[1] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القديم الأولى، الدائم الأبدي، الباقي الأزلي، المتوحد العلي، المنفرد القوي، المتفضل القوي، المتطول الولي، القادر على كل شيء، المقدس عن الصاحبة والأولاد، البريء من الأشباه والأنداد، الطاهر من صفات أهل الشرك والإلحاد، المتعالي عن درك النواظر، وتحصيل الأوهام والخواطر، الشاهد له بالربوبية والالهوت، والوحدانية والملكوت، والقدرة والجبروت، وأنه الحي الذي يموت، أنواع ما أظهر في العالم المبتدع، المحدث المخترع، من دلائل القدرة وأعلام الخلقة والفطرة، في تضمين (1) أجناس الأجرام الحسية، والأجسام المميتة والنفسية، والعناصر الأربعة المختلفة، والجواهر المفردة والمؤتلفة، من عجائب الصور والتقدير، ودقائق الحكم والتدبير، والتي بهرت قلوب الزنادقة الجاحدين، وحيرت عقول الكفرة الملحدين، وانشرحت لها صدور البررة المهتدين، فأشرقت بنورها مهج العابدين، الذين أبصروا بالعقول القريرية (2)، ونظروا بالعلوم المكتسبة والضرورية، والأفكار الصافية الهندسية، والاعتبارات الصحيحة القياسية، نور الحق ساطعا يزهر، وبهاء الدين طالعا يبهر، وبرهان العدل قاطعا يقهر، فسلكوا أقوم الطريق، ودانوا بالوحدانية والتحقيق. وتمسكوا بعرى الحبل الوثيق، فطوبى لهم وحسن مآب، وتعسا لأولئك الزائغين عن الصواب، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له الذي شرع الذين الواضح منهاجه، الظاهر إبلاجه، المتوقد سراجه، المضيئة أنواره، المشرقة أقماره، وأيده بالرهان الساطع، والدليل القاطع، والاحتجاج القاهر، المقال الباهر، والخطاب الموجز والكتاب المعجز، والفرقان الناطق، والرسول الصادق المنتخب، من أفضل الشعب وأشرف قبائل العرب، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله البررة وكرم.
Shafi 7
أما بعد، فقد جلت الرزية، وعظمت المحنة والبلية، لفقد أعلام المسلمين والفقهاء المتقدمين والأخيار المؤمنين، والأفضل الأ كرمين، أولى الورع والنزاهة والعقل والنباهة، والإخلاص والديانة [2] ولأدب والرزانة، والخضوع والكلفة والتحرج والصيانة، والصلاح والأمانة، ذوى الألباب والعلوم، والتبحر في العلوم، والقيام بدين الحي القيوم، الذين طلبوا العلم للآخرة، وصانوه عن المفاخرة، نزهوه من لأدناس، وأضحوه من الإلباس، ولم يتقربوا به إلى الناس، فهل من باك، للدمع سفاك، بقلب جزوع، ولب هلوع، وكبد فجوع، ودمع هموع (3)، على ذهاب الأعلام وانقراض الكلام، ودثور الأحكام، وغربة الإسلام، ودروس الآثار، وطموس نتيجات الأفكار، لموت الفقهاء الأخيار، ولا سيما المنافسين في قواعد الدين وحقائقه، المتغلغلين في غرامضه ودقائقه، التي قد صارت عند هذا الجيل مثلبة لمن طلبها وتعلمها، وعيبا لمن نافس فيها وتوسمها، ونقيصة عندهم على من تصفحها وتفهمها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، صبرا على ما قدره العليم، ورضا بما قضاه الحكيم، ولا حول ولا قوة إلا بلله العلي العظيم،. وصلى الله على رسوله النبي الكريم، محمد واله أهل الكرامة والتقديم وخصهم بالتشريف والتسليم.
الباب الأول
Shafi 8
باب بيان ما أوردنا هو جعلنا له الكتاب وقصدناه ثم إنا نعلمكم معاشر المسلمين انا نوزعنا فبي مسألتين من الدين، خولف فيه ما وجدناه عن الأئمة المهتدين، إحداهما في السؤال عن القدرة على قسم الجوهر، والأخرى في الشهادة لمن مات على الدين الإباضي (1) الأطهر، وإنما صدرنا منا على الرفيعة والوجدان، في حلبة المذاكرة لبعض الأخوان، ممن لا يتهم باعتماد زيادة ولا نقصان، فقضى علينا في الإباضية إحداهما بالتخطئة والهلاك، وأخلق علينا في الجوهرية بالكفر والإشراك، فلما أن عظم فيهما المقال، وكثر في معناهما القيل والقال، ولحظتنا بذلك زمرات (2) الأعين، وخرقت أعراضنا أسنة الألسن، نقلنا لهم المسألة الموجودة من الأثر لينعموا (3) في معانيها أكيد النظر، فستر ذلك الفضل ودفن. ثم ثنينا بكتاب آخر مستفتين فما أجيب عنه ولا أعلن، وليس هذا من آداب المسلمين، ولا أخلاق العلماء بالرفق في المتعلمين، أن يخلفوا عليهم بالكفر حيث يحب إنزال العذر. ثم تعرضوا [3] فيهم في مجالسهم في المقال، ويعرضوا عن إجابتهم عند السؤال، لأنه إما باطل ظهر لهم فيقهرونه، وإما حق صح عندهم فينصرونه، إذا لا فضل خلاف ذلك ن ولا منزلة ثالثة هناك، اللهم إلا أن يقع جهل بالجواب، وذهول عن وجه الصواب، فلا شرف أشرف من رد العلم إلى العلام، ولا فخر إلا كما قالت الملائكة عليهم السلام. فعند ذلك استضقنا الوقوف بعد ما سمعناه وخفنا إثم السكون عن إيضاح ما عرفناه، خوفا على ضعفاء المسلمين، ومن هو مثلنا من الإخوة المتعلمين، أن يميلوا إلى التقليد بلا بيان، ولا حجة واضحة ولا برهان، فيقعوا في أعظم المهالك، ويتولجوا أوعر السالك، فكفى بحجج الله القوية، وأدلته المضيئة، لمن أراد الله هداه، ووقاه مهالك هواه، وقد قال الله عز وجل: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) (4)، وقال تعالى: (فاعتبروا يا أولى الأنصار) (5). فألفت على كلالة فربحي، وركاكة فهمي وبصيرتي، هذا الكتاب المختصر، وسميته (( الجوهر المقتصر))، مستعينا بالله عليه، وداعيا له أن يجعله وسيلة إليه، إن شاء الله. فاحذروا أيها الإخوان أن تقلدوا في أصول الدين، أو ترغيوا عن آثار أئمتكم المهتدين، فشر طنا عليكم أن لا تعجلو علينا بالملام، ولا تولونا هجر الكلام، قبل تصفح كتابنا، وتأمل ما أوضحناه في خطابنا، فنحن إن شاء الله مبينون وجه العدل فيما قلناه، ومبرهنوه بالأدلة الشاهدة بصواب ما أصلناه، (ولينصرن الله من ينصر إنا الله لقوى عزيز) (6)، ليعلم شارعو أسنة الطعن علينا. ومفوقو سهام التخطئة إلينا، أينا أصح حكما وأقوم قيلا، وأينا أهي عمى وأضل سبيلا، لأن الحق كلما امتحن ابلولج واتسع مضيقه، والباطل كلما فتش بان سقمة وادهمت ظلمه. والعياذ بالله أن نمنى بحسود يتصدى لدخض الحق، وتحمله ما قد كبر في نفسه من أمرنا على مخالفة أهل الصدق، والله كفانا كل شر، الواقى كل مكروه يحذر وضر، وهو القوى المعين.
