Ƙoƙarin Qabbani a Fagen Wasan Kwaikwayo a Misira
جهود القباني المسرحية في مصر
Nau'ikan
إهداء
مقدمة
القسم الأول: الدراسة
رسالة القباني المسرحية بين النظرية والتطبيق
القسم الثاني: التوثيق
التوثيق
القسم الثالث: النصوص
رواية هارون الرشيدي مع أنس الجليس
رواية عنتر ابن شداد
رواية ناكر الجميل
Shafi da ba'a sani ba
رواية الأمير محمود نجل شاه العجم
رواية لباب الغرام أو الملك متريدات
رواية هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب
رواية عفيفة
مضحكات شعرية ونثرية
ملحق
إهداء
مقدمة
القسم الأول: الدراسة
رسالة القباني المسرحية بين النظرية والتطبيق
Shafi da ba'a sani ba
القسم الثاني: التوثيق
التوثيق
القسم الثالث: النصوص
رواية هارون الرشيدي مع أنس الجليس
رواية عنتر ابن شداد
رواية ناكر الجميل
رواية الأمير محمود نجل شاه العجم
رواية لباب الغرام أو الملك متريدات
رواية هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب
رواية عفيفة
Shafi da ba'a sani ba
مضحكات شعرية ونثرية
ملحق
جهود القباني المسرحية في مصر
جهود القباني المسرحية في مصر
تأليف
سيد علي إسماعيل
إهداء
إلى الصديق الحميم، إلى الأديب القدير أحمد حسين الطماوي.
سيد علي إسماعيل
مقدمة
Shafi da ba'a sani ba
عزيزي القارئ، بين يديك الآن كتاب تضافرت مجموعة من العوامل لإظهاره بالصورة المرضية التي خرج عليها؛ ففي أبريل 2008، في أثناء مهرجان الكويت المسرحي المحلي الثامن، تقابلت مع الزميل العزيز «الدكتور عجاج سليم»، مدير المسارح والموسيقى، مدير مهرجان دمشق المسرحي، وفي أثناء نقاشنا علمت بأن الشقيقة سورية بصدد الاحتفال - في مهرجان دمشق المسرحي القادم، في دورته الرابعة عشرة - بالرائد المسرحي السوري أحمد أبي خليل القباني، ضمن الاحتفال بدمشق عاصمة الثقافة العربية لعام 2008م، وقد دعاني مشكورا للاشتراك في هذا الاحتفال بعمل علمي.
اعتقدت في بادئ الأمر أنني لن أستطيع أن أضيف جديدا إلى حياة القباني ومسرحه، متأثرا بما كتب سابقا عن هذا الرائد بأيدي زملاء أجلاء، فقررت أن أقدم اقتراحا بعمل كتاب توثيقي عن «جهود القباني المسرحية في مصر» من خلال ثلاثة أقسام؛ الأول: دراسة توثيقية تبين دور القباني ومسرحه في مصر، وأثر فنه في إثراء الحركة المسرحية المصرية. الثاني: تجميع معظم ما نشر عن القباني في الصحف المصرية منذ قدومه وحتى احتراق مسرحه، ليكون توثيقا معايشا لنشاط القباني في مصر. الثالث: نشر مجموعة من مسرحيات القباني المطبوعة في مصر منذ عام 1900م، بحيث يكون نشرها بالصورة التراثية نفسها التي طبعت بها أول مرة عن طريق التصوير الإلكتروني بوصفها طبعات نادرة.
كتبت هذا الاقتراح في طلب رسمي، وبعد فترة قصيرة علمت من الزميل الدكتور عجاج سليم بأن «سعادة الأديب وزير الثقافة، الدكتور رياض نعسان أغا» قد وافق على مشروع الكتاب. وشاء القدر أن تأتي هذه الموافقة مع بدء العطلة الصيفية في الجامعات، فنذرت كل وقتي لإنهاء الكتاب قبل موعد الاحتفال بوقت يسمح بطباعته؛ حيث خصصت أكثر من عشر ساعات يوميا للعمل الدءوب، بين الكتابة التوثيقية الخاصة بالقسم الأول، والاطلاع على الصحف المصرية الخاصة بالقسم الثاني، وتصوير النصوص الخاصة بالقسم الأخير إلكترونيا.
أنهيت الكتاب بالصورة التي جاءت في الاقتراح قبل انتهاء العطلة بوقت قصير، وقبل أسبوع من تسليمه التقيت بالزميل الكريم «الأديب أحمد حسين الطماوي»، ودار نقاش علمي بيننا حول هذا الكتاب بعد اطلاعه - من خلال النقاش الشفهي - على فحواه، وباعتباره القارئ الأول لجميع كتاباتي منذ عام 1995م، وجدته يعلق على فكرة كتاب القباني وفحواه ببيت المتنبي الشهير:
ولم أر في عيوب الناس عيبا
كنقص القادرين على التمام
انتهى اللقاء بيننا، وظل معنى بيت المتنبي يطاردني ليل نهار طوال أسبوع كامل! وأخذت أسأل نفسي: ماذا في الكتاب من نقص أنا قادر على إتمامه؟ حاولت معرفة الإجابة؛ فأعدت قراءة الكتاب مرة أخرى، فوجدت القسمين الثاني والثالث لا غبار عليهما توثيقيا. إذن فالقسم الأول هو المقصود! وعندما أعدت قراءته بصورة دقيقة متأنية أيقنت بأنني كتبته تاريخيا توثيقيا، وليس نقديا تحليليا! والسر في ذلك اعتقادي الأول، بأنني لن أستطيع إضافة الجديد إلى حياة القباني ومسرحه؛ بسبب الكتابات التي كتبت عنه سابقا.
قررت أن أعيد كتابة هذا القسم بصورة نقدية تحليلية، معتمدا فيه نصوص القباني المسرحية وأقوال الصحف المصرية المعاصرة لنشاطه المسرحي، مبتعدا عن تأثير ما كتب عن القباني سابقا، إلا في أضيق الحدود، متخذا خطا نقديا فكريا ثابتا، اعتبرته منهجا للدراسة، استخلصته من تحليل نصوص كتابات القباني المسرحية، وتاريخ نشاطه المسرحي، وحددته في عنوان دراسة هذا القسم «رسالة القباني المسرحية بين النظرية والتطبيق».
