مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
ورحمة ربك خير مما يجمعون
... الحمد لله الذي حبب إلينا المدينة، وجعلها من أفضل البقاع الأمينة، فنحن في جوار هذا النبي الأمين في حصن جمع بين شرفي المكان والمكين.
... أحمده على أن خصنا بملازمة بابه، والوقوف على أعتابه، حمد من علم أن الكل من عنده، وإن من شيء إلا يسبح بحمده.
Shafi 4
وإني إذا لم أجتمع بجنابه ... ... أمر على أبوابه فأسلم ... وأشكره على نعمة الجوار، وجار الدار أحق بدار الجار.
والجار محسوب على جيرانه ... جار الكريم مسامح من ذنبه
... وأشهد أن سيدنا وسندنا محمد عبده، ورسوله، وحبيبه، وخليله، المبعوث بأشرف الأديان، وأكمل الملل، النبي المرسل الكريم المفضل، المنادى في الأزل:
... (( يا محمد قد اصطفيناك في الكتاب الأول، فما أعظم قدرك عندنا، وأفضل )).
... آدم فمن دونه تحت لوائك يوم الأرض تبدل، لك الشفاعة، واللواء والحوض، وكل من الأنبياء يستغيث لنفسه ويسأل، فما أسعد من توسل به، ونادى الشفاعة، يا من عليه في الشفاعة المعول، الشفاعة يا من يستغيث به المكروب إذا ضاقت به الحيل، الشفاعة يا من قال له جبريل عليه السلام: ها أنت وربك، فدنا، وتدلل.
... والصلاة والسلام على من أبرز من خدر الغيب شموس معاني عباراته الزاخرة، وأطلع من أفق المثاني أقمار لطائف إشارته الفاخرة.
اللهم إنا نستوهبك صيب صلواتك، وطيب تسليماتك لهذا السيد الذي زينت سماء معجزاته بكواكب خطابك الثاقب، ونشرت مناشير بيناته في آفاق المشارق والمغارب، ولمؤازريه الذين نثروا شمل أعدائه، ونظموا قواعده.
... صلاة تكون لنا صلة، وبأجمل العوايد عايدة، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبب تأليف الكتاب:
... أما بعد: فلما كانت المدينة الشريفة مسقط رأسي، ورياضها الوريفة منبت غراسي.
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... ... وأول أرض مس جلدي ترابها
فلا برحت تزهو على الأفق بابها ... ... ولا زال يهمي في الرياض سحابها
... وكيف لا ؟ وهي مهابط الوحي، ومنازل النبوة ومساقط الكرم، ومغارس الفتوة، ومنازه النفوس والخواطر، والرياض الحسنى، بل الروضة الغناء بكرتها المواطر.
بلدة ما رأيتها قط إلا ... ... قلت هذي أرضي ومسقط راسي
Shafi 5
لست أشكو بها من العيش إلا ... ... أنني لا أزال في جلاسي بذلوا لي من السماحة وما ود ... ... وهو منهم يزيد في إيناسي
فنهاري في حرز طه مقيم ... ... ومسائي ما بين ورد وآس
يا خليلي من دون كل خليل ... ... وأنيسي من دون أهلي وناسي
بلغ المصطفى بها من سلام ... ... وثناء معطر الأنفاس
فهو سؤلي من الأنام جميعا ... ... طوق جيدي أمنيتي تاج راسي
لا تحيل الأيام صدق ولائي ... ... واعتقادي في طيب أصل غراسي
فعلى كل من يحل بناديه ... ... وجمع الرفاق والجلاس
من إله الأنام ألف ألف ... ... ... من سلام نام بغير قياس
... ولقد جاء في الأثر عن سيد البشر: ((حب الوطن من الإيمان)) ومن المحبة نشر المحاسن، والتشبيب بذكر الأماكن.
أعد ذكر من حل الغضا يا معذبي ... ... وإن أضرموا بالأضالع والصدر
ولا تنس سكان العقيق وإنهم ... ... على وجنتي أجروه في مدة الهجر
... خطر ببالي، ولاح في خيالي أن أذكر بعض محاسنها، وأتعرض لذكر بعض أماكنها، باللوى والعقيق، والنقا، والفريق.
طور يماني إذا لاقيت ذا يمن ... ... وإن لقيت معديا فعدنان
منهج المؤلف:
... وقد بدا لي أن يكون هذا المجموع البديع وصفه، والمنيع جمعه مبنيا على مقالتين وخاتمة، ومن الله تعالى المسؤول حسن الخاتمة، فإذا تجلت شموسه انجلت عروسه.
اسم الكتاب:
وسميته: (( الجواهر الثمينة في محاسن المدينة )) وبالله التوفيق.
محاسن تهدي المادحين لوصفها ... ... فيحسن فيها منهم النثر والنظم
... وإذا نفحته نوافح القبول من حضرة السيد الرسول، وعوذت محاسن هذه الرسالة بالمرسلات، وأرتشف من زهر منثورها المطلول قطر النبات، فالأولى بها حيث اشتملت على أخبار ديار المصطفى، وهو في الحقيقة حبيب القلوب على الإطلالة، وأنبأت عن آثار أزهار مآثر النبوة، والصفاء، ولا غرو أن تتأرج بهذه الأنفاس المدينة أرجاء الآفاق.