الباب الثاني
باب صفة المسألة الجوهرية ومعانيها
وبيان الاختلاف والتنازع الواقع فيها
أما المسألة الجوهرية فهي أن قول القائل أيقدر الباري سبحانه وتعالى أن يقسم [4] الجوهر أم لا؟ سؤال صحيح أو مجال؟ وأما الاختلاف الواقع فيها فإنما هو نفس سؤال أته صحيح أم لا؟ ليس في القدرة نفسها، فإن القدرة ليس فيها اختلاف ولا تنازع، فإنما التنازع في إضافة القدرة إلى قسم الجوهر، وإنما يكون اختلافا في القدرة لو اتفقنا على أنه تصح إضافة القدرة إلى قسم الجوهر واختلفنا في أنه يقدر أو لا يقدر، فيقول قائل: إنه قادر على ذلك، ويقول غيره إنه لا يقدر، فهذا هو الاختلاف في القدرة. وإنما نحن فنقول يصح هذا السؤال أم لا ؟ غير أن جملة الكلام في هذا المسألة مقصورة على ثلاثة فصول:
الأول: في بيان أقسام السؤال وإثبات الصحيح منه وإفساد الحال.
الثاني: قي بيان حقائق الأشياء الدالة على المعاني المتعلقة بهذه المسألة.
Shafi 10
الثالث: في بيان وجه الاستحالة فيها واختلال الألفاظ الموضوعة لمعانيها.
فمتى ثبت أن بعض الأسئلة محال وتقرر وجه الاستحالة في المسألة الجوهرية على كل حال ارتفع الجدل والنزاع ولزمه بالضرورة التسليم لموجب العقل والإجماع وبالله التوفيق.
مقالتنا: وقولنا في هذا السؤال على ما عرفنا في الأثر ووجدنا عن أهل البصر إن الله تعالى على كل شيء قدير لا يعجزه شيء أبدا وأن هذا سؤال محال فاسد متناف ينقض بعضه بعضا من حيث إنه سؤال عن القدرة على قسم الجوهر لا على الجوهر نفسه. وقسم الجوهر لا شيء، والقدرة لا تقع إلا على شيء. لأن قوله أيقدر أن يقسم الجوهر. أي يقدر أ، يعدم منه الإجماع الحال فيه ويوجد فيه الافتراق المعدوم منه، فإن معنى قسم الشيء تفويق أجرائه لا غير ذلك فلما أن قال يقدر يقسم الجوهر أي يذهب الاجتماع منه وبعدمه، والجوهر في الحقيقة في المسلمين هو الجزء الواحد الذي لا يتجزأ ولا ينقسم إذ لا اجتماع فيه، انتقي سؤاله وفسد واستحال لأن ما لا يتجزأ في الحقيقة فمعناه لا ينقسم، وما لا ينقسم في الحقيقة فلا قسم له، وما لا قسم له فكيف يصح أن يقال يقدر على قسمه وقسمه لا شيء. كما لو سأل سائل فقال أيقدر أن يعمى الأعمى أم لا؟ لكان الجواب أن الله على كل شيء قدير وأن هذا سؤال فاسد محال من حيث انه سؤال [5] عن القدرة على إعماء الأعمى وهو إذهاب بصره، لا على الأعمى نفسه، الأعمى لا بصر له فيصح أن يقال أن يقدر أن يذهب بصره إذ لا بصر له.
Shafi 11
مسألة: وإنما يصل إلى حقيقة هذا المعنى من اهتدى للفرق بين الجوهر وبين قسمه وعرف أن قسم الجوهر معنى غير الجوهر وعرف أن قوله القائل أيقدر البارئ أن يقسم الجوهر؟ سؤال عن القدرة على قسم الجوهر لا عن القدرة على الجوهر نفسه، فمتى عرف ذلك وعرف أن حقيقة الجوهر هو الجزء الذي لا يتجزأ ولا ينقسم وأنه لا قسم له كما أن الأعمى في الحقيقة هو الروحاني الذي لا يبصر، ما ر يبصر في الحقيقة فلا بصر له، عرف أنه لا يصح ولا يستقم أن يقال يقدر على أن يقسم الجوهر وعلى أن يعمى الأعمى، وإنما يلزم هذا من أقر بأن الجوهر لا ينقسم في علم الله إذا لا معنى للحقائق إلا ما علمه الله. فإن الأشياء عند الله في علمه قسمان: قسم منها قد علم أنه ينقسم فذلك هو الموصوف بالانقسام، وقسم منها قد علم أنه لا ينقسم فلا تصح إضافة القدرة إلى قسمه. كما أن جميع الأشياء على ضربين: ضرب يبصر وضرب لا يبصر، وضرب حي، وضرب غير حي، وضرب عاقل، ضرب غير عاقل، فلو صح أن يقال يقدر على من لا بصر له أو على إعدام من ليس بموجود، وسنستقصي إن شاء الله على شرح هذه المسألة وإيضاحها وبالله التوفيق.
