وقد أدى انفصال مكان السكن عن الحقل، واستقرار السكن، وتأمين الغذاء ووفرته النسبية، إلى نمو عددي للجماعات المستقرة لأول مرة في التاريخ. ومع كبر حجم السكان وانقسامهم إلى تخصص إنتاجي بين المزارع والتاجر والحاكم ... إلخ. تعددت حاجات السكان إلى أشياء أخرى غير الغذاء؛ ومن ثم نشأت البعثات التجارية إلى أماكن مختلفة لجلب المنتجات المطلوبة من أقاليم قريبة أو بعيدة. «وقد كان هذا هو حال مصر دائما خلال العهود الفرعونية؛ حيث نظمت التجارة بواسطة إرسال بعثات وحملات تجارية إلى ساحل الليفانت وجزر إيجة والبحر الأحمر والمحيط الهندي والنطاق المداري الأفريقي.» وبعبارة قصيرة ظهرت التجارة، ومعها نمت بسرعة طرق الاتصال البري والمائي، واتخذت المجتمعات المختلفة (دولا أو مدنا) كافة الوسائل لتأمين طرق المواصلات التي تهمها.
وسواء استخدم الحيوان في البداية للحمل أو الجر، فإن القفزة الأساسية في النقل البري حدثت عندما تم اختراع العجلة «الدولاب» في منطقة ما من الشرق الأوسط قبيل 3000ق.م؛
1
فقد أدت العجلة إلى زيادة هائلة في حجم ما تحمله عربة يجرها الحيوان بالقياس إلى أي وسيلة سابقة للنقل البري. «أقدم الأدلة تشير إلى استخدام الحيوان للحمل وليس الجر في الشرق الأوسط في عصر النحاس، وإن كانت هناك أدلة من العصر الحجري الأوسط في فنلندا تشير إلى أن أصحاب هذه الحضارة قد اخترعوا أقدم عربة: الزحافة الجليدية في هذا العصر المبكر. وهناك احتمال وجود الزحافة فوق سهول الشرق الأوسط قبل 4000ق.م.»
وقد انتشرت العربة ذات العجلتين أو ذات العجلات الأربع في الشرق الأوسط. ولم تأت الألف الأولى قبل الميلاد إلا وقد انتشرت من الصين إلى أوروبا الغربية. وبالرغم من هذا الانتشار الجغرافي لعربة العجلات، إلا أن استخدامها كان محدودا لتآكل وانفلاق كتلة الخشب الواحدة التي تكون العجلة، ولم يقدر للعجلة ذيوع الاستخدام إلا بعد أن أضيف إليها الإطار الحديدي الذي أعطاها عمرا أطول، ومكن من تطويرها إلى العجلة المعروفة حاليا (المتكونة من قرص دائري مركزي تخرج منه قضبان خشبية في صورة أنصاف أقطار الدائرة لتلتحم في أطرافها البعيدة مع الإطار الخشبي الخارجي، الذي يزيد من صلابته وإحكامه إطار حديدي خارجي). ويبدو أن استخدام إطار الحديد في العجلات قد حدث حوالي 2000ق.م أو بعد ذلك بقليل بعد ذيوع وانتشار تكنولوجية صهر وطرق الحديد في منطقة الأناضول والشرق الأوسط.
وبرغم انتشار العربة ذات العجلات إلا أن ذلك لم يقض على استخدام الحيوان في حمل البضائع، وخاصة في المناطق الوعرة التي لا تزال تستخدم فيها حيوانات الحمل حتى الآن، أو المناطق التي لا توجد فيها طرق صالحة لسير العربات.
ومبدأ العجلة - برغم أنه يؤخذ على أنه أمر بديهي في الوقت الحاضر - إلا أنه على أكبر جانب من الأهمية في النقل وغير النقل. والواقع أن ابتكار العجلة عبارة عن انتصار هائل للحضارة الإنسانية، مثله في ذلك مثل انتصارات أخرى؛ كاكتشاف الزراعة والنار والطاقات المحركة غير البيولوجية. والمبدأ في الأساس عبارة عن تحويل قوة أو حركة خط عمودي إلى حركة دائرية، وبتطبيق هذا المبدأ على النقل فإنه يؤدي إلى الإقلال إلى الحد الأدنى من الاحتكاك بالأرض؛ وبالتالي يمكن لوحدة الطاقة المحركة أن تحرك أثقالا كبيرة.
وعلى بساطة هذا المبدأ إلا أن اكتشافه كان أمرا عسيرا دون شك، وإلى الآن تمتلئ أشكالنا الحضارية المادية بهذا المبدأ من آلة البخار إلى القطار الحالي، إلى السيارة وإلى الطائرة. وبعبارة قصيرة فإن كل وسائل النقل البري الحالية تستخدم مبدأ العجلة.
وأخيرا فإن أحدث وسائل النقل العادية هو النقل الجوي. وهو في الواقع أكثر وسائل النقل مثالية من حيث إن الطيران يخترق أقصر الخطوط عادة بين نقطتين، دون العوائق التي تواجه النقل البري (جسور - أنفاق - مدن - مستنقعات ... إلخ) أو النقل البحري (مناطق العواصف أو التيارات أو الجزر أو السواحل التي تدور حولها السفن)، لكنه من حيث الحمولة أقل بكثير من القطارات والسفن؛ مما يرفع تكلفة النقل الجوي كثيرا، سواء بالنسبة للأفراد أو البضائع.
ويمكننا أن نلخص تاريخ التطور في وسائل النقل في واحد من أهم نتائج النقل؛ سرعة النقل والتنقل. وليس المقصود من السرعة مجرد السرعة في حد ذاتها ولكنها توضح بجلاء إمكانية انتقال الأفراد والسلع من مكان الإنتاج إلى مكان الاستهلاك في عالم شديد التشابك في علاقاته التجارية.
Shafi da ba'a sani ba