Shafi 6
كرر حديثك مخطئا ومصيبا ... ... إن كان عهدك بالديار قريبا فلقد رجعت إلى القلوب بروح ما ... حدثت أرواحنا لنا وقلوبنا
... إن تلحظها عيون العناية الرحمانية، وتشملها سوابق الرعايا الصمدانية، فتندرج في خزائن الملك المؤيد بالسعد، فلا برح قائد اهتمامه المسدد بالتوفيق إلى أقوم طريق، فلا زال رفيقه في رحيله، ومقامه. أو كما قال:
ملك كأن الشمس ضوء جبينه ... ... متهلل الإمساء والإصباح
وإذا حللت ببابه ورواقه ... ... ... فانزل بسعد وارتحل بنجاح
وقال أيضا:
ملك إذا عاينت نور جبينه ... فارقته والنور فوق جبيني
ولو التثمت يمينه وبرزت ... ... من أبوابه لثم الأنام يميني
... أعظم من تفخر الأساطين بتقبيل أعتابه، وتتباهى السلاطين بخدمة أبوابه، أكرم من أنام الأنام في ظل عدله، وأحيا ميت الإعدام بوافر إحسانه، وأفضله، مظهر آيات الألطاف الربانية، مصدر أنوار العنايات الرحمانية، مطرح أزهار الملكوتية، مطمح الأنظار اللاهوتية، باسط بساط العدل والإنصاف، هادم أساس الجور والاعتساف، ناصر الشريعة القويمة، مالك المسالك المستقيمة، ظل الله تعالى الوريف، الممتد على القوي والضعيف، صاحب القران السعيد، وإسكندر الزمان المديد؛ الذي أجار الأنام من جور الأيام، وأسبل على الأمة سوابغ الكرم والنعمة، واستقامت له الأقاليم بأقلامه، وأمنت الأيامى في أيامه، ناشر ألوية العدالة والأمان، الممتثل لنص: ( *إن الله يأمر بالعدل والإحسن وإيتآىء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون) [النحل: 90].
نادى به الملك حتى قيل ذا ملك ... ... دنا به العدل حتى قيل ذا بشر
Shafi 7
سقى به الله دنيانا فأخصبها ... ... والعدل يفعل ما لا يفعل المطر ... هو مولانا السلطان الأعظم، والخاقان المكرم، صاحب البند والعلم، والسيف والقلم، سلطان البرين والبحرين، خادم الحرمين الشريفين، السلطان ابن السلطان، الملك، المظفر، المنصور، المعان، مولانا السلطان مراد خان ابن السلطان أحمد خان بن السلطان محمد خان بن السلطان مراد خان بن السلطان سليم خان بن السلطان محمد خان بن السلطان مراد خان بن السلطان سليم خان بن السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان بن السلطان محمد خان بن السلطان مراد خان بن السلطان محمد خان بن السلطان بايزيد خان بن السلطان مراد الغازي بن السلطان أورخان بن السلطان عثمان خان، عليهم الرحمة والرضوان.
أولئك الناس إن ذكروا ... ... ومن سواهم فلغو غير معدود
لو خلد الله ذا عز لعزته ... ... كانوا أحق بتعمير وتخليد
... اللهم أيد الإسلام وأعل كلمة الإيمان بدوام دولة هذا الملك؛ الذي أقيمت بدولته شعائر الدين، وأخمدت بصولته نار الملحدين، وعمرت بأيامه البسيطة، وجعلت ملائكة النصر برايته محيطة.
... اللهم اجعل فروع دولته في أيامه الزاهية الزاهرة يانعة، وبهجتها فوق مطالع البدور الباهية الباهرة طالعة، وزد في شأنه عظمة، وعلوا، واجعل الجوزاء دون منازل مقداره عزا، وسموا. ما دامت خيول عزمه في ميادين الظفر سابقة، ورياض هممه بغيوث كرمه ناضرة، باسقة، وهمته العلياء في البأس والندى، وفي الفضل لم تبرح مدى الدهر فائقة، فإن براعة استهلاله - زاد الله تعالى في إجلاله - براعة أولى ببديع نظامه، ولم تتخلص في الحقيقة إلى مديح غيره، ولا تكلمت إلا بحسن ختامه، وحيث كانت الثريا أقرب تناولا من ذلك المرام كما تقضى بصدق هذه الدعوى عز شرف المقام.
Shafi 8
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال وكان يقال: (( تمني العلا سهل، وإدراكه صعب ))، ومن تجاوز حده تعرض بجمعه للخطب، وكان يقال: أين الماء من السماء، وأين موقع السيل من مطلع سهيل؟ أين ورقاء العرش من عنقاء الفرش ، أين من فلك المعاني من فلك الصور، وأين من بحر اللآلىء من بحر الفكر، أين مطلع صباح البصائر من مطلع صباح الإبصار، هذا أفق يتعاقب فيه شمس وقمر، وذاك أفق كله شموس وأقمار.
ودون رسم الديار حد سيوف ... ... مانع من دنا لسجف خباء
لاتخافوا لو دنوت إليها ... ... ... أحرقتني أشعة الأضواء
... وبالجملة: فما مزية التقرب إلى ابن داود برجل الجراد، والتشخب على البحور بأوشال الثمار؟ وكيف أعرض على روح القدس وحيا، وأجلب إلى صنعاء اليمن وشيا؟ أم كيف أخلع ربقة النهى، وأقابل بين البدر والسهى؟ أين الهباء من البهاء؟ وأين الأغبياء من النبهاء؟ وحيث وقفت الأماني دون تلك المآرب لعزة هاتيك المطالب.
