وبعد أيام يموت إيليا ويدفن بين قبر إستير ومعلمه ميخائيل وتختم الرواية: بيا أيتها القبور الثلاثة ... إلخ.
هذا ملخص القصة، بل هذا هيكلها العظمي، فالمتروك منها كالبشرة التي فيها الرواء والأبهة، فليطلب الفن محبوه في القصة كاملة، أما نحن فسنشير إلى الحسن والقبح في فرح القصصي.
عندما ظهرت هذه الرواية الخطيرة انتقدها الشيخ سليم خطار الدحداح من الجهة الدينية فقال: إن فرح فيها يعتنق الاشتراكية التي دعا إليها أفلاطون، وانتقد أيضا كلام إيليا لإستير اليهودية: «لا تتركي الحواجز الصناعية التي يضعها البشر تحول بيني وبينك»، وانتقدت جريدة الظاهر كلمة «الميكانيكية»، فقالت: إنها لم تكن في ذلك الزمان، وانتقدت جريدة «المنارة» المؤلف؛ لأنه لم يعرف أرميا والشيخ سليمان إلى قرائه، وانتقدت «المقتطف» اعتماد فرح على الواقدي - تاريخيا - مع أن الواقدي أقرب إلى القصة منه إلى التاريخ، وانتقدت أيضا أن في الرواية «نصائح وحكم تشف عن لوم صاحبها الدنيا»، فدافع فرح عن نفسه فكان ذا حق، وإن كانت لهجته شديدة في رده على شيخ المجلات المحترم.
ولئن أطلنا البحث فالعذر بين، إن فرح أنطون عميق، وأورشليم بعيدة القعر تغذي الفكر وتروح المخيلة، وهي مؤسسة على صخور الوجدان في قاع البناء الإنساني والحياة الحقيقية، وإذا لم تكن فيها عجائب وغرائب ألف ليلة وليلة ففيها المسألة العظمى التي تشغل بال الشرق كله.
قال فرح في مقدمة أورشليم الجديدة إنه عني «بجمال التأليف»، وإن نهضة أوروبا قامت على حب الجمال في الصنائع والفنون؛ لأن الجمال الحقيقي لا ينفصل عن الخير والحق، ثم أدرك عباس محمود العقاد هذا - طبعا بعد فرح - فراح يبشر في مقدمة «فصوله» بألوهية هذا الثالوث الأقدس في عالم الفن.
افتتح فرح أورشليم بخطبة المدخل التي وجهها إلى «بنت صهيون»، فدل على الموضوع وجمال التأليف معا حيث قال:
إن حمامة الروح السماوية قد طارت من بين جدرانك، فهلا استعدت روحك لتحيا بها نفسك ويؤهل منزلك، هلا نظرت بإخلاص ونزاهة إلى مرضك؟ إنك لم تريدي يا ابنة صهيون، فهو ذا جراح وخصم شديد قادم نحوك، ولكن وا أسفاه، إن سكينه ليست نحيفة بل هي عبارة عن سيف قوي، ومع السيف رمح ونبلة وترس وجواد عربي.
إن الدنيا تتمخض الآن بدين جديد وسلطنة جديدة، إن رمال قفار العرب قد تحركت يا ابنة صهيون، وزحفت نحوك قاصدة الدنيا كلها.
إن أبناء إسماعيل الأقوياء خرجوا لملاقاة بني إسحاق الظرفاء، ولكن ملاقاتهم كانت للاقتتال على سلطنة الأرض، كأن هذه الدنيا الواسعة تضيق عن أخوين كريمين، سدوا آذانكم أيها البشر، فإن أرضكم ستصير ميدانا للحروب والمجازر.
فيا أيتها الأمم المختلفة التي تقوم وتسقط وتتطاحن كحبوب الحنطة تحت الرحى، عليك أن تقولي: «المجد لله في العلى»؛ لأن الله خالقنا عظيم، ولكن لا تقولي: «وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة»، فإن الأرض ليس فيها اليوم غير السيف والنار، وليس بين البشر شيء يسر، بل السائد بينهم الفساد والاضطراب والبغض والشقاء والدمار.
Shafi da ba'a sani ba