Jughrafiya Siyasiyya
الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا: مع دراسة تطبيقية على الشرق الأوسط
Nau'ikan
وبعد سقوط ألمانيا في الحربين العالميتين قطعت كثيرا من وحدتها الأرضية بواسطة الحلفاء المنتصرين، وخاصة حينما قسمت بقية ألمانيا بعد عام 1945 إلى دولتين أصبحتا بحكم الأمر الواقع - والآن شرعيا - دولتين معترفا بهما من غالبية المجتمع الدولي فضلا عن اعتراف كل من هاتين الدولتين الألمانيتين ببعضهما.
والقضية الفلسطينية شاهد آخر من عالمنا على استحالة تطبيق مبدأ الحدود القومية، فمنذ بداية هذا القرن والحركة الصهيونية تسعى لإيجاد وطن قومي لليهود، وباستدعاء سند تاريخي متناهي القدم حصلت هذه الحركة على ما عرف باسم وعد بلفور عام 1917 - لا نريد أن ندخل في تفصيلات الجهود الصهيونية والخدمات التي قدمتها للحلفاء، ولا الأسباب التي دعت بريطانيا لإصدار مثل هذا التصريح، إنما الهدف هنا وجود تسلسل الأحداث للاستدلال على ضعف الحجج النظرية الداعية إلى كافة أشكال الحدود السياسية البشرية. وحتى عام 1948 أصبح لليهود وجود عددي لا بأس به ووجود سياسي تنظيمي عسكري قوي في فلسطين، وفي تلك السنة اعترف المجتمع الدولي المؤثر بقيام إسرائيل التي تخطت حدودا خطتها لها الأمم المتحدة في اقتسام فلسطين بدعوى الانتصار في حرب ما بين الهدنتين، ووضع اليد على أراض أخرى كان أهمها استراتيجيا النقب، وبذلك تحقق تكامل أرضي لإسرائيل وتمزق أرضي لفلسطين العربية، وفي عام 1956 حققت إسرائيل مكسبا حيويا هو حرية المرور في مضيق تيران، وبذلك بدأ نزاع قانوني على المياه الإقليمية، وفي عام 1967 حققت إسرائيل اتساعا أرضيا شاسعا بالنسبة لها مؤسسا على مبدأ الحدود الآمنة، وبطبيعة الحال فإن الصراع العربي الإسرائيلي قد اتسم منذ البداية بعنصرين متلازمين: أولهما قوة إسرائيل العسكرية المتزايدة وضعف الالتقاءات العربية مما مكن إسرائيل من إيجاد الحجج الواهية التي تصحب عادة القوة العسكرية المنتصرة، وثانيهما أن صراع هذه المنطقة لم يكن صراعا محليا فقط، بل لا يزال صراعا تشارك فيه القوى الدولية المؤثرة مشاركات مختلفة الأحجام ومتغيرة في القدر والنوع برغم قصر فترة النزاع العربي الإسرائيلي، فقد اشترك المعسكران الغربي والشرقي في دعم إسرائيل عند ولادتها، ثم ظهر تأثير القوى الغربية أكثر فعالية ودعما ووصل إلى قمته بالاتفاق الثلاثي الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي في عام 1956، ولا ينفي ذلك استمرار الدعم الأمريكي، لكن الدعم الأوروبي الغربي كان ستارا مريحا لأمريكا «خاصة دور ألمانيا الغربية في فترة ما بعد عام 1956»، وبعد عام 1956 مباشرة ظهرت تفاعلات الكتلتين الغربية والشرقية على مسرح الشرق الأوسط، لكنها لم تطف على السطح إلا بعد عام 1967، حينما توارت أو قلت أهمية الدعم الأوروبي الغربي - خاصة فرنسا - وبدا كما لو أن الصدام هو مباشرة بين أمريكا والسوفيت أو هكذا تصور العالم، وأيا كانت أو تكون حقائق الأمور فإن ما يهمنا هنا تقرير حقيقة القوة - بغض النظر عن مصدرها المحلي والدولي - في ادعاءات الحدود. (2)
وبما أن الظاهرات البشرية متغيرة وليست ثابتة مثل الظاهرات الطبيعية ثباتا نسبيا، فإن الحدود التي تسعى للالتزام بالظاهرات البشرية هي حدود مؤقتة زمانا وتتغير بتغير تلك الظاهرات.
السلالة مفهوم كثير الظهور في العلاقات السياسية، ويعترف العلماء أن السلالة في حدود وقوالب جامدة لا وجود لها، وإنما هي عبارة عن ظاهرة انتقالية بحتة لعدد من الصفات المورفولوجية والوراثية، فالعنصرية الآرية كانت تصف الآري النقي بصفات محددة مثل الشقرة وطول القامة، ولكن أشد دعاة العنصرية في التطبيق - أدولف هتلر - لم يكن آري الصفات، والأفكار العنصرية الخاصة بالنقاء اليهودي يدحضه الاختلاف الشاسع مثلا في مورفولوجية الأنف عند يهود روسيا وألمانيا وفرنسا ويهود المغرب والشرق الأوسط والحبشة واليهود السود في أمريكا، وإذا كان هذا حال الاختلاط السلالي داخل المجموعة القوقازية فإن الحال ليس أيسر في نطاقات الاحتكاك بين السلالات الرئيسية الكبرى، فإذا أخذنا عاملا واحدا للتفريق السلالي - كاللون مثلا - فإنه قد يمكننا أن نميز نطاقا انتقاليا بين الزنوج والقوقازيين في أفريقيا، ومع ذلك نجد مجموعات قوقازية وزنجانية متوغلة جنوب وشمال هذا النطاق الانتقالي، وبما أن السلالة لا تقوم على معامل تفريق واحد فإنه يتضح لنا بجلاء أن السلالة هي عنصر غير علمي، وأنها على أحسن الفروض تجمعات انتقالية لصفات بشرية، في صورة نطاقات مماثلة لنطاقات الجبال وغيرها من المظاهر الطبيعية، وبذلك فإن السلالة لا يمكن أن تعطي خطا محدودا لرسم حد سياسي.
