[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
قال ابن عباس وغيره: إنها مكية؛ ويؤيد هذا أن في سورة الحجر:
ولقد آتيناك سبعا من المثاني
[الحجر:87] والحجر مكية بإجماع، وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني.
ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاة بغير: { الحمد لله رب العالمين } ، وروي عن عطاء بن يسار وغيره؛................. أنها مدنية، وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها فاتحة الكتاب، واختلف، هل يقال لها أم الكتاب؟ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن، وأجازه ابن عباس وغيره.
وفى تسميتها ب «أم الكتاب» حديث رواه أبو هريرة، واختلف هل يقال لها: «أم القرآن»؟ فكره ذلك ابن سيرين، وجوزه جمهور العلماء.
وسميت «المثاني»؛ لأنها تثنى في كل ركعة؛ وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة.
وأما فضل هذه السورة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب؛ أنها لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الفرقان مثلها، وروي أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل؛ وكذلك يجيء عدل:
قل هو الله أحد
[الإخلاص:1] وعدل:
إذا زلزلت
[الزلزلة:1] وغيره.
* ت *: ونحو حديث أبي حديث أبي سعيد بن المعلى؛ إذ قال له صلى الله عليه وسلم:
" ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن { الحمد لله رب العالمين }؛ هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته "
رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. انتهى من «سلاح المؤمن» تأليف الشيخ المحدث أبي الفتح تقي الدين محمد بن علي بن همام - رحمه الله -.
[1.2-3]
الحمد: معناه الثناء الكامل، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر؛ لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر، والحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود.
قال: * ص *: وهل الحمد بمعنى الشكر أو الحمد أعم، أو الشكر ثناء على الله بأفعاله، والحمد ثناء عليه بأوصافه؟ ثلاثة أقوال. انتهى.
قال الطبري: الحمد لله: ثناء أثنى به على نفسه تعالى، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه؛ فكأنه قال: قولوا: الحمد لله، وعلى هذا يجيء: قولوا: { إياك } ، و { اهدنا }.
قال: وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، وهو كثير.
والرب؛ في اللغة: المعبود، والسيد المالك، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها، فالرب على الإطلاق هو رب الأرباب على كل جهة، وهو الله تعالى.
والعالمون: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، يقال لجملته: عالم، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم، عالم، وبحسب ذلك يجمع على العالمين، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر، حسن جمعها، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه، وهو مأخوذ من العلم والعلامة؛ لأنه يدل على موجده؛ كذا قال الزجاج، قال أبو حيان: الألف واللام في العالمين للاستغراق، وهو جمع سلامة، مفرده عالم، اسم جمع، وقياسه ألا يجمع، وشذ جمعه أيضا جمع سلامة؛ لأنه ليس بعلم ولا صفة.
* م *: وذهب ابن مالك في «شرح التسهيل» إلى أن «عالمين» اسم جمع لمن يعقل، وليس جمع عالم؛ لأن العالم عام، و «عالمين» خاص، قلت: وفيه نظر. انتهى.
وقد تقدم القول في الرحمن الرحيم.
[1.4-5]
{ ملك يوم الدين }: الدين في كلام العرب على أنحاء، وهو هنا الجزاء يوم الدين، أي: يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها؛ قاله ابن عباس وغيره؛ مدينين: محاسبين، وحكى أهل اللغة: دنته بفعله دينا؛ بفتح الدال، ودينا؛ بكسرها: جزيته؛ ومنه قول الشاعر: (الكامل)
واعلم يقينا أن ملكك زائل
واعلم بأن كما تدين تدان
{ إياك نعبد }: نطق المؤمن به إقرار بالربوبية، وتذلل وتحقيق لعبادة الله؛ وقدم «إياك» على الفعل اهتماما، وشأن العرب تقديم الأهم، واختلف النحويون في «إياك»، فقال الخليل: «إيا»: اسم مضمر أضيف إلى ما بعده؛ للبيان لا للتعريف، وحكى عن العرب: «إذا بلغ الرجل الستين، فإياه وإيا الشواب»، وقال المبرد: إيا: اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كيسان عن بعض الكوفيين أن «إياك» بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكاف والهاء والياء هو الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها، ولا تكون إلا متصلات، فإذا تقدمت الأفعال جعل «إيا» عمادا لها، فيقال: إياك، وإياه، وإياي، فإذا تأخرت، اتصلت بالأفعال، واستغني عن «إيا».
و { نعبد }: معناه: نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة، والطريق المذلل يقال له معبد، وكذلك البعير.
و { نستعين }؛ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبر من الأصنام.
[1.6-7]
وقوله تعالى: { اهدنا }: رغبة؛ لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغ الأمر كلها، فإذا كانت من الأعلى، فهي أمر.
والهداية؛ في اللغة: الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد وكلها إذا تأملت راجعة إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى:
أولئك على هدى من ربهم
[البقرة:5] و
يهدي من يشآء إلى صرط مستقيم
[النور:46]، و
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء
[القصص:56]
فمن يرد الله أن يهديه
[الأنعام:125] الآية، قال أبو المعالي: فهذه الآيات لا يتجه جلها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد.
وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء؛ كقوله تعالى:
ولكل قوم هاد
[الرعد:7] أي: داع
وإنك لتهدي إلى صرط مستقيم
[الشورى:52].
وقد جاء الهدى بمعنى الإلهام؛ من ذلك قوله تعالى:
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه:50].
قال المفسرون: ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها.
وقد جاء الهدى بمعنى البيان؛ من ذلك قوله تعالى:
وأما ثمود فهدينهم
[فصلت:17] قال المفسرون: معناه: بينا لهم.
قال أبو المعالي: معناه: دعوناهم، وقوله تعالى:
إن علينا للهدى
[الليل:12]، أي: علينا أن نبين.
وفي هذا كله معنى الإرشاد.
قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية، والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها؛ كقوله تعالى في صفة المجاهدين:
فلن يضل أعملهم سيهديهم ويصلح بالهم
[محمد:4-5] ومنه قوله تعالى:
فاهدوهم إلى صرط الجحيم
[الصافات:23]، معناه: فاسلكوهم إليها.
قال: * ع *: وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضد الضلال، وهي الواقعة في قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم }؛ على صحيح التأويلات، وذلك بين من لفظ «الصراط» والصراط؛ في اللغة: الطريق الواضح؛ ومن ذلك قول جرير: (الوافر)
أمير المؤمنين على صراط
إذا اعوج الموارد مستقيم
واختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له «الصراط» في هذا الموضع: فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصراط المستقيم هنا القرآن، وقال جابر: هو الإسلام، يعني الحنيفية.
وقال محمد بن الحنفية: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره.
وقال أبو العالية: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر، أي: الصراط المستقيم طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وهذا قوي في المعنى، إلا أن تسمية أشخاصهم طريقا فيه تجوز، ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة هي أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام؛ وهو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون، وعندهم المعتقدات، وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قوله: { اهدنا } فيما هو حاصل عندهم: التثبيت والدوام، وفيما ليس بحاصل، إما من جهة الجهل به، أو التقصير في المحافظة عليه: طلب الإرشاد إليه، فكل داع به إنما يريد الصراط بكماله في أقواله، وأفعاله، ومعتقداته؛ واختلف في المشار إليهم بأنه سبحانه أنعم عليهم، وقول ابن عباس، وجمهور من المفسرين: أنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى:
ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم
الآية [النساء:66] إلى قوله:
رفيقا
وقوله تعالى: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ، اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت «غير» و «مثل» مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إذا قلت: رأيت غيرك، فكل شيء سوى المخاطب، فهو غيره؛ وكذلك إن قلت: رأيت مثلك، فما هو مثله لا يحصى؛ لكثرة وجوه المماثلة.
و { المغضوب عليهم }: اليهود، والضالون: النصارى؛ قاله ابن مسعود، وابن عباس، مجاهد، والسدي، وابن زيد.
وروى ذلك عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بين من كتاب الله؛ لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه؛ كقوله:
وباءو بغضب من الله
[آل عمران:112]
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله...
الآية [المائدة:60] وغضب الله تعالى، عبارة عن إظهاره عليهم محنا وعقوبات وذلة، ونحو ذلك مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعدا مؤكدا مبالغا فيه، والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فلما ورد، ضلوا، وأما غير متحققيهم، فضلالتهم متقررة منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام، وقد قال الله تعالى فيهم:
ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
[المائدة:77].
وأجمع الناس على أن عدد آي سورة الحمد سبع آيات؛ العالمين آية، الرحيم آية، الدين آية، نستعين آية، المستقيم آية، أنعمت عليهم آية، ولا الضالين آية، وقد ذكرنا عند تفسير { بسم الله الرحمن الرحيم }؛ أن ما ورد من خلاف في ذلك ضعيف.
(القول في «آمين»)
روى أبو هريرة وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا قال الإمام: { ولا الضالين }؛ فقولوا «آمين»، فإن الملائكة في السماء تقول: «آمين»، فمن وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه ".
* ت *: وخرج مسلم وأبو داود والنسائي من طريق أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فقولوا: «آمين»، يجبكم الله "
الحديث. انتهى.
ومعنى «آمين»؛ عند أكثر أهل العلم: اللهم، استجب، أو أجب يا رب.
ومقتضى الآثار أن كل داع ينبغي له في آخر دعائه أن يقول: «آمين»، وكذلك كل قارىء للحمد في غير صلاة، وأما في الصلاة، فيقولها المأموم والفذ، وفي الإمام في الجهر اختلاف.
واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
" فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة "
، فقيل: في الإجابة، وقيل: في خلوص النية، وقيل: في الوقت، والذي يترجح أن المعنى: فمن وافق في الوقت مع خلوص النية والإقبال على الرغبة إلى الله بقلب سليم فالإجابة تتبع حينئذ؛ لأن من هذه حاله، فهو على الصراط المستقيم.
وفي «صحيح مسلم» وغيره عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول؛
" قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله؛ حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "
انتهى، وعند مالك: «فهؤلاء لعبدي».
وأسند أبو بكر بن الخطيب عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة "
انتهى من «تاريخ بغداد» ولم يذكر في سنده مطعنا.
وقال ابن العربي في «أحكامه»: والصحيح عندي وجوب قراءتها على المأموم فيما أسر فيه، وتحريمها فيما جهر فيه، إذا سمع الإمام لما عليه من وجوب الإنصات والاستماع، فإن بعد عن الإمام، فهو بمنزلة صلاة السر. انتهى.
نجز تفسير سورة الحمد، والحمد لله بجميع محامده كلها؛ ما علمت منها، وما لم أعلم.
[2 - سورة البقرة]
[2.1-3]
قوله تعالى: { الم }: اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين؛ فقال الشعبي، وسفيان الثوري، وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن يؤمن بها، وتمر كما جاءت، وقال الجمهور من العلماء، بل يجب أن يتكلم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولا.
فقال علي، وابن عباس رضي الله عنهما: الحروف المقطعة في القرآن: هي اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.
وقال ابن عباس أيضا: هي أسماء الله أقسم بها، وقال أيضا: هي حروف تدل على: أنا الله أعلم، أنا الله أرى، وقال قوم:........ هي حساب أبي جاد؛ لتدل على مدة ملة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما ورد في حديث حيي بن أخطب، وهو قول أبي العالية وغيره.
* ت *: وإليه مال السهيلي في «الروض الأنف»، فانظره.
قوله تعالى: { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين }: الاسم من «ذلك»: الذال، والألف، واللام؛ لبعد المشار إليه، والكاف للخطاب.
واختلف في «ذلك» هنا؛ فقيل: هو بمعنى «هذا»، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن، وذلك أنه قد يشار بذلك إلى حاضر تعلق به بعض غيبة، وقيل: هو على بابه، إشارة إلى غائب.
واختلفوا في ذلك الغائب؛ فقيل: ما قد كان نزل في القرآن، وقيل غير ذلك؛ انظره.
و { لا ريب فيه }: معناه: لا شك فيه، و { هدى }: معناه إرشاد وبيان، وقوله: { للمتقين }: اللفظ مأخوذ من «وقى»، والمعنى: الذين يتقون الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب معاصيه، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذابه.
قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون }. { يؤمنون }: معناه يصدقون، وقوله: { بالغيب } قالت طائفة: معناه: يصدقون، إذا غابوا وخلوا، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا، ويكفرون إذا غابوا، وقال آخرون: معناه: يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع، وقوله: { يقيمون الصلوة } معناه: يظهرونها ويثبتونها؛ كما يقال: أقيمت السوق.
* ت *: وقال أبو عبد الله النحوي في اختصاره لتفسير الطبري: إقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإقبال عليها. انتهى.
قال: * ص *: يقيمون الصلاة من التقويم؛ ومنه: أقمت العود، أو الإدامة؛ ومنه: قامت السوق، أو التشمير والنهوض؛ ومنه: قام بالأمر. انتهى.
وقوله تعالى: { ومما رزقنهم ينفقون }: الرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به، حلالا كان أو حراما، و { ينفقون }: معناه هنا: يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة، وما ندبهم إليه من غير ذلك.
[2.4-7]
قوله تعالى: { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }: اختلف المتأولون من المراد بهذه الآية والتي قبلها، فقال قوم: الآيتان جميعا في جميع المؤمنين، وقال آخرون: هما في مؤمني أهل الكتاب، وقال آخرون: الآية الأولى في مؤمني العرب، والثانية في مؤمني أهل الكتاب؛ كعبد الله بن سلام؛ وفيه نزلت.
وقوله: { بما أنزل إليك }: يعني القرآن، { وما أنزل من قبلك } ، يعني: الكتب السالفة، و { يوقنون } معناه: يعلمون علما متمكنا في نفوسهم، واليقين أعلى درجات العلم.
وقوله تعالى: { أولئك على هدى من ربهم } إشارة إلى المذكورين، والهدى هنا: الإرشاد، والفلاح: الظفر بالبغية، وإدراك الأمل.
قوله تعالى: { إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم } إلى { عظيم }: اختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها، فقال قوم: هي فيمن سبق في علم الله، أنه لا يؤمن، وقال ابن عباس: نزلت في حيي بن أخطب، وأبي ياسر بن أخطب، وكعب بن الأشرف، ونظرائهم.
والقول الأول هو المعتمد عليه.
وقوله: { سواء عليهم } معناه: معتدل عندهم، والإنذار: إعلام بتخويف، هذا حده، وقوله تعالى: { ختم }: مأخوذ من الختم، وهو الطبع، والخاتم: الطابع؛ قال في مختصر الطبري: والصحيح أن هذا الطبع حقيقة.......... لا أنه مجاز؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن العبد إذا أذنب ذنبا، نكتت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب، ونزع واستغفر، صقل قلبه، وإن زاد، زادت؛ حتى تغلق قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [المطففين:14] "
انتهى.
والغشاوة: الغطاء المغشي الساتر، وقوله تعالى: { ولهم عذاب عظيم }: معناه: لمخالفتك يا محمد، وكفرهم بالله، و { عظيم }: معناه بالإضافة إلى عذاب دونه.
[2.8-12]
قوله تعالى: { ومن الناس من يقول ءامنا بالله... } إلى { وما يشعرون }. هذه الآية نزلت في المنافقين، وسمى الله تعالى يوم القيامة اليوم الآخر؛ لأنه لا ليل بعده، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل، واختلف المتأولون في قوله: { يخدعون الله } ، فقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى يخادعون رسول الله، فأضاف الأمر إلى الله تجوزا؛ لتعلق رسوله به، ومخادعتهم هي تحيلهم في أن يفشي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إليهم أسرارهم.
* ع *: تقول: خادعت الرجل؛ بمعنى: أعملت التحيل عليه، فخدعته، بمعنى: تمت عليه الحيلة، ونفذ فيه المراد، وقال جماعة: بل يخادعون الله والمؤمنين؛ بإظهارهم من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر، وإنما خدعوا أنفسهم؛ لحصولهم في العذاب، { وما يشعرون } بذلك، معناه: وما يعلمون علم تفطن وتهد، وهي لفظة مأخوذة من الشعار؛ كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس، وقولهم: ليت شعري: معناه: ليت فطنتي تدرك.
واختلف، ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له؟ فقالت طائفة: وما يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم؛ لخلودهم في النار، وقال آخرون: وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم: { ءامنا }.
قوله تعالى: { في قلوبهم مرض } ، أي: في عقائدهم فساد، وهم المنافقون، وذلك إما أن يكون شكا، وإما جحدا بسبب حسدهم مع علمهم بصحة ما يجحدون، وقال قوم: المرض غمهم بظهوره صلى الله عليه وسلم، { فزادهم الله مرضا } ، قيل: هو دعاء عليهم، وقيل: هو خبر أن الله قد فعل بهم ذلك، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحي، ويظهر من البراهين.
* ت *: لما تكلم. * ع *: على تفسير قوله تعالى:
عليهم دائرة السوء
[الفتح:6]. قال: كل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأن الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته، وهي في قبضته، ومن هذا:
ويل لكل همزة
[الهمزة:1]،
ويل للمطففين
[المطففين:1]، وهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى: { ولهم عذاب أليم } ، أي: مؤلم، { وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض } أي: بالكفر وموالاة الكفرة؛ ولقول المنافقين: { إنما نحن مصلحون } ثلاث تأويلات:
أحدها: جحد أنهم يفسدون، وهذا استمرار منهم على النفاق.
والثاني: أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح؛ من حيث هم قرابة توصل.
والثالث: أنهم يصلحون بين الكفار والمؤمنين.
و «ألا »: استفتاح كلام، و «لكن»: حرف استدراك، ويحتمل أن يراد هنا: لا يشعرون أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد: لا يشعرون أن الله يفضحهم.
[2.13-16]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم ءامنوا كما ءامن الناس... } الآية: المعنى: صدقوا بمحمد وشرعه كما صدق المهاجرون والمحققون من أهل يثرب، قالوا: أنكون كالذين خفت عقولهم، والسفه: الخفة والرقة الداعية إلى الخفة، يقال: ثوب سفيه، إذا كان رقيقا هلهل النسج، وهذا القول إنما كانوا يقولونه في خفاء، فأطلع الله عليه نبيه عليه السلام، والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هو في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء للرين الذي على قلوبهم.
وقوله تعالى: { وإذا لقوا الذين ءامنوا... } الآية: هذه كانت حال المنافقين: إظهار الإيمان للمؤمنين، وإظهار الكفر في خلواتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم، ويدعهم في غمرة الاشتباه؛ مخافة أن يتحدث الناس عنه أنه يقتل أصحابه حسبما وقع في قصة عبد الله بن أبي ابن سلول، قال مالك: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة اليوم، واختلف المفسرون في المراد بشياطينهم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم رؤساء الكفر، وقيل: الكهان، قال البخاري: قال مجاهد: { إلى شيطينهم } ، أي: أصحابهم من المنافقين والمشركين.
قال: * ص *: شياطينهم: جمع شيطان، وهو كل متمرد من الجن والإنس والدواب. قاله ابن عباس، وأنثاه شيطانة. انتهى.
* ت *: ويجب على المؤمن أن يجتنب هذه الأخلاق الذميمة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه "
رواه أبو داود، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم:
" من كان له وجهان في الدنيا، كان له يوم القيامة لسانان من نار "
انتهى. من سنن أبي داود.
{ الله يستهزىء بهم }: اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء، فقال جمهور العلماء: هي تسمية العقوبة باسم الذنب، والعرب تستعمل ذلك كثيرا، وقال قوم: إن الله سبحانه يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء؛ روي أن النار تجمد كما تجمد الإهالة، فيمشون عليها، ويظنون أنها منجاة، فتخسف بهم، وما روي أن أبواب النار تفتح لهم، فيذهبون إلى الخروج، نحا هذا المنحى ابن عباس والحسن.
* ت *: وقوله تعالى:
قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا
[الحديد:13] يقوي هذا المنحى، وهكذا نص عليه في اختصار الطبري. انتهى.
وقيل: استهزاؤه بهم هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية، و { يمدهم } ، أي: يزيدهم في الطغيان، وقال مجاهد: معناه: يملي لهم، والطغيان الغلو وتعدي الحد؛ كما يقال: طغى الماء، وطغت النار و { يعمهون }: معناه: يترددون حيرة، والعمه الحيرة من جهة النظر، والعامه الذي كأنه لا يبصر.
[2.17-20]
قوله تعالى: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } إلى قوله: { يأيها الناس }: قال الفخر: اعلم أن المقصود من ضرب المثال أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه؛ لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقا للعقل؛ وذلك هو النهاية في الإيضاح؛ ألا ترى أن الترغيب والترهيب إذا وقع مجردا عن ضرب مثل، لم يتأكد وقوعه في القلب؛ كتأكده مع ضرب المثل، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه الأمثال، قال تعالى:
وتلك الأمثل نضربها للناس لعلهم يتفكرون
[الحشر:21] انتهى.
والمثل والمثل والمثيل واحد، معناه: الشبيه، قاله أهل اللغة.
و { استوقد }: قيل: معناه أوقد.
واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل الذي استوقد نارا؛ فقالت فرقة: هي فيمن كان آمن، ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها، وذهاب النور، وقالت فرقة، منهم قتادة: نطقهم ب «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها، قال جمهور النحاة: جواب «لما»: «ذهب» ويعود الضمير من نورهم على «الذي»، وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد؛ لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق؛ على الخلاف المتقدم.
وقال قوم: جواب «لما» مضمر، وهو «طفئت»، فالضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين، والإخبار بهذا هو عن حال لهم تكون في الآخرة، وهو قوله تعالى :
فضرب بينهم بسور له باب...
الآية [الحديد:13] وهذا القول غير قوي.
والأصم: الذي لا يسمع، والأبكم: الذي لا ينطق، ولا يفهم، فإذا فهم، فهو الأخرس، وقيل: الأبكم والأخرس واحد، ووصفهم بهذه الصفات؛ إذ أعمالهم من الخطإ وعدم الإجابة؛ كأعمال من هذه صفته.
و «صم»: رفع على خبر الابتداء، إما على تقدير تكرير «أولئك»، أو إضمارهم.
وقوله تعالى: { فهم لا يرجعون } قيل: معناه: لا يؤمنون بوجه، وهذا إنما يصح أن لو كانت الآية في معينين، وقيل: معناه: فهم لا يرجعون ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح.
{ أو كصيب }: «أو»: للتخيير، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا، والصيب المطر؛ من: صاب يصوب، إذا انحط من علو إلى سفل.
و { ظلمت }: بالجمع: إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، ومن حيث تتراكب وتتزيد جمعت، وكون الدجن مظلما هول وغم للنفوس؛ بخلاف السحاب والمطر، إذا انجلى دجنه، فإنه سار جميل.
واختلف العلماء في «الرعد»، فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم: هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة، صاح بها، فإذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه، فهي الصواعق، واسم هذا الملك: الرعد.
وقيل: الرعد ملك، وهذا الصوت تسبيحه.
وقيل: الرعد: اسم الصوت المسموع؛ قاله علي بن أبي طالب.
وأكثر العلماء على أن الرعد ملك، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب.
واختلفوا في البرق.
فقال علي بن أبي طالب؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب "
وهذا أصح ما روي فيه.
وقال ابن عباس: هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب، وروي عنه:
" أن البرق ملك يتراءى "
واختلف المتأولون في المقصد بهذ المثل، وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق.
فقال جمهور المفسرين: مثل الله تعالى القرآن بالصيب، فما فيه من الإشكال عليهم والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة هو البرق، وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم، واشتهار كفرهم، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق، وهذا كله صحيح بين.
وقال ابن مسعود: إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم؛ لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله المثل لهم، وهذا وفاق لقول الجمهور.
و { محيط بالكفرين } معناه: بعقابهم، يقال: أحاط السلطان بفلان، إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، ومنه قوله تعالى:
وأحيط بثمره
[الكهف:42].
و { يكاد } فعل ينفي المعنى مع إيجابه، ويوجبه مع النفي، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخطف: الانتزاع بسرعة، ومعنى { يكاد البرق يخطف أبصرهم } ، تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل البرق في المثل الزجر والوعيد، قال: يكاد ذلك يصيبهم.
و «كلما»: ظرف، والعامل فيه «مشوا»، و «قاموا» معناه: ثبتوا، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عباس وغيره: كلما سمع المنافقون القرآن، وظهرت لهم الحجج، أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمهون فيه، ويضلون به، أو يكلفونه، قاموا، أي: ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن مسعود؛ أن معنى الآية: كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم، وتوالت عليهم النعم، قالوا: دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة، سخطوه وثبتوا في نفاقهم.
ووحد السمع؛ لأنه مصدر يقع للواحد والجمع.
وقوله سبحانه: { على كل شيء قدير } لفظه العموم، ومعناه عند المتكلمين: فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه، وقدير بمعنى قادر، وفيه مبالغة، وخص هنا سبحانه صفته التي هي القدرة بالذكر؛ لأنه قد تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك.
[2.21-24]
قوله تعالى: { يأيها الناس اعبدوا ربكم... } الآية: «يا»: حرف نداء، وفيه تنبيه، و «أي» هو المنادى، قال مجاهد: { يأيها الناس } حيث وقع في القرآن مكي، و { يأيها الذين ءامنوا } مدني.
قال: * ع *: قد تقدم في أول السورة؛ أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المدني: { يأيها الناس }.
وأما قوله في: { يأيها الذين ءامنوا } فصحيح.
{ اعبدوا ربكم }: معناه: وحدوه، وخصوه بالعبادة ، وذكر تعالى خلقه لهم؛ إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك سبحانه حجة عليهم، ولعل في هذه الآية قال فيها كثير من المفسرين: هي بمعنى إيجاب التقوى، وليست من الله تعالى بمعنى ترج وتوقع، وفي «مختصر الطبري»: { لعلكم تتقون } عن مجاهد، أي: لعلكم تطيعون، والتقوى التوقي من عذاب الله بعبادته، وهي من الوقاية، وأما «لعل» هنا، فهي بمعنى «كي» أو «لام كي»، أي: لتتقوا، أو لكي تتقوا، وليست هنا من الله تعالى بمعنى الترجي، وإنما هي بمعنى كي، وقد تجيء بمعنى «كي» في اللغة؛ قال الشاعر: (الطويل)
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا
نكف ووثقتم لنا كل موثق
انتهى.
قال: * ع *: وقال سيبويه: ورؤساء اللسان: هي على بابها، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، أي: إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم، رجوتم لأنفسكم التقوى، و «لعل»: متعلقة بقوله: «اعبدوا»، ويتجه تعلقها ب «خلقكم» أي: لما ولد كل مولود على الفطرة، فهو إن تأمله متأمل، توقع له ورجا أن يكون متقيا، و «تتقون»: مأخوذ من الوقاية، وجعل بمعنى «صير» في هذه الآية؛ لتعديها إلى مفعولين، و «فراشا» معناه: تفترشونها، و «السماء» قيل: هو اسم مفرد، جمعه سماوات، وقيل: هو جمع، واحده سماوة، وكل ما ارتفع عليك في الهواء، فهو سماء، { وأنزل من السماء } يريد السحاب، سمي بذلك تجوزا؛ لما كان يلي السماء، وقد سموا المطر سماء للمجاورة؛ ومنه قول الشاعر: [الوافر]
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
فتجوز أيضا في «رعيناه».
وواحد الأنداد ند، وهو المقاوم والمضاهي، واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية، فقالت جماعة من المفسرين: المخاطب جميع المشركين، فقوله سبحانه على هذا: { وأنتم تعلمون } يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق، وأنزل الماء، وأخرج الرزق، وقيل: المراد كفار بني إسرائيل، فالمعنى: وأنتم تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا ند له، وقال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين.
قوله تعالى: { وإن كنتم في ريب } ، أي: في شك، { فأتوا بسورة من مثله }: الضمير في «مثله» عند الجمهور: عائد على القرآن، { وادعوا شهداءكم } ، أي: من شهدكم وحضركم من عون ونصير؛ قاله ابن عباس: { إن كنتم صدقين } ، أي: فيما قلتم من أنكم تقدرون على معارضته.
ويؤيد هذا القول ما حكي عنهم في آية أخرى:
لو نشاء لقلنا مثل هذا
[الأنفال:31]، وفي قوله جل وعلا: { ولن تفعلوا } إثارة لهممهم، وتحريك لنفوسهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضا من الغيوب التي أخبر بها القرآن.
وقوله تعالى: { فاتقوا النار }: أمر بالإيمان وطاعة الله، قال الفخر ولما ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار، واتقاء النار يوجب ترك العناد؛ فأقيم قوله: { فاتقوا النار } مقام قوله: «واتركوا العناد»، ووصف النار بأنها تتقد بالناس والحجارة؛ وذلك يدل على قوتها، نجانا الله منها برحمته الواسعة.
وقرن الله سبحانه الناس بالحجارة؛ لأنهم اتخذوها في الدنيا أصناما يعبدونها؛ قال تعالى:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون
[الأنبياء:98] فإحدى الآيتين مفسرة للأخرى، وهذا كتعذيب مانعي الزكاة بنوع ما منعوا، انتهى.
[2.25]
قوله تعالى: { وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصلحات أن لهم جنت... } الآية.
{ بشر }: مأخوذ من البشرة؛ لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثر في بشرة الوجه، والأغلب استعمال البشارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيدة به؛ كما قال تعالى:
فبشرهم بعذاب أليم
[التوبة:34] ومتى أطلق لفظ البشارة، فإنما يحمل على الخير، وفي قوله تعالى: { وعملوا الصلحات } رد على من يقول: إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات؛ لأنه لو كان كذلك، ما أعادها، و { جنت } جمع جنة، وهي بستان الشجر والنخل، وبستان الكرم، يقال له الفردوس، وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن ثياب الجنة تشقق عنها ثمر الجنة "
، وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن . انتهى من «التذكرة».
* ت *: وفي الباب عن ابن عباس، وجرير بن عبد الله، وغيرهما: وسميت الجنة جنة؛ لأنها تجن من دخلها؛ أي: تستره، ومنه المجن، والجنن، وجن الليل.
و { من تحتها } معناه من تحت الأشجار التي يتضمنها ذكر الجنة.
* ت *: ومن أعظم البشارات أن هذه الأمة هم ثلثا أهل الجنة، وقد خرج أبو بكر بن أبي شيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن أمتي يوم القيامة ثلثا أهل الجنة، إن أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف، وإن أمتي من ذلك ثمانون صفا "
، وخرج ابن ماجه والترمذي عن بريدة بن حصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أهل الجنة عشرون ومائة صف؛ ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن............ انتهى من «التذكرة» للقرطبي.
{ والأنهار }: المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة؛ مأخوذة من أنهرت، أي: وسعت؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه "
ومعناه: ما وسع الذبح؛ حتى جرى الدم كالنهر، ونسب الجري إلى النهر، وإنما يجري الماء تجوزا؛ كما قال سبحانه:
واسأل القرية
[يوسف:82] وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد؛ إنما تجري على سطح أرض الجنة منضبطة.
وقولهم: { هذا الذي رزقنا من قبل }: إشارة إلى الجنس، أي: هذا من الجنس الذي رزقنا منه من قبل، والكلام يحتمل أن يكون تعجبا منهم، وهو قول ابن عباس، ويحتمل أن يكون خبرا من بعضهم لبعض؛ قاله جماعة من المفسرين، وقال الحسن، ومجاهد: يرزقون الثمرة، ثم يرزقون بعدها مثل صورتها، والطعم مختلف، فهم يتعجبون لذلك، ويخبر بعضهم بعضا، وقال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة، وقال بعض المتأولين: المعنى أنهم يرون الثمر، فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وقال قوم: إن ثمر الجنة إذا قطف منه شيء، خرج في الحين في موضعه مثله، فهذا إشارة إلى الخارج في موضع المجني.
وقوله تعالى: { متشبها } قال ابن عباس وغيره: معناه يشبه بعضه بعضا في المنظر، ويختلف في الطعم، و { أزوج }: جمع زوج، ويقال في المرأة: زوجة، والأول أشهر، و { مطهرة }: أبلغ من طاهرة، أي: مطهرة من الحيض، والبزاق، وسائر أقذار الآدميات، والخلود: الدوام، وخرج ابن ماجة عن أسامة بن زيد؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ذات يوم لأصحابه:
" «ألا مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها؛ هي، ورب الكعبة، نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة؛ وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبد في حبرة ونضرة، في دار عالية سليمة بهية»، قالوا: نحن المشمرون لها، يا رسول الله، قال: «قولوا: إن شاء الله»، ثم ذكر الجهاد وحض عليه "
انتهى من «التذكرة».
وقوله: لا خطر لها؛ بفتح الطاء: قيل: معناه: لا عوض لها.
[2.26-29]
قوله تعالى: { إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها }: لما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك، رد الله بقوله: { إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما }؛ على القائلين كيف يضرب الله مثلا بالذباب ونحوه.
واختلف في قوله تعالى: { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } ، هل هو من قول الكافرين أو خبر من الله تعالى؟ ولا خلاف أن قوله تعالى: { وما يضل به إلا الفسقين } من قول الله تعالى، والفسق: الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الفأرة، إذا خرجت من جحرها، والرطبة، إذا خرجت من قشرها، والفسق في عرف استعمال الشرع: الخروج من طاعة الله عز وجل بكفر أو عصيان.
قوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله }: النقض: رد ما أبرم على أوله غير مبرم، والعهد: في هذه الآية: التقدم في الشيء، والوصاة به، وظاهر مما قبل وبعد أنه في جميع الكفار.
* ع *: وكل عهد جائز بين المسلمين، فنقضه لا يحل بهذه الآية، والخاسر الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز، والخسران النقص، كان في ميزان أو غيره.
قوله تعالى: { كيف تكفرون بالله }: هو تقرير وتوبيخ، أي: كيف تكفرون، ونعمه عليكم وقدرته هذه، والواو في قوله: { وكنتم } واو الحال.
واختلف في قوله تعالى: { وكنتم أموتا... } الآية.
فقال ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد: المعنى: كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا دارسين؛ كما يقال للشيء الدارس: ميت، ثم خلقكم وأخرجكم إلى الدنيا، فأحياكم، ثم يميتكم الموت المعهود، ثم (يحييكم) للبعث يوم القيامة، وهذا التأويل هو أولى ما قيل؛ لأنه هو الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به، والضمير في «إليه» عائد على الله تعالى، أي: إلى ثوابه أو عقابه، و { خلق }: معناه: اخترع، وأوجد بعد العدم، و { لكم }: معناه: للاعتبار؛ ويدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء والإماتة والاستواء إلى السماء وتسويتها.
وقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء }: «ثم» هنا: لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر في نفسه، و { استوى }: قال قوم: معناه: علا دون كيف، ولا تحديد، هذا اختيار الطبري، والتقدير: علا أمره وقدرته وسلطانه، وقال ابن كيسان: معناه: قصد إلى السماء.
* ع*: أي: بخلقه، واختراعه، والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان.
و { سواهن }: قيل: جعلهن سواء، وقيل: سوى سطوحهن بالإملاس، وقال الثعلبي: { فسواهن } ، أي: خلقهن. انتهى. وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء، وذلك صحيح، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة «المؤمن»، وفي «النازعات».
[2.30-32]
وقوله تعالى: { وإذ قال ربك للملئكة إني جاعل في الأرض خليفة }: «إذ» ليست بزائدة عند الجمهور، وإنما هي معلقة بفعل مقدر، تقديره: واذكر إذ قال، وإضافة «رب» إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومخاطبته بالكاف تشريف منه سبحانه لنبيه، وإظهار لاختصاصه به، و «الملائكة»: واحدها ملك، والهاء في «ملائكة» لتأنيث الجموع غير حقيقي، وقيل: هي للمبالغة؛ كعلامة ونسابة، والأول أبين.
و { جاعل }؛ في هذه الآية بمعنى خالق، وقال الحسن وقتادة: جاعل بمعنى فاعل، وقال ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الأرض هنا هي مكة؛ لأن الأرض دحيت من تحتها؛ ولأنها مقر من هلك قومه من الأنبياء، وأن قبر نوح وهود وصالح بين المقام والركن "
و { خليفة }: معناه: من يخلف.
قال ابن عباس: كانت الجن قبل بني آدم في الأرض، فأفسدوا، وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة قتلهم، وألحق فلهم بجزائر البحار، ورؤوس الجبال، وجعل آدم وذريته خليفة، وقال ابن مسعود: إنما معناه: خليفة مني في الحكم.
وقوله تعالى: { أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية: قد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم الغيب، ولا تسبق القول، وذلك عام في جميع الملائكة، لأن قوله تعالى:
لا يسبقونه بالقول
[الأنبياء:27] خرج على جهة المدح لهم، قال القاضي ابن الطيب: فهذه قرينة العموم، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة نبأ ومقدمة.
قال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون، ويسفكون الدماء؛ فقالوا لذلك هذه المقالة: إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا؛ الاستخلاف، والعصيان.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأت، وعلمت ما كان من إفساد الجن، وسفكهم الدماء في الأرض؛ فجاء قولهم: { أتجعل فيها... } الآية؛ على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة يا ربنا على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟
وقال آخرون: كان الله تعالى قد أعلم الملائكة؛ أنه يخلق في الأرض خلقا يفسدون، ويسفكون الدماء، فلما قال لهم سبحانه بعد ذلك: { إني جاعل } قالوا: ربنا { أتجعل فيها... } الآية؛ على جهة الاسترشاد والاستعلام، هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به سبحانه قبل، أو غيره؟ ونحو هذا في «مختصر الطبري»، قال: وقولهم: { أتجعل فيها } ليس بإنكار لفعله عز وجل وحكمه، بل استخبار، هل يكون الأمر هكذا، وقد وجهه بعضهم بأنهم استعظموا الإفساد وسفك الدماء؛ فكأنهم سألوا عن وجه الحكمة في ذلك؛ إذ علموا أنه عز وجل لا يفعل إلا حكمة.
انتهى.
* ت *: والعقيدة أن الملائكة معصومون، فلا يقع منهم ما يوجب نقصانا من رتبتهم، وشريف منزلتهم صلوات الله وسلامه على جميعهم والسفك صب الدم، هذا عرفه، وقولهم: { ونحن نسبح بحمدك }.
قال بعض المتأولين: هو على جهة الاستفهام؛ كأنهم أرادوا: { ونحن نسبح بحمدك } الآية، أم نتغير عن هذه الحال؟
قال: * ع *: وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: { أتجعل }.
وقال آخرون: معناه: التمدح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم؛ كما قال يوسف:
إني حفيظ عليم
[يوسف:55]، وهذا يحسن مع التعجب والاستعظام؛ لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم: { أتجعل } ، وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } ، ومعنى: { نسبح بحمدك }: ننزهك عما لا يليق بصفاتك، وقال ابن عباس وابن مسعود: تسبيح الملائكة صلاتهم لله سبحانه، وقال قتادة: تسبيحهم قولهم: «سبحان الله»؛ على عرفه في اللغة، و { بحمدك }: معناه نصل التسبيح بالحمد، ويحتمل أن يكون قولهم: { بحمدك } اعتراضا بين الكلامين؛ كأنهم قالوا: ونحن نسبح ونقدس، وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك، وخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر؛ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى؟ إن أحب الكلام إلى الله تعالى: «سبحن الله وبحمده» "
، وفي رواية:
" سئل صلى الله عليه وسلم، أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده "
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم "
وهذا الحديث به ختم البخاري رحمه الله. انتهى.
{ ونقدس لك }: قال الضحاك وغيره: معناه: نطهر أنفسنا لك؛ ابتغاء مرضاتك، والتقديس: التطهير بلا خلاف، ومنه الأرض المقدسة، أي: المطهرة، وقال آخرون: { ونقدس لك }: معناه: نقدسك، أي: نعظمك ونطهر ذكرك مما لا يليق به، قاله مجاهد وغيره.
وقوله تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون }.
قال ابن عباس: كان إبليس لعنه الله قد أعجب بنفسه، ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا، واعتقد أن ذلك لمزية له، فلما قالت الملائكة: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك، قال الله سبحانه: { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني ما في نفس إبليس.
وقال قتادة: لما قالت الملائكة: { أتجعل فيها من يفسد فيها } ، وقد علم الله أن في من يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة، قال لهم: { إني أعلم ما لا تعلمون } ، يعني: أفعال الفضلاء.
وقوله تعالى: { وعلم ءادم الأسماء كلها }: معناه: عرف، وتعليم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة، وقال قوم: بل تعليم بقول؛ إما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض، فلا يشارك موسى عليه السلام في خاصته.
* ت *: قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة: تعليمه سبحانه لآدم الأسماء كلها، إنما كان بالعلم اللدني بلا واسطة. انتهى من كتابه الذي شرح فيه بعض أحاديث البخاري، وكل ما أنقله عنه، فمنه، واختلف المتأولون في قوله: { الأسماء }: فقال جمهور الأمة: علمه التسميات، وقال قوم: عرض عليه الأشخاص، والأول أبين؛ ولفظة علم تعطي ذلك.
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه، فقال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد: علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات؛ دقيقها، وجليلها، وقال الطبري: علمه أسماء ذريته، والملائكة؛ ورجحه بقوله تعالى: { ثم عرضهم } وقال أكثر العلماء: علمه تعالى منافع كل شيء، ولما يصلح.
وقيل غير هذا.
واختلف المتأولون، هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟.
{ وأنبئوني }: معناه: أخبروني، والنبأ: الخبر، وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق، ويتقرر جوازه؛ لأنه سبحانه علم أنهم لا يعلمون.
وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف، إنما هو على جهة التقرير والتوقيف.
وقوله تعالى: { هؤلاء } ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على الملائكة، وليس في هذه الآية ما يدل أن الاسم هو المسمى؛ كما ذهب إليه مكي والمهدوي.
والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء، وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصا، ثم عرض تلك على الملائكة، وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم، ثم إن آدم قال لهم: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا.
{ وهؤلاء }: مبني على الكسر، { وكنتم } في موضع الجزم بالشرط، والجواب عند سيبويه: فيما قبله، وعند المبرد: محذوف؛ تقديره: إن كنتم صادقين، فأنبئوني، وقال ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: معنى الآية: إن كنتم صادقين في أن الخليفة يفسد ويسفك.
* ت *: وفي النفس من هذا القول شيء، والملائكة منزهون معصومون؛ كما تقدم، والصواب ما تقدم من التفسير عند قوله تعالى: { أتجعل فيها... } الآية.
وقال آخرون: إن كنتم صادقين في أني إن استخلفتكم، سبحتم بحمدي، وقدستم لي.
وقال قوم: معناه: إن كنتم صادقين في جواب السؤال، عالمين بالأسماء.
و { سبحنك }: معناه تنزيها لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته، والعليم: معناه: العالم، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير في المعلومات، والحكيم: معناه: الحاكم وبينهما مزية المبالغة، وقيل: معناه: المحكم، وقال قوم: الحكيم المانع من الفساد، ومنه حكمة الفرس مانعته.
[2.33-34]
وقوله تعالى: { قال يا ءادم أنبئهم بأسمائهم }: أنبئهم: معناه: أخبرهم، والضمير في «أنبئهم» عائد على الملائكة بإجماع، والضمير في «أسمائهم» مختلف فيه حسب الاختلاف في الأسماء التي علمها آدم، قال بعض العلماء: إن في قوله تعالى: { فلما أنبأهم } نبوءة لآدم عليه السلام؛ إذ أمره الله سبحانه أن ينبىء الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عز وجل.
وقوله تعالى: { أعلم غيب السموات والأرض }: معناه: ما غاب عنكم؛ لأن الله تعالى لا يغيب عنه شيء، الكل معلوم له.
واختلف في قوله تعالى: { ما تبدون وما كنتم تكتمون }.
فقال طائفة: ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع، «وإذ» من قوله: { وإذ قلنا للملئكة } معطوفة على «إذ» المتقدمة، وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل؛ بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته .
* ت *: ما ذكره رحمه الله هو عقيدة أهل السنة، وها أنا أنقل من كلام الأئمة، إن شاء الله، ما يتبين به كلامه، ويزيده وضوحا، قال ابن رشد: قوله صلى الله عليه وسلم:
" أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق "
لا يفهم منه أن لله عز وجل كلمات غير تامات؛ لأن كلماته هي قوله، وكلامه هو صفة من صفات ذاته يستحيل عليها النقص، وفي الحديث بيان واضح على أن كلماته عز وجل غير مخلوقة إذ لا يستعاذ بمخلوق، وهذا هو قول أهل السنة، والحق أن كلام الله عز وجل صفة من صفات ذاته قديم غير مخلوق؛ لأن الكلام هو المعنى القائم في النفس، والنطق به عبارة عنه؛ قال الله عز وجل:
ويقولون فى أنفسهم
[المجادلة:8] فأخبر أن القول معنى يقوم في النفس، وتقول: في نفسي كلام، أريد أن أعلمك به، فحقيقة كلام الرجل هو المفهوم من كلامه، وأما الذي تسمعه منه، فهو عبارة عنه؛ وكذلك كلام الله عز وجل القديم الذي هو صفة من صفات ذاته هو المفهوم من قراءة القارىء لا نفس قراءته التي تسمعها؛ لأن نفس قراءته التي تسمعها محدثة، لم تكن؛ حتى قرأ بها، فكانت، وهذا كله بين إلا لمن أعمى الله بصيرته. انتهى بلفظه من «البيان».
وقال الغزالي بعد كلام له نحو ما تقدم لابن رشد: وكما عقل قيام طلب التعلم وإرادته بذات الوالد قبل أن يخلق ولده؛ حتى إذا خلق ولده، وعقل، وخلق الله سبحانه له علما بما في قلب أبيه من الطلب، صار مأمورا بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه، ودام وجوده إلى وقت معرفة ولده، فليعقل قيام الطلب الذي دل عليه قوله عز وجل:
فاخلع نعليك
[طه:12] بذات الله تعالى، ومصير موسى عليه السلام سامعا لذلك الكلام مخاطبا به بعد وجوده؛ إذ خلقت له معرفة بذلك الطلب، ومعرفة بذلك الكلام القديم. انتهى بلفظه من «الإحياء».
