مقدمة
...
كتاب الجواهر المضية
لمجدد الدعوة النجدية، شيخ الإسلام، علم الهداة الأعلام
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
وفيه بيان عقيدته وما دعا إليه، وبضع رسائل له، في بيان حقيقة التوحيد وكلمته والشرك الجلي والخفي والنفاق الاعتقادي والعملي.
عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى
توحيد الألوهية وما طرأ عليه من الشرك بدعاء غير الله
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: أخبركم أني، ولله الحمد، عقيدتي وديني الذي أدين الله به: مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة، لكني بَيَّنْتُ للناس إخلاصَ الدين ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من: الذبح والنذر والتوكل والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسَل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء؛ لكونه خالف عادة نشؤوا عليها.
وأيضا ألزمتُ مَن تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله. ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع من المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه؛ لكونه مُسْتَحْسَنًا عند العوام؛ فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمُرُ به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولَبَّسُوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرتْ الفتنة جدا، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، فنقول:
التوحيد نوعان توحيد الربوبية، وهو أن الله سبحانه- متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لا بد منه؛ لكن لا يُدْخِلُ الرجلَ في الإسلام، بل أكثر الناس مقرّون به، قال الله -تعالى-: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ ١. وإن الذي يدخل
_________
١ سورة يونس آية: ٣١.
1 / 2
الرجلَ في الإسلام هو: توحيد الإلهية، وهو: أن لا يعبد إلا الله، لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا. وذلك أن النبي ﷺ بُعِثَ والجاهلية يعبدون أشياء مع الله: فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة؛ فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله لِيُوَحَّدَ؛ ولا يُدْعَى أحدٌ لا الملائكة ولا الأنبياء، فمن اتبعه ووحد الله: فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى أو الملائكة واستنصرهم، والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو.
وهذه جملة لها بسطٌ طويلٌ، ولكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء، فلما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها ﷺ حيث قال: "لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه"١، وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ٢ وصار ناس من الضالين يدعون أناسا من الصالحين في الشدة والرخاء مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف أعني على الداعين.
وأما الصالحون الذين يكرهون ذلك فحاشاهم، وبَيَّنَ أهل العلم في أمثال هذا أنه هو الشرك الأكبر وعبادة الأصنام، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لِيُعْبَدَ وحدَهُ، ولا يدعى معه إله آخر.
والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل: الشمس والقمر والصالحين، والتماثيل المصورة على صورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تُنْزِلُ المطرَ أو تُنْبِتُ النباتَ، وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله الرسل وأنزل الكتب تَنْهَى عن أن يُدْعَى أحدٌ من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.
واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي ﷺ
_________
١ البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٣٢٠)، وابن ماجه: الفتن (٣٩٩٤)، وأحمد (٢/٥١١) .
٢ سورة التوبة آية: ٣١.
1 / 3
بأنهم يدعون الملائكة والأولياء والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب إليهم، وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله، فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء، فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله. قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ ١ الآية.
دعوة الرسل إلى توحيد الألوهية
واعلم أن التوحيد هو: إفراد الله سبحانه- بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده. فأولهم نوح ﵇ أرسله الله إلى قومه؛ لما غَلَوْا في الصالحين: وَدًّا وسوَاع ويَغوث ويعوق ونسرا. وآخرهم محمد ﷺ وهو الذي كسَّر صورَ هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل: الملائكة وعيسى ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين.
فبعث الله محمدا ﷺ يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محضُ حق الله تعالى لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، فضلا عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله ﷺ يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ ٢. وقوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
_________
١ سورة الإسراء آية: ٦٧.
٢ سورة يونس آية: ٣١.
1 / 4
شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ ١.
وغير ذلك من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقرون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله ﷺ. وعرفت٢ أن التوحيد الذي جحدوه، وهو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد، كما كانوا يدعون الله ﷾ ليلا ونهارا خوفا وطمعا. ثم منهم من يدعو الملائكة والأنبياء والصالحين لأجل صلاحهم وقربهم من الله ﷿ ليشفعوا لهم، ويدعو رجلا صالحا مثل اللات، أو نبيا مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله ﷺ قاتلهم على ذلك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ ٣. وقال تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ ٤ الآية.
وعرفت أن رسول الله ﷺ قاتلهم ليكون الدين كله لله، والدعاء كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يُدْخِلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب لله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت٥ حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون.
وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يُقْصَد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا أو نبيا، أو وليا أو شجرة، أو قبرا أو جنيا، لم يريدوا أن الإله هو: الخالق الرازق المدبر، فإنهم يقرون أن ذلك لله
_________
١ سورة المؤمنون آية:٨٤: ٨٩.
