفيلسوف يعرف كنهها؟ وهو وحده خبير بالحقائق، فنحن على حق إذا قلنا إن اللذة الحقيقية تحصل حين تحسن النفس توقيع اللحن بإدارة محب الحكمة، أو المبدأ العقلي، فكلما كانت الرغبة (الشهوة) أعقل، كانت سعادتها أوفى، فما كان أكثر نظاما وشرعا هو أكثر عقلا، ورغبات الأرستقراطي هي الأكثر نظاما وشرعا، فسدها أكثر إسعادا. ومن الناحية الأخرى رغبات المستبد أبعد رغبات عن الشريعة والنظام؛ ولذا كان سدها أقل لذة. وها نحن قد وجدنا ثانية أن الأرستقراطي أسعد من المستبد.
والآن نحن في مركز النقد لتعليم ثراسيماخس القائل: أنه لخير المرء أن يكون متعديا إذا أمكنه التملص من عقوبة جرائمه، بتلبسه بظاهرات العدالة: فيمكننا أن نصور النفس البشرية بصورة مؤلفة من رجل وأسد وأفعى متعددة الرءوس، وقد اتحد الثلاثة في شكل بشري، ومتى تم ذلك أمكننا القول إن من يدعي أن التعدي موافق، فهو بمثابة المصر على أن الموافق هو تجويع الإنسان وإضعافه، وتغذية الأسد والحية وتقويتهما، على أن ذلك فرض غريب، فإذا اعتبرنا كل ما تقدم استنتجنا أن الأفضل للإنسان أن يحكمه مبدأ إلهي عادل، ويجب أن يكون ذلك المبدأ في داخله إذا أمكن، وإلا فرض الحكم عليه من الخارج، ليسود التلاؤم علاقاتنا الاجتماعية باعترافنا بسيادة واحدة عامة. وغرض العادل الخاص حفظ التلاؤم بين الظاهر والباطن، وهو الذي يفرغ نفسه في قالب الجمهورية الكاملة التي ولا شك توجد في السماء، إن لم يكن على الأرض.
متن الكتاب
س :
بقي علينا أن نبحث في: كيف يتحول الديموقراطي مستبدا؟ وما هي سجيته بعد التحول؟ وهل يحيا حياة سعيدة أم حياة تاعسة؟
أد :
حقا. إن هذا الذي بقي.
س :
تعلم ماذا أروم أيضا؟
أد :
ماذا تروم؟
س :
أرى أننا لم نوضح الشهوات، نوعها وعددها، فإذا فاتنا ذلك كان بحثنا غامضا.
أد :
لم يفت بعد سد هذا الخلل.
س :
حقا إنه لم يفت. وإليك ما أروم أن نلاحظه في القضية التي أمامنا، وهو إذا لم أكن مخطئا ما يأتي: أن بعض اللذائذ والشهوات غير الضرورية هي مما تنكره الشريعة، ويظهر أنها تؤلف قسما أصليا في كل إنسان. فإذا ضبطتها الشرائع والرغبات الفضلى في النفس بمساعدة الذهن، فإما أن تزول زوالا تاما، أو يبقى عدد قليل من الضعيفة منها، ولكنها في قسم آخر من الناس تظل كثيرة وقوية.
أد :
ما هي الشهوات التي تشير إليها؟
س :
إني أشير إلى الشهوات التي تثور في النوم، حين يكون القسم العقلي الأليف الحاكم في النفس نائما، والقسم الحيواني الوحشي المملوء طعاما وشرابا قائما على الخلفيتين، وقد طار عنه نومه اشتغالا بسد أشواقه الخاصة، ففي تلك الحال ليس هنالك ما لا يجرؤ على عمله؛ لأنه مطلق اليد خال من كل شعور بالحياء أو بالتفكر، فلا يستنكف من شر اتصال نجيس، بوالدته أو بأي إنسان أو إله أو حيوان، ولا يتردد في ارتكاب أفظع أنواع القتل والانغماس في أنجس المآكل، وبالاختصار: لا حد لجنونه ووقاحته.
أد :
وصفك حق كل الحق.
س :
على أني أتصور أن الإنسان حين تكون عاداته صحية عفيفة، وقبلما يذهب للنوم يثير قسمه العقلي ويغذيه بالأبحاث الجميلة السامية وبالتأملات الداخلية، ومن غير أن يضيق الخناق على القسم الشهوي ولم يلتهمه، لينام فلا يزعج بمسراته وأحزانه القسم الأسمى، فيواصل هذا دروسه مستقلا نقيا، ويغذ السير إلى الأمام حتى يفهم ما لا يزال غير مفهوم، إما عن الماضي، أو عن الحاضر، أو المستقبل. ومتى سكن قسمه الغضبي بالطريقة نفسها، متجنبا كل انفجار في الشهوة مما يرسله إلى النوم ثائر العواطف، أقول: فحين يذهب إلى النوم وقد هدأ قسمان من أقسامه الثلاثة، وظل الثالث مقر الحكمة مستيقظا، فإنك عالم أنه في أوقات كهذه هو في أتم استعداد لفهم الحقيقة، فلا تكون الرؤى التي يراها في أحلامه منكرة.
أد :
إني من هذا الرأي بالتمام.
س :
لقد شردنا بعيدا عن طريقنا بداعي هذه الملاحظات، والذي نروم تجليته هو أنه: في كل منا شهوات وحشية مخيفة متمردة، حتى حين نظهر ضبط النفس ضبطا تاما، ويظهر أن هذه الحقيقة تبدو واضحة في حال النوم، فانظر هل أنا مصيب ووافقني في ذلك.
أد :
نعم، إني أوافقك.
س :
فاذكر الشهوة التي عزوناها إلى رجل الأمة، فإن تاريخ أصله هو ما يأتي: أعتقد أنه تربى منذ حداثته تحت نظر والد مقتر، لا يقدر سوى حب المال، وينبذ الشهوات الأخرى غير الضرورية التي غرضها الخاص التسلية وحب الظهور. أمصيب أنا؟
أد :
إنك مصيب.
س :
وبعلاقاته بغواة الأزياء المملوئين بما ذكرناه من الشهوات نحا نحوهم مندفعا إلى التهتك؛ نفورا من تقتير والده. ولما كان أفضل خلقا من الذين أفسدوه، فهو بين قوتين تجذبانه في جهتين متضادتين، فأفضى به الحال إلى قبول سجية متوسطة بينهما، فكان يتمتع بكل أنواع اللذات باعتدال كما زين له تصوره، وعاش عيشة لا جهولة ولا منكرة، وبهذه الصورة تحول من أوليغاركي إلى ديموقراطي.
أد :
نعم. هذا هو رأينا في إنسان كهذا.
س :
ثم تصور أن ذلك الرجل أدركه الهرم، بعد ما ربى ولدا في خلقه.
أد :
حسن جدا.
س :
وتصور أيضا أن الولد انتهج منهج والده، أي أنه أغوي على انتهاك حرمة الشريعة، وباصطلاح الذين أغووه نقول إنه: انصب على «الحرية الكاملة». وإن أباه وأقاربه الآخرين قد نصروا الشهوات المتوسطة فلقيت مناصرتهم مضادة عنيفة من الجانب الآخر، ولما رأى أولئك السحرة المرعبون خالقو المستبد، أن لا أمل في اقتناص الشاب برقاهم؛ عمدوا إلى إيقاظ شهوة في نفسه تكون زعيمة (بطل) الشهوات الكسولة، التي تقتسم في ما بينها كل ما يتقدم إليها برسم التوزيع. ويمكنك أن تصف الشهوة المذكورة بأنها نوع من ذكور النحل ضخم مجنح، وإلا فكيف تصف شهوة يسايرها أقوام كهؤلاء؟
أد :
لا أقدر أن أصفها إلا هكذا.
س :
بعد ذلك فالشهوات الأخرى الحالة في نفسه المضمخة بالعطور والبخور والأكاليل والخمور والتهتك، وهي قسم من هذه اللذات، أخذت تحوم حول ذكر النحل وتبجله وتعلله إلى أقصى حد، حتى خلقت فيه حمة الشهوة، فمن ذلك الحين فصاعدا جن بطل النفس هذا في طلب الحرس الخاص، وإذ أحس في نفسه ببعض الآراء أو الشهوات المحسوبة صالحة، والتي لا تزال تحرص على الحياء، أفناها أو أقصاها عنه، ولا ينفك هكذا حتى يطهر نفسه من كل عفاف، ويملؤها جنونا غريبا.
أد :
لقد وصفت تكوين المستبد وصفا مدققا.
أد :
أوليس لهذا السبب دعيت المحبة مستبدة من قديم الزمان؟
أد :
الأرجح هكذا.
س :
أوليس في السكير يا صديقي ما ندعوه روحا مستبدة؟
أد :
فيه كذلك.
س :
ونعلم أن من جن واختبل عقله يحلم ويسعى إلى أن يسود الناس والآلهة أيضا.
أد :
نعم، حتما هكذا.
س :
إذا يا صديقي الفاضل، يصبح الرجل مستبدا متى أصبح بطبيعته أو بنشأته أو بكلتيهما، عبدا للخمر أو العشق أو الجنون.
س :
هذا هو أصله، وهذه هي فطرته، فكيف يعيش؟
أد :
كما يقولون في الألعاب: قل أنت أولا.
س :
حسنا، إذا لم أكن مخطئا فإن ديدنه من ثم الولائم والأفراح والحفلات والحظايا وكل ما هو من هذا النوع، صحبة أناس خضعت عقولهم خضوعا تاما للشهوات المستبدة في داخلهم.
أد :
هذا ما لا بد منه.
س :
أولا تنبت إلى جانبها شهوات كثيرة مخيفة متعددة المطالب؟
أد :
كثيرة جدا.
س :
فينفق كل ما عنده في الأموال.
أد :
ينفق.
س :
يتلو ذلك السعي لاستمداد المال إضاعة الأرزاق.
أد :
بلا شك.
س :
ومتى نضبت الموارد، أفلا ترفع الشهوات العنيفة المستقرة في داخله صوتها عاليا؟ وتسوق هؤلاء الناس شأنهم مع شهواتهم، وخاصة الشهوة السائدة التي تلتف بقية الشهوات حولها كحرس خاص. أولا يترصدون في هياجهم الجنوني رجلا منعما يسلبونه، إما بالخديعة أو بالقوة؟
أد :
نعم، هكذا يفعلون.
س :
وإذا عجزوا عن السلب في دائرة واسعة عانوا أشد الآلام والمرائر.
أد :
يعانون.
س :
وكما تتطاول اللذات الجديدة على اللذات القديمة وتسلبها مالها، ألا يعزم هذا الإنسان على التطاول على والديه، وهو أحدث منهما عهدا، فينتزع ثروتهما بعد تبذير ماله الخاص؟
أد :
يعزم من كل بد.
س :
وإذا لم يسلم والداه بذلك، أفلا يعمد توا إلى الخديعة والاحتيال؟
أد :
مؤكد أنه يعمد إلى ذلك.
س :
وإذا لم يفلح في ذلك انصب على السلب عنوة؟
أد :
هكذا أظن.
س :
وإذا قاومه الوالدان أفيتردد احتراما في عمل أي عنف ضدهما؟
أد :
أما أنا فلا أملك نفسي من الخوف على سلامة الوالدين من شخص كهذا.
س :
فأرجوك يا أديمنتس أن تعتبر علاقته بحظيته الجديدة غير وثيقة، وأن محبة والدته اللازمة هي قديمة العهد، وأن حب الشاب صديقه غير الضروري حديث بإزاء والده الشيخ أقدم الأصدقاء. أفتصدق والحالة هذه أنه يضرب أباه وأمه لأجل حظيته وصديقه، ويجعل والديه عبدين لذينك بالجمع بين الفريقين في بيت واحد؟
أد :
وذمتي إني أعتقد أنه يفعل ذلك.
س :
ففي ظاهر الأمر أن من أعظم النعم ولادة ابن مستبد كهذا.
أد :
إنه كذلك.
س :
وحين تشرع ثروة والديه تنفد، وقد عششت أسراب الشهوات في داخله، أفلا تكون أولى مآثره نقبه بيتا أو سلبه ثياب سار في دجى الليل؟ أولا يتقدم بعد ذلك إلى نهب الهياكل؟ وفي الوقت نفسه تندحر الآراء القديمة المحسوبة عموما عادلة التي اقتناها منذ صباه في ما هو الدني وما هو الشريف، أمام الآراء التي أفلتت حديثا من ربقة عبوديتها، تعضدها الشهوة التي تسود الحرس الخاص، آراء ما دام خاضعا لوالده وللشرائع، وما دام دستوره الداخلي ديموقراطيا، فلا تفلت من عقالها إلا في أحلام نومه. أما الآن وقد صارت تلك الشهوة ربه الأوحد وسيده المطاع، فبعد ما كانت تلك السجية منحصرة في أحلامه وفي فترات نادرة في يقظته، صارت حالة يقظته الدائمة، فلا يسحب يده من اغتيال ذميم، أو طعام محرم، أو فعل نجيس، بل تغريه تلك المحبة الساكنة في نفسه والسائدة فيها، وتحمله بحكم سيادتها المطلقة في وسط الفوضى والعصيان التام، كما تحمل الدولة على طيش لا حد له لتضمن رسوخ قدمها فيه، مع جحود صحبها الذي تسرب إلى النفس بسبب المعشر الردي، أو أنه أفلت من أغلاله في الداخل بقبول الإنسان أهواء تماثله، مع فعل الشهوة المسيطر نفسها. أفمخطئ أنا في وصفي حياة إنسان كهذا؟
أد :
كلا، بل مصيب.
س :
وإذا كان في المدينة أفراد قلائل من هذه السجايا، وكان باقي الأهالي رشيدي العقول، فإنهم سيتركون المكان ويخدمون طاغية آخر كحرس خاص له، أو يخوضون غمار الحرب كمرتزقة حيث وجدوا حربا ناشبة، ولكنهم في أوقات السلم يرتكبون كثيرا من صغار المساوي في وسط المدينة.
أد :
وأية مساوي تعني؟
س :
السرقة، ونهب البيوت، ونشل الدراهم من الجيوب، وسلب الناس ثيابهم، وسرقة الهياكل، وخطف الناس. وإذا كانوا من أرباب اللسن فإنهم ينشرون الأكاذيب ويشهدون زورا ويرتشون.
أد :
حقا إن هذه المساوي صغيرة إذا كان مقترفوها قلائل.
س :
إنما الصغير صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه، وهذه المنكرات إذا قوبلت بشقاء الدولة فإنها كما يقول المثل: لا تساوي شرور الطاغية؛ لأنه متى كثر هؤلاء الأشخاص في المدينة، وكثر غيرهم من أمثالهم، وأدركوا وفرة عددهم فهم هم الذين تذرعا بحماقة الغوغاء، يبرهنون على أنهم والدو الطاغية الذي هو أحدهم، وفي نفسه أكبر وأشرس مستبد.
أد :
هذا ما يتوقع؛ لأن شخصا كهذا يحاط بأعظم استبداد.
س :
وبالنتيجة؛ إذا استسلم الأهالي له كانت الأمور جارية مجرى بسيطا، ولكن إذا أبدت الدولة جموحا فإن الطاغية يعاقب الوطن إذا أمكنه، كما عاقب فيما سلف أباه وأمه. ولإنجاز ذلك يستدعي لمساعدته فتيانا أصدقاء، ويخضع أرض الوالدة المحبوبة كما يدعوها الكريتيون، لسلطتهم الغاشمة. وهذه هي خاتمة شهوة شخص كهذا.
أد :
مؤكدا هذه هي.
س :
أولا يبدي هؤلاء الفتيان السجية نفسها في الخفاء، حتى قبلما يتقلدون المناصب؟ فأولا بعلاقاتهم بالآخرين، ألا ترى أن جميع رفقائهم صنعاؤهم ومادحوهم؟ أو أنهم إذا أرادوا شيئا من أحد جثوا على ركبهم، ولا يخجلون من إبداء كل ظاهرات الصداقة الخالصة، ولكنهم متى فازوا بمأربهم صاروا غرباء وأباعد؟
أد :
حتما هكذا.
س :
فيقضون الحياة ليسوا أصدقاء أحد، وهم إما سادة أو عبيد؛ لأن طبيعة المستبد لا يمكنها أن تذوق طعم الحرية والصداقة.
أد :
حقا إنه لا يمكنها ذلك.
س :
أفلسنا مصيبين في تسمية أشخاص كهؤلاء: جاحدين؟
أد :
مصيب دون شك.
س :
وليسوا فقط جاحدين، بل أكبر المتعدين، إذا كنا قد أصبنا في نتائج بحثنا الماضية في طبيعة العدالة.
أد :
ولقد أصبنا بالتأكيد.
س :
فلنصف أردأ رجل بالاختصار، فهو: من كانت حاله في اليقظة مطابقة مثله الأعلى في النوم، كما سبق وصفه.
أد :
تماما هكذا.
س :
هذه هي نهاية الإنسان المستبد بالطبع، وقد أحرز قوة مطلقة، وكلما طال استبداده كان انطباق أوصافنا عليه أتم وأصدق. (قال غلوكون متخذا الحديث: بالضرورة.)
س :
أفلم يثبت أن شر إنسان هو شر تاعس أيضا؟ أوليس واضحا أن من كان استبداده أطول أجلا وأشد حولا فهو أطول شرا وشقاء، بالرغم من تضارب الآراء فيه بين عامة الناس؟
أد :
نعم، إن ذلك مؤكد جدا.
س :
أولا يمكننا ألا نعتبر الطاغية صورة الدولة الاستبدادية وممثلها؟ والديموقراطي إلا صورة الدولة الديموقراطية وممثلها؟ وهكذا.
غ :
يقينا إنه لا يمكننا.
س :
أوليست نسبة المدينة إلى أختها فضيلة وسعادة كنسبة الإنسان إلى الإنسان في الأمرين؟
غ :
دون شك.
س :
فما هي النسبة بين مدينة سادها المستبد، ومدينة تحت الحكم الملكي الذي مر بك وصفه من حيث الفضيلة؟
غ :
نسبة التضاد، فالواحدة أفضل المدن والأخرى أردؤها.
س :
لا أسألك أيهما الأفضل وأيهما الأردأ؛ لأن ذلك واضح، ولكن أتقيس أمر سعادتهما وشقائهما على القياس نفسه أو لا؟ ولا يدهشننا النظر إلى المستبد، وهو فرد من الناس، وحده أو محاطا بحاشية صغيرة، بل يجب علينا أن نتغلغل في الدولة ونفحصها كلها، ونرسل رائد الطرف في أقسامها قبلما نصدر حكما.
