وشاع الضوء في الخضرة الداكنة وبعد دقيقة واحدة خرجت المحفة من الغابة إلى الوهج الشديد الذي يتميز به ضوء الشمس في المناطق الحارة. ورفع ويل رأسه وتلفت حواليه. وقد باتوا على مقربة من أرض مدرج ضخم. وعلى عمق خمسمائة قدم امتد واد فسيح تتخلله الحقول الخضراء، وتنتشر فوقه مجموعات من الأشجار ومن البيوت المتلاصقة. وفي الناحية الأخرى كانت السفوح تتصاعد آلاف الأقدام متجهة صوب نصف دائرة من الجبال. ومن الوادي إلى القمم التي بدت كالحائط تشقه الشرفات امتدت حقول الأرز على مسطح واحد من الأرض في شكل مصاطب تمتد فوق مصاطب أخرى ذهبية اللون أو خضراء، مما أظهر في وضوح كل ارتفاع أو انخفاض في المنحدر وكأن الصورة قد صممت عن قصد وبذوق سليم. إن الطبيعة هنا لم تعد مجرد طبيعة، والمنظر الطبيعي هنا قد صمم ورد إلى أصوله الهندسية وقام بأدائه مصور وهب معجزة البراعة الفنية فرسم هذه الخطوط المتعرجة وهذه الأشرطة من الألوان البراقة الصافية.
وبعد صمت طويل شق سكونه الدكتور روبرت بسؤاله: ماذا كنت تصنع في راندنج؟ - أجمع المادة لمقال عن نظام الحكم الجديد. - أظن أن الكولونيل جدير بالإخبار عنه.
وضحك ويل وهو يقول: أنت مخطئ؛ فهو ليس إلا دكتاتورا «عسكريا»؛ ومعنى ذلك أن الموت يلوح في الأفق. والموت دائما خبر من الأخبار. حتى رائحة الموت التي تفوح من بعيد خبر من الأخبار؛ ولذلك طلب إلي أن أمر بهذه الجزيرة وأنا في طريق عودتي من الصين.
وكانت هناك أسباب أخرى آثر ألا يتعرض لذكرها؛ فالصحف ليست إلا هما واحدا من هموم اللورد ألديهايد. وإنما هو من ناحية أخرى يمثل شركة بترول جنوب شرقي آسيا، كما يمثل شركة النحاس الأجنبية الإمبريالية المحدودة. ومن الناحية الرسمية جاء ويل إلى راندنج ليشتم رائحة الموت في جوه العسكري. غير أنه كلف كذلك بالتعرف على آراء الدكتاتور بالنسبة لرأس المال الأجنبي، ومدى استعداده لتخفيض الضرائب، وأية ضمانات يقدمها لعدم التأميم، ومقدار الأرباح التي يسمح بتصديرها؟ وكم من التقنيين والإداريين الوطنيين يجب استخدامهم، ومجموعة أخرى من التساؤلات العديدة. ولكن الكولونيل ديبا كان في الواقع دمثا للغاية ومتعاونا؛ ومن ثم كانت تلك الرحلة بالسيارة التي قادها موروجان بسرعة رهيبة إلى مناجم النحاس. لا تزال بدائية يا عزيزي فارنبي، وبحاجة ماسة كما تلمس بنفسك إلى المعدات الحديثة. وتذكر الآن ويل أنه كان قد اتفق على لقاء آخر في نفس هذا الصباح، وتصور الكولونيل جالسا إلى مكتبه وأمامه بلاغ من رئيس الشرطة بأن المستر فارنبي قد شوهد أخيرا وهو يبحر في قارب صغير وحيدا في مضيق بالا، وبعد ساعتين هبت عاصفة شديدة ... والمفروض أنه قد لاقى حتفه. ولقد كان الأمر غير ذلك؛ فها هو حي يرزق فوق الجزيرة المحرمة.
وكان جو ألديهايد قد ذكر له في آخر مقابلة لهما: إنهم لن يسمحوا لك بتأشيرة دخول. ولكنك ربما تستطيع أن تتسلل إلى الشاطئ متنكرا؛ فالبس بورنسا أو ما يشبهه كما فعل لورنس العرب.
