وما زال الخلط قائما حتى يومنا هذا؛ فكل من كتب العربية فأجادها كاتب، وكل من تميز أسلوبه بعض الشيء (انظر كتاب الدكتور شكري عياد عن الأسلوب) اكتسب لنفسه صفة الأديب، مما دفع أحد الأساتذة من الجيل الماضي، وهو الدكتور توفيق الطويل، إلى كتابة دراسة كاملة عن «لغة الأدب ولغة العلم» يستند فيها إلى التعميمات التي أحذر منها، والتي قد يلجأ إليها المدرس لتبسيط الأمور للتلميذ، مثلما يفعل كلينت بروكس
Cleanth Brooks
في كتابه
The Well-Wrought URN (الإناء المحكم الصنع)، (وقد عرضت رأيه في كتابي «النقد التحليلي»، مكتبة الأنجلو المصرية، 1962م)، أو مثلما فعلت أنا في كتابي «الأدب وفنونه» (مكتبة الشاب، الثقافة الجماهيرية، 1984م)، ولكن الناقد الجاد ينبغي أن يحذر منها كل الحذر، خصوصا وهو يعرض لقضية كبرى مثل الترجمة الأدبية؛ فلم يعد من المقبول ولا المعقول أن نعد كل من يجيد العربية كاتبا، ولا كل من ينمق أسلوبه أديبا، انطلاقا من الموازنة الخاطئة بين اللغة والأدب.
أفليس للأدب إذن لغة تميزه عن لغة العلم؟ أفلا يستطيع الإنسان عندما يفتح كتابا أن يستدل من لغته على طبيعته؛ أي أن يحدس دون تمحيص إن كان علميا أو أدبيا؟ والإجابة على هذا السؤال في صورتيه تتوقف على تعريفنا للأدب - فإذا قال قائل إن الأدب مادة مكتوبة تتناول حياة الإنسان - أفكاره ومشاعره ونشاطه ومجتمعه وما إلى ذلك - فربما رد عليه من يقول إن العلوم الإنسانية أيضا تتناول حياة الإنسان وتشمل هذه الجوانب؛ فإذا قيل إن الهدف هو الذي يفرق بين الكتابة الأدبية والكتابة العلمية، أي أن الكتابة الأدبية تستهدف إثارة المشاعر والخيال وتنبيه الوعي لدى القارئ، فربما كان الرد هو أن كتابة التاريخ مثلا أو الكتابة الفلسفية يمكن أن تحقق هذا الهدف وإن لم ترم إليه! فإذا قيل إن للأدب صورا معروفة من العبث إنكارها، مثل القصيدة والقصة والمسرحية - وكل منها يتميز بخصائص شكلية تهدينا إلى طبيعتها الأدبية - كان الرد أن هذه الأشكال قد تخلو من جوهر الأدب كما حدده النقاد على مر الزمن؛ فقد تكون القصيدة نظما فارغا، أو نظما علميا (كألفية ابن مالك)، وقد تكون القصة رواية تاريخية تسرد الوقائع الجافة، وقد تكون المسرحية حوارية باردة، أو فلسفية لا تخرج كوامن الشخوص ولا انفعالاتها! فإذا قيل إن أساس التفرقة في الواقع هو أن الأدب يتناول «الخيال»، أي أن «وقائعه» لم «تقع» وأن شخوصه وأحداثه «مبتكرة» وغير «حقيقية»، كان الرد أن سرد الوقائع الخيالية قد يقصر عن بلوغ مرتبة الأدب، وبأن رصد الواقع وتسجيله قد يبلغ هذه المرتبة، بل وقد يفوق الخيال في إحداث تأثيره! فإذا قيل أخيرا إن المسألة تتوقف في النهاية على «الطريقة» التي يروى بها هذا أو ذاك، وعلى الأسلوب الذي يتخذه الكاتب، كان الرد أن الطريقة وحدها لا تكفي، وفي الصنعة «أداة» يستخدمها الفنان لنقل «رؤية» أو «تجربة» ولا مكان للأداة دون الرؤية، ولا للرؤية دون الأداة!