غ :
أحسنت الاقتراح. فإنه واضح لكل أحد أن المدينة التي يحكمها الطاغية هي أشقى المدن، والمدينة الملكية أسعد المدن.
س :
أفلست مصيبا إذا اقترحت الاقتراح نفسه في البحث في الشخصين اللذين يمثلان الدولتين؟ راضيا فقط فتوى الرجل السديد الرأي، صاحب النظر الذي يخترق ظاهر الإنسان إلى سجيته، ويرى خبايا طباعه، فلا يقف كالطفل عند الظاهرات، فيبهر عينيه بريق المنظر الخارجي الصناعي الذي يتجلى في المستبد، بل يخترقه بنظره إلى كنهه؟ إني ارتأيت بأننا ملزمون بالخضوع للقاضي، الذي لا يقتصر على إصدار القرار بالحكم، بل قد ساكن المحكوم عليه في بيته، ووقف على دخائله، وكان شاهد عين على تصرفاته اليومية، وعلاقاته الأهلية، في دائرة ينزع الإنسان عندها الثياب المسرحية، ومواقفه في المخاطر العمومية، وبعد ما تمكن من درس كل هذه الأحوال، نسأله الحكم في ما هو حال المستبد بالنسبة إلى غيره سعادة وشقاء؟
غ :
اقتراحك هذا أعدل اقتراح.
س :
ولكي نحصل على إنسان يجيب على أسئلتنا، أتريد أن ندعي أننا ممن قابلوا رجلا كهذا، علاوة على كونهم قادرين على إصدار الحكم؟
غ :
نعم، إني أريد ذلك.
س :
فاسمح لي أن أسألك أن تنظر في الأمر من الوجهة التالية: افحص كلا من الدولة والفرد على حدة، واضعا في عقلك المشابهة الكائنة بينهما، ثم أخبرني ما هي أحوال كل منهما؟
غ :
إلى أية احوال تشير؟
س :
نبدأ بالدولة، أفعبودية تحسب حالها تحت حكم المستبد أم حرية؟
غ :
عبودية تامة.
س :
مع ذلك ترى فيها سادة وأحرارا.
غ :
أرى فيها قسما صغيرا من هذا النوع، ولكن المجموع إجمالا والقسم الأسمى منه خاضع لعبودية فاضحة تاعسة.
س :
ولما كان الإنسان صورة الدولة ورسمها، أفلا يكون فيه حتما ما فيها، فتكون نفسه مغلولة بأغلال الاستعباد، وأشرف أقسامها وأفضلها مستعبد، والقسم الأصغر والأكثر جنونا هو الحاكم؟
غ :
بالضرورة هكذا.
س :
أفمستعبدة نفس كهذه أم حرة؟
غ :
أقول إنها مستعبدة.
س :
أوليست المدينة المحكومة حكما استبداديا مقيدة عن كل عمل تميل إليه؟
غ :
نعم، بالتمام هي هكذا.
س :
فالنفس التي يسودها الاستبداد هي بالإجمال أبعد النفوس عن عمل ما تريده، بل هي بالضد من ذلك، تجرها قوة الشهوة الوحشية، ويملؤها الاضطراب والألم.
غ :
دون أدنى ريب.
س :
أوغنية المدينة المستعبدة أم فقيرة؟
غ :
فقيرة دون ريب.
س :
وهكذا النفس المستعبدة، هي أبدا فقيرة متمنية.
غ :
تماما هكذا.
س :
أوليس مدينة كهذه وإنسان كهذا فريسة المخاوف؟
غ :
بالتأكيد.
س :
أفتتوقع أن تجد في غيرها أكثر مما تجد فيها من البكاء والنحيب والندب والحزن؟
غ :
كلا البتة.
س :
وبالنظر إلى الفرد، أتظن أن هذه الويلات تكثر في وسط كثرتها في نفس الطاغية الذي جن بشهواته وهيامه؟
غ :
أويمكن ذلك؟
س :
فأظن أنك ترى وباعتبار هذه الحقائق وغيرها، أن المدينة المستعبدة أتعس المدن حالا.
غ :
أولست مصيبا في ذلك؟
س :
غاية في الإصابة. وما قولك في المستبد باعتبار هذه الأمور؟
غ :
إنه أتعس التاعسين.
س :
لست مصيبا في ذلك.
غ :
ولماذا؟
س :
لأني لا أظن أن هذا الإنسان أتعس التاعسين.
غ :
فمن هو أتعسهم إذا؟
س :
ربما ترى أنه الشخص الآتي وصفه.
غ :
صفه.
س :
إني أشير إلى رجل قد حظر عليه وهو مستبد أن يحيا حياة يختارها؛ لأن سوء الطالع قاده إلى تبؤؤ منصب الطاغية.
غ :
أستدل بما تقدم من الملاحظات أنك مصيب.
س :
نعم، ولكن يجب أن لا تكتفي بالظنون في هذا الموقف، بل بالصد من ذلك، يلزم أن تتفحص الموضوع بفعل التعقل الذي أتينا على وصفه؛ لأن النقطة التي على بساط البحث هي في أسمى درجات الخطورة؛ لكونها نقطة الفصل بين الحياة السعيدة والحياة الشقية.
غ :
غاية في الصواب.
س :
فانظر أمصيب أنا في ما سأقوله، فإني أرى أنه في فحص مسألة كهذه يجب أن نبدأ فحصنا بوجوه الاعتبار التالية.
غ :
وما هي تلك الوجوه؟
س :
نبدأ باعتبار الأفراد كأعضاء الدولة الأغنياء، الذين يملكون عبيدا كثيرين لأنهم يشاركون الطاغية في هذه النقطة، والفرق بين الفريقين محصور في عدد العبيد عند كل منهما.
غ :
نعم، إنه يملك أكثر منهم.
س :
أوتعلم أن هؤلاء الأشخاص يبيتون آمنين، ولا يخشون عبيدهم؟
غ :
وما الذي يخيفهم؟
س :
لا شيء، ولكن أتعرف السبب؟
غ :
نعم، وهو أن المدينة كلها تساعد الفرد الواحد منهم.
س :
بالصواب نطقت، فلو حمل أحد الآلهة من المدينة رجلا يملك خمسين عبدا فأكثر، وألقاه في الصحراء مع امرأته وأولاده وعبيده وأرزاقه، حيث لا أحد من الأحرار ينجده، أفلا يستولي عليه شديد الخوف، مخافة أن يهلك وزوجه وأطفاله بأيدي العبيد؟
غ :
إنه يكون في أعظم درجات الخوف.
س :
أفلا يضطر إلى تمليق بعض عبيده ويكثر لهم الوعد؟ مؤملا إياهم بالعتق حيث لا داعي إليه؟ أولا يظهر في واقع الأمر مملقا دنيئا؟
غ :
هكذا يفعل وإلا هلك؟
س :
وما رأيك في من كان محاطا ببحيرة تنكر سيادة إنسان على إنسان آخر، ومن فعل ذلك أنزلوا به أشد قصاص؟
غ :
أراه مكتنفا بكل أنواع المحن؛ لأنه في وسط حرس كلهم أعداء.
س :
أفليس الطاغية سجينا في سجن كهذا؟ لأنه إذا كان على ما سبق وصفه: مملوءا بالمخاوف والتمنيات على أنواعها، ومع فرط أطماعه وطموح نفسه، فهو الشخص الوحيد الذي حظرت عليه السباحة، ومشاهدة ما يتوق الحر لمشاهدته.
أفلا يدفن نفسه في بيته ويعيش عيشة النساء، حاسدا من يجوبون الآفاق ويرون عظام المشاهد؟
غ :
مؤكد أنه كذلك.
س :
ولما كانت هذه حال المستبد الداخلية، كان جانيا في سياسته على نفسه، شقاء الطاغية الذي وصفته الساعة بالشقاء التام؛ لأنه أرغم على هجر الحياة الخاصة، وأجبر على تبؤؤ منصب الاستبداد بحكم الأحوال، فيأخذ على عاتقه سياسة الآخرين وهو عاجز عن سياسة نفسه، فهو كالمريض الواهن القوى، لا يتاح له أن يتمتع بالراحة، بل هو ملزم بأن يصارع الناس وينازعهم.
غ :
حقا يا سقراط، إن المشابهة تامة وإن بيانك حق.
س :
أفليست حال المستبد شقية يا عزيزي غلوكون شقاء تاما، وهو يحيا حياة هي أبعد احتمالا من حياة من تحسبه شر التاعسين؟
غ :
بلا شك.
س :
ومهما يتقول الناس فالطاغية عبد بمعنى الكلمة، ومملق شرير، بعيد عن سد رغباته ولو بعض السد، بل هو أكثر الناس احتياجا إلى ما لا يحصى من الأشياء، ويظهر لمن درس نفسه درسا تاما أنه غاية في الفاقة، وأن حياته مفعمة بالمخاوف والآلام والأرجاف، إذا كان يمثل في نفسه دولة يحكمها وهو يمثلها. أليس كذلك؟
غ :
محققا يمثلها.
س :
ويجب أن نضيف إلى ذلك وصف الإنسان الذي أوردناه آنفا؛ لأنه لا يمكنه إلا أن يكون حسودا خائنا خصيما زنيما، مباءة كل رذيلة ومربيها، ونتيجة كل ذلك؛ أولا: أنه غير سعيد في داخله، ثانيا: أن جميع الملتفين حوله غير سعداء.
غ :
لا يناقضك في ذلك ذو فهم.
س :
واصل تقدمك فأخبرني، كقاض يصدر قراره بعد ما درس القضية كلها: من هو في مذهبك أوفر سعادة؟ ومن الثاني؟ وهكذا. فرتب الخمسة، وهم: الملكي، والتيمارخي، والأوليغاركي، والديموقراطي، والمستبد.
غ :
الحكم سهل، فإني أرتبهم ترتيب جوقة الموسيقى في نظام دخول أفرادها المسرح، باعتبار فضيلتهم ورذيلتهم وسعادتهم وتعاستهم.
س :
أفنستأجر مناديا؟ أو أنني أنا أرفع صوتي بالنداء أن ابن أريسطون قد حكم أن أفضل الناس وأعدلهم هو أسعدهم؟ لأنه يمتلك الروح الملكية أكثر ممن سواه؛ لأنه يحكم نفسه حكما ملكيا. وأن أردأهم وأظلمهم أتعسهم؟ أي إن أوفرهم استبدادا وظلما يبلى بأعظم صنوف الاستبداد في إدارة نفسه وإدارة الدولة.
غ :
أذع ذلك أنت.
س :
أفأضيف إلى ذلك أنه لا فرق، عرف الأمر الذي أنادي به عند الله والناس أو لم يعرف؟
غ :
أضفه.
س :
فليكن. فهذا أول بيان منا إليك. يليه الثاني إذا حاز القبول.
غ :
وما هو؟
س :
بما أن كل نفس مقسومة إلى ثلاثة أقسام تطابق أقسام الدولة الثلاثة، فإن موقفنا يأذن لنا بتأليف البيان التالي.
غ :
وما هو؟
س :
هو هذا: أن لأقسام النفس الثلاثة لذات ثلاثا، تختص كل منها بقسم من تلك الأقسام، وثلاث شهوات، أو مبادئ حاكمة فيها.
غ :
أوضح.
س :
قلنا إن في نفس الإنسان قسما به يتعلم، وقسما آخر به يتحمس ويغضب، وقسما ثالثا لا نقدر أن نبينه بكلمة واحدة، ولكنا نصفه بالصفة الغالبة فيه، فندعوه الشهوي؛ لكثرة ما فيه من الشهوات، كشهوة الطعام، وشهوة الشراب، والشهوة الجنسية، وكل ما يلازم هذه الشهوات. وندعوه أيضا محب المال؛ لأن المال هو الذريعة الفعالة في كل هذه الشهوات.
غ :
نعم، إنا مصيبون.
س :
فإذا رمنا أن نقول إن لذة القسم الثالث ومحبته فيهما ربح لموضوعهما، أفلا يكون أفضل تلخيص الحقائق التي عليها ينبغي أن تستقر التسوية بقوة الحجة، كوسيلة لنقل فكرة واضحة لعقولنا، حين نتحدث عن قسم النفس هذا؟ أولسنا مصيبين في تسميته محب المال ومحب الكسب؟
غ :
أعترف أني أظن هكذا.
س :
أولا نقول أيضا إن القسم الغضبي (الحماسي) يندفع أبدا لإحراز القوة والفوز والشهرة؟
غ :
مؤكد أنا نقول.
س :
أفينطبق عليه لقب: «محب الكفاح»، و«محب الشرف»؟
غ :
نعم، أتم انطباق.
س :
وواضح لكل إنسان أن غرض القسم الذي به نتعلم الدائم الكلي، هو أن يعرف كيف تقوم «الحقيقة»، وهذا القسم أبعد كل عناصر طبيعتنا عن الاكتراث للشهرة والثروة.
غ :
نعم أبعدها.
س :
ألا نحسن إذا دعوناه «محب العرفان»، و«محب الحكمة»؟
غ :
مؤكد أنا نحسن.
س :
أولا يسود هذا الميل نفوس البعض، أما نفوس غيرهم فيسودها أحد الميلين السابقين الذي تتوافر له السيادة حسب حكم الأحوال؟
غ :
إنك مصيب.
س :
أولا يمكننا لهذه الأسباب أن نرتب الناس ترتيبا أوليا تحت ثلاثة رءوس أصلية، هي: محب الحكمة، ومحب الكفاح، ومحب الكسب؟
غ :
نعم بالتأكيد.
س :
وأن هنالك ثلاث لذات تختص بهذه الرءوس على الترتيب.
غ :
تماما هكذا.
س :
أوتدري أنك لو سألت ثلاث طبقات الناس كلا في دورها، أية هذه اللذات الثلاث أكثرها لذة لذكر كل منهم ما لاذ به منها، فيقول محب الكسب: إن أعظم حالات الحياة لذة أوفرها ربحا، ويصارحك أنه بإزاء اللذة الناجمة عن الكسب لا قيمة في نظره للذة الناجمة عن الشرف، والناجمة عن طلب العلم، إلا إذا أدتا إلى كسب المال؟
غ :
حقيق.
س :
وماذا يقول محب الفخر؟ ألا يحسب اللذة الناجمة عن المال كشيء عالمي، واللذة الناجمة عن العلم بخارا صاعدا، إلا إذا كان المجد ثمرتها؟
غ :
هذا هو الواقع حتما.
س :
أولا تظن أن محب الحكمة يحسب كل اللذات طائشة، حين يقابلها باللذة الناجمة عن معرفة الطريقة التي بها تثبت المعرفة، والاشتغال المستديم بالبحث والطلب، وهو يدعو اللذات الأخرى ضرورية كثيرا، وإلا لما رغب فيها؟
غ :
يمكن التأكيد أن ذلك كذلك.
س :
فإذا احتدم الجدال بخصوص لذة كل نوع، وحياة كل طبقة، ليس باعتبار الجمال والقبح والأدب والفجور، بل بالنظر إلى منزلة كل منها في مراتب اللذة والنجاة من الألم، فكيف نعلم أي الثلاثة هو الأصوب؟
غ :
لست مستعدا للجواب.
س :
فاعتبر المسألة بالبيان الآتي: ما هي الأدوات التي بها يصاغ الحكم، ليكون حكما صحيحا؟ أليست هي: الاختبار، والحكمة، والتعقل؟ أويمكنا إيجاد أداة أفضل للحكم؟
غ :
مؤكد أنه لا يمكننا إيجاد أداة أفضل.
س :
فلاحظ أي الثلاثة أوفر خبرة في كل أنواع اللذات المار ذكرها؟ هل يدرس محب الكسب طبيعة الحقيقة الصحيحة، إلى حد أنه (في حسبانك) يتعرف لذة المعرفة أكثر مما يتعرف محب الحكمة لذة الربح؟
غ :
هنالك بون شاسع؛ لأن محب الحكمة ملزم بأن يذوق لذة الربح منذ صباه، بينما محب الربح غير ملزم أن يدرس طبيعة الأشياء الموجودة حقيقة. أما أن يذوق حلاوة المعرفة واللذة التي تلابسها، بحيث يصير ذا خبرة فيها، فليس ذلك سهلا ولو كان عندي ميل إليه.
س :
فمحب الحكمة يفوق كثيرا محب الكسب في اختبار نوعي اللذات بالفعل.
غ :
حقا إنه يفوق.
س :
وما هو الحال مع محب المجد؟ أذو خبرة تامة هو في اللذة الناجمة عن المجد، كخبرة محب الحكمة في اللذات الناشئة عن الحكمة؟
غ :
كلا. فإن الشرف يسير في ركاب كل منهم إذا قام بعمله، فالغني شريف لدى الكثيرين، وهكذا الشجاع والحكيم، فلجميعهم اختبار واحد باعتبار اللذة الناجمة عن الشرف، ولكن طبعة اللذة الناجمة عن التفكر بالحقيقة لا أحد يقدر أن يتذوقها إلا محب الحكمة.
غ :
تماما هكذا.
س :
فباعتبار «الاختبار» العملي: محب الحكمة أصح الثلاثة حكما.
غ :
بالتمام.
س :
ونعلم أنه هو وحده صاحب «الحكمة»، كما أنه رب الاختبار.
غ :
بلا شك.
س :
ثم إن أداة الحكم الخاصة هي عضو يختص بمحب الحكمة دون أخويه محب الشرف ومحب الكسب.
غ :
وما هو ذلك العضو؟
س :
أعتقد أنا قلنا إن «التعقل» هو الذي يصدر الحكم. ألم نقل؟
غ :
قلنا.
س :
والتعقل إلى حد بعيد هو عضو محب الحكمة.
غ :
مؤكد.
س :
وعليه: فلو أن الثروة والكسب أدوات البت في المسائل، لكان ما يقول به محب الكسب من مدح أو ذم هو الأصح.
غ :
تماما هكذا.
س :
ولو أن الشرف والفوز والشجاعة أفضل الأدوات، لكان تقريظ محب المجد وتفنيده هما الأصح.
غ :
واضح أنه هكذا.
س :
ولما كان الاختبار والحكمة والتعقل هي أفضل الأدوات، فماذا إذا؟
غ :
ماذا إلا أن مدح محب الحكمة والتعقل هو الأصح.