وقلت لأصحابي هي الشمس ضوؤها قريب ولكن في تناولها بعد
... فلتكن خدمة لخزانة مولى، لا زالت عتبته العلية كعبة فضل يعول عليها، وسدته السنية مدينة علم يهاجر إليها، ولا برحت وفود العلماء عاكفة بناديه، وألسنة الرجاء من آفاق الثناء تناديه؛ بسلام فواتح أشواقه أنضر من بهيج الأزهار، وفواتح أوراقه أعطر من أريج الأسحار، مشفوعا بدعاء يقرع أبواب الإجابة بأنامل الرجاء، وثناء يملأ بطيب أرجه سائر الأرجاء.
أبلج لا يخجل راجي فضله ... ولا يرى الوصمة في سؤاله
أكفه على العطا قد طبعت ... والطبع لا يطمع في انتقاله
سلني به يا من يساميه أقل ... هذا مجال لست من رجاله
... هو مولانا، وأحد العلماء، وماجد العظماء، ابن عباس العلوم، محرر المنطوق والمفهوم، إياس القضاء ذكاء وإفادة، وأويس(1) الزمان عفة وزهادة، مجمع المفاخر والألقاب الفواخر، المحقق دعوى: كم ترك الأول للآخر!
Shafi 9
... سل عنه، وانطق به، وانظر إليه تجده ملء المسامع والأفواه والمقل، أكرم به من قاض تشرفت بأحكامه الشريفة مصر المحروسة، وما والاها، واستوفى المستحق بها من ذمة الزمان ديونه إذ تولاها، فلله أنداد نعمه، ومداد قلمه إذ لم يشكل أمر إلا أزاله برؤوس أنامل إبهامه، ورد الضالة بحسن تدبيره إلى أهلها، وزودهم بالكرامة إنعامه، وكيف لا؟ وهو القائل فيه بعض واصفيه:
هنيئا لمصر إذ حوت قاضيا حوى ... ... كمالا على تفضيله انعقد النص
فلو ملئت كتب النحاة بنعته ... ... لما جاز أن يجري على نعته النقص
... فهو الغني عن الإطناب بالألقاب، والمستغني بأوصافه الحسان عن ترجمان البيان، المحظوظ، الملحوظ بعنايته المعيد المبدي، مولانا شعبان أفندي، لا زال الصدر المعالي بمكانه في انشراح، وفوائد وقلائد معاليه في أبهى وشاح، ولا برح الزمان ينفذ ما صدر من قضائه، وحكمه، والله تعالى يزيده بسطة في علمه، وجسمه، مصيبا به الأغراض في مرام المرام، محسنا مطابقته في النقض والإبرام. فإنه أعز الله تعالى ذاته وأطال، وأطاب حياته، لا جملة من إخباره إلا ولها محل من الإعراب عن المقصد الجليل، ولا ضمير إلا هو في اعتقادي على النحو القديم، والرأي الجميل. وما ألطف ما قال:
فلا زال ميمون اليمين بهمة ... تعلمنا بالفعل كيف نقول
هذا، ولما كان من لازم من تمسك بأهداب الآداب اطلاع مواليهم على محاسن ما يستطاب، ولا زالت السنة طارئة، والعادة جارية بإهداء النفائس إلى النفيس من المرؤوس إلى الرئيس.
وأحسن ما يهدى إلى المرء ماله ... إليه ارتياح وهو ذكر الحبائب
الإهداء:
Shafi 10
... ولم تزل الفضلاء في كل مكان وزمان، والنبلاء في كل عصر وأوان، يتقربون إلى خواطر مخاديمهم بأحسن ما يؤلفون، وأبدع ما يصنفون، فلا غرو في إهداء هذا الوضع البديع، إلى ذلك الجناب المنيع، فإن لكل جديد بهجة، ولكل ناطق لهجة، والجزء كل عند الكريم، والقليل جليل مع ملاحظة التعظيم، وإن كنت في ذلك كمن أهدى الزهر إلى غصنه، والقطر إلى مزنه.
والبحر يمطره السحاب وماله ... ... من عليه لأنه من مائه
... هذا، ولقد عرضت حكمة على لقمان، وأهديت جرادة إلى حضرة السيد سليمان. قال بعضهم في صدر كتاب له: ولما كانت الهدايا تزرع الحب وتضاعفه، وتعضد الشكر وتساعفه، أحببت أن أهدي إليه هدية فائقة ، تكون في سوق فضائله نافقة، فلم أجد إلا العلم الذي شغفه حبا، والحكم التي لم يزل بها صبا، والأدب الذي أتخذه كسبا، ورأيت فإذا التصانيف في كل فن لا تحصى، والإملاء من سطور العلماء، وطروس الحكماء أوسع دائرة من أن تستقصى، إلا أن التأنق في التحبير من قبيل أبرز الحقائق في الصور، ولكل جديد لذة، ولا خلاف في ذلك عند أهل النظر.
ما كل من حمل اليراع بكاتب ... ... خطا يباري بهجة وبيانا
أخذ العصا بالكف ليس بمعجز ... ... الشأن في تحويلها ثعبانا
... وكان يقال: الوضع وضعان، وضع له افتخار، ووضع له تجار، وحسن التأليف مواهب، وللناس فيما يعشقون مذاهب، ومعلوم أن الجنون فنون، وكل حزب بما لديهم فرحون.
وقد يلام الفتى في الشيء يصنعه ... ... وليس يلحقه لوم إذا تركه
... هذا مع اعترافي بأني في فنون الذوق قليل البضاعة، وفي شجون الشوق كليل الصناعة، ولكن دأبي التقاط درر العبارات من حياض العلماء، وديدني أخذ غرر الإشارات من غياض الحكماء، فهو لسان إخوان الصفا لا لساني، وبيان خلاصة الوفا لا بياني.