٢ قوله وعرفت- لم يتقدمه ما يصح عطفه عليه ولعل أصل الكلام: فإذا عرفت أن التوحيد إلخ وإلا كان هنالك شرط عطف هذا عليه، وسقط من الناسخ كان يكون: إذا عرفت ذلك.
٣ سورة الجن آية: ١٨.
٤ سورة الرعد آية: ١٤.
٥ هذه الجملة جواب الشرط المذكور.
1 / 5
وحده، كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله: ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد.
فأتاهم النبي ﷺ يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله. والمراد من هذه الكلمة: معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي ﷺ بهذه الكلمة هو: إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يُعْبَد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ ١.
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك؛ فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من معنى هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله. فلا خير في رجل، جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
الشرك بدعاء الصالحين وغيرهم هو شرك عباد الأصنام
فإذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ﴾ ٢ الآية، وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس اليوم فيه من الجهل بهذا، أفادك فائدتين:
الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته، قال الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ٣. وأفادك أيضا الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله كما ظن المشركون، خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ ٤، فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله. واعلم أن الله سبحانه- من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
_________
١ سورة ص آية: ٥.
٢ سورة النساء آية: ٤٨.
٣ سورة يونس آية: ٥٨.
٤ سورة الأعراف آية: ١٣٨.
1 / 6
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ ١.
وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب وحجج كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ ٢.
فإذا عرفتَ ذلك، وعرفتَ أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج كما قال تعالى: ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ٣ الآية. فالواجب عليك أن تعلم مِن دين الله ما يصير لك سلاحا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومُقَدَّمهم لربك ﷿: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ ٤ ولكن إن أقبلت على الله، وأصغيت إلى حجج الله وبيناته، فلا تخف ولا تحزن: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ ٥. والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ ٦؛ فجنده هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان.
وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد مَنَّ الله علينا بكتابه الذي جعله تِبْيَانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويُبَيِّنُ بطلانها كما قال تعالى: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ ٧. قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
بيان من كفرهم إمام الوهابية ومن قاتلهم
والحاصل: أن كل ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك، فكله من البهتان، وما أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين! فإني لما بينتُ لهم كلام الله، وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: ﴿ولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ ٨ الآية، وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ ٩، وقوله: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ١٠، وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
_________
١ سورة الأنعام آية: ١١٢.
٢ سورة غافر آية: ٨٣.
٣ سورة الأعراف آية: ٨٦.
٤ سورة الأعراف آية: ١٦.
٥ سورة النساء آية: ٧٦.
٦ سورة الصافات آية: ١٧٣.
٧ سورة الفرقان آية: ٣٣.
٨ سورة الإسراء آية: ٥٧.
٩ سورة يونس آية: ١٨.
١٠ سورة الزمر آية: ٣.
1 / 7
وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ ١ الآية.
وغير ذلك، قالوا: لا يجوز العمل لنا ولا لمثلنا بكلام الله ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون.
ولما قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي والشافعي والحنبلي؛ كُلٌّ أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم، فلما أبوا ذلك نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله. وذكرتُ كل ما قالوا بعدما صُرِّحَتْ الدعوةُ عند القبور والنذر لها، فعرفوا ذلك وتحققوه؛ فلم يزدهم إلا نفورا.
وأما التكفير: فإني أكفر مَنْ عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سَبَّهُ ونَهَى الناس عنه، وعادى مَنْ فعله، فهذا هو الذي أُكَفِّرُهُ، وأكثر الأمة -ولله الحمد- ليسوا كذلك.
وأما القتال: فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أَتَوْنَا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها. وكذلك مَنْ جَاهَرَ بسَبِّ دين الرسول بعد ما عرفه.
فإن تبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه؛ وأن الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه النساء والرجال، فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ونسأل الله أن يهدينا وإياكم لما يحب ويرضى. والله أعلم.
_________
١ سورة يونس آية: ٣١.
1 / 11
رسالة في المسائل الخمس الواجب معرفتها
...
رسالته في المسائل الخمس الواجبة معرفتها
الإنذار عن الشرك بالله
وله أيضا - قدس الله روحه، ونور ضريحه- ما نصه:
الواجب عليك أن تعرف خمس مسائل:
(الأولى): أن الله لما أرسل محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق، كان أول كلمة أرسله الله بها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ ١، ومعنى قوله: ﴿فَأَنْذِرْ﴾: الإنذار عن الشرك بالله. وكانوا يجعلونه دينا يتقربون به إلى الله تعالى مع أنهم يفعلون من الظلم والفواحش ما لا يحصى، ويعلمون أنه معصية.
فمن فهم فهما جيدا أن الله أمره بالإنذار عن دينهم الذي يتقربون به إلى الله قبل الإنذار عن الزنى ونكاح الأمهات والأخوات، وعرف الشرك الذي يفعلونه، رأى العجب العجاب، خصوصا إن عرف أن شركهم دون شرك كثير من الناس اليوم لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ ٢.