س :
فإذا كانت اللذات ثلاثا، فهل لذة قسم النفس الذي به نتعلم هي أوفر من لذات غيرها؟ وهل حياة رجلنا الذي يسيطر عليه هذا القسم هو الأسعد؟
غ :
بلا شك. وعلى كل فلرجل الحكمة الحق التام أن يمدح حياته الخاصة.
س :
فما هي الحياة التي يحسبها قاضينا الثانية؟ وما هي اللذة الثانية؟
غ :
واضح أنها حياة محب المجد والكفاح؛ لأنها أقرب إلى حياته من حياة محب الكسب.
س :
فلذة محب الكسب هي الأخيرة؟
غ :
بلا شك.
س :
فقد فاز العادل على المتعدي إلى الآن مرتين، فهيا بنا إلى الفوز الثالث والأخير، كأنك في الألعاب الأولمبية تخاطب زفس الأولمبي الحافظ، واذكر أن كل اللذات إلا لذات الحكماء ليست بحقيقية من كل وجه، بل هي زهيدة وغير جلية على ما أظن. إني سمعت حكيما يقول ذلك، واسمح لي أن أقول لك إن السقطة في هذه الدورة أعظم السقطات وأحسمها.
غ :
تماما هكذا، ولكن أوضح فكرك.
س :
سأرى ما يلزمنا إذا كنت تجيب عن أسئلتي.
غ :
سل ما تشاء؟
س :
قل لي: ألم نقل إن الألم ضد اللذة؟
غ :
قلنا بالتأكيد.
س :
أولا نقول إن هنالك حالة لا تشعر عندها بلذة ولا بألم؟
غ :
ذلك مؤكد.
س :
وبعبارة أخرى: قد سلمت أن هنالك نقطة يستقر العقل عندها بين الأمرين. أليس هذا ما تعني؟
غ :
هذا هو.
س :
ألا تذكر اللهجة التي يستعملها الناس في أمراضهم؟
غ :
وما هي؟
س :
الصحة تاج على الرأس، لا يراه إلا المرضى، فالصحة عندهم أعظم الملذات، لكنهم لا يعرفون قيمتها إلا حين يفقدونها.
غ :
إني أذكر ذلك.
س :
أولا تسمع أيضا قول المرضى وهم تحت الألم الشديد: لا مسرة أعظم من زوال الألم؟
غ :
إني أسمع ذلك.
س :
وأظن أنك وجدت أناسا مرارا كثيرة وهم في حال القلق، يبجلون زوال الاضطراب والخلاص منه، لا كفرح إيجابي.
غ :
حقيق. وربما كان السبب أن النجاة أنشأت في وقت كهذا لذة وسرورا إيجابيين.
س :
وعلى الطريقة نفسها، حين يكف أحد عن الشعور باللذة، تكون اللذة ألما.
غ :
قد يكون ذلك.
س :
فالفترة التي قلنا إنها حلقة وسطى بين الألم واللذة، قد تكون تارة لذة وتارة ألما.
غ :
هكذا يظهر.
س :
أفيمكن أن يكون ما ليس لذة ولا ألما كلا الأمرين معا؟
غ :
لا أظن.
س :
وحين تكون اللذة والألم في العقل فإنهما كليهما شعور. أليسا شعور؟
غ :
إنهما شعور.
س :
أولم نر الساعة أن غياب اللذة والألم يظهر حال راحة لا شك فيها، وهي نقطة متوسطة بين الأمرين؟
غ :
إنها كذلك.
س :
أفصواب اعتبارنا زوال الألم لذة، واللذة ألما؟
غ :
لا يمكن أن يكون صوابا.
س :
فالفترة في هذه الأحوال ليست لذة حقيقية، ولكنها تظهر كذلك بإزاء ما هو مؤلم، ومؤلمة بإزاء ما هو سار؛ لأنهما من نوع السحر أو الخداع فقط .
غ :
أعترف أن الحجة تؤدي إلى هذه النتيجة.
س :
وفي الدرجة الثانية حول نظرك إلى اللذات التي لا تنشأ عن آلام، كي لا تتصور كما قد تكون تصورت الساعة أنه ناموس طبيعي، أن زوال اللذة ألم، وانقطاع الألم لذة.
1
غ :
إلى أين أنظر، وأية اللذات تعني؟
س :
يمكنك أن تنظر في لذات كثيرة إذا شئت، وأفضل مثل لذلك لذات الشم، فإنها تنشأ فجأة دون سابق اضطراب، وتنشأ بشدة خارقة، وحين تنقضي لا يحدث عنها ألم.
غ :
ذلك مؤكد.
س :
فلا نعتقدن إذا أن اللذة المحضة هي في زوال الألم، أو أن الألم الحقيقي هو انتهاء اللذة.
غ :
كلا.
س :
ولكنه حقيق من باب التقريب، أن أكثر اللذات الي تصل العقل بواسطة أعضاء الجسد، وأشدها هي من هذا النوع. أي إنها نوع من انقطاع الألم.
غ :
هي كذلك.
س :
أفلا تنطبق الملاحظة ذاتها على لذات التبصر؟
غ :
تنطبق.
س :
أفتدري نوع هذه اللذات وماذا تمثل؟
غ :
ماذا؟
س :
أتسلم أن في الطبيعة ثلاث درجات، وهي: عليا حقيقية، ودنيا حقيقية، ووسطى كذلك؟
غ :
إني أسلم.
س :
أفتظن أن أحدا وقد رفع من السفلى إلى الوسطى، يمكنه ألا يتصور أنه قد بلغ العليا؟ وإذا استقر في الوسطى ثم خفض نظره إلى المكان الذي منه صعد، أفيمكنه ألا يتصور أن درجته هي العليا، إن لم يكن قد رأى العليا بعد؟
غ :
أما أنا فإني أؤكد لك أنني لا أتصور أن رجلا كهذا يرى خلاف ذلك.
س :
ولكنه إذا عاد إلى مكانه الأول فهل يظن أنه سفل؟ وهل هو مصيب في ظنه؟
غ :
معلوم أنه كذلك.
س :
أولا يحدث له كل ذلك لأنه لم يختبر العليا والوسطى والدنيا اختبارا حقيقيا؟
غ :
واضح أنه يحدث.
س :
أفتستغرب أن تكون للناس آراء غير صحيحة في أمور عديدة، وهم لم يختبروا الحقيقة بالنظر إلى الألم والمسرة وما بينهما في موقف كهذا، حتى إذا ما نقلوا إلى ما هو مؤلم حقيقة كان لهم رأي صحيح في حالهم، وأنهم بالحقيقة قد تألموا؟ ولكنهم إذا نقلوا من الألم إلى الدرجة المتوسطة بين الألم واللذة، تصوروا تصورا جازما أنهم بلغوا أسمى درجات اللذات التي لم يختبروها قط. وبالنتيجة: أنهم قد خدعوا بمقابلتهم حالة الألم بحال زواله، كالذين لا يعرفون اللون الأبيض، فقابلوا الأسود بالرمادي فحسبوه أبيض لعدم اختبارهم.
غ :
حقا إني لا أتعجب من ذلك، بل كان عجبي أعظم لو أنه غير ذلك.
س :
فاعتبر المسألة على نور فكر جديد: أليس الجوع والعطش وأمثالهما فراغا في نظام الجسد؟
غ :
بلا شك.
س :
وبالمشابهة: أليس الجهل والحماقة فراغا في نظام النفس؟
غ :
نعم، بالتأكيد.
س :
أولا يسد الطعام الفراغ الأول، والمعرفة الفراغ الثاني؟
غ :
مؤكد.
س :
فهل الملء الحاصل بالجوهر الحقيقي أكثر صحة من الملء الحاصل بالجوهر غير الحقيقي، أو أقل صحة منه؟
غ :
واضح أن الملء الحقيقي هو أكثر صحة منه بغير الحقيقي.
س :
فأيهما تظن أكثر اشتراكا في الجوهر النقي؟ أما يشترك بالطعام والشراب واللحم، وكل ما هو من نوع الأغذية؟ أم ما يشترك بالآراء الصحيحة والعلم والعقل؟ وبكلمة واحدة: «بالفضيلة»؟ ولكي تصدر حكما صحيحا في الأمر انظر فيه على هذه الصورة: أتعتقد أن الوجود الحقيقي هو بجوهره، خاصة الدائم الاتصال بالثابت والخالد، وهو نفسه خالد وثابت، ويظهر في أشياء من نوعه؟ أو تعتقد أنه خاصة الدائم الاتصال بالمتغير والزائل، وهو نفسه متغير وزائل، ويظهر في أشياء من هذا النوع؟
غ :
بل هو خاصة الأول بأسمى درجات اليقين.
س :
وهل العلم أقل دخولا في ما هو ثابت الجوهر منه في غير الثابت؟
غ :
كلا البتة.
س :
وهل الحقيقة أقل دخولا من غيرها؟
غ :
كلا؟
س :
فإذا كانت الحقيقة أقل دخولا كان الوجود الحقيقي أقل دخولا أيضا.
غ :
بالضرورة.
س :
إني أتكلم كلاما عاما، أفلا يحتوي تثقيف الجسد بكل فروعه على درجه من الحقيقة من الوجود الحقيقي، أقل من تثقيف النفس بكل فروعها؟ ألا تظن كذلك؟
غ :
نعم. أقل كثيرا.
س :
وما يمتلئ بجواهر أكثر ثبوتا وهو نفسه أكثر ثبوتا، أفلا يكون امتلاؤه أكثر منه إذا ملئ بالأشياء الأقل ثبوتا وهو نفسه أقل ثبوتا؟
غ :
دون شك هو كذلك.
س :
فكما أنه يلذ الموضوع لذة حقيقية امتلاؤه بأشياء تناسبه طبعا، فالموضوع الأكثر امتلاء بالجواهر الحقيقية هو أكثر إنتاجا للذة الحقيقية، والموضوع المختص بما هو أقل يقينية يكون امتلاؤه أقل يقينية وأقل ضبطا، ويذوق صاحبه لذة أقل يقينا وثقة.
غ :
النتيجة قاطعة من كل بد.
س :
فالذين لم يتعرفوا الفضيلة والحكمة، ويقضون الحياة في الولائم وأمثالها من أنواع الانهماك قد سفلوا كما يظهر، ثم عادوا إلى منتصف البعد في الطريق إلى فوق. وبين هذين الطرفين يطوفون الحياة بطولها، ولما كانوا لا يتجاوزونهما فإنهم لا ينظرون أو يرتفعون إلى العلل الحقيقية. ولم يمتلئوا قط باللذة الحقيقية ولا ذاقوا لذة حقيقية صرفا، بل هم كالسائمة ينظرون أبدا إلى أسفل، ورءوسهم إلى الأرض يدنونها من موائد الطعام، حيث يشبعون ويسمنون ويلدون، ولكي يسدوا شهوتهم البالغة بهذا التمتع، يرفسون بعضهم بعضا بأظلاف حديدية، ويتناطحون بقرون حديدية حتى يقتل بعضهم بعضا بتأثير الشهوات الشرهة؛ لأنهم قد ملئوا قسم طبيعتهم الشهواني غير الحقيقي بأشياء غير حقيقية.
غ :
تتكلم بكل ضبط يا سقراط كأنك تنطق بالوحي في حياة القسم الأكبر من الناس.
س :
أولا يتبع ذلك أنهم اقترنوا بلذات ممتزجة بالألم، وهي أشباح ضعيفة الشبه باللذة الحقيقية، وقد لونها قربها من الألم فلاحت لهم عظيمة، وهي تلد أشواقا جنونية في صدور الحمقى، فتصير موضوع نزاع في ما بينهم، كشبح هيلانة الذي يقول ستاسيكورس إن الطرواديين تقاتلوا عليه لجهلهم حقيقة شخصها.
غ :
لا بد أن تكون حالة كهذه نتيجة لما تقدم.
س :
ولننتقل إلى العنصر الغضبي (الحماسي)، أفليست النتائج فيه مشابهة هذه كل المشابهة؟ وذلك حين يعمل الإنسان لسد شوق هذا القسم في طبيعته، إما غيرة في صورة ناشئة عن الطمع، أو إساءة ناشئة عن حب الخصومة والنزاع، أو غضبا لعدم الاكتفاء في سبيل المجد والفوز، أو لأجل سد شوق، دون تفكر ودون عقل سليم.
غ :
إن النتائج في هذا الحال مشابهة ما سبقتها حتما.
س :
وما هي النتيجة؟ أفنقول واثقين أنه بين كل الشهوات التي اختبرنا فيها حب الكسب وحب المجد، فالتي منها تتبع قيادة العلم والعقل، وترافقهما في طلاب قوة تقود الحكمة إليها حتى يدركوها، فإن هذه تبلغ اللذات التي تناسبها، عدا بلوغها أصح اللذات الممكن الحصول عليها نتيجة إخلاصها للحقيقة، بناء على أن الأفضل هو الأنسب لكل واحد؟
غ :
لا ريب في أنها أكثر مناسبة.
س :
فما دامت النفس تخضع للعنصر المحب للحكمة دون أدنى تصدع، فكل قسم يتمتع بلذاته الخاصة بأفضل شكل وأصوبه، علاوة على أنه يتم عمله الخاص بكل الاعتبارات، أي إنه يكون عادلا.
غ :
نعم، حقا.
س :
ومن ناحية أخرى، إذا حكم أحد العنصرين الآخرين - الشهوي والغضبي - فقد مسراته الخاصة، وحمل ذينك العنصرين على التهافت على لذات غريبة غير حقيقية.
غ :
تماما هكذا.
س :
وكلما بعد الشيء عن الفلسفة وعن الذهن زاد ما ينتجه من الأثر الشرير. ألا يزيد؟
غ :
يزيد.
س :
أوليس الأبعد عن الشريعة والنظام هو الأبعد عن التعقل أيضا؟
غ :
واضح كل الوضوح.
س :
أولا يتبرهن على أن الأهواء الغرامية والاستبدادية هي الأبعد عن الشريعة وعن النظام؟
غ :
بالتمام إنها الأبعد.
س :
وأن الرغبات الملوكية المعتدلة هل الأقرب إلى الشريعة أو النظام؟
غ :
نعم.
س :
فالمستبد هو الأبعد عن اللذة الحقيقية الملائمة، والملك هو الأقرب إليها.
غ :
لا نكير في صحة ذلك.
س :
فيحيا المستبد حياة عديمة السرور، والملك حياة كلها السرور؟
غ :
أنتظر أنك تفيدني.
س :
يظهر أن هنالك لذات ثلاثا، واحدة حقيقية، واثنان غير شرعيتين، وقد تجاوز المستبد الحدود إلى ما وراء هاتين، ومرق من الشريعة والتعقل، وساكن حرسا شهوانيا من لذات الاستعباد، ولا يدرك مبلغ انحطاطه إلا بالبيان التالي.
غ :
وما هو؟
س :
نبدأ بالحساب من الأوليغاركي، فالمستبد هو الثالث منه في عمود الانحدار؛ لأن الديموقراطي بينهما.
غ :
نعم.
س :
فإذا كانت ملاحظاتنا الماضية صحيحة، أفلا يكون السرور الذي يقترن المستبد به في حال من البعد عن السرور الحقيقي ، نسخة عن نسخة، عن النسخة الأصلية التي بيد الأوليغاركي؟
غ :
تماما هكذا.
س :
وإذا بدأنا من الملكي فالأوليغاركي أيضا هو الثالث منه في عمود الانحدار، إذا حسبنا الملكي والأرستقراطي واحدا.
غ :
حقا إنه الثالث.
س :
فالمستبد بعيد عن اللذة الحقيقية ثلاث ثلاثات.
2
غ :
هكذا يلوح.
س :
فيمثل لذته هندسيا (مكفوء) الرقم 9.
غ :
بالتمام.
س :
وبتربيع هذا العدد وتكعيبه تظهر لنا شقة بعد المستبد كل الظهور.
غ :
نعم، إن ذلك واضح للحاسب.
س :
ونقيض ذلك حال الملكي إذا رمت تبيان الشقة بينهما، فإنك تجدها بعد إتمام عملية الضرب هكذا: لذة الملك تعدل 729 ضعف لذة المستبد، وآلام المستبد تعدل 729 آلام الملكي.
غ :
أبرزت نتيجة خارقة في إحصاء البون بين العادل والمتعدي في مجال اللذة والألم.
س :
وأؤكد أن الأرقام تطابق الحياة الإنسانية إذا وافقتها الأيام والليالي والشهور والسنين.
غ :
ولا شك في أنها توافقها.
س :
فإذا كان الصالح العادل يفوق الشرير المتعدي بهذا المقدار في موضوع اللذة، أفلا يفوقه بما لا يقدر في نعمة الحياة وجمالها وفضلها؟
غ :
نعم حقا، إنه يفوقه بما لا يقدر.
س :
حسنا. وإذ قد بلغنا في المحاورة هذا الموقف، فلنستأنف البحث الأول الذي أوصلنا إلى هنا، وقد سبق القول فيما أعلم أن التعدي مفيد للإنسان الذي هو متعد تام إذا اشتهر بأنه عادل، أفمخطئ أنا في هذا؟
غ :
إنك مصيب.
س :
لقد أزف الوقت لمجادلة صاحب هذه الملاحظة في وقت اتفقنا فيه في نتائج العدالة والتعدي.
غ :
فكيف نتقدم؟
س :
فلنتصور مثال النفس ليعرف المتكلم جسامة غباوته.
غ :
أي نوع من المثال تعني؟
س :
يجب أن نمثل لأنفسنا أحد المخلوقات التي حسب الأسطورة كانت في الزمن القديم، كخيميرا، وسلا، وسربروس، عدا كثيرين من المخلوقات الغريبة الشكل نعرض عن ذكرها، وفي كل منها اجتمعت طبائع عدة في جسم واحد.
غ :
حقا إننا قد سمعنا قصصا كهذه.
س :
فارسم أولا جسما مختلف الطبائع متعدد الرءوس، تحيط به حلقة من رءوس حيوانات داجنة ووحشية، وليكن له قوة على توليد هذه الرءوس من جسمه حين يشاء، وإخفائها أو تغييرها حين يشاء.
غ :
إنه عمل مثال ماهر، ولما كان التصور أسهل من التصوير بالشمع وأمثاله فافرض أنا صنعناه.
س :
تقدم ثانية لصنع رسم أسد، وثالثة لصنع رسم إنسان، وليكن الأول أعظم كثيرا من الآخرين، والأسد أعظم من الإنسان.
غ :
ذلك سهل، ولقد صنع.
س :
ضم هذه الثلاثة معا بحيث تصير قطعة واحدة.
