Jinusayid
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
Nau'ikan
رفع السيد مارك يده ملوحا للنادل، فأقبل إليه. - أحضر لنا فنجان قهوة، مع شرابي المفضل، هيا بسرعة. - لعل القهوة تعيد تركيزك معي.
قالها مع ابتسامة صغيرة. - بالفعل تفعل ذلك وأكثر؛ فهي تعدل المزاج وتريح الأعصاب. - أووه كل هذا الوصف للقهوة، ماذا لو كنت مدمن كحول، ماذا كنت ستصفه، وهو يزيح الهم ويجلي الغم ويهبك سعادة غامرة. - ها قد أجدت في وصف تأثيره أحسن مني.
تعالى صوته ضحكا، وضرب طرف الطاولة بأصابعه الأربعة. بعدها استأذن لدقائق إلى أن يأتي النادل بما طلب منه ليقوم بجولة تحايا وضحك مع بعض الحاضرين، ثم بعض القبلات الحارة من شفاه إحدى الحسناوات. أحضر النادل فنجان قهوته، وبدأ يرتشف منها وينتظر عودة السيد مارك ليكملا الحديث ويسأله عما سيحصل بمصير ديفيد ومن معه. عاد منتشيا، حمل الكأس وأفرغها في جوفه مرة واحدة ثم جلس وهو يبتسم، فسأله مايكل: هل بالفعل هنالك إعادة توطين؟ وأن هؤلاء الشباب يتم سوقهم في كل حين لأجل هذا الغرض؟ - إنها كذبة. - أيضا! - كل شيء جميل تسمعه هنا كذبة. - وأين يتم سوق أولئك الشباب، لقد أخذوا أخي ديفيد اليوم ، لا تقل لي سيقتلونهم، لا يعقل هذا الأمر فليقتلونا جميعا وينهوا الأمر، لم هذا الانتظار كله؟ - لا، لا، اهدأ قليلا، عدنا إلى قتل الجميع! ما بك؟! لم أتصور أنك عصبي إلى هذا الحد. - لست كذلك، لكن الأمر بات لا يطاق. - لقد تم إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال، النازية بحاجة للأيدي العاملة في مصانعها لرفع اقتصادها في ظل الحرب. - معسكرات الاعتقال، الموت البطيء .. لقد كنت معتقلا في معسكر داخاو قبل ترحيلنا إلى هنا بعدة أشهر، إنه الجحيم بعينه. - هل كنت معتقلا من قبل؟
دهش بما سمع. - نعم، وبقيت فيه قرابة السبعة أشهر، إلى أن تم إكراهنا على التوقيع في تعهد لترك ألمانيا في غضون ثلاثة أشهر، لكن غبائي المفرط قادني إلى التأخر في الرحيل حتى احتلت ألمانيا بولندا، وتغير كل شيء. حتى إن الضابط الذي وقعت في مكتبه التعهد في معسكر داخاو كان هو نفسه الذي جلب لك الأوامر بقتل المرضى، لقد رأيته على الدرج في طريقي إلى مكتبك. - الهر اللعين، لم يترك مكانا إلا ولديه بصمة قذرة فيه. - لكن لماذا غيرت النازية رأيها بترحيلنا إلى فلسطين بعد نشوب الحرب؟ - إن النازية بحاجة للأيدي العاملة في مصانعها المتنوعة، وبالأخص مصانع الذخائر، لإدامة انتصاراتها على الأعداء، وبما أن الفيرماخت (الجيش الألماني) لا يمكن لليهود ولا لبقية الأعراق أن يكونوا جنودا فيه، وكذلك الخوف من تكرار الخيانة التي يتهمون يهود ألمانيا فيها بالحرب العالمية الأولى بضرب اقتصاد ألمانيا الذي أدى إلى خسارتها وتوقيع معاهدة فرساي المخزية لها، وخسارة أجزاء كبيرة من أراضيها، وتحميلها مسئولية الحرب وإجبارها على دفع غرامات مالية للدول المتضررة، مما دفعها إلى جمع اليهود إضافة إلى بقية الأعراق في الغيتوات لضمان عدم تكرار الخيانة التي حملوها لنا، واستخدام الطاقات المتوافرة لمصلحة ألمانيا وحربها. - لكن إذا كان الأمر كذلك لماذا يتم قتل المرضى والمعاقين والأطفال والشيوخ؟! - ببساطة إنهم ينظرون إلينا نظرة مادية بحتة، ما الفائدة من أناس على قيد الحياة مستهلكين غير منتجين؟! بقاؤهم تجارة خاسرة. - وأطفالهم هم ونساؤهم وآباؤهم؟! - كل من لا يحمل عرقا آريا، فهو لا يعتبر من البشر، وبذلك لا يستحق التعامل الإنساني بل المادي؛ لذا يتم إرسال الشباب والشابات أصحاب الطاقة الإنتاجية إلى معسكرات السخرة، ويتم إبادة البقية على مهل. - لماذا لا يتم إرسالهم إلى المعسكرات دفعة واحدة إذن؟ - العدد كبير، والغيتوات كثيرة ومنتشرة في كل أرجاء سيطرتهم، آلية النقل إلى المعسكرات حسب الحاجة؛ لذلك في كل فترة يأتي طلب بعدد معين إلى المجلس فيقوم العضو المسئول بجمع العدد عشوائيا من الغيتو، وكما تعلم معلومات وعناوين جميع الحاضرين موجودة في السجلات، ويتم إرسالهم إلى المعسكرات. - يكفي إلى هذا الحد، ليتني لم أعلم حقيقة ما يدور هنا، يا لبشاعة مصيرنا! - أوما تراني أبالغ في الشرب حتى أستطيع الخروج من هذا الجحيم؟ - وكيف برجل أدخلته الجحيم وهو لا يشرب؟ - لا بد أن يشرب كي ينسى .. خذ الكأس من يدي وجربها، لن تندم. اسمع نصيحتي. - اشربه أنت، علي أن أغادر. - عدني بأن تأتي مرة أخرى إلى هنا. - أعدك. •••
كانت الرياح شديدة مع زخات مطر غزيرة، تبلل رداؤه بعد دقائق من مغادرته للحانة، خطا خطوات كبيرة، من زقاق إلى آخر، ومن ظل حائط إلى آخر، وما إن دخل الباب الخارجي للمبنى، حتى سمع صوت صراخ وطرق باب عاليا يصدر من طابقهم، صعد الدرج كالبرق، وإذ به رأى الجيران قد تجمعوا على باب بيتهم وصياح أمه يأتي من الداخل، ركل الباب بقدمه فانكسر القفل وانفتح، كان صاحب البيت ثملا قد تهجم على أمه ومزق ثيابها وهي تصرخ وتدافع عن نفسها، ركل مايكل رأس صاحب البيت بقدمه فأوقعه أرضا، ثم انهال عليه بالضرب دون أن يشعر وكأنه يخرج فيه كل ما أثقل عليه سماعه من السيد مارك، ثم أمسكه من أذنيه وبدأ يضرب رأسه على الحائط ضربات عدة وهو يصرخ في وجهه: «أيها الحقيييير»، «أيها الخنزييير»، «ألا يكفي ما يحل بنا ثم تأتي لتعتدي على أمي؟» «سأقتلك، سأقتلك»، خرج الدم من رأسه وأنفه وفمه، حاول الجيران تخليصه من يديه حتى انتزعوه منه. فأقبلت الشرطة وتم اعتقاله ونقل صاحب البيت إلى المشفى وهو بين الحياة والموت.
الفصل الخامس والعشرون
إسطنبول - تركيا 1905م «أيها القادة الحضور يا أبطال شعبنا الأبي، إن التاريخ سيسجل تضحياتكم في الدفاع عن قضيتنا العادلة التي رويت وتروى بدماء شهدائنا الزكية، وستتناقل الأجيال بطولاتكم في ساحات القتال ضد أكثر قوة ظلمت شعبنا وسلبت حقوقه وهويته واحتلت أرضه لقرون عديدة.
لقد كلفتني قيادة الحزب رسميا بإعادة تنظيم الفصائل المسلحة والتخطيط لعمليات نوعية كبيرة بعد فشل ثورة وان وما ردفها من انتكاسات شتى، لتسريع الخطى والخلاص من سلطتهم على رقابنا، ولعلكم سمعتم أن الجناح السياسي للحزب قد تحالف مع حزب الاتحاد والترقي المعارض في الخارج بعدما رأينا أن أهدافهم تتوافق إلى حد كبير مع أهدافنا.
إننا اليوم نمر بمنعطف كبير نحو بلوغ الغاية، وما كان مستحيلا في الأمس أصبح ممكنا اليوم، وما كان حلما غدا واقعا وحقيقة، وكأني أرى أمامي العلم الأرمني يرفرف شامخا على قلعة وان، لقد أبدت جميع الدول الأوروبية دعمها لقضيتنا وأن المسألة خرجت من كونها شأنا عثمانيا داخليا إلى شأن دولي وما يتطلب منا سوى زيادة نشاطنا والقيام بعمليات ترج الدولة العثمانية ويصل صداها لكل الدول.»
كان مانوكيان خطيبا مفوها، يدرك كيف يتلاعب في نفوس المستمعين ويدب في قلوبهم الحماس وإن كانوا في حالة يرثى لها، رجلا في منتصف عقده الرابع، ذا شارب كثيف مقسم من المنتصف وكأنه ورقتان من شجرة البرتقال يغطي شفته العليا بالكامل وعينين حاذقتين، ملامحه توحي أنه من أرمن روسيا، يرتدي جاكيتا أسود مع بنطال من نفس لون الجاكيت، يحمل غليونا في يد وقبعة سوداء في الأخرى، يتكلم بهدوء عند النقاش ويبتسم كثيرا، كان أرتين يتأمله وينظر إليه بنوع من الإجلال ويزداد يقينا وإيمانا بالثورة التي تملك قادة أمثال مانوكيان.
Shafi da ba'a sani ba