وقوله: { للملئكة } عموم فيهم، والسجود في كلام العرب: الخضوع والتذلل، وغايته وضع الوجه بالأرض، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع، ولا تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود، وقوله تعالى:
فقعوا له ساجدين
[الحجر:29] لا دليل فيه؛ لأن الجاثي على ركبتيه واقع، واختلف في حال السجود لآدم.
فقال ابن عباس: تعبدهم الله بالسجود لآدم، والعبادة في ذلك لله، وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس أيضا: كان سجود تحية؛ كسجود أبوي يوسف عليه السلام له، لا سجود عبادة، وقال الشعبي: إنما كان آدم كالقبلة، ومعنى { لأدم }: إلى آدم.
* ع *: وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه السلام.
وقوله تعالى: { إلا إبليس } نصب على الاستثناء المتصل؛ لأنه من الملائكة على قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازنا وملكا على سماء الدنيا والأرض، واسمه عزازيل؛ قاله ابن عباس.
وقال ابن زيد والحسن: هو أبو الجن كما آدم أبو البشر، ولم يك قط ملكا، وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضا، قال: واسمه الحارث.
وقال شهر بن حوشب: كان من الجن الذين كانوا في الأرض، وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا، وتعبد مع الملائكة، وخوطب معها، وحكاه الطبري عن ابن مسعود.
والاستثناء على هذه الأقوال منقطع؛ واحتج بعض أصحاب هذا القول؛ بأن الله تعالى قال في صفة الملائكة:
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
[التحريم:6] ورجح الطبري قول من قال: إن إبليس كان من الملائكة، وقال: ليس في خلقه من نار، ولا في تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة، وقوله تعالى:
كان من الجن ففسق عن أمر ربه
[الكهف:50] يتخرج على أنه عمل عملهم، فكان منهم في هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جنا؛ لاستتارها؛ قال الله تعالى:
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا
[الصافات:158] وقال الأعشى في ذكر سليمان عليه السلام: [الطويل]
وسخر من جن الملائك تسعة
قياما لديه يعملون بلا أجر
أو على أن يكون نسبه إلى الجنة؛ كما ينسب إلى البصرة بصري.
قال عياض: ومما يذكرونه قصة إبليس، وأنه كان من الملائكة، ورئيسا فيهم، ومن خزان الجنة إلى ما حكوه، وهذا لم يتفق عليه، بل الأكثر ينفون ذلك، وأنه أبو الجن. انتهى من «الشفا».
وإبليس: لا ينصرف؛ لأنه اسم أعجمي؛ قال الزجاج: ووزنه فعليل، وقال ابن عباس وغيره: هو مشتق من أبلس، إذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفعيل، ولم تصرفه هذه الفرقة؛ لشذوذه وقلته، ومنه قوله تعالى:
فإذا هم مبلسون
[الأنعام:44] أي: يائسون من الخير، مبعدون منه فيما يرون، و { أبى }: معناه: امتنع من فعل ما أمر به، { واستكبر }: دخل في الكبرياء، والإباءة مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه، والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده، وروى ابن القاسم عن مالك؛ أنه قال: بلغني أن أول معصية كانت الحسد، والكبر، والشح، حسد إبليس آدم، وتكبر، وشح آدم في أكله من شجرة قد نهي عن قربها.
* ت *: إطلاق الشح على آدم فيه ما لا يخفى عليك، والواجب اعتقاد تنزيه الأنبياء عن كل ما يحط من رتبتهم، وقد قال الله تعالى في حق آدم:
ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل فنسي ولم نجد له عزما
[طه:115].
وقوله تعالى: { وكان من الكفرين }: قالت فرقة: معناه: وصار من الكافرين، ورده ابن فورك، وقال جمهور المتأولين: معنى: { وكان من الكفرين } ، أي: في علم الله تعالى، وقال أبو العالية: معناه: من العاصين، وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوءته، ومع تقدم نعم الله عليهم، وعلى أسلافهم.
* ت *: ولفظ الطبري: وفي هذا تقريع لليهود؛ إذ أبوا الإسلام مع علمهم بنبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوارة والكتب؛ حسدا له، ولبني إسماعيل؛ كما امتنع إبليس من السجود؛ حسدا لآدم وتكبرا عن الحق وقبوله، فاليهود نظراء إبليس في كفرهم وكبرهم وحسدهم وتركهم الانقياد لأمر الله تعالى. انتهى من «مختصر الطبري» لأبي عبد الله اللخمي النحوي.
واختلف، هل كفر إبليس جهلا أو عنادا؟ على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله قبل كفره ، ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره، وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: { اسكن }.
[2.35-36]
قوله تعالى: { وقلنا يا ءادم اسكن أنت وزوجك الجنة }: { اسكن }: معناه: لازم الإقامة، ولفظه لفظ الأمر، ومعناه الإذن، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام، هل هي جنة الخلد، أو جنة أخرى.
* ت *: والأول هو مذهب أهل السنة والجماعة.
{ وكلا منها } ، أي: من الجنة، والرغد: العيش الدار الهني، و «حيث» مبنية على الضم.
وقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }: معناه لا تقرباها بأكل، والهاء في «هذه» بدل من الياء، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة، واختلف في هذه الشجرة، ما هي؟ فقال ابن عباس، وابن مسعود: هي الكرم، وقيل: هي شجرة التين، وقيل: السنبلة وقيل غير ذلك.
وقوله: { فتكونا من الظلمين }: الظالم؛ في اللغة: الذي يضع الشيء في غير موضعه، والظلم؛ في أحكام الشرع على مراتب: أعلاها الشرك، ثم ظلم المعاصي؛ وهي مراتب، و { أزلهما }: مأخوذ من الزلل، وهو في الآية مجاز؛ لأنه في الرأي والنظر، وإنما حقيقة الزلل في القدم، وقرأ حمزة: «فأزالهما» مأخوذ من الزوال، ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم عليه السلام ، واختلف في الكيفية.
فقال ابن عباس، وابن مسعود، وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة؛ بدليل قوله تعالى:
وقاسمهما
[الأعراف:21] والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانه، وسلطانه، ووساوسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ".
* ت *: وإلى هذا القول نحا المازري في بعض أجوبته، ومن ابتلي بشيء من وسوسة هذا اللعين؛ فأعظم الأدوية له الثقة بالله، والتعوذ به، والإعراض عن هذا اللعين، وعدم الالتفات إليه، ما أمكن؛ قال ابن عطاء الله في «لطائف المنن»: كان بي وسواس في الوضوء، فقال لي الشيخ أبو العباس المرسي: إن كنت لا تترك هذه الوسوسة لا تعد تأتينا، فشق ذلك علي، وقطع الله الوسواس عني، وكان الشيخ أبو العباس يلقن للوسواس: سبحان الملك الخلاق،
إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز
[فاطر:16، 17] انتهى.
قال عياض: في «الشفا»؛ وأما قصة آدم عليه السلام، وقوله تعالى:
فأكلا منها
[طه:121] بعد قوله: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظلمين } ، وقوله تعالى:
ألم أنهكما عن تلكما الشجرة
[الأعراف:22] وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله:
وعصى ءادم ربه فغوى
[طه:121] أي: جهل، وقيل: أخطأ، فإن الله تعالى قد أخبر بعذره بقوله:
ولقد عهدنا إلى ءادم من قبل فنسي ولم نجد له عزما
[طه:115] قال ابن عباس: نسي عداوة إبليس، وما عهد الله إليه من ذلك؛ بقوله:
إن هذا عدو لك ولزوجك...
[طه:117] الآية، وقيل: نسي ذلك بما أظهر لهما، وقال ابن عباس: إنما سمي الإنسان إنسانا؛ لأنه عهد إليه فنسي، وقيل: لم يقصد المخالفة؛ استحلالا لها، ولكنهما اغترا بحلف إبليس لهما:
إني لكما لمن الناصحين
[الأعراف:21] وتوهما أن أحدا لا يحلف بالله حانثا، وقد روي عذر آدم مثل هذا في بعض الآثار، وقال ابن جبير: حلف بالله لهما حتى غرهما، والمؤمن يخدع، وقد قيل: نسي، ولم ينو المخالفة؛ فلذلك قال تعالى:
ولم نجد له عزما
[طه:115] أي: قصدا للمخالفة وأكثر المفسرين على أن العزم هنا الحزم والصبر، وقال ابن فورك وغيره: إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوءة، ودليل ذلك قوله تعالى:
وعصى ءادم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى
[طه:121، 122] فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وقيل: بل أكلها، وهو متأول، وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها، لأنه تأول نهي الله تعالى عن شجرة مخصوصة، لا على الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ، لا من المخالفة، وقيل: تأول أن الله تعالى لم ينهه عنها نهي تحريم. انتهى بلفظه فجزاه الله خيرا، ولقد جعل الله في شفاه شفاء.
والضمير في { عنها } يعود على الجنة، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره: فأكلا من الشجرة. وقوله تعالى: { فأخرجهما مما كانا فيه }: قيل: معناه: من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا، وقيل: من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب.
* ت *: وفي هذا القول ما فيه، بل الصواب ما أشار إليه صاحب «التنوير»؛ بأن إخراج آدم لم يكن إهانة له، بل لما سبق في علمه سبحانه من إكرام آدم وجعله في الأرض خليفة، هو وأخيار ذريته، قائمين فيها بما يجب لله من عبادته، والهبوط النزول من علو إلى سفل، واختلف من المخاطب بالهبوط.
فقال السدي وغيره: آدم، وحواء، وإبليس، والحية التي أدخلت إبليس في فمها، وقال الحسن: آدم، وحواء والوسوسة.
و { بعضكم لبعض عدو } جملة في موضع الحال، { ولكم فى الأرض مستقر } ، أي: موضع استقرار، وقيل: المراد الاستقرار في القبور، والمتاع: ما يستمتع به؛ من أكل، ولبس، وحديث، وأنس، وغير ذلك.
واختلف في «الحين» هنا.
فقالت فرقة: إلى الموت، وهذا قول من يقول: المستقر هو المقام في الدنيا، وقالت فرقة: { إلى حين }: إلى يوم القيامة، وهذا هو قول من يقول: المستقر هو في القبور، والحين المدة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان والالتزامات سنة؛ قال الله تعالى:
تؤتي أكلها كل حين
[إبراهيم:25] وقيل: أقصرها ستة أشهر؛ لأن من النخل ما يطعم في كل ستة أشهر.
وفي قوله تعالى: { إلى حين } فائدة لآدم عليه السلام؛ ليعلم أنه غير باق فيها، ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها، وهي لغير آدم دالة على المعاد، وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب، وأن حواء نزلت بجدة، وأن الحية نزلت بأصبهان، وقيل: بميسان، وأن إبليس نزل عند الأبلة.
[2.37-38]
قوله تعالى: { فتلقى ءادم من ربه كلمات }: المعنى: فقال الكلمات، فتاب الله عليه عند ذلك، وقرأ ابن كثير «آدم» بالنصب «من ربه كلمات» بالرفع، واختلف المتأولون في الكلمات، فقال الحسن بن أبي الحسن: هي قوله تعالى:
ربنا ظلمنا أنفسنا...
الآية [الأعراف:23]، وقالت طائفة: إن آدم رأى مكتوبا على ساق العرش: محمد رسول الله، فتشفع به، فهي الكلمات، وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب، فقال: يقول ما قاله أبواه:
ربنا ظلمنا أنفسنا
[الأعراف:23] وما قاله موسى:
رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي
[القصص:16] وما قال يونس:
لا إله إلا أنت سبحنك إني كنت من الظلمين
[الأنبياء:87] وتاب عليه: معناه: راجع به، والتوبة من الله تعالى الرجوع على عبده بالرحمة والتوفيق، والتوبة من العبد الرجوع عن المعصية، والندم على الذنب، مع تركه فيما يستأنف.
* ت *: يعني: مع العزم على تركه فيما يستقبل، وإنما خص الله تعالى آدم بالذكر في التلقي، والتوبة، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع؛ لأنه المخاطب في أول القصة، فكملت القصة بذكره وحده؛ وأيضا: فلأن المرأة حرمة ومستورة، فأراد الله تعالى الستر لها؛ ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله:
وعصى ءادم ربه
[طه:121] وبنية التواب للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: { هو التواب } تأكيد فائدته أن التوبة على العبد إنما هي نعمة من الله تعالى، لا من العبد وحده؛ لئلا يعجب التائب، بل الواجب عليه شكر الله تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة، وبالثاني إتيان الهدى.
* ت *: وهذه الآية تبين أن هبوط آدم كان هبوط تكرمة؛ لما ينشأ عن ذلك من أنواع الخيرات، وفنون العبادات.
و { جميعا }: حال من الضمير في «اهبطوا»، واختلف في المقصود بهذا الخطاب.
فقيل: آدم، وحواء، وإبليس، وذريتهم، وقيل: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص في آدم وحواء؛ لأن إبليس لا يأتيه هدى، والأول أصح؛ لأن إبليس مخاطب بالإيمان بإجماع.
«وإن» في قوله: { فإما } هي للشرط، دخلت «ما» عليها مؤكدة؛ ليصح دخول النون المشددة، واختلف في معنى قوله: { هدى } فقيل: بيان وإرشاد، والصواب أن يقال: بيان ودعاء، وقالت فرقة: الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر هو فمن بعده.
وقوله تعالى: { فمن تبع هداي }: شرط، جوابه: { فلا خوف عليهم } ، قال سيبويه: والشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله: { فإما يأتينكم }.
وقوله تعالى: { فلا خوف عليهم }: يحتمل فيما بين أيديهم من الدنيا ، { ولا هم يحزنون } على ما فاتهم منها، ويحتمل: { لا خوف عليهم } يوم القيامة، { ولا هم يحزنون } فيه.
* ت *: وهذا هو الظاهر، وعليه اقتصر في اختصار الطبري، ولفظه عن ابن زيد: { فلا خوف عليهم } ، أي: لا خوف عليهم أمامهم، قال: وليس شيء أعظم في صدر من يموت مما بعد الموت؛ فأمنهم سبحانه منه، وسلاهم عن الدنيا. انتهى.
[2.39-41]
وقوله تعالى: { والذين كفروا... }: لما كانت لفظة الكفر يشترك فيها كفر النعم، وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلود، بين سبحانه أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله: { وكذبوا بآيتنا... } والآيات هنا يحتمل أن يريد بها المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامات المنصوبة، والصحبة الاقتران بالشيء في حالة ما زمنا.
قوله تعالى: { يبني إسرءيل اذكروا نعمتي }: إسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وإسرا: هو بالعبرانية عبد، وإيل: اسم الله تعالى، فمعناه عبد الله، والذكر في كلام العرب على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان، والنعمة هنا اسم جنس، فهي مفردة بمعنى الجمع، قال ابن عباس، وجمهور العلماء: الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم }: أمر وجوابه، وهذا العهد في قول جمهور العلماء عام في جميع أوامره سبحانه ونواهيه ووصاياه لهم، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة، والرهبة يتضمن الأمر بها معنى التهديد، وأسند الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» له عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" قال ربكم سبحانه: لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، ومن أمنني في الدنيا، أخفته في الآخرة "
انتهى في «التذكرة» للقرطبي، ورواه ابن المبارك في «رقائقه» من طريق الحسن البصري، وفيه:
" قال الله: وعزتي، لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين؛ فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة "
انتهى، ورواه أيضا الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» قال صاحب «الكلم الفارقية، والحكم الحقيقية»: «بقدر ما يدخل القلب من التعظيم والحرمة تنبعث الجوارح في الطاعة والخدمة». انتهى.
و { ءامنوا }: معناه: صدقوا، و { مصدقا } نصب على الحال من الضمير في { أنزلت } ، و { ما أنزلت } كناية عن القرآن، و { لما معكم } ، يعني: التوراة.
وقوله: { ولا تكونوا أول كافر به } هذا من مفهوم الخطاب الذي المذكور فيه والمسكوت عنه حكمهما واحد، وحذروا البدار إلى الكفر به؛ إذ على الأول كفل من فعل المقتدى به، ونصب «أول» على خبر «كان».
* ع *: وقد كان كفر قبلهم كفار قريش، وإنما معناه من أهل الكتاب؛ إذ هم منظور إليهم في مثل هذا، واختلف في الضمير في «به»، فقيل: يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: على القرآن، وقيل: على التوراة، واختلف في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات.
فقالت طائفة: إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة، فنهوا عن ذلك، وفي كتبهم: «علم مجانا؛ كما علمت مجانا»، أي: باطلا بغير أجرة.
وقيل: كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم.
وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رشا على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، فنهوا عن ذلك.
وقال قوم: معنى الآية: ولا تشتروا بأوامري، ونواهي، وآياتي ثمنا قليلا، يعني: الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له، وقد تقدم نظير قوله: { وإيي فاتقون } ، وبين «اتقون»، و «ارهبون» فرق إن الرهبة مقرون بها وعيد بالغ.
[2.42-43]
وقوله تعالى: { ولا تلبسوا الحق بالبطل } ، أي: لا تخلطوا، قال أبو العالية: قالت اليهود: محمد نبي مبعوث، لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق، وقولهم: إلى غيرنا باطل، { وتكتموا الحق } ، أي: أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الألفاظ دليل على تغليظ الذنب على من وقع فيه، مع العلم به، وأنه أعصى من الجاهل، { وأنتم تعلمون } جملة في موضع الحال. قال:
* ص *: { وتكتموا } مجزوم معطوف على { تلبسوا } ، والمعنى النهي عن كل من الفعلين. انتهى.
{ وأقيموا الصلاة }: معناه: أظهروا هيئتها، وأديموها بشروطها، والزكاة في هذه الآية هي المفروضة، وهي مأخوذة من النماء، وقيل: من التطهير.
وقوله تعالى: { واركعوا مع الراكعين }: قيل: إنما خص الركوع بالذكر؛ لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع.
* ت *: وفي هذا القول نظر، وقد قال تعالى في «مريم»:
اسجدي واركعي
[آل عمران:43]، وقالت فرقة: إنما قال: { مع }؛ لأن الأمر بالصلاة أولا لم يقتض شهود الجماعة، فأمرهم بقوله: { مع } شهود الجماعة.
* ت *: وهذا القول هو الذي عول عليه * ع *: في قصة مريم عليها السلام ، والركوع الانحناء بالشخص.
[2.44-46]
وقوله تعالى: { أتأمرون } خرج مخرج الاستفهام، ومعناه التوبيخ، و «البر» يجمع وجوه الخير والطاعات، و { تنسون } معناه تتركون أنفسكم.
قال ابن عباس: كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقالت فرقة: كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، دلوه على ذلك، وهم لا يفعلونه.
* ت *: وخرج الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في كتاب «رياضة المتعلمين»؛ قال: حدثنا أبو بكر بن خلاد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن عبد الله بن علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار، فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون "
انتهى.
{ واستعينوا بالصبر والصلوة }: قال مقاتل: معناه: على طلب الآخرة، وقيل: استعينوا بالصبر على الطاعات، وعن الشهوات على نيل رضوان الله سبحانه، وبالصلاة على نيل رضوان الله، وحط الذنوب، وعلى مصائب الدهر أيضا؛ ومنه الحديث:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حزبه أمر، فزع إلى الصلاة "
، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي له أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع، وتنحى عن الطريق، وصلى، ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأ: { واستعينوا بالصبر والصلوة } ، وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر؛ لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات، ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتخشع، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة، وقال قوم: الصبر على بابه، والصلاة الدعاء، وتجيء الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى:
إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله
[الأنفال:45] لأن الثبات هو الصبر، وذكر الله هو الدعاء، وروى ابن المبارك في «رقائقه»؛ قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن صلة بن أشيم؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من صلى صلاة، لم يذكر فيها شيئا من أمر الدنيا، لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه "
وأسند ابن المبارك عن عقبة بن عامر الجهني؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من توضأ، فأحسن وضوءه، ثم صلى صلاة غير ساه، ولا لاه، كفر عنه ما كان قبلها من شيء "
انتهي.
وهذان الحديثان يبينان ما جاء في «صحيح البخاري»
" عن عثمان حيث توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه» "
انتهى.
والضمير في قوله تعالى: { وإنها } قيل: يعود على الصلاة، وقيل: على العبادة التي تضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة. قال:
* ص *: «وإنها» الضمير للصلاة، وهو القاعدة في أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل. انتهى.
ثم ذكر أبو حيان وجوها أخر نحو ما تقدم.
وكبيرة: معناه: ثقيلة شاقة، والخاشعون: المتواضعون المخبتون، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع.
و { يظنون } في هذه الآية، قال الجمهور: معناه: يوقنون، والظن في كلام العرب قاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه، وقد يقع موقع اليقين، لكنه لا يقع فيما قد خرج إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي أظن هذا إنسانا، وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس؛ كهذه الآية؛ وكقوله تعالى:
فظنوا أنهم مواقعوها
[الكهف :53].
قال: * ص *: قلت: وما ذكره ابن عطية هو معنى ما ذكره الزجاج في معانيه عن بعض أهل العلم؛ أن الظن يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده، وإن كان قد قامت في نفسك حقيقته، قال: وهذا مذهب إلا أن أهل اللغة لم يذكروه، قال: وسمعته من أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي، رواه عن زيد بن أسلم. انتهى.
والملاقاة هي للثواب أو العقاب، ويصح أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل السنة، وورد بها متواتر الحديث.
و { رجعون }: قيل: معناه: بالموت، وقيل: بالحشر والخروج إلى الحساب والعرض، ويقوي هذا القول الآية المتقدمة قوله تعالى: { ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون }.
[2.47-48]
قوله تعالى: { يابني إسرائيل... } الآية قد تكرر هذا النداء والتذكير بالنعمة، وفائدة ذلك أن الخطاب الأول يصح أن يكون للمؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا المتكرر إنما هو للكافرين؛ بدلالة ما بعده؛ وأيضا: فإن فيه تقوية التوقيف، وتأكيد الحض على أيادي الله سبحانه، وحسن خطابهم بقوله سبحانه: { فضلتكم على العلمين }؛ لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيل لهم، وفي الكلام اتساع، قال قتادة وغيره: المعنى: على عالم زمانهم الذي كانت فيه النبوءة المتكررة، لأن الله تعالى يقول لأمة محمد صلى الله عليه وسلم:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران:110].
{ واتقوا يوما } ، أي: عذاب يوم، أو هول يوم؛ ويصح أن يكون يوما نصبه على الظرف، و { لا تجزي }: معناه: لا تغني، وقال السدي: معناه: لا تقضي؛ ويقويه قوله: { شيئا } ، وفي الكلام حذف، التقدير: لا تجزي فيه، وفي مختصر الطبري: أي: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا، ولا تغني غناء، وأحدنا اليوم قد يقضي عن قريبه دينا، وأما في الآخرة، فيسر المرء أن يترتب له على قريبه حق؛ لأن القضاء هناك من الحسنات والسيئات؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
والشفاعة: مأخوذة من الشفع، وهما الاثنان؛ لأن الشافع والمشفوع له شفع؛ وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: «نحن أبناء أنبياء الله، وسيشفع لنا آباؤنا»، وهذا إنما هو في حق الكافرين؛ للإجماع، وتواتر الأحاديث بالشفاعة في المؤمنين.
وقوله تعالى: { ولا يؤخذ منها عدل }: قال أبو العالية: العدل: الفدية.
قال: * ع *: عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا، وإن لم يكن من جنسه، والعدل؛ بكسر العين: هو الذي يساوي الشيء من جنسه، وفي جرمه، والضمير في قوله: { ولا هم } عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآية، ويحتمل أن يعود على النفسين المتقدم ذكرهما؛ لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنس، وهو جمع، وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا؛ فإن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له، أو ينصر، أو يفتدى.
* ت *: أو يمن عليه إلا أن الكافر ليس هو بأهل لأن يمن عليه.
[2.49]
وقوله تعالى: { وإذ نجينكم من ءال فرعون }: أي: خلصناكم، وآل: أصله أهل؛ قلبت الهاء ألفا؛ ولذلك ردها التصغير إلى الأصل، فقيل: أهيل، وآل الرجل قرابته، وشيعته، وأتباعه، وفرعون: اسم لكل من ملك من العمالقة بمصر، وفرعون موسى، قيل: اسمه مصعب بن الريان، وقال ابن إسحاق: اسمه الوليد بن مصعب، وروي أنه كان من أهل إصطخر ورد مصر، فاتفق له فيها الملك، وكان أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمن ابنه يوسف عليهما السلام.
و { يسومونكم }: معناه: يأخذونكم به، ويلزمونكم إياه، والجملة في موضع نصب على الحال، أي: سائمين لكم سوء العذاب، وسوء العذاب أشده وأصعبه، وكان فرعون على ما روي قد رأى في منامه نارا خرجت من بيت المقدس، فأحرقت بيوت مصر، فأولت له رؤياه؛ أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ، فيخرب ملك فرعون على يديه، وقال ابن إسحاق، وابن عباس، وغيرهما: إن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون: قد أظلك زمان مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك.
و { يذبحون } بدل من: «يسومون»، { وفي ذلكم }: إشارة إلى جملة الأمر، و { بلاء } معناه: امتحان واختبار، ويكون البلاء في الخير والشر.
وحكى الطبري وغيره في كيفية نجاتهم أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل ، فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون رأي موسى عليه السلام وهو الأشبه به، فسرى بهم موسى من أول الليل، فأعلم بهم فرعون، فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك؛ حتى أصبح، وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط، فاشتغلوا بالدفن، وخرجوا في الأتباع مشرقين، وذهب موسى عليه السلام إلى ناحية البحر؛ حتى بلغه، وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف، وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف، وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته، فلما لحق فرعون موسى، ظن بنو إسرائيل أنهم غير ناجين، فقال يوشع بن نون لموسى: أين أمرت؟ فقال: هكذا، وأشار إلى البحر، فركض يوشع فرسه؛ حتى بلغ الغمر، ثم رجع، فقال لموسى: أين أمرت؟ فوالله: ما كذبت، ولا كذبت، فأشار إلى البحر، وأوحى الله تعالى إليه؛ أن اضرب بعصاك البحر، وأوحى الله إلى البحر؛ أن انفرق لموسى إذا ضربك، فبات البحر تلك الليلة يضطرب، فحين أصبح، ضرب موسى البحر، وكناه أبا خالد، فانفلق، وكان ذلك في يوم عاشوراء.
[2.50-54]
وقوله تعالى: { وإذ فرقنا بكم البحر } الآية: { فرقنا }: معناه: جعلناه فرقا، ومعنى { بكم } أي: بسببكم، والبحر هو بحر القلزم ولم يفرق البحر عرضا من ضفة إلى ضفة، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة، وكان ذلك الفرق يقرب موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوغار حائلة، وقيل: انفرق البحر عرضا على اثني عشر طريقا؛ طريق لكل سبط، فلما دخلوها، قالت كل طائفة: غرق أصحابنا، وجزعوا، فقال موسى عليه السلام : اللهم، أعني على أخلاقهم السيئة، فأوحى الله إليه أن أدر عصاك على البحر، فأدارها، فصار في الماء فتوح كالطاق، يرى بعضهم بعضا، وجازوا وجبريل في ساقتهم على ماذيانة يحث بني إسرائيل، ويقول لآل فرعون: مهلا حتى يلحق آخركم أولكم، فلما وصل فرعون إلى البحر، أراد الدخول، فنفر فرسه، فتعرض له جبريل بالرمكة، فأتبعها الفرس، ودخل آل فرعون، وميكائل يحثهم، فلما لم يبق إلا ميكائل في ساقتهم على الضفة وحده، انطبق البحر عليهم، فغرقوا.
و { تنظرون }: قيل: معناه بأبصاركم لقرب بعضهم من بعض، وقيل: ببصائركم للاعتبار؛ لأنهم كانوا في شغل.
قال الطبري: وفي أخبار القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب، ولا وقعت إلا في خفي علم بني إسرائيل دليل واضح عند بني إسرائيل، وقائم عليهم بنبوءة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وموسى: اسم أعجمي، قال ابن إسحاق: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم.
وخص الليالي بالذكر في قوله تعالى: { وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة } إذ الليلة أقدم من اليوم، وقبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخ، قال النقاش: وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم؛ لأنه لو ذكر الأيام، لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي، اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلة بأيامها.
قال: * ع *: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل بن الجوهري رحمه الله يعظ الناس بهذا المعنى في الخلوة بالله سبحانه، والدنو منه في الصلاة، ونحوه، وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب، ويقول: أين حال موسى في القرب من الله، ووصال ثمانين من الدهر من قوله، حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم:
آتنا غداءنا
[الكهف:62].
* ت *: وأيضا في الأثر أن موسى لم يصبه، أو لم يشك ما شكاه من النصب؛ حتى جاوز الموضع الذي وعد فيه لقاء الخضر عليهما السلام.
قال: * ع *: وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد.
وقوله تعالى: { ثم اتخذتم العجل } أي: إلها، والضمير في { بعده } يعود على موسى، وقيل: على انطلاقه للتكليم؛ إذ المواعدة تقتضيه، وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام، لما خرج ببني إسرائيل من مصر، قال لهم: إن الله تعالى سينجيكم من آل فرعون، وينفلكم حليهم، ويروى أن استعارتهم للحلي كانت بغير إذن موسى عليه السلام وهو الأشبه به، ويؤيده ما في سورة طه في قولهم لموسى:
ولكنا حملنا أوزارا
[طه:87] فظاهره أنهم أخبروه بما لم يتقدم له به شعور، ثم قال لهم موسى: إنه سينزل الله علي كتابا فيه التحليل والتحريم والهدى لكم، فلما جازوا البحر، طلبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب، فخرج لميعاد ربه وحده، وقد أعلمهم بالأربعين ليلة، فعدوا عشرين يوما بعشرين ليلة، وقالوا: هذه أربعون من الدهر، وقد أخلفنا الموعد، وبدا تعنتهم وخلافهم، وكان السامري رجلا من بني إسرائيل يسمى موسى بن ظفر، ويقال: إنه ابن خال موسى، وقيل: لم يكن من بني إسرائيل، بل كان غريبا فيهم، والأول أصح، وكان قد عرف جبريل عليه السلام وقت عبورهم، قالت طائفة: أنكر هيئته، فعرف أنه ملك، وقالت طائفة: كانت أم السامري ولدته عام الذبح، فجعلته في غار وأطبقت عليه، فكان جبريل عليه السلام يغذوه بأصبع نفسه، فيجد في أصبع لبنا وفي أصبع عسلا، وفي أصبع سمنا، فلما رآه وقت جواز البحر، عرفه، فأخذ من تحت حافر فرسه قبضة تراب، وألقى في روعه؛ أنه لن يلقيها على شيء، ويقول له: كن كذا إلا كان، فلما خرج موسى لميعاده، قال هارون لبني إسرائيل: إن ذلك الحلي والمتاع الذي استعرتم من القبط لا يحل لكم، فجيئوا به؛ حتى تأكله النار التي كانت العادة أن تنزل على القرابين.
وقيل: بل أوقد لهم نارا، وأمرهم بطرح جميع ذلك فيها، فجعلوا يطرحون.
وقيل: بل أمرهم أن يضعوه في حفرة دون نار حتى يجيء موسى، وروي، وهو الأصح الأكثر؛ أنه ألقى الناس الحلي في حفرة، أو نحوها، وجاء السامري، فطرح القبضة، وقال: كن عجلا.
وقيل: إن السامري كان في أصله من قوم يعبدون البقر، وكان يعجبه ذلك.
وقيل: بل كانت بنو إسرائيل قد مرت مع موسى على قوم يعبدون البقر.
* ت *: والذي في القرآن:
يعكفون على أصنام لهم
[الأعراف:138] قيل: كانت على صور البقر،
فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة
[الأعراف:138] فوعاها السامري، وعلم أن من تلك الجهة يفتنون، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل، وظلت منهم طائفة يعبدونه، فاعتزلهم هارون بمن تبعه، فجاء موسى من ميعاده، فغضب حسبما يأتي قصصه في مواضعه، إن شاء الله تعالى، ثم أوحى الله إليه؛ أنه لن يتوب على بني إسرائيل؛ حتى يقتلوا أنفسهم، ففعلت بنو إسرائيل ذلك، فروي أنهم لبسوا السلاح من عبد منهم، ومن لم يعبد، وألقى الله عليهم الظلام، فقتل بعضهم بعضا، يقتل الأب ابنه، والأخ أخاه، فلما استحر فيهم القتل، وبلغ سبعين ألفا، عفا الله عنهم، وجعل من مات شهيدا، وتاب على البقية؛ فذلك قوله سبحانه: { ثم عفونا عنكم } وقال بعض المفسرين: وقف الذين عبدوا العجل صفا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح، فقتلوهم، وقالت طائفة: جلس الذين عبدوا بالأفنية، وخرج يوشع بن نون ينادي: ملعون من حل حبوته، وجعل الذين لم يعبدوه يقتلونهم، وموسى صلى الله عليه وسلم في خلال ذلك يدعو لقومه، ويرغب في العفو عنهم، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال؛ لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبد العجل.
{ وأنتم ظلمون } ابتداء وخبر في موضع الحال، والعفو تغطية الأثر، وإذهاب الحال الأول من الذنب أو غيره.
* ت *: ومنه الحديث:
" فجعلت أم إسماعيل تعفي أثرها ".
قال: * ع *: ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب، والكتاب هنا هو التوراة بإجماع، واختلف في الفرقان هنا، فقال الزجاج وغيره: هو التوراة أيضا؛ كرر المعنى؛ لاختلاف اللفظ، وقال آخرون: الكتاب التوراة، والفرقان سائر الآيات التي أوتي موسى عليه السلام؛ لأنها فرقت بين الحق والباطل، واختلف هل بقي العجل من ذهب؟ فقال ذلك الجمهور، وقال الحسن بن أبي الحسن: صار لحما ودما، والأول أصح.
* ت *: وقوله تعالى: { فتوبوا إلى بارئكم } عن أبي العالية: إلى خالقكم؛ من برأ الله الخلق، أي: خلقهم، فالبريئة: فعيلة بمعنى مفعولة. انتهى من «مختصر أبي عبد الله اللخمي النحوي للطبري».
[2.55-57]
وقوله تعالى: { وإذ قلتم يموسى }: يريد السبعين الذين اختارهم موسى، واختلف في وقت اختيارهم.
فحكى أكثر المفسرين؛ أن ذلك بعد عبادة العجل، فاختارهم؛ ليستغفروا لبني إسرائيل، وحكى النقاش وغيره؛ أنه اختارهم حين خرج من البحر، وطلب بالميعاد، والأول أصح.
وقصة السبعين أن موسى عليه السلام، لما رجع من تكليم الله تعالى، ووجد العجل قد عبد، قالت له طائفة ممن لم يعبد العجل: نحن لم نكفر، ونحن أصحابك، ولكن أسمعنا كلام ربك، فأوحى الله إليه؛ أن اختر منهم سبعين، فلم يجد إلا ستين، فأوحى إليه أن اختر من الشباب عشرة، ففعل، فأصبحوا شيوخا، وكان قد اختار ستة من كل سبط، فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحوا فيمن يتأخر، فأوحي إليه أن من تأخر له أجر من مضى، فتأخر يوشع بن نون، وكالوث بن يوفنا، وذهب موسى عليه السلام بالسبعين، بعد أن أمرهم أن يتجنبوا النساء ثلاثا، ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى الجبل، فألقي عليهم الغمام، قال النقاش: غشيتهم سحابة، وحيل بينهم وبين موسى بالنور، فوقعوا سجودا، قال السدي وغيره: وسمعوا كلام الله يأمر وينهى، فلم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعبر لهم، ففعل، فلما فرغوا، وخرجوا، بدلت منهم طائفة ما سمعت من كلام الله، فذلك قوله تعالى:
وقد كان فريق منهم يسمعون كلم الله ثم يحرفونه
[البقرة:75] واضطرب إيمانهم، وامتحنهم الله تعالى بذلك، فقالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } ، ولم يطلبوا من الرؤية محالا؛ أما إنه عند أهل السنة ممتنع في الدنيا من طريق السمع، فأخذتهم حينئذ الصاعقة، فاحترقوا وماتوا موت همود يعتبر به الغير، وقال قتادة: ماتوا، وذهبت أرواحهم، ثم ردوا؛ لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود، جعل موسى يناشد ربه فيهم، ويقول: أي رب، كيف أرجع إلى بني إسرائيل دونهم، فيهلكون، ولا يؤمنون بي أبدا، وقد خرجوا، وهم الأخيار.
قال: * ع *: يعني: هم بحال الخير وقت الخروج، وقال قوم: بل ظن موسى أن السبعين، إنما عوقبوا بسبب عبادة العجل، فذلك قوله:
أتهلكنا
[الأعراف :155] يعني السبعين: { بما فعل السفهاء منا } يعني: عبدة العجل، وقال ابن فورك: يحتمل أن تكون معاقبة السبعين؛ لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه؛ بقولهم لموسى:
أرنا
[النساء:153] وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام.
قال: * ع *: ومن قال: إن السبعين سمعوا ما سمع موسى، فقد أخطأ، وأذهب فضيلة موسى، واختصاصه بالتكليم.
و { جهرة }: مصدر في موضع الحال، والجهر العلانية، ومنه الجهر ضد السر، وجهر الرجل الأمر: كشفه، وفي «مختصر الطبري» عن ابن عباس: { جهرة }: قال علانية، وعن الربيع: { جهرة }: عيانا.
انتهى.
وقوله تعالى: { ثم بعثنكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون }: أجاب الله تعالى فيهم رغبة موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمود، أو الموت؛ ليستوفوا آجالهم، وتاب عليهم، والبعث هنا الإثارة، و { لعلكم تشكرون } ، أي: على هذه النعمة، والترجي إنما هو في حق البشر.
وذكر المفسرون في تظليل الغمام؛ أن بني إسرائيل، لما كان من أمرهم ما كان من القتل، وبقي منهم من بقي، حصلوا في فحص التيه بين مصر والشام، فأمروا بقتال الجبارين، فعصوا، وقالوا:
اذهب أنت وربك فقاتلا
[المائدة:24] فدعا موسى عليهم، فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة، روي أنهم كانوا يمشون النهار كله، وينزلون للمبيت، فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس، فندم موسى على دعائه عليهم، فقيل له:
لا تأس على القوم الفاسقين
[المائدة:26].
وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التيه، ونشأ بنوهم على خير طاعة، فهم الذين خرجوا من فحص التيه، وقاتلوا الجبارين، وإذ كان جميعهم في التيه، قالوا لموسى: من لنا بالطعام؟ قال: الله، فأنزل الله عليهم المن والسلوى، قالوا: من لنا من حر الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، قالوا: بم نستصبح بالليل، فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم، وذكر مكي عمود نار، قالوا: من لنا بالماء؟ فأمر موسى بضرب الحجر، قالوا: من لنا باللباس، فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب، ولا يخلق، ولا يدرن، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان، والمن صمغة حلوة؛ هذا قول فرقة، وقيل: هو عسل ، وقيل: شراب حلو، وقيل: الذي ينزل اليوم على الشجر، وروي أن المن كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس؛ كالثلج، فيأخذ منه الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ادخر، فسد عليه إلا في يوم الجمعة؛ فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت، فلا يفسد عليهم؛ لأن يوم السبت يوم عبادة.
والسلوى طير؛ بإجماع المفسرين، فقيل: هو السمانا.
وقيل: طائر مثل السمانا.
وقيل: طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجنوب.
* ص *: قال ابن عطية: وغلط الهذلي في إطلاقه السلوى على العسل؛ حيث قال: [الطويل]
وقاسمها بالله عهدا لأنتم
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
* ت *: قد نقل صاحب المختصر؛ أنه يطلق على العسل لغة؛ فلا وجه لتغليظه؛ لأن إجماع المفسرين لا يمنع من إطلاقه لغة بمعنى آخر في غير الآية. انتهى.
وقوله تعالى: { كلوا... } الآية: معناه: وقلنا: كلوا، فحذف اختصارا لدلالة الظاهر عليه، والطيبات، هنا جمعت الحلال واللذيذ.
* ص *: وقوله: { وما ظلمونا }: قدر ابن عطية قبل هذه الجملة محذوفا، أي: فعصوا، وما ظلمونا، وقدر غيره: فظلموا، وما ظلمونا، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن ما تقدم عنهم من القبائح يغني عنه. انتهى.
* ت *: وقول أبي حيان: «لا حاجة إلى هذا التقدير...» إلى آخره: يرد بأن المحذوفات في الكلام الفصيح هذا شأنها؛ لا بد من دليل في اللفظ يدل عليها إلا أنه يختلف ذلك في الوضوح والخفاء، فأما حذف ما لا دليل عليه، فإنه لا يجوز.
[2.58-60]
وقوله تعالى: { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السمآء بما كانوا يفسقون وإذ استسقى موسى لقومه }.
{ القرية }: المدينة؛ سميت بذلك؛ لأنها تقرت، أي: اجتمعت؛ ومنه: قريت الماء في الحوض، أي: جمعته، والإشارة بهذه إلى بيت المقدس في قول الجمهور.
وقيل: إلى أريحاء، وهي قريب من بيت المقدس، قال عمر بن شبة: كانت قاعدة، ومسكن ملوك، ولما خرج ذرية بني إسرائيل من التيه، أمروا بدخول القرية المشار إليها، وأما الشيوخ، فماتوا فيه، وروي أن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التيه، وحكى الزجاج عن بعضهم أنهما لم يكونا في التيه؛ لأنه عذاب، والأول أكثر.
* ت *: لكن ظاهر قوله:
فافرق بيننا وبين القوم الفسقين
[المائدة:25] يقوي ما حكاه الزجاج، وهكذا قال الإمام الفخر. انتهى.
و { كلوا }: إباحة، وتقدم معنى الرغد، وهي أرض مباركة عظيمة الغلة، فلذلك قال: { رغدا }.
و { الباب }: قال مجاهد: هو باب في مدينة بيت المقدس يعرف إلى اليوم بباب حطة، و { سجدا }: قال ابن عباس: معناه: ركوعا، وقيل: متواضعين خضوعا، والسجود يعم هذا كله، وحطة: فعلة؛ من حط يحط، ورفعه على خبر ابتداء؛ كأنهم قالوا: سؤالنا حطة لذنوبنا، قال عكرمة وغيره: أمروا أن يقولوا: «لا إله إلا الله»؛ لتحط بها ذنوبهم، وقال ابن عباس: قيل لهم: استغفروا، وقولوا ما يحط ذنوبكم.
* ت *: قال أحمد بن نصر الداوودي في «تفسيره»:
" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سار مع أصحابه في سفر، فقال: قولوا: نستغفر الله، ونتوب إليه، فقالوا ذلك، فقال: والله، إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها "
انتهى.
وحكي عن ابن مسعود وغيره؛ أنهم أمروا بالسجود، وأن يقولوا: حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم، ويقولون: حنطة حبة حمراء في شعرة، ويروى غير هذا من الألفاظ.
وقوله تعالى: { وسنزيد المحسنين } عدة: المعنى: إذا غفرت الخطايا بدخولكم وقولكم، زيد بعد ذلك لمن أحسن، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أمر، وقال: لا إله إلا الله، فقيل: هم المراد ب { المحسنين } هنا.
وقوله تعالى: { فبدل الذين ظلموا } الآية.
روي أنهم لما جاءوا الباب، دخلوا من قبل أدبارهم القهقرى، وفي الحديث: أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم، وبدلوا، فقالوا: حبة في شعرة، وقيل: قالوا: حنطة حبة حمراء في شعرة، وقيل: شعيرة، وحكى الطبري؛ أنهم قالوا: «هطي شمقاثا أزبه» وتفسيره ما تقدم وفي اختصار الطبري، وعن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا، ويقولوا: حطة، وطؤطىء لهم الباب؛ ليسجدوا، فلم يسجدوا ، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة.
وذكر عز وجل فعل سلفهم؛ تنبيها أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم جار على طريق سلفهم في خلافهم على أنبيائهم، واستخفافهم بهم، واستهزائهم بأمر ربهم. انتهى.
والرجز العذاب، قال ابن زيد وغيره: فبعث الله على الذين بدلوا الطاعون، فأذهب منهم سبعين ألفا، وقال ابن عباس: أمات الله منهم في ساعة واحدة نيفا على عشرين ألفا.
و { استسقى }: معناه: طلب السقيا، وعرف «استفعل» طلب الشيء، وقد جاء في غير ذلك؛ كقوله تعالى:
واستغنى الله
[التغابن:6]، وكان هذا الاستسقاء في فحص التيه، فأمره الله تعالى بضرب الحجر آية منه، وكان الحجر من جبل الطور على قدر رأس الشاة، يلقى في كسر جوالق، ويرحل به، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم، وضربه موسى، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى، وهذا أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجرا مربعا منفصلا تطرد من كل جهة منه ثلاث عيون، إذا ضربه موسى، وإذا استغنوا عن الماء، ورحلوا، جفت العيون، وفي الكلام حذف؛ تقديره: فضربه، فانفجرت، والانفجار: انصداع شيء عن شيء؛ ومنه: الفجر، والانبجاس في الماء أقل من الانفجار.
و { أناس }: اسم جمع، لا واحد له من لفظه، ومعناه هنا: كل سبط؛ لأن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام.
وقوله سبحانه: { كلوا واشربوا من رزق الله... } الآية.
* ت *: روينا من طريق أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها "
رواه مسلم، والترمذي، والنسائي. انتهى.
والمشرب: موضع الشرب، وكان لكل سبط عين من تلك العيون، لا يتعداها.
{ ولا تعثوا }: معناه: ولا تفرطوا في الفساد.
* ص *: { مفسدين }: حال مؤكدة؛ لأن: «لا تعثوا»: معناه: لا تفسدوا. انتهى.
[2.61-64]
وقوله تعالى: { وإذ قلتم يموسى لن نصبر على طعام وحد... } الآية: كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى، وتذكروا عيشهم الأول بمصر، قال ابن عباس وأكثر المفسرين: الفوم: الحنطة، وقال قتادة، وعطاء: الفوم: جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز، وقال الضحاك: الفوم: الثوم، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، وروي ذلك عن ابن عباس، والثاء تبدل من الفاء؛ كما قالوا: مغاثير ومغافير.
* ت *: قال أحمد بن نصر الداوودي: وهذا القول أشبه لما ذكر معه، أي: من العدس والبصل. انتهى.