غ :
لقد ضممتها.
س :
ألبسها شكل أحدها، وليكن شكل الإنسان، بحيث لا يعلم الناظر ما وراء ذلك الظاهر، فلا يرى في المجموع إلا الإنسان.
غ :
ضممتها.
س :
فلنجاوب من قال إنه نافع لهذا الإنسان أن يكون شريرا، وأن ليس في مصلحته أن يكون عادلا، أن مفاد قوله هو أنه يفيده أن يقيت الحيوان الغريب الشكل المتعدد الطبائع، وهكذا يفعل بالأسد وطبائعه، ويترك الإنسان للمجاعة والضعف، إلى درجة يكون فيها تحت رحمة كل من رفيقيه وقيادته، فيجرانه حيث شاءا دون أدنى سعي في مصالحة أحدهما مع الآخر، بل يتركها معا ليعض أحدها الآخر ويحاربه ويفترسه.
غ :
حقا، إن من يطري التعدي إنما يقول هذا القول.
س :
ومن الناحية الأخرى، أليس المدافع عن فائدة العدالة يدعي أن الأفعال والأقوال يجب أن تؤدي إلى تسويد الإنسان الباطني على الإنسان كله؟ وأن يستعين بالأسد كحليف على تأليف الوحش المتعدد الرءوس وتطبيعه كما يطبع الفلاح بهائمه، مغذيا أقسامه الأليفة، ومربيا إياها مؤخرا نمو القسم الوحشي. وهكذا يوالي تمرينه على أساس ضم الأقسام بعضها مع بعض، ومصالحتها معا.
غ :
نعم، هذه هي حتما مدعيات من يمدح العدالة.
س :
وأن مطري العدالة يقول الحق في كل حال، أما مطري التعدي فكذوب، فباعتبار اللذة والشهرة أو الفائدة أن مادح البار صادق، وكل انتقادات خصومه جهالة وغير صحيحة.
غ :
إني أرى هذا الرأي.
س :
فلنحاول إقناعه بتؤدة (لأن خطأه غير متعمد)، فنضع أمامه هذه المسألة: يا صديقي الصالح، ألا يمكننا أن نقول إن التمارين المحسوبة جميلة أو جنونية، إنما حسبت هكذا باعتبار إخضاعها (أقسام) طبيعتنا البهيمية للإنسان. وربما كان الأفضل أن أقول «للقسم الإلهي» باعتبار أنها تؤالف القسم الشرس، الخادم والعبد؟ فهل يقول نعم؟ أو بماذا يجيب؟
غ :
إذا قبل رأيي فإنه سيقول نعم.
س :
فعملا بهذا الجدل: هل هو مفيد لأحد أن يأخذ ذهبا بغير حق، إذا كانت النتيجة أنه حالما يقبض الذهب يستعبد القسم الأفضل فيه للقسم الأدنى. أو أنه من المسلم أنه يقبض ثمن أبيه ابنه أو ابنته للعبودية لسادة أشرار همج، فليس في مصلحته أن يفعل ذلك ولو قبض بدر الأموال. أفيقال جدلا أنه استعبد بدون شفقة أقدس قسم في ذاته، لأنجس قسم وأشر قسم؟ ألا يكون تناوله الذهب على هذا المنوال سببا لدمار أفظع مما صنعت يوريفيلي التي أخذت عقدا ثمن حياة زوجها؟
غ :
إني أجيبك عنه أن ذلك العمل أكثر دمارا من عملها.
س :
أولا تظن أن الفجور ذميم للسبب نفسه، وهو أنه بانتشاره ينال الوحش المخيف المتعدد الرءوس حرية أكثر مما يجوز له؟
غ :
واضح أنك مصيب.
س :
أوليست الكلمات «عناد، وتبرم» تستخدم للإعراب عن التعنيف والملام، حين تسويد الأسد والحية وتعظيمهما فوق الحد؟
غ :
تماما هكذا.
س :
أولا يذم البذخ والتخنث لأنهما يضعفان عزيمة المخلوق ويفتان في عضده بخلقهما الجبانة في نفسه؟
غ :
يخلقانها بدون شك.
س :
أولا يرمى المرء بألفاظ التمليق والهوان حين يخضع الحيوان النشيط للوحش المعربد، ويسد شوق هذا الأخير للمال، ويدرب الأول منذ البداءة على نسق كثير الإهانة، فيصير قردا بدل كونه أسدا؟
غ :
حقا إنك مصيب.
غ :
واسمح لي أن أسألك: هل تحسب الخشونة والفظاظة أمرا ساقطا؟ أولا يمكننا القول إن هذه الألفاظ تدل على أن أفضل عناصر الإنسان الذي قيلت فيه هي ضعيفة طبعا، عوض كونه أهلا لحكم الخلائق التي في نفسه، وقد سلمها الحكم واقتصر على إتقان مسايرتها وتمليقها؟
غ :
هكذا يتضح.
س :
أولا نقول إن شخصا كهذا لكي تحكمه سلطة تحكم أفضل رجل، يجب أن يخضع للمثل الأعلى الذي يسوده عنصره الإلهي؟ ولا تتصورن أن العبد يساد لضرره، كما ذهب ثراسيماخس إلى أن هذه «قرعة الرعية»، بل بالضد من ذلك نعتقد أن الأفضل لكل واحد أن تحكمه قوة إلهية حكيمة، مقرها في داخله إذا أمكن، وإلا فتملى عليه من الخارج، لنكون كلنا سواء على قدر ما تسمح الطبيعة، وأصدقاء بعضها لبعض؛ لأن ربانا واحدا يدير دفة سفينتنا.
غ :
صواب تام.
س :
وواضح أن هذا مقصد الشريعة - الصديق العام لكل أفراد الدولة - ومقصد حكومة الأولاد القاضية بانتزاع حريتهم، إلى أن يؤسس دستور فيهم كما فعلنا في المدينة، ويثقف أشرف مبدأ في طبيعتهم، واضعين في قلوبهم وازعا وملكا قسيم ما فينا، فمن ثم نبيح لهم حريتهم.
غ :
نعم، ذلك واضح.
س :
فبأية حجة يا غلوكون وبناء على أي مبدأ يمكننا أن نقول: إنه يفيد الإنسان أن يكون متعديا أو فاجرا أو يرتكب أي عمل دني، يهبط به إلى أعماق الرذيلة فيزيد ثروته وقوته بفعلته؟
غ :
لا يمكننا قبول هذا التعليم على أي أساس.
س :
وبأية حجة نؤيد منافع إخفاء التعدي ونهرب من عقوباته؟ ألست مصيبا في ظني أن الإنسان الذي نجا من انكشاف أمره يزداد شرا عن ذي قبل؟ أما إذا انكشف وعوقب يخمد قسمه البهيمي ويألف ويتحرر القسم الأليف، وتفرغ النفس في قالب أسمى الصفات، وتبلغ بواسطة العفاف والعدالة مع الحكمة حالا أفضل مما بلغ الجسد المجهز بالقوة والجمال والصحة، بقياس فضل النفس على الجسد؟
غ :
نعم، حقا إنك مصيب.
س :
أستخلص مما تقدم أن الحصيف يوجه كل قواه في الحياة نحو هذا الغرض الواحد، ويكون عمله أن يحترم في الدرجة الأولى الدروس التي تطبع نفسه بطابع هذه السجية، ويهمل كل ما سواها.
غ :
واضح.
س :
وفي الدرجة الثانية عادة الجسد وتغذيته، بعيدا عن الانغماس في لذة البهيم الطائشة، وعنده حتى الصحة ليست غرضا، فلا يعلق عليها أكبر شأن بطلب القوة أو الصحة أو الجمال، إلا إذا أدت إلى العفاف؛ لأن غرضه الخاص في ضبط لحن الجسد هو أن يحتفظ بالنغم الذي مقره النفس.
غ :
نعم، لا شك في أنه يحتفظ إذا رام أن يكون موسيقيا حقيقيا.
س :
أولا يبدي أيضا مقدار الشدة التي يدعم بها النظام والاتفاق الذي يستند إليه في طلب الثراء؟ أولا يتجنب الانبهار بتهاني الجمهور إياه بمضاعفة ثروته إلى ما لا نهاية، فيجلب ذلك له اضطرابا لا حد له؟
غ :
أظن أنه يتجنب ذلك.
س :
وعلى الضد من ذلك، يجعل حرصه على الاستناد إلى النظام الداخلي وسهره التام، ألا يتحول أحد أقسامه عن لياقته بداعي زيادة أرزاقه أو قلتها، يجعل هذين مبدئين يتبعهما اتباعا مدققا في سعيه إلى إحراز الثروة وإنفاقها.
غ :
حتما هكذا.
س :
وبالنظر إلى الشرف، يسر بأن يضع نصب عينيه على الدوام المقياس الذي به يزاول الوسائل التي يعتقد أنها تجعله أفضل من ذي قبل، ويمقت في السر والعلن ما يظن أنه يقلب حاله الحاضرة.
غ :
إذا كان ذلك غرضه الخاص، فأرى أنه لا يرتضي بأن يتدخل في السياسة.
س :
وذمتي أنك مخطئ؛ لأنه يتدخل فيها بالتأكيد بأقل الدرجات في مدينته إذا لم يكن في وطنه الواسع، ما لم يصده عن ذلك حادث قضائي.
غ :
فهمت أنك تعني أنه يفعل هكذا في المدينة التي أكملنا نظامها، المحصورة في عالم الخيال، لأني لا أعتقد أنها توجد على وجه الأرض.
س :
قد يكون في السماء منها نموذج لمن يروم أن يراه، ويبني نفسه على مثاله. وأما مسألة وجوده على الأرض في الحاضر أو المستقبل، فليست بالأمر المهم؛ لأنه على كل يختار نظم مدينة كهذه ويجري عليها، معرضا عن كل ما سواها.
غ :
الأرجح أنه يفعل ذلك.
الكتاب العاشر: التقليد وجزاء الفضيلة
خلاصته
يستأنف سقراط الكلام في الكتاب العاشر في الشعر والتقليد بوجه عام، وسؤاله هو: ما هو فن التقليد؟ خذ الفراش مثلا، أو الخوان، فلنا في الأول: (1)
مثل الفراش أو رسمه على ما خلقه الله. (2)
الفراش الذي صنعه المنجد. (3)
الفراش الذي رسمه الرسام.
وهو نسخة عن المثال الثاني، وهذا بدوره نسخة عن المثل الأول.
وبالطريقة نفسها يقلد الشاعر ليس المثل فقط، وهي هي اليقينيات الوحدة، بل ظاهرات الحياة اليومية ، والآراء الذائعة بين المهذبين بعض التهذيب.
وانظر في القضية بالطريقة التالية: كل مصنوع كاللجام مثلا، فيه ثلاثة فنون متمايزة، أحدها: يعلم الإنسان كيف يستعمله، والثاني: يعلمه كيف يصنعه، والثالث: كيف يقلده. فالذي يستعمله وحده يمتلك المعرفة الحقيقية «العلمية» بالشيء، وهو يعلم الصانع طريقة صنعه، وهذا الصانع يمتلك «تصورا» صحيحا.
أما المقلد فلا يمتلك علما ولا تصورا صحيحا، بل وهما غامضا في ما يقلده، فبأي أقسام العقل يختص التقليد؟ طبعا إنه لا يختص بالعنصر العقلي، وهو أشرف أقسام الطبيعة، بل يختص بعنصر أدنى منه، هو أبدا على استعداد للانسحاب أمام المصيبة، ويكثر فيه التغير والقلق، فيتسع فيه أمامهما ميدان التقليد؛ لأن الخلق الرصين الهادئ قلما يبدي ميلا إلى التقليد الشعري، ولا يعرف قدرا لتعب التقليد، ولا يقدره الناس الذين اعتاد الشعراء المثول لديهم بأشعارهم.
والطامة الكبرى أن الشعر يصغر النفس؛ لأنه يجرنا إلى الشعور العميق بآلام الآخرين، فتضعف عزائمنا ونقعد عن حمل أحمالنا؛ ولذا كنا ملزمين رغم إرادتنا أن نضع القانون القائل: يباح من الشعر فقط تسابيح الآلهة، وتقاريظ كبراء الرجال، والأعمال الشريفة؛ لأن الصلاح ليس أمرا سهلا، وعلينا حتما تجنب كل ما يعارض نمونا في الفضيلة.
ويختم الموضوع بتقدم سقراط إلى البحث في جزاء الفضيلة، الذي يزداد زيادة لا حد لها باعتبار خلود النفس، الذي تبرهن على صحته برهانا مختصرا. لكل شيء آفة خاصة أو داء يحل به فيفضي إلى دماره، فالعمى يتلف البصر، والعفن يفسد القمح، والسوس يعطل الخشب، أما داء النفس العضال فهو التعدي، والفجور، والجبانة، والجهل. أفتفني هذه الأدواء النفس؟ كلا ثم كلا، فإن تلك الأدواء لا يمكنها أن تفني النفس في «الحال» كما يقتل الداء العضال الجسد، ولكنها تكون في «الحال» سبب إعدام القاتل بحكم الآخرين، وهو شيء آخر غير فناء النفس. وإذا لم يقتل الشر النفس فلا شيء آخر يقتلها؛ ولذا فالنفس خالدة.
وإذ قد اكتفينا بأن العدالة هي في حد ذاتها خير جزاء للعادل، فيحسن بنا أن نعتبر الأمجاد والأرباح التي تسبغها عليها الآلهة والناس؛ لأننا لسنا نرتاب في أن الآلهة تحبه، وأن ضروب العناية متجهة إلى خيره ولو ظهر أنها مناقضة ذلك. وكثير من الناس يحبونه ويكرمونه في أواخر حياته إذا لم يكن قبل ذلك.
وأخيرا، كل أنواع الجزاء والمكافأة المذكورة هي لا شيء إذا قيست بما أعد للعادل من الجزاء بعد موته. ولكي يوضح سقراط ذلك أورد أسطورة آر بن أرمينيوس، وبهذه القصة تختم الجمهورية.
متن الكتاب
سقراط :
ينبغي لي أن أقول وأنا مقود بمنوع موضوعات التفكر: أني أعتقد بأننا كنا مصيبين في الخطط التي رسمناها لتنظيم الدولة، ويزداد هذا الاقتناع في حينما أفكر بقوانيننا الشعرية.
غ :
وما هي طبيعتها؟
س :
أن لا يباح فرع الشعر التقليدي في حال من الأحوال، وقد صارت مسألة خطر الشعر خطرا تاما أوضح من ذي قبل، بعد أن حددنا أقسام النفس.
غ :
أوضح ما تعني.
س :
أؤكد أنك لن تشكوني لناظمي المآسي وكل جمهور المقلدين، فلا أخشى أن أقول إن الشعر التقليدي قاطبة مضر بأفهام سامعيه، ولا سيما الذين ليس لهم علاج شاف مبني على معرفة طبيعة الشعر معرفة حقيقية.
غ :
وما هو مضمون كلامك؟
س :
يجب أن أصرح بفكري رغما عن احترامي هوميروس، الذي أحسبه منذ حداثتي أمير ناظمي المآسي والمراثي الأعظم. على أنه من الخطأ تضحية الحقيقة إكراما للإنسان؛ لذلك يجب أن أقول قولي.
غ :
قل من كل بد.
س :
فاسمعني، بل أجبني.
غ :
سل ما تريد.
س :
هل تقدر أن تقول لي ما هو التقليد بوجه الإجمال؟ فإني حائر في فهم معناه الحقيقي.
غ :
أوتتوقع مني أن أفهمه أنا؟!
س :
لا غرابة في ذلك، فقد يرى حسير البصر ما لا يراه حاد البصر.
غ :
هذا حق، ولكني لا أجرؤ على القول في حضرتك حتى ولو تجلى الأمر لي، فلاحظه أنت لذاتك.
س :
أفتريد أن نستأنف بحثنا بالأسلوب الذي اتبعناه في افتتاح كلامنا؟ فقد والينا عادة أن نفرض وجود صورة تشمل خصائص عديدة نطلق عليها اسما واحدا، أتفهمني أم لا؟
غ :
أفهمك.
س :
فلنتخذ إذا ما يلائم مسرتك. مثلا: توجد فرش وخوانات عديدة.
غ :
مؤكد.
س :
على أنه بين كل الصور المتعلقة على هذه الأشياء توجد اثنتان، الواحدة رسم فراش، والأخرى رسم خوان.
غ :
نعم.
س :
أولم نعتد القول إن صانع كل من هذه الأشياء ينظر فيما هو يصنع، إلى رسم الفرش والخوانات التي نستعملها أو غيرها من الأشياء؟ إذ لا صانع يصنع الرسم نفسه؛ لأن ذلك محال.
غ :
حقا إنه محال.
س :
فانظر كيف نصف الصانع التالي.
غ :
إلى من تشير؟
س :
أشير إلى الصانع الذي يصنع كل الأشياء التي تدخل مملكة العمال.
غ :
إنك تذكر صانعا ماهرا.
س :
مهلا فتكون لك أسباب كافية لهذا القول؛ لأنه علاوة على كونه يخلق جميع الأحياء وهو في جملتهم وسائر الناس، فإنه عدا ذلك يصنع كل ما تنبت الأرض، وكل الأجرام السموية، وكل الخلائق في العالمين والسماء والآلهة.
غ :
ما أمهر الصانع الذي تصنعه!
س :
إنك لا تصدقني. فقل لي: أتظن أن وجود صانع كهذا مستحيل قطعا؟ أو إنك تعتقد أن وجوده ممكن باعتبار ما، وباعتبار آخر غير ممكن؟ أو تجهل أنك أنت نفسك تستطيع أن تصنع هذه الأشياء المتعددة بطريقة خاصة؟
غ :
وما هي تلك الطريقة؟
س :
لا شيء من الصعوبة فيها، فإنها وسيلة كثيرة التنويع، وربما كانت أسرع طريقة أن تأخذ مرآة وتديرها إلى كل الجهات، فإنك في الحال تصنع الشمس، وكل ما في السموات، والكواكب والأرض، وتصنع نفسك وغيرك من الناس والحيوانات والنباتات والأواني وكل ما ذكر الآن، بأوفر سرعة.
غ :
نعم، إننا نستطيع أن نصنع ظاهرات كثيرة، ولكنها ليست أشياء موجودة حقيقة.
س :
أصبت، وإن ملاحظتك في محلها. وفي رأيي أن الرسام هو من هذه الطبقة. أليس هو منها؟
غ :
محقق أنه منها.
