فهم سليم بيديها فقبلهما كما قبل رأسها وقال: «كنت متضايقا من مرضي إلى أبعد حد. وعلى أية حال أنا أعتذر إليك وأحمد الله إذ أراني وجهك الكريم. ولا يفوتني أن أخبرك بأن ما كنت أشعر به من المرض والهم قد زال والحمد لله، والفضل في ذلك يرجع أولا إلى كرم أهل هذا المنزل ولطفهم وتواضعهم وتحملهم التعب في سبيل راحتي ومعالجتي.»
فهمت والدته بوردة وإميلي فقبلتهما شاكرة ما أبديتاه من المودة والعطف والعناية بولدها وفلذة كبدها. وعادت إميلي فقبلت يد والدة سليم بخشوع. ثم جلس الجميع يتحدثون ويضحكون فرحا مستبشرين باجتماع الشمل، وإميلي أشدهم فرحا لوثوقها من أن حيلتها قد انطلت على سليم. •••
كان سليم منذ علم بوصول والدته قد هاجت أشجانه وتذكر عقوقه إياها ومخالفته نصيحتها من أجل سلمى التي تبين فيما بعد خيانتها وخداعها، وحدثته نفسه أكثر من مرة بأن يخاطب والدته في هذا الشأن ويستغفرها عما سبب لها من المتاعب والأكدار. على أنه آثر أن يؤجل ذلك إلى أن يخلو إليها، فلم تتح له فرصة لذلك إلا عند فجر اليوم الثالث، أو بعده بقليل حين استيقظ من النوم بعد سهرة طويلة، فإذا يجدها جالسة إلى جواره وهي ترتب شعره وتنظم غطاءه، فنهض وقبل يديها وجلس يجاذبها أطراف الحديث إلى أن قال: «كم أنا نادم يا أماه على ما فرط مني وعلى ما سببته لك من التعب والكدر بحماقتي وجهلي!»
فأدركت أنه يعني إصراره على خطبته سلمى، وقالت له: «لا بأس عليك يا بني، إن أول ما يهمني الآن هو أن أراك في خير صحية وعافية، على أن معارضتي لك لم تكن إلا عن جهل مني أيضا، فقد كنت أظن أنك وقعت في حب تلك الفتاة مخدوعا بمكرها ودهائها، وأن إصرارك على خطبتها ليس إلا استنكافا منك أن تخلف ما وعدتها. ولكن لما أخبرني حبيب بجلية الأمر، وأكد لي أنك لم تحبها وتصر على خطبتها إلا بعد طول روية واختبار، لم يسعني إلا السفر معه إلى القاهرة لأطمئن على صحتك، ولأخبرك بأني راضية بأي فتاة تختارها.»
فلم سمع سليم حديث والدته عن حبيب وسلمى تحقق خيانتهما لأن معارضة والدته خطبة سلمى لم يكن لحبيب علم بها، فلا بد من أن تكون سلمى هي التي أطلعته عليها وطلبت إليه أن يسافر إلى الإسكندرية ويقابل والدته لإقناعها بالعدول عن معارضتها. غير أنه لم يصرح لوالدته بذلك حتى لا يصغر في عينيها واكتفى بأن قال لها: «إن علاقتي بتلك الفتاة أصبحت في خبر كان. وثقي بأني لن أعود إليها أبدا، وإنني باق بجانبك هنا في الإسكندرية، ولن أخطو أية خطوة في سبيل الخطبة أو الزواج إلا بمشورتك.»
فعجبت والدته من أمر هذا الانقلاب الغريب، ولاح لها أنه يجاريها بما قاله ابتغاء مرضاتها، فقالت له: «على أية حال، كن على يقين من أني لم أقل لك إلا الحق، وإنني موافقتك على كل ما تقرره في شأن زواجك، فإذا كنت تريد خطبة سلمى فأنا على استعداد لأن أخطبها لك بنفسي وأكون لها خادمة بقية حياتي إكراما لك.»
فقال: «حاش لله يا أماه! إنما أنا وأية فتاة تختارينها زوجة لي رهن إشارتك وطوع بنانك، وأكرر لك أن علاقتي بسلمى قد انقطعت تماما ووطدت العزم على ذلك.»
فقالت: «على كل حال، أنت الآن ما زلت في طور النقاهة من مرضك، ومتى تم شفاؤك بإذن الله، نعود إلى بحث هذه المسألة، ولا يكون إلا ما ترضاه.»
وكانت الشمس قد أشرقت واستيقظت وردة وإميلي، فجاءتا للسؤال عن صحة سليم، وجلستا بجانب والدته تهنئانها بتماثله للشفاء، وتتسابقان إلى إرضائهما بمختلف الوسائل. •••
بقيت إميلي حتى موعد الغداء وهي تترقب أن تسنح لها فرصة تخلو فيها إلى سليم لتستأنف معه حديث الأمس وتتم حيلتها لاجتذابه إليها وحمله على المبادرة بخطبتها. ولكنها لم تتمكن من ذلك لأن والدته لبثت مرابطة بجانب سريره لم تفارقه لحظة واحدة.
Shafi da ba'a sani ba