Shafi 12
مقالة المنازع لنا: وأما المنازع فمقاله يدل على زعمه بأن هذا السؤال صحيح تلزم الإجابة عنه بأن يقال له نعم يقدر على ذلك. ورفع إلينا عنه أنه قال من لم يقل ذلك أو من قال انه سؤال محال فهو مشرك. ووجدنا عنه في مسألة ذات جواب ردا خارجا عن وجه الصواب، وهى فإن قال قائل هل يقدر الباري جلت عظمته أن يجمع الأضداد، فكان الجواب: قلنا إن الله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء ولا يفعل إلا الحكمة، فرد المنازع قلنا نعم إنه قادر على ذلك لا يعجزه شيء في الخصوص ولا في العموم ولو شاء لجعل الأرض سماء والسماء أرضا والبحر برا والبر بحرا، وهذا مطرد في جميع الأضداد كلها. فانظروا معاشر المسلمين إلى هذا الرد المتعارض والترتيب المتناقض الدال أنه صدر عن جهل بالجوهر وحقيقته والشيء ونعته والمحال وصفته. وهكذا من اشتغل [6] بالألفاظ عن المعاني وتعسف المعارضات على جهل بالمثاني. فقد حكى أن شاعرا أشيد الرشيد شعرا في وصف الفرس بين العلماء والفصحاء فقال:
كأن أذنيه إذا تشوفا قادمة أو قلما محرفا
فاشتغل الجماعة بحسن التشبيه عن اللحن فقال الرشيد:
تخال أذنيه عرفها بالذكاء الحاضر
وحكى أيضا أن الرمة امتدح بلال بن أبى أوفى، فأنشده:
رأين الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح (1) انتجعي بلال
تناجى عند خير فتى يمان ... إذا النكباء ناوحت الشمالا
فقال بلال: يا غلام جب لها تبنا وفتا لأنه استماح للناقة لا لنفسه، وهذا جمل باتساع اللغة.
ولو عرف هذا المنازع لنا أن الجوهر في الحقيقة الجزء الواحد الذي لا يتجزأ وعرف الفرق بين الشيء ولا شيء، أن تجرئه ما يتجزأ شيء تجزئة ما لا يتجزأ ليس بشيء، وعرف معنى المحال من الكلام أنه ما لا يعتد به ولا يمكن كونه بحال البتة.
وعرف أن القدرة إنما توقع غلى الشيء لا على شيء تبين له لطه وبأن له خطؤه وسقطه، فإن معنى هذا السؤال راجع إلى أن الله يقدر على لاشيء أم لا؟
Shafi 13
لأن قسم الجوهر ليس بشيء كما أن بصر الأعمى ليس بشيء.
وفي هذه الثلاث المسائل كفاية لمن كان له بصر وهداية، غير أنا سنستقصي شرح ما تعلق بهذه المسائل وتوضح طرقها ونكتفي بالآثار الشاهرة مع بيان مستغلقها.
وتقدم ها هنا أدب المفتى وأقسام السؤال ثم نتبعه بشرح المسائل الكافية بأرجح الاعتلال وبالله التوفيق.
الباب الثالث
باب أدب الفتى عند السؤال
وما يجب عليه عند الفتوى من المقال
قال أبو المنذر سلمة بن مسلم في كتاب الضياء:
وينبغي للمفتى أن يتأمل المسألة تأملا شافيا كلمة بعد كلمة وتكون عنايته بآخرها أثم من أولها فإن الجواب يتقيد بآخر الكلام.
قال التأمل: انظر كيف قال إن الجواب يتقيد بآخر المسألة فإذا كان آخرها ينفى أولها، فكيف يتقيد بها جواب أم كيف يكون سؤالها صحيحا؟
مسألة: فإن مرت به غريبة سأل عنها.
وينبغي للعالم إذا سئل أن لا يعجل في الجواب وأن كان حافظا حتى يعرفه معرفة صحيحة فيجيب بعلم ويقين ز فإن من أدب العلماء وصفاتهم.
[7] مسألة: قال وإذا سئل عمن قال أنا أصدق من النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال الصلاة لعب أو لغو وعيب، أو قال قصيدة النابغة أحسن من سورة آل عمران، فلا يبادر أن يقول هذا حلال الدم أو مباح النفس أو عليه القتل أو يقتل. بل يقول إذا صح ذلك بالبينة عليه أو باقرار، استتيب فإن تاب فبلت توبته، إن لم يتب فعل به كذا وكذا. وهذا المنازع لنا بادر في الحال على ما رفع إلينا، أن أوجب على القائل باستحالة هذا السؤال حكم الشرك في تحريم الزوجة وتنجيس الطهارة ونقض صلاة الجماعة.
وقيل عنه إنه قال: أن قال ذلك بحضرتي أهدرت دمه.
فأين هذا مما قال أبو المنذر سلمة (1) إذ لو وقف ونظر وتأمل وتدبر وأغمض في الجواب الصادر منا في هذا السؤال لما فاه، فإنه موافق على الشرك لا يلحق في الحدث من غير التوحيد، وهذا حدث في كلام السائل في التأويل أنه صحيح أو متناف، لا في القدرة أنها تقع أو لا تقع.
Shafi 14
فنسأل الله أن يعصنا من الزلل ويقينا موبقات الخطل.
مسألة: قال وليس وقوف العلماء عما يسألونه بغيب إذا لم يعلموا فقد وقفت الملائكة الكرام وفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا). (2)
قال الحسن (3) إن ابن آدم لو أصاب في كل شيء جن.
فضل
فمن لم يتسع صدره لتأمل المعاني النظرية والاعتبارات الهندسية ضاقت حوصلته عن عرفان الحقائق، انسدت عن عينه مناهج الطرائق وفاته البلوغ إلى تحصيل الدقائق.
فمتى اقتحم غوامض الأمور وركب لجج تلك البحور على جهل بمعاني ألفاظ السؤال وفحوى المقال وحد الجدال، لم ينكر منه التصدي للاعتراض والتشوف للأغراض، مثل هذا الخلاف المقارق للأسلاف، المنحرف عن الإنصاف، الصادر عن غير نظر وأفكار، وتدبر واعتبار وتأمل واختيار، وتعرف للحدود والحقائق والناهج والطرائق والنقائض والوثاثق والحجج والدليل والبرهان والتعليل والتفريع والتأصيل والتسبيب والتحصيل والتأليف والتفصيل وما أشبه [8] ذلك من قواعد المذاكرات وشروط الجدل والمناظرات، وبالله التوفيق.