س :
ولكني أظنك تقول إن ما يصنعه ليس بحقيقي. مع ذلك فالرسام أيضا بطريقة من الطرق يصنع فراشا. أتراني مخطئا بذلك؟
غ :
أجل. إن الرسام يصنع فراشا ظاهريا.
س :
وما قولك في المنجد؟ أفلم تقل الساعة إنه لم يصنع «الصورة» التي تعين حسب بحثنا حقيقة الفراش، إنما صنع فراشا خاصا؟
غ :
بلى، قد قلت هكذا.
س :
فإذا لم يصنع ما يوجه حقيقة أفلا نقول له إنه لم يصنع شيئا حقيقيا؟ بل صنع ما يشبه الحقيقي ولكنه غير حقيقي؟ وإذا وصف أحد صنع صانع الفراش أو صنع غيره من الصناع بأنه حقيقي تام، كان بيانه في الأمر على الأرجح غير حقيقي، أليس كذلك؟
غ :
بلى، حسب رأي أرباب الخبرة في هذا البحث.
س :
فلا ندهشن إذا وجدنا أن أشياء محسوسة كالفراش ليست إلا ظلالا بإزاء الحقيقة.
1
غ :
حق.
س :
أفتريد أن نستخدم هذا الإيضاح في بحثنا في طبيعة المقلد الحقيقية؟
غ :
إذا كنت تريد.
س :
حسنا، هنالك ثلاثة أنواع من الفراش، واحد منها يوجد في طبيعة الأشياء، وهذا إذا لم أكن مخطئا ننسبه إلى صنع الله. وإلا فإلى من ننسبه؟
غ :
لا نقدر أن ننسبه إلى غيره تعالى.
س :
والثاني عمله المنجد.
غ :
نعم.
س :
والثالث هو صنع الرسام.
غ :
ليكن كذلك.
س :
فهنالك ثلاثة أنواع من الفرش، وثلاثة مسيطرين على صنعها: الرسام، والمنجد، والله.
غ :
نعم ثلاثة.
س :
ولا يعلم هل أن الله لم يرد أن يصنع أكثر من فرش واحد، أو أن هنالك ضرورة حالت دون صنعه أكثر من واحد في الكون؟ فهو على كلا الحالين، قد عمل تعالى فراشا واحدا فقط، وهو الفراش الجوهري التام، ولكن اثنين أو أكثر من اثنين لم يخلق الله ولن يخلق.
غ :
وكيف ذلك؟
س :
لأنه لو عمل الله اثنين فقط، فلا مندوحة عن ظهور فراش مفرد يدخل شكله في الفراشين كل في دوره. «وهذا» يكون «الفراش» الجوهري التام، لا الاثنان.
غ :
إنك مصيب.
س :
فالله - وهو عالم بذلك - أراد على ما أظن أن يكون صانعا حقيقيا للفراش الحقيقي، لا صانعا غير محدود لفراش غير محدود؛ لذلك خلق فراشا مفردا.
غ :
هكذا يظهر.
س :
أفتستحسن أن ندعوه مثلا: خالق هذا الشيء؟
غ :
نعم، إنما هو حق أن نفعل هكذا. حيث إنك ترى لعمل الخلق صنع هذا وكل شيء آخر.
س :
وماذا نقول في أمر المنجد؟ ألا نصفه كمستنبط الفراش؟
غ :
بلى.
س :
أفنتقدم إلى القول إن الرسام هو أيضا مستنبط وصانع الأداة نفسها؟
غ :
مؤكد لا.
س :
فما هو في حسبانك بالنسبة إلى الفراش؟
غ :
في رأيي أننا ندعوه مقلدا للشيء الذي صنعه الاثنان السابق ذكرهما.
س :
حسنا، أفتدعوه مقلدا؛ لأنه صنع ما نقل عن أصله مرتين؟
غ :
نعم، تماما هكذا.
س :
ولما كان ناظم المأساة مقلدا، أمكننا أن نتكهن كذلك أنه مع كل المقلدين، الثالث في انحداره من الملك ومن الحقيقة.
غ :
هكذا يظهر.
س :
فنحن إذا متفقون في طبيعة المقلد، فأجب عن مسألة واحدة في الرسام: هل تظن أنه يجرب أن يقلد الشيء الأصلي المخلوق؟ أو صنع الصانع؟
غ :
يقلد الأخير.
س :
أو يقلدها على ما هي في ذاتها؟ أو كما تظهر؟ حدد ذلك بالضبط.
غ :
ماذا تعني؟
س :
أعني هذا: أتختلف ذاتية الفرش سواء رئي من جانبه، أو من مقدمه، أو من جهة أخرى؟ أم يبقى على ما هو ولو اختلف ظاهرا؟ وعلى هذا القياس بقية الأشياء؟
غ :
الأخير هو البيان الحقيقي، يختلف باختلاف النظر إليه، وهو لا يتغير.
س :
فهذه هي النقطة التي أود اعتبارها: إلى أي الأمرين يرمي الرسم؟ أإلى تقليد الطبيعة الحقيقية للأشياء الحقيقية؟ أم الطبيعة الظاهرة للظاهرات؟ وبعبارة أخرى: أتقليد الخيال هو؟ أم تقليد الحقيقة؟
غ :
تقليد الأول.
س :
ففن التقليد في رأيي قد طلق الحقيقة بتاتا، وظاهر أنه يؤثر كثيرا؛ لأنه يتناول قسما صغيرا من امتداد الموضوع، وذلك القسم غير مهم، مثلا: نقول إن الرسام يرسم لنا إسكافا، أو نجارا، أو أي صانع آخر، دون أن يعرف شيئا عن صفتهم. ومع ذلك الجهل فلنفرض أنه رسام ماهر، فإذا رسم نجارا وعرض رسمه عن بعد، فإنه يخدع الأولاد والسذج، فيتوهمون أنهم يرون نجارا حقيقيا.
غ :
لا شك في ذلك.
س :
وليكن ذلك كيفما يكون، فإني أخبرك يا صديقي كيف يجب أن نشعر في كل الأحوال من هذا القبيل، فحين يخبرنا أحد أنه التقى برجل بارع في كل صنعة، وقد جمع في شخصه كل المعارف التي يمتلكها آحاد الناس، إلى درجة لا يفوقه فيها رجل آخر، فيجب أن نجيب مخبرنا أنه إنسان ساذج، وأنه ولا بد قد التقى بمشعوذ مقلد خدعه، فصار يعتقد فيه العلم بكل شيء؛ لأنه لا يقدر أن يميز بين العلم والجهل والتقليد.
غ :
محقق أعظم تحقيق.
س :
أفلا يجب أن نتقدم إلى النظر في المأساة وزعيمها هوميروس؟ لأننا سمعنا عن الناس أن الشعراء الروائيين يعرفون كل شيء إنساني يتعلق بالفضيلة والرذيلة، بل والأشياء الإلهية أيضا، علاوة على معرفتهم كل الفنون؛ لأنهم يقولون: لكي يجيد الشاعر نظمه يجب عليه أن يلم بموضوعه، وإلا كان عاجزا في قرض الشعر، فينبغي لنا أن نبحث لنرى: أمجرد مقلدين كان الشعراء الذين التقوا بهؤلاء الناس، الذين لدى وقوفهم على رواياتهم خدعوا؛ لأنهم لما رأوا تمثيلها عجزوا عن أن يدركوا أنها نسخة ثالثة عن الحقيقة، وأنها صنعت بسهولة بأيدي أناس لا يعرفون الحقيقة؛ لأنها أشباح لا حقائق؟ أهذه هي الحالة مع القائلين؟ أم أنهم أصابوا المرمى في قولهم إن الشعراء المجيدين يعرفون حقيقة الموضوعات التي يرى الجمهور أنهم أجادوها؟
غ :
نعم، يجب أن نفحص الأمر من كل بد.
س :
أفتظن أن الإنسان إذا استطاع أن يصنع الأصل وما نسخ عنه، يقف نفسه على عمل النسخ باهتمام، ويجعل ذلك غرض حياته، بداع أنه عالم بأشرف الأغراض؟
غ :
لا أظن.
س :
بل لو أنه كان فاهما طبيعة الأشياء التي يقلدها لوجه نحو الأعمال الحقيقية جهدا أعظم جدا من جهده في تقليدها، ولسعى ليترك بعده آثارا كثيرة جميلة؛ تخليدا لذكره، مؤثرا أن يكون ممدوحا على أن يكون مادحا.
غ :
أوافقك؛ لأن المجد والنفع أكثر جدا في الحال الواحد منه في الآخر.
س :
فلنضرب صفحا عن إيضاح الأشياء العادية، ولا نسأل هوميروس أو غيره من الشعراء، إذا كان أحد الشعراء الأقدمين أو المحدثين قد برع في الطب غير مكتف بتقليد لهجة الأطباء فقط، فنسألهم إيضاحا: لماذا ليس لأحدهم شهرة أسكولابيوس في شفاء الأمراض، ولم يخلفوا مدرسة من الأطباء كما خلف هو؟ ولا نسألهم عن سائر الفنون، بل نحذفها من لائحة البحث. ولكنا نسألهم عن أعظم الأشياء وأجملها، وهي التي حاول هوميروس أن يصفها: كالحروب، وتنظيم الحملات الحربية، وإدارة المدن، وتهذيب الناس، فمن العدل أن نناقشه قائلين: يا عزيزي هوميروس، إن كنت حقا في الدرجة الثانية من الحقيقة لا في الثالثة، باعتبار الفضيلة، وإذا كنت صانع الحقيقة لا الخيال كما حددنا المقلد، وإذا كنت قادرا أن تجعل الإنسان أفضل أو أردأ في الشئون الصحية والجمهورية، إذا كنت كذلك فأخبرنا: أي المدن مدينة لك بحسن نظامها، كما صارت لقدمونا بفضل ليكورغس، وكما صارت مدن غيرها كبيرة وصغيرة أفضل مما كانت بفضل غيره من الشارعين؟ فأي المدن تنسب إليك هذه الفوائد التي استخرجتها من مجموعة الشرائع الحسنة؟ فإن إيطاليا وصقلية تقران بفضل خارونداس، ونحن نقر بفضل صولون، فأية دولة تقر بفضلك؟ أفيقدر أن يذكر دولة واحدة من هذا القبيل؟
غ :
لا أظن. أقله أننا لم نسمع ذلك، حتى ولا من الشعراء الذين يفتخرون بأنهم خلفاؤه.
س :
فهل ذكر التاريخ حربا في عهد هوميروس انتهت نهاية سعيدة بقيادته أو بمشورته؟
غ :
كلا، ولا واحدة.
س :
حسنا، فهل قيل إنه استنبط طائفة من الاختراعات الصحيحة، كطاليس المليطي، وأناخرسيس السكيثي، تتعلق بالفنون المفيدة أو بأشياء عملية أخرى، تثبت أنه كان رجلا حكيما في أعمال الحياة العملية؟
غ :
لم يرو عنه شيء من هذا النوع.
س :
حسنا، فهل روي عن هوميروس - وإن لم يكن رجلا عموميا - أنه قام في حياته بتهذيب فئة خاصة من التلاميذ، كانوا يسرون بالاجتماع معه، وقد أورثوا الذراري نسق حياة هوميريا، كما كان فيثاغورس محبوبا حبا خارقا كعشير وكرفيق، عدا كون خلفائه الذين ما زالوا يطلقون اسمه على نسق حياتهم، هم شخصيات بارزة في الدنيا؟
غ :
لا يا سقراط، لم يرو عنه شيء من هذا النوع. وإذا صحت الروايات عن هوميروس فبالحقيقة أن تهذيب صديقه كريوفيلس كان أمرا أكثر هزءا من اسمه؛ لأنه بلغنا أنه حتى كريوفيلس كان يجهل هوميروس
2
وهو في عصره.
س :
لا شك في صحة الرواية. ولكن أتظن يا غلوكون أنه لو كان هوميروس قادرا أن يهذب الناس ويزيدهم فضلا بمقدرته التقليدية، وبمعرفته الموضوعات المشار إليها، أفكان يعجز عن جمع جمهور من المعجبين به يلتفون حوله كما فعل بروتاغوراس الأبديري، وبروديكس الخيوسي، وكثيرون غيرهما ممن استطاعوا كما رأينا أن يقنعوا معاصريهم بالعلاقات الخاصة بهم، أنهم لم يتمكنوا من إدارة بيوتهم ومدينتهم لولا أنهم «هم» ناظروا على تهذيبهم. وجريا على الحكمة البادية في ذلك، ضمنت لهؤلاء الأساتذة محبة لا حد لها، حتى حملهم رفقاؤهم على الأكتاف. أفيعقل أنه لو كان هوميروس وهسيودس قادرين أن يرقيا الناس في معارج الفضيلة، أن يسمح معاصروهما لهما أن يجولا ينشدان أشعارهما؟ أفما كانوا يحرصون عليهما ولا حرصهم على الذهب! ويحملونهما على الإقامة معهم؟ وإذا عجزوا عن إقناعهما أفما كانوا يتبعونهما في كل مكان كتلامذة ليحصلوا على التهذيب الكافي؟
غ :
لا أشك في أنك مصيب يا سقراط.
س :
أفلا نستنتج مما تقدم: أن جميع الشعراء من هوميروس وصاعدا مقلدون، نسخوا صورا خيالية في كل ما نظموا، ومن جملة تلك نظمهم في الفضيلة، فلم يلمسوا الحقيقة؟ وكما قلنا الساعة: ألا يرسم الرسام وهو لا يعرف شيئا عن السكافة، رسما يحمل الجهلاء أمثاله على الظن أنه إسكاف؛ لأنهم يحصرون نظرهم في الأشكال والألوان؟
غ :
مؤكد أنه يصنع ذلك.
س :
فعلى الطريقة نفسها أرى الشاعر كالرسام، يضع طائفة من الألوان في شكل أفعال وأسماء، ليمثل حرفا لا يعرف منها إلا ما يمكنه من تقليدها، فإذا قرض الشعر وزنا وقافية واتساقا، واصفا به السكافة مثلا أو القيادة أو أي موضوع كان، أعجب الجاهلون أمثاله به لاعتمادهم في أحكامهم صورة البيان، فتخلب ألبابهم التطبيقات الموسيقية المار ذكرها. والفتنة بهذه التطبيقات الموسيقية فعالة جدا بطبيعتها، لأني أظن أنك تعرف المظهر الحقيقي الذي يظهر به الشعر، إذا تجرد عن صبغته الموسيقية وكان عاريا من كل ثوب. ولا شك في أنك قد لاحظت ذلك.
غ :
نعم لاحظته.
س :
أفلا يذكر الإنسان حينذاك بالهيئة الذابلة الظاهرة في محيا من كانوا فيما سبق ذوي رونق من غير أن يكونوا ذوي جمال، بعد ما فارقهم رونقهم؟
غ :
حتما هكذا.
س :
فدعني أسألك فحص النقطة التالية: إن صانع الرسم أو المقلد حسب رأينا، يدرك الظاهر دون الحقيقة. أليس كذلك؟
غ :
بلى.
س :
فلا نترك الموضوع موضحا بعض الإيضاح. بل علينا أن نفحصه فحصا وافيا.
غ :
تقدم.
س :
يرسم الرسام حسب بياننا لجاما وعنانا، ألا يرسم؟
غ :
بلى.
س :
ولكن الزمام والعنان يصنعهما السروجي والحداد. ألا يصنعانهما؟
غ :
بالتأكيد.
س :
أفيفهم الرسام كيف يجب أن يكون شكل العنان واللجام؟ أو أن صانعيهما أنفسهما - السروجي والحداد - لا يفهمان أمرهما تمام الفهم كما يفهمه الفارس الذي يعرف كيف يستعملهما؟
غ :
إنه بيان حقيقي في هذا الموضوع.
س :
أفلا يصدق هذا الحكم على شيء؟
غ :
وماذا تعني؟
س :
ألا يمكننا القول إن في كل شيء على حدة ثلاثة فنون خاصة؟ مجال الفن الأول: استعماله، والفن الثاني: صنعه، والثالث: تقليده.
غ :
بلى يمكننا.
س :
أفليست فضيلة وجمال وكمال كل الأدوات المصنوعة، أو المخلوقات الحية، تستعمل طبقا للغاية المقصودة من صنعها أو من تركيبها الطبيعي؟
غ :
حقا هي كذلك.
س :
ولذلك يكون من يستعمل شيئا أعرف العارفين به، ويستطيع أن يخبر صانعه بهذه الواسطة هل أجاد صنعه أو أساء. مثلا: إن النافخ في الناي يخبر صانعها عن النايات التي يستعملها في فنه، ويرشده إلى كيف يصنعها، فيخضع لهذا الإرشاد في صنعها.
غ :
معلوم ذلك.
س :
فللأول معرفة تامة بالناي الجيدة والردية يعتمدها في طريقة صنعها، ويجود على صانعها بإرشاده. أليس هذا هو الواقع؟
غ :
بلى، هذا هو.
س :
فصانع الآلة يستمد رأيه في حسنها أو قبحها ممن له دراية تامة في الموضوع، وهو ملزم بالإصغاء إلى إرشاده، وأما من يستعملها فعنده العلم الصحيح في الأمر.
غ :
بالتمام هكذا.
س :
فأي الأمرين يمتلك المقلد؟ أيستطيع أن يعرف معرفة فنية ناشئة عن الاستعمال، هل الأشياء التي يصنعها جيدة أو ردية أو لا؟ أم هل له رأي سديد ناتج عن علاقته الضرورية بالخبير بها، ولإرشاده يخضع في الأسلوب اللازم لصنعها؟
غ :
لا هذا ولا ذاك.
س :
فلا يعرف المقلد علما ولا يمتلك رأيا صحيحا في ما يقلده باعتبار جماله أو قبحه؟
غ :
يظهر أنه لا يعرف ولا يمتلك.
س :
فالشاعر المقلد حكيم جدا في ما يتعاطاه.
غ :
ليس تماما.
س :
فهو يسير في تقليده بالرغم من جهله ما يقوم به جمال الشيء أو قبحه جهلا تاما، ولكنه حسب الظاهر يقلد أوصاف الجمال المبهمة الرائجة عند جمهور الأميين.
غ :
نعم، وماذا يمكنه أن ينسخ أيضا؟
س :
فالظاهر أننا اتفقنا كل الاتفاق في أن المقلد لا يعرف شيئا مهما عما يقلده، فالتقليد عنده مجرد لهو وتسلية لا عملا جديا. وأن الذين نظموا أشعار المآسي في الأراجيز والأدوار القصصية على الأرجح كلهم بلا استثناء مقلدون.