التوحيد هو إخلاص الدين لله تعالى
(الثانية): أنه لما أنذرهم عن الشرك، أمرهم بالتوحيد الذي هو إخلاص الدين لله تعالى، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ ٣، يعني: عظمه بالإخلاص. وليس المراد تكبير الأذان وغيره؛ فإنه لم يشرع إلا في المدينة.
فإذا عرف الإنسان أن ترك الشرك لا ينفع إلا إذا لبس ثوب الإخلاص، وفهم الإخلاص فهما جيدا، وعرف ما عليه كثير من الناس من ظنهم أن الإخلاص وترك دعوة الصالحين نقص لهم، كما قال النصارى: إن محمدا يشتم عيسى، لما ذكر أنه عبد الله ورسوله ليس يعبد مع الله تعالى، فمن فهم هذا عرف غربة الإسلام، خصوصا إن أحضر بقلبه ما فعل الذين يَدَّعُونَ
_________
١ سورة المدثر آية:١: ٣.
٢ سورة الزمر آية: ٨.
٣ سورة المدثر آية: ٣.
1 / 9
أنهم من العلماء؛ من معاداة هذه المسألة وتكفيرهم مَن دَانَ بها وجاهدهم مع عُبَّاد قُبة أبي طالب وأمثالها، وقبة الكواز وأمثالها، وفتواهم لهم بحل دمائنا وأموالنا؛ لتركنا ما هم عليه. ويقولون لهم: إنهم ينكرون دينكم.
فلا تعرف هذه والتي قبلها إلا بإحضارك في ذهنك ما علمت أنهم فعلوا مع أهل هذه المسألة، وما فعلوا مع المشركين؛ فحينئذ تعرف أن دين الإسلام ليس مجرد المعرفة: فإن إبليس وفرعون يعرفونه، وكذلك اليهود يعرفونه كما يعرفون آباءهم، وإنما الإسلام هو: العمل بذلك والحب والبغض، وترك موالاة الآباء والأبناء في هذا.
الرسول ﵇ جاء ليصدق ويتبع
(الثالثة): أن تُحْضِر بقلبك أن الله سبحانه- لم يرسل الرسول إلا لِيُصَدَّقَ وَيُتَّبَعَ، ولم يرسله لِيُكَذَّبَ وَيُعْصَى. فإذا تأملتَ إقرار من يدعي أنه من العلماء بالتوحيد وأنه دين الله ورسوله، لكن من دخل فيه فهو من الخوارج الذين تحل دماؤهم وأموالهم، ومن أبغضه وسَبَّهَ وَصَدَّ الناسَ عنه فهو الذي على الحق، وكذلك إقرارهم بالشرك وقولهم: ليس عندنا قبة نعبدها، بل جهادهم الجهاد المعروف مع أهل القباب، وأن من فارقهم حل ماله ودمه، فإذا عرف الإنسان هذه المسألة الثالثة كما ينبغي، وعرف أنه اجتمع في قلبه، ولو يوما واحدا أن قلبه قَبِلَ كلامهم: أن التوحيد دينُ الله ورسوله، ولكن لا بد من بغضه وعداوته، وأن ما عليه أهل القباب هو الشرك، ولكن هم السواد الأعظم، وهم على الحق، ولا يقول: إنهم يفعلون الشرك، فاجتماع هذه الأضداد في القلب مع أنها أبلغ من الجنون؛ فهي من أعظم قدرة الله تعالى وهي من أعظم ما يعرفك بالله وبنفسك، ومن عرف نفسه وعرف ربه، ثم أمره. فكيف إذا علمت أن هذين الضدين اجتمعا في قلب صالح وحيوان وأمثالهما أكثر من عشرين سنة.
الشرك يحبط العمل ولو لأجل الإسلام
(الرابعة): أنك تعلم أن الله أنزل على رسوله: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ١، مع أنهم راودوه
_________
١ سورة الزمر آية: ٦٥.
1 / 10
على قول كلمة أو فعل مرة واحدة، ووعدوه أن ذلك يقودهم إلى الإسلام.
إذا عرفت أن أعظم أهل الإخلاص وأكثرهم حسنات، لو قال كلمة الشرك مع كراهيته لها ليقود غيره بها إلى الإسلام حبط عمله وصار من الخاسرين؛ فكيف بمن أظهر أنه منهم، وتكلم بمائة كلمة؛ لأجل تجارة، أو لأجل أن يحج؛ لما مَنَعُوا الموحدين من الحج كما منعوا النبي ﷺ وأصحابه حتى فتح الله مكة؟
فمن فهم هذا فهما جيدا، انفتح له معرفة قدر التوحيد عند الله ﷿ وقدر الشرك. ولكن إن عرفت هذه بعد أربع سنين فَنِعِمَّى لك، أعني: المعرفة التامة كما تعرف أن قطرة من البول تنقض الوضوء الكامل إذا خرجت ولو بغير اختياره.