الباب الرابع
باب بيان معنى السؤال وحقيقته وذكر قواعده ومعرفته
أما السؤال فهو على معان والذي قصدناه منها هاهنا فهو عبارة عن جملة متركبة من ثلاثة ألفاظ لا تتم إلا باجتماعها.
الأول: لفظ يراد به الاستفهام ينبغي تقديمه أمام الكلام ليستدعى من المخاطب الجواب ويتميز به من معاني الخطاب، وحق الاستفهام أن تدخل على كلام قد عمل بعضه في بعض وتمت به القائدة ولا يكون إلا بالحروف التي أمامها الهمزة، تم هل، وما صار عنها من الكلام الذي ينوب عن حرف الاستفهام وعن الاسم المستخبر عنه، كمتى المتضمنة معنى الاستفهام ومعنى الوقت المستخبر عن إبانة حينه، أين المتضمنة معنى الاستفهام عن الحال.
ومن المتضمنة معنى الاستفهام عن الحيوان العقلي، وما المتضمنة معنى الاستفهام عن المائية وهى الجنس وما أشبه ذلك.
Shafi 15
الثاني: لفظ يبين تفسير الخير المطلوب ليتميز به من بين الأخبار الخارجة عن حد النهاية لأن كل شيء مخبر عنه أخبار كثيرة وصفات شتى.
الثالث: لفظ يتعين به المستخبر عن خبره من بين الأشياء المخبر عنها إذ الخبر المطلوب يخبر به عن أشياء كثيرة.
فهذه قواعد السؤال التي لا تتم إلا باجتماعها فمتى نقض أحد الثلاثة أو اختل، بطل أن يكون صحيحا والله أعلم.
مثال ذلك: في تركيب الثلاثة الألفاظ، كقول القائل: أيجب جهاد المشركين؟ فالألف، لفظ حرف الاستفهام ويجب لفظ الخبر المطلوب المستخبر عنه.
وجهاد المشركين لفظ الشيء المطلوب خبره.
فمتى سقط أحد هذه الألفاظ فلا سؤال.
مسألة: فإن قال: أيجب؟ تم سكت، أو قال: جهاد المشركين؟ تم سكت، أو قال يجب جهاد المشركين، لما كان هذا الكلام سؤال.
لأن في قوله: أيجب، لفظ الاستفهام ولفظ الخبر المطلوب المخبر به عن أشياء كثيرة تجب أو لا تجب، فيجب تعببنها لتخنص بنفي أو إثبات.
وكذلك فوله: أجهاد المشركين؟ فيه لفظ الاستفهام ولفظ نستخبر عنه يخبر عنه بأشياء كثيرة فلما لم [9] يذكر الخبر المطلوب من أحد أخبار هذا المخبر عنه بطل أن يكون سؤال صحيحا. وكذلك قوله: يجب جهاد المشركين، فيه لفظ ومخبر عنه وهذه صيغة لفظ الخبر لا يكون سؤالا غلا بمعنى اقتران الاستفهام به وإلا فلا سؤالا.
مسألة: فإن وقع في موضع الاستفهام لفظ ينوب عن الاستفهام ولفظ الخبر، اكتفى به مع لفظ المخبر عنه كمتى، أين وكيف، وما، ومن، وما أشبه ذلك مما تقدم تفسيره.
مثال ذلك أن يقول: متى جهاد المشركين؟ وكيف صيام شهر رمضان؟ وأين الكعبة؟
ففي قوله: متى؟ معنى الاستفهام عن الوقت المطلوب إبانة.
وفي قوله: جهاد المشركين، لفظ المخير عنه وما سوى ذلك فهو مثله واله اعلم وبه التوفيق.
مسألة: وأما شرط صحة السؤال فهو مطابقة الحكم المطلوب المخبر به، وذلك أن يكون ذلك الخبر يخبر به عن ذلك الشيء المذكور في السؤال وينصف منه.
Shafi 16
مثال ذلك أن يقول السائل: كم أساطين المسجد الحرام؟ ففي كم معنيان استفهام عن عدد، وفي أساطين لفظ مخبر عنه يتصف بالتعدد ومتى لم يكن الحكم المطلوب من أخبار المستخبر عنه بطل أن يكون صحيحا، كما لو قالوا: أيحب أساطين المسجد الحرام؟ لكان سؤالا محالا متنافيا فاسدا، لأن الأساطين لا يتصف بالوجوب إذ هي أجسام والأجسام لا يخبر عنها بالوجوب وإنما يخبر عن الأعراض، فان اخبر عن الأجسام بالوجوب فانه مجاز وفي الحقيقة راجع إلى الفعل بها والله أعلم.
وإنما سمى هذا سؤال لدخول الاستفهام فيه، وسمى محالا لاستحالة آخره عن مقتضى أوله، لأنه حين قال: أيجب، وجب أن يذكر الأعراض فلما أن ذكر الأجسام وأول لفظه يقتضي الأعراض استحال فسمى محالا، وسمى هذا الضرب فاسدا ومتنافيا متناقضا من هذا المعنى وسيأتي بيانه في هذا الباب إن شاء الله.
الباب الخامس
باب بيان السؤال وأقسامه وصفة صروفه وأحكامه
فالسؤال ينقسم على ثلاثة أقسام:
فسؤال صحيح ن سؤال فاسد، سؤال محتمل.
فأما السؤال الصحيح فحده الاستخبار عن خبر ممكن، فالجواب عنه واجب على مقتضى استفهامه وهذا لا خلاف فيه ولا منا كرة فيحتاج إلى شرح [10] ومناظرة وهو ملا يحصى وقد قدمنا من ذكره ما يكتفي بفهمه إن شاء الله.
على أنا لو أخذنا في بسط وجوهه وبيات معانيه وأجوبته المقتضاة بحروفه لا حتجنا إلى كثرة القرطاس ولم نا من فيه ملل الناس.