غ :
تماما هكذا.
س :
فقل بحق السماء: أليس ما يتناوله فن التقليد هو منسوخ عن أصله مرتين؟ أجب.
غ :
نعم منسوخ.
س :
فكيف تصف قسم الطبيعة الإنسانية الذي تمارس به القوة التي تمتلكها؟
غ :
أوضح ما تعنيه.
س :
سأوضح: أرى أن الأشياء من حجم واحد تظهر لنا مختلفة حجما باعتبار بعدها عن عيوننا.
غ :
إنها تظهر هكذا.
س :
وأن الأشياء تظهر عوجاء في الماس، ومستقيمة إذا خرجت من الماء، وتظهر الأشياء نفسها محدبة أو مقعرة بسبب الخطأ اللوني الذي تتعرض له العين. وواضح أن في النفس اضطرابا تاما من هذا النوع، فهذا هو نقصنا الطبيعي الذي يهاجمه فن الرسم بكل نوع من السحر، كما في الشعوذة وفي كثير من المخترعات من هذا القبيل.
غ :
حقيق.
س :
أولا تظهر أعمال القياس والعد والوزن أعظم مساعد لنا في دفع هذه الأوهام، لنتغلب على قوة الأوهام الغامضة في درجات الحجم والعد والوزن، وضبط المبدأ الذي به نعد ونقيس ونزن؟
غ :
بلا شك.
س :
وهذا أيضا عمل القسم الذهني.
غ :
حقا إنه هكذا.
س :
فحين يخربنا هذا العنصر بعد القياس المتوالي أن هذا أعظم من ذلك، أو أنقص منه، أو مساو له، يظهر لنا في الوقت نفسه أن ذلك خلاف الواقع.
غ :
نعم.
س :
أفلم نقل إنه لا يمكن الشخص الواحد أن يقبل آراء متناقضة في أشياء واحدة في وقت واحد؟
غ :
بلى، وكنا مصيبين في ذلك.
س :
فيظهر لنا أن قسم النفس الذي يحكم ضد القياس لا يمكن أن يكون القسم الحاكم حسب القياس نفسه.
غ :
أكيد لا يمكن.
س :
فعلم النفس الذي يعتمد القياس والعد هو أفضل أقسام النفس.
غ :
أفضلها دون شك.
س :
فما ضاد ذلك القسم فهو من العناصر الدنيا في طبيعتنا.
غ :
بالضرورة.
س :
هذه هي النقطة التي رمت البت فيها لما قلت إن الرسم وكل فن التقليد بوجه عام، يتناول ما بعد جدا عن الحقيقة، وهو يصحب بالأكثر القسم الأبعد فينا عن الحكمة، فهي حظيته وصديقته لغرض غير صحي ولا حقيقي.
غ :
بلا شك.
س :
ففن التقليد حظية لا شأن لها، لصديق لا شأن له، والد جنين لا شأن له.
غ :
هكذا يظهر.
س :
أفنحصر ذلك في التقليد الذي يتمثل للعين، أو نوسعه إلى ما يتمثل للأذن، الذي نسميه شعرا؟
غ :
ربما نوسعه.
س :
فلا نعلق ثقتنا بالبينة الممكن استمدادها من فن الرسم، بل علينا أن نوسع البحث إلى القسم العقلي، الذي يقارنه فن التقليد الشعري؛ لنرى: هل هو صالح أو عديم القيمة؟
غ :
نعم. يجب أن نفعل ذلك.
س :
فلنبين الأمر هكذا: إن فن التقليد إذا كنا مصيبين، يمثل الرجال، يمارسون عملا اختياريا أو اضطراريا، والذين يحسبون أنفسهم باعتبار نتائج أعمالهم أغنياء أو فقراء، والذين هم في وسط هذه الأحوال كلها راغبون في الفرح أو في الحزن، أيوجد ما يضاف إلى ذلك؟
غ :
لا، لا يوجد.
س :
فهل حالة الإنسان في مختلف الأحوال متسقة؟ أو أنه في ضغينة وحرب مع نفسه في أعماله، كما كان في ضغينة وفيه آراء متضادة في الوقت الواحد في موضوعات واحدة، مما يتعلق ببصره؟ على أنني أتذكر أنه لا حاجة إلى اتفاقنا في هذا الموضوع الآن؛ لأننا قد فصلنا في هذا الأمر فصلا كافيا في المحادثات الماضية، التي فيها سلمنا بأن أنفسنا مملوءة بما لا يحصى من المتناقضات في وقت واحد.
غ :
وكنا مصيبين.
س :
نعم، كنا مصيبين. على أننا حذفنا شيئا يجب أن نستأنف البحث فيه.
غ :
وما هو؟
س :
أعتقد أننا قلنا في ذلك الوقت إن الرجل الصالح إذا حلت به نائبة، كفقد ابن أو غير ذلك مما يحسب كارثة عظيمة، كان أكثر احتمالا لها من غيرها.
غ :
مؤكد أنه يحتمل.
س :
أما الآن فلنوسع دائرة الفحص. أفلا يشعر بحزن قطعا؟ أو أنه حال كون ذلك مستحيلا، إنما يراعي نوعا ملطفا للحزن؟
غ :
الأخير هو البيان الأصح.
س :
دعني أسألك سؤالا واحدا عنه: هل تظن أنه يحارب حزنه ويحاول إقصاءه عنه حين نظر أقرانه إليه، أكثر منه حين يكون وحده في عزلة؟
غ :
أظن أنه يحارب حزنه حين يكون منظورا.
س :
وأظن أنه حين يكون وحده يجرؤ على قول كثير مما يخجل أن يقوله على مسمع شخص آخر، ويعمل كثيرا مما لا يريد أن يراه أي إنسان.
غ :
تماما هكذا.
س :
فالذي يستحثه على إقصاء حزنه هو العقل والشريعة، أليس كذلك؟ أما الدافع إلى إظهاره فهو الحزن نفسه.
غ :
حقيق.
س :
ومتى كان في الإنسان جاذبان متناقضان فيما يتعلق بشيء واحد في وقت واحد، فبالضرورة هو إنسان مزدوج (أي إنه اثنان).
غ :
مؤكد أنه مزدوج.
س :
أفلا يميل أحد قسميه لإطاعة إرشادات الشريعة؟
غ :
وما هي تلك الإرشادات؟
س :
أعتقد أن الشريعة تعلمه أن يلتزم السكينة في المصائب، وأن يقصي عنه كل تذمر؛ لأنه لا يمكننا أن نقدر ما في هذه الحادثات من الخير أو الشر، ولأن عدم الصبر لا يفيدنا شيئا، ولأن لا شيء في المصالح البشرية يستحق قلقا خطيرا. على أن الحزن يحول دون ذلك التصرف الذي يجب علينا اختياره في ملماتنا دون ما تأخر .
غ :
إلى ماذا تشير؟
س :
واجبنا أن نتداول الأمور الواقعة، ونرتب أعمالنا بإزاء الطارئ في أفضل طريقة يقرها العقل، كلاعب النرد الذي ينقل حجارته طبقا للزهر الذي رماه. وبدلا من أن يضم الأحداث القسم المجروح من جسمهم لدى سقوطهم على الأرض والاشتغال بالبكاء، يلزم أن نعود النفس أن تبادر إلى أسباب العلاج وشفاء القسم المريض، ونضع حدا للندب بمساعدة الطب.
غ :
حقا إن ذلك أفضل تصرف في النائبات.
س :
فإذا القسم الأفضل فينا يرتضي بأن يقوده حكم العقل.
غ :
واضح أنه يرتضي.
س :
ومن الناحية الأخرى: ألا نؤكد أن العنصر الذي يستنهضنا للافتكار في المصاب والحزن لحلوله، والذي فيه جوع للندب والعويل لا يسد هو قسم جهول كسول، حليف الجبانة؟
غ :
حقيق أننا نقول هكذا.
س :
وإذا الحال كذلك، فالخلق الحزون يقدم للتقليد أدوات لا تحصى، أما الخلق الحكيم الهادئ فهو في حال واحدة غير متغيرة، فلا يهون تقليده، وإذا قلد فلا يسهل فهمه، ولا سيما حين يتجمع كل أنواع الناس في المسرح؛ لأن الناس إذا لم أكن مخطئا يرغبون في أن يشهدوا تمثيل حال غير حالهم.
غ :
من كل بد.
س :
فواضح أن الشاعر المقلد بطبيعة الحال لا دخل له في خلق النفس الهادئ، ولا ترمي حكمته إلى إرضائه إذا رام إحراز الشهرة العالمية، إنما ينحصر عمله بالخلق الحزون المتقلب؛ لأنه يسهل عليه تقليده.
غ :
ذلك واضح.
س :
فنحن أبرياء في وضعنا الشاعر مع الرسام، فإنه يشبهه بإيراده التافهات، إذا قيست بمقياس الحقيقة. وهو يماثله في أنه يواصل قسم النفس الذي يشبهه دون القسم الأفضل. وإذا الحال هكذا، فنحن أبرياء إذا حظرنا دخوله الدولة الراغبة أن تتمتع بنظام حسن؛ لأنه يثير قسم النفس الحقير ويقيته ويشدده، فيهدم القسم الأفضل، كإنسان يشدد سواعد أسافل الدولة ويقلدهم السلطة العليا، وفي الوقت نفسه يقضي على الفئة المهذبة، فنقول جريا على الطريقة نفسها حتما إن الشاعر المقلد يغرس نظاما شريرا في نفس كل فرد، بإرضائه القسم العديم الحس، عوض تمييزه العظيم من الحقير ، فيعتبر الشيء تارة عظيما، وتارة صغيرا، ويلفق أوهاما هي على بعد شاسع عن الحقيقة.
غ :
تماما هكذا.
س :
بقي أننا لم نورد أعظم حجة في شكايتنا؛ لأن ذلك الشعر يفسد أكثر الناس، حتى الصالحين، وذلك في مذهبي جريمة كبرى.
غ :
لا شك في ذلك إذا تبرهنت الدعوى.
س :
فاصغ ثم احكم: فإني أعتقد أن أفضلنا لدى سماعه أبيات هوميروس أو غيره من ناظمي المآسي، يمثل بها بطلا متألما، يفيض في الندب، أو يمثل بعض أشخاص يقرعون صدورهم ويندبون شقاءهم بالأغاني نسر، كما تعلم ونستسلم للعامل، شاعرين مع المصاب، مطرئين الكاتب القادر أن يوافي عقولنا بذلك كشاعر مجيد.
غ :
أعرف ذلك.
س :
ولكن حين يصيب الحزن أحدنا، فإنك عالم أننا نفتخر بسلوكنا غير هذا المسلك، أي نفتخر بكوننا قادرين أن نتحمله بهدوء؛ لأن هذا التصرف في رأيي رجولة، أما التصرف الذي مدحناه سابقا فنسوي.
غ :
إني على بينة من الأمر.
س :
أفي محله ذلك المدح؟ أعني: أمن الصواب أن يسر المرء ويطرئ عوض الاستياء، حين يرى إنسانا يعمل ما يستوجب الخجل والملام؟
غ :
كلا، إن ذلك لا يظهر معقولا.
س :
ليس معقولا، إذا اعتبرته اعتبارا آخر.
غ :
أي اعتبار؟
س :
إذا اعتبرت أن القسم الذي نضبطه لدى حلول ملمة بنا، والذي يتوق إلى الاسترسال في النحيب والعويل؛ لأنه يميل إلى ذلك بطبيعته، هو القسم الذي يغذيه الشعراء سدا لشوقه، فيطرب لهذه الأوصاف. بينما قسمنا الأفضل طبعا يقصر في ضبط القسم المتذمر؛ لأنه لم يحصل على التهذيب اللازم عقلا وعادة؛ لأنه شهد آلام الآخرين، ولأنه يظن أنه لا يعيبه مدح من يحسبه صالحا وإن كان حزنه في غير وقته. والواقع أنه يرى السرور زائدا إشراقا، ولا يأذن أن يسلب ذلك السرور بازدرائه الشعر إجمالا؛ لأنه قد أتيح لقليلين في ما أعلم أن يعلموا ان تصرف الآخرين يؤثر في تصرفنا، فلا يهون علينا ضبط النفس في أحزاننا، وقد أطلقنا لها العنان في التمتع بأحزان الآخرين.
غ :
ذلك عين الصواب.
س :
أولا يتطبق هذا الحكم على المزاح الذي تخجل منه؟ ولكنك تسر به كثيرا في التمثيل وفي الحياة الخاصة ولا تحسبه غير أدبي، فتفعل هنا ما فعلت في أمر الشفقة، لأنك في حادث كهذا تسلم العنان إلى العنصر الذي تضبطه في ما يتعلق بك، حين يميل إلى الاسترسال في الضحك، خوفا من نسبة المجون إليك؟ وإذا قويته ونفخت فيه روحا فإنك تقاد غالبا في ما يختص بك بدون شعور وانتباه إلى اختيار خلق شاعر المهزلة.
غ :
غاية في الصحة.
س :
وفي أمر الحب والغضب، وكل الانفعالات العقلية، ألا يفعل الشعر التقليدي الفعل نفسه في الرغبة والحزن والسرور، إذا صحبناها في كل عمل؟ لأنه يروي العواطف التي يجب أن تجف عطشا، وينعشها ويحكمها فينا، وكان يجب أن نتحكم فيها إذا رمنا أن نكون أسعد وأرقى بدل كوننا أدنى وأشقى.
غ :
لا يمكني الإنكار.
س :
وحين تجتمع يا غلوكون بمادحي هوميروس كمهذب اليونان، وأنه يستحق أن يقرأ كمرشد في إدارة المصالح الإنسانية، وأن على المرء أن يرتب مجرى حياته بتمامها حسب إرشاد الشاعر، فعليها أن تحييهم تحية حب كأناس أفاضل بلغوا حدود استعدادهم الفطري، وتسلم معهم أن هوميروس أول شعراء المآسي وأعظمهم. ولكن لا تنس أن الشعر لا يباح في الدولة إلا في تسبيح الله ومدح الصلاح، أما إذا عزمت أن تبيح تعظيم عرائس الشعر الغنائي والقصصي، تحكم الألم واللذة في دولتك عوض تحكم الشريعة والمبادئ الأكثر انطباقا على حكم الذهن، بإجماع الآراء في كل العصور.
غ :
ذلك حق صراح.
س :
وإذا عدنا إلى موضوع الشعر، فليكن هذا الدفاع مبينا إصابة حكمنا السالف، بإقصائنا عن دولتنا عملا فيه ما ذكرناه من الميول، ولأننا بذلك نخضع للعقل. ولئلا يرمينا الشعراء بالخشونة والسماجة؛ نبين أن هنالك نزاعا طويل الأمد بين الشعر وبين الفلسفة، كما ترى في الأبيات التالية:
كلبة تعوي على
صاحبها بلا حيا
وهذا البيت:
فيا له من مصقع إذا خطب
شنشنة الأحمق فيه تجتنب
وهذا:
متاله في حكمه
وهو سمير السوقة
وهذا:
فيا لفقر القوم ل
ما فكروا عن فطنة
وألوف من هذه الأبيات تبين قديم العداء بين الفريقين. مع ذلك فلنسلم بأن الشعر الذي يرمي إلى المسرة والتقليد إذا أمكن إيراد بينة على لزومه للدولة الحسنة النظام، فإننا نرحب بعودة الشعر إلى الوطن؛ لأننا نرغب في أن نسر بالشعر، ولكن خيانة الحقيقة خطية. ألست مصيبا يا صديقي في ظني أنك تفتتن بالشعر، ولا سيما إذا أمعنت النظر فيه بإرشاد هوميروس؟
غ :
نعم، إني أفتتن به افتتانا شديدا.
س :
أفليس من العدالة إنفاذ القرار القاضي بنفي الشعر حتى يقدم دفاعا مقبولا، إما بالشعر الغنائي أو بوسيلة أخرى؟
غ :
مؤكد أنه عدل.
س :
وأظن أنا نأذن لأنصاره وأحبائه من غير الشعراء بالتزام الدفاع عنه نثرا، فيثبتون أن الشعر مفيد علاوة على كونه سارا، باعتبار علاقته بالحكومة والحياة الإنسانية. ونسمع دفاعهم عن طيبة خاطر؛ لأنه إذا ثبت أن الشعر نافع كما هو سار كنا رابحين.
س :
وإلا يا صديقي العزيز، فيمكننا أن نكتسب درسا من الأشخاص الذين وقد عشقوا يكتمون أشواقهم مهما يكلفهم الأمر، إذا ظنوا أن الجهر بها ضار؛ لأنه مع أن محبتنا شعرا كهذا، وقد نمت فينا تحت ظل نظمنا المحترمة، تجعلنا نرغب رغبة قلبية في أن يكون جميلا وصادقا، فما دام عاجزا عن حسن الدفاع وجب أن نقي أنفسنا حين سمعه، بترديد الأدلة التي بسطناها كأنها رقية ساحر، ونسهر على أنفسنا لئلا نقع ثانية في غرام صبياني عرف الأكثرون ما هو. وعلى كل قد تعلمنا أنه يجب أن نتبع الشعر الذي نعتقد أن في اقتباسه اقتباس الحقيقة والصلاح، وعلى الضد من ذلك أن السامع الذي عرف الخطر المحدق بالنظام في داخله هو ملزم بالدفاع ضده، واقتناء الرأي الذي أوضحناه في الموضوع.
غ :
أوافقك كل الموافقة.
س :
حقا يا صديقي غلوكون أنه علي الاختيار بين كون المرء صالحا وبين كونه شريرا يتوقف أمر خطير، نعم، هو أكثر خطورة مما يخيل إلى الناس؛ لذا كان من الخطأ عدم الاكتراث للعدالة وسائر الفضائل بحكم الهياج، أو الفخر، أو الثروة، أو القوة، أو الشعر حتى.
غ :
أوافقك في ختام بحثنا. وأظن أن كل أحد يوافقك.
س :
ولكنا لم نبحث بعد في جزاء الفضيلة الرئيسي، وأعظم الجوائز المعينة لها.
غ :
إذا كانت أعظم مما ذكر فيجب أن تكون عظيمة فوق العادة.
س :
وكيف يمكن أن ينحصر العظيم في شقة ضيقة النطاق من الزمن؟ فالفترة من المهد إلى اللحد بريهة إذا قيست بالأبدية.
غ :
بل قل إنها لا شيء.