الإيمان بما جاء به الرسول ﵇ كله
(الخامسة): أن الرسول ﷺ فرض الإيمان بما جاء به كله لا تفريق فيه، فمن آمن ببعضٍ وكفر ببعض، فهو كافر حقا، بل لا بد من الإيمان بالكتاب كله. فإذا عرفت أن من الناس من يصلي ويصوم، ويترك كثيرا من المحرمات؛ لكن لا يُوَرِّثُونَ المرأةَ، ويزعمون أن ذلك هو الذي ينبغي اتباعه، بل لو ورثها أحد عندهم وخالف عادتهم لأنكرت قلوبهم ذلك.
أو ينكر عدة المرأة في بيت زوجها مع علمه بقول الله تعالى: ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ ١، ويزعم أن تركها في بيت زوجها لا يصلح، وأن إخراجها منه هو الذي ينبغي فعله، أو أنكر التحية بالسلام مع معرفته أن الله شرعها حبا لتحية الجاهلية لما ألفها، فهذا يكفر؛ لأنه آمن ببعض، وكفر ببعض، بخلاف مَن فعل المعصية أو ترك الفرض مثل فعل الزنى وترك بر الوالدين مع اعترافه أنه مخطيء وأن أمر الله هو الصواب٢.
واعلم أني مثلتُ لك بهذه الثلاث؛ لتحذو عليها؛ فإن عند الناس من هذا
_________
١ سورة الطلاق آية: ١.
٢ يعني أن الكفر في: استقباح شرع الله، وتفضيل العادات المحرمة عليه؛ لا مجرد فعل المحرم مع اعتقاد فاعله أنه مذنب وأن فعله قبيح.
1 / 11
كثير يخالف ما حد الله في القرآن، وصار المعروف عندهم ما ألفوه عند أهلهم، ولو يفعل أحدٌ ما ذكر الله ويترك العادة لأنكروا عليه وَاسْتَسْفَهُوهُ، بخلاف مَن يفعل أو يترك مع اعترافه بالخطأ، وإيمانه بما ذكر الله.
واعلم أن هذه المسألة الخامسة من أشد ما على الناس خطرا في وقتنا بسبب غربة الإسلام، والله أعلم.
رسالة في النفاق بقسميه وصفات المنافقين النفاق الأكبر والأصغر قال -أسكنه الله الفردوس الأعلى-: اعلم -رحمك الله- أن الله تعالى منذ بعث محمدا ﷺ وأعزَّهُ بالهجرة والنصر صار الناس ثلاثة أقسام: قسم مؤمنون، وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسم كفار: وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسم منافقون: وهم الذين آمنوا به ظاهرا لا باطنا. ولهذا افتتح الله سورة البقرة بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة في صفة المنافقين. وكل واحد من: الإيمان، والكفر، والنفاق، له دعائم وشُعَب كما دل عليه الكتاب والسنة، وكما فسره علي بن أبي طالب ﵁ في الحديث المأثور عنه. فمن النفاق ما هو: نفاق أكبر، ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبي وغيره، مثل أن يُظْهِر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المَسَرَّة بانخفاض دينه، أو المَسَاءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر موجود في زمن الرسول ﷺ. وما زال بعده أكثر من عهده؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها، والنفاق موجود فوجوده فيما دون ذلك أولى به، وهذا ضرب النفاق الأكبر، والعياذ بالله.
رسالة في النفاق بقسميه وصفات المنافقين النفاق الأكبر والأصغر قال -أسكنه الله الفردوس الأعلى-: اعلم -رحمك الله- أن الله تعالى منذ بعث محمدا ﷺ وأعزَّهُ بالهجرة والنصر صار الناس ثلاثة أقسام: قسم مؤمنون، وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا، وقسم كفار: وهم الذين أظهروا الكفر به، وقسم منافقون: وهم الذين آمنوا به ظاهرا لا باطنا. ولهذا افتتح الله سورة البقرة بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وثلاث عشرة في صفة المنافقين. وكل واحد من: الإيمان، والكفر، والنفاق، له دعائم وشُعَب كما دل عليه الكتاب والسنة، وكما فسره علي بن أبي طالب ﵁ في الحديث المأثور عنه. فمن النفاق ما هو: نفاق أكبر، ويكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبي وغيره، مثل أن يُظْهِر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المَسَرَّة بانخفاض دينه، أو المَسَاءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر موجود في زمن الرسول ﷺ. وما زال بعده أكثر من عهده؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها، والنفاق موجود فوجوده فيما دون ذلك أولى به، وهذا ضرب النفاق الأكبر، والعياذ بالله.