كيف نعرف الأدب إذن؟ وهل يتضمن تعريفنا له تعريفا للغة التي تستخدم في كتابته؟ لا شك أن معظم الملامح التي يشير إليها من يتصدى لتعريف الأدب يمكن رصدها فيما اتفق على أنه أدب ، ولكن تعريفنا للأدب يتغير على مر العصور، وإن كان ثمة ثوابت في هذا التعريف إلى جانب المتغيرات! فهل اللغة من الثوابت أم من المتغيرات؟ إن النظرة الحديثة تؤكد أن استخدام اللغة في الأدب يختلف عن استخدامها في العلم مثلا أو في الحياة اليومية رغم أن المادة اللغوية نفسها لا تتغير! ولذلك وجدنا أن المعايير التي تقاس بها الأنماط اللغوية المستخدمة في الأدب تتفاوت بتفاوت العصور وتفاوت الأنواع الأدبية. مثلما اللغة بصفة عامة من عصر إلى عصر، ومثلما يتغير مفهومنا للأدب من عصر إلى عصر. فما كان نقاد الماضي يعتبرونه أدبا في عصور الانحطاط (من نهاية العصر العباسي الثاني حتى فجر النهضة الحديثة) لم يعد له شأن كبير بيننا، وإن كنا نجد في بعضه ما يتفق وتعريفنا للأدب! وكثير مما أهمله التاريخ الأدبي يعود «اكتشافه» اليوم وإقراره بيننا؛ فكل عمل أدبي يضيف إلى جسد الأدب العالمي ما يجعلنا نغير من مفهومنا للأدب فنعيد تقييمنا للأدب القديم نفسه على ضوء هذا المفهوم! وهذا هو ما قاله ت. س. إليوت
T. S. Eliot
في مطلع هذا القرن، وما عاد تيري إجيلتون
Terry Eagleton - رغم عدائه السافر لإليوت - ليؤكده بعد نصف قرن من الزمان! فالأدب ذو ألوان متعددة وصور لا حصر لها، وإخراج تعريف جامع مانع له من المحال! ولذلك فنحن لا نستطيع حصر خصائص اللغة التي يكتب بها الأدب؛ لأنها ليست لغة واحدة، بل هي تتفاوت من نوع أدبي إلى نوع آخر، ومن عصر اتخذ فيه هذا اللون شكلا معينا إلى عصر تغير فيه هذا الشكل، ولأن العمل الأدبي نفسه قد يضمن ألوانا مختلفة من المستويات اللغوية، بل قد تشترك بعض هذه المستويات مع لغة العلم التي شاع عنها جفافها وجفاؤها وتحديد مدلولات ألفاظها وتوحد هذه الدلالات ودقتها. إذ قد نجد في مسرحية أو رواية أو قصة قصيرة إشارة أو تعبيرا فلسفيا دقيقا، أو ذكرا لحقائق علمية مصوغة صياغة دقيقة لا تقبل الإيحاء ولا تعدد الدلالات ولا ظلال المعاني (وهي الصفات التي كثيرا ما نميز بها لغة الأدب عن لغة العلم). وقد نجد في مسرحية مشهدا يدور الحوار فيه بصورة واقعية تحاكي لغة الحياة اليومية وتبدو في عريها من ملامح «لغة الأدب» كأنها نقل مباشر من الحياة لم يعمل الفنان فيه خياله أو قوته التشكيلية أو الإبداعية على الإطلاق، بينما هو في موقعه في المسرحية زاخر بالدلالة، عامر بالإيحاء، عميق المعنى والمبنى.
تنوع أشكال الأدب في العصر الحديث إذن، وتغير تعريف الأدب تبعا لذلك، هو السبب في تغير مفهومنا للغة التي يكتب بها الأدب أو ما كنا نسميه «لغة الأدب»، ومعنى هذا - بإيجاز - أن اللغة المستخدمة في الأدب لا تختلف عن لغة الحياة، وإن كانت بعض الأنواع الأدبية تتطلب مستويات خاصة من اللغة، خصوصا ذلك النوع الأدبي الذي اتفقنا على تسميته بالشعر، ففي هذا النوع بالتحديد، أو في أنواع خاصة من هذا النوع بتحديد أدق، تختلف الأبنية اللغوية لفظا وتركيبا ودلالة عن لغة الحياة العادية ليس فقط بسبب «النظم» (فالشعر كما أفهمه يكتب نظما) وليس فقط بسبب القافية (فكثير من ألوان الشعر مقفاة)، ولكن بسبب «الضغط» أو التكثيف الذي تتميز به لغة ذلك الفن الأدبي الخاص.
Shafi da ba'a sani ba