وقد تكون اللغة أحسن حالا من السلالة في التحديد القومي، لكن اللغات في تصنيفها التفصيلي تتكون من لهجات مختلفة، وأن اللهجات اللغوية المتاخمة لحدود لغوية تغزوها بكثرة مفردات واستخدامات لغوية مشتركة من اللغتين، حال ذلك اللهجتان الألزاسية واللوترنجية اللتان تتداخل فيهما الألمانية والفرنسية، وتختلف اللهجة الوالونية عن الفرنسية بتأثير جرماني أيضا، واللهجات الألمانية في مناطق التيرول المنعزلة تتداخل مع الرومانشية واللاتينية العتيقة، وفي شرق العراق تداخل لغوي عربي فارسي تركماني كردي، وقس على هذا كثير في أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.
ومثل هذا، بل وعلى نطاق أعقد، نجد تداخل الأديان والطوائف بحيث تصبح مناطق بأكملها نطاقات انتقالية، وتشهد على ذلك منطقة الجبال الالتوائية في شرق البحر المتوسط حيث تتواجد الأديان الثلاثة الكبرى، وتتعقد تداخلاتها وطوائفها تعقدا يهدم من الجذور أفكار الدولة والدين، لدرجة أن إسرائيل - إحدى الدول القليلة التي قامت على فكرة الانتماء الديني - تتداخل فيها الديانات الثلاثة وطوائفها تداخلا كبيرا ، وذلك برغم تهجير وإخلاء مناطق واسعة لأرباب اليهودية فقط.
وخلاصة القول أن الحدود الإتنولوجية - سلالية أو لغوية أو دينية - لا وجود لها في صورة خطوط فاصلة إلا في أضيق الحدود، ولا تظهر إلا بمعاونة عوازل جغرافية مانعة، وإنما تظهر في الغالبية الساحقة من الأحوال في صورة نطاقات انتقالية متراوحة الاتساع والضيق، وأن هذه النطاقات الانتقالية تحدد مساحات أرضية تسود فيها نسبة لا بأس بها من التجانس الديني، ونسبة أعلى من التجانس اللغوي. (3)
هذا التجانس الإتنولوجي النسبي لا يظل ثابت الوجود، بل يتغير تدريجيا وزمانيا نتيجة تفاعلات داخلية وخارجية، مثال ذلك انتشار البروتستانتية بأشكالها المختلفة على مسرح الكاثوليكية في ألمانيا أو بريطانيا، وقد كان هذا الانتشار تلقائيا داخليا أحيانا وبتأييد القوى السياسية في أحيان أخرى، وانتشار اللغة العربية اختلف كثيرا عن انتشار الديانة الإسلامية، وكلاهما حدث متزامن ومصدرهما واحد.
ولا شك في أن اتجاه الظاهرات الإتنولوجية عامة هي إلى الانتشار والتفاعل لأن الإنسان - حامل الصفات الإتنولوجية - عنصر دائم الحركة، ولكن لا شك أيضا في أن الاتجاه إلى تجميد الظاهرات الإتنولوجية في قوالب مكانية في سطح الأرض راجع إلى التعمد الإنساني في صورته كمجتمع سياسي، وقد كان للقومية - وخاصة نموها السريع المتعصب في أوروبا منذ بضعة قرون - فعل واضح الأثر في تجميع الصفة الانتشارية الطبيعية في الظاهرات الإتنولوجية، وقد استخدمت أدوات عديدة لهذا التجميد: تعليم اللغة وانتشار لهجة مركز السيادة فيها على حساب اللهجات الأخرى بواسطة الأدب الرسمي على حساب الأدب الشعبي، نشر المشاعر القومية ووصولها إلى قمة التركيز الرمزي في صورة الأنشودة القومية والراية وإجبار الأقليات على الاندماج حضاريا أو الهجرة السلمية أو التعسفية، وفوق هذا كله رسم حدود سياسية هي خطوط فاصلة بين القوميات عامة، وبين المصالح الاقتصادية خاصة.
وفي الحقيقة فإن هذا التجميد لانسياح الناس وانتشار الظاهرات الحضارية يرجع أحيانا إلى فترات قديمة، وأكبر شواهده إقامة الحوائط والأسوار الضخمة في الصين والدولة الرومانية لوقف الظاهرات البشرية الانتقالية وتجميدها عند حد معين، وسور الصين العظيم هو أطول أسوار الدنيا الصناعية ؛ إذ يزيد طوله عن 2500كم ليحمي سهول الصين من المغول الرحل في صحراء منغوليا، وفي أوروبا بنى الرومان «السور الألماني
Shafi da ba'a sani ba