Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Nau'ikan
تعتبر التكنولوجيا نتيجة لسعي الإنسان لتحسين جودة حياته والتغلب على الظروف القاسية للبيئة التي وجد نفسه فيها، سواء أكانت من اختياره أم لا. فقد أنتج الجمع بين المهارة اليدوية والعقل الذكي نتائج مذهلة؛ فلم يكن ممكنا لأي من التطورات التي ذكرت في الفصول الثلاثة السابقة أن تحدث من دون وجود معرفة فنية. ففي المباني كان تركيب الجدران الحجرية، واستخدام السواكف في المداخل والنوافذ، وتشييد الدعامات للأسقف وتركيب المزاريب، كلها أمورا أساسية. ومن أجل صنع الأسلحة والأدوات والمصنوعات، مثل أواني الشرب والحلي، ظهرت المشغولات المعدنية؛ فكان صهر المعادن التي يعثر عليها في الصخور من أجل إنتاج البرونز (مزيج من النحاس والقصدير) خطوة كبيرة للأمام.
نادرا ما يوجد النحاس أو القصدير في الطبيعة؛ فغالبا ما يعثر عليهما مختلطين بعناصر أخرى.
1
ويؤدي التسخين في وجود الكربون إلى تحرر المعادن. على الأرجح لاحظ الإنسان الأول هذا في يوم ما، حيث ظهر بعد إشعال نار شديدة على بعض الحجارة أو الصخور، بريق المعادن. ولدهشته من الأمر كرره على نطاق أوسع، واكتشف أنه يستطيع الطرق على المعدن وتشكيله بأشكال مختلفة. وسميت الفترة التي حدث فيها هذا الاكتشاف، والتي كانت بين 3500 و3000 مضت، في الهلال الخصيب في بلاد الرافدين ومصر، وفي شرق أوروبا وفي جنوب شرق آسيا، بالعصر البرونزي. وفي أمريكا لم يظهر استخدام البرونز حتى القرن الخامس عشر، عندما أدخله الآزتيك.
في الأساس تشكل عملية التسخين نفسها في وجود الفحم النباتي أو فحم الكوك أساسا لعملية إنتاج الحديد، الذي يوجد أيضا في الطبيعة لكن ليس كمعدن حر، بل مخلوط بعناصر أخرى مثل الأكسجين أو الكبريت. يتمثل الاختلاف الوحيد في ضرورة وجود درجات حرارة أعلى من أجل إنتاج الحديد. بدأ العصر الحديدي في شمال بلاد الرافدين (الأناضول حاليا)؛ حيث أدخل الحيثيون صناعته في الفترة بين 1500 و1200 قبل الميلاد. انتشر غربا ببطء، وحل بالتدريج محل البرونز في صناعة أقوى الأسلحة والأدوات. وفي الصين، بدأ استخدام البرونز، ثم الحديد، على الأرجح على نحو مستقل بعيدا عن الأحداث في شرق البحر المتوسط. وفي الأمريكتين، لم يحدث أي استخدام للحديد على الإطلاق حتى وصول الأوروبيين. نتجت التقنيات التي شرحناها حتى الآن، والتي سنتحدث عنها بعد قليل، من التجربة والخطأ فقط، ولم يلعب العلم فعليا أي دور على الإطلاق في ظهور أي تقنية جديدة حتى فترة متقدمة من القرن الثامن عشر.
على العكس، أثبتت محاولات مضاهاة التقنيات - التي استخدمها الإنسان الأول لنقل الحجارة الضخمة من مكان لآخر في ظل الإدراك المتأخر للعلوم الهندسية في القرن العشرين - أنه أمر صعب؛ فقد حاولت فرق من المتحمسين إعادة تجسيد مآثر أسلافهم في نقل كتل الأهرامات المصرية، وقواعد التماثيل في ستونهنج، والتماثيل العملاقة التي شيدها الأولمكيون وأهالي جزيرة الفصح، باستخدام المواد التي كانت متاحة في هذه العصور فقط. وقد استطاعوا في كل حالة بالكاد تحريك النسخ طبق الأصل بضعة أمتار على الأرض.
2
وكانت محاولة نحت ملامح على الجلمود مثلما فعل الأولمكيون وأهالي جزيرة الفصح محبطة تماما مثل محاولة نقله وتشييده؛ فلم يترك النحت ساعة بعد ساعة بالكاد أثرا. فمن أجل سحب الكتل الحجرية الضخمة (التي نحتت فيما بعد على شكل حيوانات مخيفة) التي تحيط بدرجات السلم المؤدية للمعابد الموجودة داخل المدينة المحرمة، توصل الصينيون إلى حل أكثر إبداعا؛ فحفروا قناة تمتد من المحجر حتى بكين وملئت بالمياه، وعندما حل الشتاء تجمدت المياه فيها. فلم تتطلب دحرجة الكتل على سطحها مجهودا كبيرا (فسبقت بذلك شرح مبادئ الاحتكاك بأكثر من ألف سنة).
في القرن الثامن عشر والتاسع عشر قادت بريطانيا وألمانيا العالم في مجال التكنولوجيا البازغ؛ فقد أدى اختراع المحرك البخاري، على يد الاسكتلندي جيمس واط في عام 1769 والمستوحى من محرك العارضة الذي صممه توماس نيوكمان في عام 1712 لضخ الماء من المناجم، إلى ظهور قاطرات بخارية وسفن بخارية في مطلع القرن التاسع عشر. وفي عام 1829 بنى جورج ستيفنسون وابنه روبرت أول قاطرة «ذا روكيت» في لانكشاير. سيطرت السكك الحديدية على التنقل، سواء في أوروبا أو آسيا أو الأمريكتين، على مدى السنوات المائة التالية. وظهرت أول صبغة اصطناعية - الموفين - بالصدفة في عام 1856؛ فقد كان ويليام هنري بيركن - عالم شهير في الكيمياء العضوية - يحاول تصنيع الكينين المضاد للملاريا (الذي كان يستخرج في السابق من لحاء شجرة الكينا) من الأنيلين، فظهرت بدلا من ذلك أمامه فوضى زرقاء داكنة في وعاء التفاعل. أدرك أهمية اكتشافه، ومن هذا الاكتشاف العلمي ولدت صناعة الصبغات الصناعية.
نرى مثالا على التكنولوجيا التي نشأت مباشرة من اكتشاف علمي في اختراع الأسمدة الصناعية؛
Shafi da ba'a sani ba