خرجت من هذه الدراسة - بعد كتابتها بالنقد التحليلي - بنتائج لم أتصور الخروج بها عن حياة القباني ومسرحه! فهذه النتائج أضافت جديدا إلى حياة القباني ومسرحه، وأوضحت فكرا لم يكن معروفا، وبينت حقائق كانت مجهولة، وأثبتت موقفا كان مطموسا، وخرجت برسالة كانت مقبورة، وأشارت إلى منهج لم يكن منظورا، وحققت هدفا كان مدفونا ...! وحتى أجمع بين عنصري النقد التحليلي والتوثيقي، جعلت عنوان الدراسة هو أساس النقد التحليلي لفكر القباني المسرحي في مصر من خلال نصوصه المسرحية. أما العناوين الجانبية فهي تشير إلى مراحل التوثيق التاريخي لنشاط القباني المسرحي في مصر، من خلال ما نشر عنه في الصحف المصرية.
أما القسم الثاني من هذا الكتاب فيشتمل على الجانب التوثيقي الجامع لمعظم المقالات والأقوال والإعلانات التي نشرتها الصحف المصرية عن نشاط القباني المسرحي، منذ قدومه إلى الإسكندرية يوم 23 / 6 / 1884، وحتى احتراق مسرحه بالقاهرة يوم 18 / 5 / 1900. وهذه الصحف هي: الأخبار، والأهرام، والزمان، والقاهرة، والمؤيد، ومصر، والمقطم. حتى الآن لم أجد من كتب عن القباني معتمدا على هذه الصحف في مجملها؛ مما يعني أن القارئ سيقرأ جديدا عن القباني لم يكن يعرفه، أو سيرى فيها ما لم أره في دراستي عن حياة القباني ومسرحه.
Shafi da ba'a sani ba
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام، أن توثيق نشاط القباني المسرحي بهذا الأسلوب سبقني إليه المركز القومي للمسرح والموسيقى في مصر؛ حيث أصدر عدة كتب توثيقية تراثية عن أخبار المسرح في مصر، نشر فيها عن نشاط القباني المسرحي ما يعادل 10٪ من المعلومات التوثيقية التي جمعتها في هذا الكتاب، كما أود الإشارة إلى أن ما جمعته من أخبار توثيقية من الصعب الرجوع إليها في أصلها المنشور في الصحف المصرية بقسم الدوريات بدار الكتاب المصرية؛ لأن هذا الجمع قمت به منذ عام 1996م في أثناء عملي في كتابي «تاريخ المسرح في مصر في القرن التاسع عشر»، وعندما عدت إلى هذه الصحف - منذ وقت قريب - لإكمال توثيق نشاط القباني فجعت بأن معظم الصحف أصبحت مفقودة، والقليل منها غير صالح للاطلاع عليه؛ لتآكله وتهالكه؛ مما يعني أن الجانب التوثيقي في هذا الكتاب يمثل إنقاذا لتاريخ نشاط القباني المسرحي في مصر!
أما القسم الثالث من هذا الكتاب فهو الأكبر حجما؛ لأنه يشتمل على نصوص القباني المسرحية المطبوعة في مصر، وهي نصوص مختلفة الشكل، متفقة النص، بالمقارنة بنصوص مسرحيات القباني التي نشرها الدكتور محمد يوسف نجم - في بيروت - عام 1963م. وتمثل اختلاف الشكل في أنها منشورة في هذا الكتاب بصورتها التراثية الأصيلة التي ظهرت به ابتداء من عام 1900م. ولندرة هذه النصوص قمت بتصويرها إلكترونيا بواسطة الحاسوب، ثم قمت - إلكترونيا بواسطة الحاسوب أيضا - بتنظيف آثار أكثر من مائة سنة أحاطت صفحاتها وسطورها وكلماتها بسواد شديد، فخرجت صفحاتها ناصعة البياض كسيرة صاحبها القباني. •••
كلمة أخيرة أوجهها إلى الدارسين الباحثين ممن يرغبون في الكتابة عن حياة القباني ومسرحه فيما بعد، أقول لهم: إذا كان كتابي هذا قد تطرق إلى جهود القباني المسرحية في مصر؛ فإن جهودا مسرحية للقباني في سورية ما زالت مجهولة، والمعروف عن هذه الجهود حتى الآن يحتاج إلى تدقيق توثيقي، وتحليل نقدي. والأمل معقود عليهم في اكتشاف المجهول وتهذيب المعروف!
فمن غير المعقول أن نقرأ في الكتابات المنشورة عن القباني - بوصفه الرائد المسرحي السوري الأول - ستة تواريخ لميلاده، وتاريخين لوفاته! أو نقرأ لأحد الباحثين عن موهبته المسرحية أنها بدأت عندما شاهد عرضا لفرقة فرنسية في مدرسة العزارية، وعند باحث آخر أنه شاهد عدة مسرحيات مدرسية، وعند باحث ثالث أنه شاهد مسرحيات مارون النقاش، وعند رابع أنه شاهد مسرحية «إسكندر المقدوني» للشيخ إبراهيم الأحدب، وعند خامس أنه شاهد عروضا لخيال الظل!
حتى إن بداية نشاطه المسرحي في سورية اختلف حولها الباحثون؛ فقد وجدنا خمسة تواريخ لهذه البداية: أولها عام 1865م، وآخرها عام 1878م، وهذا الاختلاف لم تسلم منه مسرحيته الأولى في سورية؛ فمنهم من قال إنها «ناكر الجميل»، والثاني يقول إنها «الشاه محمود»، والثالث يزعم أنها «الشيخ وضاح»، والأخير يؤكد أنها «عائدة»!