مسألة: وأما السؤال الفاسد فهو الذي لا مطابقة بين خبره المطلوب والمخبر عنه وحده الاستفهام عن خبر غير ممكن وجحد (1) هذا الجنس على قلة استعماله ومع العيار. (2)
مثال ذلك: أن يقول القائل: الثوب النجس من غير ملاقاة نجاسة تجوز به الصلاة أم لا؟
ابنا عم أحدهما أخ خالص لأب: كيف الميراث بينهما؟
زوجة وأبوان وزوج .. كيف القسم بينهم؟
وهذا عين المحال، كما قلنا إن المحال ما المحال ما لا يكون، وهذا ما لا يكون.
Shafi 17
بيان ذلك أن قوله: الثوب النجس قد دل على ثوب لاقى نجاسة أو لاقته إذا لا ينجس طاهر إلا بملاقاة نجاسة.
وقوله: من غير ملاقاة نجاسة نقض لما دل عليه أول الكلام.
تقديره: الثوب النجس الذي ليس بنجس وهذا محال.
وأما قوله: ابنا عم، دليل على ابني أخوة للهالك.
وقوله: أحدهما أخ خالص لأب، نقض لقوله الأول، لأن الأخ للأب لا يكون ابن عم، فكأنه قال أحدهما ليس بابن عم وهذا محال.
فإن قال قائل: هذا ممكن أن يكونا جميعا وطئا في ظهر واحد أمة لهما، فقد اختلف المسلمون في الولد، فقيل إنه للأول، وقيل يلحقهما جميعا ويكون ابنا لهما جميعا في الحكم.
واختلف في ميراثه من كل واحد منهما فقيل نصف ميراث وقيل ميراث تام، قال هذا حكم الظاهر وهو في الحقيقة ابن أحدهما أو غير ولا يكون ولد من نطفتي رجلين لاستحالة الوطء من اثنين قي وقت واحد وهذا معروف عند العقلاء ن غير انا نحن قد احترزنا من هذه المعارضة بقولنا أخ خالص لأب.
وقوله زوجة: قد دل به على أن الهالك رجل، ويقوله زوج يدل على أن الهالك امرأة وهذا خلاف ذلك.
فكأنه قال: رجل مات وهو امرأة، وهذا محال، فإن فرضت في خنثي لم يصح، إذ الخنثي فد اختلف في جواز التزويج له مع الاتفاق على منعه عن التزويج برجل وامرأة فيما عرفناه، فقيل لا يتزوج ألبته للإشكال الداخل عليه، وقيل بل يتزوج بامرأة [11] والله أعلم. على أنة في الحقيقة إما ذكر إما أنثى، وإما جنس ثالث قد تميز منهما جميعا ومحال أن يكون ذكرا أنثى لأنه معلوم أن الذكوربة ضد الأنوثية والأضداد لا تجتمع.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذكرا أنثى؟
فلنا: أنكرنا ذلك من قبل أنه لو جاز أن يكون ذكرا أنثى، لجاز أن يكون لا ذكر من حيث انه أنثى ولا أنثى من حيث انه ذكر، فيكون على هذا لا ذكر ولا أنثى.
Shafi 18
وسيأتي فساد هذا المعنى في باب الأضداد إن شاء الله. ولا جواب لما كان من هذا الجنس إلا الطعن فيه والتنبيه على فساده والمطالبة بتصحيحه لأن الفائدة في إفساد هذا الجنس الذي يقتضيها الاستفهام يشا كل الفائدة في الجواب عن السؤال الصحيح من حيث انها حكمة، لأن إفساد الفاسد حكمة كما تصحيح الصحيح حكمة لا خلاف في ذلك وبالله التوفيق.
فالقسم الثالث: وأما السؤال المحتمل وهو أن لفظ الخبر المطلوب أو لفظ الشيء المطلوب خبره يشتمل على معنيين أحدهما يطابق ولآخر ينافى وإنما قلنا: ينافى محتمل لاحتمال الصحة والفساد فيه.
مثاله كقول القائل: أمؤد للفرض من صلى نائما؟ أيسقط فرض الظهر في وقتها قبل زوال الشمس؟
كيف الميراث إبني عم أحدهما أخ؟
فهذا للجنس محتمل للصحة من وجه، فاسد من وجه.
بيان ذلك أن قوله: أمؤد للفرض من صلى نائما؟ إن أراد النوم المجازى، وهو الاضطجاع من غير سنة فالسؤال صحيح: والجواب لازم بأنه إذا لم يقدر إلا كذلك فهو مؤد والله أعلم
إن أراد النوم الحقيقي وهو ضد اليقظة فالسؤال محال لأنه متى يصلى وهو مستوسن نائم؟ فإن قيل: أليس قد يعرض للمصلى النعاس؟ قلنا: بلى ولكنه في حال نعاسه لا يصلى بل واقف عن الصلاة وليس ذلك الذي أردناه بل الذي فلنا مفهوم وبالله التوفيق
وأما قوله: أيسقط فرض مصلى الظهر في قبل زوال الشمس؟ فإن أراد في أول وجبت فيه، فالسؤال محال لأن في اليوم الذي وجبت فيه وقتها بعد الزوال.
وأن أراد بعد ذلك، فهو وقت الناسي والمتعمد التائب، الاخذ في البدل والله أعلم وبه التوفيق.
وأما قوله: كيف الميراث بين ابني هم أحدهما أخ؟ فإن أراد من أم فالسؤال صحيح والجواب أنه مختلف فيه فقيل المال للأخ لأنه [12] يدلى بسببين. وقبل للأخ السدس ونصف الباقي، والنصف الباقي لابن العم.
Shafi 19
وأن أراد من أب، فالسؤال محال ما بينا في السؤال المحال. فالاحتراز من المعارضات في الجواب عن هذا الجنس بالوجهين جميعا، والاقتصار على الأغلب من الوجهين بعد الشرط، أرجو أنه كاف لاستحالة السؤال في الوجه المحال. فقد استقصينا طرفا من شرح المعاني المتعلقة بالسؤال ونبهنا على صحة الصحيح منه وفساد المحال.
فنأخذ الآن في الفصل الثاني وهو ما تعلق بهذه المسألة من المعاني الدالة على حقائقها وبالله التوفيق.