1 / 12
وأما النفاق الأصغر: فهو نفاق الأعمال ونحوها، مثل أن يكذب إذا حدَّث، ويُخلف إذا وعد، أو يخون إذا ائتُمِنَ، للحديث المشهور عنه ﷺ قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِنَ خان، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم"١.
صفات المنافقين
ومن هذا الباب: الإعراض عن الجهاد، فإنه من خصال المنافقين لقوله ﷺ: "من مات ولم يَغْزُ، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق"٢ رواه مسلم.
وقد أنزل الله سورة براءة التي تُسَمَّى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين كما قاله ابن عباس ﵁ قال: "هي الفاضحة، ما زالت تنْزل (ومنهم، ومنهم) حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذُكِرَ فيها"، وعن المقداد بن الأسود قال: هي سورة البَحُوث؛ لأنها بحثَتْ عن سرائر المنافقين. وقال قتادة: هي المثيرة؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين.
وهذه السورة نزلت في آخر مغازي رسول الله ﷺ يوم غزوة تبوك، وقد أعز الله الإسلام وأظهره؛ فكشف فيها عن أحوال المنافقين، ووصفهم فيها بالجبن والبخل. فأما الجبن فهو: ترك الجهاد، وأما البخل فهو: عن النفقة في سبيل الله.
وقال تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ ٣ الآية. وقال: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ ٤ الآية.
فأما وصفهم فيها بالجبن والفزع فقد قال تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً﴾ ٥ يلجؤون إليه مثل المعاقل والحصون ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ يغورون فيها كما يغور الماء، ﴿أَوْ مُدَّخَلًا﴾ وهو الذي يتكلف الدخول إليه ولو بكُلْفَة ومشقة، ﴿لَوَلَّوْا إِلَيْهِ﴾ عن الجهاد ﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ ٦ أي: يسرعون إسراعا لا يردهم شيء؛ كالفرس الجَمُوح الذي إذا حمل لم يرده اللجام. وقد قال تعالى:
﴿إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
_________
١ البخاري: الإيمان (٣٣)، ومسلم: الإيمان (٥٩)، والترمذي: الإيمان (٢٦٣١)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (٥٠٢١)، وأحمد (٢/٣٥٧،٢/٣٩٧،٢/٥٣٦) .
٢ مسلم: الإمارة (١٩١٠)، والنسائي: الجهاد (٣٠٩٧)، وأبو داود: الجهاد (٢٥٠٢) .
٣ سورة آل عمران آية: ١٨٠.
1 / 13
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ ١. فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد. وقال تعالى: ﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ ٢ الآيتين. فهذا إخبار من الله أن المؤمن لا يستأذن في ترك الجهاد، وإنما يستأذن الذين لا يؤمنون بالله، فكيف بالتارك من غير استئذان؟
وقال في وصفهم بالشح: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ﴾ ٣ إلى قوله: ﴿وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ ٤؛ فإذا كان هذا ذَمُّ الله ﵎ لمن أنفق وهو كاره، فكيف بمن ترك النفقة رأسا؟
وقد أخبر أن المنافقين لما قربوا من المدينة؛ تارة يقولون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فأنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم. وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، وإلا لو كنا قد سافرنا، ما أصابنا هذا.
وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم. وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم وتهلكوا الناس معكم. وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي، فأخبر الله عنهم بقوله ﷿: ﴿يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلًا﴾ ٥، فوصفهم ﵎ بثلاثة أوصاف:
الأول: أنهم -لخوفهم- يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد، وهذا حال الجبان الذي في قلبه مرض، فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن.
الوصف الثاني: أن الأحزاب إذا جاؤوا تَمَنَوْا أن لا يكونوا بينكم؛ بل في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم: أيش خبر المدينة؟ وأيش خبر الناس؟.
الوصف الثالث: أن الأحزاب إذا أتوا، وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا. وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس.
_________
١ سورة الحجرات آية: ١٥.
٢ سورة التوبة آية: ٤٤.
٣ سورة التوبة آية: ٥٤.
٤ سورة التوبة آية: ٥٤.
٥ سورة الأحزاب آية: ٢٠.
1 / 14
رسالة في كلمة لا إله إلا الله
حقيقة معنى لا إله إلا الله
رسالة في كلمة لا إله إلا الله بين فيها حقيقة التوحيد ومعناه، وكونه لا يُنَجِّي من النار سواه.
وله في معنى لا إله إلا الله ما نصه:
قال -رحمه الله تعالى-: هذه كلمات في بيان شهادة أن لا إله إلا الله، وبيان التوحيد الذي هو: حق الله على العبيد، وهو أفرض من الصلاة والزكاة وصوم رمضان، فرحم الله امرأ نصح نفسه وعرف أن وراءه جنة ونارا، وأن الله ﷿ جعل لكل منهما أعمالا. فإن سأل عن ذلك وجد رأس أعمال أهل الجنة: توحيد الله تعالى.