وهذه الاختلافات حول هذا الرائد المسرحي الفذ طالت أيضا سبب منعه من التمثيل في سورية، فبعض الباحثين أكدوا أن سبب المنع صدور فرمان سلطاني بذلك، والبعض الآخر يقول: إن الوالي العثماني في دمشق هو صاحب هذا الأمر! ووصل اختلاف الباحثين إلى مداه عندما اختلفوا حول سبب قدومه إلى مصر. فأحدهم يقول: إن سعد الله حلابو هو الذي شجعه على القدوم، والثاني يقول: إن هذا التشجيع تلقاه من المطرب عبده الحمولي، ثم يقول الثالث: إن القباني كان مسافرا إلى معرض شيكاغو، فرست الباخرة في الإسكندرية فمكث بها.
هذه الاختلافات الجوهرية في حياة القباني ونشاطه المسرحي في سورية لا تليق بهذا الرائد المسرحي السوري الأول، وتفرض على الباحثين - في سورية الشقيقة أولا - واجبا قوميا وأدبيا وفنيا؛ حتى يستقيم تاريخ هذا الرائد، لا سيما أن مفاتيح بحثية ظهرت في هذا الكتاب يمكن الاسترشاد بها، وعدها بداية للبحث والتنقيب.
منها على سبيل المثال: بداية النشاط المسرحي في الإسكندرية؛ حيث عرض في الأسبوع الأول ست مسرحيات لاقت نجاحا كبيرا في هذا النشاط - بهذا الزخم الفني - يثبت أن القباني كان مستعدا استعدادا كبيرا في سورية، قبل قدومه إلى الإسكندرية! فأين استعد القباني بهذا الشكل الفني؟ وأين أقام تدريباته؟ وكيف جمع أعضاء فرقته؟ وهو ممنوع من التمثيل في سورية؟! ألا يثير هذا السؤال احتمالا يقول: إن أياما معدودة كانت فاصلة بين منع القباني من التمثيل في سورية وقدومه إلى مصر، وأن فرقته - الممنوع تمثيلها - في سورية هي نفسها الفرقة التي جاءت إلى مصر عام 1884م، وأن المسرحيات الست التي عرضت في الأسبوع الأول في مصر هي آخر مسرحيات عرضتها فرقته في سورية.
مثال آخر يتعلق بأسلوب اتبعه القباني طوال نشاطه المسرحي في مصر، وهو تجديد فرقته بصورة مستمرة كلما زار سورية ومكث بها بعض الوقت، وهذا التجديد تحدد في وجود ممثلين جدد من الجنسين، والسؤال الذي يطرح نفسه: من أين للقباني بممثلين محترفين سوريين على الرغم من منع التمثيل في سورية؟! وإذا كان الممثلون مبتدئين أو هواة، فأين كان يدربهم أو يعلمهم في سورية الممنوع فيها التمثيل؟! وهذا السؤال يدفعنا للقول باحتمال أن القباني كان يمارس النشاط المسرحي في سورية كلما زارها، خصوصا وأن فترات زياراته هذه وصلت إلى سنتين تارة وأربع سنوات تارة أخرى! فهل يعقل أن القباني بوصفه رائدا مسرحيا يظل في سورية هذه السنوات من غير ممارسة التمثيل؟!
مثال أخير: كتب خير الدين الزركلي في كتابه «الأعلام» ترجمة للقباني، أشار فيها إلى أن القباني كتب مذكراته قبل وفاته، وهي مذكرات مخطوطة! وفي هامش الترجمة قال: «استفدت مادة الترجمة من زهير القباني.» والسؤال الآن: أين هذه المخطوطات؟ وماذا كان مصيرها؟! وليتخيل معي القارئ قيمة هذه المخطوطات إذا ظهرت! من المؤكد أننا سنجد فيها حقائق تاريخية لم نكتبها، وشهادات فنية لم نعلمها، ونصوصا أدبية لم نقرأها، وحياة مسرحية لم نعشها، وأسرارا خفية لم نعرفها، وخواطر فنان لم نعهدها، وألحانا لم نتذوقها، وأغاني لم نسمعها ... إنها مذكرات نتمنى رؤيتها! (والله ولي التوفيق)
Shafi da ba'a sani ba
دكتور سيد علي إسماعيل
القاهرة، الدوحة: 18 / 10 / 2008
القسم الأول
الدراسة
رسالة القباني المسرحية بين النظرية والتطبيق
مدخل
بعيدا عن مظاهر التمثيل - في مصر - من: خيال الظل، والقراقوز، وصندوق الدنيا ... إلخ هذه الفنون الشعبية التي عملت على تسلية الجمهور وإسعاده؛ بعيدا عن كل هذا نستطيع القول - كما هو معروف - إن مصر عرفت العروض المسرحية في شكلها الغربي الحديث عن طريق الحملة الفرنسية - عام 1799م بقيادة نابليون بونابرت - التي شيدت - في منطقة الأزبكية - أول مسرح عرف في تلك المدة، وهو مسرح الجمهورية والفنون،
1
الذي أشار إلى نشاطه الفني المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه الشهير.
2
Shafi da ba'a sani ba
وهذا المسرح كانت رسالته الفنية قصيرة الفترة، وقاصرة على تسلية جنود الحملة من خلال عروض مسرحيات فرنسية.
مسرح الحملة هذا دفع الجاليات الأجنبية - فيما بعد - إلى تقليد نشاطه ورسالته، باستقدام بعض الفرق المسرحية الأجنبية - بصورة غير منتظمة - لتسلية المقيمين الأجانب في احتفالاتهم المتنوعة، بعروض مسرحية أجنبية، وهذا الأمر أصبح منتظما - بعض الشيء - منذ عام 1868م، عندما شيد الخديوي إسماعيل المسرح الكوميدي الفرنسي بالأزبكية،
3
وتمثلت رسالته الفنية في إقامة العروض المسرحية الفرنسية من قبل الفرق الأجنبية، وبعد أقل من عام واحد أصبح النشاط المسرحي منتظما بصورة رسمية بعد بناء دار الأوبرا الخديوية وافتتاحها عام 1869م،
4
ورسالة هذه الدار الفنية تحددت بإقامة العروض الإيطالية من قبل الفرق الأجنبية أيضا.