كمن يحدو وليس له بعير ... ومن يرعى وليس له سوام
Shafi 11
ومن يسقي وقهوته شراب ... ومن يدعو الضيوف ولا طعام وبالجملة: فإن المرء ما بين هاج ومادح، ومنتصر وقادح.
على أنني لم أخل من حاسد ومن ... ... عدو ولكني له باسط العذر
... وهذه بنات فكر عاجز، وبنيات ذهن بينه وبين المعاني حاجز، قد ترهبت إما من الكساد فلبست من المدار مسحا، أو من الوجل فجاءت تمشي على استحياء صفحا، وقد أطاع القول على هذا العذر المنصوص، وأبث كؤوس المعاني إلا أن ترقص بما فيها رقص القلوص.
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا ... ... جبال حنين ما سقوني لغنت
ومن وقف على تحقيق هذا الكلام أنشد في تصديق هذه الدعوة إذا قالت حذام وإن كنت فيما أعاينه أتعوض عن الجوهر بالخرز، وأكتفي عن المعاني الجليلة بما هو سداد من عوزه، لكنني ممن يعرف الدر ولا يملكه، وينقل التبر وإن لم يسبكه. ولقد جاء بعناية الله تعالى ونظرته السعيدة نزهة للنظر، هذا وإن السعادة كما يقال لتلحظ الحجر.
فكأنهم من حسن رقة لفظه ... ذكرى حبيب فاق كل حبيب
ما شيق إلا صريع عنده ... ... ولشعره يشتاق كل لبيب
فليكفني كتابا بسببه ذكره الشريف يؤرخ، وكافور القرطاس بغالية أوصفه في معناه، ويضمخ.
ما تنسج الأيدي يبيد وإنما ... يبقى لنا ما تنسخ الأقلام
... فقد سارت شفاه الليالي بقاياه وأخلف بواسق النخيل وادياه، وعلى رفيقي خزامى بادية العربية في غضاضة دولة الإسلام، وإقبالهم على الوردة الفارسية في حدائق الكلام، مآرب تغذي الروح، وتهز العطف المروح، أفدتها من المستجن بطيبة طيبا، فشدت بها أيكة النطق على متن اللسان رطيبا.
Shafi 12
وإني على ما في حضرية ... ... يعجبني ظل الحنا المشرع ... وقد استقرت العزيمة على الاكتفاء بغيض من فيض، وطل من وبل، ونهر من بحر، إذ كل كثير عدو للطبيعة، وراكب سهوب الإسهاب مستهدف للوقيعة، وإنما يحمد المرء في اختصار القيل، وإلغاء القول النقيل، وأوجزت جمعي وفي الإيجاز فائدة، وللكرام من التطويل تصديع، على أني لا أزعم أنه جمع سلامة، ولا أدعي أنه صنيع فاضل يستحسنه النبيه، والعلامة، ولا فحوى البلاغة من بعد لم ينقطع وسلوك طريق الإيجاز أصلا ، وراء سالم يمتنع، ومن لي بخلو البال، واستقامة الحال، ومعاضدة الزمن الغشوم بانتقاء الهموم والشواغل، ومساعدة القدر بكف أذى اللثام، والأراذل، فآخذ في مصنوع الكلام، وأثني على ذلك المقام، وكيف تصفو القريحة وصفاء الوقت تكدره، وسيل المحن من أعلى الروابي تحدره. مع أني في زمن تشابه فيه الضاحك والباكي، وقل به الشاكر، وكثر الشاكي، وفيما دفعت إليه من المضائق، وحال دون آمالي من العوائق، ما يرتج به الكلام على الفصيح، ويشتبه الصواب على الحازم المشيح. وما أصدق ما قال:
إذا كان عون الله للمرء قائدا ... تهيأ له من غير سعي مراده
وإن لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده
وإن اعترافي بالتأخر حيث لا ... يقدمني فضل أجل وأرفع
... وكأني بالحواسد والعذال نسبوني في ذلك إلى المحال، وقائل قائلهم: مادح نفسه يقرئك السلام. فأقول: نعم يهدي من التحية والثناء ما تتأرج به الرياض باكرتها الغمام، والله الموفق للسداد، وعلى كرمه التعويل، وبواسطة لطفه التأميل.
من ص 3-36
تعريف المدينة لغة واصطلاحا:
Shafi 13
... المدينة من مدن بالمكان: أقام، أو: من دان؛ إذا أطاع، فالميم زائدة، وذلك لأن السلطان يسكن المدن، فتقام له طاعة فيها، أو لأن الله تعالى يطاع فيها، أو لأنه عليه الصلاة والسلام سكنها، فدانت له الأمم، وهي أبيات مجتمعة يجاوز حد القرى كثرة، وعمارة، ولم تبلغ حد الأمصار. وقيل: يقال لكل مصر مدينة، والمدينة علم على طابة، مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم وآله وسلم-، بحيث إذا أطلق هذا اللفظ لا يصرف إلا إليها، والنسبة إليها: مدني، وإلى غيرها من المدن: مديني، للفرق. كذا في الوفاء .
... والمدينة من الإقليم الثاني، وهو حيث يكون طول النهار الأطول ثلاث عشرة ساعة ونصف الساعة، ويرتفع القطب الشمالي فيه مقدار أربعة وعشرين جزءا وعشر الجزء، ومساحة هذا الإقليم: أربعمائة ميل، وفيه سبعة عشر جبلا، وسبعة عشر نهرا، وأربعمائة وخمسون مدينة. كذا في ((الخطط)) للمقريزي .