ثم الفصل الأول وهذا ابتداء الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
ينبغي الآن أن نقتصر في شرح هذا الفصل على الآثار الشاهرة المسنودة والمسائل الظاهرة الموجودة التي أيدها المسلمون وحكم فيها الأئمة المتقدمون الدالة على تحقيق ما قلناه وتصديق ما حكمنا به وأوردناه لأن هذه المسألة عظيم خطرها جليل قدرها تستبشع النفوس الوقوف عن جوابها قبل النظر في خطابها وتستفظع القلوب الليل إلى التفكر فيها والتأمل لمعانيها خوفا الشك ونفورا من الحصول في الخطأ والشرك.
أو ليس الله تعالى يقول: (ولا تقف ما ليس لك به علم)
وقد فيل: من أفتى بلا علم لعنته ملائكة السماء. فكيف يؤثر من له عقل يحجزه عن محارم الله المبادرة إلى الكلام فيما لا يعلم عن التفكر والنظر وتصفح ما لا يفهم بلا شيء يوجد في الأثر ن فنعوذ بالله من غلبة الأهواء أو مسامحة الآراء.
ومتى أوردنا المسائل المأثورة، واستشهدنا بالأصول المتهورة عن الأئمة الأبرار والعلماء الأخيار ارتفع النزاع وانقطع، واستنار الحق وسطع.
وإنما نحن متبعون غير مبتدعين ومقتدون غير مقلدين، وسنوصلها بما اتضح لنا عرفانه من حجج العقل، ونبرهنها بما لاح لنا برهانه من دلائل النقل بمهونة البارئ الكريم وتأييده الكافي العميم إن شاء الله عز وجل.
الباب السادس
باب بيان العالم وحقيقة العلم به والقدرة عليه والتحديد لأجزائه
Shafi 20
من كلام أبي المنذر بشير بن محمد بن محبوب رحمهم الله قال الشيخ بشير بن محمد بن محبوب رحمهم الله في صدر كتابه ((المحاربة)) وبعد هذا بيان في [13] حدوث العالم وأجزائه بتعاور (1) الحوادث له ولها فيه واحتياله وأجزائه لها ووجوده بها غير منفكة منه ولا منفك منها، فهو أجزاؤه وجزاؤه هو بها، تفرقا مرة له وتأليفا أخرى بحلها فالحال يضمنها والوقت يجرى عليها ن والأماكن محلها ومنهي لها تجاورا فيها بأعراضها وعلى غير التداخل منها بها.
فإذا ارتفع التأليف عنها ثبت الجزء الذي لا يتجرأ منها وسقط العدد منه والعرضان المتضادان (2) عنه لأنهما يتنافيان السكون فيه لشغل أحدهما له، ولا فضل فيه عنه.
ولا تقوم في فهم ولا عقل أن يكون المدخول فيه داخلا في الداخل فيه داخلا في الداخل فيه.
فلدلالة حدث الجزء احتمال أن يزاد إليه مثله أن يتجسم بحدوث الأقدار الثلاثة له، والله أعلم بعدد أجزاء الخلق كلها وقادر على تفريق ما جمع منها حتى لا يبقى اجتماع فيها، وفي ذلك إثبات الجزء الذي لا يتجزأ منها وصحة النهاية فيها ومن كل طرف وما يلاقى الأجسام من نواحيها وجهاتها، من أية شئت ابتدأت عددا منها وإلى أية شئت به أمدا إليه فيها وأية أقمت في وهمك قام محدودا وأية صورت في خلدك تصور بهيئة عيانك له مشاهدا منها.
فقيما ظهر للعيان من تناهى الجسم من وجومه الشبه إلى الجهات المتناهية إليها من الهواء أعدادها ما يصح به تناهى عدد أجزائه لاستحالة إحاطة الهواء بما لا نهاية له لأن ما لا نهاية له لا يتوهم له نهاية من جهة فحكم ما أدركنا من نهاية الخلق الملاقية لنا حكم غاب عنا من الخلق في النهاية والتجزئة ، وأن العدد يبتدأ به من حد النهاية فيه من واحد إلى ما بعده من الأجزاء.
ولما كان للعدد أول يبتدأ به كان آخر إليه ينتهي في حدوث بارز الصفحة مكشوف القناع من كل جهة والحمد لله على ما وفق له.
Shafi 21
فصل قال المتأمل: قول الشيخ أبي المنذر هذا كاف في تعرف الحق المسألة الجوهرية غير أن فيه معاني دقيقة ومقاصد عميقة يقصر عن دركها أكثر عقلاء أهل دهرنا وينبو عن التواصل إلى غوامضها أفهام أهل عصرنا [14] إلا من مده الله بنور مبين وعقل راجح وهدى ويقين، وذلك لقلة منافستهم في تعليم الأصول واستهجانهم التغلغل على مثل هذه الفصول. فنحب الآن أن نوضح ما قبين لنا عرفانه من طرقها ونكشف ما ظهر لنا من خفي مستغلقها، شكر الله تعالى على ما أنعم فهدى إليه من الدين وفهم، لا اجتراء على المسلمين وآثار، ولا ادعاء للحوق منارهم، فقد قيل على دين أن يدين لله بكتمانه، ما لم يحتج إليه وهذا موضع الحاجة الداعية لظهور الحادثة الداهية.
وتقتصر على بعض الشروح اكتفاء عن التطويل وتوضح شيئا مقنعا عن التفريع والتأصيل، إذ لو استقصينا مقتضى كلمات الشيخ أبي المنذر هذه لا حتاجت إلى مصنفات كثيرة كان تحت كل نقطة منه تحتج إلى أبواب كثيرة، ذلك ما لا نبلغ نحن إليه فنبدأ فيه بفصل فصل ولأصل لننتهي إلى نفس المسألة الجوهرية إذ الكلام فيما لا يفهم هذيان والمسامحة في الدين عدوان والله القوى وهو المستعان وبه التوفيق.
الباب السابع
باب بيان حدوث العالم من كلام
الشيخ أبي المنذر بشير بن محمد بن محبوب
قال التأمل: أما قوله: وبعد بيان في حدوث العالم فإن البيان هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز الوضوح والعالم عبارة عن كل محدث.
وفي كتاب ((الأكلة)) قال بعض العلماء: وهو من قولهم علم الشيء، أي دليله يقال علم الصحة كيت وكيت، يريدون ما يدل عليه على ما هو به. قالوا: فلما لم يكن من المخلوقات إلا ما يدل على أن له خالقا صانعا سمى الجمع عالما لدلالته على صانعه، فالعال هو المحدث والمحدث هو العالم.