ووعده ويل جادا: سوف أحاول. - على أية حال إذا أنت استطعت أن تطأ بقدمك أرض بالا فتوجه رأسا إلى القصر. فراني - وهي الملكة الأم هناك - صديقة لي من زمن بعيد. وقد قابلتها للمرة الأولى منذ ست سنوات في لوجانو. وكانت تقيم هناك مع فوجيلي العجوز وهو صاحب بنك الاستثمار، وصديقته مهتمة بالروحانيات وقد أعدت لي جلسة روحانية. الوسيط بوق، والصوت مباشر حقيقي؛ إلا أن الكلام لسوء الحظ كان بالألمانية. وعلى كل حال - بعدما أعادوا الإضاءة - تبادلت معها حديثا طويلا. - مع البوق؟ - لا، لا، مع راني، فهي امرأة رائعة، تتزعم حملة صليبية للإشادة بدور الروح. - وهل هذه الحركة من اختراعها؟ - قطعا، وأنا شخصيا أوثرها على حركة «إعادة التسلح الخلقي». وهي مفضلة في آسيا. ولقد تحدثنا عنها ذلك المساء، ثم تحدثنا بعد ذلك عن البترول، وبالا مليئة به. ولقد حاولت شركة بترول جنوب شرقي آسيا لعدة سنوات أن تستولى عليه. وكذلك فعلت جميع الشركات الأخرى. ولكن دون جدوى، فلم تعط في هذا السبيل امتيازات لأي فرد، وهذه هي سياستهم الثابتة. ولكن راني لا توافق عليها، فهي تحب أن ترى للبترول أثرا طيبا في العالم، كأن يمول الحملة الصليبية للروح مثلا؛ ولذلك فكما قلت لك: إذا هبت إلى بالا فتوجه رأسا إلى القصر، وتحدث معها، لتصل إلى حقيقة أمر الرجال الذين بيدهم إصدار القرارات. واكشف لنا إن كانت هناك قلة تحبذ الإفادة من البترول، واسأل كيف نستطيع أن نعاونهم على الاستمرار في جهودهم الطيبة.
وفي نهاية حديثه وعد ويل بمكافأة مجزية إذا توجت جهوده بالنجاح، مكافأة تكفيه أن يتفرغ عاما كاملا: لا أريد منك بعد اليوم تقارير، لست أريد إلا فنا رفيعا، أريد فنا. وضحك ضحكة عالية داعرة كأنه لم يقل «فنا»، وإنما قال كلمة بذيئة. يا له من مخلوق غير معقول! ولكنه على الرغم من ذلك كان يكتب لصحف تافهة يملكها مخلوق غير معقول، وكان على استعداد أن يرتشي لكي يؤدي عملا قذرا لرجل وضيع. والآن لا يستطيع أن يصدق أنه فوق أرض بالا. إن العناية السماوية لحسن حظه كانت حليفته لكي يرتكب - لغرض هام بالتأكيد - مهزلة عملية خبيثة مما تكرس السماء لها إرادتها.
وردته إلى الواقع الراهن ماري ساروجيني بصوتها الحاد إذ قالت له: ها نحن قد وصلنا.
ورفع ويل رأسه مرة أخرى، وأدرك أن الموكب الصغير قد انحرف عن الطريق وسار من خلال ثغرة في جدار أبيض يكسوه الجص. وعلى يساره، وفوق مصاطب مرتفعة متتالية رأى صفا من المباني المنخفضة تحوطها الأشجار. وأمامه مباشرة طريق واسع على جانبيه أشجار النخيل ينحدر نحو بركة لوتس يقبع على أبعد أطرافها تمثال حجري ضخم لبوذا. ولما اتجهوا يسرة أخذوا يتسلقون إلى أعلى مصطبة بين الأشجار المزهرة وخلال العطور المختلطة. وخلف أحد الجدران وقف عجل ذو سنام ناصع البياض لا يتحرك منه سوى فكيه وهما يجتران الطعام، متأله بجماله الهادئ غير المفهوم. وعندئذ تراجع عاشق أوروبا
4
Shafi da ba'a sani ba