... دورة كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل، وذلك عن ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضع جبل على نقطة الأرض، وأدير الميل على الكرة حتى انتهى الطرف الآخر إلى نقطة الابتداء، كانت مساحة الجبل العدد المذكور، وكل درجة من درجات الفلك يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلا وثلثا الميل، كانت الجملة أربعة وعشرون ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ. وأعظم جبل على وجه الأرض ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ، ونسبة ارتفاعه إلى كرة الأرض سبع عشرة شعيرة إلى كرة قطرها ذراع، وغاية ما يرتفع الطير في الهواء اثني عشر فرسخا، وتنقطع الكيفيات من وراء ثمانية عشر فرسخا ، ولا يخلو وجه الأرض المعمور من الشمس في وقت أبدا، فالوقت الواحد يكون شروقا عند قوم زوالا عند غيرهم، غروبا عند آخرين. وأصغر كوكب يرى من الثوابت كالسهى أكبر من زحل، وزحل مثل الأرض إحدى وتسعين مرة.
Shafi 14
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للعين لا للنجم في الصغر ... مسألة : إن قيل : تقرر في الشرع، وفي علم الهيئة أن الأراضين سبع كالسموات، فلم يذكر في الكتاب العزيز الأرض؟ الجواب: إنه عليه وآله الصلاة والسلام رقى إلى السموات السبع فلتشريفها به ذكرت، أو لأن الانتفاع في أرض الدنيا فقط، بناء على أنها طبقات، ولم يتشرف به غيرها، وفي كتاب (( المواهب اللدنية )) قد جاء أن السموات تشرفت بموطىء قدميه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل لو قال: أن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء، لشرفها بكونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم حالا فيها لم يبعد، بل هو الظاهر المتعين، وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها، ودفنهم فيها، لكن قال النووي: الجمهور على تفضيل السماء على الأرض ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة في حرم المدينة.
... مسألة: هل للمدينة حرم كما لمكة أم لا؟ الجواب: إنها ليست بحرم عندنا والمراد من الوارد: الحرمة الحاصلة بتوطينه عليه وآله الصلاة والسلام إياها، ودفنه فيها عليه وآله الصلاة والسلام. ومعنى حرمت: أي: وجبت حرمتها وحماها بإقامتي فيها، وصارت حمى محروسا من الآفات، كما ورد: ((على كل ثقب منها ملك يحرسها)) ولذا يصرف عنها الدجال، يؤيد أنه كان يوجد صغيرا بالمدينة، وكان عليه وآله الصلاة والسلام يقول له: ((يا أبا عمير ما فعل النغير؟)) فلو كانت كمكة ما جاز ذلك . قال الملا علي قاري في (( شرح لباب المناسك وعباب المسالك)) عند قوله: وإذا أردنا من حرم المدينة المشرفة، أي: حولها من الأماكن المحترمة، إذ لا حرم للمدينة عندنا كحرم مكة في أحكامها، قلت: فيما ورد من الأحاديث في ذلك ما يقضي للمدينة بأنها حرم كمكة في أحكامها، وقد أطال الكلام على ذلك السيد السمهودي في تاريخه الوفاء، وأنشد عليه بعضهم:
إن المدينة لا أشك كمكة ... ... حرم ولكن بالنبي تفضل
Shafi 15
فهي الأمان لخائف ولعاكف ... فيها معاش ليس فيه معضل ... وفي الصحيح: ((اللهم إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة، وأنا حرمت ما بين لابتيها)) وعلى القول بأنها حرام فهي بريد في بريد، وذلك ما بين عير إلى ثور، وهذا بيان ما يحدها من الجنوب إلى الشمال، وهما مأزماها وما بين لا بتيها، أي: حرتيها الشرقية والغربية . ونظم من قال:
حرم المدينة حده فيما حكوا ... ... عير وثور قبلة وشمالا
واللابتان تحده يا ذا النهى ... ... شرقا وغربا فاعتمده مقالا
... مسألة: صح أنه - عليه وآله الصلاة والسلام - التفت إلى المدينة الشريفة وقال: ((إن الله تعالى قد برأ هذه الجزيرة من الشرك)) (4) قال بعضهم: قلت هنيئا لأهلها فإنهم برءاء من الشرك بشهادته(5) وقال بعضهم: هذا الأثر بشرى لهم بتسميتها دار الأبرار، ودار الأخيار، والعاصمة، والمرحومة، والمرزوقة، والناجية، والمقدسة، والجابرة، ودار السلام، وهذه أسماء لم تزدها معرفة، وإنما لذة ذكرناها .
وبالجملة فإن فضل المدينة لا ينكر، ومحاسنها الغراء لا تحصى، ولا تحصر، وجيران صاحب الحوض والكوثر المغفور من ذنبه ما تقدم وما تأخر، على يقين إن شاء الله تعالى من السلامة في المعاد، وثقة بالكرامة في يوم يقوم الأشهاد. وما أحسن ما قال:
تلك دار إن لم تكن هي ذات ... النفس مني فإنها مشتهاها
لو تمكنت أن أمضي بها العمر ... جميعا لما قصدت سواها
... وما أحسن ما قال الشيخ محمد البكري :
دار الحبيب أحق أن تهواها ... ... وتحن من طرب إلى ذكراها
وعلى الجفون متى هممت بزورة ... يا ابن الكرام عليك أن تغشاها
فلأنت أنت إذا حللت بطيبة ... وظللت ترتع في ظلال رباها
مغنى الجمال منى الخواطر والتي ... سلبت عقول العاشقين جلاها
لا تحسبن المسك الزكي كتربها ... هيهات أين المسك من رياها؟ !