واللافت للنظر أن اهتمام الخديوي إسماعيل - بوصفه حاكم البلاد - بالفن المسرحي شجع معاونيه والمقربين منه على إضفاء رؤية أدبية لهذا الفن الجديد الوافد على البيئة المصرية، فبرز من بنيهم رجل التعليم والترجمة في مصر، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، ليقدم تجربة فنية فريدة - كانت الأولى من نوعها - عندما عرب مسرحية «هيلانة الجميلة» عن أوبريت أوفنباخ عام 1868م،
5
وهي مسرحية افتتاح مسرح الدولة الرسمي الأول - الكوميدي الفرنسي، وبذلك عرفت مصر رسميا المسرح العربي نصا معربا قبل أن تعرفه عرضا ممثلا.
إشكالية الريادة
Shafi da ba'a sani ba
وإذا أردنا الولوج إلى العروض المسرحية العربية التي عرفتها مصر لنوثق الريادة المسرحية العربية ونؤرخها في هذا القطر العربي المهم؛ سنقع في إشكالية كبيرة؛ لعدم وجود الدليل القاطع المانع عليها؛ فإشكالية هذه الريادة - رغم ما كتب عنها - لم تحسم حتى الآن؛ لأنها تتمثل في ريادة يعقوب صنوع للمسرح العربي في مصر، تلك الريادة التي لا يخلو من ذكرها - وإلصاقها بصنوع - أي كتاب مسرحي يتحدث عن تاريخ المسرح المصري أو العربي، ناهيك عن الرسائل العلمية والدراسات والأبحاث ... إلخ أكوام الأوراق التي دبجت حول هذه الريادة.
ورغم هذا الكم الهائل من الكتابات حول صنوع وريادته للمسرح العربي في مصر، لم يظفر باحث واحد - حتى الآن - بدليل يؤكد هذه الريادة؛ لأنها ريادة صيغت بيد صاحبها يعقوب صنوع، ولم يقره فيها أي كاتب أو مشاهد أو معاصر له طوال فترة نشاطه المسرحي في مصر - كما زعم في كتاباته - من عام 1870 إلى 1872م.
6
وإذا سلمنا جدلا بأن صنوعا لم يكن رائدا للمسرح العربي في مصر - دافعين الباحثين لشحذ الهمم في الحصول على دليل هذه الريادة - سيطاردنا سؤال يقول: إذن، من هو رائد المسرح العربي في مصر، الذي أقام عروضا مسرحية عربية بصورة منتظمة، لنرفع فوق رأسه تاج الريادة المنزوع مؤقتا من صنوع؟! هذا الرائد من اليسير إيجاده والإشارة إليه وإلى ريادته لو قرأنا كتابات المعاصرين له ممن شاهدوه وعايشوه ورأوا عروضه، أو ممن سمعوا عنه من الثقات، أو من المتخصصين في المسرح وتاريخه، ناهيك عن الاستئناس بكتاباته المنشورة عن هذه الريادة، وهي كتابات لم يردها عليه أي باحث حتى الآن. هذا الرائد هو سليم خليل النقاش اللبناني؛ وإليك الأدلة المنشورة على ريادته:
عندما عزم سليم خليل النقاش الحضور إلى مصر ترجم مسرحية «مي» ونشرها في بيروت عام 1875م، قائلا في مقدمتها: أنه سيخدم الخديوي إسماعيل «بإدخال فن الروايات في اللغة العربية إلى الأقطار المصرية.»
7
ويجب التدقيق هنا في كلمة «إدخال» التي تدل على عدم وجود الشيء من قبل، رغم وجود صنوع في مصر في هذه الفترة. كما أكد سليم النقاش - مرة أخرى - على عمله الريادي هذا ومهمته الفنية الفريدة عندما تحدث عن الخديوي إسماعيل في مقالته بمجلة «الجنان» - أغسطس 1875م - قائلا: «... بلغت فوق ما تمنيت من أفضال جنابه العالي، وأحسن إلي بقبول طلبي، وذلك بأن أدخل فن الروايات باللغة العربية إلى الأقطار المصرية.»
8
وحتى لا نكيل بمكيالين، ونتخذ أقوال سليم النقاش حجة على ريادته، حارمين صنوعا من هذا الحق، سنترك هذه الأقوال - المستأنس بها - ونقرأ ما كتبه أحد المعاصرين من كتاب المسرح المصري، وهو محمود واصف
9
Shafi da ba'a sani ba
الذي قال عام 1895م: «إن فن التشخيص بلغتنا العربية لم يدخل إلى بلادنا المصرية إلا منذ عهد قريب على يد طيب الذكر سليم أفندي النقاش»،
10
وكذلك قول أحد المسرحيين المؤرخين للمسرح وأعلامه، وهو جورج طنوس،
11
القائل عام 1917م: «ظهر التمثيل العربي في هذه الديار. وكانت نشأته الأولى في الإسكندرية على أيدي الأديبين الشهيرين إسحاق والنقاش.»
12
وربما كان محمد تيمور
13
الكاتب المسرحي الفذ لا يحتاج منا تأكيدا على قيمته المسرحية والأدبية - باعتباره من أوائل الكتاب المسرحيين، وأحد أعلام الأسرة التيمورية المرموقة في مجال الأدب وتاريخه - فهو القائل عام 1919م : «أتانا التمثيل ... وأول من جاءنا به قوم من فضلاء السوريين أمثال النقاش وأديب إسحاق والخياط ... ولقد نجحوا في بناء أساس ذلك الفن نجاحا كبيرا ... وأنشئوا بأيديهم فن التمثيل في مصر.»
14
Shafi da ba'a sani ba
ولا نستطيع - في هذا المقام - أن نغفل قول خليل مطران عام 1921م: إن «المرحوم سليم النقاش أول من أنشأ فرقة للتمثيل بمصر باتفاق بينه وبين الحكومة»،
15
أو ننحي جانبا شهادة أحمد شفيق باشا عام 1934م عندما قال: «بدأت تفد على مصر بعض الفرق السورية، فكان ذلك منشأ المسرح العربي الأهلي، وأولى هذه الفرق هي فرقة سليم النقاش.»