{ وأدنى }: قال علي بن سليمان الأخفش. مأخوذ من الدنيء البين الدناءة؛ بمعنى: الأخس، إلا أنه خففت همزته، وقال غيره: هو مأخوذ من الدون، أي: الأحط فأصله أدون، ومعنى الآية: أتستبدلون البقل، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل التي هى أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير.
وجمهور الناس يقرءون «مصرا» بالتنوين، قال مجاهد وغيره: أراد مصرا من الأمصار غير معين، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم؛ بدخول القرية، وبما تظاهرت به الروايات؛ أنهم سكنوا الشام بعد التيه، وقالت طائفة: أراد مصر فرعون بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أن الله أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، قال في «مختصر الطبري»: وعلى أن المراد مصر التي خرجوا منها، فالمعنى: إن الذي تطلبون كان في البلد الذي كان فيه عذابكم، واستعبادكم، وأسركم، ثم قال: والأظهر أنهم مذ خرجوا من مصر، لم يرجعوا إليها، والله أعلم. انتهى.
وقوله تعالى: { فإن لكم ما سألتم } يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم، و { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } معناه: الزموها؛ كما قالت العرب: ضربة لازب، { وباءوا بغضب }: معناه: مروا متحملين له، قال الطبري: باءوا به، أي: رجعوا به، واحتملوه، ولا بد أن يوصل باء بخير أو بشر. انتهى.
وقوله تعالى: { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيت الله ويقتلون النبيين بغير الحق } الأشارة ب { ذلك } إلى ضرب الذلة وما بعده، وقوله تعالى: { بغير الحق } تعظيم للشنعة، والذنب، ولم يجرم نبي قط ما يوجب قتله، وإنما التسليط عليهم بالقتل كرامة لهم، وزيادة لهم في منازلهم صلى الله عليهم؛ كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، والباء في «بما » باء السبب.
و { يعتدون }: معناه: يتجاوزون الحدود، والاعتداء هو تجاوز الحد.
وقوله تعالى: { إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصرى والصبئين... } الآية.
اختلف في المراد ب { الذين ءامنوا } في هذه الآية.
فقالت فرقة: الذين آمنوا هم المؤمنون حقا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: { من ءامن بالله } يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام، وفي سائر الفرق: بمعنى: من دخل فيه، وقال السدي: هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، والذين هادوا، ومن عطف عليهم كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، { والذين هادوا } هم اليهود، وسموا بذلك؛ لقولهم:
هدنا إليك
[الأعراف:156]، أي: تبنا، { والنصرى } لفظة مشتقة من النصر.
قال: * ص *: { والصبئين }: قرأ الأكثر بالهمز؛ صبأ النجم، والسن، إذا خرج، أي: خرجوا من دين مشهور إلى غيره، وقرأ نافع بغير همز، فيحتمل أن يكون من المهموز المسهل، فيكون بمعنى الأول، ويحتمل أن يكون من صبا غير مهموز، أي: مال؛ ومنه: [الهزج]
إلى هند صبا قلبي
وهند مثلها يصبي
انتهى.
قال: * ع *: والصابىء؛ في اللغة: من خرج من دين إلى دين.
وأما المشار إليهم في قوله تعالى: { والصبئين } فقال السدي: هم فرقة من أهل الكتاب، وقال مجاهد: هم قوم لا دين لهم، وقال ابن جريج: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، وقال ابن زيد: هم قوم يقولون لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب كانوا بجزيرة الموصل، وقال الحسن بن أبي الحسن، وقتادة: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون الخمس إلى القبلة، ويقرءون الزبور رآهم زياد بن أبي سفيان، فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة.
وقوله تعالى: { ورفعنا فوقكم الطور... } الآية: { الطور }: اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه السلام قاله ابن عباس، وقال مجاهد وغيره: { الطور }: اسم لكل جبل، وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام، لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله تعالى بالألواح، فيها التوراة، قال لهم: خذوها، والتزموها، فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك ، فصعقوا، ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا، فأمر الله الملائكة، فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم نارا من بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم: خذوها، وعليكم الميثاق، ولا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، وأغرقكم البحر، وأحرقتكم النار، فسجدوا؛ توبة لله سبحانه، وأخذوا التوراة بالميثاق، قال الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة، لم يكن عليهم ميثاق، وكانت سجدتهم على شق؛ لأنهم كانوا يرقبون الجبل؛ خوفا، فلما رحمهم الله سبحانه، قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله، ورحم بها، فأمروا سجودهم على شق واحد.
قال: * ع *: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لا أنهم آمنوا كرها، وقلوبهم غير مطمئنة، قال: وقد اختصرت ما سرد في قصص هذه الآية، وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية، وخلط بعض الناس صعقة هذه القصة بصعقة السبعين.
و { بقوة }: قال ابن عباس: معناه: بجد واجتهاد.
وقال ابن زيد: معناه: بتصديق وتحقيق.
{ واذكروا ما فيه } ، أي: تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه، ولا تضيعوه.
وقوله تعالى: { ثم توليتم... } الآية: تولى: أصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور، والأديان، والمعتقدات؛ اتساعا ومجازا، وتوليهم من بعد ذلك: إما بالمعاصي، فكان فضل الله بالتوبة والإمهال إليها، وإما أن يكون توليهم بالكفر، فلم يعاجلهم سبحانه بالهلاك؛ ليكون من ذريتهم من يؤمن.
[2.65-66]
وقوله تعالى: { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت... } الآية: علمتم: معناه: عرفتم، والسبت مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من السبت، وهو القطع؛ لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها، وقصة اعتدائهم فيه أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء صلوات الله عليهم، فذكر موسى ذلك لبني إسرائيل عن الله سبحانه، وأمرهم بالتشرع فيه، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى؛ أن دعهم ، وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم بأن أمرهم بترك العمل فيه، وحرم عليهم صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة؛ بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت؛ حتى تخرج إلى الأفنية، قاله الحسن بن أبي الحسن.
وقيل حتى تخرج خراطيمها من الماء، وذلك إما بإلهام من الله تعالى، أو بأمر لا يعلل، وإما بأن ألهمها معنى الأمنة التي في اليوم، مع تكراره؛ كما فهم حمام مكة الأمنة، وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت، ذهبت الحيتان، فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقوا على ذلك زمانا؛ حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت، فربط حوتا بخزمة، وضرب له وتدا بالساحل، فلما ذهب السبت، جاء، فأخذه، فسمع قوم بفعله، فصنعوا مثل ما صنع.
وقيل: بل حفر رجل في غير السبت حفيرا يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت، خرج الحوت، وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر، ذهب الماء من طريق الحفير، وبقي الحوت، فجاء بعد السبت، فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك؛ حتى صادوه يوم السبت علانية، وباعوه في الأسواق، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك، فنجت من العقوبة، وكانت منهم فرقة لم تعص، ولم تنه، فقيل: نجت مع الناهين، وقيل: هلكت مع العاصين.
و { كونوا }: لفظة أمر، وهو أمر التكوين؛ كقوله تعالى لكل شيء:
كن فيكون
[يس:82] قال ابن الحاجب... في مختصره الكبير المسمى ب «منتهى الوصول»: صيغة: افعل، وما في معناها قد صح إطلاقها بإزاء خمسة عشر محملا.
الوجوب:
أقم الصلوة
[الإسراء:78] والندب:
فكتبوهم
[النور:33].
والإرشاد:
وأشهدوا إذا تبايعتم
[البقرة:282] والإباحة:
فاصطدوا
[المائدة:2].
والتأديب: «كل مما يليك». والامتنان:
كلوا مما رزقكم الله
[الأنعام:142].
والإكرام:
ادخلوها بسلام
[ق:34] والتهديد:
اعملوا ما شئتم
[فصلت:40] والإنذار:
تمتعوا
[إبراهيم:30] والتسخير:
كونوا قردة
[الأعراف:166] والإهانة:
كونوا حجارة
[الإسراء:50] والتسوية:
فاصبروا أو لا تصبروا
[الطور:16] والدعاء:
اغفر لنا
[آل عمران:147] والتمني: [الطويل]
...ألا انجلي.....
وكمال القدرة:
كن فيكون
[يس:82]. انتهى.
وزاد غيره كونها للتعجيز، أعني: صيغة «افعل».
قال ابن الحاجب: وقد اتفق على أنها مجاز فيما عدا الوجوب والندب والإباحة والتهديد، ثم الجمهور على أنها حقيقة في الوجوب. انتهى.
و { خسئين }: معناه: مبعدين أذلاء صاغرين؛ كما يقال للكلب، وللمطرود: اخسأ، وروي في قصصهم؛ أن الله تعالى مسخ العاصين قردة في الليل، فأصبح الناجون إلى مساجدهم، ومجتمعاتهم، فلم يروا أحدا من الهالكين، فقالوا: إن للناس لشأنا، ففتحوا عليهم الأبواب لما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم قردة يعرفون الرجل والمرأة.
وقيل: إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار؛ تبريا منهم، فأصبحوا، ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أن المسوخ لا تنسل، ولا تأكل، ولا تشرب، ولا تعيش أكثر من ثلاثة أيام، ووقع في كتاب مسلم عنه صلى الله عليه وسلم
" أن أمة من الأمم فقدت، وأراها الفأر "
، وظاهر هذا أن المسوخ تنسل، فإن كان أراد هذا، فهو ظن منه صلى الله عليه وسلم في أمر لا مدخل له في التبليغ، ثم أوحي إليه بعد ذلك،؛ أن المسوخ لا تنسل؛ ونظير ما قلناه نزوله صلى الله عليه وسلم على مياه بدر وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" إذا أخبرتكم عن الله تعالى، فهو كما أخبرتكم، وإذا أخبرتكم برأيي في أمور الدنيا، فإنما أنا بشر مثلكم "
، والضمير في { جعلناها } يحتمل عوده على المسخة والعقوبة، ويحتمل على الأمة التي مسخت، ويحتمل على القردة، ويحتمل على القرية؛ إذ معنى الكلام يقتضيها، والنكال: الزجر بالعقاب، و { لما بين يديها }. قال السدي: ما بين يدي المسخة ما قبلها من ذنوب القوم، وما خلفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب، وقال غيره: ما بين يديها من حضرها من الناجين، وما خلفها، أي: لمن يجيء بعدها، وقال ابن عباس: لما بين يديها وما خلفها من القرى.
{ وموعظة }: من الاتعاظ، والازدجار، و { للمتقين }: معناه: الذين نهوا ونجوا، وقالت فرقة: معناه: لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واللفظ يعم كل متق من كل أمة.
[2.67-73]
وقوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم... } الآية: المراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق، وسبب هذه القصة على ما روي أن رجلا من بني إسرائيل أسن، وكان له مال، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل: أخوه، وقيل: ابنا عمه، وقيل: ورثة غير معينين، فقتله؛ ليرثه، وألقاه في سبط آخر غير سبطه؛ ليأخذ ديته، ويلطخهم بدمه.
وقيل: كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاه إلى باب إحدى القريتين، وهي التي لم يقتل فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه؛ حتى وجده قتيلا، فتعلق بالسبط، أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء؛ حتى دخلوا في السلاح، فقال أهل النهى، منهم: أنقتتل ورسول الله معنا، فذهبوا إلى موسى عليه السلام، فقصوا عليه القصة، وسألوه البيان، فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة، فيضرب القتيل ببعضها، فيحيى ويخبر بقاتله، فقال لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، فكان جوابهم أن { قالوا أتتخذنا هزوا } وهذا القول منهم ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله، ولا يصح إيمان من يقول لنبي قد ظهرت معجزته، وقال: إن الله يأمر بكذا: أنتخذنا هزوا، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، لوجب تكفيره.
وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء، وقول موسى عليه السلام: { أعوذ بالله أن أكون من الجهلين } يحتمل معنيين:
أحدهما: الاستعاذة من الجهل في أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا.
والآخر: من الجهل؛ كما جهلوا في قولهم.
وقوله تعالى: { قالوا ادع لنا ربك... } الآية: هذا تعنيت منهم، وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر، فاستعرضوا بقرة فذبحوها، لقضوا ما أمروا به، ولكن شددوا، فشدد الله عليهم؛ قاله ابن عباس وغيره.
والفارض: المسنة الهرمة، والبكر؛ من البقر: التي لم تلد من الصغر، ورفعت «عوان» على خبر ابتداء مضمر، تقديره: هي عوان، والعوان التي قد ولدت مرة بعد مرة.
قال: * م *: قال الجوهري: والعوان: النصف في سنها من كل شيء، والجمع عون. انتهى.
* ت *: قال الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي في نظمه لغريب القرآن جمع أبي حيان: [الرجز]
معنى «عوان» نصف بين الصغر
وبين ما قد بلغت سن الكبر
وكل ما نقلته عن العراقي منظوما، فمن أرجوزته هذه.
وقوله: { فافعلوا ما تؤمرون } تجديد للأمر، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت، فما تركوه. قال ابن زيد: وجمهور الناس في قوله: { صفراء }؛ أنها كانت كلها صفراء، وفي «مختصر الطبري»: { فاقع لونها } أي: صاف لونها. انتهى.
والفقوع مختص بالصفرة؛ كما خص أحمر بقانىء، وأسود بحالك، وأبيض بناصع، وأخضر بناضر، قال ابن عباس وغيره: الصفرة تسر النفس، وسألوا بعد هذا كله عن ما هي سؤال متحيرين، قد أحسوا مقت المعصية.
وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما، وانقياد، ودليل ندم وحرص على موافقة الأمر وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" لولا ما استثنوا، ما اهتدوا إليها أبدا "
وقوله: { لا ذلول تثير الأرض } ، أي: غير مذللة بالعمل والرياضة، و { تثير الأرض } معناه: بالحراثة، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة، أي: لا ذلول مثيرة، وقال قوم: «تثير» فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث، وأنها كانت تحرث، ولا تسقي، و { مسلمة }: بناء مبالغة من السلامة؛ قال ابن عباس وغيره: معناه: من العيوب، وقال مجاهد: معناه: من الشيات والألوان، وقيل: من العمل.
و { لا شية فيها } ، أي: لا خلاف في لونها؛ هي صفراء كلها؛ قاله ابن زيد وغيره، والموشى المختلط الألوان، ومنه: وشي الثوب: تزينه بالألوان، والثور الأشيه الذي فيه بلقة؛ يقال: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه؛ كل ذلك بمعنى البلقة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا، فشدد الله عليهم، ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الأنبياء مذموم، وقصة وجود هذه البقرة على ما روي؛ أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة، فأرسلها في غيضة، وقال: اللهم، إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي، ومات الرجل، فلما كبر الصبي، قالت له أمه: إن أباك كان قد استودع الله عجلة لك، فاذهب، فخذها، فلما رأته البقرة، جاءت إليه؛ حتى أخذ بقرنيها، وكانت مستوحشة، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها، فلما وجدت البقرة، ساموا صاحبها، فاشتط عليهم، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا له: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم موسى: أرضوه في ملكه. فاشتروها منه بوزنها مرة؛ قاله عبيدة السلماني،... وقيل: بوزنها مرتين. وقيل: بوزنها عشر مرات، وقال مجاهد: كانت لرجل يبر أمه، وأخذت منه بملء جلدها دنانير.
و { الئن }: مبني على الفتح، معناه: هذا الوقت، وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل، و { جئت بالحق }: معناه؛ عند من جعلهم عصاة: بينت لنا غاية البيان، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر، وإن نحرت أجزأ.
وقوله تعالى: { وما كادوا يفعلون }: عبارة عن تثبطهم في ذبحها، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى، وقال محمد بن كعب القرظي: كان ذلك منهم لغلاء البقرة، وقيل: كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القاتل.
و { ادارءتم }: معناه: تدافعتم قتل القتيل، و { فيها } ، أي: في النفس.
وقوله تعالى: { اضربوه ببعضها }: آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل، فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه، وقيل: ضربوا قبره؛ لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة.
وقوله تعالى: { كذلك يحي الله الموتى... } الآية: في هذه الآية حض على العبرة، ودلالة على البعث في الآخرة، وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل حينئذ، حكي لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ليعتبر به إلى يوم القيامة.
وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله: { اضربوه ببعضها } ، وروي أن هذا القتيل لما حيي، وأخبر بقاتله، عاد ميتا كما كان.
[2.74-75]
وقوله تعالى: { ثم قست قلوبكم... } الآية: أي: صلبت وجفت، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، قال قتادة وغيره: المراد قلوب بني إسرائيل جميعا في معاصيهم، وما ركبوه بعد ذلك، و «أو»: لا يصح أن تكون هنا للشك، فقيل: هي بمعنى «الواو»، وقيل: للإضراب، وقيل: للإبهام، وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى: { وإن من الحجارة... } الآية: معذرة للحجارة، وتفضيل لها على قلوبهم، قال قتادة: عذر الله تعالى الحجارة، ولم يعذر شقي بني آدم.
* ت *: وروى البزار عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" أربعة من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا "
انتهى من «الكوكب الدري» لأبي العباس أحمد بن سعد التجيبي، قال الغزالي في «المنهاج»: واعلم أن أول الذنب قسوة، وآخره، والعياذ بالله، شؤم وشقوة، وسواد القلب يكون من الذنوب، وعلامة سواد القلب ألا تجد للذنوب مفزعا، ولا للطاعات موقعا، ولا للموعظة منجعا. انتهى.
وقيل في هبوط الحجارة: تفيؤ ظلالها، وقيل: إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة، يهبط بها من علو تواضعا، وقال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج ماء منه، إلا من خشية الله عز وجل؛ نزل بذلك القرآن، وقال مثله ابن جريج.
وقوله تعالى: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم... } الآية: الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطاب التقرير على أمر فيه بعد؛ إذ قد سلف لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن.
وتحريف الشيء: إمالته من حال إلى حال، وذهب ابن عباس إلى أن تحريفهم وتبديلهم؛ إنما هو بالتأويل، ولفظ التوراة باق، وذهب جماعة من العلماء؛ إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم، وأن ذلك ممكن في التوراة؛ لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن؛ لأن الله تعالى ضمن حفظه.
قلت: وعن ابن إسحاق؛ أن المراد ب «الفريق» هنا طائفة من السبعين الذين سمعوا كلام الله مع موسى. انتهى من «مختصر الطبري»؛ وهذا يحتاج إلى سند صحيح.
[2.76-78]
وقوله تعالى: { وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا... } الآية: المعنى: وهم أيضا، إذا لقوا يفعلون هذا، فكيف يطمع في إيمانهم، ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنفا؛ فيه كشف سرائرهم؛ ورد في التفسير؛
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن»، فقال كعب بن الأشرف وأشباهه: اذهبوا وتحسسوا أخبار من آمن بمحمد، وقولوا لهم: آمنا، واكفروا إذا رجعتم "
، فنزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: نزلت في المنافقين من اليهود، وروي عنه أيضا أنها نزلت في قوم من اليهود، قالوا لبعض المؤمنين: نحن نؤمن أنه نبي، ولكن ليس إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلما خلوا، قال بعضهم: لم تقرون بنبوءته، وقال أبو العالية وقتادة: إن بعض اليهود تكلم بما في التوراة من صفة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم كفرة الأحبار: { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } أي: عرفكم من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
و { يحاجوكم }: من الحجة، و { عند ربكم }: معناه: في الآخرة.
وقوله تعالى: { أفلا تعقلون }: قيل: هو من قول الأحبار للأتباع، وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين، أي: أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون، وهم بهذه الأحوال.
و { أميون } هنا: عبارة عن عامة اليهود، وجهلتهم، أي: أنهم لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال، والأمي في اللغة: الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب؛ نسب إلى الأم؛ إما لأنه بحال أمه من عدم الكتب، لا بحال أبيه؛ إذ النساء ليس من شغلهن الكتب؛ قاله الطبري؛ وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها، لم ينتقل عنها.
و { الكتب }: التوراة.
والأماني: جمع أمنية، واختلف في معنى { أماني } ، فقالت طائفة: هي ههنا من: تمنى الرجل، إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ، وإنما يقول بظنه شيئا سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب.
وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
تمنى كتاب الله أول ليله
وآخره لاقى حمام المقادر
فمعنى الآية: أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى، لا علم لهم بصحته .
وقال الطبري: هي من تمنى الرجل، إذا حدث بحديث مختلق كذب، أي: لا يعلمون الكتاب إلا سماع أشياء مختلقة من أحبارهم، يظنونها من الكتاب.
* ص *: { وإن هم إلا يظنون }: «إن»: نافية؛ بمعنى «ما». انتهى.
[2.79-82]
وقوله تعالى: { فويل للذين يكتبون الكتب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله }.
قال الخليل: «الويل»: شدة الشر، وهو مصدر، لا فعل له، ويجمع على ويلات، والأحسن فيه إذا انفصل: الرفع؛ لأنه يقتضي الوقوع، ويصح النصب على معنى الدعاء، أي: ألزمه الله ويلا، وويل وويح وويس تتقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم.
وروى سفيان، وعطاء بن يسار؛ أن الويل في هذه الآية واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم
" أنه واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا "
وروى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم
" أنه جبل من جبال النار "
، والذين يكتبون: هم الأحبار والرؤساء.
و { بأيديهم } قال ابن السراج: هي كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، والذي بدلوه هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليستديموا رياستهم ومكاسبهم، وذكر السدي؛ أنهم كانوا يكتبون كتبا يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعراب، ويبثونها في أتباعهم، ويقولون هي من عند الله، والثمن: قيل: عرض الدنيا، وقيل: الرشا والمآكل التي كانت لهم، و { يكسبون } معناه: من المعاصي، وقيل: من المال الذي تضمنه ذكر الثمن.
وقوله تعالى: { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة... }: روى ابن زيد وغيره؛ أن سببها
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: «من أهل النار؟» فقالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم، فقال لهم: «كذبتم؛ لقد علمتم أنا لا نخلفكم» "
فنزلت هذه الآية.
قال أهل التفسير: العهد في هذه الآية: الميثاق والموعد، و «بلى» رد بعد النفي بمنزلة «نعم» بعد الإيجاب، وقالت طائفة: السيئة هنا الشرك؛ كقوله تعالى:
ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار
[النمل:90] والخطيئات: كبائر الذنوب، قال الحسن بن أبي الحسن، والسدي: كل ما توعد الله عليه بالنار، فهي الخطيئة المحيطة، والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في الكفار، ومستعار؛ بمعنى الطول في العصاة، وإن علم انقطاعه.
قال محمد بن عبد الله اللخمي في مختصره للطبري: أجمعت الأمة على تخليد من مات كافرا، وتظاهرت الروايات الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، بأن عصاة أهل التوحيد لا يخلدون في النار، ونطق القرآن ب
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
[النساء:116] لكن من خاف على لحمه ودمه، اجتنب كل ما جاء فيه الوعيد، ولم يتجاسر على المعاصي؛ اتكالا على ما يرى لنفسه من التوحيد، فقد كان السلف وخيار الأمة يخافون سلب الإيمان على أنفسهم، ويخافون النفاق عليها، وقد تظاهرت بذلك عنهم الأخبار. انتهى.
وقوله تعالى: { والذين ءامنوا... } الآية: يدل هذا التقسيم على أن قوله تعالى: { بلى من كسب سيئة } الآية في الكفار، لا في العصاة؛ ويدل على ذلك أيضا قوله: { وأحطت }؛ لأن العاصي مؤمن، فلم تحط به خطيئاته؛ ويدل على ذلك أيضا أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، فهم المراد بالخلود، والله أعلم.
[2.83-85]
وقوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل... } الآية: أخذ الله سبحانه الميثاق عليهم على لسان موسى - عليه السلام -وغيره من أنبيائهم، وأخذ الميثاق قول، فالمعنى: قلنا لهم: { لا تعبدون إلا الله... } الآية، قال سيبويه: «لا تعبدون: متلق لقسم»؛ والمعنى: وإذ استحلفناهم، والله لا تعبدون إلا الله، وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها، واليتم في بني آدم: فقد الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا يتم بعد بلوغ والمسكين الذي لا شيء له "
، وقيل: هو الذي له بلغة، والآية تتضمن الرأفة باليتامى، وحيطة أموالهم، والحض على الصدقة، والمواساة، وتفقد المساكين.
وقوله تعالى: { وقولوا للناس حسنا }: أمر عطف على ما تضمنه { لا تعبدون إلا الله } وما بعده، وقرأ حمزة والكسائي: «حسنا»؛ بفتح الحاء والسين، قال الأخفش : وهما بمعنى واحد، وقال الزجاج وغيره: بل المعنى في القراءة الثانية، وقولوا «قولا حسنا»؛ بفتح الحاء والسين، أو قولا ذا حسن بضم الحاء وسكون السين في الأولى؛ قال ابن عباس: معنى الكلام قولوا للناس: لا إله إلا الله، ومروهم بها، وقال ابن جريج: قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان الثوري: معناه: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر، وقال أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على مكارم الأخلاق، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها، وتنزل النار على ما تقبل منها، دون ما لم يتقبل.
وقوله تعالى: { ثم توليتم... } الآية: خطاب لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم؛ إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره. والمراد بالقليل المستثنى جميع مؤمنيهم قديما من أسلافهم، وحديثا كابن سلام وغيره، والقلة على هذا هي في عدد الأشخاص، ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان، والأول أقوى.
* ص *: { إلا قليلا }: منصوب على الاستثناء، وهو الأفصح؛ لأنه استثناء من موجب، وروي عن أبي عمرو: «إلا قليل»؛ بالرفع، ووجهه ابن عطية على بدل قليل من ضمير: «توليتم» على أن معنى «توليتم» النفي، أي: لم يف بالميثاق إلا قليل، ورد بمنع النحويين البدل من الموجب؛ لأن البدل يحل محل المبدل منه، فلو قلت: قام إلا زيد، لم يجز؛ لأن «إلا» لا تدخل في الموجب، وتأويله الإيجاب بالنفي يلزم في كل موجب باعتبار نفي ضده أو نقيضه؛ فيجوز إذن: «قام القوم إلا زيد»؛ على تأويل: «لم يجلسوا إلا زيد» ولم تبن العرب على ذلك كلامها، وإنما أجازوا: «قام القوم إلا زيد»؛ بالرفع على الصفة، وقد عقد سيبويه لذلك بابا في كتابه.
انتهى.
و { دماءكم }: جمع دم، وهو اسم منقوص. أصله «دمي»؛ { ولا تخرجون أنفسكم من ديركم }: معناه: ولا ينفي بعضكم بعضا بالفتنة والبغي، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللفظ في القول.
وقوله تعالى: { ثم أقررتم } ، أي: خلفا بعد سلف، أن هذا الميثاق أخذ عليكم، وقوله: { وأنتم تشهدون } قيل: الخطاب يراد به من سلف منهم، والمعنى: وأنتم شهود، أي: حضور أخذ الميثاق والإقرار.
وقيل: المراد: من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى: وأنتم شهداء، أي: بينة أن الميثاق أخذ على أسلافكم، فمن بعدهم منكم.
وقوله تعالى: { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم... }: { هؤلاء } دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردا إلى الأسلاف، قيل: تقدير الكلام: يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبويه، مع المبهمات.
وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا: { هؤلاء }: رفع بالابتداء، و { أنتم }: خبر، { تقتلون } ، حال بها تم المعنى، وهي المقصود.
* ص *: قال الشيخ أبو حيان: ما نقله ابن عطية عن شيخه أبي الحسن بن البادش من جعله { هؤلاء } مبتدأ، و { أنتم } خبر مقدم، لا أدري ما العلة في ذلك، وفي عدوله عن جعل { أنتم } مبتدأ، { هؤلاء } الخبر، إلى عكسه. انتهى.
* ت *: قيل: العلة في ذلك دخول هاء التنبيه عليه؛ لاختصاصها بأول الكلام؛ ويدل على ذلك قولهم: «هأنذا قائما»، ولم يقولوا: «أنا هذا قائما»، قال معناه ابن هشام، ف «قائما» في المثال المتقدم نصب على الحال. انتهى.
وهذه الآية خطاب لقريظة، والنضير، وبني قينقاع، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة، ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها، فقتل بعضهم بعضا، وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة، وهم قد خالفوها بالقتال، والإخراج.
والديار: مباني الإقامة، وقال الخليل: «محلة القوم: دارهم».
ومعنى { تظهرون }: تتعاونون، و { العدوان }: تجاوز الحدود، والظلم.
وقرأ حمزة: «أسرى تفدوهم»، و { أسرى }: جمع أسير، مأخوذ من الأسر، وهو الشد، ثم كثر استعماله؛ حتى لزم، وإن لم يكن ثم ربط ولا شد، وأسير: فعيل: بمعنى مفعول، و { تفدوهم }: معناه في اللغة: تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئا، وقال الثعلبي: يقال: فدى، إذا أعطى مالا، وأخذ رجلا، وفادى، إذا أعطى رجلا، وأخذ رجلا فتفدوهم: معناه بالمال، وتفادوهم، أي: مفادات الأسير بالأسير. انتهى.
* ت *: وفي الحديث من قول العباس رضي الله عنه: «فإني فاديت نفسي وعقيلا»، وظاهره لا فرق بينهما.
وقوله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض... } الآية: والذي آمنوا به فداء الأسارى، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضا، وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ لهم وبيان لقبح فعلهم، والخزي: الفضيحة، والعقوبة، فقيل: خزيهم: ضرب الجزية عليهم غابر الدهر، وقيل: قتل قريظة، وإجلاء النضير، وقيل: الخزي الذي تتوعد به الأمة من الناس هو غلبة العدو.
و { الدنيا }: مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو، ولكن أبدلت فرقا بين الأسماء والصفات، وأشد العذاب: الخلود في جهنم.
وقوله تعالى: { وما الله بغفل عما تعملون } قرأ نافع، وابن كثير بياء على ذكر الغائب، فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والآية واعظة لهم بالمعنى، إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص.
وقرأ الباقون بتاء؛ على الخطاب لمن تقدم ذكره في الآية قبل هذا؛ وهو قوله: { أفتؤمنون ببعض الكتب... } الآية، وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد روي؛ أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «إن بني إسرائيل قد مضوا، وأنتم الذين تعنون بهذا، يا أمة محمد»؛ يريد هذا، وما يجري مجراه.
[2.86-88]
وقوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة... } الآية: جعل الله ترك الآخرة، وأخذ الدنيا عوضا عنها، مع قدرتهم على التمسك بالآخرة - بمنزلة من أخذها، ثم باعها بالدنيا، { فلا يخفف عنهم العذاب } ، في الآخرة، { ولا هم ينصرون }؛ لا في الدنيا، ولا في الآخرة.
* ص *: { ولقد ءاتينا موسى الكتب }: «اللام» في «لقد»: يحتمل أن تكون توكيدا، ويحتمل أن تكون جواب قسم، وموسى هو المفعول الأول، والكتاب الثاني، وعكس السهيلي.
و { مريم }: معناه في السريانية: الخادم، وسميت به أم عيسى، فصار علما عليها. انتهى.
و { الكتب }: التوراة.
{ وقفينا }: مأخوذ من القفا؛ تقول: قفيت فلانا بفلان، إذا جئت به من قبل قفاه، ومنه: قفا يقفو ، إذا اتبع، وكل رسول جاء بعد موسى، فإنما جاء بإثبات التوراة، والأمر بلزومها إلى عيسى - عليهم السلام -.
و { البينت }: الحجج التي أعطاها الله عيسى.
وقيل: هي آياته من إحياء، وإبراء، وخلق طير، وقيل: هي الإنجيل، والآية تعم ذلك.
{ وأيدنه }: معناه: قويناه، والأيد القوة.
قال ابن عباس: { روح القدس }: هو الاسم الذي كان يحيي به الموتى، وقال ابن زيد: هو الإنجيل؛ كما سمى الله تعالى القرآن روحا، وقال السدي، والضحاك، والربيع، وقتادة: { روح القدس }: جبريل - عليه السلام -؛ وهذا أصح الأقوال،
" وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: اهج قريشا، وروح القدس معك "
ومرة قال له:
" وجبريل معك "
، و { كلما }: ظرف؛ والعامل فيه: { استكبرتم } ، وظاهر الكلام الاستفهام، ومعناه التوبيخ؛ روي أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي سبعين نبيا، ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار.
والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهو في هذه الآية من ذلك؛ لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات، ومعنى: { قلوبنا غلف } ، أي: عليها غشاوات، فهي لا تفقه، قال ابن عباس. ثم بين تعالى سبب نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بذنب أعظم منه، واللعن: الإبعاد والطرد.
و { قليلا }: نعت لمصدر محذوف، تقديره: فإيمانا قليلا ما يؤمنون، والضمير في «يؤمنون» لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم منهم؛ وما في قوله: { ما يؤمنون } زائدة موكدة.
[2.89-91]
وقوله تعالى: { ولما جآءهم كتاب من عند الله... } الآية الكتاب: القرآن، و { مصدق لما معهم }: يعني التوراة، و { يستفتحون } معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما علموا عندهم من صفته، وذكر وقته، وظنوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج، فغلبتهم العرب، قالوا لهم: لو قد خرج النبي الذي أظل وقته، لقاتلناكم معه، واستنصرنا عليكم به، ويستفتحون: معناه يستنصرون، قال أحمد بن نصر الداوودي: ومنه: «عسى الله أن يأتي بالفتح»، أي: بالنصر. انتهى.
وروى أبو بكر محمد بن حسين الاجري عن ابن عباس، قال: كانت يهود خيبر يقاتلون غطفان، فكلما التقوا، هزمت اليهود، فعاذ اليهود يوما بالدعاء، فقالوا: اللهم، إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا، دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله عز وجل، { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } ، والاستفتاح: الاستنصار، ووقع ليهود المدينة نحو هذا مع الأنصار قبيل الإسلام. انتهى من تأليف حسن بن علي بن عبد الملك الرهوني المعروف بابن القطان، وهو كتاب نفيس جدا ألفه في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وآيات نبوءته.
وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبي المنتظر، كانت نقلتهم إلى الحجاز، وسكناهم به، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث، وما عرفوا هو محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه؛ ويظهر في هذه الآية العناد منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة و { لعنة الله } إبعاده لهم، وخزيهم لذلك.
و { بئس }: أصله «بئس»، سهلت الهمزة، ونقلت حركتها إلى الباء، و «ما» عند سيبويه: فاعلة ب «بئس» والتقدير: بئس الذي اشتروا به أنفسهم.
و { اشتروا }: بمعنى: باعوا.
و { ما أنزل الله } ، يعني به القرآن، ويحتمل التوراة، ويحتمل أن يراد الجميع من توراة، وإنجيل، وقرآن؛ لأن الكفر بالبعض يستلزم الكفر بالكل، و { من فضله } ، يعني: من النبوءة والرسالة، و { من يشآء } ، يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب، ويدخل في المعنى عيسى صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كفروا به بغيا، والله قد تفضل عليه.
و { باءو }: معناه: مضوا متحملين لما يذكر؛ أنهم باءوا به.
وقال البخاري: قال قتادة: { باءو }: معناه: انقلبوا. انتهى.
و { بغضب } معناه من الله تعالى؛ لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم، قيل: لعبادتهم العجل.
وقيل : لكفرهم بعيسى - عليه السلام - فالمعنى: على غضب قد باء به أسلافهم، حظ هؤلاء منه وافر؛ بسبب رضاهم بتلك الأفعال، وتصويبهم لها.
و { مهين }: مأخوذ من «الهوان»، وهو الخلود في النار؛ لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين، إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد، لا هوان فيه، بل هو تطهير له.
وقوله تعالى: { وإذا قيل لهم } ، يعني لليهود: { آمنوا بما أنزل الله قالوا } على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن، { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } يعنون: التوراة، { ويكفرون بما وراءه }؛ قال قتادة: أي: بما بعده، قال الفراء. أي: بما سواه، ويعني به: القرآن، ووصف تعالى القرآن؛ بأنه الحق و { مصدقا }: حال مؤكدة؛ عند سيبويه.
وقوله تعالى: { قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } رد من الله تعالى عليهم، وتكذيب لهم في ذلك، واحتجاج عليهم.
[2.92-95]
وقوله تعالى: { ولقد جآءكم موسى بالبينت }: { البينت }: التوراة، والعصا، وفرق البحر، وسائر الآيات، و { خذوا ما ءاتينكم }: يعني: التوراة والشرع { بقوة } ، أي: بعزم، ونشاط. وجد.
{ وأشربوا في قلوبهم العجل }: أي: حب العجل، والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم.
وقوله تعالى: { بكفرهم } يحتمل أن تكون باء السبب، ويحتمل أن تكون بمعنى «مع».
وقوله تعالى: { قل بئسما يأمركم به إيمنكم } أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم؛ لأنه بئس هذه الأشياء التي فعلتم، وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: { نؤمن بما أنزل علينا }.
وقوله تعالى: { قل إن كانت لكم الدار الأخرة... } الآية: أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم، والمعنى: إن كان لكم نعيمها وحظوتها، وخيرها، فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها، { فتمنوا الموت } ، والدار: اسم «كان»، و «خالصة»: خبرها و { من دون الناس } يحتمل أن يراد ب «الناس»: محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم، وهذه آية بينة أعطاها الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهود قالت:
نحن أبناء الله وأحباؤه
[المائدة:18] وشبه ذلك من القول ، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلموا صدقه، فأحجموا عن تمنيه فرقا من الله؛ لقبح أفعالهم ومعرفتهم بكذبهم، وحرصا منهم على الحياة، وقيل: إن الله تعالى منعهم من التمني، وقصرهم على الإمساك عنه؛ لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم.
* ت *: قال عياض: ومن الوجوه البينة في إعجاز القرآن آي وردت بتعجيز قوم في قضايا، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوا ولا قدروا على ذلك؛ كقوله تعالى لليهود: { قل إن كانت لكم الدار الأخرة عند الله خالصة... } الآية: قال أبو إسحاق الزجاج في هذه الآية: أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحة الرسالة؛ لأنه قال لهم: { فتمنوا الموت } وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدا، فلم يتمنه واحد منهم، وعن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
" والذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه "
، يعني: يموت مكانه، قال أبو محمد الأصيلي: من أعجب أمرهم؛ أنه لا توجد منهم جماعة ولا واحد من يوم أمر الله تعالى بذلك نبيه يقدم عليه، ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنه منهم. انتهى من «الشفا».
والمراد بقوله: { تمنوا }: أريدوه بقلوبكم، واسألوه، هذا قول جماعة من المفسرين، وقال ابن عباس: المراد به السؤال فقط، وإن لم يكن بالقلب، ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم، وأنهم لا يتمنونه أبدا، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي؛ إذ الأكثر من كسب العبد الخير والشر، إنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك.
وقوله تعالى: { والله عليم بالظلمين }: ظاهره الخبر، ومضمنه الوعيد؛ لأن الله سبحانه عليم بالظالمين، وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد.
[2.96-97]
وقوله تعالى: { ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة } الآية: وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم، وأن لا خير لهم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: { ومن الذين أشركوا }: قيل: المعنى: وأحرص من الذين أشركوا لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، والضمير في { أحدهم } يعود في هذا القول على اليهود، وقيل: إن الكلام تم في حياة، ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين؛ أنهم يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، والزحزحة الإبعاد والتنحية، وفي قوله تعالى: { والله بصير بما يعملون } وعيد.
وقوله تعالى: { قل من كان عدوا لجبريل... } الآية: أجمع أهل التفسير؛ أن اليهود قالت: جبريل عدونا، واختلف في كيفية ذلك، فقيل:
" إن يهود فدك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نسألك عن أربعة أشياء، فإن عرفتها، اتبعناك، فسألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، فقال: لحوم الإبل، وألبانها، وسألوه عن الشبه في الولد، فقال: أي ماء علا، كان له الشبه، وسألوه عن نومه، فقال: تنام عيني، ولا ينام قلبي، وسألوه عن من يجيئه من الملائكة، فقال: جبريل، فلما ذكره، قالوا: ذاك عدونا؛ لأنه ملك الحرب، والشدائد، والجدب، ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة، والخصب، والأمطار، لاتبعناك ".
وفي جبريل لغات:
جبريل؛ بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع، وجبريل، بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه؛ أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ: جبريل وميكال، فلا أزال أقرأها أبدا كذلك.
* ت *: يعني، والله أعلم: مع اعتماده على روايتها، قال الثعلبي: والصحيح المشهور عن ابن كثير ما تقدم من فتح الجيم، لا ما حكي عنه في الرؤيا من كسرها. انتهى.
وذكر ابن عباس وغيره؛ أن جبر، وميك، وإسراف هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك، وإيل: الله.
وقوله تعالى: { فإنه نزله على قلبك } الضمير في «إنه» عائد على الله تعالى، وفي «نزله» عائد على «جبريل»، أي: بالقرآن، وسائر الوحي، وقيل: الضمير في «إنه» عائد على جبريل، وفي «نزله» عائد على القرآن، وخص القلب بالذكر؛ لأنه موضع العقل والعلم، وتلقي المعارف.
و { بإذن الله }: معناه: بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، و { مصدقا }: حال من ضمير القرآن في «نزله»، و { ما بين يديه }: ما تقدمه من كتب الله تعالى، { وهدى } ، أي: إرشاد.
[2.98-104]
وقوله تعالى: { من كان عدوا لله... } الآية: وعيد وذم لمعادي جبريل، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم، وعطف جبريل وميكائل على الملائكة، وقد كان ذكر الملائكة عمهما؛ تشريفا لهما؛ وقيل: خصا لأن اليهود ذكروهما، ونزلت الآية بسببهما؛ فذكرا لئلا تقول اليهود: إنا لم نعاد الله، وجميع ملائكته، وعداوة العبد لله هي معصيته، وترك طاعته، ومعاداة أوليائه، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه.
وقوله تعالى: { أوكلما عهدوا عهدا... } الآية: قال سيبويه: «الواو للعطف، دخلت عليها ألف الاستفهام»، والنبذ: الطرح، ومنه المنبوذ، والعهد الذي نبذوه: هو ما أخذ عليهم في التوراة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم { ولمآ جآءهم رسول من عند الله } هو محمد صلى الله عليه وسلم و { مصدق }: نعت لرسول، وكتاب الله: القرآن، وقيل: التوراة؛ لأن مخالفتها نبذ لها، و { وراء ظهورهم }؛ مثل؛ لأن ما يجعل ظهريا، فقد زال النظر إليه جملة، والعرب تقول: جعل هذا الأمر وراء ظهره، ودبر أذنه.
و { كأنهم لا يعلمون }: تشبيه بمن لا يعلم فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.
وقوله تعالى: { واتبعوا ما تتلوا الشيطين... } الآية: يعني اليهود، و { تتلوا }: قال عطاء: معناه: تقرأ، وقال ابن عباس: { تتلوا }: تتبع، و { على ملك سليمن } ، أي: على عهد ملك سليمان، وقال الطبري: { اتبعوا }: بمعنى: فضلوا، و { على ملك سليمن } ، أي: على شرعه ونبوءته، والذي تلته الشياطين، قيل: إنهم كانوا يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل؛ حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان، ودفنه تحت كرسيه، فلما مات، أخرجته الشياطين، وقالت: إن ذلك كان علم سليمان.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر سليمان - عليه السلام - في الأنبياء، قال بعض اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء، وما كان إلا ساحرا.
وقوله تعالى: { وما كفر سليمن } تبرئة من الله تعالى لسليمان - عليه السلام.
والسحر والعمل به كفر، ويقتل الساحر عند مالك؛ كفرا، ولا يستتاب؛ كالزنديق، وقال الشافعي: يسأل عن سحره، فإن كان كفرا، استتيب منه، فإن تاب، وإلا قتل، وقال مالك فيمن يعقد الرجال عن النساء: يعاقب، ولا يقتل، والناس المعلمون: أتباع الشياطين من بني إسرائيل، { وما أنزل على الملكين }: «ما» عطف على السحر، فهي مفعولة، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين؛ ليكفر به من اتبعه، ويؤمن به من تركه، أو على قول مجاهد وغيره؛ أن الله تعالى أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه، دون السحر، أو على القول؛ أن الله تعالى أنزل السحر عليهما؛ ليعلم على جهة التحذير منه، والنهي عنه.
قال: * ع *: والتعليم؛ على هذا القول، إنما هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل: «إنما» عطف على «ما» في قوله: { ما تتلوا } ، وقيل: «ما» نافية، رد على قوله: { وما كفر سليمن } ، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله تعالى أنزل جبريل وميكائل بالسحر، فنفى الله ذلك.
* ت *: قال عياض: والقراءة بكسر اللام من الملكين شاذة، وبابل: قطر من الأرض، وهاروت وماروت: بدل من الملكين، وما يذكر في قصتهما مع الزهرة كله ضعيف؛ وكذا قال: * ع *.
* ت *: قال عياض: وأما ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت. وما روي عن علي، وابن عباس - رضي الله عنهما - في خبرهما، وابتلائهما، فاعلم - أكرمك الله - أن هذه الأخبار لم يرو منها سقيم ولا صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو شيئا يؤخذ بقياس، والذي منه في القرآن، اختلف المفسرون في معناه، وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود، وافترائهم؛ كما نصه الله أول الآيات. انتهى. انظره.
وقوله تعالى: { وما يعلمان... } الآية: ذكر ابن الأعرابي في «الياقوتة»؛ أن { يعلمان } بمعنى «يعلمان، ويشعران»؛ كما قال كعب بن زهير: [الطويل]
تعلم رسول الله أنك مدركي
وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
وحمل هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان بالسحر، وينهيان عنه، وقال الجمهور: بل التعليم على عرفه.
* ص *: وقوله تعالى: { من أحد }: «من» هنا زائدة مع المفعول لتأكيد استغراق الجنس؛ لأن أحدا من ألفاظ العموم. انتهى.
و { يفرقون }: معناه فرقة العصمة، وقيل: معناه يؤخذون الرجل عن المرأة؛ حتى لا يقدر على وطئها، فهي أيضا فرقة، و { بإذن الله }: معناه: بعلمه، وتمكينه، و { يضرهم }: معناه: في الآخرة، والضمير في علموا عائد على بني إسرائيل، وقال: { اشتراه }؛ لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا، والخلاق: النصيب والحظ وهو هنا بمعنى الجاه والقدر، واللام في قوله: «لمن» للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط.