طابت فإن تبغي التطيب يا فتى ... فأدم على الساعات لثم ثراها
Shafi 16
وأبشر ففي الخبر الصحيح مقرر ... ... إن الإله بطابة سماها واختصها بالطيبين لطيبها ... ... واختارها ودعا إلى سكناها
لا كالمدينة منزل وكفى بها ... ... شرفا حلول محمد بفناها
حظيت بهجرة خير من وطىء الثرى ... وأجلهم قدرا فكيف تراها؟!
كل البلاد إذا ذكرن كأحرف ... في اسم المدينة لاخلت معناها
حاشا مسمى القدس فهي قريبة منها ... ومكة إنها إياها
لا فرق إلا إن ثم لطيبة ... ... مهما بدت يجلو الظلام سناها
جزم الجميع بأن خير الأرض ما ... قد حاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بساكنها علت ... كالنفس حين زكت زكا مأواها
وبهذه ظهرت مزية طيبة ... ... فغدت وكل الفضل في مغناها
حتى لقد خفيت بروضة جنة ... ... الله شرفها بها وحباها
ما بين قبر للنبي ومنبر ... ... حبا الإله رسوله وسقاها
هذي محاسنها فهل من عاشق ... كلف شحيح باخل بنواها
إني لأرهب من توقع بينها ... ... فيظل قلبي موجعا أواها
ولقلما ما أبصرت حال مودع ... إلا رثت نفسي له وشجاها
فلكم أراكم قافلين جماعة ... ... في إثر أخرى طالبين سواها
قسما لقد أذكى فؤادي بينكم ... نارا وفجر مقلتي أمواها
إن كان أعجزكم ظلال فضيلة ... فالخير أجمعه لدى مثواها
أو خفتم ضررا بها فتأملوا ... ... بركات بلغتها فما أزكاها
أف لمن يبغي الكثير لشهوة ... ... ورفاهة لم يدر ما عقباها
والعيش ما يكفي وليس هو الذي ... يطغى النفوس وإلا خسيس مناها
يا رب أسال منك فضل قناعة ... بيسيرها وتجنبا حماها
ورضاك عني دائما ولزومها ... ... حتى توافي مهجتي أخراها
فإن الذي أعطيت نفسي سؤلها ... وقبلت دعواها فيا بشراها
بجوار أوفى العالمين بذمة ... ... وأعز من بالقرب منه يباهى
من جاء بالآيات والنور الذي ... داوى القلوب من العمى فشفاها
أولى الأنام بخطة الشرف التي ... يعطي الوسيلة خير من يعطاها
Shafi 17
إنسان عين الكون سر وجوده ... يسير أكسير المحامد طه حسبي فلست أفي بذكر صفاته ... ولو أن لي عدد الحصى أفواها
كثرت محاسنه وأعجز حصرها ... فغدت وما تلقى لها أشباها
إني اهتديت من الكتاب بآية ... فعلمت أن علاه ليس بضياها
ورأيت فضل العالمين محددا ... وفضائل المختار لا تتناهى
كيف السبيل إلى تقصي مدح من ... قال الإله له وحسبك جاها
إن الذين يبايعونك إنما ... ... فيما نقول يبايعون الله
هذا الفخار فهل سمعت بمثله ... واها لنشأته الكريمة واها
صلوا عليه وسلموا فبذالكم ... تهدى النفوس لرشدها وعناها
صلى عليه الله غير مقيد ... ... وعليه من بركاته أن ماها
وعلى الأكابر أله سرج الهدى ... أحبب بعترته ومن والاها
وكذا السلام عليه ثم عليهم ... وعلى عصابته التي زكاها
أعني الكرام أولي النهى أصحابه ... فئة التقى ومن اهتدى بهداها
والحمد لله الكريم وهذه ... ... نجزت وظني أنه يرضاها
من ص 38-57
المقالة الأولى فيما يتعلق بالمكان
ويشتمل على أبواب، هي بالقبول إن شاء الله تعالى مفتحة لأولي الألباب.
أبواب إقبال تفتح بالهنا ... أيام شعبان لها أبان
قال الزمان وقد رأى إقبالها ياليت دهري كله شعبان
الباب الأول: فيما تميزت به المدينة عما سواها. وذكر بعض محاسنها التي يطرب لها المحب ويرضاها
ولا أتعرض لحصر ألقابها، فيعترض دونها الحصر، بل كخصور الملاح لرشاقتها تختصره.
أملياني حديث من سكن الجزع ... ولا تكتباه إلا بدمعي
فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي
... من أحسن محاسنها السنية: اشتمالها على البقعة التي انعقد الإجماع على تفضيلها على سائر البقاع، وإن كان صلوات الله وتسليماته على فرعه وأصوله روح وجود الكائنات، وسر الموجود جليلة وجميلة.