16
بواكير المسرح الغنائي
ومما سبق يتضح لنا أن فرقة سليم النقاش هي أول فرقة مسرحية عربية تقدم عروضا مسرحية منتظمة باللغة العربية في مصر، منذ قدومها من لبنان إلى الإسكندرية عام 1876م، ومن هذه العروض: أبو الحسن المغفل، والسليط الحسود، ومي وهوراس، وهارون الرشيد، والكذوب، وعائدة. فمن خلال ذلك نستطيع تحديد رسالة سليم النقاش الفنية في مصر بأنها اقتصرت على إدخال المسرح باللغة العربية إلى مصر، من خلال مسرحيات - معظمها مترجم أو معرب - متنوعة الموضوعات.
والملاحظ أن هذه المسرحيات كانت تشتمل قطعا غنائية شاء القدر ألا تمثل مسرحا غنائيا رائدا في مصر؛ لأن سليم النقاش - بواسطة بطرس شلفون - درب ممثليه على تلحين هذه القطع من خلال الأنغام المصرية.
17
ومن المحتمل أن فترة التدريب - ثلاثة أشهر - لم تكن كافية كي يتمكن الممثلون من حفظها بالصورة المصرية، فأسهم هذا التحول الفني المفاجئ في عدم نجاح هذه العروض، وربما لو حافظ سليم على ألحان هذه القطع بالأنغام الشامية - المتمكن منها أعضاء فرقته - لنجحت وأصبحت عروضا مسرحية غنائية رائدة. ونتيجة هذا الإخفاق هجر سليم الفرقة واتجه إلى الصحافة، فتقلد زمام أمورها يوسف الخياط عام 1877م الذي تعثرت عروضه المسرحية - المترجمة أو المعربة - كثيرا بين استمرار وتوقف.
18
Shafi da ba'a sani ba
وفي الإسكندرية ظهرت فرقة سليمان الحداد
19
لأول مرة عام 1881م، وعرضت عدة مسرحيات على مسرح زيزينيا،
20
منها مسرحية «الغيور».
21
وفي هذه الفترة لاحظ سليمان الحداد شغف أهالي الإسكندرية بغناء ابن مدينتهم الشيخ سلامة حجازي، فلم يقع في خطأ سليم النقاش، ولم يغامر بتدريب ممثليه على الأنغام المصرية، بل فكر في ضم الأنغام المصرية إلى فرقته في صورة الشيخ سلامة حجازي، لا سيما أن الشيخ بدأ يميل نحو التمثيل بسبب مشاهدته لعروض الجاليات الأجنبية في الإسكندرية، فبدأ الحداد يزين التمثيل المسرحي أمام الشيخ سلامة، ويلح عليه إلحاحا شديدا أملا في ضمه إلى فرقته بوصفه مطربا وممثلا، فكان له ما أراد. ووقف الشيخ سلامة ممثلا لأول مرة في مسرحية «مي» التي جسد فيها شخصيتي كورياس والملك، وقد نجح هذا العرض نجاحا كبيرا.
22
ونجاح هذا العرض المسرحي - من وجهة نظري - يعد نجاحا منقوصا؛ لأن العرض نجح لا بوصفه عرضا مسرحيا غنائيا، بل نجح بوصفه غناء ذا خلفية تمثيلية، فالمنطق يقول: إن الجمهور لم يتوافد على العروض لرؤية تمثيل الشيخ سلامة بقدر ما هرول لسماع صوته،
23
Shafi da ba'a sani ba
والدليل على ذلك أن الشيخ لم يستمر - بعد ذلك - ممثلا في فرقة الحداد، بل استمر مطربا ترتشف من طربه الجماهير، دليلا على عدم نجاح التجربة في ظهور ما يسمى بالمسرح الغنائي واستمراره، وهذا يعني أن ارتباط الشيخ سلامة بمسرح الحداد لم ينتج عنه الفن المسرحي الغنائي المنتظر، ولكنه يعتبر بداية مقبولة لامتزاج هواية التمثيل بالغناء المحترف عند الشيخ سلامة حجازي.
وبعد هذه التجربة بشهور أراد سليمان القرداحي تكرارها عندما كون فرقة مسرحية، نجح في ضم الشيخ سلامة إليها، طمعا في توافد سامعيه من الجمهور المصري، ومثلت الفرقة في القاهرة والإسكندرية، وكان عرضها الأخير - على مسرح زيزينيا - «فرسان العرب» في مايو 1882.
24
ولم نقرأ في الصحف المديح المنتظر عن تجربة القرداحي مع الشيخ سلامة حجازي، مما يوحي بأن هذه التجربة لم تخط الخطوة المرجوة في ظهور المسرح الغنائي واستمراره أيضا؛ لأن القرداحي - ومن قبله الحداد - لم يستحدث مسرحيات عربية تتناسب مع موهبة الشيخ سلامة الغنائية، بل كان يعرض مسرحيات من رصيده الدرامي، المعتمدة على الترجمة والتعريب، فيضطر الشيخ سلامة إما إلى غناء ما في هذه المسرحيات من قصائد مقحمة عليها، أو إلى إدخال فنونه الغنائية الجماهيرية من قصائد وموشحات على تمثيلها، بغض الطرف عن مناسبتها للنص الدرامي أو عدم مناسبتها.
ومن أسباب وأد هذه التجربة أيضا أن عرض مسرحية «فرسان العرب» في مايو 1882م، كان آخر عرض مسرحي في الإسكندرية، وربما في مصر كلها؛ لأن مصر لم تشهد نشاطا مسرحيا بعد ذلك - لمدة عامين - بسبب الثورة العرابية - نسبة إلى أحمد عرابي باشا - وتدمير أجزاء كبيرة من مدينة الإسكندرية تحت وابل قنابل البوارج الإنجليزية التي مهدت احتلال بريطانيا لمصر.