س :
فماذا إذا؟ أتظن أن من واجب الخالد أن يزعج نفسه بهذه الفترة الحقيرة دون الأبدية؟
غ :
بل أرى أن يكترث للأبدية، ولكن ماذا تعني بذلك؟
س :
ألا تدري أن نفسنا خالدة لا تموت؟ (فنظر غلوكون إلي دهشا وقال: حقا إني لم أدرك ذلك، أفتستطيع «أنت» إثبات هذا التعليم؟)
نعم وشرفي، أظن أنك أنت أيضا تستطيعه، فإنه أمر سهل.
غ :
ليس علي. وفي الوقت نفسه أحب أن أسمع منك ما هو بيانك في سهولته؟
س :
فتكرم علي بالسمع.
غ :
فتفضل من كل بد.
س :
أتدعو شيئا ما خيرا، وشيئا آخر شرا؟
غ :
نعم أدعو.
س :
وهل عندنا للفظين مدلولهما الثابت؟
غ :
وأي مدلول تعني؟
س :
أذهب إلى أن الشر هو ما يفسد كل شيء ويدمره، والخير هو ما يفيد ويصون.
غ :
وهذا مذهبي.
س :
وأيضا لعل عندك لكل شيء خيره وشره؟ مثلا: أتقول إن العيون معرضة للرمد، والجسد للمرض، والذرة للتعفن، والخشب للتسوس، والحديد والنحاس للصدأ. وبعبارة أخرى: لكل شيء آفة وداء.
غ :
هكذا أقول.
س :
فإذا حل أحد هذه الأدواء بإحدى هذه المواد، أفلا يفسدها أخيرا ويحل تركيبها ويلاشيها؟
غ :
الأمر كذلك دون شك.
س :
فكل شيء يفسده ضده من آفة وشر، وإلا إذا لم يفسده ذلك فلا شيء آخر يفسده؛ لأن الخير لا يفسد شيئا، وكذلك ما ليس خيرا ولا شرا.
غ :
مؤكد أنهما لا يفسدان.
س :
فإذا أمكننا أن نجد شيئا معرضا لداء خاص، لكن داءه يعطله تعطيلا دون أن يلاشيه، أفلا نعلم أن الشيء المكون هكذا لا يفنى ؟
غ :
إنها نتيجة معقولة.
س :
أفليست النفس معرضة لداء يجعلها شريرة؟
غ :
مؤكد، فإن كل ما ذكرناه من التعدي والفجور والجبانة والجهل يحدث تلك النتيجة.
س :
وإذ ذاك، أفيحل شيء من هذه النفس ويفنيها؟ ردد المسألة في فكرك، لئلا نضل ظانين أنه حين يقبض على المتعدي الأحمق متلبسا بجريمته، فإنه يهلك بشره الذي ارتكبه، وهو سفالة النفس. بل اعتبر الأمر هكذا: أن انحطاط الجسد بالمرض يتلفه ويدمره، فيحوله إلى حالة لا يظل عندها جسدا. وهكذا كل ما ذكرناه الساعة من الأشياء التي تنتابها شرورها الخاصة، التي هي معرضة لها، والتي تفسدها بالملاصقة أو بالحلول فيها، فتحولها إلى حالة يزول معها وجودها. أمصيب أنا أم لا؟
غ :
مصيب.
س :
فتقدم لفحص النفس بحسب هذا الأسلوب: أفصحيح أنه بإقامة التعدي وسائر الرذائل في النفس، تفسد وتذبل بملاصقتها إياها أو سكنها فيها؟ حتى تؤدي بها إلى الموت والانفصال عن الجسد؟
غ :
مؤكد أنها لا تحدث هذا التأثير.
س :
ومن الناحية الأخرى: أنقول إن الشيء يتلف بانحطاط غيره مع أنه لا يتلف بانحطاطه؟
غ :
ذلك القول من اللغو.
س :
نعم يا غلوكون، يجب أن تتذكر أننا لا نتصور أن الجسد يهلك بفساد الأطعمة، تعفنا كان ذلك الفساد أو عطنا أو أي شيء آخر. ولكن إذا أثار ذلك الفساد علة في الجسد، فحينذاك نقول إن الجسد هلك بعلته التي سببتها الأطعمة. ولكنا لا نقبل القول إن الجسد تلف بفساد الطعام؛ لأن الطعام شيء آخر مستقل عنه، أي الفكرة أن الجسد يفسد بشر أجنبي عنه، دون أن يحدث ذلك الشر علة جسدية غير ممكن.
غ :
بالصواب نطقت.
س :
وعليه: فما لم يولد فساد الجسد علة في النفس لا نقبل القول إن النفس تهلك بداء أجنبي عنها؛ لأن ذلك يعني هلاك شيء بفساد غيره.
غ :
يظهر أن ذلك معقول.
س :
فإما أن ننبذ ذلك البحث، أو إذا لم ننبذه لا نقل أبدا إن النفس تهلك بحمى محرقة أو بأي مرض آخر، حتى ولو كان ذبح الجسد أو تمزيقه إربا إربا. إلا إذا أثبت أحد أن تلك الآلام تفسد جوهر النفس، فتجعلها غير عادلة. على أنا ما دام الشيء سليما من دائه الخاص، وقد فشا داء أجنبي عنه في غيره من الأجسام، فلا نسمح بالقول إن هذا الشيء يهلك بفساد غيره، جسدا كان ذلك الشيء أو نفسا.
غ :
لا أحد يقول إن النفس تصير غير عادلة بموت جسد كانت تحله.
س :
فإذا ضاد الحجة أحد، وادعى أن النفس تصير بموت الجسد أكثر انحطاطا وتعديا، لكي يتملص من التسليم بخلود النفس، فأرى أنا نستنتج أنه: إذا كان الخصم مصيبا أن التعدي مميت كمرض يقتل من يصيبه، وأن الذين يصابون بهذا الداء الخطر هالكون لا محالة عاجلا أو آجلا، باعتبار مقدار قوة الصدمة، عوض الاشتغال، كما نحن فاعلون الآن بأمر إعدام المتعدي بسبب شره، بأيدي أناس أنيط بهم إنفاذ حكم الإعدام فيه.
غ :
فلا يحسب التعدي إذا شيئا مخيفا إذا كان يقتل صاحبه؛ لأنه في تلك الحالة يريحه من شروره. على أني أرى أمره بالضد من ذلك، فإنه يهلك الآخرين إذا أمكن، ويمده صاحبه بحيوية خاصة مصحوبة بأرق دائم، ويظهر أنه بعيد بعدا قصيا ثابتا عن إهلاك صاحبه.
س :
أحسنت، فإذا لم تهلك النفس أو تخرب بانحطاطها أو شرها الخاص بها، ندر أن تخرب بشر آخر، يقتل نفسا، أو شيئا آخر خارج حدوده الخاصة.
غ :
نعم يندر، فالاستنتاج طبيعي.
س :
فلما كانت النفس لا يخربها شر على الإطلاق، أجنبيا كان ذلك الشر أو خاصا، فواضح أنها دائمة الوجود، فهي إذا خالدة.
غ :
إنها خالدة.
س :
حسنا، فلنحسب هذه المسألة مثبتة، فتفهم بذلك أن النفوس تبقى على ما هي؛ لأنها إذا لم يفن منها شيء فعددها لا ينقص، وكذلك لا يزيد؛ لأنه إذا زاد عدد ما هو خالد فالزيادة مستمدة مما هو غير خالد، وبهذا الشكل تصير كل النفوس خالدة.
غ :
حقيق.
س :
والعقل لا يسلم بهذا الرأي ولذلك نرفضه. ومن الناحية الأخرى لسنا نتصور أن النفس في حالها الطبيعية الجوهرية ، وكما ترى في ذاتها، يمكن أن تمتلئ بكثرة التباين والاختلاف.
غ :
ماذا تعني؟
س :
لا يمكن أن يكون شيء خالدا إذا كان مركبا من أجزاء عديدة، وإذا لم تكن عناصر ذلك التركيب من أفضل نوع، كما برهنا على أن ذلك شأن النفس.
غ :
ربما لا يمكن.
س :
فقد ثبت خلود النفس رغم كل شيء، وذلك بحجتنا الحالية، وقد تضاف إليها أدلة أخرى، ولكن لكي نتمكن من فهم طبيعتها الحقيقية يلزم أن ننظر فيها، ليس كما نظرنا الساعة، أعني بعد أن فسدت بامتزاجها بالجسد وبشرور أخرى، بل يجب أن نتأمل فيها بمساعدة التعقل، فتتجلى لنا طهارتها الكاملة، فنرى جمالها الفائق، ونرى طبيعة العدالة والتعدي مع كل القضايا التي بحثنا فيها، فتظهر لنا أتم ظهور، وقد قدمنا بيانا حقيقيا في النفس في مظهرها الحالي، غير أننا رأيناها كما يرى غلوكوس إله البحر، الذي يتعذر تمييز طبيعته الأصلية بالعين؛ لأن أعضاء جسمه قد تهشمت أو تشوهت بتأثير الأمواج التي عطبتها كل معطب، فالتصقت به مواد خارجية كالأصداف وعشب البحر والحجارة، فصار أقرب شبها بالوحش منه بصورته الأصلية، فالنفس في الحالة التي نراها فيها قد هبطت إلى حالة تشبه حالته بسبب الشرور الكثيرة، فيجب حصر النظر في جزء خاص منها يا غلوكون.
غ :
أي جزء تعني؟
س :
نحصر نظرنا في محبتها الحكمة، ليمكننا أن نعرف بماذا تلوذ، وبماذا تود الاقتران باعتبار علاقتها المكينة بما هو إلهي وخالد وأزلي. وماذا يكون منها إذا لاذت بالإلهيات، ونجت من البحر الذي هي فيه الآن، بالعامل السموي، ونزع منها ما التصق بها من الأصداف والمواد الترابية والحجرية، التي تغذت النفس بها فكبرت بواسطة الولائم التي يدعونها سعيدة. وحينذاك نفهم حقيقة طبيعتها، وهل هي واحدة أو أكثر، أو أنها غير ذلك، وكيف. وإذا لم أكن مخطئا فقد استوفينا البحث في محبتها وفي ظاهراتها في الحياة الإنسانية.
غ :
لا شك في أننا قد استوفينا البحث.
س :
أو لم نأت على كل الموضوعات الثانوية في سياق البحث؟ ومع أننا لم نذكر ما تمنحه العدالة من جزاء وشهرة، كما تزعم أن هوميروس وهسيودوس قد فعلا. أفلا نر أن العدالة هي في ذاتها أفضل جزاء للنفس في ذاتها؟ وأن النفس ملزمة بأن تفعل أفعالا عادلة، سواء كان لها خاتم جيجس وخوذة هادز
3
أو لم يكن؟
غ :
الأرجح أننا قد فعلنا ذلك بأكثر تأكيد.
س :
أفنتقدم الآن يا غلوكون دون ما إساءة، إلى البحث في أنواع المكافأة العظيمة الوافرة، التي تربحها العدالة وشقيقاتها فضائل النفس الأخرى من الآلهة والناس، في حالتي الإنسان الحاضرة والأبدية؟
غ :
ذلك ممكن بلا شك.
س :
أفترد لي ما اقترضته مني في سياق البحث؟
غ :
وماذا اقترضت منك؟
س :
قد سلمت معك بأنه تكون للعادل شهرة متعد، وللمتعدي شهرة عادل. لأنك ارتأيت ذلك، مع أن إخفاء حقيقة الإنسان عن الآلهة والناس غير ممكن، فسلمت معك بذلك جدلا لأجل إقامة الدليل، ولأجل المقابلة بين العدالة الخالصة والتعدي الصرف. ألا تتذكر؟
غ :
مؤكد أني أتذكر، وإلا كنت مخطئا.
س :
فالآن وقد أبرم الحكم فيهما، فأنا في دوري أطلب بالنيابة عن العدالة رد العارية، فنسلم للعدالة بقدرها الحقيقي بين الآلهة والناس، لتفوز بالجعالات الناجحة عن اشتهارها بالعدالة، وهي تسبغها على مالكها. فقد ثبت الآن أن هذه الهبات الحسان تنتج عن كون المرء عادلا حقا، دون خديعة للذين ينالونا.
غ :
طلبك حق.
س :
أفلا ترد لي أولا هذا التسليم؟ فنسلم أن الآلهة على الأقل لا تغلط في سجية العادل والمتعدي الحقيقية؟
غ :
نسلم بذلك.
س :
وإذا الحال كذلك فأحدهما محبوب لدى الآلهة، والآخر مبغض في عينيها، كما اتفقنا أولا.
غ :
حق.
س :
أولا نتفق في أن كل الأشياء تعمل معا للخير الذي تحبه الآلهة، إلا إذا جرت عليه الآلام خطية سالفة؟
غ :
ذلك أكيد.
س :
فيلزم أن تقبل ذلك في أمر الإنسان العادل، فإذا أصابه مرض أو فقر أو أي مصاب أليم، كانت عاقبة ذلك خيره، إما في هذه الحياة أو في الآتية؛ لأنه لا شك في أن الآلهة لا تنسى من جاهد جهادا حسنا في اعتناق البر والفضيلة والتمثل بالله، على قدر ما أتيح للإنسان بلوغه.
غ :
كلا، إن إنسانا كهذا لا يهمله من تمثل هو به.
س :
أولا نسلم بنقيض ذلك في أمر المتعدي؟
غ :
مؤكد أننا نسلم.
س :
فهذه هي الجعالات التي تسبغها الآلهة على الإنسان العادل.
غ :
هكذا يظهر لي في كل الأحوال.
س :
فماذا يسبغ عليه الناس؟ أليس الأمر كما يأتي إذا كنا نروم الحقيقة؟ ألا يعمل المتعدون عمل رجال السباق، فيركضون سراعا من أول الميدان إلى نقطة الرجوع، ومن ثم ترتخي عزيمتهم إلى الهدف؟
فقد قفزوا سراعا ولكنهم انتهوا بكونهم أضحوكة، وعادوا بالخزي، ولم ينالوا الإكليل. أما المحاضرون (المسابقون) الحقيقيون، فينالون الجعالة في آخر الميدان ويكللون. أفليس هذا هو حال العادلين؟ فإنهم في نهاية الأعمال وختام الحياة وانقطاع العلاقات الاجتماعية، يربحون السمعة الحسنة، ويحرزون الجعالات من أيدي مواطنيهم؟
غ :
مؤكد أنهم يفوزون.
س :
أفتسمح لي أن أقول فيهم ما قلته أنت في المتعدين؟ فإني لا أتردد في القول إن العادلين متى تقدموا في السن، تبوءوا المناصب في مدينتهم إذا شاءوا، وتزوجوا من أرادوا، وزوجوا بناتهم من يختارونهم لهن. وبالاختصار أقول في العادلين ما سبقت أنت فقلته في المتعدين. ومن الناحية الأخرى: أرى أن الجانب الأكبر من المتعدين وإن خفي أمرهم في شبابهم، فلا بد من انكشافهم في آخر الميدان، وكلما تقدموا في السن أهانهم الغريب والقريب في شقائهم، ثم يجلدون بالسياط، ويعذبون بآلات التعذيب، وبالحديد المحمى بالنار، ويذوقون صنوف العذاب التي دعوتها أنت بربرية مخيفة، فتصور أني تلوت على سمعك كل هذه الأشياء، وانظر، وأنا أتكلم، هل تأذن لي أن أقول ذلك أو لا؟
غ :
مؤكد أني آذن؛ لأن بيانك حق.
س :
هذه هي أنواع المكافأة والجعالة والهبة التي تسبغها الآلهة والناس على الإنسان العادل في هذه الحياة، علاوة على ما في امتلاك العدالة نفسها من الخير.
غ :
نعم، وهي عظيمة ويقينية.
س :
على أنها كل شيء إذا قيست بما ينتظر كلا من العادل والمتعدي بعد الموت، ويجب أن نأتي على وصف ذلك؛ لكي نحكم لكل منهما بتمام الجزاء الذي يجب أن تبينه المحاورة.
غ :
واصل كلامك، فإنه يندر أن يسرني شيء آخر كهذا.