فمن أتى به يوم القيامة فهو من أهل الجنة قطعا، ولو كان عليه من الذنوب مثل الجبال، ورأس أعمال أهل النار: الشرك بالله. فمن مات على ذلك، فلو أتى يوم القيامة بعبادة الله الليل والنهار والصدقة والإحسان؛ فهو من أهل النار قطعا، كالنصارى الذين يبني أحدهم صومعة في البرية؛ ويزهد في الدنيا ويتعبد الليل والنهار، لكنه خلط ذلك بالشرك بالله؛ تَعَالى اللهُ عن ذلك.
قال الله ﷿: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ ١. وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ﴾ ٢ الآية.
فرحم الله امرأ تنبه لهذا الأمر العظيم، قبل أن يعض الظالم على يديه ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا!
نسأل الله أن يهدينا، وإخواننا المسلمين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم: العلماء الذين علموا ولم يعملوا، وطريق الضالين وهم: العباد الجهال فما أعظم هذا الدعاء! وما أحوج مَن دعا به أن يُخلص قلبه في كل ركعة
_________
١ سورة الفرقان آية: ٢٣.
٢ سورة إبراهيم آية: ١٨.
1 / 15
إذا قرأ بها بين يدي الله -تعالى- أن يهديه وأن ينجيه؛ فإن الله قد ذكر أنه يستجيب هذا الدعاء الذي في الفاتحة؛ إذا دعا به الإنسان من قلب حاضر.
(فنقول): لا إله إلا الله هي: العروة الوثقى، وهي كلمة التقوى، وهي الحنيفية ملة إبراهيم، وهي التي جعلها الله ﷿ كلمة باقية في عقبه، وهي التي خلقت لأجلها المخلوقات، وبها قامت الأرض والسماوات، ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ١. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ٢، والمراد معنى هذه الكلمة، وأما التلفظ باللسان مع الجهل بمعناها فلا ينفع، فإن المنافقين يقولونها، وهم تحتَ الكفارِ في الدرك الأسفل من النار.
(فاعلم) أن معنى هذه الكلمة نفيُ الإلهية عما سوى الله ﵎ وإثباتها كلها لله وحده لا شريك له، ليس فيها حق لغيره لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، كما قال تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ ٣. وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ ٤. وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا﴾ ٥ الآية.
فإذا قيل: لا خالق إلا الله؛ فهذا معروف، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل. وإذا قيل: لا يرزق إلا الله فكذلك. فإذا قيل: لا إله إلا الله فكذلك. فتفكر رحمك الله! واسأل عن معنى لا إله إلا الله، كما تسأل عن معنى الخالق والرازق. فاعلم أن الإله هو المعبود؛ هذا هو تفسير هذه اللفظة بإجماع أهل العلم، فمن عبد شيئا فقد اتخذه إلها من دون الله، وجميع ذلك باطل، إلا إله واحد وهو الله وحده ﵎ علوا كبيرا.
العبادة وأنواعها
والعبادة أنواع كثيرة لكني أُمَثُّلُهَا بأنواع كثيرة لا تُنْكَر: من ذلك السجود:
_________
١ سورة الذاريات آية: ٥٦.
٢ سورة النحل آية: ٣٦.
٣ سورة مريم آية:٩٣، ٩٥.
٤ سورة النبأ آية: ٣٨.
٥ سورة النحل آية: ١١١.
1 / 16
فلا يجوز لعبد أن يضع وجهه على الأرض ساجدا إلا لله وحده لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل ولا لِوَلِيٍّ. ومن ذلك الذبح: فلا يجوز لأحد أن يذبح إلا لله وحده، كما قرن الله بينهما في القرآن في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ﴾ ١ والنسك هو: الذبح، وقال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ ٢؛ فتفطن لهذا.
واعلم أن مَن ذبح لغير الله من جني أو قبر، فهو كما لو سجد له. وقد لعنه رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح قال: "لعن الله من ذبح لغير الله" ٣.
ومن أنواع العبادة: الدعاء: كما كان المؤمنون يدعون الله ليلا ونهارا في الشدة والرخاء وحده، لا يشك أحد أن هذا من أنواع العبادة٤.
فتفكر -رحمك الله- أنه فيما حَدَثَ في الناس اليوم من دعاء غير الله في الشدة والرخاء: هذا يريد سفرا فيأتي عند قبر أو غيره، فيدخل عليه بماله على من يَنْهَبه. وهذا تلحقه الشدة في البر أو البحر فيستغيث بعبد القادر أو السمان أو بنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء، أن ينجيه من هذه الشدة.
فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف أن الإله هو: المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة؛ فكيف تدعو مخلوقا ميتا عاجزا وتترك الحي القيوم، الرؤوف الرحيم القدير؟ فيقول هذا المشرك: إن الأمر بيد الله، ولكن هذا العبد الصالح يشفع لي عند الله وتنفعني شفاعته وجاهه، ويظن أن ذلك يسلمه من الشرك.