مسألة: والعالم يقسم قسمين لا ثالث لهما، وهى الجواهر والأعراض.
Shafi 22
فالجواهر: يراد بها الموصوفات، والعرض: يراد به صفة الموصوفات من المخلوقات، كما تقول: الجوهر متحرك وصفته التي هي الحركة عرض.
وقال في كتاب ((الأكلة)): ولا يوصف القديم بالقدرة على غير هذين الجنسين وهما الجواهر والعرض، لأن ما عدا هذين الجنسين هو القديم سبحانه وصفاته ولا توصف بالقدرة في ذاته، قال المتأمل: في فوله القديم وصفاته نظر والله أعلم.
قال الناظر: أحسبنه القاضي أبا محمد نجاد لأنه مؤلف كتاب ((الأكلة)) والذي يوجبه النظر عندي أن هذه المسائل من مسائل المحال، كما أن سائلا لو سأل: هل [15] يقدر الله أن يخلق مثله؟ كان الجواب مثل الأول ولا فرق في ذلك عندي والله أعلم.
قال المتأمل: انظروا أيها المسلمون إلى هذا الأثر فإنه يؤيد قولنا لأن كل مخلوق ما فلا بد أن يكون صفة أو موصوفا فكل موصوف جوهر وكل صفة عرض.
ولم تكن الحركة عرضا لأنها حركة ولا السكون، بل لأنهما محدثان لا يقومان بأنفسهما، فكل محدث لا يقدم بنفسه فهو عرض. كذلك لم يكن الحديد جوهرا لأنه حديد ولا الخشب جوهرا لأنه خشب ولا القطن جوهرا لأنه قطن، بل لأنه محدث متحيز، إذ لو صح أن يكون الحركة عرضا لأنها حركة لبطل أن يكون السكون عرضا، كذلك لو كان الحديد جوهرا لأنه حديد لبطل أن يكون الخشب جوهرا وكذلك ما أشبهه.
وسيأتي بيان الجوهر والعرض في موضعه إن شاء الله عز وجل.
وفي هذا بيان أن جمع ما في السموات والأرض وما بينهما من الحيوان والموات (1) والجماد عالم بحدوثه والله أعلم.
Shafi 23
مسألة: أما حدوث العالم فوجوده بعد عدم وحدوثه إيجاده بعد عدمه. قد اختلفت عباراتهم في حد المحدث فقيل: المحدث ما لو جوده أول، أو الموجود بعد أن لم يكن. وقيل: الكائن بعد أن لم يكن، وقيل ما لم يكن ثم كان. وفي ذلك أقاويل أخرى كثيرة تركتها. قال بعض وهذه كلها حدود صحيحة لا طرادها وانعكاسها والله أعلم الطرد والعكس: والذي عندي أن اطرادها فهو قولك كل ما لوجوده أول وهو محدث، وكل محدث فلوجوده أول، وكذلك سائر ما ذكر من الحدود. وأما انعكاسها فنحو قولك كل ما لا أول لوجوده فليس بمحدث وكل ما ليس بمحدث فلا أول لوجوده، وكذلك سائر هذه الحدود والله أعلم.
مسألة: ووجدت أن الإحداث هو جعل ما لم يكن فكان، وعلى هذا فالجوهر والأعراض والأجسام لم تكن ثم كانت. والأحداث بمعنى الاختراع والإبداع. ووجدت أن الإحداث والخلق والاختراع والجعل والفعل والابتداع والإنشاء بمعنى واحد ولا فرق بينهن. وعندي أن في الجعل نظرا والله أعلم.
لأن الجعل خلق وغبر خلق، وقد يكون بمعنى التصيير. ولهذا قال أصحابنا: أن القرآن غير مخلوق وأن لا دليل على خلقه في جعل الله إياه.
قال المتأمل: وأما [16] قوله وأجزاؤه، فالأجزاء جمع جزء، والجزء الطائفة من الشيء، أجزاء العالم جواهره وواحد الجواهر جوهر، وواحد الأجزاء جزء.
مسألة: الجواهر في كلام العرب الأصول ومنه يقال جوهر حسن أي أصله حسن. بيان ذلك أن جوهر ثياب القطن هو القطن نفسه، وجوهر ثياب الكتان هو الكتان نفسه، وجوهر ثياب الإبريسم
(2) هو الإبريسم نفسه، وجوهر السيوف وما أشبهه من السلاح وغيره من آلات الحديد هو الحديد نفسه، وما أشبهه ذلك من المتحيرات القائمة بأنفسها فجوهرها هو نفس ذاتها والله أعلم.
مسألة: في حد الجوهر: وقد اختلفت عبارات المتكلمين في حد الجوهر فقال بعضهم: هو الجرم المتحيز والمراد بالتحيز الشاغل للجهة الحاصل فيها عن حصول جوهر آخر فيها، لأنه لا يصح حصول اجتماع جوهرين في جهة واحد. فصار لذلك حائزا للجهة التي فيها، قد اختص بها وحصل فيها. والحيز هو الجهة والجهة المكان، والله أعلم.
وقال بعض: حد الجوهر أن يكون أصلا للجسم، قالوا: ولذلك قال العرب: فعل فلان يدل على جوهرية فيه، وجوهر هذا السيف جوهر حسن وهو صحيح.
Shafi 24
وقيل: الجوهر ما يعرض فيه العرض ويتغير به من حال وهذا صحيح. وقيل الجوهر ما كان أقل قليل وأصغر صغير حجما. قال بعض: وهذا أشد العبارات في معنى الجوهر لأنه جامع مانع شديد لأن العدم لا يدخل فيه إذ العدم لا حجم له (3) والقديم لا يدخل فيه لأن القديم لا حجم له.
والجسم لا يدخل فيه لأنه ليس بأصغر صغير حجما فصارت هذه العبارات عبارة شديد في تحديد الجوهر مقصورة عليه يجمع ما في مهنا ويمنع أن يدخل فيه ما ليس في معناه وهذا حسن.