س :
حسنا، فسأخبرك قصة ليست كقصة أودسيوس لأوكينوس، بل هي رواية حدثت فعلا لرجل شجاع، هو «آر» بن أرمينيوس البمفيلي، الذي تقول القصة إنه قتل في إحدى المعارك، فلما رفعت الجثث عن الأرض في اليوم العاشر لإجراء مراسم الدفن، وقد دب فيها الفساد، كانت جثة «آر» لا تزال طرية، فحملوها إلى البيت ليدفنوها. وفي اليوم الثاني عشر وضعوها على دكة الجنازة، فانتعشت وفتح الميت عينيه، وجعل يقص على السامعين ما رآه في العالم الآخر، وقصته هي ما يأتي: لما برحت نفسه جسده، رافقت كثيرات من أمثالها، فانتهت إلى موضع سرى فيه فجوتان في الأرض، تقابلهما طاقتان في السماء، فجلس القضاة بين هاتين الفجوتين للحكم، وبعد ما أصدروا قرارهم أمروا بإرسال البار (العادل) في طريق السماء - إلى اليمين - وألصقوا بجبهته رموز الحكم الذي أصدروه. أما الظالمين (المتعدين) فأرسلوهم في الطريق المنجدرة - إلى اليسار - ووراءهم بينات شرورهم. ولما بلغ آر ذلك الموضع قيل له إنه سيحمل إلى البشر تقرير ما في العالم الآخر، وأمر أن ينتبه إلى كل ما هو جار هناك، فتطلع فرأى النفوس تنصرف في إحدى الفجوتين، وفي الطاقة السموية التي تقابلها، وذلك بعد صدور الحكم عليها، وكانت قد أتت من الطاقة الثانية والفجوة التي تحتها. وكانت النفوس ترد إلى ميدان القضاء إما بالنواح والرماد إذا كانت قادمة من تحت الأرض، أو بالسرور والبهاء إذا كانت قادمة من السماء، وكانت كل نفس حال وصولها تتلبس بمظاهر السياحة، وتسير مسرورة إلى المرج، وتمكث هناك كما يعمل الناس في الحفلات، فيتبادل المعارف التحيات. وكان القادمون من السماء يسألون عما في السماء، والقادمون من الأرض يسألهم السمويون عما هنالك، فقص القادمون من الأرض حكايتهم بالأنين والدموع، لتذكرهم الحوادث المرعبة التي رأوها وعانوها في سفرهم في السرداب السفلي، الذين قضوا في رحلته مدة ألف عام على ما قالوا . أما القادمون من السماء فكانوا يصفون المسرات ومناظر الجمال المدهش، وإن شرح كل ما بلغنا من أخبارهم يشغل وقتا طويلا يا غلوكون، ولكن إفادة «آر» فيما يلي تتناول النقاط الرئيسية، قال:
عوقبت كل نفس في دورها عما جنت أو أساءت إلى الآخرين عشرة أضعاف، وكانت العقوبات تتكرر في كل قرن؛ لأن طول الحياة الإنسانية حسب عندهم قرن كامل من السنين، فكان المقصد من ذلك الاستيفاء عن الذنوب التي اقترفوها عشرة أضعاف. وعليه: فكل من كان مجرما باغتيال أحد، أو خيانة مدينة واستعبادها، أو خيانة جيش، أو اشتراك في شر آخر، عوقب عشرة أضعاف عما فعل. ومن الناحية الأخرى: الذين فعلوا الصالحات وكانوا بررة أطهارا نالوا جزاءهم على القياس نفسه. أما الذين ماتوا أطفالا قلما روى عنهم شيئا يستحق الذكر. ولكن قصاص عصيان الوالدين، وعدم التقوى، واغتيال الأقارب، كان حسب روايته صارما فوق الحد. وكان جزاء التقوى والطاعة عظيما جدا؛ لأنه كان على مسمع لما سألت إحدى الأرواح رفيقتها: «أين أردياوس العظيم؟»، وكان «أردياوس» هذا ملكا في مدينة بمفيلية قبل ذلك الحين بمدة ألف سنة، وروي عنه أنه أعدم والده الشيخ وأخاه الأكبر، عدا كثيرا من الشرور التي اقترفها، فأجابت النفس المسئولة قائلة: «لم يأت أردياوس، والأرجح أنه لن يأتي؛ لأن ذلك كان كما يجب أن تعرف، من أشد المشاهد رعبا، فلما دنونا من البراح وكنا على وشك الصعود بعد ما تحملنا كل آلامنا، رأينا أردياوس بغتة أمامنا، صحبة أقوام أظن أن أكثرهم من الطغاة، وكان هنالك أفراد قلائل ممتازون بالتوغل في موبقات الآثام، فلما ظن أولئك أن نوبتهم حانت للصعود ردتهم الفجوة التي كانت تصرخ على الخطاة الذين لم يستوف عقابهم إذا هم حاولوا الصعود، صرخة فهمها أقوام أشداء جهنميون في صورة البشر كانوا هنالك، فقبضوا على متون أولئك الخطاة وأقصوهم. أما أردياوس ورفقاؤه فغلوهم بالأصفاد يدا ورجلا وعنقا، وطرحوهم على الأرض وسلخوهم بالمقارع، ودحرجوهم إلى جانب الطريق، فنشروا هنالك نشر الصوف على العوسج. وكانوا يقصون على المارة سبب هذه الآلام، وأن هؤلاء معدون للانحدار إلى جهنم النار.
وقد اجتزنا بمخاوف ومروعات منوعة، على أن لا روع يعدل ما شعرنا به لما دنونا من الفجوة مخافة أن تصرخ علينا فيصيبنا ما أصاب أردياوس ورفاقه، ولما لم تصرخ كان سرورنا عظيما في اجتيازها الفجوة إلى فوق.
هذا يعطينا صورة الذنوب والعذابات، أما الجزاء فكان على الضد من ذلك تماما، فإنه بعد وصول الأرواح (الصالحة) إلى المرج بسبعة أيام أمرت بإخلائه، وفي اليوم الثامن سارت مسيرة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع بلغت مكانا أطلت منه على عمود النور العظيم الذي يخترق السموات والأرض، وهو أشبه الأشياء بقوس قزح، إلا أنه أصفى وأبهى، فوصلته النفوس بعد مسيرة يوم آخر.
ولما بلغت مركز النور رأت طرفيه مثبتين في السماء بسلاسل، فإن ذلك النور يمنطق الجو كما تمنطق الحبال السفينة، فيضم الكون الدوار بأجمعه.
وفي طرفي العمود مغزل «الضرورة» الذي به يتم الدوران في كل الكون. قبضة المغزل وصنارته مصنوعان من الصلب، أما قرصه (إطاره) فمزيج من الصلب ومواد أخرى، وهذا هو وصف الإطار:
إنه كالدائرة العادية شكلا، ولكن وصف «آر» يمكنا من تصوره في شكل دائرة كبيرة مجوفة، وفي جوفها دائرة مثلها شكلا ولكنها أصغر منها حجما، وقد ركزت ضمنها بمهارة تامة، كالصناديق التي يوضع بعضها ضمن البعض الآخر. وفي الصورة نفسها دائرة ثالثة موضوعة في الثانية، ورابعة في الثالثة، وهكذا أربع دوائر أخر؛ لأن الدوائر كلها ثمان الواحدة في جوف الأخرى، وحاشية كل دائرة من الدوائر متراكزة، وهي أعلى من حاشية الدائرة المحيطة بها. والدوائر كلها تؤلف معا إطارا كبيرا يحيط بمقبض الغزل الذي ينفذ - يخترق - مركز الدوائر الثماني. وكان للدائرة الأولى الخارجية أعرض حاشية، وللسادسة ثاني حاشية عرضا، تلتها الرابعة، فالثامنة، فالسابعة، فالخامسة، فالثالثة، والثانية أضيق الكل حاشية.
وكانت حواشي الدوائر الثمان تشع ألوانا منوعة، فالسابعة أبهاها سطوعا، والثامنة تستمد نورها مما انعكس من أنوار السابعة.
وكانت الدائرة الثانية والخامسة من قدر واحد، ولكنها أضعف نورا من البقية.
والثالثة أشدها صفرة وشحوبا ، أما الرابعة فأميلها إلى الحمرة، والسادسة كالثالثة شحوبا.
وكان المغزل يدور بمجموعه دورانا قياسيا، وفي أثناء دوران الكل كانت الدوائر السبع الداخلية تسير سيرا دورانيا بطيئا، في عكس جهة الكل.
فالثامنة أسرع الدوائر، تليها السابعة، فالسادسة، فالخامسة، وهاتان تدوران معا، وظهر أن الرابعة تدور بسرعة أبطأ قليلا من هاتين، والثالثة رابعتها سرعة، والثانية خامستها.
وكان المغزل العظيم يدور على ركبتي «الضرورة»، وعند كل دائرة من دوائره الثمان إحدى عرائس الجن الفاتنات تصحب الدائرة في كل دورانها، وتخرج صوتا واحدا، طبق علامة موسيقية واحدة، فينتج عن أصوات العرائس الثمان لحن موسيقي واحد.
وعلى بعد واحد حول هذه تجلس شخصيات أخر، كل على عرش هؤلاء، هن بنات «الضرورة» الثلاث، وهن: «القضاء والقدر»، وأسماؤهن: «لاخيسس»، و«كلوثو»، و«أتروبوس»، وكن يرفلن بالثياب الناصعة البياض وعلى رءوسهن الأكاليل، وهن يصدحن على لحن العرائس، فتغني «لاخيسس» حوادث الماضي، و«كلوثو» حوادث الحاضر، و«أتروبوس» حوادث المستقبل. وكانت كلوثو تلمس بيمناها حاشية الإطار الخارجية وتفتله من حين إلى حين، وتفتل أتروبوس بيسراها الدوائر الداخلية كذلك، أما لاخيسس فتلمس تارة الخارجية بيمناها وتارة الداخلية بيسراها، فلما وصلت النفوس إلى هناك دعيت إلى حضرة لاخيسس، فرتبها الترجمان بنظام خاص، ثم تناول عن حضن لاخيسس قدرا من سهام القرعة وطرائق الحياة، وتبوأ المنبر العالي ونطق بما نصه: «هكذا تقول العذراء لاخيسس، ابنة الضرورة: أيتها النفوس القصيرة الأجل، أنت بدء خلق جديد يبدأ دورته هنا، ووجوده زائل. لا تطرح حظوظكن عليكن لزاما، بل تخترنها أنتن لأنفسكن، فمن أصاب السهم الأول يختار أولا حظ الحياة الذي هو نصيبه الثابت. الفضيلة لا تساء، فمن أكرمها أكثر نال منها أكثر، ومن ازدراها نال أقل، فالذي يختار هو المسئول، وليست السماء بملومة.»
ولما قال ذلك نثر السهام على النفوس، فأخذت كل نفس السهم الذي وقع إلى جانبها، إلا «آر»، فإنه منع من الاقتراع. وقرأ كل العدد الذي على سهمه، وحينذاك وضعت على الأرض أمامهم طرائق الحياة، وهي أكثر من النفوس عددا، وفيها كل نوع من حياة كل مخلوق حي، أي كل نوع من أحوال الحياة الإنسانية، بما فيه الحياة الملوكية، بعضها دائمة وبعضها موقتة، تليها الفاقة والنفي والتسول. وكان هنالك حياة مشاهير الرجال الذين ذاع صيتهم، إما بجمال الشخصية وبهاء الطلعة، أو بالقوة البدنية والمهارة بالألعاب، أو بشرف المحتد ونبالة السيف. وكان هنالك أنواع حياة الرجال الذين لم يشتهروا بشيء. وكذلك أنواع حياة النساء من شهيرات وغير شهيرات. ولكن لم يكن فيهن سجية ثابتة؛ لأن تغير السجية مقرون بتغير الحياة فتغير النفس حتما. على أن المواد كانت كثيرة التنوع، هنا تظهر الثروة، وإلى جانبها الفاقة، هنا المرض، وهنالك الصحة، وهنالك وسط بين الطرفين.
هذه الدقيقة يا عزيزي غلوكون أشد مواقف الإنسان خطورة؛ ولهذا السبب وجب على كل منا فوق كل سبب أن يدرس باجتهاد - دون كل شيء آخر - علما يمكنه من التحصيل والاكتشاف، فيهذبه ويمكنه من التمييز بين الحياة الصالحة والردية، فيختار بما له من الوسائل الحياة الفضلى في كل مكان وزمان، متقصيا بوافر التدقيق التأثير الذي للأشياء التي ذكرناها، في جمال الحياة الحقيقي في الأفراد وفي الجماعات. ويفهمه ما يخلقه الجمال الممتزج بالثروة أو بالفاقة من خير أو شر. ويفهمه أيضا كيف تتأثر النتيجة بحالة النفس التي تدخل في ذلك المزيج، وما هي نتيجة مزج عناصر كهذه:
شرف المحتد أو وضاعته، الحياة الخاصة أو الجمهورية، قوة الجسم أو ضعفه، سرعة الفهم أو بطؤه، وكل ما هو من هذا النوع، سواء أكان مختصا بالنفس طبعا أم أنها طلبته عرضا، ليتمكن بكل هذه المواد من تأليف الحكم، وطرفنا غير ساه عن ملاحظة طبيعة النفس، ليختار بين الحياة الصالحة والردية، فيدعو الحياة التي تقوده إلى التوغل في التعدي: ردية، والتي تئول إلى زيادة العدالة: صالحة، معرضا عن كل اعتبار آخر؛ لأننا رأينا أن هذا الاختبار هو الأصلح في الحياة وفي الموت. ويجب التشبث بهذا الرأي بإرادة قوية حين دخول العالم الآتي، لئلا تبهره الثروة أو ما ماثلها من الشرور في هذا العالم أو في العالم الآتي ، ولا يعول على الاغتصاب، أو يعمل عملا من هذا النوع ينتهي به إلى دماره أو دمار الآخرين دمارا كليا، فيزيد كربه.
بل يحسن اختيار الحياة التي تلتزم منهجا متوسطا بين هذه الأطراف، متحاشيا بكل قوته الميل إلى أحد الجانبين، ليس في هذه الحياة فقط، بل أيضا في الحياة الآتية؛ لأنه بهذا التصرف يمكنه أن يؤكد صيرورته أسعد إنسان.
ولنستأنف موضوعنا: روى رسول العالم الآخر أن الترجمان قال في الموقف ذاته: «إن هنالك حياة مذخورة غير ردية، حتى لآخر قادم، إذا لزم القانون وأحسن الاختيار، فيكون راضيا بها فلا يستهترن من سبق، ولا يقنطن من تأخر.» ولما فاه بهذه الكلمات تقدم صاحب السهم الأول، واختار حياة أعظم استبداد يمكن إدراكه حظا له، ولجهله وطمعه لم يفحص الأمر فحصا تاما قبل أن يختار، ففاته أنه «قضي» عليه بأن يلتهم ابنه في جملة الشرور التي سيقترفها، فلما درس الأمر في وقت فراغه شرع يقرع صدره ويندب سوء حظه، وأغفل إنذار الترجمان، فلم يلم نفسه على بليته، بل لام «القضاء والقدر» ولام كل أحد آخر، وهو أحد القادمين من السماء، وكان قد عاش في حياته السالفة بنظام حسن، فتطرقت إليه الفضيلة بحكم العادة دون مساعدة الفلسفة.
وكان أكثر من نصف المخدوعين حسب رواية آر من القادمين من السماء، وذلك يتضح من أنهم لم يتدربوا على تحمل المشاق. أما أكثر القادمين من الأرض فلم يختاروا بدون تبصر؛ لأنهم خبروا النائبات بأنفسهم، ورأوا فعلها في غيرهم، فبناء على ما سبق بيانه وبحكم القرعة، تبادلت النفوس حظوظها صالحا برديء، أو رديئا بصالح. ولو أن المرء واظب على درس الحكمة درسا صحيحا في دخوله معترك الحياة وأصابته القرعة للاختيار مع غير الأخيرين، لكان من أرجح الممكنات - بناء على الإفادات الواردة إلينا من العالم الآخر - أن يكون سعيدا في هذه الأرض، وأن يسير منه إلى العالم الآخر ويعود راجعا من ذاك، ليس في سرداب مظلم وعر، بل في طريق سهل سموي. قال:
ومن أغرب المشاهد منظر النفوس تختار نوع حياتها، فإنه مشهد غريب، مضحك مبك، وكان رائدها في اختيارها اختبارها السالف في الحياة، فرأى آر النفس التي كانت فيما سلف نفس أورفيوس تختار حياة إوزة؛ كراهية منها للجنس البشري؛ لأنها قد قتلت بسبب إحداهن، فأبت أن تولد منهن ثانية. ورأى نفس ثاميراس تختار حياة بلبل. ورأى أوزة تطلب تغيير طبيعتها وتختار حياة إنسان، وقد قفى على مثالها خلائق كثيرة من الطيور الغريدة. واختارت النفس التي سهمها نمرة 20 حياة أسد، وهي نفس أجاكس بن تلامون، الذي أبى أن يعود إنسانا ذاكرا القضاء الصارم عليه بسبب أسلحة أخلس. تلتها نفس أغممنون، فاختارت حياة نسر؛ لأن آلامه شربته بغض الجنس البشري. ورأى نفس أغلانتا في عداد المختارين، ولما رأت الشرف الذي أحرزه لاعب الألعاب الرياضية لم يمكنها إغفال ذلك، فاختارت تلك الحياة. بعدها رأى أبيوس بن بنوبيوس يطلب طبيعة امرأة حاذقة في عملها. ورأى عن بعد نفس المهرج ثرسيس تتقمص جسد قرد بشري. وبالصدفة رأي نفس أولسيس - وهي آخر من اقترع - فلما تذكرت متاعبها السالفة، وأثقال وطأة المطامع على النفس، وبعد التجوال مليا اختارت حياة رجل عادي لا عمل له، وبصعوبة كلية وجدت تلك الحياة منزوية جانبا مهملة من الآخرين، فلما رأتها اختارتها مسرورة، وقالت إنها لو كانت أول من اختار لما اختارت غيرها.
وعلى هذا النحو مضت نفوس الحيوانات إلى أجساد الناس وإلى أجساد غيرها من الخلائق، ونفوس الناس إلى الحيوانات، فتقمصت نفوس المتعدين حيوانات وحشية، والعادلين حياة أليفة، واختلطت النفوس بالأجساد اختلاط الحابل بالنابل.
ولما اختارت النفوس حياتها حسب قرعها، ذهبت بالترتيب إلى «لاخيسس»، فمنحت كل نفس حظها، وأصحبتها به ليكون خفير حياتها ومتمم اختيارها، فقادها الحظ نفسه إلى «كلوثو»، فمرت بين يديها تحت دوران مغزلها، فصادقت على النصيب الذي اختارته كل نفس بالترتيب المذكور آنفا. بعد ذلك قادها إلى «أتروبوس»، فأبرمت هذه حكم «كلوثو»، ثم تقدمت النفوس رأسا إلى عرش «الضرورة» ومرت من تحته. ولما مرت كل النفوس مر «آر» أيضا، وسار الجميع إلى سهل «ليث» - النسيان - في حر شديد، والمحيط خال من الشجر ومن كل نبت.
ولما جن الظلام حلوا وراء نهر «ماليت» - عدم الاكتراث - الذي لا تحمل مياهه سفينة على الإطلاق، وكان حتما على كل نفس أن تشرب من مائه قدرا معينا، فالذين فاتتهم الفطنة فشربوا أكثر من القدر المتاح نسوا كل شيء. ولما ذهبوا للنوم في منتصف الليل حدث رعد قاصف وزلزلة، فحملت النفوس إلى مواليدها في مختلف الجهات، كالنيازك في عرض الفضاء وأدركت مولدها، وقد منع آر من رشف ماء النهر، ولكنه يجهل كيف، ومتى، وأين، عادت نفسه إلى جسده، إنما بغتة فتح عينيه فإذا هو على دكة الجنازة.
وهكذا حفظت القصة يا غلوكون، فلم تفقد، وقد تكون وسيلة حفظنا إذا نحن أصغينا إلى إنذارها، فتفيدنا كيف نفوز بعبور نهر ليث ولا تتدنس نفوسنا. ولا ريب عندي في أننا إذا تبعنا مشورتي، فآمنا بخلود النفس، وامتلاكها الحرية على فعل الخير والشر، فإننا نظل في طريق العلاء، ونحرص حرصا عظيما على استغلال العدالة مقرونة بالحكمة، لكي نحب بعضنا بعضا وتحبنا الآلهة، ليس فقط في حياتنا الأرضية، بل أيضا حينما نتقدم - كالفائزين في الألعاب الذين يجمعون هدايا المعجبين بهم - لنيل جزاء الفضيلة، فلا ننفك مفلحين في هذه الحياة، وفي سياحتنا في الألف سنة التي أتينا على وصفها.
Shafi da ba'a sani ba