_________
١ سورة الأنعام آية: ١٦٢.
٢ سورة الكوثر آية: ٢.
٣ مسلم: الأضاحي (١٩٧٨)، والنسائي: الضحايا (٤٤٢٢)، وأحمد (١/١٠٨،١/١١٨،١/١٥٢) .
٤ وهو أعلى الأنواع، وأدلها على الإيمان الصحيح والتوحيد الخالص، فالسجود إنما كان عبادة بحكم الشرع، وقد كان عادة في التحية من قبل، ومنه سجود يعقوب وأولاده لولده يوسف ﵈. وأما الدعاء فهو: ركن العبادة الأعظم بمقتضى الفطرة، وفي دين الله على ألسنة جميع الأمم، ولذلك قال (ص): "الدعاء هو العبادة" رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من حديث النعمان بن بشير وأبو يعلى من حديث البراء؛ وفي معناه: "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي من حديث أنس.
1 / 17
يدبر الأمر، وإنما أرادوا ما أردت من الشفاعة عند الله، كما قال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ ١. وقوله ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ٢. وإلا فهم يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق النافع الضار كما أخبر عنهم بقوله: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ ٣.
فليتدبر اللبيب العاقل الناصح لنفسه الذي يعرف أن بعد الموت جنة ونارا، هذا الموضع، ويعرف الشرك بالله الذي قال الله فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ٤ الآية. وقال: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ ٥. فما بعد هذا البيان بيان! إذا كان الله ﷿ قد حكى عن الكفار أنهم يقرون أنه هو الخالق الرازق، والمحيي المميت الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم التقرب والشفاعة عند الله -تعالى-.
(فكم من) آية في القرآن ذكر الله فيها هذا، كقوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ ٦ - إلى قوله- ﴿فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ ٧. وكقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ٨ ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ٩، وغير ذلك من الآيات التي أخبر الله بها عنهم أنهم أقروا بهذا لله وحده، وأنهم ما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم إلا الشفاعة، لا غير ذلك.
الشرك بعبادة الأصنام كالشرك بعبادة الأنبياء والصالحين
فإن احتج بعض المشركين أن أولئك يعتقدون في أصنام من حجارة وخشب، ونحن نعتقد في الصالحين. قيل له: والكفار أيضا منهم من يعتقد في الصالحين مثل:
_________
١ سورة يونس آية: ١٨.
٢ سورة الزمر آية: ٣.
٣ سورة يونس آية: ٣١.
٤ سورة النساء آية: ٤٨.
٥ سورة المائدة آية: ٧٢.
٦ سورة المؤمنون آية: ٨٤.
٧ سورة المؤمنون آية: ٨٩.
٨ سورة العنكبوت آية: ٦١.
٩ سورة العنكبوت آية: ٦٣.
1 / 18
الملائكة وعيسى بن مريم. وفي الأولياء مثل: العزير واللات، وناس من الجن. وقد ذكر الله ﷿ في كتابه ما يدل على هذا، فقال في الذين يعتقدون في الملائكة ليشفعوا لهم: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون َ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ ١. وقال: ﴿لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ ٢.
وقال فيمن اعتقد في عيسى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ ٣. وقال: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ٤؛ فإذا كان عيسى بن مريم -وهو من أفضل الرسل- قيل فيه هذا، فكيف بعبد القادر أو غيره؛ إذ يقال فيه: إنه يملك ضرا أو نفعا؟.
وقال في حق الأولياء: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ ٥. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة وعزيرا والمسيح فقال الله: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون أنتم رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
فرحم الله امرأ تفكر في هذه الآية العظيمة، وفيما نزلت فيه، وتفكر أن الذين اعتقدوا فيهم إنما أرادوا التقرب إلى الله والشفاعة عنده بهم، وهذا كله يدور على كلمتين:
الأولى: أن تعرف أن الكفار يعرفون أن الله -سبحانه- هو الخالق الرازق الذي يدبر الأمر وحده، وإنما أرادوا التقرب بهؤلاء إلى الله -تعالى-.
والثانية: أن تعرف أن منهم أُنَاسًا يعتقدون في أناس من الأنبياء والصالحين مثل: عيسى والعزير والأولياء، فصاروا هم والذين يعتقدون في الأصنام من الحجر والشجر واحدا، فلما جاءهم رسول الله ﷺ لم يفرق بين الذين يعتقدون في الأوثان من الخشب والحجر، والذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين؛
_________
١سورة سبأ آية: ٤٠.
٢ سورة الأنبياء آية: ٢٨.
٣ سورة النساء آية: ١٧١.
٤ سورة المائدة آية: ٧٦.
٥ سورة الإسراء آية: ٥٦.