القباني في مصر
ظل أهالي الإسكندرية يعانون - آثار الثورة العرابية واستمرار الاحتلال الإنجليزي - عاملين متتاليين، متشوقين إلى سماع الأغاني ورؤية التمثيل العربي. وكان مقيما بالإسكندرية - في هذه الفترة - سعد الله بك حلابو أحد الأعيان السوريين، فاستطاع بماله ونفوذه - وبمساعدة آخرين - استقدام فرقة مسرحية عربية سورية إلى الإسكندرية
25
في يونيو 1884م، فكان حدثا فريدا استقبلته الصحافة بالابتهاج الكبير، خصوصا جريدة «الأهرام»، وقام صاحباها اللبنانيان - سليم وبشارة تقلا - بالترويج لهذه الفرقة ومدحها منذ وصولها، ربما بدافع الحماسة لفرقة شامية، أو بإيعاز من سعد الله حلابو وغيره من الأعيان، ممن مهدوا لقدوم الفرقة أحسن تمهيد.
بدأت جريدة الأهرام مهمتها يوم 23 / 6 / 1884 حين أعلنت قدوم فرقة سورية يديرها الشيخ أبو خليل القباني الدمشقي، الذي وصفته بالكاتب المشهور والشاعر المفلق. أما فرقته فتتألف من «مهرة الفنانين في ضروب التمثيل وأساليبه، وبينهم زمرة من المنشدين المطربين، تروق لسماعهم الآذان وتنشرح الصدور.» هذا يعني إنها فرقة تدمج الغناء بالتمثيل العربي في نسيج فني واحد من غير إقحام لون في الآخر - كتجربة سلامة حجازي مع الحداد والقرداحي - مما يشير إلى أن هذه الفرقة - ربما - ستقدم مسرحا عربيا غنائيا. ولم تغفل الجريدة - في إعلانها - التأكيد على أن المسرحيات المقدمة ستكون عربية. وربما المقصود أنها مسرحيات عربية مؤلفة، لا أجنبية مترجمة أو معربة، كمعظم مسرحيات الفرق السابقة، كما أعلنت الجريدة أن المسرحية التي ستمثل هذا اليوم هي «أنس الجليس».
Shafi da ba'a sani ba
وأخيرا حددت الجريدة مكان التمثيل ب «قهوة الدانوب، المعروفة بقهوة سليمان بك رحمي». ربما يظن القارئ أن مكان التمثيل المعلن لا يليق بهذه الفرقة المنتظرة منذ عامين، ولكن هذا الظن يتلاشى أمام اسم صاحب المكان الذي يحمل رتبة «البكوية»؛ فمن غير اللائق اجتماعيا - في هذا الزمن - أن حامل البكوية يكون صاحب قهوة متواضعة، بل هو صاحب قهوة فسيحة راقية فاخرة، تتسع لجمهور المسرح، وتليق باستقبال فرقة القباني، ويفتخر بها صاحبها واضعا اسمه ورتبته بجوار اسمها في إعلانات الصحافة. ومن المحتمل أن هذه القهوة كانت على غرار كازينوهات شواطئ الإسكندرية الحالية، خصوصا وأن صاحبها سليمان بك رحمي كان ذا تاريخ ومكانة مرموقين في الإسكندرية، بدليل إطلاق اسمه على أحد شوارعها الرئيسية منذ عقود وحتى الآن.
أنس الجليس
عرض القباني مسرحية «أنس الجليس» لتكون أول عرض لفرقته في مصر، وكان عرضا ناجحا مباركا، تم تمثيله في غرة رمضان. ولا نملك دليلا على نجاح هذا العرض سوى ما نشرته جريدة الأهرام واصفة سرور الجماهير الغفيرة بسبب «ما شهدوا من براعة المشخصين، وتفننهم في أساليب التمثيل، وراقهم حسن الإلقاء وتوقيع الأصوات والحركات وبلاغة الموضوع.» قد حددت الجريدة أن المسرحية عرضت في خمسة فصول تلاها فصل مضحك، وهو الأمر الجديد الذي لم تشر إليه الجريدة من قبل.
26
لا نملك دليلا - كما قلنا - على نجاح عرض القباني الأول في مصر سوى عبارات جريدة الأهرام، التي يمكن أن تفسر بأنها مجاملة للفرقة، أو مبالغة في وصف مشاعر الجماهير المتعطشة للفنون المسرحية والغنائية منذ عامين. رغم ذلك يمكننا الاعتماد على نص المسرحية - المنشور في هذا الكتاب
27 - ربما نجد فيه ما يوافق أقوال الجريدة أو يخالفها، أو على أقل تقدير يعكس لنا - بصورة منطقية - أجواء هذا العرض الذي تم أمام جماهير الإسكندرية عام 1884م.
أول ما يطلع عليه قارئ المسرحية مقطوعة من ستة أبيات
28
أجمل فيها القباني رؤيته الفنية بصفة عامة - يرجح أنه - ألقاها قبل تمثيل المسرحية، وكأنه يشرح للجمهور رسالته المسرحية، ويطلعه على فحوى عروضه القادمة، كما أن هذه الأبيات - وغيرها كما سنرى - تعزز رأي جريدة الأهرام في وصفها القباني بالشاعر المفلق لشعره العجيب؛ حيث قال:
مراسح أحرزت تمثيل من سلفوا
Shafi da ba'a sani ba
وعظا وجاءت لنا عنهم كمرآت
تمثل اليوم أحوال الأولى سبقوا
من طيبات لهم أو من إساءات
عسى يكون لنا فيما مضى عبر
تجدي وتعلم أني عبرة الآتي
عسى نكون كراما إذ يشخصنا
من بعدنا أو فيا طول الفضيحات
فالحر إن مات أحيته فضائله
والوغد إن عاش مقرون بأموات
هذا هو القصد من تمثيل من عبروا
Shafi da ba'a sani ba
لا اللهو والزهو والإعجاب بالذات
وهذه الرؤية التي صاغها القباني شعرا شرحها فيما بعد نثرا، وظل يرددها أمام تلاميذه، وكأنها ميثاق فني بينه وبينهم، أو بينه وبين جمهوره. هذا الشرح نقله إلينا تلميذه كامل الخلعي، وفيه يقول القباني: «التمثيل جلاء البصائر، ومرآة الغابر، ظاهره ترجمة أحوال وسير، وباطنه مواعظ وعبر. فيه من الحكم البالغة، والآيات الدامغة، ما يطلق اللسان، ويشجع الجبان، ويصفي الأذهان، ويرغب في اكتساب الفضيلة، ويفتح للبليد باب الحيلة، ويرفع لواء الهمم، ويحركها إلى مسابقة الأمم، ويبعث على الحزم والكرم. يلطف الطباع، ويشنف الأسماع. وهو أقرب وسيلة لتهذيب الأخلاق ومعرفة طرق السياسة، وذريعة لاجتناء ثمرة الآداب والكياسة. هذا إذا تدرج فيه من ذكر الأحوال إلى ضرب الأمثال، ومن بيان المنهاج إلى الاستنتاج؛ ليرتدع الغر عن غيه ويزدجر، ويجد العبرة في غيره فيعتبر.»