* م *: { ولبئس ما }: أبو البقاء: جواب قسم محذوف، والمخصوص بالذم محذوف، أي: السحرأو الكفر، والضمير في «به» عائد على السحر، أو الكفر. انتهى.
و { شروا }: معناه: باعوا، والضمير في «يعلمون» عائد على بني إسرائيل اتفاقا، { ولو أنهم ءامنوا }: يعني: الذين اشتروا السحر، وجواب: «لو»: { لمثوبة } ، والمثوبة؛ عند الجمهور: بمعنى الثواب.
وقوله سبحانه: { لو كانوا يعلمون } يحتمل نفي العلم عنهم، ويحتمل: لو كانوا يعلمون علما ينفع.
وقرأ جمهور الناس: { رعنا }؛ من المراعاة؛ بمعنى: فاعلنا، أي: ارعنا نرعك، وفي هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده، وتعزيره وتوقيره، وقالت طائفة: هي لغة للعرب، فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة؛ يظهرون أنهم يريدون المراعاة، ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل، فنهى الله المؤمنين عن هذا القول؛ سدا للذريعة؛ لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، و { انظرنا }: معناه: انتظرنا، وأمهل علينا، ويحتمل أن يكون المعنى: تفقدنا من النظر، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، ولما نهى الله تعالى في هذه الآية، وأمر، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة، وأعلم أن لمن خالف أمره، فكفر عذابا أليما، وهو المؤلم، { واسمعوا }: معطوف على { قولوا } ، لا على معمولها.
[2.105-106]
وقوله سبحانه: { ما يود الذين كفروا من أهل الكتب... } الآية: يتناول لفظ الآية كل خير، والرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها، وقال قوم: الرحمة القرآن.
وقوله تعالى: { ما ننسخ من ءاية أو ننسها... } الآية: النسخ؛ في كلام العرب، على وجهين:
أحدهما: النقل؛ كنقل كتاب من آخر، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، وورد في كتاب الله تعالى في قوله:
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
[الجاثية:29].
الثاني: الإزالة، وهو الذي في هذه الآية، وهو منقسم في اللغة على ضربين:
أحدهما: يثبت الناسخ بعد المنسوخ؛ كقولهم: نسخت الشمس الظل.
والآخر: لا يثبت؛ كقولهم: نسخت الريح الأثر.
وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين وحد «الناسخ» عند حذاق أهل السنة: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا، مع تراخيه عنه.
* ت *: قال ابن الحاجب: والنسخ؛ لغة: الإزالة، وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي؛ بدليل شرعي متأخر. انتهى من «مختصره الكبير».
والنسخ جائز على الله تعالى عقلا؛ لأنه لا يلزم عنه محال، ولا تتغير صفة من صفاته تعالى، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة، فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت، ولا النسخ؛ لطروء علم، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول، ويعلم نسخه له بالثاني، والبداء لا يجوز على الله تعالى؛ لأنه لا يكون إلا لطروء علم أو لتغير إرادة؛ وذلك محال في جهة الله تعالى، وجعلت اليهود النسخ والبداء واحدا، فلم يجوزوه، فضلوا.
والمنسوخ؛ عند أئمتنا: الحكم الثابت نفسه، لا ما ذهبت إليه المعتزلة من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله تعالى حسن، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة، وعلى أن الحسن والقبح في الأحكام، إنما هو من جهة الشرع، لا بصفة نفسية، والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ، وليس به؛ لأن المخصص لم يتناوله العموم قط، ولو تناوله العموم، لكان نسخا، والنسخ لا يجوز في الأخبار، وإنما هو مختص بالأوامر والنواهي، ورد بعض المعترضين الأمر خبرا؛ بأن قال: أليس معناه واجب عليكم أن تفعلوا كذا، فهذا خبر، والجواب أن يقال: إن في ضمن المعنى: إلا أن أنسخه عنكم، وأرفعه، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار؛ كذلك تضمن هذا الاستثناء، وصور النسخ تختلف، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف، وبالعكس، وقد ينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم، وبالعكس، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر، ونسخ القرآن بالقرآن، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد؛ وهذا كله متفق عليه، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله - عليه السلام -
" لا وصية لوارث "
، وهو ظاهر مسائل مالك.
* ت *: ويعني بالسنة الناسخة للقرآن الخبر المتواتر القطعي، وقد أشار إلى أن هذا الحديث متواتر، ذكره عند تفسير قوله تعالى:
إذا حضر أحدكم الموت
[البقرة:180]، واختلف القراء في قراءة قوله تعالى: { أو ننسها } فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «ننسأها»؛ بنون مفتوحة، وأخرى ساكنة، وسين مفتوحة، وألف بعدها مهموزة، وهذا بمعنى التأخير، وأما قراءة نافع والجمهور: «ننسها»؛ من النسيان، وقرأت ذلك فرقة إلا أنها همزت بعد السين، فهذه بمعنى التأخير والنسيان في كلام العرب يجيء في الأغلب ضد الذكر، وقد يجيء بمعنى الترك، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان الذي هو ضد الذكر، فمعنى الآية به: ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها، فإنا نأتي بخير منها لكم أو مثلها في المنفعة، وما كان على معنى الترك، أو على معنى التأخير، فيترتب فيه معان، انظرها، إن شئت فإني آثرت الاختصار.
* ع *: والصحيح أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله أن ينساه، ولم يرد أن يثبته قرآنا - جائز، فأما النسيان الذي هو آفة في البشر، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ، وبعد التبليغ، ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ، فجائز عليه ما يجوز على البشر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ، وأدى الأمانة؛ ومنه الحديث،
" حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: «أفي القوم أبي؟ قال: نعم، يا رسول الله، قال: فلم لم تذكرني؟ قال: حسبت أنها رفعت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترفع، ولكني نسيتها» ".
وقوله تعالى: { ألم تعلم }: معناه: التقرير، ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما شاء، ويثبت ما شاء، ويفعل في أحكامه ما شاء، هو قدير على ذلك، وعلى كل شيء، وهذا لإنكار اليهود النسخ، وقوله: { على كل شيء } عموم، معناه الخصوص، إذ لا تدخل فيه الصفات القديمة؛ بدليل العقل، ولا المحالات؛ لأنها ليست بأشياء، والشيء في كلام العرب: الموجود، و { قدير }: اسم فاعل على المبالغة، قال القشيري: وإن من علم أن مولاه قدير على ما يريد، قطع رجاءه عن الأغيار؛ كما قال تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -:
ربنا إني أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع
[إبراهيم:37] قال أهل الإشارة: معناه: سهلت طريقهم إليك، وقطعت رجاءهم عن سواك، ثم قال:
ليقيموا الصلوة
[إبراهيم:37] أي: شغلتهم بخدمتك، وأنت أولى بهم،
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
[إبراهيم:37]، أي: إذا احتاجوا شيئا، فذلل عبادك لهم، وأوصل بكرمك رعايتهم إليهم؛ فإنك على ذلك قدير، وإن من لزم بابه أوصل إليه محابه، وكفاه أسبابه، وذلل له كل صعب، وأورده كل سهل عذب من غير قطع شقة، ولا تحمل مشقة انتهى من «التحبير».
[2.107-108]
وقوله تعالى: { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض... } الآية: الملك السلطان، ونفوذ الأمر، والإرادة، وجمع الضمير في { لكم } دال على أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته.
وقوله تعالى: { أم تريدون أن تسئلوا رسولكم... } الآية: قال أبو العالية:
" إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: «ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل في تعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل» "
، وتلا:
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما
[النساء:110]، وقال ابن عباس: سببها أن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير عيون، وغير ذلك، وقيل غير هذا، وما سئل موسى - عليه السلام - هو أن يرى الله جهرة.
وكنى عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل، و { ضل }: أخطأ الطريق، والسواء من كل شيء الوسط، والمعظم؛ ومنه: { في سوآء الجحيم } وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم [الكامل]:
يا ويح أنصار النبي ورهطه
بعد المغيب في سواء الملحد
والسبيل: عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله تعالى لعباده.
[2.109-110]
وقوله تعالى: { ود كثير من أهل الكتب لو يردونكم من بعد إيمنكم كفارا... } الآية: قال ابن عباس: المراد ابنا أخطب؛ حيي وأبو ياسر، أي: وأتباعهما، واختلف في سبب هذه الآية، فقيل: إن حذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس، فأراد اليهود صرفهما عن دينهما، فثبتا عليه، ونزلت الآية، وقيل: إن هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عز وجل عن متابعة أقوال اليهود في:
رعنا
[البقرة:104] وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل على المؤمنين خير، ويودون أن يردوهم كفارا من بعد ما تبين لهم الحق، وهو نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم.
* ت *: وقد جاءت أحاديث صحيحة في النهي عن الحسد، فمنها حديث مالك في الموطإ عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث "
وأسند أبو عمر بن عبد البر عن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، حالقتا الدين، لا حالقتا الشعر "
انتهى من «التمهيد».
والعفو: ترك العقوبة، والصفح: الإعراض عن المذنب؛ كأنه يولي صفحة العنق، قال ابن عباس: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
قاتلوا الذين لا يؤمنون
[التوبة:29] الآية إلى قوله: { صغرون }.
وقيل: بقوله:
اقتلوا المشركين
[التوبة:5]، وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ؛ لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته.
* ت *: وينبغي للمؤمن أن يتأدب بآداب هذه الآية، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات»؟ قالوا: نعم، يا رسول الله، قال: «تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك "
خرجه النسائي. انتهى من «الكوكب الدري» لأبي العباس أحمد بن سعيد التجيبي.
وقوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير }: مقتضاه في هذا الموضع: وعد للمؤمنين.
وقوله تعالى: { وأقيموا الصلاة... } الآية: قال الطبري: إنما أمر الله المؤمنين هنا بالصلاة والزكاة ليحط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود:
رعنا
[البقرة:104]؛ لأن ذلك نهي عن نوعه، وقوله: { تجدوه } ، أي: تجدوا ثوابه، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده قال:
" جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مالي لا أحب الموت؟ فقال: هل لك مال؟ قال: نعم، يا رسول الله، قال: فقدم مالك بين يديك؛ فإن المرء مع ماله، إن قدمه، أحب أن يلحقه، وإن خلفه، أحب التخلف "
انتهى.
وقوله تعالى: { إن الله بما تعملون بصير } خبر في اللفظ، معناه الوعد والوعيد.
[2.111-115]
وقوله تعالى: { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى } ، معناه: قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقال النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فجمع قولهم. ودل تفريق نوعيهم على تفريق قوليهم، وهذا هو الإيجاز واللف.
و { هودا }: جمع هائد، ومعناه: التائب الراجع، وكذبهم الله تعالى، وجعل قولهم أمنية، وأمر نبيه - عليه السلام - بدعائهم إلى إظهار البرهان، وهو الدليل الذي يوقع اليقين، وقولهم: «لن» نفي حسنت بعده «بلى»؛ إذ هي رد بالإيجاب في جواب النفي، حرف مرتجل لذلك، و { أسلم }: معناه: استسلم، وخضع، ودان، وخص الوجه بالذكر؛ لكونه أشرف الأعضاء، وفيه يظهر أثر العز والذل، { وهو محسن }: جملة في موضع الحال.
وقوله تعالى: { وقالت اليهود... } الآية: معناه: أنه ادعى كل فريق أنه أحق برحمة الله من الآخر، وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم فتسابوا، وكفر اليهود بعيسى وبملته، وبالإنجيل، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة.
* ع *: وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها؛ لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى، وتقرير التوراة، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى، وكلاهما يتضمن صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فعنفهم الله تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلاف ما قالوا.
وفي قوله تعالى: { وهم يتلون الكتب } تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على ملازمة القرآن، والوقوف عند حدوده، والكتاب الذي يتلونه، قيل: هو التوراة والإنجيل، فالألف واللام للجنس، وقيل: التوراة؛ لأن النصارى تمتثلها.
وقوله تعالى: { كذلك قال الذين لا يعلمون } يعني: كفار العرب؛ لأنهم لا كتاب لهم، { فالله يحكم بينهم يوم القيمة... } الآية، أي: فيثيب من كان على شيء، ويعاقب من كان على غير شيء، { ومن أظلم ممن منع مسجد الله... } الآية، أي: لا أحد أظلم من هؤلاء، قال ابن عباس وغيره: المراد النصارى الذين كانوا يؤذون من يصلي ببيت المقدس، وقال ابن زيد: المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: { أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين... } الاية: فمن جعل الآية في النصارى، روى أنه مر زمن بعد ذلك لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أوجع ضربا، قاله قتادة والسدي، ومن جعلها في قريش، قال: كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يحج مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان؛ و { أينما } شرط، و { تولوا } جزم به، و { ثم }: جوابه، و { وجه الله }: معناه: الذي وجهنا إليه كما تقول: سافرت في وجه كذا، أي: في جهة كذا، ويتجه في بعض المواضع من القرآن كهذه الآية أن يراد بالوجه الجهة التي فيها رضاه، وعليها ثوابه؛ كما تقول تصدقت لوجه الله، ويتجه في هذه الآية خاصة أن يراد بالوجه الجهة التي وجهنا إليها في القبلة، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عمر: نزلت هذه الآية في صلاة النافلة في السفر، حيث توجهت بالإنسان دابته، وقال النخعي: الآية عامة، أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم، فثم وجه الله، أي: موضع رضاه وثوابه، وجهة رحمته التي يوصل إليها بالطاعة، وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن اجتهد في القبلة، فأخطأ، وورد في ذلك حديث رواه عامر بن ربيعة، قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فتحرى قوم القبلة، وأعلموا علامات، فلما أصبحوا، رأوا أنهم قد أخطئوها، فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت هذه الآية».
وقيل: نزلت الآية حين صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت.
و { وسع }: معناه متسع الرحمة، { عليم } أين يضعها، وقيل: { وسع }: معناه هنا أنه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر، { عليم } بالنيات التي هي ملاك العمل.
[2.116-117]
وقوله تعالى: { وقالوا اتخذ الله ولدا سبحنه... } الآية: اختلف على من يعود ضمير «قالوا»، فقيل: على النصارى، وهو الأشبه، وقيل: على اليهود؛ لأنهم قالوا: عزير ابن الله، وقيل: على كفرة العرب؛ لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله.
* ت *: وقال أبو عبد الله اللخمي: ويحتمل أن يعني بالآية كل من تقدم ذكره من الكفرة، وقد تقدم ذكر اليهود والنصارى والذين لا يعلمون، وهم المشركون، وكلهم قد ادعى لله ولدا، تعالى الله عن قولهم. انتهى من «مختصر الطبري».
و { سبحنه }: مصدر، معناه: تنزيها له وتبرئة مما قالوا، والقنوت؛ في اللغة: الطاعة، والقنوت: طول القيام، فمعنى الآية: إن المخلوقات تقنت لله، أي: تخشع، وتطيع، والكفار قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم، وقيل: الكافر يسجد ظله، وهو كاره، و { بديع }: مصروف من مبدع، والمبدع: المخترع المنشيء، وخص السموات والأرض بالذكر؛ لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا.
و { قضى }: معناه: قدر، وقد يجيء بمعنى: أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنيان، والأمر: واحد الأمور، وليس هو هنا بمصدر أمر يأمر، وتلخيص المعتقد في هذه الآية؛ أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر وقوع المعلومات، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، وكل ما يستند إلى الله تعالى من قدرة وعلم وأمر ، فهو قديم لم يزل، والمعنى الذي تقتضيه عبارة { كن } هو قديم قائم بالذات، والوضوح التام في هذه المسألة [لا] يحتاج أكثر من هذا البسط.
* ت *: وقد قدمنا ما يزيد هذا المعنى وضوحا عند قوله تعالى:
وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لأدم
[البقرة:34] فانظره.
[2.118-120]
وقوله تعالى: { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله... } الآية: قال الربيع والسدي: هم كفار العرب، وقد طلب عبد الله بن أمية وغيره من النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وقال مجاهد: هم النصارى، وقال ابن عباس: المراد من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود؛ لأن رافع بن حريملة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أسمعنا كلام الله، وقيل: الإشارة إلى جميع هذه الطوائف؛ لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة، و { لولا } تحضيض بمعنى «هلا»، والآية هنا العلامة الدالة، و { الذين من قبلهم } هم اليهود والنصارى في قول من جعل { الذين لا يعلمون } كفار العرب، وهم اليهود في قول من جعل { الذين لا يعلمون } النصارى، وهم الأمم السالفة في قول من جعل { الذين لا يعلمون } العرب النصارى واليهود وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أوفى الكفر.
وقوله تعالى: { قد بينا الآيت لقوم يوقنون } قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم، وقرينة أخرى أن الكلام مدح لهم.
وقوله تعالى: { إنا أرسلنك بالحق بشيرا } ، أي: لمن آمن، ونذيرا لمن كفر، وقرأ نافع وحده ولا تسأل، أي: لا تسأل عن شدة عذابهم؛ كما تقول: فلان لا تسأل عنه، تعني أنه في نهاية تشهره من خير أو شر.
* ت *: وزاد في «مختصر الطبري»، قال: وتحتمل هذه القراءة معنى آخر، وهو، والله أعلم، أظهر، أي: ولا تسأل عنهم سؤال مكترث بما أصابهم، أو بما هم عليه من الكفر الذي يوردهم الجحيم؛ نظير قوله عز وجل:
فلا تذهب نفسك عليهم حسرت
[فاطر:8]، وأما ما روي عن محمد بن كعب القرظي ومن وافقه؛ من أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل، ما فعل أبواي؟ فنزلت الآية في ذلك، فهو بعيد ، ولا يتصل أيضا بمعنى ما قبله. انتهى.
وقرأ باقي السبعة: «ولا تسأل»؛ بضم التاء واللام.
و { الجحيم }: إحدى طبقات النار.
وقوله تعالى: { إن هدى الله هو الهدى } ، أي: ما أنت عليه يا محمد من هدى الله هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء، ثم قال تعالى لنبيه: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } فهذا شرط خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته معه داخلة فيه.
* ت *: والأدب أن يقال: خوطب به صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ لوجود عصمته صلى الله عليه وسلم وكذلك الجواب في سائر ما أشبه هذا المعنى من الآي، وقد نبه - رحمه الله - على هذا المعنى في نظيرتها؛ كما سيأتي، وكان الأولى؛ أن ينبه على ذلك هنا أيضا، وقد أجاب عياض عن الآي الواردة في القرآن مما يوهم ظاهره إشكالا، فقال - رحمه الله -: اعلم، وفقنا الله وإياك، أنه - عليه السلام - لا يصح ولا يجوز عليه ألا يبلغ، وأن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك ولا أن يتقول على الله ما لا يجب أو يفترى عليه، أو يضل، أو يختم على قلبه، أو يطيع الكافرين، لكن الله أمره بالمكاشفة والبيان في البلاغ للمخالفين، وإن إبلاغه، إن لم يكن بهذا البيان فكأنه ما بلغ، وطيب نفسه، وقوى قلبه بقوله تعالى:
والله يعصمك من الناس
[المائدة:67] كما قال لموسى وهارون - عليها السلام:
لا تخافا
[طه:46] لتشتد بصائرهم في الإبلاغ وإظهار دين الله، ويذهب عنهم خوف العدو المضعف لليقين، وأما قوله تعالى:
ولو تقول علينا بعض الأقاويل...
[الحاقة:44] وقوله
إذا لأذقنك ضعف الحيوة
[الإسراء:75] فمعناه: أن هذا هو جزاء من فعل هذا، وجزاؤك لو كنت ممن يفعله، وهو صلى الله عليه وسلم لا يفعله، وكذلك قوله تعالى:
وإن تطع أكثر من في الأرض
[الأنعام:116] فالمراد غيره، كما قال:
إن تطيعوا الذين كفروا...
[آل عمران:149] وقوله:
فإن يشإ الله يختم على قلبك
[الشورى:24] و
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر:65] وما أشبهه، فالمراد غيره، وأن هذا حال من أشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه هذا، وقوله تعالى
اتق الله ولا تطع الكفرين
[الأحزاب:1] فليس فيه أنه أطاعهم، والله ينهاه عما يشاء، ويأمره بما يشاء؛ كما قال تعالى:
ولا تطرد الذين يدعون ربهم
[الأنعام:52] الآية، وما كان طردهم - عليه السلام - ولا كان من الظالمين. انتهى من «الشفا».
* ص *: { ولئن }: هذه اللام هي الموطئة والموذنة، وهي مشعرة بقسم مقدر قبلها. انتهى.
[2.121-124]
وقوله تعالى: { الذين آتينهم الكتب يتلونه... } الآية: قال قتادة: المراد ب «الذين» في هذا الموضع: من أسلم من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب على هذا: التأويل القرآن، وقال ابن زيد: المراد من أسلم من بني إسرائيل، والكتاب؛ على هذا التأويل: التوراة، و { ءاتينهم }: معناه: أعطيناهم، و { يتلونه }: معناه: يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر والنهي، قال أحمد بن نصر الداوودي: وهذا قول ابن عباس، قال عكرمة: يقال: فلان يتلو فلانا، أي: يتبعه؛ ومنه:
والقمر إذا تلها
[الشمس:2] أي: تبعها. انتهى.
ولله در من اتبع كلام ربه، واقتفى سنة نبيه، وإن قل علمه، قال القضاعي في اختصاره ل «المدارك»: قال في ترجمة سحنون: كان سحنون يقول: مثل العلم القليل في الرجل الصالح مثل العين العذبة في الأرض العذبة، يزرع عليها صاحبها ما ينتفع به، ومثل العلم الكثير في الرجل الطالح مثل العين الخرارة في السبخة تهر الليل والنهار، ولا ينتفع بها. انتهى.
وقيل: { يتلونه }: يقرءونه حق قراءته، وهذا أيضا يتضمن الاتباع والامتثال، و { حق }: مصدر، وهو بمعنى أفعل، والضمير في «به» عائد على «الكتاب»، وقيل: يعود على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن متبعي التوراة يجدونه فيها، فيؤمنون به، والضمير في { يكفر به } يحتمل من العود ما ذكر في الأول.
وقوله تعالى: { يابنى إسرءيل... } الآية: تقدم بيان نظيرها، ومعنى: { ولا تنفعها شفعة }: أنه ليست ثم، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحد، فيرد، وأما الشفاعة التي هي في تعجيل الحساب، فليست بنافعة لهؤلاء الكفرة.
* ت *: ولم ينبه - رحمه الله - على هذا في التي تقدمت أول السورة، و { ابتلى } معناه: اختبر، وفي «مختصر الطبري»: { ابتلى } ، أي: اختبر، والاختبار من الله عز وجل لعباده على علم منه سبحانه بباطن أمرهم وظاهره، وإنما يبتليهم ليظهر منهم سابق علمه فيهم، وقد روي ذلك عن علي - رضي الله عنه - في قوله عز وجل:
ولنبلونكم حتى نعلم المجهدين منكم والصبرين ونبلوا أخبركم
[محمد:31] فقال رضي الله عنه: إن الله عز وجل لم يزل عالما بأخبارهم وخبرهم وما هم عليه، وإن قوله: { ولنبلونكم حتى نعلم } ، أي: حتى نسوقكم إلى سابق علمي فيكم. انتهى، وهو كلام حسن.
وقد نبه * ع *: على هذا المعنى فيما يأتي، والعقيدة أن علمه سبحانه قديم، علم كل شيء قبل كونه، فجرى على قدره لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه، وسبق علمه به سبحانه لا إله إلا هو.
و { إبراهيم }: يقال: إن تفسيره بالعربية أب رحيم، واختلف أهل التأويل في «الكلمات»، فقال ابن عباس: هي ثلاثون سهما هي الإسلام كله، لم يتمه أحد كاملا إلا إبراهيم - عليه السلام - منها في «براءة»:
التئبون العبدون...
الآية [التوبة:112]، وعشرة في «الأحزاب»:
إن المسلمين والمسلمت...
[الأحزاب:35]، وعشرة في
سأل سائل
[المعارج:1].
* ت *: وقيل غير هذا.
وفي «البخاري»: أنه اختتن، وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم، قال الراوي: فأوحى الله إليه { إني جعلك للناس إماما } والإمام القدوة.
وإنما سميت هذه الخصال كلمات؛ لأنها اقترنت بها أوامر هي كلمات، وروي أن إبراهيم، لما أتم هذه الكلمات أو أتمها الله عليه، كتب الله له البراءة من النار، فذلك قوله تعالى:
وإبرهيم الذي وفى
[النجم:37]. وقول إبراهيم عليه السلام: { ومن ذريتي } هو على جهة الرغباء إلى الله، أي: ومن ذريتي، يا رب، فاجعل.
وقوله تعالى: { قال لا ينال عهدي الظلمين } ، أي: قال الله، والعهد فيما قال مجاهد: الإمامة.
[2.125-126]
وقوله تعالى: { وإذ جعلنا البيت } ، أي: الكعبة { مثابة } ، يحتمل من ثاب إذا رجع، ويحتمل أن تكون من الثواب، أي: يثابون هناك، «وأمنا» للناس والطير والوحوش؛ إذ جعل الله لها حرمة في النفوس؛ بحيث يلقى الرجل بها قاتل أبيه، فلا يهيجه، وقرأ جمهور الناس: «واتخذوا»، بكسر الخاء؛ على جهة الأمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ نافع، وابن عامر، «واتخذوا» بفتح الخاء؛ على جهة الخبر عن من اتخذه من متبعي إبراهيم - عليه السلام - ومقام إبراهيم في قول ابن عباس، وقتادة، وغيرهما، وخرجه البخاري هو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه، و { مصلى }: موضع صلاة.
* ص *: { من مقام }: من تبعيضية على الأظهر، أو بمعنى: «في» أو زائدة؛ على مذهب الأخفش، والمقام: مفعل من القيام، والمراد به هنا المكان، انتهى، يعني: المكان الذي فيه الحجر المسمى بالمقام.
وقوله تعالى: { وعهدنا }: العهد؛ في اللغة: على أقسام، هذا منها، الوصية بمعنى الأمر، و { طهرا }: قيل: معناه: ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، وقال مجاهد: هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان، و { للطائفين } ظاهره: أهل الطواف، وقاله عطاء وغيره، وقال ابن جبير: معناه: للغرباء الطارئين على مكة، { والعكفين }: قال ابن جبير: هم أهل البلد المقيمون، وقال عطاء: هم المجاورون بمكة، وقال ابن عباس: المصلون، وقال غيره؛ المعتكفون، والعكوف؛ في اللغة: الملازمة.
وقوله تعالى: { وإذ قال إبرهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا } ، أي: من الجبابرة والعدو المستأصل، وروي أن الله تعالى، لما دعاه إبراهيم، أمر جبريل، فاقتلع فلسطين، وقيل: بقعة من الأردن، فطاف بها حول البيت سبعا، وأنزلها بوج، فسميت الطائف؛ بسبب الطواف.
وقوله تعالى: { قال ومن كفر فأمتعه قليلا... } الآية: قال أبي بن كعب، وابن إسحاق، وغيرهما: هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم، وقال ابن عباس، وغيره: هذا القول من إبراهيم.
قال: * ع *: فكأن إبراهيم دعا للمؤمنين، وعلى الكافرين، وفي «مختصر الطبري»: وقرأ بعضهم، «فأمتعه»؛ بالجزم، والقطع على الدعاء، ورآه دعاء من إبراهيم، وروي ذلك عن أبي العالية، كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، سأل ربه أن من كفر به، فأمتعه قليلا يقول: فارزقه قليلا، ثم اضطره إلى عذاب النار، أي: ألجئه. انتهى، وعلى هذه القراءة يجيء قول ابن عباس، لا على قراءة الجمهور، و { قليلا }: معناه: مدة العمر؛ لأن متاع الدنيا قليل.
[2.127-129]
وقوله تعالى: { وإذ يرفع إبرهيم القواعد من البيت... } الآية: القواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس.
* ص *: القواعد، قال الكسائي والفراء: هي الجدر، وقال أبو عبيدة: هي الأساس. انتهى.
واختلفوا في قصص البيت، فقيل: إن آدم أمر ببنائه، ثم دثر، ودرس حتى دل عليه إبراهيم، فرفع قواعده، وقيل: إن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر الله، وقيل غير هذا.
* ع *: والذي يصح من هذا كله أن الله سبحانه أمر إبراهيم برفع قواعد البيت، وجائز قدمه، وجائز أن يكون ذلك ابتداء، ولا يرجح شيء من ذلك إلا بسند يقطع العذر.
{ وإسمعيل }: عطف على { إبراهيم } ، والتقدير: يقولان: { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } ، أي: السميع لدعائنا، العليم بنياتنا، وخصا هاتين الصفتين؛ لتناسبهما مع حالهما، وقولهما: { اجعلنا } بمعنى: صيرنا مسلمين، وكذلك كانا، وإنما أرادا التثبيت والدوام، والإسلام في هذا الموضع. الإيمان والأعمال جميعا، «ومن» في قوله: { ومن ذريتنا } للتبعيض؛ لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين، والأمة: الجماعة، { وأرنا } قالت طائفة: من رؤية البصر، وقالت طائفة: من رؤية القلب، وهذا لا يصح، قال قتادة: المناسك معالم الحج، واختلف في معنى طلبهم التوبة، وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، وقيل: أرادا من بعدهما من الذرية، وقيل، وهو الأحسن؛ إنهما لما عرفا المناسك، وبنيا البيت، أرادا أن يسنا للناس؛ أن تلك المواطن مكان التنصل من الذنوب، وطلب التوبة.
وقال الطبري: إنه ليس أحد من خلق الله إلا بينه وبين الله معان يحب أن تكون أحسن مما هي، وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" إني لأتوب في اليوم وأستغفر الله سبعين مرة "
، إنما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها؛ لتزيد علومه ، وإطلاعه على أمر ربه، فهو يتوب من منزلة إلى أعلى، والتوبة هنا لغوية، وقوله: { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم.. } الآية: هذا هو الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
" أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى "
، ومعنى { منهم } ، أي: يعرفوه، ويتحققوا فضله، ويشفق عليهم، ويحرص.
* ت *: وقد تواترت أخبار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته في الكتب السالفة، وعلم بذلك الأحبار، وأخبروا به، وبتعيين الزمن الذي يبعث فيه.
وقد روى البيهقي أحمد بن الحسين وغيره عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - قال: «حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعة، يقول: سلوا أهل هذا الموسم، أفيهم من هو من هذا الحرم؟ قال: قلت: أنا، فما تشاء؟ قال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: أحمد بن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو خاتم الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وسباخ، إذا كان، فلا تسبقن إليه، فوضع في قلبي ما قال، وأسرعت اللحاق بمكة، فسألت، هل ظهر بعدي أمر؟ فقالوا: محمد الأمي قد تنبأ، وتبعه أبو بكر بن أبي قحافة، فمشيت إلى أبي بكر، وأدخلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت»، وقد روى العذري وغيره عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: «لقيت شيخا باليمن، فقال لي: أنت حرمي، فقلت: نعم، فقال: وأحسبك قرشيا، قلت: نعم، قال: بقيت لي فيك واحدة، اكشف لي عن بطنك، قلت: لا أفعل، أو تخبرني لم ذلك، قال: أجد في العلم الصحيح أن نبيا يبعث في الحرمين يقارنه على أمره فتى وكهل، أما الفتى، فخواض غمرات، ودفاع معضلات، وأما الكهل، فأبيض نحيف على بطنه شامة، وعلى فخذه اليسرى علامة، وما عليك أن تريني ما سألتك عنه، فقد تكاملت فيك الصفة، إلا ما خفي علي؟ قال أبو بكر: فكشفت له عن بطني، فرأى شامة سوداء فوق سرتي، فقال: أنت هو ورب الكعبة، إني متقدم إليك في أمر، قلت: ما هو؟ قال: إياك، والميل عن الهدى ، وعليك بالتمسك بالطريقة الوسطى، وخف الله فيما خولك، وأعطى، قال أبو بكر: فلما ودعته، قال: أتحمل عني إلى ذلك النبي أبياتا، قلت: نعم، فأنشأ الشيخ يقول: [الطويل]
ألم تر أني قد سئمت معاشري
ونفسي وقد أصبحت في الحي عاهنا
حييت وفي الأيام للمرء عبرة
ثلاث مئين بعد تسعين آمنا
وقد خمدت مني شرارة قوتي
وألفيت شيخا لا أطيق الشواحنا
وأنت ورب البيت تأتي محمدا
لعامك هذا قد أقام البراهنا
فحي رسول الله عني فإنني
على دينه أحيا وإن كنت قاطنا
قال أبو بكر: فحفظت شعره، وقدمت مكة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءني صناديد قريش، وقالوا: يا أبا بكر، يتيم أبي طالب، يزعم أنه نبي، قال: فجئت إلى منزل النبي صلى الله عليه وسلم فقرعت عليه، فخرج إلي، فقلت: يا محمد، فقدت من منازل قومك، وتركت دين آبائك؟ فقال: يا أبا بكر، إني رسول الله إليك، وإلى الناس كلهم، فآمن بالله، فقلت؛ وما دليلك؟ قال: الشيخ الراهب الذي لقيته باليمن، قلت: وكم من شيخ لقيت! قال: ليس ذلك أريد، إنما أريد الشيخ الذي أفادك الأبيات، قلت: ومن أخبرك بها؟ قال: الروح الأمين الذي كان يأتي الأنبياء قبلي، قلت: مد يمينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال أبو بكر: فانصرفت وما بين لابتيها أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا بإسلامي».
انتهى من تأليف ابن القطان في «الآيات والمعجزات».
و { يتلوا عليهم آيتك } ، أي: آيات القرآن، و { الكتب }: القرآن، قال قتادة: { والحكمة } السنة، وروى ابن وهب عن مالك؛ أن { الحكمة }: الفقه في الدين، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى.
* ت *: ونقل عياض في «مداركه» عن مالك؛ أن { الحكمة } نور يقذفه الله في قلب العبد، وقال أيضا: يقع في قلبي؛ أن { الحكمة } الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله، وقال أيضا: { الحكمة } التفكر في أمر الله، والاتباع له، والفقه في الدين، والعمل به. انتهى.
وقد أشار * ع *: إلى هذا عند قوله تعالى:
يؤتي الحكمة من يشآء
[البقرة:269].
* ت *: والظاهر أن المراد ب { الحكمة } هنا: ما قاله قتادة، فتأمله.
{ ويزكيهم }: معناه يطهرهم، وينميهم بالخير، و { العزيز }: الذي يغلب، ويتم مراده، و { الحكيم }: المصيب مواقع الفعل، المحكم لها.
[2.130-133]
وقوله تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبرهيم.. } الآية " «من»: استفهام، والمعنى: ومن يزهد فيها، ويربأ بنفسه عنها إلا من سفه نفسه، والملة: الشريعة والطريقة، وسفه من السفه الذي معناه الرقة والخفة، واصطفى من الصفوة، معناه: تخير الأصفى، ومعنى هذا الاصطفاء؛ أنه نبأه، واتخذه خليلا.
{ وإنه فى الأخرة لمن الصلحين }: قيل: المعنى أنه في عمل الآخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضاف، { إذ قال له ربه أسلم } كان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس؛ والإسلام هنا على أتم وجوهه، والضمير في «بها» عائد على كلمته التي هي { أسلمت لرب العلمين } ، وقيل: على الملة، والأول أصوب؛ لأنه أقرب مذكور.
{ ويعقوب }: قيل: عطف على { إبراهيم } ، وقيل: مقطوع منفرد بقوله: { يا بني } ، والتقدير: ويعقوب قال: يا بني.
و { اصطفى } هنا: معناه: تخير صفوة الأديان.
وقوله: { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }: إيجاز بليغ، وذلك أن المقصود من أمرهم بالإسلام الدوام عليه، فأتى بلفظ موجز يقتضي المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت، ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه من وقت الأمر دائبا لازما.
وقوله تعالى: { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء - صلوات الله عليهم - ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية، فرد الله عليهم وكذبهم، وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية الإسلام، وقال لهم على جهة التقرير والتوبيخ: أشهدتم يعقوب بما أوصى، فتدعون عن علم أم لم تشهدوا، بل أنتم تفترون، «وأم»: للاستفهام في صدر الكلام، لغة يمانية، وحكى الطبري أن «أم» يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه، و { شهداء }: جمع شاهد، أي: حاضر، ومعنى الآية؛ حضر يعقوب مقدمات الموت.
و { من بعدي } ، أي: من بعد موتي، ودخل إسماعيل في الآباء لأنه عم.
" وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على العباس اسم الأب، فقال: «هذا بقية آبائي»، وقال: «ردوا علي أبي» "
الحديث، وقال:
" أنا ابن الذبيحين "
، على القول الشهير في أن إسحاق هو الذبيح.
* ت *: وفي تشهيره نظر، بل الراجح أنه إسماعيل على ما هو معلوم في موضعه، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
[2.134-138]
وقوله تعالى: { تلك أمة قد خلت... } الآية، يعني بالأمة الأنبياء المذكورين، والمخاطب في هذه الآية اليهود والنصارى، وقولهم: { كونوا هودا أو نصرى تهتدوا } نظير قولهم:
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى
[البقرة:111]، والحنيف في الدين: الذي مال عن الأديان المكروهة إلى الحق، ويجيء الحنيف في الدين بمعنى المستقيم على جميع طاعات الله.
قوله تعالى: { قولوا ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبرهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم... } الآية: هذا الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، { وما أنزل إلينا }: يعني القرآن، و { الأسباط } هم ولد يعقوب، وهم: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وريالون، ويشحر، ودنية بنته، وأمهم ليا، ثم خلف على أختها راحيل، فولدت له يوسف، وبن يامين، وولد له من سريتين: ذان، وتفثالا، وجاد، واشر.
والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، فسموا الأسباط؛ لأنه كان من كل واحد منهم سبط.
و { لا نفرق بين أحد منهم } ، أي: لا نؤمن ببعض، ونكفر ببعض؛ كما تفعلون، { فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم به } ، أي: فإن صدقوا تصديقا مثل تصديقكم، { فقد اهتدوا، وإن تولوا } ، أي: أعرضوا، يعني: اليهود والنصارى، { فإنما هم فى شقاق } ، أي: في مشاقة ومخالفة لك، هم في شق، وأنت في شق، وقيل: شاق معناه: شق كل واحد وصل ما بينه وبين صاحبه، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم، ويغلبه عليهم، فكان ذلك في قتل بني قينقاع، وبني قريظة، وإجلاء النضير.
وهذا الوعد وانتجازه من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
و { السميع } لقول كل قائل، و { العليم } بما ينفذه في عباده، و { صبغة الله }: شريعته ودينه وسنته، وفطرته، قال كثير من المفسرين: وذلك أن النصارى لهم ماء يصبغون فيه أولادهم، فهذا ينظر إلى ذلك، وقيل: سمي الدين صبغة؛ استعارة من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين؛ كما يظهر الصبغ في الثوب وغيره، ونصب الصبغة على الإغراء.
[2.139-141]
وقوله تعالى: { قل أتحاجوننا فى الله... } الآية: معنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى: أتحاجوننا في الله، أي: أتجادلوننا في دينه، والقرب منه، والحظوة لديه سبحانه، والرب واحد، وكل مجازى بعمله، ثم وبخهم بقوله: { ونحن له مخلصون } ، أي: ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم.
وقوله تعالى: { أم تقولون } عطف على ألف الاستفهام المتقدمة، وهذه القراءة بالتاء من فوق قراءة ابن عامر، وحمزة، وغيرهما، وقرأ نافع وغيره بالياء من أسفل، «وأم» على هذه القراءة مقطوعة، ووقفهم تعالى على موضع الانقطاع في الحجة؛ لأنهم إن قالوا: إن الأنبياء المذكورين على اليهودية والنصرانية، كذبوا؛ لأنه قد علم أن هذين الدينين حدثا بعدهم، وإن قالوا: لم يكونوا على اليهودية والنصرانية، قيل لهم: فهلموا إلى دينهم؛ إذ تقرون بالحق.
وقوله تعالى: { قل ءأنتم أعلم أم الله } تقرير على فساد دعواهم؛ إذ لا جواب لمفطور إلا أن الله تعالى أعلم، { ومن أظلم ممن كتم شهدة } ، أي: لا أحد أظلم منه، وإياهم أراد تعالى بكتمان الشهادة، قال مجاهد وغيره: فالذي كتموه هو ما في كتبهم من أن الأنبياء على الحنيفية، لا على ما ادعوه، وقال قتادة وغيره: هو ما عندهم من الأمر بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم والأول أشبه بسياق الآية، «ومن» متعلقة ب «عنده»، ويحتمل أن تتعلق ب «كتم».
{ وما الله بغفل.. } الآية: فيه وعيد وإعلام؛ أنه لا يترك أمرهم سدى، والغافل: الذي لا يفطن للأمور إهمالا منه، مأخوذ من الأرض الغفل، وهي التي لا معلم بها.
وقوله تعالى؛ { تلك أمة } الآية: كررها عن قرب؛ لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، ولترداد ذكرهم أيضا في معنى غير الأول.
[2.142-143]
قوله تعالى: { سيقول السفهاء من الناس... } الآية: اختلف في تعيين هؤلاء السفهاء، فقال ابن عباس: هم الأحبار، وذلك أنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتنا، ارجع إليها، نتبعك ونؤمن بك، يريدون فتنته، وقيل: اليهود والمنافقون، وقالت فرقة: هم كفار قريش.
و { ولهم }: معناه: صرفهم، و { يهدي من يشآء }: إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم، { وكذلك جعلنكم } ، أي؛ كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته، و { جعلناكم أمة وسطا } ، أي: عدولا؛ روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وتظاهرت به عبارات المفسرين، والوسط: الخيار والأعلى من الشيء، وواسطة القلادة أنفس حجر فيها؛ ومنه قوله تعالى:
قال أوسطهم
[القلم:28].
و { شهداء }: جمع شاهد، والمراد بالناس هنا في قول جماعة: جميع الجنس، وأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ، وروي في هذا المعنى حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه؛ أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه.
* ت *: وهذا الحديث خرجه البخاري، وابن ماجة، وابن المبارك في «رقائقه» وغيرهم؛ قائلا صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى: { وكذلك جعلنكم أمة وسطا... } الآية.
وكون الرسول شهيدا، قيل: معناه: بأعمالكم يوم القيامة، وقيل: «عليكم» بمعنى «لكم»، أي: يشهد لكم بالإيمان.
وقوله تعالى: { وما جعلنا القبلة... } الآية: قال قتادة وغيره: القبلة هنا بيت المقدس، أي: إلا فتنة لنعلم من يتبعك من العرب الذين لم يألفوا إلا مسجد مكة أو من اليهود على ما قاله الضحاك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن صليت إلى بيت المقدس، اتبعناك»، فأمره الله بالصلاة إليه، امتحانا لهم، فلم يؤمنوا.
وقال ابن عباس: القبلة في الآية: الكعبة، و { كنت عليها } بمعنى: أنت عليها؛ كقوله تعالى:
كنتم خير أمة
[آل عمران:110]، بمعنى: أنتم.
وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة، وروي في ذلك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حول إلى الكعبة، أكثر في ذلك اليهود والمنافقون، وارتاب بعض المؤمنين؛ حتى نزلت الآية، ومعنى: { لنعلم } ، أي؛ ليعلم رسولي والمؤمنون به، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن، و { ينقلب على عقبيه } عبارة عن المرتد، والرجوع على العقب أسوأ حالات الراجع.
وقوله تعالى: { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله... } الآية: الضمير في «كانت» راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس، أو إلى التحويلة إلى الكعبة، حسبما تقدم من الخلاف في القبلة، «وكبيرة» هنا معناه: شاقة صعبة، تكبر في الصدور، ولما حولت القبلة، كان من قول اليهود: يا محمد، إن كانت الأولى حقا، فأنت الآن على باطل، وإن كانت هذه حقا، فكنت في الأولى على ضلال، فوجمت نفوس بعض المؤمنين، وأشفقوا على من مات قبل التحويل من صلاتهم السالفة، فنزلت: { وما كان الله ليضيع إيمنكم } ، أي: صلاتكم، قاله ابن عباس وغيره، وسمى الصلاة إيمانا لما كانت صادرة عن الإيمان؛ ولأن الإيمان هو القطب الذي عليه تدور الأعمال، فذكره إذ هو الأصل، ولئلا يندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس، فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر، وأيضا سميت إيمانا؛ إذ هي من شعب الإيمان.
* ت *: وفي العتبية من سماع ابن القاسم، قال مالك: قال الله تبارك وتعالى: { وما كان الله ليضيع إيمنكم } قال: هي صلاة المؤمنين إلى بيت المقدس، قال ابن رشد؛ وعلى هذا القول أكثر أهل التفسير، وقد قيل: إن المعنى في ذلك، وما كان الله ليضيع إيمانكم بفرض الصلاة عليكم إلى بيت المقدس. انتهى من «البيان».
والرأفة: أعلى منازل الرحمة.
[2.144-145]
وقوله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء... } الآية: المقصد تقلب البصر، وأيضا: فالوجه يتقلب بتقلب البصر، قال قتادة وغيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى؛ أن يحوله إلى قبلة مكة، ومعنى التقلب نحو السماء: أن السماء جهة قد تعود العالم منها الرحمة؛ كالمطر، والأنوار، والوحي، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم.
قال: * ص *: { فلنولينك }: يدل على تقدير حال، أي: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها، فلنولينك. انتهى.
و { ترضاها }: معناه: تحبها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكعبة والتحول عن بيت المقدس؛ لوجوه ثلاثة رويت:
أحدها: لقول اليهود: «ما علم محمد دينه؛ حتى اتبعنا»؛ قاله مجاهد.
الثاني: ليصيب قبلة إبراهيم - عليه السلام - قاله ابن عباس.
الثالث: ليستألف العرب؛ لمحبتها في الكعبة، قاله الربيع والسدي.
* ع *: والميزاب هو قبلة المدينة والشام، وهنالك قبلة أهل الأندلس بتأريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق.
وقوله تعالى: { فول وجهك... } الآية: أمر بالتحول، ونسخ لقبلة الشام، و { شطر }: نصب على الظرف، ومعناه: نحو، وتلقاء، { وحيث ما كنتم فولوا }: أمر للأمة ناسخ.
