على أنها شعرت بالندم على تسرعها بكتابة ذلك الخطاب، وحدثتها نفسها بأن تنادي سعيدة وتأخذه منها، ولكن هذه كانت قد توارت عن نظرها، فشق عليها الأمر وازداد قلقها؛ لأنها كتبت الخطاب وهي شديدة التأثر، فلما خف تأثرها أخذت تلوم نفسها على كتابة تلك العبارات، وكلما تصورت أنها ضحت بسعادتها وآمالها في المستقبل بحرمانها من سليم شعرت بأبلغ الأسى والأسف، وارتعدت فرائصها وبكتها ضميرها، فأصبحت من جراء ذلك دائمة القلق خائرة القوى، فلازمت الفراش تسكينا لما بها وإخفاء لعواطفها، ولكن اعتكافها أقلق والديها لأنها وحيدتهما، وكانا إلى شدة محبتهما لها معجبين بذكائها ولطفها، وما كانا ليقبلا خطبة سليم لها لولا ما لمساه من محبتها له، ومن اتصافه بالشهامة وكرم النفس والاستعداد لمستقبل عظيم. •••
بكر حبيب في اليوم التالي فاستقل أول قطار غادر حلوان إلى القاهرة، وما وصل إليها حتى أخذ طريقه إلى غرفة سليم ليعوده ويطمئن عليه قبل الذهاب إلى الديوان.
ووجده مستيقظا في فراشه، وعلى وجهه آثار الضعف والهزال، فحياه وجلس بجانبه يواسيه ويرفه عنه بمختلف الأحاديث إلى أن قال له: «لقد أسفت والدتي كثيرا حين علمت بمرضك، وكانت تعتزم المجيء معي الآن لتراك وتطمئن عليك، ثم اتفقت معها على أن آتي بها بعد الظهر.»
فقال سليم: «جزاها الله خيرا، لا داعي لتعبها.»
ولاحظ حبيب أن في نظرات سليم وعباراته ما ينم عن التبرم والجفاء، فعجب من ذلك ثم عزاه إلى اضطراب سليم وقلقه بسبب المرض والوحدة، وواصل ملاطفته ومواساته قائلا: «إنك اليوم أحسن حالا منك أمس، ولعلك سعدت بنوم عميق هنيء!»
فتنهد سليم أسفا وقال: «لم أنم إلا فترات قصيرة متقطعة، تخللتها أحلام مزعجة، وقد أرسلت الخادم منذ قليل ليأتيني بمسهل أتناوله اليوم، كما أوصيته بإعداد بعض المرق لأتغذى به.»
فقال حبيب: «حسنا فعلت يا عزيزي، وأرجو أن أراك بعد الظهر وقد تم لك الشفاء!» ثم أعطاه بعض الصحف ليتسلى بمطالعتها، وودعه منصرفا إلى مقر عمله.
فلما خلا سليم إلى نفسه، عادت إليه هواجسه في شأن سلمى، وود لو يعلم حالها بعد أن بعثت إليه بخطابها الأخير، وكأن قلبه دله على أنها مريضة مثله. ثم تذكر ما كان فيه من النعيم بقربها، وما آلت إليه حاله فلم يتمالك عواطفه وغلبه البكاء. وما زال يطلق لدموعه العنان حتى عاد الخادم بالدواء المسهل، وقرع باب الغرفة مستأذنا في الدخول به، فمسح سليم عينيه وأذن له في الدخول، ثم تناول منه الدواء وشربه، وأخذ يتشاغل بمطالعة الصحف التي تركها له حبيب، بينما انصرف الخادم لإعداد المرق الذي طلبه.
وفي الساعة الأولى بعد الظهر، عاد إليه حبيب فوجده ممددا في سريره، وجس يده فإذا بنبضه يتسارع وحرارته عادت إلى الارتفاع، فأدرك أن الحمى عاودته ولا تلبث أن تشتد وطأتها كأمس، لكنه تجاهل وسأله: «كيف حالك الآن يا عزيزي؟»
فقال سليم بصوت ضعيف: «كنت في الصباح أحسن حالا مني الآن.»
Shafi da ba'a sani ba