29
هذه الرؤية الفنية أو الرسالة المسرحية - شعرا أو نثرا - صاغها القباني بوصفه شاعرا أديبا عربيا منتميا إلى عصره قبل أن يكون ممثلا مسرحيا أو ملحنا موسيقيا، فمضمون هذه الرسالة كان توجها عربيا عاما منتشرا بين الشعراء والأدباء، والمعروف بحركة «إحياء التراث العربي»، التي تقلد ريادتها الشعرية محمود سامي البارودي (شاعر السيف والقلم). وهذه الحركة كانت ملتزمة بوجوب إبراز التراث العربي في جميع أشكاله المشرقة، وبضرورة مواجهة الثقافة الغربية الوافدة بالثقافة العربية الأصيلة.
من خلال هذا المفهوم لحركة إحياء التراث العربي صاغ القباني رسالته المسرحية السابقة - شعرا أو نثرا - من أجل تطبيق مفهوم الإحياء في مجال المسرح. وبمعنى آخر: أراد القباني أن يؤسس مسرحا عربيا فصيحا؛ يعرض من خلاله موضوعات تراثية مشرقة تحمل الكثير من الحكم والأمثال والنماذج الأدبية الرصينة (نثرا وشعرا)، مزينة بأغان وألحان عربية - ليواجه به العروض المسرحية الأجنبية، أو العروض العربية المعتمدة على نصوص مسرحية مترجمة أو معربة .
ومن خلال هذا التوجه يمكننا تفسير التزام القباني كتابة مسرحياته باللغة العربية الفصحى، بل وعلى عرض جميع مسرحياته بالفصحى - سواء كان كاتبها أو مكتوبة من قبل غيره - كإسهام منه في مواجهة محاربة المستعمر للغة الفصحى وفرض اللغة الإنجليزية على التعليم في مصر - في ذلك الوقت - من قبل المحتل الإنجليزي، لا سيما أن الدعوات التي هاجمت الفصحى وروجت إلى العامية ظهرت في هذه المدة، ونسبت إلى المصريين التخلف والعجز بسبب تمسكهم بالفصحى، ونادت باتخاذ العامية لغة للتأليف العلمي والأدبي.
30
أما هدف القباني المسرحي من طرحه رسالته، فيتمثل في جمهوره الذي سيتخذ من قصص التراث - الممثلة أمامه - العظة والعبرة؛ ليستعين بهما على معايشة الحاضر بصورة سليمة، واستشراف المستقبل بصورة قويمة. كما سيتعلم اكتساب الفضيلة وطلاقة اللسان العربي، ويجني ثمرة الآداب العربية، ويدفع أمته إلى الأمام ويستمتع بجمال الألحان. هكذا كان تحديد رسالة القباني المسرحية والهدف منها. لم يبق أمامنا إلا تتبع منهج القباني في التزامه برسالته وتحقيق هدفه، والتعرف على أدوات هذا المنهج، أو التعرف على أسلوبه في التزامه برسالته، وتحقيق هدفه من إحياء التراث.
بهذا الفكر الإصلاحي التنويري كتب القباني مسرحيته «أنس الجليس» مستوحيا فيها «حكاية الوزيرين التي فيها ذكر أنيس الجليس» المنشورة من الليلة الخامسة والأربعين إلى الحادية والخمسين في كتاب «ألف ليلة وليلة»؛ ليبرهن من البداية التزامه برسالته المسرحية - المنبثقة من حركة إحياء التراث - بمعالجة موضوع من التراث العربي الأدبي.
والمسرحية تدور أحداثها حول الجارية الجميلة أنس الجليس، التي اشتراها الوزير الفضل قينة - أي جارية مغنية - للوالي ابن سليمان، ولكنه لم يسلمها إليه، بل أبقاها في منزله بعض الوقت، فوقع في حبها ابنه علي نور الدين، فرضخ الأب - بدافع الأبوة - ووافق على زواجهما، متحملا غضب الوالي عليه. ثم يعلم الوالي بهذا الأمر من الوزير ابن ساوي - غريم الوزير الفضل - فينزل جام غضبه على وزيره الفضل، فيهرب الحبيبان إلى بغداد، ويقابلان الخليفة هارون الرشيد، فيعلم قصتهما فيرسل إلى الوالي رسالة يأمره بإقامة العدل، وبعد عدة أحداث يجتمع شمل الزوجين ويعود الحق إلى أصحابه، ويعاقب ابن ساوي على أفعاله، وتنتهي المسرحية نهاية سعيدة.