{ وإن الذين أوتوا الكتب... } الآية: المعنى: أن اليهود والنصارى يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم أمام الأمم، وأن استقبالها هو الحق الواجب على الجميع اتباعا لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتبهم، وتضمنت الآية الوعيد.
وقوله جلت قدرته: { ولئن أتيت... } الآية: أعلم الله تعالى نبيه - عليه السلام - حين قالت له اليهود: راجع بيت المقدس، ونؤمن بك؛ أن ذلك مخادعة منهم، وأنهم لا يتبعون له قبلة، يعني: جملتهم؛ لأن البعض قد اتبع، كعبد الله بن سلام وغيره، وأنهم لا يؤمنون بدينه، أي: فلا تصغ إليهم، والآية هنا العلامة.
وقوله جلت عظمته: { وما أنت بتابع قبلتهم... } لفظ خبر يتضمن الأمر، أي: فلا تركن إلى شيء من ذلك، { وما بعضهم... } الآية، قال ابن زيد وغيره: المعنى ليست اليهود متبعة قبلة النصارى، ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، فهذا إعلام باختلافهم، وتدابرهم، وضلالهم، وقبلة النصارى مشرق الشمس، وقبلة اليهود بيت المقدس.
وقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم... } الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وما ورد من هذا النوع الذي يوهم من النبي صلى الله عليه وسلم ظلما متوقعا، فهو محمول على إرادة أمته؛ لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقطعا أن ذلك لا يكون منه، وإنما المراد من يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما للأمر، قال الفخر: ودلت هذه الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم؛ لأن قوله: { من بعد ما جاءك من العلم } يدل على ذلك. انتهى، وهو حسن.
* ص *: { ولئن أتيت }: لام «لئن» مؤذنة بقسم مقدر قبلها، ولهذا كان الجواب: له { ما تبعوا } ، ولو كان للشرط، لدخلت الفاء، وجواب الشرط محذوف؛ لدلالة جواب القسم عليه، ومن ثم جاء فعل الشرط ماضيا، لأنه إذا حذف جوابه، وجب فعله لفظا. انتهى.
[2.146-147]
وقوله تعالى: { الذين آتينهم الكتب يعرفونه... } الآية: الضمير في يعرفونه عائد على الحق في القبلة، والتحول إلى الكعبة، قال ابن عباس وغيره، وقال مجاهد وغيره: هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، أي: يعرفون صدقه ونبوته.
* ت *: بل وصفاته.
{ وإن فريقا منهم ليكتمون الحق }: الفريق: الجماعة، وخص، [لأن] منهم من أسلم ولم يكتم والإشارة بالحق إلى ما تقدم على الخلاف في ضمير { يعرفونه } { وهم يعلمون } ظاهر في صحة الكفر عنادا.
وقوله تعالى: { الحق من ربك } ، أي: هو الحق، { فلا تكونن من الممترين }: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وامترى في الشيء، إذا شك فيه؛ ومنه: المراء، لأن هذا يشك في قول هذا.
[2.148-151]
وقوله تعالى: { ولكل وجهة }: الوجهة: من المواجهة؛ كالقبلة، والمعنى: ولكل صاحب ملة وجهة هو موليها نفسه، قاله ابن عباس وغيره.
وقرأ ابن عامر: «هو مولاها»، أي: الله موليها إياهم، ثم أمر تعالى عباده باستباق الخيرات، والبدار، إلى سبيل النجاة، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من فتح له باب من الخير فلينتهزه، فإنه لا يدري، متى يغلق عنه "
انتهى.
ثم وعظهم سبحانه بذكر الحشر موعظة تتضمن وعيدا وتحذيرا.
* ص *: «أينما» ظرف مضمن معنى الشرط في موضع خبر «كان». انتهى.
وقوله: { يأت بكم الله جميعا } يعني به البعث من القبور.
وقوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغفل عما تعملون } معناه: حيث كنت، وأنى توجهت من مشارق الأرض، ومغاربها، وكررت هذه الآية؛ تأكيدا من الله سبحانه؛ لأن موقع التحويل كان صعبا في نفوسهم جدا، فأكد الأمر؛ ليرى الناس التهمم به، فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه.
وقوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة... } الآية: المعنى: عرفتكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لذلك؛ لئلا يكون للناس عليكم حجة، والمراد ب «الناس» العموم في اليهود والعرب وغيرهم { إلا الذين ظلموا منهم } ، أي: من المذكورين ممن تكلم في النازلة في قولهم:
ما ولهم عن قبلتهم
[البقرة:142].
وقوله تعالى: { فلا تخشوهم واخشوني... } الآية: [فيه] تحقير لشأنهم، وأمر باطراح أمرهم، ومراعاة أمره سبحانه، قال الفخر: وهذه الآية تدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه؛ أن ينصب بين عينيه خشية ربه تعالى، وأن يعلم أنه ليس في أيدي الخلق شيء البتة وألا يكون مشتغل القلب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم. انتهى.
قال: * ص *: { إلا الذين } استثناء متصل، قاله ابن عباس وغيره، أي: لئلا تكون حجة من اليهود المعاندين القائلين ما ترك قبلتنا، وتوجه للكعبة إلا حبا لبلده، وقيل: منقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم؛ فإنهم يتعلقون عليكم بالشبه، وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى: إن «إلا» في الآية بمعنى «الواو»، قال ومنه: [الوافر]:
وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي: والذين ظلموا، والفرقدان، ورد بأن «إلا» بمعنى الواو ولا يقوم عليه دليل. انتهى.
وقوله تعالى: { فولوا وجوهكم شطره } أمر باستقبال القبلة، وهو شرط في الفرض إلا في القتال حالة الالتحام، وفي النوافل إلا في السفر الطويل للراكب، والقدرة على اليقين في مصادفتها تمنع من الاجتهاد، وعلى الاجتهاد تمنع من التقليد.
وقوله سبحانه: { ولأتم نعمتي عليكم } عطف على قوله: «لئلا» وقيل: هو في موضع رفع بالابتداء، والخبر مضمر، تقديره: ولأتم نعمتي عليكم، عرفتكم قبلتي، ونحوه، { ولعلكم تهتدون } ترج في حق البشر، والكاف في قوله: «كما» رد على قوله: «ولأتم»، أي: إتماما كما، وهذا أحسن الأقوال، أي: لأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام؛ { كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم } إجابة لدعوته في قوله:
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم
[البقرة:129].
وقيل: الكاف من «كما» رد على «تهتدون»، أي: اهتداء كما.
قال الفخر: وهنا تأويل ثالث، وهو أن الكاف متعلقة بما بعدها، أي: كما أرسلنا فيكم رسولا، وأوليتكم هذه النعم، { فاذكرونى أذكركم واشكروا لي.. } الآية: انتهى.
* ت *: وهذا التأويل نقله الداوودي عن الفراء. انتهى، وهذه الآية خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم و { ءايتنا } يعني: القرآن، و { يزكيكم } ، أي: يطهركم من الكفر، وينميكم بالطاعة، و { الكتب }: القرآن، و { الحكمة }: ما يتلقى عنه صلى الله عليه وسلم من سنة، وفقه، ودين، وما لم تكونوا تعلمون قصص من سلف، وقصص ما يأتي من الغيوب.
[2.152-153]
قوله تعالى: { فاذكرونى أذكركم... } الآية: قال سعيد بن جبير: معنى الآية: اذكروني بالطاعة، أذكركم بالثواب.
* ت *: وفي تفسير أحمد بن نصر الداوودي: وعن ابن جبير: اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من أطاع الله، فقد ذكر الله، وإن قلت صلاته، وصيامه، وتلاوته القرآن، ومن عصى الله، فقد نسي الله، وإن كثرت صلاته، وصيامه، وتلاوته القرآن "
انتهى.
وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن أنس بن مالك، قال:
" ما من بقعة يذكر الله عليها بصلاة أو بذكر إلا افتخرت على ما حولها من البقاع، واستبشرت بذكر الله إلى منتهاها من سبع أرضين، وما من عبد يقوم يصلي إلا تزخرفت له الأرض "
قال ابن المبارك: وأخبرنا المسعودي عن عون بن عبد الله، قال: الذاكر في الغافلين؛ كالمقاتل خلف الفارين. انتهى.
وقال الربيع والسدي: المعنى: اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحوه، وفي صحيح البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله تبارك وتعالى: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منهم...» "
الحديث. انتهى.
{ واشكروا لي } ، أي: نعمي وأيادي، { ولا تكفرون }: أي: نعمي وأيادي.
* ت *: وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما أنعم الله على عبد من نعمة، فقال: الحمد لله إلا وقد أدى شكرها، فإن قالها الثانية، جدد الله لها ثوابها، فإن قالها الثالثة، غفر الله له ذنوبه "
رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح. انتهى من «السلاح».
وقوله تعالى: { إن الله مع الصبرين } ، أي: بمعونته وإنجاده.
[2.154-157]
وقوله تعالى: { ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات... } الآية: سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأحد من المؤمنين: مات فلان، مات فلان، فكره الله سبحانه؛ أن تحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم، فنزلت هذه الآية، وأيضا: فإن المؤمنين صعب عليهم فراق إخوانهم وقراباتهم، فنزلت الآية مسلية لهم، تعظم منزلة الشهداء، وتخبر عن حقيقة حالهم، فصاروا مغبوطين لا محزونا لهم؛ ويظهر ذلك من حديث أم حارثة في السير.
* ت *: وخرجه البخاري في «صحيحه» عن أنس، قال:
" أصيب حارثة يوم بدر أصابه غرب سهم، وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر، وأحتسب، وإن تكن الأخرى، ترى ما أصنع، فقال: ويحك، أو هبلت، أو جنة واحدة هي؛ إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس الأعلى... "
الحديث. انتهى.
* ع: والفرق بين الشهيد وغيره إنما هو الرزق، وذلك أن الله تعالى فضلهم بدوام حالهم التي كانت في الدنيا فرزقهم.
* ت *: وللشهيد أحوال شريفة منها ما خرجه الترمذي وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" للشهيد عند الله ست خصال؛ يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا، وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه "
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، زاد ابن ماجة:
" ويحلى حلة الإيمان "
، قال القرطبي في «تذكرته»: هكذا وقع في نسخ الترمذي وابن ماجة: «ست خصال» وهي في متن الحديث سبع، وعلى ما في ابن ماجة: «ويحلى حلة الإيمان» تكون ثمانيا، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" للشهيد عند الله ثمان خصال "
انتهى. وخرج الترمذي، والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة "
انتهى.
* ع *: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة "
، وروي:
" أنهم في قبة خضراء "
، وروي:
" أنهم في قناديل من ذهب "
، إلى كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوال لطوائف، أو للجميع في أوقات متغايرة.
* ت *: وكذا ذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب «الإفصاح» أن المنعمين على جهات مختلفة؛ بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم، قال صاحب «التذكرة»: وهذا قول حسن، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع.
انتهى.
قال: * ع *: وجمهور العلماء على أنهم في الجنة؛ ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حارثة: «إنه في الفردوس الأعلى».
وقال مجاهد: هم خارج الجنة ويعلقون من شجرها، وفي «مختصر الطبري»، قال: ونهى عز وجل أن يقال لمن يقتل في سبيل الله أموات، وأعلم سبحانه أنهم أحياء، ولكن لا شعور لنا بذلك؛ إذ لا نشاهد باطن أمرهم، وخصوا من بين سائر المؤمنين، بأنهم في البرزخ يرزقون من مطاعم الجنة ما يرزق المؤمنون من أهل الجنة على أنه قد ورد في الحديث:
" إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة "
، ومعنى: «يعلق»: يأكل؛ ومنه قوله: ما ذقت علاقا، أي: مأكلا، فقد عم المؤمنين؛ بأنهم يرزقون في البرزخ من رزق الجنة، ولكن لا يمتنع أن يخص الشهداء من ذلك بقدر لا يناله غيرهم، والله أعلم. انتهى.
وروى النسائي
" أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة "
انتهى.
* ت *: وحديث:
" إنما نسمة المؤمن طائر "
خرجه مالك رحمه الله. قال الداوودي: وحديث مالك، هذا أصح ما جاء في الأرواح، والذي روي أنها تجعل في حواصل طير لا يصح في النقل. انتهى.
قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد»: والأشبه قول من قال: كطير أو كصور طير؛ لموافقته لحديث «الموطإ»، هذا وأسند أبو عمر هذه الأحاديث، ولم يذكر مطعنا في إسنادها. انتهى.
ثم أعلمهم تعالى أن الدنيا دار بلاء ومحنة، ثم وعد على الصبر، فقال: { ولنبلونكم } أي: نمتحنكم { بشيء من الخوف } ، أي: من الأعداء في الحروب، { ونقص من الأموال } أي بالجوانح، والمصائب، { والأنفس } بالموت، والقتل، { والثمرت } بالعاهات، والمراد بشيء من هذا وشيء من هذا، واكتفى بالأول إيجازا، ثم وصف سبحانه الصابرين الذين بشرهم بقوله: { الذين إذا أصبتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه رجعون } ، فجعل سبحانه هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب؛ لما جمعت من المعاني المباركة من توحيد الله سبحانه، والإقرار له بالعبودية، والبعث من القبور، واليقين بأن رجوع الأمر كله إليه؛ كما هو له، قال الفخر: قال أبو بكر الوراق: { إنا لله }: إقرار منا له بالملك، { وإنا إليه رجعون } إقرار على أنفسنا بالهلاك.
واعلم أن قوله: { إنا لله } يدل على كونه راضيا بكل ما نزل به، ووردت أخبار كثيرة في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه.
انتهى.
وروي:
" أن مصباح رسول الله صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة، فقال: { إنا لله وإنا إليه رجعون } ، فقيل: أمصيبة هي، يا رسول الله؟ قال: نعم؛ كل ما آذى المؤمن، فهو مصيبة "
قال النووي: وروينا في «كتاب ابن السني» عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ليسترجع أحدكم في كل شيء، حتى في شسع نعله؛ فإنها من المصائب "
انتهى من «الحلية».
وقوله تعالى: { أولئك عليهم صلوت من ربهم... } الآية: نعم من الله تعالى على الصابرين المسترجعين، وصلوات الله على عبده: عفوه، ورحمته، وبركته، وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة، وكرر الرحمة، وهي من أعظم أجزاء الصلاة، لما اختلف اللفظ؛ تأكيدا منه تعالى وشهد لهم بالاهتداء.
* ت *: وفي «صحيح البخاري»: وقال عمر: نعم العدلان، ونعم العلاوة الذين إذا أصابتهم مصيبة، قالوا: { إنا لله وإنا إليه رجعون... } إلى { المهتدون } ، قال النووي في «الحلية»: وروينا في سنن ابن ماجة، والبيهقي بإسناد حسن عن عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة "
، وروينا في كتاب الترمذي، والسنن الكبير للبيهقي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من عزى مصابا، فله مثل أجره "
إسناده ضعيف، وروينا في كتاب الترمذي أيضا عن أبي هريرة؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من عزى ثكلى، كسي برداء في الجنة "
قال الترمذي ليس إسناده بالقوي. انتهى.
[2.158]
قوله تعالى: { إن الصفا والمروة من شعائر الله }: الصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة العظيمة، والمروة واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، و { من شعائر الله } معناه: معالمه، ومواضع عبادته، وقال مجاهد: ذلك راجع إلى القول، أي: مما أشعركم الله بفضله: مأخوذ من شعرت، إذا تحسست.
و { حج }: معناه: قصد، وتكرر، و { اعتمر }: زار وتكرر مأخوذ من عمرت الموضع، والجناح: الإثم، والميل عن الحق والطاعة، ومن اللفظة الجناح؛ لأنه في شق؛ ومنه:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها
[الأنفال:61] و { يطوف }: أصله يتطوف، فقوله: { إن الصفا والمروة... } الآية: خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما، وقوله: { فلا جناح } ليس المقصود منه إباحة الطواف لمن شاءه؛ لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيم، وإنما المقصود رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب من أن الطواف بينهما فيه حرج، وإعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غير صواب، وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها: «أن ذلك في الأنصار».
ومذهب مالك والشافعي؛ أن السعي بينهما فرض لا يجزىء تاركه، إلا العودة، قال ابن العربي في «أحكامه» والدليل على ركنيته ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن الله كتب عليكم السعي، فاسعوا "
، صححه الدارقطني؛ ويعضده المعنى، فإنه شعار، أي: معلم لا يخلو عنه الحج والعمرة، فكان ركنا كالطواف. انتهى.
{ ومن تطوع }: أي: زاد برا بعد الواجب في جميع الأعمال، وقال بعضهم: معناه: من تطوع بحج أو عمرة بعد حجة الفريضة، ومعنى { شاكر } ، أي: يبذل الثواب والجزاء، { عليم }: بالنيات والأعمال لا يضيع معه لعامل عمل.
[2.159-160]
وقوله سبحانه: { إن الذين يكتمون مآ أنزلنا... } الآية: المراد ب «الذين»: أحبار اليهود، ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتتناول الآية بعد كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" من سئل عن علم، فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من النار ".
قال ابن العربي: وللآية تحقيق، وهو أن العالم إذا قصد الكتمان، عصى، وإذا لم يقصده، لم يلزمه التبليغ، إذا عرف أن معه غيره، وقد كان أبو بكر وعمر لا يحدثان بكل ما سمعا من النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الحاجة، وكان الزبير أقلهم حديثا، ثم قال ابن العربي: فأما من سئل، فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية، وأما إن لم يسأل، فلا يلزم التبليغ إلا في القرآن وحده، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة التبليغ بأنه قال:
" نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها "
انتهى من «أحكام القرآن».
و { البينت والهدى }: أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير، و { في الكتب } يراد به التوراة والإنجيل، ويدخل القرآن في عموم الآية.
واختلف في «اللاعنين».
فقال قتادة، والربيع: الملائكة والمؤمنون، وهذا ظاهر واضح، وقيل: الحشرات والبهائم، وقيل: جميع المخلوقات ما عدا الثقلين الجن والإنس، وهذان القولان لا يقتضيهما اللفظ، ولا يثبتان إلا بسند يقطع العذر، ثم استثنى الله سبحانه التائبين.
{ وأصلحوا } ، أي: في أعمالهم وأقوالهم.
{ وبينوا } ، أي: أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
[2.161-162]
وقوله تعالى: { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار... } الآية: هذه الآية محكمة في الذين وافوا على كفرهم، واختلف في معنى قوله: { والناس أجمعين }: والكفار لا يلعنون أنفسهم.
فقال قتادة، والربيع: المراد ب { الناس }: المؤمنون خاصة، وقال أبو العالية: معنى ذلك في الآخرة.
وقوله: { خلدين فيها } ، أي: في اللعنة، وقيل: في النار، وعاد الضمير عليها، وإن لم يجر لها ذكر؛ لثبوتها في المعنى.
{ ولا هم ينظرون } ، أي: لا يؤخرون عن العذاب، ويحتمل أن يكون من النظر؛ نحو قوله تعالى:
ولا ينظر إليهم يوم القيمة
[آل عمران:77] والأول أظهر؛ لأن النظر بالعين إنما يعدى ب «إلى» إلا شاذا في الشعر.
[2.163-164]
وقوله تعالى: { وإلهكم إله وحد... } الآية: إعلام بالوحدانية.
قال عطاء: لما نزلت هذه الآية بالمدينة، قال كفار قريش بمكة: ما الدليل على هذا، وما آيته، وعلامته؟ ونحوه عن ابن المسيب، فنزل عند ذلك قوله تعالى: { إن في خلق السموات والأرض... } الآية، أي: في اختراعها وإنشائها.
و { النهار }: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم:
" إنما هو بياض النهار، وسواد الليل "
، وهذا هو مقتضى الفقه في الأيمان ونحوها، وأما على ظاهر اللغة، وأخذه من السعة، فهو من الإسفار، وقال الزجاج في «كتاب الأنوار»: أول النهار ذرور الشمس، قال: وزعم النضر بن شميل؛ أن أول النهار ابتداء طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار.
قال: * ع *: وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكم.
{ والفلك }: السفن، ومفرده وجمعه بلفظ واحد.
{ وما أنزل الله من السماء من ماء } يعني به الأمطار، { وبث }: معناه: فرق، وبسط، و { دآبة }: تجمع الحيوان كله.
و { وتصريف الريح }: إرسالها عقيما، وملقحة وصرا ونصرا وهلاكا وجنوبا وشمالا وغير ذلك، والرياح: جمع ريح، وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة، مفردة مع العذاب، إلا في «يونس» في قوله سبحانه:
وجرين بهم بريح طيبة
[يونس:22] وهذا، أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديث:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت ريح ، يقول: اللهم، اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا "
، وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء، كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة تجيء من ههنا وههنا متقطعة، فلذلك يقال هي رياح، وهو معنى نشر، وأفردت مع الفلك؛ لأن ريح إجراء السفن، إنما هي واحدة متصلة، ثم وصفت بالطيب، فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، وهي لفظة من ذوات الواو، يقال: ريح، وأرواح، ولا يقال: «أرياح»، وإنما يقال: رياح من جهة الكسرة، وطلب تناسب الياء معها، وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فاستعمل «الأرياح» في شعره، ولحن في ذلك، وقال له أبو حاتم: إن الأرياح لا يجوز، فقال: أما تسمع قولهم: رياح، فقال أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، فقال: صدقت، ورجع. { والسحاب }: جمع سحابة، سمي بذلك؛ لأنه ينسحب، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر، فهذه آيات.
[2.165-167]
وقوله تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا... } الآية: الند: النظير، والمقاوم، قال مجاهد، وقتادة: المراد بالأنداد: الأوثان { كحب الله } ، أي: كحبكم لله، أو كحبهم حسبما قدر كل وجه منها فرقة، ومعنى: كحبهم، أي: يسوون بين محبة الله، ومحبة الأوثان، ثم أخبر أن المؤمنين أشد حبا لله، لإخلاصهم، وتيقنهم الحق.
وقوله تعالى: { ولو يرى الذين ظلموا } ، أي: ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب، وفزعهم منه، واستعظامهم له، لأقروا أن القوة لله، أو لعلمت أن القوة لله جميعا، فجواب «لو»: مضمر؛ على التقديرين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك، ولكن خوطب، والمراد أمته.
وقرأ حمزة وغيره بالياء، أي: ولو يرى في الدنيا الذين ظلموا حالهم في الآخرة، إذ يرون العذاب، لعلموا أن القوة لله.
و { الذين اتبعوا } بفتح التاء والباء: هم العبدة لغير الله الضالون المقلدون لرؤسائهم، أو للشياطين، وتبريهم هو بأن قالوا إنا لم نضل هؤلاء، بل كفروا بإرادتهم.
والسبب؛ في اللغة: الحبل الرابط الموصل، فيقال في كل ما يتمسك به فيصل بين شيئين، { وقال الذين اتبعوا } ، أي: الأتباع.
والكرة: العودة إلى حال قد كانت كذلك { يريهم الله أعملهم... } الآية: يحتمل أن يكون من رؤية البصر، ويحتمل رؤية القلب، أي: يريهم الله أعمالهم الفاسدة التي ارتكبوها.
وقال ابن مسعود: أعمالهم الصالحة التي تركوها، والحسرة: أعلى درجات الندامة، والهم بما فات، وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي انقطع، وذهبت قوته، وقيل: من حسر، إذا كشف.
[2.168-170]
وقوله تعالى: { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حللا طيبا... } الآية: الخطاب عام، و «ما» بمعنى «الذي»، «وحلالا»: حال من الضمير العائد على «ما»، و «طيبا»: نعت، ويصح أن يكون حالا من الضمير في «كلوا»، تقديره: مستطيبين، والطيب عند مالك: الحلال؛ فهو هنا تأكيد لاختلاف اللفظ، وهو عند الشافعي: المستلذ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر.
قال الفخر: الحلال هو المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه، وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد. انتهى.
و { خطوت }: جمع خطوة، والمعنى: النهي عن اتباع الشيطان، وسلوك سبله، وطرائقه.
قال ابن عباس: خطواته: أعماله، وقال غيره: آثاره.
* ع *: وكل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي، فهي خطوات الشيطان.
وعدو: يقع للمفرد والمثنى والجمع.
{ إنما يأمركم بالسوء والفحشآء... } الآية: «إنما» ههنا: للحصر، وأمر الشيطان: إما بقوله في زمن الكهنة، وإما بوسوسته.
و { السوء }: مصدر من: ساء يسوء، وهي المعاصي، وما تسوء عاقبته، { والفحشاء }: قيل: الزنا، وقيل: ما تفاحش ذكره، وأصل الفحش: قبح المنظر، ثم استعملت اللفظة فيما يستقبح، والشرع: هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة، فهو من الفحشاء.
و { ما لا تعلمون }: قال الطبري: يريد: ما حرموا من البحيرة، والسائبة، ونحوها، وجعلوه شرعا.
{ وإذا قيل لهم } ، يعني: كفار العرب، وقال ابن عباس: نزلت في اليهود، والألف في قوله سبحانه: { أولو كان }: للاستفهام؛ لأن غاية الفساد في الالتزام؛ أن يقولوا: نتبع آباءنا، ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا؛ إذ هذه حال آبائهم.
وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد.
[2.171]
{ ومثل الذين كفروا... } الآية: المراد تشبيه واعظ الكافرين، وداعيهم بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل، فلا تسمع إلا دعاءه، ونداءه، ولا تفقه ما يقول؛ هكذا فسر ابن عباس، وعكرمة، والسدي، وسيبويه، فذكر تعالى بعض هذه الجملة، وبعض هذه، ودل المذكور على المحذوف، وهذه نهاية الإيجاز.
والنعيق: زجر الغنم، والصياح بها.
[2.172-173]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقنكم... } الآية: الطيب: هنا يجمع الحلال المستلذ، والآية تشير بتبعيض «من»؛ إلى أن الحرام رزق، وحض سبحانه على الشكر، والمعنى: في كل حالة، وفي «مصابيح البغوي»؛ عن أبي داود والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الطاعم الشاكر كالصائم الصابر "
انتهى.
قال القشيري: قال أهل العلم بالأصول: نعم الله تعالى على ضربين: نعمة نفع، ونعمة دفع، فنعمة النفع: ما أولاهم، ونعمة الدفع: ما زوى عنهم، وليس كل إنعامه سبحانه انتظام أسباب الدنيا، والتمكن منها، بل ألطاف الله تعالى فيما زوى عنهم من الدنيا أكثر، وإن قرب العبد من الرب تعالى على حسب تباعده من الدنيا. انتهى من «التحبير».
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتابه المسمى ب «بهجة المجالس». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما أنعم الله على عبد بنعمة، فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها، وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر له قبل أن يستغفره، وإن الرجل ليلبس الثوب، فيحمد الله، فما يبلغ ركبتيه؛ حتى يغفر له "
قال أبو عمر: مكتوب في التوراة: «اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك؛ فإنه لا زوال للنعم، إذا شكرت، ولا مقام لها، إذا كفرت». انتهى.
«وإن» من قوله: { إن كنتم إياه تعبدون }: شرط، والمراد بهذا الشرط التثبيت، وهز النفوس؛ كما تقول: افعل كذا، إن كنت رجلا، و «إنما» ههنا حاصرة، ولفظ الميتة عموم، والمعنى مخصص لأن الحوت لم يدخل قط في هذا العموم، وفي مسند البزار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه "
انتهى من «الكوكب الدري»؛ للإمام أبي العباس أحمد بن سعد التجيبي.
{ والدم } يراد به المسفوح؛ لأن ما خالط اللحم، فغير محرم بإجماع.
* ت *: بل فيه خلاف شاذ، ذكره ابن الحاجب وغيره، والمشهور: أظهر؛ لقول عائشة رضي الله عنها : «لو حرم غير المسفوح، لتتبع الناس ما في العروق، ولقد كنا نطبخ اللحم، والبرمة تعلوها الصفرة». انتهى.
{ ومآ أهل به لغير الله }.
قال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان، و { أهل به }: معناه صيح به؛ ومنه: استهلال المولود، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم؛ حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم.
{ فمن اضطر غير باغ ولا عاد } قال قتادة وغيره: معناه غير قاصد فساد وتعد؛ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة، ويأكلها، وأصحاب هذا القول يجيزون الأكل منها في كل سفر، مع الضرورة، وقال مجاهد وغيره: المعنى: غير باغ على المسلمين، وعاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل، والخارج على السلطان، والمسافر في قطع الرحم، والغارة على المسلمين، وما شاكله، ولغير هؤلاء: هي الرخصة.
قال مالك رحمه الله : يأكل المضطر شبعه، وفي «الموطإ» وهو لكثير من العلماء أنه يتزود، إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر.
قال ابن العربي في «أحكامه»، وقد قال العلماء: إن من اضطر إلى أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، فلم يأكل، دخل النار إلا أن يغفر الله له. انتهى. والمعنى: أنه لم يأكل حتى مات جوعا، فهو عاص، وكأنه قتل نفسه، وقد قال تعالى:
ولا تقتلوا أنفسكم
[النساء:29] الآية إلى قوله:
ومن يفعل ذلك عدونا وظلما فسوف نصليه نارا
[النساء:30] قال ابن العربي: وإذا دامت المخمصة، فلا خلاف في جواز شبع المضطر، وإن كانت نادرة، ففي شبعه قولان: أحدهما لمالك: يأكل؛ حتى يشبع، ويتضلع، وقال غيره: يأكل بمقدار سد الرمق، وبه قال ابن حبيب، وابن الماجشون. انتهى.
[2.174-176]
وقوله تعالى: { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتب... } الآية.
قال ابن عباس وغيره: المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، و { الكتب }: التوراة والإنجيل.
* ع *: وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأحبار، فإنها تتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، وفي ذكر البطن تنبيه على مذمتهم؛ بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم، قال الربيع وغيره: سمى مأكولهم نارا؛ لأنه يؤول بهم إلى النار، وقيل: يأكلون النار في جهنم حقيقة.
* ت *: وينبغي لأهل العلم التنزه عن أخذ شيء من المتعلمين على تعليم العلم، بل يلتمسون الأجر من الله عز وجل، وقد قال تعالى لنبيه - عليه السلام -:
قل لا أسألكم عليه أجرا...
[الأنعام:90] الآية، وفي سنن أبي داود، عن عبادة بن الصامت، قال:
" «علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب، والقرآن، وأهدى إلي رجل منهم قوسا، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأسألنه، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، قال: إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار، فاقبلها»، وفي رواية: «فقلت ما ترى فيها، يا رسول الله؟ قال: جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها» "
انتهى.
وقوله تعالى: { ولا يكلمهم الله }: قيل: هي عبارة عن الغضب عليهم، وإزالة الرضا عنهم؛ إذ في غير موضع من القرآن ما ظاهره أن الله تعالى يكلم الكافرين، وقال الطبري وغيره: المعنى: لا يكلمهم بما يحبونه.
{ ولا يزكيهم } ، أي: لا يطهرهم من موجبات العذاب، وقيل: المعنى: لا يسميهم أزكياء.
وقوله تعالى: { فمآ أصبرهم على النار }: قال جمهور المفسرين: «ما» تعجب، وهو في حيز المخاطبين، أي: هم أهل أن تعجبوا منهم، ومما يطول مكثهم في النار، وفي التنزيل:
قتل الإنسن مآ أكفره
[عبس:17] و
أسمع بهم وأبصر
[مريم:38].
وقال قتادة، والحسن، وابن جبير، والربيع: أظهر التعجب من صبرهم على النار لما عملوا عمل من وطن نفسه عليها، وتقديره ما أجرأهم على النار؛ إذ يعملون عملا يؤدي إليها، وذهب معمر بن المثنى؛ إلى أن «ما» استفهام، معناه: أي شيء صبرهم على النار، والأول أظهر.
وقوله سبحانه: { ذلك بأن الله نزل الكتب بالحق... } الآية: المعنى: ذلك الأمر بأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا به، والإشارة إلى وجوب النار لهم.
و { الكتب }: القرآن، و { بالحق } ، أي: بالإخبار الحق، أي: الصادقة.
و { الذين اختلفوا فى الكتب } هم اليهود والنصارى، في قول السدي، وقيل: هم كفار العرب؛ لقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم: أساطير، وبعضهم: مفترى، إلى غير ذلك.
و { بعيد } ، هنا: معناه من الحق، والاستقامة.
[2.177]
وقوله تعالى: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب... } الآية: قال ابن عباس وغيره: الخطاب بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى: ليس البر الصلاة وحدها، وقال قتادة، والربيع: الخطاب لليهود والنصارى؛ لأنهم تكلموا في تحويل القبلة، وفضلت كل فرقة توليها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، ولكن البر من آمن بالله.
وقوله تعالى: { وآتى المال على حبه... } الآية: هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة، قال الفخر: وروت فاطمة بنت قيس، أن في المال حقا سوى الزكاة، وتلا: { وآتى المال على حبه... } ، وعنه صلى الله عليه وسلم
" لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان، وجاره طاويا إلى جنبه "
انتهى.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وإذا وقع أداء الزكاة، ثم نزلت بعد ذلك حاجة، فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء، وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وكذلك إذا منع الوالي الزكاة، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ الصحيح: وجوب ذلك عليهم. انتهى.
ومعنى: { أتى }: أعطى على حبه، أي: على حب المال، ويحتمل أن يعود الضمير على اسم الله تعالى من قوله: { من آمن بالله } ، أي: من تصدق محبة في الله وطاعته.
* ص *: والظاهر أن الضمير في «حبه» عائد على «المال»؛ لأن قاعدتهم أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل. انتهى. قال:
* ع *: والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه، وهو صحيح شحيح يخشى الفقر، ويأمل الغنى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم. والشح؛ في هذا الحديث: هو الغريزي الذي في قوله تعالى:
وأحضرت الأنفس الشح
[النساء:128] وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفا بالشح الذي هو البخل.
{ وفي الرقاب } ، أي: العتق، وفك الأسرى.
{ والصبرين }: نصب على المدح، أو على إضمار فعل، وهذا مهيع في تكرار النعوت.
و { البأسآء }: الفقر والفاقة.
{ والضراء }: المرض، ومصائب البدن، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أول من يدعى إلى الجنة الذين يحمدون الله في السراء والضراء "
رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح على شرط مسلم. انتهى من «السلاح».
وفي صحيح مسلم، عن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إذا أصابته سراء فشكر، فكان خيرا له وإن أصابته ضراء، صبر، فكان خيرا له "
انتهى.
{ وحين البأس } ، أي: وقت شدة القتال، هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة، تقول العرب: بئس الرجل إذا افتقر، وبؤس إذا شجع، ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم، أي: هم عند الظن بهم والرجاء فيهم؛ كما تقول: صدقني المال، وصدقني الرمح، ووصفهم تعالى بالتقى، والمعنى: هم الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية.
[2.178-179]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص... } الآية: { كتب }: معناه: فرض، وأثبت، وصورة فرض القصاص، هو أن القاتل فرض عليه، إذا أراد الولي القتل، الاستسلام لأمر الله، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل وليه، وترك التعدي على غيره، فإن وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو، فذلك مباح، والآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح، و { القصاص }: مأخوذ من: قص الأثر؛ فكأن القاتل سلك طريقا من القتل، فقص أثره فيها.
روي عن ابن عباس؛ أن هذه الآية محكمة، وفيها إجمال فسرته آية «المائدة»، وأن قوله سبحانه: { الحر بالحر } يعم الرجال والنساء، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل.
وقوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء... } الآية: فيه تأويلات:
أحدها: أن «من» يراد بها القاتل، و «عفي»: تتضمن عافيا، وهو ولي الدم، والأخ: هو المقتول، و «شيء»: هو الدم الذي يعفى عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس، وجماعة من العلماء، والعفو على هذا القول على بابه.
والتأويل الثاني: وهو قول مالك؛ أن «من» يراد بها الولي، وعفي: بمعنى: يسر، لا على بابها في العفو، والأخ: يراد به القاتل، و «شيء»: هي الدية، والأخوة على هذا أخوة الإسلام.
والتأويل الثالث: أن هذه الألفاظ في معنى: الذين نزلت فيهم الآية، وهم قوم تقاتلوا، فقتل بعضهم بعضا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم، ويقاصهم بعضهم من بعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار، والنساء بالنساء، والعبيد بالعبيد، فمعنى الآية: فمن فضل له من إحدى الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، وتكون: «عفي» بمعنى فضل.
وقوله تعالى: { فاتباع }: تقديره: فالواجب والحكم: اتباع، وهذا سبيل الواجبات؛ كقوله تعالى:
فإمساك بمعروف
[البقرة:229] وأما المندوب إليه، فيأتي منصوبا؛ كقوله تعالى:
فضرب الرقاب
[محمد:4]، وهذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي.
وقوله سبحانه: { ذلك تخفيف } إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة، من أخذ الدية، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم، إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية، هو أن يأخذ الرجل دية وليه، ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم.
واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه، فقال فريق من العلماء، منهم مالك: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء، عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة وغيره: يقتل البتة، ولا عفو فيه، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { ولكم في القصاص حيوة }: المعنى: أن القصاص إذا أقيم، وتحقق الحكم به، ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه، فحييا بذلك معا، وأيضا: فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر، حمي قبيلاهما، وتقاتلوا، وكان ذلك داعيا إلى موت العدد الكثير، فلما شرع الله سبحانه القصاص، قنع الكل به، ووقف عنده، وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة، وخص أولو الألباب بالذكر، تنبيها عليهم؛ لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي، وغيرهم تبع لهم.
و { تتقون } معناه: القتل، فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك، فإن الله سبحانه يثيب على الطاعة بالطاعة.
[2.180-182]
وقوله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت... } الآية: { كتب }: معناه: فرض وأثبت، وفي قوله تعالى: { إذا حضر } مجاز؛ لأن المعنى: إذا تخوف وحضرت علاماته.
والخير في هذه الآية: المال، واختلف في هذه الآية، هل هي محكمة، أو منسوخة، فقال ابن عباس، وقتادة، والحسن: الآية عامة، وتقرر الحكم بها برهة، ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض، وقال بعض العلماء: إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث ".
و { بالمعروف }: معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة، ولا تنزير للوصية و { حقا }: مصدر مؤكد، وخص «المتقون» بالذكر؛ تشريفا للرتبة؛ ليتبادر الناس إليها.
وقوله تعالى: { فمن بدله بعدما سمعه... } الآية: الضمير في «بدله» عائد على الإيصاء، وأمر الميت، وكذلك في «سمعه»، ويحتمل أن يعود الذي في «سمعه» على أمر الله تعالى في هذه الآية، والأول أسبق للناظر، و { سميع عليم }: صفتان لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين، وتبديل المتعدين، والجنف: الميل.
ومعنى الآية على ما قال مجاهد: من خشي أن يحيف الموصي، ويقطع ميراث طائفة، ويتعمد الإذاءة، فذلك هو الجنف في إثم، وإن لم يتعمد، فهو الجنف، دون إثم، فالمعنى: من وعظه في ذلك ورده عنه، وأصلح ما بينه وبين ورثته، وما بين الورثة في ذاتهم، فلا إثم عليه؛ { إن الله غفور رحيم } بالموصي، إذا عملت فيه الموعظة، ورجع عما أراد من الإذاءة.
وقال ابن عباس وغيره: معنى الآية: { من خاف } ، أي: علم، ورأى بعد موت الموصي؛ أن الموصي حاف، وجنف، وتعمد إذاءة بعض ورثته، { فأصلح } ما بين الورثة، { فلا إثم عليه } ، وإن كان في فعله تبديل ما؛ لأنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى.
[2.183-184]
قوله جلت قدرته: { يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام... } الآية: { كتب }: معناه فرض، والصيام؛ في اللغة: الإمساك، ومنه قوله سبحانه:
إني نذرت للرحمن صوما
[مريم:26] وفي الشرع: إمساك عن الطعام والشراب مقترنة به قرائن؛ من مراعاة أوقات، وغير ذلك.
وقوله تعالى: { كما كتب على الذين من قبلكم }: اختلف في موضع التشبيه: قالت فرقة: التشبيه: كتب عليكم كصيام قد تقدم في شرع غيركم، ف «الذين» عام في النصارى وغيرهم.
و { لعلكم }: ترج في حقهم.
و { تتقون }: قيل على العموم؛
" لأن الصيام؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «جنة ووجاء، وسبب تقوى؛ لأنه يميت الشهوات» ".
و { أياما معدودت }: قيل: رمضان، وقيل: الثلاثة الأيام من كل شهر، ويوم عاشوراء التي نسخت بشهر رمضان.
* ص *: و { أياما }: منصوب بفعل مقدر يدل عليه ما قبله، أي: صوموا أياما، وقيل: { أياما }: نصب على الظرف انتهى.
وقوله سبحانه: { فمن كان منكم مريضا أو على سفر }: التقدير: فأفطر، { فعدة } ، وهذا يسمونه فحوى الخطاب، واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر، فقال جمهور العلماء: إذا كان به مرض يؤذيه، ويؤلمه أو يخاف تماديه، أو يخاف من الصوم تزيده، صح له الفطر، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك، وبه يناظرون، وأما لفظ مالك. فهو المرض الذي يشق على المرء، ويبلغ به، واختلف في الأفضل من الفطر أو الصوم، ومذهب مالك استحباب الصوم لمن قدر عليه، وتقصير الصلاة حسن؛ لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة، وهي مشغولة في أمر الصيام، والصواب: المبادرة بالأعمال.
والسفر: سفر الطاعة؛ كالحج، والجهاد؛ بإجماع، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم، وطلب المعاش الضروري.
وأما سفر التجارة، والمباحات، فمختلف فيه بالمنع، والجواز، والقول بالجواز أرجح.
وأما سفر العصيان، فمختلف فيه بالجواز، والمنع، والقول بالمنع أرجح.
ومسافة سفر الفطر؛ عند مالك، حيث تقصر الصلاة ثمانية وأربعون ميلا.
وقوله تعالى: { فعدة } ، أي: فالحكم أو الواجب عدة، وفي وجوب تتابعها قولان، و { أخر } لا ينصرف للعدل.
وقوله تعالى: { وعلى الذين يطيقونه فدية... } الآية: قرأ باقي السبعة غير نافع وابن عامر: «فدية»؛ بالتنوين «طعام مسكين»؛ بالإفراد، وهي قراءة حسنة؛ لأنها بينت الحكم في اليوم.
واختلفوا في المراد بالآية، فقال ابن عمر وجماعة: كان فرض الصيام هكذا على الناس؛ من أراد أن يصوم، صام، ومن أراد أن يفطر أطعم مسكينا، وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه:
فمن شهد منكم الشهر فليصمه
[البقرة:185]. وقالت فرقة: في الشيوخ الذين يطيقونه بتكلف شديد، والآية عند مالك: إنما هي فيمن يدركه رمضان ثان، وعليه صوم من المتقدم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم، فتركه، والفدية عند مالك وجماعة من العلماء: مد لكل مسكين.
وقوله تعالى: { فمن تطوع خيرا فهو خير له... } الآية: قال ابن عباس وغيره: المراد من أطعم مسكينين فصاعدا، وقال ابن شهاب: من زاد الإطعام مع الصوم، وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد، و { خيرا } الأول قد نزل منزلة مال، أو نفع، و { خير } الثاني والثالث صفة تفضيل.
وقوله تعالى: { إن كنتم تعلمون } يقتضي الحض على الصوم، أي: فاعلموا ذلك وصوموا.
* ت *: وجاء في فضل الصوم أحاديث صحيحة مشهورة، وحدث أبو بكر بن الخطيب بسنده عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من صام يوما تطوعا، لم يطلع عليه أحد، لم يرض الله له بثواب دون الجنة "
، قال: وبهذا الإسناد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. انتهى.
قال ابن عبد البر في كتابه المسمى ب «بهجة المجالس» قال أبو العالية: الصائم في عبادة ما لم يغتب.
قال الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد البلالي الشافعي في «اختصاره للإحياء»: وذكر السبكي في شرحه؛ أن الغيبة تمنع ثواب الصوم إجماعا، قال البلالي: وفيه نظر؛ لمشقة الاحتراز، نعم، إن أكثر، توجهت المقالة. انتهى، وهذا الشيخ البلالي لقيته، ورويت عنه كتابه هذا.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إذا دخل شهر رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم "
قال أبو عمر في «التمهيد»: وذلك لأن الصوم جنة يستجن بها العبد من النار، وتفتح لهم أبواب الجنة؛ لأن أعمالهم تزكو فيه، وتقبل منهم، ثم أسند أبو عمر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان، لم تعطهن أمة قبلها: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله لهم كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصائمون أن يلقوا عنهم المئونة، والأذى، ثم يصيرون إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم آخر ليلة، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا انقضى "
، قال أبو عمر: وفي سنده أبو المقدام، فيه ضعف، ولكنه محتمل فيما يرويه من الفضائل.
وأسند أبو عمر عن الزهري، قال:
" تسبيحة في رمضان أفضل من ألف تسبيحة في غيره "
انتهى.
* ت *: وخرجه الترمذي عن الزهري قال:
" تسبيحة في رمضان أفضل من ألف تسبيحة في غيره "
انتهى.
[2.185]
قوله تعالى: { شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن }: الشهر: مشتق من الاشتهار.
قال: * ص *: الشهر مصدر: شهر يشهر، إذا ظهر، وهو اسم للمدة الزمانية، وقال الزجاج: الشهر: الهلال، وقيل: سمي الشهر باسم الهلال. انتهى.
ورمضان: علقه هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمض، وشدة الحر، وكان اسمه قبل ذلك ناثرا.
واختلف في إنزال القرآن فيه، فقال الضحاك: أنزل في فرضه، وتعظيمه، والحض عليه، وقيل: بدىء بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس فيما يؤثر: أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ليلة أربع وعشرين من رمضان، ثم كان جبريل ينزله رسلا رسلا في الأوامر، والنواهي، والأسباب، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، والتوراة لست مضين منه، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين "
و { هدى } في موضع نصب على الحال من القرآن، فالمراد أن القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ - هدى ثم شرف، بالذكر، والتخصيص البينات منه، يعني: الحلال والحرام والمواعظ والمحكم كله، فالألف واللام في الهدى للعهد، والمراد الأول.
