وما كاد ينصرف حتى أغلق سليم باب الغرفة وجلس يناجي نفسه وقد أخذ منه الغيظ كل مأخذ، فقال: «أهذه حقيقتك يا سلمى؟ أين عفافك وأنفتك؟ بل أين تهذيبك وأدبك؟ أفي يقظة أنا أم في حلم؟ لا لا، لا أصدق ذلك عنك. ولكن كيف أتهم الرجل بالافتراء، وما الذي يحمله على الكذب أو الإيقاع بيننا وهو لا يعرف عني شيئا، وإنما قاده الاتفاق إلي؟ وما أعجب هذا الاتفاق الذي كشف لي أمورا كنت عنها غافلا!»
ثم سكت حائرا لا يدري بم يفسر تلك الحكاية، وأخيرا نهض بغتة وقد اتقدت الغيرة في بدنه كالجمر وقال: «آه منك أيضا يا حبيب، آه من قلب الإنسان ما أفسده! أتحب سلمى وتحبك، ثم تظهران لي بمظهر الإخلاص؟ آه من هذا الزمان! الآن عرفت صدق مقال والدتي، وإنها والله لأصدق مني مقالا وأوسع اختبارا.» قال ذلك وأخرج كتاب والدته من جيبه وأخذ يقرؤه حتى وصل إلى قولها فيه:
لا تغتر يا ولدي بمظاهر البنات فإنهن أقدر البشر على المداهنة والنفاق، وقد يظهرن العفاف وهن بعيدات عنه، ويبدين الإخلاص وهن أروغ من الثعلب. وفضلا عن ذلك فإن الفتاة التي علقتها ليست ممن يليق بك الالتفات إليهن، وقد سمعنا عنها ممن عرفوها هنا أنها قد نصبت مثل هذه الشراك لسواك وأخفقت سعيا وخابت آمالها ويكفيني التلميح عن التصريح.
فلما قرأ هذه العبارة، أخذ يلعن الساعة التي عرف فيها ذلك البيت؛ لأنه لم يعد يعرف الراحة منذ عرفه . وحدثته نفسه بأن يتخلى عن سلمى قبل عقد الخطبة، ولكن نار الحب ثارت في قلبه كأنها تكذب ما بلغه فقال: «لا لا يا سلمى، أنت والله حبيبتي ومنتهى أملي، وقد وهبتك هذا القلب وملكتك نفسي حتى استوليت على كل عواطفي، ولم ألق منك منذ عرفتك إلا كل جميل، فلا أنثني عن حبك ولا أظن بك سوءا. ولكن ما هذه الحكاية التي سمعتها الآن؟ أهي محض اختلاق؟ كلا فقد علمت بها اتفاقا، ولو كان بيني وبين راويها علاقة أو معرفة لاتهمته بالافتراء والكذب وقلت إنه واش يريد فصم ما بيننا من علائق المحبة. أتحبين حبيبا كل هذه المحبة وتقولين إنك تحبينه من أجل صداقته لي؟ تبا لك وله! ولكن ... ولكن حبيبا صديقي وقد عرفته منذ نعومة أظفاره ولم أر فيه إلا إخلاصا وغيرة، ولكن ... ولكن النفس أمارة بالسوء وعين الحب عمياء، فلا بد لي من التجلد والصبر، ثم ملاحظتكما ومراقبة خطواتكما وحركاتكما، فإذا تحقق لدي ما سمعته الآن ... آه آه من الحب ما أمره وما أحلاه! لا لا، بل هو مر علقم وقد صدق من قال: «إن سوء الظن من حسن الفطن»، فلو أني لم أفتح قلبي لك وأضع ثقتي فيك ما عميت عن حقيقة حالك وحال ذلك الشاب الذي خدعني بصداقته سنين. ولكن مهلا سوف تريان وأرى، وكل آت قريب!»
ثم نهض وهو في أشد الانفعال، وخرج لا يلوي على شيء. وفيما هو في الطريق نظر إلى ساعته فإذا الساعة الحادية عشرة، ففطن لميعاد المرافعة في مجلس الاستئناف. وكان عليه أن يذهب للمرافعة في دعوى وكل فيها عن بعض الناس، ولكنه رأى أنه لا يستطيع ذلك وهو في مثل ذلك الانفعال، فسار وهو لا يدري إلى أين يذهب، فقاده الاتفاق إلى حديقة الأزبكية فدخلها وجلس على مقعد بإزاء البركة. وكانت الحديقة في ذلك الحين هادئة لخلوها من الناس، فأخذ يجول بأفكاره فيما سمعه في صباح ذلك اليوم وهو يكاد ألا يصدق أنه سمعه في اليقظة لغرابته وبعده من اعتقاده السابق .
ولبث في حيرة تتقاذفه الهواجس وتتلاعب به الظنون، وهو تارة ينقم على سلمى وسوء طويتها، وطورا يكذب ما سمعه عنها ويجلها عن مثل تلك الدناءة.
خلوة مريبة
عاد حبيب إلى حلوان وهو يفكر في الخطاب الذي تسلمه ويردد في ذاكرته سوابق زياراته بيت الخواجة سعيد وما كان يلحظه في أدما من الحركات والإشارات حتى كادت تنجلي له الحقيقة، وترجح لديه أنها هي التي بعثت إليه الخطاب، فاعتزم أن يستطلع ذلك ويتحققه يوم ذهابهم جميعا للتنزه في منطقة الأهرام.
وأمضى حبيب ليلته يفكر في ذلك، دون أن يزور الكرى عينيه. وكانت نفسه تحدثه بأن يتعجل استطلاع الأمر فيذهب في الغد إلى بيت الخواجة سليمان، في موعد لا يكون فيه سليم ولا أحد غير سلمى هناك - وكان لكثرة تردده إلى ذلك البيت، ولما بينه وبين الأسرة من علائق المودة الخالصة لا يستنكف أن يزوره في أية ساعة - وهناك يجاذب سلمى أطراف الحديث على انفراد، لعله يعلم منها شيئا عن أدما يحقق ظنه.
وفي صباح اليوم التالي بكر بالخروج إلى مقر عمله على عادته، وبقي هناك حتى الساعة الحادية عشرة، ثم توجه إلى منزل الخواجة سليمان، فلم يجد فيه غير سلمى ووالدتها، فرحبا به، واستغربا مجيئه في تلك الساعة، غير أن اللياقة لم تسمح لهما بإظهار ذلك الاستغراب، ثم جلسوا جميعا في قاعة الاستقبال وسلمى وأمها بثياب المنزل، دون أن تستنكفا ذلك، لما بين حبيب والأسرة من صداقة ترفع التكليف.
Shafi da ba'a sani ba