Shafi da ba'a sani ba
هذا هو الموضوع الذي عرض على جمهور الإسكندرية الغفير الذي حضر العرض - تأكيدا على اتساع قهوة الدانوب - فأعجب ببلاغة الموضوع كما أوضحت جريدة الأهرام، مما يعني نجاح رسالة القباني؛ وتأكيدا على صدق الجريدة في نقلها مشاعر استحسان الجمهور لموضوع المسرحية، نقول إن القباني كان مؤلفا للمسرحية أكثر منه مقتبسا لقصتها، أو صائغا لحكايتها؛ فالقباني لم يتخل عن تعاليم دينه الإسلامي، ولم ينسل من قيمه الخلقية، ولم يضح بعاداته وتقاليده العربية، كي يفوز برضى جمهوره ويثبت أقدام فرقته في البيئة المصرية، عندما عف يده عما وجده في حكاية الليالي مما يغري الجمهور ويثير شهواته. وهي أمور تخالف مفردات رسالته المسرحية، وتخالف مبدأ حركة الإحياء في وجوب إبراز التراث بوجه مشرق.
فقصة الليالي فيها مشهد تفصيلي جنسي فاضح، تم بين علي نور الدين والجارية أنيس الجليس، فلم يشر إليه القباني ولو بالإيحاء. كما أنه أصر في مسرحيته على زواج الجارية بعلي نور الدين منذ لقاء الحب الأول بينهما، وهذا الأمر لم يتحقق لها في حكاية الليالي إلا بعد حدوث الفاحشة بمدة طويلة، كما أن القباني لم يتطرق في مسرحيته إلى مشاهد شرب الخمر الكثيرة الموجودة في حكاية الليالي. كما نجح في إظهار هارون الرشيد بمظهر يليق بخليفة المؤمنين في عدله وحكمته، خلافا لصورته المشوهة في حكاية الليالي.
وهذه الأمور تبين مدى التزام القباني بمعطيات رسالته، ومدى قدرته على امتلاك أدوات الكتابة المسرحية - الموظفة فنيا لصالح مبدأ حركة الإحياء بوجوب ظهور التراث في صورة مشرقة - مما يدل على اهتمامه بالبناء الفني لمسرحياته تبعا لتقاليد الكتابة المسرحية في هذا الزمن، التي تتصف بالبساطة والمباشرة والوضوح، تبعا للهدف المرجو من رسالته المسرحية.
لم يكتف القباني بذلك - وإن اكتفى فلا غبار عليه، فكفاه القيام بما قام به في زمن كان المسرح العربي فيه يخطو خطواته الأولى - لأنه شحذ ملكته الشعرية فاستعاض بأشعار حكاية الليالي أشعارا من بنات أفكاره - في معظمها الأعم - تثبت بلا جدال بأنه شاعر مفلق كما وصفته جريدة الأهرام، وهذا الأسلوب يعتبر أهم أداة من أدوات تطبيق منهج رسالته المسرحية، وهو الأسلوب الذي سيتبعه - وسيلتزم به - في جميع كتاباته المسرحية فيما بعد، كما سنرى.
وأشعار مسرحية «أنس الجليس» تنقسم إلى نوعين: النوع الأول أشعار كثيرة تعد حكما ومواعظ بليغة من تأليفه، التزاما بمفردات رسالته، أو أشعارا قليلة مقتبسة - أو متضمنة - من نظم المشاهير، جاءت مناسبة في مواقف استخدامها الدرامي متوافقة مع حوار الشخصيات، وكأنها نظمت من أجلها - معضدة معطيات رسالة القباني المسرحية - بما تحمله من حكم ومواعظ وعبر. والنوع الآخر أشعار من تأليفه تمثل ألحانا غنائية، أضفت على العروض جوا غنائيا موسيقيا، فأبدت الجماهير استمتاعها بحسن إلقائها - كما قالت جريدة الأهرام - تأكيدا على تحقيق هدف الرسالة.
ومن أمثلة النوع الأول من نظم القباني قول الوزير الفضل بن خاقان:
31
إذا اعتذر المسيء إليك يوما
من الآثام عذر فتى مقر
فصنه عن عقابك واعف عنه
Shafi da ba'a sani ba
فإن العفو شيمة كل حر
وكذلك قول جعفر:
32
إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا
وتستحي مخلوقا فما شئت فافعل
ومن أمثلة الأشعار المقتبسة من المشاهير - التي لم يذكر القباني أسماء أصحابها - بيتان للشاعر الحسين الأصبهاني الطغرائي صاحب لامية العجم، يقول فيهما:
33
أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس وأصحبهم على دخل
فإنما رجل الدنيا وواحدها
Shafi da ba'a sani ba
من لا يعول في الدنيا على رجل
وكذلك بيتان للحاجب المصحفي الأندلسي، قال فيهما:
34
هبني أسأت فأين العفو والكرم
إذ قادني نحوك الإذعان والندم
بالغت في السخط فاصفح صفح مقتدر
إن الكرام إذا ما استرحموا رحموا
كما وجدنا بيتا للشاعر محمد بن حازم الباهلي، قال فيه:
35
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائبا
Shafi da ba'a sani ba
إليك ولم تغفر له فلك الذنب
وأخيرا نجد بيتين من نظم أبي العلاء المعري، قال فيهما:
36
الملك لله من يظفر بنيل منى
يردده قهرا ويضمن بعده الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
فوق التراب لكان الأمر مشتركا
ورغم كثرة الأشعار في حكاية الليالي - ومناسبتها للبناء الدرامي إذا استخدمت في المسرحية - إلا أن القباني لم يقتبس إلا النادر منها، وكأنه أراد إثبات أنه شاعر مفلق بحق، قادر على نظم أشعار معبرة عن موضوعه، مناسبة للجماهير العربية المسلمة، المتشوقة لسماع الحكم والمواعظ والعبر - وفق معطيات رسالته وهدفها - بوصفها جماهير غضة، لم تألف - كثيرا - رؤية المسرح العربي المؤلف. ولم نجد - حسب اجتهادنا - إلا بيتين فقط قام القباني باقتباسهما من أشعار حكاية الليالي وجدهما مناسبين للأشعار الوعظية ذات المعاني الرصينة - تطبيقا لرسالته المسرحية - المتوافقة مع أشعاره المؤلفة، أو المقتبسة من مشاهير الشعراء، جاء فيهما:
37
بنفسك فز إذا ما خفت ضيما
Shafi da ba'a sani ba