قال: * ص *: { هدى }: منصوب على الحال، أي: هاديا، فهو مصدر وضع موضع اسم الفاعل، وذو الحال القرآن، والعامل «أنزل». انتهى.
و { الفرقان }: المفرق بين الحق والباطل، و { شهد }: بمعنى حضر، والتقدير: من حضر المصر في الشهر، فالشهر نصب على الظرف.
وقوله سبحانه: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }.
قال مجاهد، والضحاك: اليسر: الفطر في السفر، والعسر: الصوم في السفر.
* ع *: والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" دين الله يسر ".
قلت: قال ابن الفاكهاني في «شرح الأربعين» للنووي: فإن قلت: قوله تعالى:
إن مع العسر يسرا..
[الشرح:6] الآية، يدل على وقوع العسر قطعا، وقوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } يدل على نفي العسر قطعا؛ لأن ما لا يريده تعالى، لا يكون بإجماع أهل السنة، قلت: العسر المنفي غير المثبت، فالمنفي: إنما هو العسر في الأحكام، لا غير، فلا تعارض. انتهى.
وترجم البخاري في «صحيحه» قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" يسروا ولا تعسروا "
، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس. ثم أسند هو ومسلم عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا "
وأسند البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال لأبي موسى، ومعاذ:
" يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا "
قال البخاري: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن الأزرق بن قيس. قال:
" كنا على شاطىء نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فصلى وخلى فرسه، فانطلق الفرس فترك صلاته، وتبعها؛ حتى أدركها، فأخذها، ثم جاء، فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل، فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقال: إن منزلي منزاح، فلو صليت وتركته، لم آت أهلي إلى الليل "
، وذكر أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم فرأى من تيسيره. انتهى.
وقوله تعالى: { ولتكملوا العدة }: معناه: وليكمل من أفطر في سفره، أو في مرضه عدة الأيام التي أفطر فيها.
وقوله تعالى: { ولتكبروا الله } حض على التكبير في آخر رمضان.
قال مالك: وهو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام إلى المصلى، ولفظه عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر؛ ثلاثا.
ومن العلماء من يكبر، ويهلل، ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وقيل غير هذا. والجميع حسن واسع مع البداءة بالتكبير.
و { هداكم }: قيل: المراد: لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم الهدى جيد.
{ ولعلكم تشكرون } ترج في حق البشر، أي: على نعم الله في الهدى.
* ص *: { ولعلكم تشكرون } علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك انتهى.
[2.186]
وقوله جل وعلا: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان... } الآية.
قال الحسن بن أبي الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه»، فنزلت الآية.
و { أجيب }: قال قوم: المعنى: أجيب إن شئت، وقال قوم: إن الله تعالى يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له أجر في الآخرة، وهذا بحسب حديث «الموطإ»، وهو:
" ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث... "
الحديث.
* ت *: وليس هذا باختلاف قول.
قال ابن رشد في «البيان»: الدعاء عبادة من العبادات يؤجر فيها الأجر العظيم، أجيبت دعوته فيما دعا به، أو لم تجب، وهأنا أنقل، إن شاء الله، من صحيح الأحاديث في هذا المحل ما يثلج له الصدر، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تعجزوا عن الدعاء؛ فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد "
رواه الحاكم أبو عبد الله في «المستدرك» على الصحيحين، وابن حبان في «صحيحه»، واللفظ له، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الدعاء: سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السموات والأرض "
رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقف بين يديه، فيقول: عبدي، إني أمرتك؛ أن تدعوني، ووعدتك أن أستجيب لك، فهل كنت تدعوني، فيقول: نعم، يا رب، فيقول: أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجبت لك، أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك؛ أن أفرج عنك ففرجت عنك؟! فيقول: نعم، يا رب، فيقول: فإني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك، أن أفرج عنك، فلم تر فرجا؟ قال: نعم، يا رب، فيقول: إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا [و] كذا وكذا، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم كذا وكذا، فقضيتها، فيقول: نعم، يا رب، فيقول: فإني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني في يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك، فلم تر قضاءها، فيقول: نعم، يا رب، فيقول: إني ادخرت لك في الجنة كذا وكذا "
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له إما أن يكون عجل له في الدنيا، وإما أن يكون ادخر له في الآخرة، قال: فيقول المؤمن في ذلك المقام: يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه "
، رواه الحاكم في «المستدرك».
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يرد القدر إلا الدعاء "
، رواه الحاكم في «المستدرك» وابن حبان في «صحيحه»، واللفظ للحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
قلت: وقد أخرج ابن المبارك في «رقائقه» هذا الحديث أيضا، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عيس عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يرد القضاء إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه "
انتهى.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل من السماء، فيتلقاه الدعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة "
رواه الحاكم في «مستدركه»، وقال: صحيح الإسناد، وقوله؛ «فيعتلجان»، أي: يتصارعان.
وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من سره أن يستجاب له عند الكرب، والشدائد، فليكثر الدعاء في الرخاء "
، رواه الحاكم أيضا، وقال: صحيح الإسناد، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من فتح له في الدعاء منكم، فتحت له أبواب الجنة "
، قال الغزالي - رحمه الله - في كتاب «الإحياء»: «فإن قلت: فما فائدة الدعاء، والقضاء لا يرد؟ فاعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، واستجلاب للرحمة؛ كما أن الترس سبب لرد السهم، ثم في الدعاء من الفائدة أنه يستدعي حضور القلب، مع الله عز وجل، وذلك منتهى العبادات، فالدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة»، فانظره، فإني اثرت الاختصار، وانظر «سلاح المؤمن» الذي منه نقلت هذه الأحاديث.
ومن «جامع الترمذي». عن أبي خزامة، واسمه رفاعة، عن أبيه، قال:
" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله "
؛ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وانظر جواب عمر لأبي عبيدة «نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله...» الحديث هو من هذا المعنى. انتهى، والله الموفق بفضله.
وقوله تعالى: { فليستجيبوا لي } قال أبو رجاء الخراساني: معناه: «فليدعوني»
قال: * ع *: المعنى: فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو باب «استفعل»، أي: طلب الشيء إلا ما شذ؛ مثل: استغنى الله .
وقال مجاهد وغيره: المعنى: فليجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي: بالطاعة، والعمل.
فائدة: قال صاحب «غاية المغنم في اسم الله الأعظم» وهو إمام عارف بعلم الحديث، وكتابه هذا يشهد له، قال: ذكر الدينوري في «كتاب المجالسة»، عن ليث بن سليم؛ أن رجلا وقف على قوم، فقال: من عنده ضيافة هذه الليلة، فسكت القوم، ثم عاد، فقال رجل أعمى: عندي، فذهب به إلى منزله، فعشاه، ثم حدثه ساعة، ثم وضع له وضوءا، فقام الرجل في جوف الليل، فتوضأ، وصلى ما قضي له، ثم جعل يدعو، فانتبه الأعمى، وجعل يسمع لدعائه، فقال: اللهم، رب الأرواح الفانية، والأجساد البالية، أسألك بطاعة الأرواح الراجعة إلى أجسادها، وبطاعة الأجساد الملتئمة في عروقها، وبطاعة القبور المتشققة عن أهلها، وبدعوتك الصادقة فيهم، وأخذك الحق منهم، وتبريز الخلائق كلهم من مخافتك ينتظرون قضاءك، ويرجون رحمتك، ويخافون عذابك، أسألك أن تجعل النور في بصري، والإخلاص في عملي، وشكرك في قلبي، وذكرك في لساني في الليل والنهار، ما أبقيتني، قال: فحفظ الأعمى هذا الدعاء، ثم قام، فتوضأ، وصلى ركعتين، ودعا به فأصبح قد رد الله عليه بصره. انتهى من «غاية المغنم في اسم الله الأعظم»، وإطلاق الفناء على الأرواح فيه تجوز، والعقيدة أن الأرواح باقية لا تفنى، وإنما عبر عن مفارقتها لأجسادها بالفناء، هذا هو مراده.
وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فادعوا الله أيها الناس، حين تدعون، وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل "
انتهى.
قال ابن عطاء الله في «لطائف المنن»: وإذا أراد الله أن يعطي عبدا شيئا وهبه الاضطرار إليه فيه، فيطلبه بالاضطرار، فيعطى، وإذا أراد الله أن يمنع عبدا أمرا، منعه الاضطرار إليه فيه، ثم منعه إياه، فلا يخاف عليك أن تضطر، وتطلب، فلا تعطى، بل يخاف عليك أن تحرم الاضطرار، فتحرم الطلب، أو تطلب بغير اضطرار، فتحرم العطاء. انتهى.
وقوله سبحانه: { وليؤمنوا بي } ، قال أبو رجاء: في أنني أجيب دعاءهم، وقال غيره: بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته.
[2.187-188]
وقوله تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام... } الآية: لفظة { أحل } تقتضي أنه كان محرما قبل ذلك، و { ليلة }: نصب على الظرف.
و { الرفث }: كناية عن الجماع؛ لأن الله تعالى كريم يكني؛ قاله ابن عباس وغيره، والرفث في غير هذا: ما فحش من القول، وقال أبو إسحاق: الرفث: كل ما يأتيه الرجل، مع المرأة من قبلة، ولمس.
* ع *: أو كلام في هذا المعنى، وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره: إن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم، وأصابوا النساء بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء على الخلاف في ذلك، منهم عمر بن الخطاب: جاء إلى امرأته، فأرادها، فقالت له قد نمت، فظن أنها تعتل بذلك، فوقع بها، ثم تحقق أنها قد كانت نامت، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعا، فذهب عمر، فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل صدر الآية، وروي أن صرمة بن قيس نام قبل الأكل، فبقي كذلك دون أكل، حتى غشي عليه في نهاره المقبل، فنزل فيه من قوله تعالى: { وكلوا واشربوا }.
واللباس: أصله في الثياب، ثم شبه التباس الرجل بالمرأة بذلك.
وتاب عليكم، أي: من المعصية التي وقعتم فيها.
قال ابن عباس وغيره: { بشروهن } كناية عن الجماعة، { وابتغوا ما كتب الله لكم }.
قال ابن عباس وغيره: أي: ابتغوا الولد، قال الفخر والمعنى: لا تباشروهن لقضاء الشهوة فقط، ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل، قال عليه السلام :
" تناكحوا، تناسلوا؛ فإني مكاثر بكم الأمم "
انتهى.
وقيل: المعنى: ابتغوا ليلة القدر.
وقيل: ابتغوا الرخصة، والتوسعة؛ قاله قتادة، وهو قول حسن.
{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم... } الآية: نزلت بسبب صرمة بن قيس، و { حتى }: غاية للتبين، ولا يصح أن يقع التبين لأحد، ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر، والخيط استعارة وتشبيه لرقة البياض أولا، ورقة السواد إلحاق به، والمراد فيما قال جميع العلماء: بياض النهار، وسواد الليل.
و { من } الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، و { الفجر }: مأخوذ من تفجر الماء؛ لأنه ينفجر شيئا بعد شيء، وروي عن سهل بن سعد وغيره من الصحابة؛ أن الآية نزلت إلا قوله: { من الفجر } ، فصنع بعض الناس خيطين، أبيض وأسود، فنزل قوله تعالى: { من الفجر }.
* ع *: وروي؛
" أنه كان بين طرفي المدة عام من رمضان إلى رمضان تأخر البيان إلى وقت الحاجة، وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «إن وسادك لعريض» ".
واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال الجمهور، وبه أخذ الناس، ومضت عليه الأمصار والأعصار، ووردت به الأحاديث الصحاح: إنه الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك، وروي عن عثمان بن عفان، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس وغيرهم؛ أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق، وعلى رءوس الجبال، وذكر عن حذيفة؛ أنه قال: «تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار إلا أن الشمس لم تطلع».
ومن أكل، وهو يشك في الفجر، فعليه القضاء عند مالك.
وقوله سبحانه: { ثم أتموا الصيام إلى اليل } أمر يقتضي الوجوب، و { إلى }: غاية، وإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها، فهو داخل في حكمه، وإذا كان من غير جنسه، لم يدخل في المحدود، والليل: الذي يتم به الصيام: مغيب قرص الشمس، فمن أفطر شاكا في غروبها، فالمشهور من المذهب؛ أن عليه القضاء والكفارة.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب تعالى: وعزتي، لأنصرنك، ولو بعد حين "
رواه الترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في «صحيحه»، وقال الترمذي: واللفظ له؛ حديث حسن، ولفظ ابن ماجة: «حتى يفطر». انتهى من «السلاح».
وعنه صلى الله عليه وسلم:
" إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد "
، رواه ابن السني. انتهى من «حلية النووي».
وعنه صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال:
" للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه "
رواه البخاري ومسلم. انتهى.
وروى ابن المبارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن واصل مولى أبي عيينة، عن لقيد أبي المغيرة، عن أبي بردة: أن أبا موسى الأشعري كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها، فإذا رجل يقول: يأهل السفينة، قفوا سبع مرار، فقلنا: ألا ترى على أي حال نحن، ثم قال في السابعة، قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه؛ أنه من عطش نفسه لله في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر، كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة، فكان أبو موسى يبتغي اليوم الشديد الحر، فيصومه. انتهى.
قال يوسف بن يحيى التادلي في «كتاب التشوف»، وخرج عبد الرزاق في «مصنفه» عن هشام بن حسان، عن واصل بن لقيط، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، قال: «غزا الناس برا وبحرا، فكنت ممن غزا في البحر، فبينما نحن نسير في البحر؛ إذ سمعنا صوتا يقول: يأهل السفينة، قفوا أخبركم، فنظرنا يمينا وشمالا، فلم نر شيئا إلا لجة البحر، ثم نادى الثانية؛ حتى نادى سبع مرات، يقول كذلك، قال أبو موسى: فلما كانت السابعة، قمت، فقلت: ما تخبرنا؟ قال: أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه؛ أن من عطش لله في يوم حار، أن يرويه الله يوم القيامة»، وذكره ابن حبيب في «الواضحة»؛ بلفظ آخر.
انتهى.
قال ابن المبارك: وأخبرنا أبو بكر بن أبي مريم الغساني، قال: حدثني ضمرة بن حبيب، قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم:
" إن لكل شيء بابا، وإن باب العبادة الصيام "
انتهى.
وروى البخاري ومسلم في «صحيحيهما»، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، إنما يدع شهوته وطعامه من أجلي "
انتهى.
وقوله تعالى: { ولا تبشروهن وأنتم عكفون في المسجد } قالت فرقة: المعنى: ولا تجامعوهن، وقال الجمهور: ذلك يقع على الجماع ، فما دونه مما يتلذذ به من النساء، و { عكفون } ، أي: ملازمون، قال مالك - رحمه الله - وجماعة معه: لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات، وروي عن مالك أيضا؛ أن ذلك في كل مسجد، ويخرج إلى الجمعة؛ كما يخرج إلى ضروري أشغاله، قال ابن العربي في «أحكامه»: وحرم الله سبحانه المباشرة في المسجد؛ وكذلك تحرم خارج المسجد؛ لأن معنى الآية، ولا تباشروهن وأنتم ملتزمون للاعتكاف في المساجد معتقدون له. انتهى. و { تلك } إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي.
والحدود: الحواجز بين الإباحة والحظر؛ ومنه قيل للبواب حداد؛ لأنه يمنع؛ ومنه الحاد؛ لأنها تمنع من الزينة، والآيات: العلامات الهادية إلى الحق.
وقوله تعالى: { ولا تأكلوا أمولكم بينكم بالباطل... } الآية: الخطاب لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويدخل في هذه الآية القمار، والخدع، والغصوب، وجحد الحقوق، وغير ذلك.
وقوله سبحانه: { وتدلوا بها إلى الحكام... } الآية: يقال: أدلى الرجل بحجة، أو بأمر يرجو النجاح به، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء، قال قوم: معنى الآية: تسارعون في الأموال إلى المخاصمة، إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم؛ إما بأن لا تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة؛ كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله، فالباء في «بها» باء السبب، وقيل: معنى الآية: ترشوا بها على أكل أكثر منها، فالباء إلزاق مجرد؛ وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا، إلا من عصم، وهو الأقل، وأيضا، فإن اللفظتين متناسبتان.
{ تدلوا }: من إرسال الدلو، والرشوة: من الرشاء؛ كأنها يمد بها؛ لتقضي الحاجة.
والفريق: القطعة، والجزء.
و { بالإثم } أي: بالظلم.
{ وأنتم تعلمون } أي: أنكم مبطلون.
[2.189-192]
وقوله تعالى: { يسئلونك عن الأهلة } ، قال ابن عباس وغيره: نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال، وما فائدة محاقه، وكماله، ومخالفته لحال الشمس.
و { مواقيت } أي: لمحل الديون، وانقضاء العدد والأكرية، وما أشبه، هذا من مصالح العباد، ومواقيت للحج أيضا: يعرف بها وقته وأشهره.
وقوله سبحانه: { وليس البر... } الآية: قال البراء بن عازب، والزهري، وقتادة : سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا، أو اعتمروا، يلتزمون تشرعا ألا يحول بينهم وبين السماء حائل، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات، وقيل: كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحا يدخلون منها، ولا يدخلون من الأبواب، وقيل غير هذا مما يشبهه.
وقوله تعالى: { وقتلوا في سبيل الله... } الآية هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال. قال ابن زيد، والربيع: قوله: { ولا تعتدوا } أي: في قتال من لم يقاتلكم، وهذه الموادعة منسوخة بقوله تعالى:
وقتلوا المشركين كآفة
[التوبة:36] وقال ابن عباس وغيره: { ولا تعتدوا } في قتل النساء، والصبيان، والرهبان، وشبههم؛ فهي محكمة.
وقوله تعالى: { واقتلوهم حيث ثقفتموهم... } الآية: قال ابن إسحاق وغيره: نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الحضرمي، وواقد، وهي سرية عبد الله بن جحش، و { ثقفتموهم } معناه: أحكمتم غلبتهم، يقال: رجل ثقف لقف، إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور.
و { أخرجوهم }: خطاب لجميع المؤمنين، والضمير لكفار قريش.
و { الفتنة أشد من القتل } ، أي: الفتنة التي حملوكم عليها، وراموكم بها على الرجوع إلى الكفر - أشد من القتل، ويحتمل أن يكون المعنى: والفتنة، أي: الكفر والضلال الذي هم فيه أشد في الحرم، وأعظم جرما من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي.
وقوله تعالى: { ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام... } الآية.
قال الجمهور: كان هذا ثم نسخ، وقال مجاهد: الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد، يعني: عند المسجد الحرام، إلا بعد أن يقاتل.
قلت: وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:
" وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ولم تحل لأحد بعدي "
يقوي قول مجاهد، وهذا هو الراجح عند الإمام الفخر، وأن الآية محكمة، ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم. انتهى.
قال ابن العربي في «أحكامه» وقد روى الأئمة عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة:
" إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيها لأحد قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ".
فقد ثبت النهي عن القتال فيها قرآنا وسنة، فإن لجأ إليها كافر، فلا سبيل إليه، وأما الزاني والقاتل، فلا بد من إقامة الحد عليه إلا أن يبتدىء الكافر بالقتال فيها، فيقتل بنص القرآن. انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي: «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم فاقتلوهم»، أي: فإن قتلوا منكم، والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام.
[2.193-195]
{ وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله }: «الفتنة»: هنا الشرك، وما تابعه من أذى المؤمنين. قاله ابن عباس وغيره.
و { الدين } هنا: الطاعة، والشرع، والانتهاء في هذا الموضع يصح مع عموم الآية في الكفار؛ أن يكون الدخول في الإسلام؛ ويصح أن يكون أداء الجزية.
وقوله تعالى: { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمت قصاص... } الآية: قال ابن عباس وغيره: نزلت في عمرة القضية، وعام الحديبية سنة ست، حين صدهم المشركون، أي: الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه، وأدخلكم الحرم عليهم سنة سبع - بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه، والحرمات قصاص.
وقالت فرقة: قوله: { والحرمت قصاص }: مقطوع مما قبله، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام أن من انتهك حرمتك، نلت منه مثل ما اعتدى عليك.
{ واتقوا الله }: قيل: معناه في ألا تعتدوا، وقيل: في ألا تزيدوا على المثل.
وقوله تعالى: { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة... } الآية: سبيل الله هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله، وفي الصحيح أن أبا أيوب الأنصاري كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم: ألقى هذا بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إن هذه الآية نزلت في الأنصار، حين أرادوا، لما ظهر الإسلام؛ أن يتركوا الجهاد، ويعمروا أموالهم، وأما هذا، فهو الذي قال الله تعالى فيه:
ومن الناس من يشري نفسه ابتغآء مرضات الله
[البقرة:207].
وقال ابن عباس، وحذيفة بن اليمان، وجمهور الناس: المعنى: لا تلقوا بأيديكم؛ بأن تتركوا النفقة في سبيل الله، وتخافوا العيلة.
{ وأحسنوا }: قيل: معناه: في أعمالكم بامتثال الطاعات؛ روي ذلك عن بعض الصحابة، وقيل: المعنى : وأحسنوا في الإنفاق في سبيل الله، وفي الصدقات، قاله زيد بن أسلم، وقال عكرمة: المعنى: وأحسنوا الظن بالله عز وجل.
* ت *: ولا شك أن لفظ الآية عام يتناول جميع ما ذكر، والمخصص يفتقر إلى دليل.
فأما حسن الظن بالله سبحانه، فقد جاءت فيه أحاديث صحيحة، فمنها:
" أنا عند ظن عبدي بي "
، وفي «صحيح مسلم»، عن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاثة أيام يقول:
" لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله "
انتهى.
وأخرج أبو بكر بن الخطيب، بسنده، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من حسن عبادة المرء حسن ظنه "
انتهى.
قال عبد الحق في «العاقبة»: أما حسن الظن بالله عز وجل عند الموت، فواجب؛ للحديث. انتهى.
ويدخل في عموم الآية أنواع المعروف؛ قال أبو عمر بن عبد البر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كل معروف صدقة "
، قال أبو جري الهجيمي؛
" قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: «لا تحقرن شيئا من المعروف؛ أن تأتيه، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك، ووجهك منبسط إليه» "
، وقال عليه السلام:
" أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة "
، وقال عليه الصلاة والسلام:
" إن لله عبادا خلقهم لحوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة "
انتهى من كتابه المسمى ب «بهجة المجالس و أنس المجالس».
[2.196]
وقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله }: قال ابن زيد وغيره: إتمامهما ألا تفسخا، وأن تتمهما، إذا بدأت بهما، وقال ابن عباس وغيره: إتمامهما أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيهما من دماء، وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما، لا لتجارة، ولا لغير ذلك؛ ويؤيد هذا قوله: { لله }.
وفروض الحج: النية، والإحرام، والطواف المتصل بالسعي، يعني: طواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة عندنا؛ خلافا لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة، وزاد ابن الماجشون: جمرة العقبة.
وقوله تعالى: { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } هذه الآية نزلت عام الحديبية عند جمهور أهل التأويل، وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث أحصر، وينحر هديه، إن كان ثم هدي، ويحلق رأسه، وأما المحصر بمرض، فقال مالك، وجمهور من العلماء: لا يحله إلا البيت، ويقيم حتى يفيق، وإن أقام سنين، فإذا وصل البيت، بعد فوت الحج، قطع التلبية في أوائل الحرم، وحل بعمرة، ثم تكون عليه حجة قضاء، وفيها يكون الهدي.
و «ما» في موضع رفع، أي: فالواجب، أو: فعليكم ما استيسر، وهو شاة عند الجمهور.
وقال ابن عمر وعروة: جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة.
وقوله تعالى: { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } الخطاب لجميع الأمة، وقيل: للمحصرين خاصة، ومحل الهدي: حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يحصر بمنى، والترتيب: أن يرمي الحاج الجمرة، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يطوف للإفاضة.
وقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضا... } الآية: المعنى: فحلق لإزالة الأذى، { ففدية } ، وهذا هو فحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين، ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة، حين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يتناثر قملا، فأمره بالحلاق، ونزلت الرخصة.
والصيام؛ عند مالك، وجميع أصحابه: ثلاثة أيام، والصدقة ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع، وذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والنسك: شاة بإجماع، ومن أتى بأفضل منها مما يذبح أو ينحر، فهو أفضل والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء، حيث شاء من مكة وغيرها.
قال مالك وغيره: كلما أتى في القرآن «أو أو»، فإنه على التخيير.
وقوله تعالى: { فإذا أمنتم } ، أي: من العدو المحصر، قاله ابن عباس وغيره، وهو أشبه باللفظ، وقيل: معناه: إذا برأتم من مرضكم.
وقوله سبحانه: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج... } الآية.
قال ابن عباس وجماعة من العلماء: الآية في المحصرين وغيرهم، وصورة المتمتع أن تجتمع فيه ستة شروط، أن يكون معتمرا في أشهر الحج، وهو من غير حاضري المسجد الحرام، ويحل وينشىء الحج من عامه ذلك، دون رجوع إلى وطنه، أو ما ساواه بعدا، هذا قول مالك، وأصحابه، واختلف، لم سمي متمتعا.
فقال ابن القاسم: لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج، وقال غيره: سمي متمتعا؛ لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر، وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله تعالى هديا كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد، وجل الأمة على جواز العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه.
وقوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام في الحج } ، يعني: من وقت يحرم إلى يوم عرفة، فإن فاته صيامها قبل يوم النحر، فليصمها في أيام التشريق؛ لأنها من أيام الحج.
{ وسبعة إذا رجعتم } ، قال مجاهد وغيره: أي: إذا رجعتم من منى، وقال قتادة، والربيع: هذه رخصة من الله سبحانه، والمعنى: إذا رجعتم إلى أوطانكم، ولما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع، أزيل ذلك بالجلية من قوله تعالى: { تلك عشرة }.
و { كاملة } قال الحسن بن أبي الحسن: المعنى: كاملة الثواب، وقيل: كاملة تأكيد؛ كما تقول: كتبت بيدي، وقيل: لفظها الإخبار، ومعناها الأمر، أي: أكملوها، فذلك فرضها، وقوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله... } الآية: الإشارة بذلك على قول الجمهور هي إلى الهدي، أي: ذلك الاشتداد والإلزام، وعلى قول من يرى أن المكي لا تجوز له العمرة في أشهر الحج، تكون الإشارة إلى التمتع، وحكمه؛ فكأن الكلام؛ ذلك الترخيص لمن لم؛ ويتأيد هذا بقوله: { لمن لم }؛ لأن اللام أبدا إنما تجيء مع الرخص، واختلف الناس في { حاضري المسجد الحرام } بعد الإجماع على أهل مكة، وما اتصل بها، فقيل: من تجب عليه الجمعة بمكة، فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك، فهو بدوي، قال: * ع *: فجعل اللفظة من الحضارة، والبداوة.
وقيل: من كان بحيث لا يقصر الصلاة، فهو حاضر، أي: مشاهد، ومن كان أبعد من ذلك، فهو غائب.
وقال ابن عباس، ومجاهد: أهل الحرم كله حاضرو المسجد الحرام، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم، وحذر من شديد عقابه.
[2.197]
وقوله تعالى: { الحج أشهر معلومت } في الكلام حذف، تقديره: أشهر الحج أشهر أو وقت الحج أشهر معلومات، قال ابن مسعود وغيره: وهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة كله.
وقال ابن عباس وغيره: هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، والقولان لمالك - رحمه الله - { فمن فرض فيهن الحج } ، أي: ألزمه نفسه، وفرض الحج هو بالنية والدخول في الإحرام، والتلبية تبع لذلك، وقوله تعالى: { فيهن } ، ولم يجىء الكلام «فيها»، فقال قوم: هما سواء في الاستعمال، وقال أبو عثمان المازني: الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول: الأجذاع انكسرن والجذوع انكسرت، ويؤيد ذلك قوله تعالى:
إن عدة الشهور عند الله
[التوبة:36] ثم قال:
منهآ
[التوبة:36].
وقوله تعالى: { فلا رفث ولا فسوق... } الآية، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال»، بالرفع في الاثنين، ونصب الجدال، و «لا» بمعنى «ليس»، في قراءة الرفع، والرفث الجماع في قول ابن عباس، ومجاهد، ومالك، والفسوق قال ابن عباس وغيره: هي المعاصي كلها، وقال ابن زيد، ومالك: الفسوق: الذبح للأصنام، ومنه قوله تعالى:
أو فسقا أهل لغير الله به
[الأنعام:145] والأول أولى.
قال الفخر: وأكثر المحققين حملوا الفسق هنا على كل المعاصي؛ قالوا: لأن اللفظ صالح للكل ومتناول له، والنهي عن الشيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه، فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل. انتهى.
قال ابن عباس وغيره: الجدال هنا: أن تماري مسلما.
وقال مالك، وابن زيد: الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم - عليه السلام -؛ كما كانوا يفعلون في الجاهلية، قلت: ومعنى الآية: فلا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:
" والصوم جنة، فإذا كان صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، فإن شاتمه أحد، أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم... "
الحديث. انتهى.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { فلا رفث ولا فسوق } ، أراد نفيه مشروعا، لا موجودا، فإنا نجد الرفث فيه، ونشاهده، وخبر الله سبحانه لا يقع بخلاف مخبره. انتهى.
قال الفخر : قال القفال: ويدخل في هذا النهي ما وقع من بعضهم من مجادلة النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فشق عليهم ذلك، وقالوا: «أنروح إلى منى، ومذاكيرنا تقطر منيا...» الحديث. انتهى.
وقوله تعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله }: المعنى: فيثيب عليه، وفي هذا تحضيض على فعل الخير.
* ت *: وروى أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء "
رواه الترمذي، والنسائي، وابن حبان في «صحيحه» بهذا اللفظ. انتهى من «السلاح» ونحو هذا جوابه صلى الله عليه وسلم للمهاجرين؛ حيث قالوا: «ما رأينا كالأنصار»، وأثنوا عليهم خيرا.
وقوله سبحانه: { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى... } الآية: قال ابن عمر وغيره: نزلت الآية في طائفة من العرب، كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويبقون عالة على الناس، فأمروا بالتزود، وقال بعض الناس: المعنى: تزودوا الرفيق الصالح، وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية: وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة، قلت: وهذا التأويل هو الذي صدر به الفخر وهو الظاهر، وفي قوله: { فإن خير الزاد التقوى } حض على التقوى.
[2.198-199]
وقوله تعالى: { ليس عليكم جناح... } الآية: الجناح: أعم من الإثم؛ لأنه فيما يقتضي العقاب، وفي ما يقتضي الزجر والعتاب.
و { تبتغوا }: معناه: تطلبوا، أي: لا درك في أن تتجروا وتطلبوا الربح.
وقوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفت }: أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف بعرفات بعد الزوال، وأفاض نهارا قبل الليل إلا مالك بن أنس، فإنه قال: لا بد أن يأخذ من الليل شيئا، وأما من وقف بعرفة ليلا، فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه.
وأفاض القوم أو الجيش، إذا اندفعوا جملة، واختلف في تسميتها عرفة، والظاهر أنه اسم مرتجل؛ كسائر أسماء البقاع، وعرفة هي نعمان الأراك، والمشعر الحرام جمع كله، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى مأزمي عرفة إلى بطن محسر، قاله ابن عباس وغيره، فهي كلها مشعر إلا بطن محسر ؛ كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة بفتح الراء وضمها، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، والمزدلفة كلها مشعر، ألا وارتفعوا عن بطن محسر "
، وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام ندب عند أهل العلم، قال مالك: ومن مر به، ولم ينزل، فعليه دم.
وقوله تعالى: { واذكروه كما هداكم } تعديد للنعمة، وأمر بشكرها.
* ص *: { كما هداكم }: الكاف للتشبيه، وهو في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف، و «ما» مصدرية، أي: كهدايته، فتكون «ما» وما بعدها في موضع جر، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر، ويحتمل أن تكون للتعليل على مذهب الأخفش، وابن برهان، وجوز ابن عطية وغيره، أن تكون «ما» كافة للكاف عن العمل، والأول أولى؛ لأن فيه إقرار الكاف على عملها الجر، وقد منع صاحب «المستوفى» أن تكون الكاف مكفوفة ب «ما»؛ واحتج من أثبته بقوله: [الوافر]
لعمرك إنني وأبا حميد
كما النسوان والرجل الحليم
أريد هجاءه وأخاف ربي
وأعلم أنه عبد لئيم
انتهى.
ثم ذكرهم سبحانه بحال ضلالهم؛ ليظهر قدر إنعامه عليهم.
{ وإن كنتم من قبله } ، أي: من قبل الهدى.
وقوله سبحانه: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } المخاطب بهذه الآية قريش، ومن ولدت، قاله ابن عباس وغيره، وذلك أنهم كانوا لا يخرجون من الحرم، ويقفون بجمع، ويفيضون منه، مع معرفته أن عرفة هي موقف إبراهيم، فقيل لهم: أفيضوا من حيث أفاض الناس، أي: من عرفة، «ثم» ليست في هذه الآية للترتيب، إنما هي لعطف جملة كلام على جملة هي منها منقطعة.
وقال الضحاك: المخاطب بالآية جملة الأمة، والمراد بالناس إبراهيم، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا عول الطبري، فتكون «ثم» على بابها، وقرأ سعيد بن جبير: «الناسي»، وتأوله آدم - عليه السلام -، وأمر عز وجل بالاستغفار؛ لأنها مواطنه، ومظان القبول، ومساقط الرحمة، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عشية عرفة، فقال:
" «أيها الناس، إن الله عز وجل تطاول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله»، فلما كان غداة جمع، خطب، فقال: «أيها الناس، إن الله تطاول عليكم، فعوض التبعات من عنده» ".
[2.200-202]
وقوله تعالى: { فإذا قضيتم منسككم }... الآية.
قال مجاهد: المناسك: الذبائح، وهي إراقة الدماء.
* ع *: والمناسك عندي العبادات في معالم الحج، ومواضع النسك فيه.
والمعنى: إذا فرغتم من حجكم الذي هو الوقوف بعرفة، فاذكروا الله بمحامده، وأثنوا عليه بآلائه عندكم، وكانت عادة العرب، إذا قضت حجها، تقف عند الجمرة تتفاخر بالآباء، وتذكر أيام أسلافها؛ من بسالة، وكرم، وغير ذلك، فنزلت الآية، أن يلزموا أنفسهم ذكر الله تعالى أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيام الجاهلية، هذا قول جمهور المفسرين.
وقال ابن عباس، وعطاء: معنى الآية: واذكروا الله؛ كذكر الأطفال آباءهم، وأمهاتهم، أي: فاستغيثوا به، والجئوا إليه.
قال النووي في «حليته»: والمراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر، فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه، فالتدبر في الذكر مطلوب؛ كما هو مطلوب في القراءة؛ لاشتراكهما في المعنى المقصود، ولهذا كان المذهب الصحيح المختار استحباب مد الذاكر قوله: «لا إله إلا الله»، لما فيه من التدبر، وأقوال السلف، وأئمة الخلف في هذا مشهورة. انتهى.
قال الشيخ العارف أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الساحلي المالقي: ومنفعة الذكر أبدا إنما هي تتبع معناه بالفكر؛ ليقتبس الذاكر من ذكره أنوار المعرفة، ويحصل على اللب المراد، ولا خير في ذكر مع قلب غافل ساه، ولا مع تضييع شيء من رسوم الشرع، وقال في موضع آخر من هذا الكتاب الذي ألفه في «السلوك»: ولا مطمع للذاكر في درك حقائق الذكر إلا بإعمال الفكر فيما تحت ألفاظ الذكر من المعاني، وليدفع خطرات نفسه عن باطنه راجعا إلى مقتضى ذكره؛ حتى يغلب معنى الذكر على قلبه، وقد آن له أن يدخل في دائرة أهل المحاضرات. انتهى.
وقوله تعالى: { فمن الناس من يقول ربنا ءاتنا في الدنيا... } الآية: قال أبو وائل وغيره: كانت عادتهم في الجاهلية الدعاء في مصالح الدنيا فقط؛ إذ كانوا لا يعرفون الآخرة، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنه، والخلاق: الحظ، والنصيب.
قال الحسن بن أبي الحسن: حسنة الدنيا: العلم والعبادة.
* ع *: واللفظ أعم من هذا، وحسنة الآخرة الجنة؛ بإجماع، وعن أنس: قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:
" ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار "
رواه البخاري ومسلم وغيرهما، زاد مسلم: «وكان أنس، إذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه». انتهى.
{ أولئك لهم نصيب مما كسبوا } وعد على كسب الأعمال الصالحة، والرب سبحانه سريع الحساب؛ لأنه لا يحتاج إلى عقد، ولا إعمال فكر، قيل لعلي - رضي الله عنه -: كيف يحاسب الله الخلائق في يوم، فقال: كما يرزقهم في يوم، وقيل: الحساب هنا: المجازات.
وقيل: معنى الآية: سريع مجيء يوم الحساب، فيكون المقصد بالآية الإنذار بيوم القيامة.
[2.203-205]
وقوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودت }. أمر الله سبحانه بذكره في الايام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصلوات.
قال مالك: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال الشافعي، ومشهور مذهب مالك، أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات.
ومن خواص التكبير وبركته ما رواه ابن السني، بسنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا رأيتم الحريق، فكبروا؛ فإن التكبير يطفئه "
انتهى من «حلية النووي».
وقوله تعالى: { فمن تعجل في يومين... } الآية: قال ابن عباس وغيره: المعنى: من نفر اليوم الثاني من الأيام المعدودات، فلا حرج عليه، ومن تأخر إلى الثالث، فلا إثم عليه، كل ذلك مباح؛ إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس، فنزلت الآية رافعة للجناح قلت: وأهل مكة في التعجيل كغيرهم على الأصح.
ثم أمر سبحانه بالتقوى، وذكر بالحشر، والوقوف بين يديه.
وقوله تعالى: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا... } الآية.
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق: أظهر الإسلام، ثم هرب، فمر بقوم من المسلمين، فأحرق لهم زرعا، وقتل حمرا.
قال: * ع *: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، قلت: وفي ما قاله: * ع *: نظر، ولا يلزم من عدم ثبوته عنده ألا يثبت عند غيره، وقد ذكر أحمد بن نصر الداوودي في تفسيره؛ أن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق. انتهى، وسيأتي للطبري نحوه.
وقال قتادة، وجماعة: نزلت هذه الآية في كل مبطن كفر، أو نفاق، أو كذب، أو ضرار، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، ومعنى: { ويشهد الله } ، أي: يقول: الله يعلم أني أقول حقا، والألد: الشديد الخصومة الذي يلوي الحجج في كل جانب، فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي.
وعنه صلى الله عليه وسلم:
" أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ".
و { تولى } و { سعى }: يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكونا فعل قلب، فيجيء «تولى» بمعنى: ضل وغضب وأنف في نفسه، فسعى بحيله وإدارته الدوائر على الإسلام؛ نحا هذا المنحى في معنى الآية ابن جريج، وغيره.
والمعنى الثاني: أن يكونا فعل شخص، فيجيء «تولى» بمعنى: أدبر ونهض وسعى، أي: بقدميه، فقطع الطريق وأفسدها، نحا هذا المنحى ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى: { ويهلك الحرث والنسل }: قال الطبري: المراد الأخنس في إحراقه الزرع، وقتله الحمر؛
قال: * ع *: والظاهر أن الآية عبارة عن مبالغته في الإفساد.
و { لا يحب الفساد } معناه: لا يحبه من أهل الصلاح، أو لا يحبه دينا، وإلا فلا يقع إلا ما يحب الله وقوعه، والفساد: واقع، وهذا على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة.
قال: * ع *: والحب له على الإرادة مزية إيثار؛ إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته.
[2.206-210]
وقوله تعالى: { وإذا قيل له اتق الله... } الآية: هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوا، ويحذر المؤمن أن يوقعه الحرج في نحو هذا، وقد قال بعض العلماء: كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه: اتق الله، فيقول له: عليك نفسك، مثلك يوصيني. قلت: قال أحمد بن نصر الداوودي: عن ابن مسعود: من أكبر الذنب أن يقال للرجل: اتق الله، فيقول: عليك نفسك، أنت تأمرني. انتهى.
و { العزة } هنا: المنعة، وشدة النفس، أي: اعتز في نفسه، فأوقعته تلك العزة في الإثم، ويحتمل المعنى: أخذته العزة مع الإثم.
و { حسبه } ، أي: كافيه، و { المهاد }: ما مهد الرجل لنفسه؛ كأنه الفراش.
وقوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه... } الآية: تتناول كل مجاهد في سبيل الله، أو مستشهد في ذاته، أو مغير منكر، وقيل: هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع عاصم بن ثابت، وخبيب، وأصحابهما، وقال عكرمة وغيره: هي في طائفة من المهاجرين، وذكروا حديث صهيب.
و { يشري }: معناه يبيع؛ ومنه
وشروه بثمن بخس
[يوسف:20]، وحكى قوم؛ أنه يقال: شرى؛ بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب؛ لأنه اشترى نفسه بماله.
وقوله تعالى: { والله رءوف بالعباد } ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية؛ كما أن قوله سبحانه: { فحسبه جهنم } تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية، ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم، وهو الإسلام، والمسالمة، وقال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب، والألف واللام في الشيطان للجنس.
و { عدو }: يقع للواحد، والاثنين، والجمع، وقوله تعالى: { فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينت... } الآية: أصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاعتقادات، والآراء، وغير ذلك، والمعنى: ضللتم، و { البينت } محمد صلى الله عليه وسلم وآياته، ومعجزاته، إذا كان الخطاب أولا لجماعة المؤمنين، وإذا كان الخطاب لأهل الكتاب، فالبينات ما ورد في شرائعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتعريف به.
و { عزيز }: صفة مقتضية أنه قادر عليكم لا تعجزونه، ولا تمتنعون منه، و { حكيم } ، أي: محكم فيما يعاقبكم به لزللكم.
وقوله تعالى: { هل ينظرون } ، أي: ينتظرون، والمراد هؤلاء الذين يزلون، والظلل: جمع ظلة، وهي ما أظل من فوق، والمعنى: يأتيهم حكم الله، وأمره ، ونهيه، وعقابه إياهم.
وذهب ابن جريج وغيره؛ إلى أن هذا التوعد هو مما يقع في الدنيا، وقال قوم: بل هو توعد بيوم القيامة، وقال قوم: إلا أن يأتيهم الله وعيد بيوم القيامة.
وأما { الملئكة } ، فالوعيد بإتيانهم عند الموت؛ والغمام: أرق السحاب، وأصفاه وأحسنه، وهو الذي ظلل به بنو إسرائيل.
وقال النقاش: هو ضباب أبيض، وقضي الأمر: معناه وقع الجزاء، وعذب أهل العصيان، وقرأ معاذ بن جبل: «وقضاء الأمر».
وإلى الله ترجع الأمور: هي راجعة إليه سبحانه قبل وبعد، وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا.
[2.211-212]
وقوله سبحانه: { سل بني إسرءيل... } الآية: معنى الآية: توبيخهم على عنادهم بعد الآيات البينات، والمراد بالآية: كم جاءهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم من آية معرفة به دالة عليه، و { نعمة الله }: لفظ عام لجميع إنعامه؛ ولكن يقوي من حال النبي صلى الله عليه وسلم معهم؛ أن المشار إليه هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى: ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله، ثم جاء اللفظ منسحبا على كل مبدل نعمة لله، ويدخل في اللفظ كفار قريش، والتوراة أيضا نعمة على بني إسرائيل، فبدلوها بالتحريف لها، وجحد أمر محمد صلى الله عليه وسلم، { فإن الله شديد العقاب }: خبر يتضمن الوعيد.
وقوله تعالى: { زين للذين كفروا الحيوة الدنيا... } الآية: الإشارة إلى كفار قريش؛ لأنهم كانوا يعظمون حالهم في الدنيا، ويغتبطون بها، ويسخرون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ كبلال، وصهيب، وابن مسعود، وغيرهم، فذكر الله قبيح فعلهم، ونبه على خفض منزلتهم بقوله: { والذين اتقوا فوقهم يوم القيمة } ، ومعنى الفوقية هنا في الدرجة والقدر؛ ويحتمل أن يريد أن نعيم المتقين في الآخرة فوق نعيم هؤلاء الآن. قلت: وحكى الداوودي عن قتادة: فوقهم يوم القيامة. قال: فوقهم في الجنة. انتهى.
ومهما ذكرت الداوودي في هذا «المختصر»، فإنما أريد أحمد بن نصر الفقيه المالكي، ومن تفسيره أنا أنقل. انتهى.
فإن تشوفت نفسك أيها الأخ إلى هذه الفوقية، ونيل هذه الدرجة العلية، فارفض دنياك الدنية، وازهد فيها بالكلية؛ لتسلم من كل آفة وبلية، واقتد في ذلك بخير البريه. قال عياض في «شفاه»: فانظر - رحمك الله - سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلقه في المال، تجده قد أوتي خزائن الأرض [ومفاتيح البلاد، وأحلت له الغنائم، ولم تحل لنبي قبله، وفتح عليه في حياته صلى الله عليه وسلم بلاد الحجاز واليمن؛ وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق]، وجبيت إليه الأخماس، [وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلا بعضه]، وهادته جماعة من الملوك، فما استأثر بشيء من ذلك، ولا أمسك درهما منه، بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين، ومات صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة في نفقة عياله، واقتصر من نفقته وملبسه على ما تدعوه ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان - عليه السلام - يلبس ما وجد، فيلبس في الغالب الشملة، والكساء الخشن، والبرد الغليظ. انتهى.
[2.213-214]
وقوله تعالى: { كان الناس أمة وحدة... } الآية: قال ابن عباس: { الناس }: القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة كانوا على الحق؛ حتى اختلفوا، فبعث الله تعالى نوحا فمن بعده، وقال ابن عباس أيضا: { كان الناس أمة وحدة } ، أي: كفارا يريد في مدة نوح؛ حين بعثه الله.
وقال أبي بن كعب، وابن زيد: المراد ب { الناس } بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم، أي: كانوا على الفطرة، وقيل غير هذا، وكل من قدر الناس في الآية مؤمنين، قدر في الكلام «فاختلفوا»، وكل من قدرهم كفارا، قدر: كانت بعثة النبيين إليهم.