لا تقل دارها بشرقي نجد ... كل نجد للعامرية دار
ولها منزل على كل ماء ... وعلى كل دمنة آثار
... وما أحسن ما قال:
Shafi 18
أحن إليه وهو قلبي فهل ترى ... سواي أخا وجد يحن لقلبه ويحجب طرفي إذ هو ناظري وما بعده إلا لأفراط قربه
... وقال آخر :
أمر له وبه ومنه تعنيت أعياننا ووجودنا المتلبس
وحقيقه طوت البعد فرامة ... نجد وليث الغاب ظبي العس
ووراء ذلك ولا أشير لأنه ... سر لسان النطق عنه أخرس
... وقال:
وجود غيرك يأكل المنى عدم ... وأي غير وأنت الكل لو علموا
هام الورى بمعان فيك قد جمعت ... وكلهم لك عشاق وما فهموا
... ومن محاسنها: أن سائر بلاد الإسلام افتتحت بالسيف، وافتتحت هي بالقرآن العظيم، وأنه يبعث منها أشرف هذه الأمة يوم القيامة، على ما نقله القاضي عياض في ((المدارك)) عن مالك. ومن محاسنها: تحريكه عليه وآله الصلاة والسلام دابته عند قدومه إليها إذا أبصر منازلها، ودعاؤه لها بالبركة، وقوله: ((سيروا فقد سبق المفردون)). ومن محاسنها: تأسيس مسجده على يده الكريمة، وكون ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة، وإن ذلك يعم مسجده ولو اتصل بصنعاء، وكون المبر على ترعة من رياض الجنة.
... وما أحسن ما قال أبو عبد الله الفيومي:
سكان طيبة أبلى الحب صبكم ... والشوق باق ليوم العرض في طول
تالله لم ينسه المقياس روضتكم ... ولا تسلى عن الزرقاء بالنيل
... ومن محاسنها: أن ترابها شفاء من الجذام كما هو الوارد، وشفاء من كل داء بالتجربة الصادقة المعروفة عند السلف، والخلف.
وما أوقع ما قال:
ولو قيل للمجنون ليلى أحب أم ... جنان بها حور جلت نعم الخد
لقال غبار من تراب نعالها ... أحب إلى قلبي وأشهى من الخلد
... فائدة: ذكر علماء الخواص أن من قدم أرضا، فأخذ من ترابها، فجعله في مائها، ثم شربه، عوفي من بلائها، وقيل: يستحب للمسافر أن يصحب معه تراب التي ولد فيها، فإذا قدم أرضا أخرى جعل منه شيئا في مائها، وشرب منه، فإنه يسلم من ضررها. وهو من المجربات.
Shafi 19
... ومن محاسنها: أن من أصابه عرض، أو مرض وأقبل على الشباك الشريف متضرعا مستغيثا، لم يبرح حتى يفرج الله تعالى كربته، والناس في ذلك تتفاوت بحسب الاعتقاد، والاستعداد.
وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار
... وكان يقال: الفوائد في العقائد، وكان يقال: المنح في المواهب ، والمواهب منح، ولذلك يفتح لشخص دون آخر من الأبواب ما لا يتطرق إليه سبب من الأسباب.
... وكان يقال:
فما كل عين بالجمال قريرة ... ولا كل من نودي يجيب إذا دعي
فقل للعيون الرمد للشمس ... أعين سواك تراها في مغيب ومطلع
... وكان يقال:
دنت بأناس عن تناء ديارهم ... وشط بليلى عن دنو مزارها
وإنا مقيمان بمنعرج اللواء ... لا قرب من ليلى وهاتيك دارها
... وقال آخر:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت وأنت كئيب إن ذا لعجيب
فقلت وما نفعي بدار قريبة ... إذا لم يكن بين القلوب قريب
... وأقول كما قال المتقدم:
هبوا أن ذاك الحسن عني محجب ... أليس برياه مرت نسمة الصبا
إذا رمت أن تبدي مصونات خدره فحدث بذاك الحي عن الخبا
... وما أحسن ما قال:
وإني لمشتاق إلى أرض طيبة ... ... وإن خانني بعد التفرق إخواني
سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها ... ... كحلت به من شدة الشوق أجفاني
... وبالجملة فكل مقصور على شربة وذوقه الناتج عن حبه وشوقه، وكان يقال: لا يفتح أقفال الغيوب إلا من سلم من العيوب، وأما من عري عن الكشف والشهود، واستنطاق ضمائر صحائف الوجود، فحرام عليه التفكر في الآثار الكونية، والأسرار اللدنية فليلزم لسان الاعتراض، ولا يبرز راعونات الأغراض، فإنه يخشى عليه سلب السابقة في عالم الأرواح، والخاتمة في عالم الأشباح وليرجع إلى نقص فطرته ، وقصور باعه في ميدان حكمته فلا يشهد حقيقة الكمال ، ولايظفر من أبكار المعاني بلذة الوصال وليقل بلسان التسليم، وفوق كل ذي علم عليم .
... قال ابن رافع في شذور الذهب :
Shafi 20
وحظ العيون الرمد من نور وجهها ... ... لشدتها حظ العيون العوامش
فلا أخصبت إلا لذي الحلم والثقة ... ولا أجدبت إلا لأهل الفواحش
... والحمد لله الذي أطلع من اجتباه من عباده الأبرار على خبايا الأسرار، وأسمع من ارتضاه من أصفيائه الأخيار من الغيب تغريد سواجع قضايا الأقدار، وأودع قلوبهم من جواهر المعرفة ما تختار منه عيون البصائر والأبصار ، وأطمع نفوسهم في إحراز رموز كنوزها بيد الإظهار، من سجف حجب الأستار الذي قدر حكم أحكامه ، وكل شيء عنده بمقدار، وبصر من شاء لإكرامه بنور إلهامه فاستخرج غرائب الأسرار بثواقب الأفكار.
... وصلى الله تعالى على سيدنا وسندنا محمد المصطفى المختار، ومؤازريه الأئمة الأطهار، صلاة متصفة بالاستمرار، متلوة آناء الليل وأطراف النهار.
