فانتبهت سلمى لنفسها، وارتمت على سريرها وهي تواصل التأوه والأنين، فقالت لها سعيدة: «هدئي روعك يا سيدتي وخفضي من صوتك حتى لا يسمع في غرفة الاستقبال وفيها والدتك مع أدما وأبويها.»
ولكن سلمى لم تستطع إمساك نفسها عن البكاء والعويل لفرط تأثرها، ثم أخذت الخطاب الملقى على الوسادة ووضعته في الظرف دون أن تفطن إلى الورقة الأخرى التي سقطت على الأرض، وبعد أن تأملته قليلا دسته تحت حشية السرير، ثم تلفتت نحو باب الغرفة فلما وجدته مغلقا، وسعيدة واقفة بجانب السرير وعليها أمارات التأثر الشديد، استوت جالسة فيه، وأخذت تمسح دموعها وتعض على نواجذها من الغيظ قائلة: «آه يا سليم! أهكذا آخرة الإخلاص والوفاء؟!»
فبادرت سعيدة بالانحناء عليها وأخذت تربت وجهها وكتفيها متظاهرة بأنها تغالب الدموع وقالت: «هوني عليك يا سيدتي، إن صحتك في حاجة إلى الهدوء.» ثم جاءتها بكوبة ماء وطلبت إليها أن تشرب قليلا، ففعلت واضطجعت في سريرها وهي تغالب عواطفها، فهمت بها سعيدة وقبلتها قائلة: «إن من كانت في مثل عقلك ونضجك لا ينبغي لها أن تنساق مع تيار العواطف، وتقتل نفسها كمدا وحزنا.» ثم جلست على حافة السرير عند قدمي سلمى، وواصلت مواساتها والترفيه عنها محاولة خلال ذلك أن تحملها على اليأس من حب سليم، والاعتقاد بأن الشبان جميعا لا أمان لهم ولا وفاء.
وفيما هما في ذلك طرق باب الغرفة، ففتحته سعيدة. ودخلت أدما وأمها لعيادة سلمى، وقد عجبا لما لاحظاه عليها من النحول والذبول واصفرار الوجه كأنها مريضة منذ أعوام. فقبلتها كل منهما، ثم جلستا على مقعدين بجانب سريرها، وأخذتا تجاذبانها أطراف الأحاديث عن أعراض مرضها وأسبابه ومدى أثر الدواء الذي وصفه لها الطبيب، وما إلى ذلك، وهي متوسدة لا يظهر غير وجهها من تحت الغطاء. «وما كادت سلمى تطلع على خطاب سليم حتى اشتد اضطرابها وسقط الخطاب من يدها.»
ولاحت من أدما التفاتة إلى ما تحت المنضدة المجاورة للسرير، فوقعت عينها على ورقة يشبه لونها لون الورقة التي كانت قد كتبتها وأرسلتها إلى حبيب في البريد. فخفق قلبها، وانتهزت فرصة خروج سعيدة من الغرفة وانشغال أمها وسلمى بالحديث والتقطت تلك الورقة خفية، فما كادت عيناها تقعان على الخط الذي كتبت به حتى كادت تصرخ من الدهشة والجزع إذ تبينت أنها هي خطابها السالف الذكر إلى حبيب. وصورت لها وساوسها أن حبيبا هو الذي جاء بخطابها إلى سلمى وتركه عندها، فاشتعل قلبها غيرة، وأنبها ضميرها على التسرع بمكاتبة حبيب وعلى تصديق دعواه في الحب والإخلاص. ولم تتمالك نفسها فأخفت الورقة في جيبها، ثم اعتمدت رأسها بيديها وأخذت تجهش بالبكاء.
وحسبت أمها أن بكاءها ليس إلا تأثرا برؤية صديقتها سلمى مريضة. وكذلك اعتقدت سلمى نفسها، فدمعت عيناها والتفتت إلى أدما قائلة: «أتبكين يا أدما؟ لا لا، لا ينبغي أن تبكي. إن حالتي تستحق الرثاء، وأنا أشكر لك عاطفتك الرقيقة هذه. ولكن عليك أن تتجلدي وتصبري فليس في البكاء من فائدة!»
فلم تزدد أدما إلا بكاء وغيرة، إذ فهمت من عبارة سلمى هذه ما رجح ظنها.
وفيما هي كذلك سمعت طرقا على الباب الخارجي للمنزل، ثم فتح باب الغرفة ودخلت أم سلمى وخلفها حبيب، فما كادت تراه وهي في تلك الحال حتى علا وجهها الاحمرار، وبردت أطرافها ولم تقو على النهوض لتخاذل ساقيها وارتجافها، ولم يكن هو يتوقع أن يجدها هناك فبدت الدهشة في وجهه وارتبك فلم يجد ما يقوله لها، واكتفى بأن حياها تحية خاطفة، ثم انصرف بوجهه عنها إلى سلمى وأخذ يسألها عن صحتها ويواسيها متمنيا لها عاجل الشفاء.
وهنا لم يبق لدى أدما شك في أنه لا يحبها، وأنه كان يسخر منها حين أوهمها بذلك، فازداد اضطرابها وغيظها ولم يسعها إلا أن تتحامل على نفسها وتتسلل خارجة من الغرفة والدموع تنهمر من عينيها.
ولم تشأ أن تدخل غرفة الجلوس إذ تذكرت أن أباها في انتظارها ووالدتها هناك، وخجلت أن تبدو أمامه وهي في مثل تلك الحال من الجزع والاضطراب، فجلست على مقعد أمام الغرفة، وأطلقت لدموعها العنان، وقلبها تتنازعه عوامل الحب والغيرة والندم والغيظ وحب الانتقام.
Shafi da ba'a sani ba