والأمة: الجماعة على المقصد، ويسمى الواحد أمة، إذا كان منفردا بمقصد، و { مبشرين }: معناه بالثواب على الطاعة، و { منذرين }: بالعقاب، و { الكتب }: اسم الجنس، والمعنى: جميع الكتب، و { ليحكم }: مسند إلى الكتاب؛ في قول الجمهور، والذين أوتوه أرباب العلم به، وخصوا بالذكر تنبيها منه سبحانه على عظيم الشنعة، والقبح، و { البينت }: الدلالات، والحجج، والبغي: التعدي بالباطل، وهدى: معناه أرشد، والمراد ب { الذين ءامنوا } من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالت طائفة: معنى الآية أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للتصديق بجميعها، وقالت طائفة: إن الله سبحانه هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتاب من قولهم: إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، قال زيد بن أسلم: وكاختلافهم في يوم الجمعة؛
" فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فلليهود غد، وللنصارى بعد غد، وفي صيامهم، وجميع ما اختلفوا فيه» ".
قال الفراء: وفي الكلام قلب، واختاره الطبري، قال: وتقديره: فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا، فيه ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه؛ نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء.
قال: * ع *: وادعاء القلب على كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز، وسوء نظر. وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ورصفه؛ لأن قوله: { فهدى } يقتضي أنهم أصابوا الحق، وتم المعنى في قوله: { فيه } ، وتبين بقوله: { من الحق } جنس ما وقع الخلاف فيه، و { بإذنه } قال الزجاج: معناه بعلمه.
* ع *: والإذن هو العلم، والتمكين، فإن اقترن بذلك أمر، صار أقوى من الإذن بمزية.
وقوله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم... } الآية: أكثر المفسرين أنها نزلت في قصة الأحزاب حين حصروا المدينة، وقالت فرقة: نزلت تسلية للمهاجرين، حين أصيبت أموالهم بعدهم، وفيما نالهم من أذاية الكافرين لهم.
و { خلوا }: معناه: انقرضوا، أي: صاروا في خلاء من الأرض، و { البأساء } في المال، و { الضرآء } في البدن، و { مثل }: معناه شبه، والزلزلة: شدة التحريك، تكون في الأشخاص والأحوال.
وقرأ نافع: «يقول» بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب، وحتى: غاية مجردة تنصب الفعل بتقدير «إلى أن» وعلى قراءة نافع، كأنها اقترن بها تسبيب، فهي حرف ابتداء ترفع الفعل.
وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر، لا على شك ولا ارتياب، والرسول اسم الجنس، وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: حتى يقول الذين آمنوا: متى نصر الله، فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة؛ لمكانته، ثم قدم قول المؤمنين؛ لأنه المتقدم في الزمان.
قال: * ع *: وهذا تحكم، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر، ويحتمل أن يكون: { ألا إن نصر الله قريب } إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول.
[2.215-216]
قوله تعالى: { يسئلونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير... } الآية: السائلون: هم المؤمنون، والمعنى: يسألونك، ما هي الوجوه التي ينفقون فيها؟ و «ما» يصح أن تكون في موضع رفع على الابتداء، و «ذا»: خبرها بمعنى «الذي» و «ينفقون»: صلة، و «فيه» عائد على «ذا» تقديره: ينفقونه، ويصح أن تكون «ماذا» اسما واحدا مركبا في موضع نصب.
قال قوم: هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى هذا نسخ منها الوالدان، وقال السدي: نزلت قبل فرض الزكاة، ثم نسختها آية الزكاة المفروضة، وقال ابن جريج وغيره: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، وعلى هذا لا نسخ فيها.
و { ما تفعلوا } جزم بالشرط، والجواب في الفاء، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن الوعد بالمجازات، و { كتب }: معناه فرض واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية.
وقوله تعالى: { وعسى أن تكرهوا شيئا... } الآية: قال قوم: عسى من الله واجبة، والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة، وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظهرون، وتغنمون، وتؤجرون، ومن مات، مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة، وترك القتال، وهو شر لكم في أنكم تغلبون، وتذلون، ويذهب أمركم.
قال: * ص *: قوله: { وعسى أن تحبوا شيئا } عسى هنا للترجي، ومجيئها له كثير في كلام العرب، قالوا: وكل «عسى» في القرآن للتحقيق، يعنون به الوقوع إلا قوله تعالى:
عسى ربه إن طلقكن
[التحريم:5] انتهى.
وفي قوله تعالى: { والله يعلم... } الآية - قوة أمر.
[2.217-218]
وقوله تعالى: { يسئلونك عن الشهر الحرام... } الآية نزلت في قصة عمرو بن الحضرمي،
" وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي مقدمه من بدر الأولى، فلقوا عمرو بن الحضرمي، ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل المخزوميان، والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما قاله ابن إسحاق، وقالوا: إن تركناهم اليوم، دخلوا الحرم، فأزمعوا قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي بسهم، فقتله، وأسر عثمان بن عبد الله، والحكم، وفر نوفل، فأعجزهم، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام؛ خوف فوتهم، فقالت قريش: محمد قد استحل الأشهر الحرم، وعيروا بذلك، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم» "
فنزلت هذه الآية، و { قتال } بدل اشتمال عند سيبويه.
وقال الفراء: هو مخفوض بتقدير «عن» وقرىء به، والشهر في الآية اسم الجنس، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما، ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب، وروى جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى، فذلك قوله تعالى: { قل قتال فيه كبير وصد }: مبتدأ مقطوع مما قبله، والخبر «أكبر»، ومعنى الآية؛ على قول الجمهور: إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، وكفركم بالله، وإخراجكم أهل المسجد عنه؛ كما فعلتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أكبر جرما عند الله.
قال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله تعالى: { قل قتال فيه كبير } منسوخ.
* ص *: وسبيل الله: دينه، و { المسجد }: قراءة الجمهور بالخفض، قال المبرد، وتبعه ابن عطية وغيره: هو معطوف على { سبيل الله }؛ ورد بأنه حينئذ يكون متعلقا ب «صد»، أي: وصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، فيلزم الفصل بين المصدر، وهو «صد» وبين معموله، وهو «المسجد» بأجنبي، وهو: «وكفر به»، ولا يجوز.
وقيل: معطوف على ضمير «به»، أي: وكفر به، وبالمسجد؛ ورد بأن فيه عطفا على الضمير المجرور من غير إعادة الخافض؛ ولا يجوز عند جمهور البصريين، وأجازه الكوفيون، ويونس، وأبو الحسن والشلوبين، والمختار جوازه؛ لكثرته سماعا؛ ومنه قراءة حمزة:
تساءلون به والأرحام
[النساء:1] أي: وبالأرحام، وتأويلها على غيره بعيد يخرج الكلام عن فصاحته. انتهى.
وقوله تعالى: { والفتنة أكبر من القتل }: المعنى عند جمهور المفسرين: والفتنة التي كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام، وقيل: المعنى والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون.
وقوله تعالى: { ولا يزالون يقتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } هو ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين.
وقوله تعالى: { ومن يرتدد } ، أي: يرجع عن الإسلام إلى الكفر؛ عياذا بالله، قالت طائفة من العلماء: يستتاب المرتد ثلاثة أيام، فإن تاب، وإلا قتل، وبه قال مالك، وأحمد، وأصحاب الرأي، والشافعي في أحد قوليه، وفي قول له: يقتل دون استتابة، وحبط العمل، إذا انفسد في آخره، فبطل، وميراث المرتد عند مالك والشافعي: في بيت مال المسلمين.
وقوله تعالى: { إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله... } الآية: قال عروة بن الزبير وغيره: لما عنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه، شق ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية، ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكره الله عز وجل.
وهاجر الرجل، إذا انتقل نقلة إقامة من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني، وهي مفاعلة من هجر، وجاهد مفاعلة من جهد، إذا استخرج الجهد، و { يرجون }: معناه يطمعون ويستقربون، والرجاء تنعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد، كما أن الخوف معه رجاء.
* ت *: والرجاء ما قارنه عمل، وإلا فهو أمنية.
[2.219-220]
قوله تعالى: { يسئلونك عن الخمر والميسر... } الآية: السائلون هم المؤمنون، والخمر: مأخوذ من خمر، إذا ستر؛ ومنه: خمار المرأة، والخمر: ما واراك من شجر وغيره، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
ألا يا زيد والضحاك سيرا
فقد جاوزتما خمر الطريق
ولما كانت الخمر تستر العقل، وتغطي عليه، سميت بذلك، وأجمعت الأمة على تحريم خمر العنب، ووجوب الحد في القليل والكثير منه، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب محرم قليله وكثيره، والحد في ذلك واجب.
وروي أن هذه الآية أول تطرق إلى تحريم الخمر، ثم بعده:
لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى
[النساء:43] ثم { إنما يريد الشيطن أن يوقع بينكم } إلى قوله:
فهل أنتم منتهون
[المائدة:91] ثم قوله تعالى:
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطن فاجتنبوه
[المائدة:90] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" حرمت الخمر "
، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين، خرجه مسلم، وأبو داود، وروي عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه ضرب فيها ضربا مشاعا، وحزره أبو بكر أربعين سوطا، وعمل بذلك هو، ثم عمر ثم تهافت الناس فيها، فشدد عليهم الحد، وجعله كأخف الحدود ثمانين؛ وبه قال مالك.
ويجتنب من المضروب: الوجه، والفرج، والقلب، والدماغ، والخواصر؛ بإجماع.
قال ابن سيرين، والحسن، وابن عباس، وابن المسيب، وغيرهم: كل قمار ميسر؛ من نرد وشطرنج، ونحوه، حتى لعب الصبيان بالجوز.
* ت *: وعبارة الداوودي: وعن ابن عمر: الميسر القمار كله، قال ابن عباس: كل ذلك قمار؛ حتى لعب الصبيان بالجوز، والكعاب. انتهى.
وقوله تعالى: { قل فيهما إثم كبير ومنفع للناس... } الآية: قال ابن عباس، والربيع: الإثم فيهما بعد التحريم، والمنفعة قبله.
وقال مجاهد: المنفعة بالخمر كسب أثمانها، وقيل: اللذة بها إلى غير ذلك من أفراحها، ثم أعلم الله عز وجل؛ أن الإثم أكبر من النفع، وأعود بالضرر في الآخرة، فهذا هو التقدمة للتحريم.
وقوله تعالى: { ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو } قال جمهور العلماء: هذه نفقات التطوع، والعفو مأخوذ من عفا الشيء، إذا كثر، فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم، فتكونوا عالة على الناس.
وقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم الآيت لعلكم تتفكرون }: الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من الخمر والميسر، والإنفاق، وأخبر تعالى؛ أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريق النجاة لمن نفعته فكرته.
قال الداوودي: وعن ابن عباس: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، يعني: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. انتهى.
قال الغزالي - رحمه الله - تعالى: العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة في لحظة؛ فإنها مصيره ومستقره، فيكون له في كل ما يراه من ماء، أو نار، أو غيرهما عبرة؛ فإن نظر إلى سواد، ذكر ظلمة اللحد، وإن نظر إلى صورة مروعة، تذكر منكرا ونكيرا والزبانية، وإن سمع صوتا هائلا، تذكر نفخة الصور، وإن رأى شيئا حسنا، تذكر نعيم الجنة، وإن سمع كلمة رد أو قبول، تذكر ما ينكشف له من آخر أمره بعد الحساب؛ من رد أو قبول، ما أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل، لا يصرفه عنه إلا مهمات الدنيا، فإذا نسب مدة مقامه في الدنيا إلى مدة مقامه في الآخرة، استحقر الدنيا إن لم يكن أغفل قلبه، وأعميت بصيرته.
انتهى من «الإحياء».
وقوله تعالى: { ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير }: قال ابن عباس، وسعيد بن المسيب: سبب الآية أن المسلمين لما نزلت:
ولا تقربوا مال اليتيم
[الأنعام:152] و[الإسراء:34] ونزلت:
إن الذين يأكلون أمول اليتمى ظلما
[النساء:10] تجنبوا اليتامى وأموالهم، وعزلوهم عن أنفسهم، فنزلت: { وإن تخالطوهم فإخونكم... } الآية، وأمر الله سبحانه نبيه؛ أن يجيب بأن من قصد الإصلاح في مال اليتيم، فهو خير، فرفع تعالى المشقة، وأباح الخلطة في ذلك إذا قصد الإصلاح، ورفق اليتيم.
وقوله سبحانه: { والله يعلم المفسد من المصلح }: تحذير.
وقوله تعالى: { ولو شآء الله لأعنتكم } ، أي: لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى، والعنت: المشقة، ومنه عقبة عنوت؛ ومنه: عنت العزبة، و { عزيز }: مقتضاه لا يرد أمره، و { حكيم }: أي: محكم ما ينفذه.
[2.221]
وقوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركت حتى يؤمن } ونكح: أصله في الجماع، ويستعمل في العقد تجوزا.
قالت طائفة: المشركات هنا: من يشرك مع الله إلها آخر.
وقال قتادة وابن جبير: الآية عامة في كل كافرة ، وخصصتها آية المائدة، ولم يتناول العموم قط الكتابيات، وقال ابن عباس، والحسن: تناولهن العموم، ثم نسخت آية المائدة بعض العموم في الكتابيات، وهو مذهب مالك - رحمه الله - ذكره ابن حبيب.
وقوله تعالى: { ولأمة مؤمنة خير من مشركة... } الآية. هذا إخبار من الله سبحانه أن المؤمنة المملوكة خير من المشركة، وإن كانت ذات الحسب والمال، ولو أعجبتكم في الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره.
وقوله سبحانه: { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا... } الآية: أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام.
قال بعض العلماء: إن الولاية في النكاح نص في هذه الآية، قلت: ويعني ببعض العلماء محمد بن علي بن حسين، قاله ابن العربي. انتهى.
ولعبد مؤمن مملوك خير من مشرك حسيب، ولو أعجبكم حسنه وماله؛ حسبما تقدم.
قال: * ع *: وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكر العبد والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم؛ إذ هم كلهم عبيده سبحانه.
وقوله تعالى: { أولئك يدعون إلى النار } ، أي: بصحبتهم، ومعاشرتهم، والانحطاط في كثير من أهوائهم، والله عز وجل ممن بالهداية، ويبين الآيات، ويحض على الطاعات التي هي كلها دواع إلى الجنة، والإذن: العلم والتمكين، فإن انضاف إلى ذلك أمر، فهو أقوى من الإذن؛ لأنك إذا قلت: أذنت في كذا، فليس يلزمك أنك أمرت، و { لعلهم }: ترج في حق البشر، ومن تذكر، عمل حسب التذكر، فنجا.
[2.222]
قوله تعالى: { ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى } قال الطبري عن السدي: إن السائل ثابت بن الدحداح، وقال قتادة وغيره: إنما سألوه؛ لأن العرب في المدينة وما والاها، كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مواكلة الحائض، ومساكنتها، فنزلت الآية.
وقوله تعالى: { فاعتزلوا النسآء في المحيض } يريد: جماعهن بما فسر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تشد الحائض إزارها، ثم شأنه بأعلاها.
قال أحمد بن نصر الداوودي: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" اتقوا النساء في المحيض؛ فإن الجذام يكون من أولاد المحيض "
انتهى.
قوله تعالى: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } ، وقرأ حمزة وغيره «يطهرن»؛ بتشديد الطاء والهاء، وفتحهما، وكل واحدة من القراءتين يحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدم، وزوال أذاه، قال ابن العربي في «أحكامه»: سمعت أبا بكر الشاشي يقول: إذا قيل: لا تقرب؛ بفتح الراء، كان معناه: لا تلتبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء، كان معناه لا تدن منه. انتهى.
وجمهور العلماء على أن وطأها في الدم ذنب عظيم يتاب منه، ولا كفارة فيه بمال، وجمهورهم على أن الطهر الذي يحل جماع الحائض، هو بالماء؛ كطهر الجنب، ولا يجزىء من ذلك تيمم ولا غيره.
وقوله تعالى: { فإذا تطهرن... } الآية: الخلاف فيها كما تقدم، وقال مجاهد وجماعة: { تطهرن } ، أي: اغتسلن بالماء بقرينة الأمر بالإتيان؛ لأن صيغة الأمر من الله تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل، و { فأتوهن }: أمر بعد الحظر يقتضي الإباحة، والمعنى: من حيث أمركم الله باعتزالهن، وهو الفرج، أو من السرة إلى الركبة؛ على الخلاف في ذلك، وقال ابن عباس: المعنى: من قبل الطهر، لا من قبل الحيض، وقيل: المعنى من قبل حال الإباحة، لا صائمات ولا محرمات، ولا غير ذلك، والتوابون: الرجاعون، وعرفه من الشر إلى الخير، والمتطهرون: قال عطاء وغيره: المعنى: بالماء، وقال مجاهد وغيره: المعنى: من الذنوب.
[2.223]
وقوله تعالى: { نساؤكم حرث لكم... } الآية: مبيحة لهيئات الإتيان كلها، إذا كان الوطء في موضع الحرث، ولفظة «الحرث» تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة؛ إذ هو المزدرع.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وفي سبب نزول هذه الآية روايات:
الأولى: عن جابر، قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأة في قبلها من دبرها، جاء الولد أحول، فنزلت الآية، وهذا حديث صحيح خرجه الأئمة.
الثانية: قالت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { نساؤكم حرث لكم }: قال:
" يأتيها مقبلة ومدبرة، إذا كان في صمام واحد "
خرجه مسلم، وغيره.
الثالثة: ما روى الترمذي
" أن عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: هلكت، قال: «وما أهلكك؟ قال: حولت البارحة رحلي، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، حتى نزلت: { نسآؤكم حرث لكم } أقبل وأدبر، واتق الدبر» "
انتهى.
قال: * ع *: و { أنى شئتم }: معناه عند جمهور العلماء: من أي وجه شئتم؛ مقبلة، ومدبرة، وعلى جنب. قال:
* ع *: وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصنف النسائي وفي غيره؛ أنه قال:
" إتيان النساء في أدبارهن حرام "
، وورد عنه فيه، أنه قال:
" ملعون من أتى امرأة في دبرها "
، وورد عنه، أنه قال:
" من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب محمد "
، وهذا هو الحق المتبع، ولا ينبغي لمؤمن بالله أن يعرج بهذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه، والله المرشد لا رب غيره.
وقوله جلت قدرته: { وقدموا لأنفسكم }.
قال السدي: معناه: قدموا الأجر في تجنب ما نهيتم عنه، وامتثال ما أمرتم به - { واتقوا الله }: تحذير - { واعلموا أنكم ملقوه }: خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي: فهو مجازيكم على البر والإثم { وبشر المؤمنين }: تأنيس لفاعلي البر، ومتبعي سنن الهدى.
[2.224-225]
قوله تعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمنكم... } الآية: مقصد الآية: ولا تعرضوا اسم الله تعالى، فتكثروا الأيمان به، فإن الحنث يقع مع الإكثار، وفيه قلة رعي لحق الله تعالى.
وقال الزجاج وغيره: معنى الآية: أن يكون الإنسان، إذا طلب منه فعل خير ونحوه، اعتل بالله، وقال: علي يمين، وهو لم يحلف.
وقوله: { عرضة } ، قال ابن العربي في «أحكامه»: اعلم أن بناء عرض في كلام العرب يتصرف على معان مرجعها إلى المنع؛ لأن كل شيء عرض، فقد منع، ويقال لما عرض في السماء من السحاب عارض؛ لأنه يمنع من رؤيتها، ومن رؤية البدرين، والكواكب. انتهى.
و { أن تبروا }: مفعول من أجله، والبر: جميع وجوه البر، وهو ضد الإثم - و { سميع } ، أي: لأقوال العباد - { عليم }: بنياتهم، وهو مجاز على الجميع، واليمين: الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت، أو تعاهدت، أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه ، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا.
وقوله تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمنكم }: اللغو: سقط الكلام الذي لا حكم له.
قال ابن عباس، وعائشة، والشعبي، وأبو صالح، ومجاهد: لغو اليمين: قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين، وقد أسنده البخاري عن عائشة.
وقال أبو هريرة، والحسن، ومالك، وجماعة: لغو اليمين: ما حلف به الرجل على يقينه، فكشف الغيب خلاف ذلك.
* ع *: وهذا اليقين هو غلبة الظن.
وقال زيد بن أسلم: لغو اليمين: هو دعاء الرجل على نفسه.
وقال الضحاك: هي اليمين المكفرة.
وحكى ابن عبد البر قولا؛ أن اللغو أيمان المكره.
قال: * ع *: وطريقة النظر أن تتأمل لفظة اللغو، ولفظة الكسب، ويحكم موقعهما في اللغة، فكسب المرء ما قصده، ونواه، واللغو: ما لم يتعمده، أو ما حقه لهجنته أن يسقط، فيقوى على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة، ويضعف بعضها، وقد رفع الله عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقته: ما لا إثم فيه، ولا كفارة، والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة؛ لأن المؤاخذة قد وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة؛ بأنها في الآخرة فقط تحكم.
* ت *: والقول الأول أرجح، وعليه عول اللخمي وغيره.
وقوله تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }.
قال ابن عباس وغيره: ما كسب القلب هي اليمين الكاذبة الغموس، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة، أي: ولا تكفر.
* ع *: وسميت الغموس؛ لأنها غمست صاحبها في الإثم، و { غفور حليم }: صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة.
[2.226-227]
وقوله تعالى: { للذين يؤلون من نسآئهم... } الآية: { يؤلون }: معناه يحلفون، والإيلاء: اليمين.
واختلف من المراد بلزوم حكم الإيلاء. فقال مالك: هو الرجل يغاضب امرأته، فيحلف بيمين يلحق عن الحنث فيها حكم ألا يطأها؛ ضررا منه، أكثر من أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه، وقال به عطاء وغيره.
وقوله تعالى: { من نسآئهم } يدخل فيه الحرائر والإماء، إذا تزوجن، والتربص: التأني والتأخر، وأربعة أشهر؛ عند مالك، وغيره: للحر، وشهران: للعبد.
وقال الشافعي: هو كالحر، و { فآءو }: معناه: رجعوا؛ ومنه:
حتى تفيء إلى أمر الله
[الحجرات:9] أمر الله: قال الجمهور: وإذا فاء، كفر، والفيء؛ عند مالك: لا يكون إلا بالوطء، أو بالتكفير في حال العذر.
[2.228]
قوله تعالى: { والمطلقت يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء } حكم هذه الآية قصد الاستبراء، لا أنه عبادة؛ ولذلك خرجت منه من لم يبن بها؛ بخلاف عدة الوفاة التي هي عبادة والقرء؛ في اللغة: الوقت المعتاد تردده، فالحيض يسمى على هذا قرءا، وكذلك يسمى الطهر قرءا.
واختلف في المراد بالقروء هنا: فقال عمر وجماعة كثيرة: المراد بالقروء، في الآية: الحيض، وقالت عائشة وجماعة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم: المراد: الأطهار، وهو قول مالك.
واختلف المتأولون في قوله: { ما خلق الله في أرحامهن }.
فقال ابن عمر، ومجاهد، وغيرهما: هو الحيض، والحبل جميعا، ومعنى النهي عن الكتمان: النهي عن الإضرار بالزوج في إلزامه النفقة، وإذهاب حقه في الارتجاع، فأمرن بالصدق نفيا وإثباتا، وقال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل؛ ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية.
وقال ابن عباس: إن المراد الحبل، والعموم راجح، وفي قوله تعالى: { ولا يحل لهن } ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر، ولو كان الاستقصاء مباحا، لم يمكن كتم.
وقوله سبحانه: { إن كن يؤمن بالله... } الآية: أي: حق الإيمان، وهذا كما تقول: إن كنت حرا، فانتصر، وأنت تخاطب حرا، والبعل: الزوج، ونص الله تعالى بهذه الآية على أن للزوج أن يرتجع امرأته المطلقة، ما دامت في العدة، والإشارة بذلك إلى المدة بشرط أن يريد الإصلاح، دون المضارة؛ كما تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن، وقوله تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن... } الآية: تعم جميع حقوق الزوجية.
وقوله تعالى: { وللرجال عليهن درجة } قال مجاهد: هو تنبيه على فضل حظه على حظها في الميراث، وما أشبهه، وقال زيد بن أسلم: ذلك في الطاعة؛ عليها أن تطيعه، وليس عليه أن يطيعها، وقال ابن عباس: تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجل على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي: أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه، وهو قول حسن بارع.
[2.229]
وقوله تعالى: { الطلق مرتان... } الآية: قال عروة بن الزبير وغيره: نزلت هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، وقال ابن عباس وغيره: المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، وأن من طلق اثنتين، فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها.
* ع *: والآية تتضمن هذين المعنيين.
* ص *: الطلاق: مبتدأ؛ على حذف مضاف، أي: عدد الطلاق، ومرتان: خبره. انتهى.
والإمساك بالمعروف: هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة، والتسريح: يحتمل لفظه معنيين:
أحدهما: تركها تتم العدة من الثانية، وتكون أملك بنفسها، وهذا قول السدي، والضحاك.
والمعنى الآخر: أن يطلقها ثالثة، فيسرحها بذلك، وهذا قول مجاهد، وعطاء، وغيرهما، وإمساك: مرتفع بالابتداء والخبر أمثل أو أحسن.
وقوله تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ ءاتيتموهن شيئا... } الآية: خطاب للأزواج، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئا؛ على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بأن لا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم؛ لأنه عرف الناس عند الشقاق والفساد أن يطلبوا ما خرج من أيديهم، وحرم الله تعالى على الزوج في هذه الآية أن يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد، وحدود الله في هذا الموضع هي ما يلزم الزوجين من حسن العشرة، وحقوق العصمة.
وقوله تعالى: { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله }: المخاطبة للحكام والمتوسطين لهذا الأمر، وإن لم يكونوا حكاما، وترك إقامة حدود الله: هو استخفاف المرأة بحق زوجها، وسوء طاعتها إياه؛ قاله ابن عباس، ومالك، وجمهور العلماء.
وقال الشعبي: { ألا يقيما حدود الله }: معناه: ألا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة.
وقوله تعالى: { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } إباحة للفدية، وشركها في ارتفاع الجناح؛ لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها حيث لا يجوز له أخذه، وهي تقدر على المخاصمة.
قال ابن عباس، وابن عمر، ومالك، وأبو حنيفة، وغيرهم: مباح للزوج أن يأخذ من المرأة في الفدية جميع ما تملكه؛ وقضى بذلك عمر بن الخطاب.
وقال طاوس، والزهري، والحسن، وغيرهم: لا يجوز له أن يزيد على المهر الذي أعطاها، وقال ابن المسيب: لا أرى أن يأخذ منها كل مالها، ولكن ليدع لها شيئا.
وقوله تعالى: { تلك حدود الله... } الآية: أي: هذه الأوامر والنواهي، فلا تتجاوزوها، ثم توعد تعالى على تجاوز الحد بقوله: { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظلمون } ، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الظلم ظلمات يوم القيامة ".
[2.230-232]
قوله تعالى: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد... } الآية: قال ابن عباس وغيره: هو ابتداء الطلقة الثالثة؛ قال: * ع *: فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم، عدتها من الثانية، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح
" في امرأة رفاعة، حين تزوجت عبد الرحمن بن الزبير، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة، لا؛ حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته "
؛ فرأى العلماء أنه لا يحلها إلا الوطء. وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن، قال: لا يحلها إلا الإنزال، وهو ذوق العسيلة، والذي يحلها عند مالك النكاح الصحيح، والوطء المباح.
وقوله تعالى: { فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود الله... } الآية: المعنى: فإن طلقها المتزوج الثاني، فلا جناح عليهما، أي: المرأة والزوج الأول. قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه، والظن هنا على بابه من تغليب أحد الجائزين، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفا.
وقوله تعالى: { وإذا طلقتم النسآء... } الآية: خطاب للرجال، نهي الرجل أن يطول العدة، مضارة لها؛ بأن يرتجع قرب انقضائها، ثم يطلق بعد ذلك؛ قاله الضحاك وغيره، ولا خلاف فيه.
ومعنى: { بلغن أجلهن }: قاربن؛ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، ومعنى : أمسكوهن راجعوهن - و { بمعروف }: قيل: هو الإشهاد - { ولا تمسكوهن } ، أي: لا تراجعوهن { ضرارا } ، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: { ولا تتخذوا آيت الله هزوا... } الآية: المراد بآياته النازلة في الأوامر والنواهي، وقال الحسن: نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا أو هازئا، أو راجع كذلك.
وقالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة ".
ثم ذكر الله عباده بإنعامه سبحانه عليهم بالقرآن، والسنة، و { الحكمة }: هي السنة المبينة مراد الله سبحانه.
وقوله تعالى: { وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن... } الآية: خطاب للمؤمنين الذين منهم الأزواج، ومنهم الأولياء؛ لأنهم المراد في تعضلوهن، وبلوغ الأجل في هذا الموضع تناهيه؛ لأن المعنى يقتضي ذلك.
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى: إن المراد ب { تعضلوهن }: الأزواج؛ وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة؛ عضلا عن نكاح الغير، فقوله: { أزوجهن }؛ على هذا، يعني به: الرجال؛ إذ منهم الأزواج، وعلى أن المراد ب { تعضلوهن } الأولياء، فالأزواج هم الذين كن في عصمتهم.
«والعضل»: المنع وهو من معنى التضييق والتعسير؛ كما يقال: أعضلت الدجاجة، إذا عسر بيضها، والداء العضال: العسير البرء، وقيل: نزلت هذه الآية في معقل بن يسار، وأخته، لما طلقها زوجها، وتمت عدتها، أراد ارتجاعها، فمنعه ولي المرأة، وقيل: نزلت في جابر بن عبد الله، وأخته.
وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليته، وقوله: { بالمعروف }: معناه: المهر، والإشهاد.
وقوله تعالى: { ذلك يوعظ به من كان منكم } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم رجوع إلى خطاب الجماعة، والإشارة في { ذلكم أزكى } إلى ترك العضل، و { أزكى... وأطهر }: معناه: أطيب للنفس، وأطهر للعرض والدين؛ بسبب العلاقات التي تكون بين الأزواج، وربما لم يعلمها الولي، فيؤدي العضل إلى الفساد، والمخالطة؛ على ما لا ينبغي، والله تعالى يعلم من ذلك ما لا يعلم البشر.
[2.233]
قوله تعالى: { والولدت يرضعن أولدهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } { يرضعن أولدهن }: خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى الندب لبعضهن، فيجب على الأم الإرضاع، إن كانت تحت أبيه، أو رجعية، ولا مانع من علو قدر بغير أجر، وكذلك إن كان الأب عديما، أو لم يقبل الولد غيرها.
وهذه الآيات في المطلقات جعلها الله حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع، فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين، فذلك له.
وقوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } مبني على أن الحولين ليسا بفرض، لا يتجاوز، وانتزع مالك - رحمه الله - وجماعة من العلماء من هذه الآية؛ أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب، إنما هي ما كان في الحولين؛ لأن بانقضاء الحولين، تمت الرضاعة، فلا رضاعة.
* ت *: فلو كان رضاعه بعد الحولين بمدة قريبة، وهو مستمر الرضاع، أو بعد يومين من فصاله - اعتبر، إذ ما قارب الشيء فله حكمه. انتهى.
وقوله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن... } الاية: المولود له: اسم جنس، وصنف من الرجال، والرزق في هذا الحكم: الطعام الكافي.
وقوله: «بالمعروف» يجمع حسن القدر في الطعام، وجودة الأداء له، وحسن الاقتضاء من المرأة.
ثم بين سبحانه؛ أن الإنفاق على قدر غنى الزوج بقوله: { لا تكلف نفس إلا وسعها } ، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، وأبان عن عاصم: «لا تضار والدة»؛ بضم الراء، وهو خبر، معناه الأمر، ويحتمل أن يكون الأصل: لا تضارر؛ بكسر الراء الأولى، ف «والدة» فاعلة، ويحتمل بفتح الراء الأولى، ف «والدة»: مفعول لم يسم فاعله، ويعطف «مولود له» على هذا الحد في الاحتمالين، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وعاصم: لا تضار؛ بفتح الراء، وهذا على النهي، ويحتمل أصله ما ذكرنا في الأولى، ومعنى الآية في كل قراءة: النهي عن الإضرار، ووجوه الضرر لا تنحصر، وكل ما ذكر منها في التفاسير، فهو مثال.
* ت *: وفي الحديث:
" لا ضرر، ولا ضرار "
، رواه مالك في «الموطإ» مرسلا.
قال النووي في «الحلية»: ورويناه في «سنن الدارقطني» وغيره من طرق متصلا، وهو حسن انتهى.
وقوله تعالى: { وعلى الوارث مثل ذلك } قال مالك، وجميع أصحابه، والشعبي، والزهري، وجماعة من العلماء: المراد بقوله: { مثل ذلك }: ألا يضار، وأما الرزق، والكسوة، فلا شيء عليه منه، قال: * ع *: فالإجماع من الأمة في ألا يضار الوارث، وإنما الخلاف، هل عليه رزق وكسوة أم لا؟
وقوله تعالى: { فإن أرادا فصالا... } الآية: أي: فإن أراد الوالدان، وفصالا: معناه: فطاما عن الرضاع.
وتحرير القول في هذا: أن فصله قبل الحولين لا يصح إلا بتراضيهما وألا يكون على المولود ضرر، وأما بعد تمامهما، فمن دعا إلى الفصل، فذلك له إلا أن يكون في ذلك على الصبي ضرر.
وقوله تعالى: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولدكم } مخاطبة لجميع الناس، يجمع الآباء والأمهات، أي: لهم اتخاذ الظئر، مع الاتفاق على ذلك، وأما قوله: { إذا سلمتم } ، فمخاطبة للرجال خاصة إلا على أحد التأويلين في قراءة من قرأ: «أوتيتم»، وقرأ الستة من السبعة: «آتيتم»؛ بالمد؛ بمعنى أعطيتم، وقرأ ابن كثير: «أتيتم»؛ بمعنى: فعلتم؛ كما قال زهير: [الطويل]
وما كان من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
فأحد التأويلين في هذه القراءة كالأول، والتأويل الثاني لقتادة، وهو إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع، أي: سلم كل واحد من الأبوين، ورضي، وكان ذلك على اتفاق منهما، وقصد خير، وإرادة معروف، وعلى هذا الاحتمال يدخل النساء في الخطاب.
* ت *: وفي هذا التأويل تكلف.
وقال سفيان: المعنى: إذا سلمتم إلى المسترضعة، وهي الظئر أجرها بالمعروف.
وباقي الآية أمر بالتقوى، وتوقيف على أن الله تعالى بصير بكل عمل، وفي هذا وعيد وتحذير، أي: فهو مجاز بحسب عملكم.
[2.234]
وقوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا يتربصن بأنفسهن } هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم، ومعناها الخصوص في الحرائر غير الحوامل، ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة ونحوها، وعدة الحامل: وضع حملها؛ عند الجمهور.
وروي عن علي، وابن عباس: أقصى الأجلين، ويتربصن: خبر يتضمن معنى الأمر، والتربص: الصبر والتأني.
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة أن التربص بإحداد، وهو الامتناع عن الزينة، ولبس المصبوغ الجميل، والطيب، ونحوه، والتزام المبيت في مسكنها؛ حيث كانت وقت وفاة الزوج، وهذا قول جمهور العلماء، وهو قول مالك، وأصحابه ، وجعل الله تعالى { أربعة أشهر وعشرا } عبادة في العدة فيها استبراء للحمل؛ إذ فيها تكمل الأربعون، والأربعون، والأربعون؛ حسب الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره، ثم ينفخ الروح، وجعل تعالى العشر تكملة؛ إذ هي مظنة لظهور الحركة بالجنين، وذلك لنقص الشهور، أو كمالها، أو لسرعة حركة الجنين، أو إبطائها.
قاله ابن المسيب، وغيره.
وقال تعالى: { وعشرا }؛ تغليبا لحكم الليالي، وقرأ ابن عباس: «وعشر ليال»، قال جمهور العلماء: ويدخل في ذلك اليوم العاشر.
وقوله تعالى: { فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير }: { فيما فعلن }: يريد به التزوج، فما دونه من زينة، واطراح الإحداد؛ قاله مجاهد وغيره، إذا كان معروفا غير منكر.
قال: * ع *: ووجوه المنكر كثيرة، وقوله سبحانه: { والله بما تعملون خبير } وعيد يتضمن التحذير، و { خبير }: اسم فاعل من «خبر»، إذا تقصى علم الشيء.
[2.235]
وقوله تعالى: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النسآء... } الآية: تصريح خطبة المعتدة حرام، والتعريض جائز، وهو الكلام الذي لا تصريح فيه، { أو أكننتم }: معناه: سترتم، وأخفيتم.
وقوله تعالى: { ستذكرونهن } قال الحسن: معناه: ستخطبونهن، وقال غيره: معناه: علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم، فنهى عن أن يوصل إلى التواعد معهن.
* ع *: والسر، في اللغة: يقع على الوطء حلاله وحرامه، والآية تعطي النهي عن أن يواعد الرجل المعتدة؛ أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج، وقال ابن جبير: { سرا } ، أي: نكاحا، وهذه عبارة مخلصة.
وأجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة.
وقوله تعالى: { إلا أن تقولوا قولا معروفا } استثناء منقطع، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض؛ كقول الرجل: إنكم لأكفاء كرام، وما قدر كان، ونحو هذا.
وقوله تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتب أجله }: عزم العقدة: عقدها بالإشهاد، والولي، وحينئذ: تسمى عقدة.
* ت *: والظاهر أن العزم غير العقد، وقوله تعالى: { حتى يبلغ الكتب أجله }: يريد تمام العدة، والكتاب هنا هو الحد الذي جعل، والقدر الذي رسم من المدة، وقوله: { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه... } الآية: تحذير من الوقوع فيما نهى عنه، وتوقيف على غفره وحلمه.
[2.236-237]
وقوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } هذا ابتداء إخبار برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم يفرض، ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق، وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج، طلبا للعصمة، والتماس ثواب الله، وقصد دوام الصحبة، وقع في نفوس المؤمنين؛ أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.
وقال قوم: { لا جناح عليكم }: معناه: لا طلب لجميع المهر، بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها، والمتعة لمن لم يفرض لها، وفرض المهر: إثباته، وتحديده، وهذه الآية تعطي جواز العقد على التفويض؛ لأنه نكاح مقرر في الآية، مبين حكم الطلاق فيه؛ قاله مالك في «المدونة».
والفريضة: الصداق.
وقوله تعالى: { ومتعوهن }. أي: أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن، وحمله ابن عمر وغيره على الوجوب، وحمله مالك وغيره على الندب، واختلف الناس في مقدار المتعة، قال الحسن: يمتع كل على قدره، هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب، وهذا بنفقة، وكذلك يقول مالك.
وقوله تعالى: { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }: دليل على رفض التحديد، والموسع: أي: من اتسع حاله، والمقتر: المقل القليل المال، و { متعا }: نصب على المصدر.
وقوله تعالى: { بالمعروف } ، أي: لا حمل فيه، ولا تكلف على أحد الجانبين، فهو تأكيد لمعنى قوله: { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } ، ثم أكد تعالى الندب بقوله: { حقا على المحسنين } ، أي: في هذه النازلة من التمتيع هم محسنون، ومن قال؛ بأن المتعة واجبة، قال: هذا تأكيد للوجوب، أي: على المحسنين بالإيمان والإسلام، و { حقا }: صفة لقوله تعالى: { متعا }.
* ت *: وظاهر الآية عموم هذا الحكم في جميع المطلقات؛ كما هو مذهب الشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي، والظاهر حمل المتعة على الوجوب؛ لوجوه، منها: صيغة الأمر، ومنها: قوله: { حقا } ، ومنها: لفظة «على»، ومنها: من جهة المعنى: ما يترتب على إمتاعها من جبر القلوب، وربما أدى ترك ذلك إلى العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وقد مال بعض أئمتنا المتأخرين إلى الوجوب. انتهى.
وقوله تعالى: { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن... } الآية: اختلف في هذه الآية، فقالت فرقة، فيها مالك: إنها مخرجة للمطلقة بعد الفرض من حكم التمتيع؛ إذ يتناولها.
قوله تعالى: { ومتعوهن }: وقال قتادة: نسخت هذه الآية الآية التي قبلها، وقال ابن القاسم في «المدونة»: كان المتاع لكل مطلقة؛ بقوله تعالى:
وللمطلقت متع بالمعروف
[البقرة:241]، ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة «الأحزاب»، فاستثنى الله سبحانه المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية، وأثبت لها نصف ما فرض فقط، وزعم زيد بن أسلم؛ أنها منسوخة، حكى ذلك في «المدونة» عن زيد بن أسلم زعما.
وقال ابن القاسم: إنها استثناء، والتحرير يرد ذلك إلى النسخ الذي قال زيد؛ لأن ابن القاسم قال: إن قوله تعالى:
وللمطلقت متع
[البقرة:241] عم الجميع، ثم استثنى الله منه هذه التي فرض لها قبل المسيس، وقال فريق من العلماء، منهم أبو ثور: المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض، أي: مع متعتها، وقرأ الجمهور: «فنصف»؛ بالرفع، والمعنى: فالواجب نصف ما فرضتم.
وقوله تعالى: { إلا أن يعفون }: استثناء منقطع، و «يعفون»: معناه: يتركن ويصفحن، أي: يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج، وذلك إذا كانت المرأة تملك أمر نفسها.
واختلف في المراد بقوله تعالى: { أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح }.
فقال ابن عباس، ومجاهد، ومالك، وغيرهم: هو الولي الذي المرأة في حجره، وقالت فرقة: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، فعلى القول الأول: الندب في النصف الذي يجب للمرأة إما أن تعفو هي، وإما أن يعفو وليها، وعلى القول الثاني: إما أن تعفو هي أيضا؛ فلا تأخذ شيئا، وإما أن يعفو الزوج عن النصف الذي يحط، فيؤدي جميع المهر، ثم خاطب تعالى الجميع؛ نادبا بقوله: { وأن تعفوا أقرب للتقوى } ، أي: يا جميع الناس، وقرأ علي بن أبي طالب. وغيره: «ولا تناسوا الفضل»، وهي قراءة متمكنة المعنى؛ لأنه موضع تناس، لا نسيان إلا على التشبيه.
وقوله تعالى: { ولا تنسوا الفضل }: ندب إلى المجاملة.
وقوله: { إن الله بما تعملون بصير } خبر، وضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن.
[2.238-239]
قوله تعالى: { حفظوا على الصلوت والصلوة الوسطى... } الآية: الخطاب لجميع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها، وبجميع شروطها، وخرج الطحاوي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله تعالى ويدعوه، حتى صارت واحدة، فامتلأ قبره عليه نارا، فلما ارتفع عنه، أفاق، فقال: علام جلدتني؟ قال: إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم، فلم تنصره "
انتهى من «التذكرة» للقرطبي.
وفي الحديث:
" أن الصلاة ثلاثة أثلاث الطهور ثلث، والركوع ثلث، والسجود ثلث، فمن أداها بحقها، قبلت منه، وقبل منه سائر عمله، ومن ردت عليه صلاته، رد عليه سائر عمله "
رواه النسائي. انتهى من «الكوكب الدري».
وروى مالك في «الموطإ»، عن يحيى بن سعيد؛ أنه قال:
" بلغني أنه أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة، فإن قبلت منه، نظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه، لم ينظر في شيء من عمله "
قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد»: وقد روي هذا الحديث مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح، ثم أسند أبو عمر عن أنس بن حكيم الضبي، قال: قال لي أبو هريرة: إذا أتيت أهل مصرك، فأخبرهم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" «أول ما يحاسب به العبد المسلم صلاة المكتوبة، فإن أتمها وإلا قيل: انظروا، هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك»، وفي رواية تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بهذا المعنى.
قال: «ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك» "
انتهى.
وذكر الله سبحانه الصلاة الوسطى ثانية، وقد دخلت قبل في عموم قوله: «الصلوات»؛ لأنه أراد تشريفها.
واختلف الناس في تعيينها.
فقال علي، وابن عباس، وجماعة من الصحابة: إنها صلاة الصبح، وهو قول مالك، وقالت فرقة: هي الظهر، وورد فيه حديث، وقالت فرقة: هي صلاة العصر، وفي مصحف عائشة، وإملاء حفصة: «صلاة العصر»؛ وعلى هذا القول جمهور العلماء، وبه أقول.
وقال قبيصة بن ذويب: هي صلاة المغرب، وحكى أبو عمر بن عبد البر عن فرقة؛ أنها صلاة العشاء الآخرة، وقالت فرقة: الصلاة الوسطى لم يعينها الله سبحانه، فهي في جملة الخمس غير معينة؛ كليلة القدر، وقالت فرقة: هي صلاة الجمعة، وقال بعض العلماء: هي الخمس، وقوله أولا: { على الصلوت } يعم النفل، والفرض، ثم خص الفرض بالذكر.
وقوله تعالى: { وقوموا لله قنتين } معناه في صلاتكم.
واختلف في معنى { قنتين }.
فقال الشعبي وغيره: معناه مطيعين، قال الضحاك: كل قنوت في القرآن، فإنما يعنى به الطاعة، وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود وغيره: القنوت: السكوت؛ وذلك أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية، فأمروا بالسكوت، وقال مجاهد: معنى { قنتين } خاشعين،، فالقنوت: طول الركوع والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح، قال: * ع *: وإحضار الخشية، والفكر في الوقوف بين يدي الله سبحانه، وقال الربيع: القنوت: طول القيام، وطول الركوع.
وقال قوم: القنوت: الدعاء، و { قنتين }: معناه داعين، روي معناه عن ابن عباس.
وقول تعالى: { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا... } الآية، أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحالة قنوت، وهو الوقار والسكينة، وهدوء الجوارح، وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة، ثم ذكر تعالى حالة الخوف الطارئة أحيانا، فرخص لعبيده في الصلاة { رجالا }: متصرفين على الأقدام، و { ركبانا }: على الخيل والإبل ونحوهما؛ إيماء، وإشارة بالرأس؛ حيث ما توجه، هذا قول جميع العلماء، وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة، أو من سبع يطلبه، أو عدو يتبعه، أو سيل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه، فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية.