... قال العلامة ابن حجر في كتابه "الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم" حرام عند أرباب القلوب على كل قلب شغل بالإرادات الدينية، والشهوات الدنيوية، أن يصل إليه المدد النبوي، بل ربما يخشى عليه من الوقوف بين يديه صلى الله تعالى وسلم عليه. فيجب الاجتهاد في تصفية الجنان مع ملاحظة الاستمداد من سعة العفو عما لا وصول إليه، فإنه يمد كل بما يناسب حاله، ولا وصول إلى الحضرة الإلهية إلا من بابه
... كما قيل:
أنت باب الله أي امرىء ... أتاه من غيرك لا يدخل
... إسعاد وإمداد:
... يحكي القاضي شهاب الدين ابن خلكان في ديوانه: أن الفقيه منصور التميمي أصابته مسغبة في سنة شديدة القحط، فرقي سطح داره ليلا، ونادى بأعلى صوته:
الغياث الغياث يا أحرار ... ... نحن خلجانكم وأنت بحار
إنما تحسن المؤاساة في الشدة ... لا حين ترخص الأسعار
... قال: فأصبح على بابه مئة حمل من البر. توفي الفقيه منصور الشافعي سنة ست وثلاثمائة.
... وما أحسن ما قال:
لا تحزنن ولا تخف ... ... ودع التفكر والأسف
الله عودك الجميل ... فقس على ما قد سلف
... لوائح وفواتح:
Shafi 21
... حكي أن بعض الأمراء سمع عن رجل من أهل الله تعالى أنه قال: من رآني ضمنت له على الله الجنة، فقال الأمير: كيف ساغ لهذا الرجل أن يقول مثل هذا الكلام، مع أن رؤية أبي جهل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم تفده، فقال له بعض من سمعه: إنما أراد الشيخ بقوله: من رآني رؤية ولاية، وأبو جهل لو رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رؤية نبوة لم تفته السعادة، على أنه قيل: تخفيف العذاب عمن شرف برؤيته.
يا أرمد العين قم قبالته ... فداو باللحظ نحوه رمدك
... فائدة: رأيت في بعض التذاكر أن من أصابه الرمد يقف تجاه الحضرة الشريفة، وينشد هذين البيتين مرات، فإنه يزول رمده. قال: وقد أصابني الرمد مرة ففعلت كذلك، فزال ما اشتكيه، والبيتان هما هذان:
أنت الملاذ وأنت الغوث ... للبشر من معجزاتك رد العين للنظر
فانظر إلي لعلي إن رأى فرجا ... فبحر جودك يبري شدة الضرر
... وفي ((الفوائد الشرجية)) ما يقرأ أو يكتب للرمد قوله:
إذا ما مقلتي رمدت فكحلي ... ترب مس نعل أبي تراب
هو الباكي في المحراب ليلا ... هو الضاحك في يوم الضراب
... ومما يكتب للرمد، وهو مروي عن ابن عجيل اليماني:
يا نظري بيعقوب أعيذكما ... بما استعاذ به إذ مسه الكمد
قميص يوسف إذ جاء البشير به ... بحق يوسف أذهب إليها الرمد
... قال في ((المواهب اللدنية)): أنبئت أن العلامة أبا عبد الله بن رمثد قال: لما قدمنا المدينة الشريفة سنة أربع وثمانين وستمائة، كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكيم، وكان أرمد العين، فلما وصلنا ذا الحليفة، نزلنا عن الأكوار، وقد قوي الشوق لقرب المراد، ونزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار، وإعظاما لمن حل هاتيك الديار، فأحس بالشفاء، فأنشد لنفسه في وصف الحال، فقال:
Shafi 22
ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسا تخف ولا كربا
وحين تبدي للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أدنيت لنا قربا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حل فيها أن نلم بها ركبا
نسح سجال الدمع في عرصاته ... ونلثم من حب مواطئه التربا
وإن بقاي دونه لخسارة ... ولو أن كفي تملك الشرق والغربا
فيا عجبا ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوة ويستعمل الكذبا
وزلات مثلي لا تعد كثيرة ... وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا
... ومن نبويات المواهب:
ألا مع البرق يغتدي ويروح ... أم النور من أرض الحجاز يلوح
أريح الصبا هبت بطيب عرفهم ... أم الروض في وجه الصباح يفوح
إذا ريح ذاك الحي هبت فإنها ... حياة لمن يغدو لها ويروح
ترفق بنا يا حادي العيس والتفت ... فللنور بين الواديين وضوح
فما هذه إلا ديار محمد ... وذاك سناها في البقاع صريح
وإلا فما للكرب هاج اشتياقهم ... فكل من الشوق الشديد يصيح
وأتت مطايا القوم حتى كأنها ... حمام على قضب الأراك تنوح
وقد مدت الأعناق شوقا وطرفها ... إلى النور من تلك الديار يلوح
رأت دار من تهوى فزاد حنينها ... ومدمعها في الوجنتين سفوح
إذا العيس باحت بالغرام ولم تطق ... خفاء فما للصب ليس يبوح
... قال في ((المواهب)): ولما قربنا من المدينة المنورة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها الكريمة، وآكامها، وانتشقنا عرف لطائف أزهارها، وبدت لنواظرنا بوارق أنوارها، وترادفت وارادت المنح والعطايا، ونزل القوم عن المطايا، أنشدت متمثلا:
أتيتك زائرا وودت أني ... جعلت سواد عيني أمتطيه
ومالي لا أسير علت المآقي ... إلى قبر رسول الله فيه
... ولما وقع بصري على القبر الشريف، والمسجد المنيف، فاضت من الفرح سوابق العبرات، حتى أصابت بعض الثرى، والجدرات.
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
... شعر فائق، وشعور موفق:
Shafi 23