قال بعض: حقيقة الجوهر الواحد عند أصحاب الأصول هو الجزء الذي لا يتجزأ. قال القاضي أبو زكريا يحيى بن سعيد (4) في جوابه غلى الإمام الخليل ابن شاذان (5)، قال بشير بن محمد بن محبوب: هو الجزء الذي لا يتجزأ وهذا عندي هو الصحيح، ذلك أن كل شيء يتجزأ فأقله شيئان لنه إن كان شيئا من جهة فهو شيئان من جهة [17] الجوهرية والجوهر فلفظه لفظ الواحد، والواحد في الحقيقة هو الذي لا يتجزأ. بيان ذلك أن الجسم قد يقع على أقل طويل عريض عميق فهو من حيث الجسمية شيء واحد حيث الجوهرية أشياء.
الدليل على ذلك: أنه متى فارفه أحد أجزائه، التي بها كملت أوصافه وهي الطول والعرض والعمق، ارتفعت الجسمية منه ولم ترتفع الجوهرية لأنها هي الأعيان المرئية، والأعيان المرئية لا تزول إلا بزوال ذواتها فصح أن التجزؤ إنما يقع على اجتماع الجوهر، فما كان الشيء جوهرين إلى ما فوق ذلك فهو يتجزأ لعلة اجتماع الجوهرين. فأما إذا كان جوهرا واحدا فكيف يتجزأ؟ وهذا بين عند العقلاء، وسيأتي شرح التجزؤ ومعناه فيما بعد إن شاء الله. فإذا ثبت أن حقيقة الجوهر ما لا يتجزأ كان الكلام في إضافة القدرة إلى لا شيء وسيأتي ذلك إن شاء الله.
Shafi 25
مسألة: ووجدت عن القاضي أبي زكريا يحيى بن سعيد في جوابه إلى الخليل ابن شاذان أن الجواهر ليست أجناسا مختلفة بل كلها متماثلة في أنفسها فإنما تختلف أحوالها التي لا يرجع غلى ذواتها، وسبب الاختلاف يكون راجعا إلى ما يحل فيها من لأعراض فإذا اختص بعضها بالسكون ببعض الأعراض كانت ساكنة، فإذا اختص ببعض آخر وصفت بأنها مجتمعة، فإذا وصفت بشيء آخر وصفت بأنها متفرقة. كذلك الأسماء تختلف عليها باختلاف ما يختص من الألوان. فما اختص بالسواد بأنه أسود إلى غير ذلك من سائر الأشياء فإذا (6) ...
الباب الثامن
باب بيان الأعراض وضروبها من كلام
الشيخ أبي المنذر بشير بن محمد ين محبوب
قال المتأمل: وأما قوله بتعاور الحوادث له ولها فيه، فالتعاور بمعنى التعاقب. يقول: تعاور القوم فلانا فاعتوروه، إذا تعاونوا عليه، وكلما كف عنه واحد ضرب آخر، وتعاورت الرياح، رسمها حتى عفته أي تواطبت عليه: قال الأعشى:
دمنة قفرة تعاورها الصيف ... بريحين من صبا وشمال
مسألة: الحوادث جمع حادث وهو ما يحدث في الجواهر من الأعراض وقد تقدم ذكر الحدث وفروعه في باب [18] بيان العالم، إنما سمى العرض عرضا لأنه يغرض في الجواهر أي يوجد فيها: لأنه يستحيل بقاؤه.
مسألة: وأما حد العرض فقد اختلف الناس فيه اختلافا كثيرا فقال قوم: ما عرض في الجوهر، قالوا: فهذا صحيح لأن كل ما عرض في الجوهر فهو عرض وما لا يعرض في الجوهر فليس بعرض. وقيل: العرض ما قام الجوهر: قال بعضهم: هذا صحيح لأنه لا يقدم بالجوهر إلا ما كان عرضا، وقيل: العرض ما لا يستغني عن محل يحله. وقيل ما لا يصح بقاؤه وقتين. وقال بعض: الأول أصح لأن الحدود لا تضرب بلفظ النفي وكل حد بلفظ الإثبات فهو أصح مما هو بلفظ النفي، وقيل: العرض ما تغير به الجوهر من حال على حال.
Shafi 26
وقيل: ما يستحيل وجوده في غير حال حدوثه، وحد العرض عند الأشعري ما لا يبقي وقتين، وله ذلك علة منقوضة عليه في كتاب ((الأكلة)) بالعكس تركنا ذكرها احترازا من الإطالة. وعندي أن بقاء الألوان مع كونها عرضا كاف في بطلان فوله إن شاء الله.
مسألة: قال القاضي أبو زكريا يحيى بن سعيد في جوابه إلى الخليل بن شاذان أن الأعراض ليست بخنس واحد، بل هي أجناس كثيرة ففيها المتماثل وفيها المختلف وفيها المتضاد وهكذا وجدت في كتاب ((الأكلة)) وغيره، ووجدت أن جميع الأعراض متغايرة.
تفسير ذلك من كتاب ((الأكلة)): المثلان ما سد أحدهما مسد صاحبه وناب منابة في جميع الصفات والأحكام، وقيل ما جاز على أحدهما جميع ما يجوز على الآخر، مثاله السوادان والبياضان والعلمان والقدرتان.
الخلافان: وأما الخلافان فما خالف أحدهما الآخر في وصف واحد، قال: وهذا صحيح لاطراده وانعكاسه.
قال المتأمل: وعندي أن ما خالف أحدهما الآخر في وصف ما أصح، لأنه إذا قال ما خالف أحدهما الآخر في وصف واحد ففيه إشكال أن يكون إذا خالفه في وصفين يصح أولا، وأما إذا قال في وصف ما دخل فيه الاثنان وأكثر والله أعلم.
وقيل الخلافان: ما لم يسد واحد منها مسد صاحبه ولا ينوب منابة في جميع صفاته وأحكامه. فال بعض، والأول أصح لأنه بلفظ الإثبات [19] وهذا بلفظ النفي، وقيل، الخلافان هما الغيران اللذان اجمتاعهما في ذات واحدة ويفيد كل واحد منها غير ما يفيد الآخر.
مثاله: العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر وما أشبه ذلك.
الضدان: أما الضدان فهما الذاتان اللتان لا يجوز اجتماعهما في محا واحد كالسودا والبياض يتضادان لأنه لا يجوز تقرير وجودهما في محل واحد حتى تكون الذات الواحدة سوداء بيضاء في حال واحدة، أو متحركا عن مكان ساكنا فيه في حال واحدة، أو مجتمعا مع شيء مفارقا في حال واحد.
Shafi 27