1 / 19
إذا تبين هذا لك عرفت دين الله.
ولو قال المشرك بعد ذلك: هذا بَيِّنٌ نعرفه في أول الأمر ولا نخاف منه.
عناية القرآن بمحو الشرك من القلوب والبراءة من أهله
قيل: إن كان أصحاب رسول الله ﷺ لم يعرفوا هذا إلا بعد التعلم، ومن أنواع الشرك أشياء ما عرفوها إلا بعد سنين، فإن عرفت هذا بلا تعلم فأنت أعلم منهم، بل الأنبياء لم يعرفوا هذا إلا بعد أن علَّمَهم الله تعالى، قال الله تعالى لأعلم الخلق محمد ﷺ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ ١ وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ ٢.
فإذا كان هذا حال نبينا، وحال الخليل إبراهيم ﵇ إذ يوصي بها أولاده وهم أنبياء. قال الله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ٣. وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ ٤؛ فإذا كان هذا الأمر لا يخاف على المسلمين منه، فما بال الخليل يخاف على نفسه وعلى بنيه، وهم أنبياء؛ حيث قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ ٥. ما بال العليم الحكيم لما أنزل كتابه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور جعله في هذا الأمر، وأكثر الكلام فيه وبَيَّنَه، وضرب فيه الأمثال، وحَذَّرَ منه وأبدى وأعاد؟ فإذا كان الناس يفهمونه بلا تعلم، ولا يخاف عليهم منه، فما بال رب العالمين جعل أكثر كتابه فيه؟ فسبحان من طَبَعَ على قلب من شاء من خلقه، فأصمهم وأعمى أبصارهم!
وأنت يا مَنْ مَنَّ الله عليه بالإسلام، وعرف معنى: لا إله إلا الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق وتارك ما سواه٦، لكن لا أتعرض لهم ولا أقول فيهم شيئا، لا تظن أنك غير عاصٍ ربك، بل لا بد من بغضهم وبغض من يحبهم، ومسبتهم
_________
١ سورة محمد آية: ١٩.
٢ سورة الزمر آية: ٦٥.
٣ سورة البقرة آية: ١٣٢.
٤ سورة لقمان آية: ١٣.
٥ سورة إبراهيم آية: ٣٥.
٦ كذا في الأصل ويظهر أنه سقط من هنا شيء.
1 / 20
ومعاداتهم، كما قال أبوك إبراهيم والذين معه لقومهم: ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ ١. وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ ٢ الآية، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ٣.
ولو قال رجل: أنا أتبع النبي ﷺ وهو على الحق، لكن لا أتعرض للات والعزى، ولا أتعرض لأبي جهل وأمثاله، ما عليَّ منهم؟ لم يصح إسلامه.
وأما مجادلة بعض المشركين بأن هؤلاء الطواغيت ما أمروا الناس بهذا ولا رضوا به، فهذا لا يقوله إلا مشرك مكابر، فإن هؤلاء ما أكلوا أموال الناس بالباطل ولا ترأسوا عليهم، ولا قربوا ما قربوا إلا بهذا، وإذا رأوا رجلا موحدا منكرا لهذا الشرك سبوه وآذوه، وإذا رأوا مشركا كافرا تابعا للشيطان قربوه وأحبوه وزوجوه بناتهم وعَدُّوا ذلك شرفًا.
وهذا القائل يعلم أن قوله ذلك كذب، فإنه لو يحضر عندهم ويسمع بعض المشركين يقول: جاءتني شدة فجئت الشيخ فلان أو السيد فلان فنذرت له فخلصني، لم يجز أن يقول هذا القائل: لا يضر ولا ينفع إلا الله، بل لو قال هذا وأشاعه في الناس لأبغضه الطواغيت، بل لو قدروا على قتله لقتلوه. وبالجملة لا يقول هذا إلا مشرك مكابر، وإلا فدَعْوَاهم هذه وتخويفهم الناس، وذكرهم السوالف الكفرية التي اشتهرت عن آبائهم مشهور، لا ينكره من عرف حالهم كما قال تعالى: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ ٤.
العبرة فيما ذكر الله عن المشركين إذا مسهم الضر
ولنختم الكتاب بذكر آية من كتاب الله فيها عبرة لمن اعتبر. قال تعالى في حق الكفار: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ ٥، فذكر عن الكفار أنهم إذا جاءتهم الشدة تركوا غيره، وأخلصوا له الدين، وأهل زماننا إذا جاءتهم الشدة والضر التجؤوا إلى غير الله ﷾ عن ذلك. فرحم الله مَن تفكر في هذه الآية وغيرها من الآيات.
_________
١ سورة الممتحنة آية: ٤.
٢ سورة البقرة آية: ٢٥٦.
٣ سورة النحل آية: ٣٦.
٤ سورة التوبة آية: ١٧.
٥ سورة الإسراء آية: ٦٧.
1 / 21