وأما صلاة الخوف بالإمام، وانقسام الناس، فليس حكمها في هذه الآية، وسيأتي، إن شاء الله، في «سورة النساء».
والركبان: جمع راكب، وهذه الرخصة في ضمنها؛ بإجماع من العلماء: أن يكون الإنسان حيث ما توجه ويتقلب ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه.
* ت *: وروى أبو داود في «سننه»، عن عبد الله بن أنيس، قال:
" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان، وكان نحو عرنة وعرفات، قال: «اذهب فاقتله»، فرأيته وقد حضرت صلاة العصر، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء إيماء نحوه، فلما دنوت منه، قال لي: «من أنت»؟ قلت: رجل من العرب، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذلك، قال: إني لفي ذلك، فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي؛ حتى برد "
انتهى، وقد ترجم عليه «باب في صلاة الطالب».
قال: * ع *: واختلف الناس، كم يصلي من الركعات؟ والذي عليه مالك وجماعة: أنه لا ينقص من عدد الركعات شيئا، فيصلي المسافر ركعتين.
واختلف المتأولون في قوله سبحانه: { فإذا أمنتم فاذكروا الله... } الآية: فقالت فرقة: المعنى: إذا زال خوفكم، فاذكروا الله سبحانه بالشكر على هذه النعمة، وقالت فرقة: اذكروا الله، أي: صلوا كما علمتم صلاة تامة، يعني فيما يستقبل من الصلوات.
[2.240-242]
قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا وصية لأزواجهم متعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم }: { الذين }: رفع بالابتداء، وخبره مضمر، تقديره: فعليهم وصية لأزواجهم، وفي قراءة ابن مسعود: كتب عليكم وصية، قالت فرقة: كانت هذه وصية من الله تعالى تجب بعد وفاة الزوج، قال قتادة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها، لها السكنى والنفقة حولا في مال الزوج، ما لم تخرج برأيها، ثم نسخ ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثمن الذي في «سورة النساء»، ونسخ سكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر، وقاله ابن عباس وغيره: و { متعا } نصب على المصدر، وقوله تعالى: { غير إخراج }: معناه: ليس لأولياء الميت، ووارثي المنزل إخراجها، وقوله تعالى: { فإن خرجن... } الآية: معناه: إن الخروج، إذا كان من قبل الزوجة، فلا جناح على أحد ولي أو حاكم، أو غيره فيما فعلن في أنفسهن من تزويج وتزين، وترك إحداد، إذا كان ذلك من المعروف الذي لا ينكر، وقوله تعالى: { والله عزيز حكيم }: صفة تقتضي الوعيد بالنقمة لمن خالف الحد في هذه النازلة، وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه.
وقوله تعالى: { وللمطلقت متع بالمعروف حقا على المتقين * كذلك يبين الله لكم آيته لعلكم تعقلون }: قال عطاء بن أبي رباح وغيره: هذه الآية في الثيبات اللواتي قد جومعن؛ إذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن.
وقال ابن زيد: هذه الآية نزلت مؤكدة لأمر المتعة؛ لأنه نزل قبل
حقا على المحسنين
[البقرة:236]، فقال رجل: فإن لم أرد أحسن، لم أمتع، فنزلت { حقا على المتقين }.
قال الطبري: فوجب ذلك عليهم.
[2.243-245]
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديرهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا... } الآية: هذه رؤية القلب؛ بمعنى: ألم تعلم، وقصة هؤلاء فيما قال الضحاك؛ أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله؛ ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم، وأمرهم بالجهاد، بقوله: { وقتلوا في سبيل الله... } الآية.
وروى ابن جريج عن ابن عباس؛ أنهم كانوا من بني إسرائيل، وأنهم كانوا أربعين ألفا، وثمانية آلاف، وأنهم أميتوا، ثم أحيوا، وبقيت الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم، فأمرهم الله بالجهاد ثانية، فذلك قوله: { وقتلوا في سبيل الله }.
قال:* ع *: وهذا القصص كله لين الإسناد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه، والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله، ثم أحياهم؛ ليعلموا هم وكل من خلف بعدهم؛ أن الإماتة إنما هي بإذن الله لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد، هذا قول الطبري، وهو ظاهر رصف الآية.
والجمهور على أن { ألوف } جمع ألف، وهو جمع كثرة، وقال ابن زيد في لفظة { ألوف }: إنما معناها، وهم مؤتلفون.
وقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون... } الآية: تنبيه على فضله سبحانه على هؤلاء القوم الذين تفضل عليهم بالنعم، وأمرهم بالجهاد، وألا يجعلوا الحول والقوة إلا له سبحانه؛ حسبما أمر جميع العالم بذلك، فلم يشكروا نعمته في جميع هذا، بل استبدوا وظنوا أن حولهم وسعيهم ينجيهم، وهذه الآية تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل، أي: فيجب أن يشكر الناس فضله سبحانه؛ في إيجاده لهم، ورزقه إياهم، وهدايته بالأوامر والنواهي، فيكون منهم المبادرة إلى امتثالها، لا طلب الخروج عنها، وفي تخصيصه تعالى: «الأكثر» دلالة على أن الأقل الشاكر.
وقوله تعالى: { وقتلوا في سبيل الله... } الآية: الجمهور أن هذه الآية مخاطبة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا؛ حسب الحديث.
وقال ابن عباس، والضحاك: الأمر بالقتال هو للذين أحيوا من بني إسرائيل، قال الطبري: ولا وجه لهذا القول، ثم قال تعالى: { من ذا الذي يقرض الله... } الآية: فدخل في ذلك المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض؛ رجاء ثواب الله؛ كما فعل عثمان في جيش العسرة، ويروى أن هذه الآية، لما نزلت،
" قال أبو الدحداح: يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟ قال: «نعم، يا أبا الدحداح»، قال: فإني قد أقرضته حائطي لحائط فيه ستمائة نخلة، ثم جاء الحائط، وفيه أم الدحداح، فقال: اخرجي، فإني قد أقرضت ربي حائطي هذا، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة» ".
واستدعاء القرض؛ في هذه الآية وغيرها؛ إنما هو تأنيس وتقريب للأفهام، والله هو الغني الحميد.
قال ابن العربي في «أحكامه» وكنى الله عز وجل عن الفقير بنفسه العلية ترغيبا في الصدقة؛ كما كنى عن المريض، والجائع، والعاطش بنفسه المقدسة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت، فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته، لوجدتني عنده، يا ابن آدم، استطعمتك، فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته، لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم، استسقيتك، فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك، وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان، فلم تسقه، أما إنك لو سقيته، وجدت ذلك عندي "
انتهى، واللفظ لصحيح مسلم، قال ابن العربي: وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كني عنه، وترغيبا لمن خوطب انتهى.
وقوله: { حسنا }: معناه: تطيب فيه النية، ويشبه أيضا أن تكون إشارة إلى كثرته وجودته.
وهذه الأضعاف الكثيرة إلى السبعمائة التي رويت، ويعطيها مثال السنبلة.
* ت *: والحق الذي لا شك فيه وجوب الإيمان بما ذكر المولى سبحانه، ولا سبيل إلى التحديد؛ إلا أن يثبت في ذلك حديث صحيح، فيصار إليه، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم فيما خرجه مسلم، والبخاري، انظره عند قوله تعالى:
كمثل حبة
[البقرة:261]
قال: * ع *:
" روي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يسعر بسبب غلاء خيف على المدينة، فقال: «إن الله هو الباسط القابض، وإني لأرجو أن ألقى الله، ولا يتبعني أحد بمظلمة في نفس؛ ولا مال» "
، قال صاحب «سلاح المؤمن» عند شرحه لاسمه تعالى «القابض الباسط»: قال بعض العلماء: يجب أن يقرن بين هذين الاسمين، ولا يفصل بينهما؛ ليكون أنبأ عن القدرة، وأدل على الحكمة؛ كقوله تعالى: { يقبض ويبسط } ، وإذا قلت: «القابض» مفردا، فكأنك قصرت بالصفة على المنع والحرمان، وإذا جمعت أثبت الصفتين؛ وكذلك القول في الخافض والرافع والمعز والمذل. انتهى، وما ذكره عن بعض العلماء، هو كلام الإمام الفخر في شرحه لأسماء الله الحسنى، ولفظه: القابض والباسط: الأحسن في هذين الاسمين أن يقرن أحدهما في الذكر بالآخر؛ ليكون ذلك أدل على القدرة والحكمة؛ ولهذا السبب قال الله تعالى: { والله يقبض ويبسط } وإذا ذكرت «القابض» منفردا عن «الباسط»، كنت قد وصفته بالمنع والحرمان، وذلك غير جائز، وقوله: «المعز المذل»، وقد عرفت أنه يجب في أمثال هذين ذكر كل واحد منهما مع الآخر. انتهى.
[2.246-248]
قوله تعالى: { ألم تر إلى الملإ من بني إسرءيل من بعد موسى... } الآية: هذه الآية خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو؛ فطلبوا الإذن في الجهاد، وأن يؤمروا به، فلما أمروا، ركع أكثرهم، وصبر الأقل، فنصرهم الله، وفي هذا كله مثال للمؤمنين؛ ليحذروا المكروه منه، ويقتدوا بالحسن.
و { الملأ }: في هذه الآية جميع القوم؛ لأن المعنى يقتضيه، وهو أصل اللفظة، ويسمى الأشراف «الملأ»؛ تشبيها، و { من بعد موسى }: معناه: من بعد موته، وانقضاء مدته.
وقوله تعالى: { لنبي لهم } ، قال ابن إسحاق وغيره: هو شمويل بن بابل.
وقال السدي: هو شمعون، وكانت بنو إسرائيل تغلب من حاربها، وروي أنها كانت تضع التابوت الذي فيه السكينة والبقية في مأزق الحرب، فلا تزال تغلب؛ حتى عصت، وظهرت فيهم الأحداث، وخالف ملوكهم الأنبياء، واتبعوا الشهوات، وقد كان الله تعالى أقام أمورهم؛ بأن يكون أنبياؤهم يسددون ملوكهم، فلما فعلوا ما ذكرناه، سلط الله عليهم أمما من الكفرة، فغلبوهم، وأخذ لهم التابوت في بعض الحروب، فذل أمرهم.
وقال السدي: كان الغالب لهم «جالوت»، وهو من العمالقة، فلما رأوا أنه الاصطلام، وذهاب الذكر، أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم؛ حتى اجتمع ملأهم على أن قالوا لنبي الوقت: { ابعث لنا ملكا... } الآية، وإنما طلبوا ملكا يقوم بأمر القتال، وكانت المملكة في سبط من أسباط بني إسرائيل يقال لهم: بنو يهوذا، فعلم النبي بالوحي، أنه ليس في بيت المملكة من يقوم بأمر الحرب، ويسر الله لذلك طالوت، وقرأ جمهور الناس: «نقاتل»؛ بالنون وجزم اللام؛ على جواب الأمر، وأراد النبي المذكور - عليه السلام - أن يتوثق منهم، فوقفهم على جهة التقرير، وسبر ما عندهم بقوله: { هل عسيتم } ، ومعنى هذه المقالة، هل أنتم قريب من التولي والفرار، إن كتب عليكم القتال.
* ص *: { لنبي } متعلق ب { قالوا } ، واللام معناها: التبليغ. انتهى.
ثم أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال، تولوا، أي: اضطربت نياتهم، وفترت عزائمهم، إلا قليلا منهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات السعة، فإذا حضرت الحرب، كعت، وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ بقوله:
" لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم، فاثبتوا ".
ثم توعد سبحانه الظالمين في لفظ الخبر؛ بقوله: { والله عليم بالظلمين }.
وقوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا... } الآية: قال وهب بن منبه: وكان طالوت رجلا دباغا، وقال السدي: سقاء، وكان من سبط «بنيامين»، وكان سبطا لا نبوة فيه، ولا ملك، ثم إن بني إسرائيل تعنتوا، وحادوا عن أمر الله، وجروا على سننهم، فقالوا: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } ، أي: لم يؤت مالا واسعا، يجمع به نفوس الرجال، ويغلب به أهل الأنفة.
قال: * ع *: وترك القوم السبب الأقوى، وهو قدر الله وقضاؤه السابق، وأنه مالك الملك؛ فاحتج عليهم نبيهم بالحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت ببسطته في العلم، وهو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب، وعدته عند اللقاء، و «اصطفى»: مأخوذ من الصفوة، والجمهور على أن العلم في هذه الآية يراد به العموم في المعارف، وقيل: المراد علم الحرب، وأما جسمه، فقال وهب بن منبه: إن أطول رجل في بني إسرائيل كان يبلغ منكب طالوت.
* ت *: قال أبو عبيد الهروي: قوله: { وزاده بسطة في العلم والجسم } ، أي: انبساطا وتوسعا في العلم، وطولا وتماما في الجسم . انتهى من شرحه لغريبي القرآن وأحاديث النبي عليه السلام.
ولما علم نبيهم - عليه السلام - تعنتهم وجدالهم، تمم كلامه بالقطع الذي لا اعتراض عليه، وهو قوله: { والله يؤتي ملكه من يشآء } ، وظاهر اللفظ أنه من قول نبيهم - عليه السلام -، وذهب بعض المتأولين إلى أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر، و { وسع }: معناه: وسعت قدرته، وعلمه كل شيء، وأما قول النبي لهم: { إن ءاية ملكه } ، فإن الطبري ذهب إلى أن بني إسرائيل تعنتوا، وقالوا لنبيهم: وما آية ملك طالوت؟ وذلك على جهة سؤال الدلالة على صدقه في قوله: إن الله بعثه
قال: * ع *: ويحتمل أن نبيهم قال لهم ذلك على جهة التغليظ والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها بملك طالوت، دون تكذيب منهم لنبيهم، وهذا عندي أظهر من لفظ الآية، وتأويل الطبري أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة؛ فإنهم أهل تكذيب وتعنت واعوجاج.
وقد حكى الطبري معناه عن ابن عباس وغيره.
واختلف في كيفية إتيان التابوت، فقال وهب: لما صار التابوت عند القوم الذين غلبوا بني إسرائيل، وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام، فكانت الأصنام تصبح منكسة، فجعلوه في قرية قوم، فأصاب أولئك القوم أوجاع، فقالوا: ما هذا إلا لهذا التابوت، فلنرده إلى بني إسرائيل، فأخذوا عجلة، فجعلوا التابوت عليها، وربطوها ببقرتين، فأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين؛ حتى دخلتا به على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت، فأيقنوا بالنصر.
وقال قتادة، والربيع: كان هذا التابوت مما تركه موسى عند يوشع، فجعله يوشع في البرية، ومرت عليه الدهور؛ حتى جاء وقت طالوت، فحملته الملائكة في الهواء؛ حتى وضعته بينهم، فاستوثقت بنو إسرائيل عند ذلك على طالوت، وقيل غير هذا، والله أعلم.
وقوله تعالى: { فيه سكينة من ربكم... } الآية: قال ابن عباس: السكينة طست من ذهب من الجنة، وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرة، وجناحان، وذنب.
وقال عطاء: السكينة ما يعرفون من الآيات، فيسكنون إليها، وقال قتادة: { سكينة من ربكم } أي : وقار لكم من ربكم. قال:
* ع *: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، تسكن إلى ذلك النفوس، وتأنس به، ثم قرر تعالى؛ أن مجيء التابوت آية لهم، إن كانوا ممن يؤمن ويبصر.
* ت *: وهذا يؤيد تأويل الطبري المتقدم.
[2.249-252]
وقوله تعالى: { فلما فصل طالوت بالجنود... } الآية، أي: لما اتفق ملأهم على تمليك طالوت، وفصل بهم، أي: خرج بهم من القطر، وفصل حال السفر من حال الإقامة.
قال السدي وغيره: وكانوا ثمانين ألفا، { قال إن الله مبتليكم بنهر } أي: مختبركم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء، علم أنه يطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء، وعصى الأمر، فهو بالعصيان في الشدائد أحرى؛ ورخص للمطيعين في الغرفة؛ ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال.
* ت *: ولقد أحسن من شبه الدنيا بنهر طالوت، فمن اغترف منها غرفة بيد الزهد، وأقبل على ما يعنيه من أمر آخرته، نجا، ومن أكب عليها، صدته عن التأهب لآخرته، وقلت سلامته إلا أن يتداركه الله.
قال ابن عباس: وهذا النهر بين الأردن وفلسطين، وقال أيضا: هو نهر فلسطين.
قال: * ع *: وظاهر قول طالوت { إن الله مبتليكم }؛ أنه بإخبار من النبي لطالوت، ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله إليه طالوت، فجرب به جنده، وهذه النزعة واجب أن تقع من كل متولي حرب، فليس يحارب إلا بالجند المطيع، وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هم في غير الرفاهية، وقوله: { فليس مني } ، أي: ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" من غشنا، فليس منا "
، و
" من رمانا بالنبل، فليس منا "
، و
" ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود ".
وفي قوله: { ومن لم يطعمه } سد الذرائع؛ لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم، فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، ولهذه المبالغة لم يأت الكلام: ومن لم يشرب منه.
* ص *: { إلا من اغترف غرفة بيده }: استثناء من الجملة الأولى، وهو قوله: { فمن شرب منه فليس مني } ، أي: إلا من اغترف غرفة بيده، دون الكرع، فهو مني، والاستثناء إذا تعقب جملتين فأكثر، أمكن عوده إلى كل منها، فقيل: يعود على الأخيرة، وقيل: إلى الجميع.
وقال أبو البقاء: إن شئت، جعلته من «من» الأولى، وإن شئت من «من» الثانية، وتعقب؛ بأنه لو كان استثناء من الثانية، وهي: { ومن لم يطعمه فإنه مني } ، للزم أن يكون: { من اغترف غرفة } ليس منه؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات؛ على الصحيح، وليس كذلك؛ لأنه أبيح لهم الاغتراف، والظاهر عوده إلى الأولى، والجملة الثانية مفهومة من الأولى، لأنه حين ذكر أن من شربه، فليس منه، فهم من ذلك أن من لم يشرب منه، فإنه منه.
انتهى.
ثم أخبر تعالى؛ أن الأكثر شرب، وخالف ما أريد منه، روي عن ابن عباس وغيره؛ أن القوم شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا، وبقي بعض المؤمنين، لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب، فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء، فحسنت حاله، وكان أجلد ممن أخذ الغرفة.
وقوله تعالى: { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه... } الآية: أكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلا غرفة، ومن لم يشرب جملة، ثم كانت بصائر هؤلاء مختلفة؛ فبعض كع، وقليل صمم، وهم عدة أهل بدر ثلاثمائة، وبضعة عشر رجلا.
وقوله تعالى: { قالوا لا طاقة }.
قال ابن عباس: قال كثير من الأربعة الآلاف الباقية مع طالوت، الذين جاوزوا النهر: { لا طاقة لنا } على جهة الفشل، والفزع من الموت، وانصرفوا عن طالوت، فقال المؤمنون الموقنون بالبعث، والرجوع إلى الله تعالى، وهم عدة أهل بدر: { كم من فئة } ، والظن على هذا القول: اليقين، والفئة: الجماعة التي يرجع إليها في الشدائد، وفي قولهم - رضي الله عنهم - { كم من فئة... } الآية: تحريض بالمثال، وحض واستشعار للصبر، واقتداء بمن صدق ربه، { والله مع الصبرين } بنصره وتأييده.
وقوله تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا } { برزوا }: معناه صاروا في البراز، وهو الأفيح من الأرض المتسع، والإفراغ: أعظم الصب، وكان جالوت أمير العمالقة، وملكهم، وروي في قصة داود وقتله جالوت؛ أن أصحاب طالوت كان فيهم إخوة داود، وهم بنو أيش، وكان داود صغيرا يرعى غنما لأبيه، فلما حضرت الحرب، قال في نفسه: لأذهبن لرؤية هذه الحرب، فلما نهض مر في طريقه بحجر، فناداه: يا داود، خذني، فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر، ثم آخر، ثم آخر، فأخذها، وجعلها في مخلاته، وسار، فلما حضر البأس، خرج جالوت يطلب مبارزا، فكع الناس عنه؛ حتى قال طالوت: من برز له، ويقتله، فأنا أزوجه ابنتي، وأحكمه في مالي، فجاء داود، فقال: أنا أبرز له، وأقتله، فقال له طالوت: فاركب فرسي، وخذ سلاحي، ففعل، وخرج في أحسن شكة، فلما مشى قليلا، رجع، فقال الناس: جبن الفتى، فقال داود: إن الله سبحانه، إن لم يقتله لي، ويعينني عليه، لم ينفعني هذا الفرس، ولا هذا السلاح، ولكني أحب أن أقاتله على عادتي، قال: وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل، وأخذ مخلاته، فتقلدها، وأخذ مقلاعه، فخرج إلى جالوت، وهو شاك في السلاح، فقال له جالوت: «أنت، يا فتى، تخرج إلي».
قال: نعم، قال: هكذا؛ كما يخرج إلى الكلب، قال: نعم، وأنت أهون، قال: لأطعمن اليوم لحمك الطير، والسباع، ثم تدانيا، فأدار داود مقلاعه، وأدخل يده إلى الحجارة، فروي أنها التأمت، فصارت واحدا، فأخذه، ووضعه في المقلاع، وسمى الله، وأداره، ورماه، فأصاب به رأس جالوت، فقتله، وحز رأسه، وجعله في مخلاته، واختلط الناس، وحمل أصحاب طالوت، وكانت الهزيمة، ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت، فقال له: إن بنات الملوك لهن غرائب من المهر، ولا بد لك من قتل مائتين من هؤلاء الجراجمة الذين يؤذون الناس، وتجيئني بغلفهم، وطمع طالوت أن يعرض داود للقتل بهذه النزعة، فقتل داود منهم مائتين، وجاء بذلك، وطلب امرأته، فدفعها إليه طالوت، وعظم أمر داود، فيروى؛ أن طالوت تخلى له عن الملك، وصار هو الملك، وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية، وذلك كله لين الأسانيد؛ فلذلك انتقيت منه ما تنفك به الآية، ويعلم به مناقل النازلة.
وأما الحكمة التي آتاه الله، فهي النبوة، والزبور، وعلمه سبحانه صنعة الدروع، ومنطق الطير، وغير ذلك من أنواع علمه - صلى الله على نبينا وعليه .
وقوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض... } الآية: أخبر الله سبحانه في هذه الآية؛ أنه لولا دفعه بالمؤمنين في صدور الكفرة على مر الدهر، لفسدت الأرض؛ لأن الكفر كان يطبقها، ولكنه سبحانه لا يخلي الزمان من قائم بحق، وداع إلى الله إلى أن جعل ذلك في أمة محمد إلى قيام الساعة له الحمد كثيرا.
* ص *: { ولكن } استدراك بإثبات الفضل لله سبحانه على جميع العالمين؛ لما يتوهمه من يريد الفساد؛ أن الله غير متفضل عليه؛ إذ لم يبلغه مقاصده؛ واحتيج إلى هذا التقدير؛ لأن «لكن» تكون بين متنافيين بوجه ما. انتهى.
والإشارة ب { تلك } إلى ما سلف من القصص والأنباء، وفي هذه القصة بجملتها مثال عظيم للمؤمنين ومعتبر، وقد كان أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معدين لحرب الكفار، فلهم في هذه النازلة معتبر يقتضي تقوية النفوس، والثقة بالله سبحانه، وغير ذلك من وجوه العبر.
[2.253-254]
قوله سبحانه: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض... } الآية: «تلك»: رفع بالابتداء، والرسل: خبره، ويجوز أن يكون «الرسل» عطف بيان، و «فضلنا»: الخبر، و «تلك»: إشارة إلى جماعة، ونص الله سبحانه في هذه الآية على تفضيل بعض النبيين على بعض من غير تعيين.
وقوله تعالى: { ورفع بعضهم درجت }:
قال مجاهد وغيره: هي إشارة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعث إلى الناس كافة، وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد قبله، وهو أعظم الناس أمة، وختم الله به النبوات إلى غير ذلك مما أعطاه من الخلق العظيم، ومن معجزاته، وباهر آياته، ويحتمل اللفظ أن يراد به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته، وبينات عيسى عليه السلام إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وخلق الطير من الطين، وروح القدس جبريل عليه السلام وقد تقدم ما قال العلماء فيه.
وقوله تعالى: { ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم... } الآية: معنى الآية: ولو شاء الله ما اقتتل الناس بعد كل نبي، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر بغيا وحسدا، وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء، وقدر، وإرادة من الله سبحانه، ولو شاء الله خلاف ذلك، لكان، ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك، وهو الفعال لما يريد سبحانه.
* ص *: { ولو شآء الله ما اقتتل } ، قيل: في الكلام حذف، أي: فاختلف أممهم، فاقتتلوا، ولو شاء الله، فمفعول «شاء» محذوف، أي: «ألا يقتتلوا» انتهى.
وقوله: { ما اقتتلوا } ، أي: بأن قاتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر، وذلك هو دفاع الله الناس بعضهم ببعض.
قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقنكم... } الآية، قال ابن جريج: هذه الآية تجمع الزكاة والتطوع، أي: وجميع وجوه البر من سبيل وصلة رحم، وهذا كلام صحيح، لكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال يرجح أن هذه النفقة في سبيل الله، ويقوي ذلك قوله: { والكفرون هم الظلمون } ، أي: فكافحوهم بالقتال بالأنفس، وإنفاق الأموال مما رزقناكم، وهذا غاية الإنعام والتفضل منه سبحانه؛ أن رزق، ثم ندب للنفقة مما به أنعم، وحذر سبحانه من الإمساك إلى أن يأتي يوم لا يمكن فيه بيع، ولا شراء، ولا استدراك نفقة في ذات الله تعالى، إذ هي مبايعة إذ البيع فدية؛ لأن المرء قد يشتري نفسه، ومراده بماله؛ فكأن معنى الآية أن لا فدية يوم القيامة، ولا خلة نافعة، وأهل التقوى في ذلك اليوم بينهم خلة، ولكنه غير محتاج إليها.
* ت *: وفي قوله: «غير محتاج إليها» قلق، ولا شفاعة يومئذ إلا لمن أذن له سبحانه، فالمنفي مثل حال الدنيا من البيع، والخلة، والشفاعة؛ بغير إذن المشفوع عنده، قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: { والكفرون هم الظلمون } ، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون.
[2.255]
وقوله تعالى: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم... } الآية: هذه الآية سيدة آي القرآن، وورد في الحديث؛
" أنها تعدل ثلث القرآن "
، وورد
" أن من قرأها أول ليله، لم يقربه شيطان "
؛ وكذلك من قرأها أول نهاره، وهي متضمنة التوحيد والصفات العلا، وعن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة:
" ما منعك أن تسمعي، ما أوصيتك به، تقولين، إذا أصبحت، وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين "
، رواه النسائي، واللفظ له، والحاكم في «المستدرك» على الصحيحين، وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني البخاري ومسلما. انتهى من «السلاح».
وعن ابن مسعود؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل به هم أو غم، قال:
" يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث "
رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإسناد، ورواه الترمذي من حديث أنس، والنسائي من حديث ربيعة بن عامر، انتهى من «السلاح».
والله: مبتدأ، ولا إله: مبتدأ ثان، وخبره محذوف، تقديره معبود أو موجود، وقيوم: بناء مبالغة، أي: هو القائم على كل نفس بما كسبت؛ بهذا المعنى فسره مجاهد، والربيع، والضحاك، ثم نفى عز وجل؛ أن تأخذه سنة أو نوم، وفي لفظ: الأخذ غلبة ما، فلذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي، والسنة: بدء النعاس، وليس يفقد معه كل الذهن، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن، والمراد بالآية: التنزيه أنه سبحانه لا تدركه آفة، ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال، فجعلت هذه مثالا لذلك، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع، وهذا هو مفهوم الخطاب؛ كما قال تعالى:
فلا تقل لهما أف
[الإسراء:23].
*ت *: وبيانه أنه إذا حرم التأفيف، فأحرى ما فوقه من الشتم، والضرب في حق الأبوين، وروى أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر، قال:
" وقع في نفس موسى: هل ينام الله - جل ثناؤه - فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، وأمره بأن يحتفظ بهما، قال: فجعل ينام، وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ، فيحبس إحداهما عن الأخرى؛ حتى نام نومة، فاصطفقت يداه، فانكسرت القارورتان، قال: ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام، لم تستمسك السماء والأرض ".
قوله تعالى: { له ما في السموات وما في الأرض } ، أي: بالملك؛ فهو مالك الجميع، وربه، ثم قرر، ووقف تعالى من يتعاطى أن يشفع إلا بإذنه، أي: بأمره.
* ص *: { من ذا الذي يشفع عنده }: «من»: مبتدأ، وهو استفهام معناه النفي؛ ولذا دخلت «إلا» في قوله: { إلا بإذنه } ، والخبر «ذا»، و «الذي» نعت ل «ذا» أو بدل منه، وهذا على أن «ذا» اسم إشارة، وفيه بعد؛ لأن الجملة لم تستقل ب «من» مع «ذا»، ولو كان خبرا، لاستقل، ولم يحتج إلى الموصول، فالأولى أن «من» ركبت مع «ذا» للاستفهام.
انتهى.
قال مجاهد وغيره: { ما بين أيديهم }: الدنيا، { وما خلفهم }: الآخرة، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان؛ لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه: هو كل ما يأتي بعده، { ولا يحيطون بشيء من علمه } ، أي: من معلوماته؛ لأن علم الله تعالى لا يتبعض، ومعنى الآية: لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه، قال ابن عباس: كرسيه: علمه [قال] الطبري: ومنه الكراسة.
قال: * ع *: والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس "
وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض "
وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله سبحانه، والمستفاد من ذلك عظم قدرته جل وعلا ؛ إذ لا يؤوده حفظ هذه المخلوقات العظيمة، { ولا يؤوده }: معناه: لا يثقله، ولا يشق عليه، وهو تفسير ابن عباس وغيره، و { العلى }: يراد به علو القدر، والمنزلة، لا علو المكان؛ لأن الله سبحانه منزه عن التحيز؛ وكذا { العظيم }: هو صفة؛ بمعنى عظم القدر، والخطر، لا على معنى عظم الأجرام، ومن «سلاح المؤمن» قال: وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت "
رواه النسائي عن الحسين بن بشر عن محمد بن حمير، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة، فأما الحسين، فقال فيه النسائي: لا بأس به، وقال في موضع آخر: ثقة، وقال أبو حاتم: شيخ، وأما المحمدان، فاحتج بهما البخاري في «صحيحه»، وقد أخرج شيخنا الحافظ أبو محمد الدمياطي - رحمه الله - الحديث في بعض تصانيفه من حديث أبي أمامة، وعلي، وعبد الله بن عمر، والمغيرة، وجابر، وأنس، قال: وإذا ضمت هذه الأحاديث بعضها إلى بعض، أخذت قوة. انتهى من «السلاح».
وقد أخرج البخاري والنسائي من حديث أبي هريرة في قصته مع الشيطان وأخذه الطعام، ما هو معلوم من فضل هذه الآية.
وفيه: أنه إذا قرأتها حين تأوي إلى فراشك، لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان؛ حتى تصبح، وخرجه الترمذي من حديث أبي أيوب في قصته مع الغول نحو حديث أبي هريرة؛ قال الغزالي ما معناه: إنما وصفت بكونها سيدة آي القرآن؛ لاشتمالها على اسم الله الأعظم، وهو الحي القيوم؛ قاله في «الجواهر»، وأسند صاحب «غاية المغنم في اسم الله الأعظم»، عن غالب القطان، قال: مكثت عشر سنين، أدعو الله أن يعلمني اسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، فأتاني آت في منامي ثلاث ليال متواليات يقول: يا غالب قل: يا فارج الهم، ويا كاشف الغم، يا صادق الوعد، يا موفيا بالعهد، يا منجزا للوعد، يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت.
انتهى من «غاية المغنم».
[2.256-257]
قوله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي }: الدين، في هذه الآية: هو المعتقد، والملة، ومقتضى قول زيد بن أسلم أن هذه الآية مكية، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف، وقال قتادة والضحاك بن مزاحم: هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية، وقوله تعالى: { قد تبين الرشد من الغي }: معناه: بنصب الأدلة، ووجود الرسول صلى الله عليه وسلم الداعي إلى الله، والآيات المنيرة، والرشد: مصدر من قولك: رشد؛ بكسر الشين، وضمها، يرشد رشدا، ورشدا، ورشادا، والغي مصدر من: غوي يغوى، إذا ضل في معتقد، أو رأي، ولا يقال: الغي في الضلال على الإطلاق، والطاغوت بناء مبالغة من: طغى يطغى، واختلف في معنى الطاغوت، فقال عمر بن الخطاب وغيره: هو الشيطان، وقيل: هو الساحر، وقيل: الكاهن، وقيل: الأصنام، وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت.
* ع *: وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك؛ كفرعون ونمروذ، وأما من لا يرضى ذلك، فسمي طاغوتا في حق العبدة، قال مجاهد: العروة الوثقى: الإيمان، وقال السدي: الإسلام، وقال ابن جبير وغيره: لا إله إلا الله.
قال: * ع *: وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد.
والانفصام: الانكسار من غير بينونة، وقد يجيء بمعنى البينونة، والقصم كسر بالبينونة.
* ت *: وفي «الموطإ» عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن الوحي يأتيني أحيانا في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني، وقد وعيت "
قال أبو عمر في «التمهيد»: قوله: «فيفصم عني»: معناه: ينفرج عني، ويذهب؛ كما تفصم الخلخال، إذا فتحته؛ لتخرجه من الرجل، وكل عقدة حللتها، فقد فصمتها، قال الله عز وجل: { فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } ، وانفصام العروة أن تنفك عن موضعها، وأصل الفصم عند العرب: أن تفك الخلخال، ولا يبين كسره، فإذا كسرته، فقد قصمته بالقاف. انتهى.
ولما كان الإيمان مما ينطق به اللسان، ويعتقده القلب، حسن في الصفات { سميع }: من أجل النطق، و { عليم } من أجل المعتقد.
قوله سبحانه: { الله ولي الذين آمنوا... } الآية: الولي من: ولي، فإذا لازم أحد أحدا بنصره، ووده، واهتباله، فهو وليه؛ هذا عرفه لغة، ولفظ الآية مترتب في الناس جميعا، وذلك أن من آمن منهم، فالله وليه، أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فشيطانه ومغويه أخرجه من الإيمان؛ إذ هو معد وأهل للدخول فيه، ولفظ { الطغوت } في هذه الآية يقتضي أنه اسم جنس؛ ولذلك قال: { أولياؤهم }؛ بالجمع؛ إذ هي أنواع.
[2.258-259]
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذي حاج إبرهيم في ربه... } الآية: { ألم تر }: تنبيه، وهي رؤية القلب، والذي حاج إبراهيم، هو نمروذ بن كنعان ملك زمانه، وصاحب النار، والبعوضة، قاله مجاهد وغيره، قال قتادة: هو أول من تجبر، وهو صاحب الصرح ببابل، قيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها، وهو أحد الكافرين، والآخر بخت نصر، وقيل: إن النمروذ الذي حاج إبراهيم هو نمروذ بن فالخ، وفي قصص هذه المحاجة روايتان.
إحداهما: ذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر للناس بالميرة، فكلما جاء قوم، قال: من ربكم وإلهكم، فيقولون: أنت، فيقول: ميروهم، وجاء إبراهيم - عليه السلام -، يمتار، فقال له: من ربك وإلهك؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، فلما سمعها نمروذ، قال: أنا أحيي وأميت، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس؛ فبهت الذي كفر، وقال: لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء، فمر على كثيب رمل؛ كالدقيق، فقال: لو ملأت غرارتي من هذا، فإذا دخلت به، فرح الصبيان؛ حتى أنظر لهما، فذهب بذلك، فلما بلغ منزله، فرح الصبيان، وجعلا يلعبان فوق الغرارتين، ونام هو من الإعياء، فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا، إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين، فوجدت أحسن ما يكون من الحواري، فخبزته، فلما قام، وضعته بين يديه، فقال: من أين هذا؟ قالت: من الدقيق الذي سقت، فعلم إبراهيم؛ أن الله يسر لهم ذلك.
وقال الربيع وغيره في هذا القصص: إن النمروذ لما قال: أنا أحيي وأميت، أحضر رجلين، فقتل أحدهما، وأرسل الآخر، وقال: قد أحييت هذا، وأمت هذا، فرد عليه إبراهيم بأمر الشمس.
والرواية الأخرى: ذكر السدي؛ أنه لما خرج إبراهيم من النار، وأدخل على الملك، قال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت.
يقال: بهت الرجل، إذا انقطع، وقامت عليه الحجة.
وقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظلمين }: إخبار لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، والمعنى: لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم، وظاهر اللفظ العموم، ومعناه الخصوص؛ لأن الله سبحانه قد يهدي بعض الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان.
قوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها... } الآية: عطفت «أو» في هذه الآية على المعنى الذي هو التعجب في قوله: { ألم تر إلى الذي حاج }.
قال ابن عباس وغيره: الذي مر على القرية هو عزير، وقال وهب بن منبه وغيره: هو أرميا، قال ابن إسحاق: أرميا هو الخضر، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه.
واختلف في القرية، ما هي؟ فقيل: المؤتفكة، وقال زيد بن أسلم: قرية الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف، وقال وهب بن منبه، وقتادة، والضحاك، والربيع، وعكرمة هي بيت المقدس، لما خربها بخت نصر البابلي، والعريش: سقف البيت، قال السدي: يقول: هي ساقطة على سقفها، أي: سقطت السقف، ثم سقطت الحيطان عليها، وقال غيره: معناه: خاوية من الناس، وخاوية: معناه: خالية؛ يقال: خوت الدار تخوي خواء وخويا، ويقال: خويت، قال الطبري: والأول أفصح، قال:* ص *: { وهي خاوية } في موضع الحال من فاعل «مر» أو من «قرية» و { على عروشها }: قيل: على بابها، والمعنى: خاوية من أهلها، ثابتة على عروشها، والبيوت قائمة، والمجرور على هذا يتعلق بمحذوف، وهو ثابتة، وقيل: يتعلق ب «خاوية» والمعنى: وقعت جدراتها على سقوفها بعد سقوط السقوف.
انتهى، وقد زدنا هذا المعنى وضوحا في سورة الكهف، والله الموفق بفضله.
وقوله: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها }: ظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة أو سكان، فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينة أحبته، ويحتمل أن يكون سؤاله إنما كان عن إحياء الموتى، فضرب له المثل في نفسه، وحكى الطبري عن بعضهم؛ أن هذا القول منه شك في قدرة الله على الإحياء؛ قال: * ع *: والصواب ألا يتأول في الآية شك، وروي في قصص هذه الآية؛ أن بني إسرائيل، لما أحدثوا الأحداث، بعث الله عليهم بخت نصر، فقتلهم، وجلاهم من بيت المقدس، وخربه، فلما ذهب عنه، جاء عزير أو أزميا، فوقف على المدينة معتبرا، فقال: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها }؛ فأماته الله تعالى، وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد، وكان معه سلة فيها تين هو طعامه، وقيل: تين وعنب، وكانت معه ركوة من خمر، وقيل: من عصير، وقيل: قلة من ماء هي شرابه، وبقي ميتا مائة عام، فروي أنه بلي، وتفرقت عظامه هو وحماره، وروي أن الحمار بلي، وتفرقت أوصاله، دون عزير.
وقوله تعالى: { ثم بعثه }: معناه: أحياه، فسأله الله تعالى بوساطة الملك، كم لبثت؛ على جهة التقرير، فقال: { لبثت يوما أو بعض يوم } ، قال ابن جريج، وقتادة، والربيع: أماته الله غدوة يوم، ثم بعثه قرب الغروب، فظن هو اليوم واحدا، فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس، فخشي أن يكون كاذبا، فقال: { أو بعض يوم } ، فقيل له: { بل لبثت مائة عام }.
وقوله تعالى: { فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } ، أي: لم يتغير.
* ت *: قال البخاري في «جامعه»: { يتسنه }: يتغير.
وأما قوله تعالى: { وانظر إلى حمارك } ، فقال وهب بن منبه وغيره: المعنى: انظر إلى اتصال عظامه، وإحيائه جزءا جزءا، ويروى؛ أنه أحياه الله كذلك؛ حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما، حتى كمل حمارا، ثم جاء ملك، فنفخ في أنفه الروح، فقام الحمار ينهق.
وروي عن الضحاك، ووهب بن منبه أيضا؛ أنهما قالا: بل قيل له: وانظر إلى حمارك قائما في مربطه، لم يصبه شيء مائة سنة، قالا: وإنما العظام التي نظر إليها عظام نفسه، وأعمى الله العيون عنه، وعن حماره طول هذه المدة، وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيرا اختصرته، لعدم صحته.
وقوله تعالى: { ولنجعلك ءاية للناس } ،
قال: * ع *: وفي إماتته هذه المدة، ثم إحيائه - أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر.
* ت *: قال ابن هشام: لا يصح انتصاب «مائة» ب «أماته»؛ لأن الإماتة سلب الحياة، وهي لا تمتد، وإنما الوجه أن يضمن «أماته» معنى «ألبثه»، فكأنه قيل: فألبثه الله بالموت مائة عام؛ وحينئذ يتعلق به الظرف. انتهى من «المغني».
ومعنى «ننشرها»، أي: نحييها، وقرأ حمزة وغيره: «ننشزها» ومعناه: نرفعها، أي: ارتفاعا قليلا قليلا؛ فكأنه وقف على نبات العظام الرفات، وقال النقاش: ننشزها: معناه: ننبتها، ومن ذلك: نشز ناب البعير.
وقوله تعالى: { فلما تبين له قال أعلم }: المعنى: قال هو: أعلم أن الله على كل شيء قدير، وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره؛ كما زعم الطبري، بل هو قول بعثه الاعتبار؛ كما يقول الإنسان المؤمن، إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله: لا إله إلا الله، ونحو هذا.
وأما قراءة حمزة والكسائي: «قال اعلم» موصولة الألف، ساكنة الميم، فتحتمل وجهين:
أحدهما: قال الملك له: اعلم، وقد قرأ ابن مسعود، والأعمش: «قيل اعلم».
والوجه الثاني: أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل، أي: قال لنفسه: اعلم، وأمثلة هذا كثيرة.
[2.260]
قوله تعالى: { وإذ قال إبرهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى... } الآية: قال جمهور العلماء: إن إبراهيم - عليه السلام - لم يكن شاكا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" نحن أحق بالشك من إبراهيم "
فمعناه: أن لو كان شك، لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم - عليه السلام - أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم، والذي روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ذلك محض الإيمان "
؛ إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت، وأما الشك، فهو توقف بين أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل صلى الله عليه وسلم.
وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم أعلم بذلك؛ يدلك على ذلك قوله:
ربي الذي يحيي ويميت
[البقرة:258]، والشك يبعد على من ثبت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر، ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا، وإذا تأملت سؤاله - عليه السلام - وسائر ألفاظ الآية، لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام ب «كيف»، إنما هو عن حال شيء موجود، ومتقرر الوجود عند السائل والمسئول؛ نحو قولك: كيف علم زيد، وكيف نسج الثوب؟ ف «كيف» في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء، يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك؛ أن الشيء في نفسه لا يصح؛ مثال ذلك: أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب: كيف ترفعه، فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها: تسليم جدلي؛ كأنه يقول: افرض أنك ترفعه، أرني كيف، فلما كان في عبارة الخليل صلى الله عليه وسلم هذا الاشتراك المجازي، خلص الله سبحانه ذلك، وحمله على أن يبين الحقيقة، فقال له: { أولم تؤمن قال بلى } فكمل الأمر، وتخلص من كل شك، ثم علل - عليه السلام - سؤاله بالطمأنينة.
* ت *: قال الداوودي: وعن ابن جبير: { أولم تؤمن } بالخلة، قال مجاهد، والنخعي: { ولكن ليطمئن قلبي } ، أي: أزداد إيمانا إلى إيماني، وعن قتادة: لأزداد يقينا. انتهى.
قال: * ع *: وقوله تعالى: { أولم تؤمن } معناه: إيمانا مطلقا دخل فيه فصل إحياء الموتى، والواو: واو حال دخلت عليها ألف التقرير، وقال: * ص *: الهمزة في { أولم تؤمن } للتقرير؛ كقوله تعالى:
ألم نشرح لك صدرك
[الشرح:1]؛ وكقوله [الوافر]
ألستم خير من ركب المطايا
......................
أي: قد شرحنا لك صدرك، وأنتم خير.
وقول ابن عطية: «الواو للحال، دخلت عليها ألف التقرير»: متعقب، والظاهر أن التقرير منسحب على الجملة المنفية فقط، وأن الواو للعطف. انتهى.
{ وليطمئن }: معناه: ليسكن، فطمأنينة القلب هي أن تسكن فكره في الشيء المعتقد، والفكر في صورة الإحياء غير محظورة؛ كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، بل هي فكر، فيها عبر، فأراد الخليل؛ أن يعاين، فتذهب فكره في صورة الإحياء؛ إذ حركه إلى ذلك، إما الدابة المأكولة في تأويل، وإما قول النمروذ: أنا أحيي وأميت في تأويل آخر ، وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم - عليه السلام - هي الديك، والطاوس، والحمام، والغراب، قاله مجاهد وغيره، وقال ابن عباس: مكان الغراب الكركي، فروي أنه أخذها - عليه السلام - حسب ما أمر، وذكاها، ثم قطعها قطعا قطعا صغارا، وجمع ذلك مع الدم والريش، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الأجزاء، وأمسك رءوس الطير في يده، ثم قال: تعالين؛ بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء، وطار الدم إلى الدم، والريش إلى الريش؛ حتى التأمت؛ كما كانت أولا، وبقيت بلا رءوس، ثم كرر النداء، فجاءته سعيا؛ حتى وضعت أجسادها في رءوسها، وطارت بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى: { فصرهن } ، يقال: صرت الشيء، أصوره، بمعنى: قطعته، ويقال أيضا: صرت الشيء، بمعنى: أملته، وقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع، وبمعنى الإمالة، وقد قال ابن عباس وغيره في هذه الآية: «صرهن»: معناه: قطعهن، وقال قتادة: صرهن: فصلهن، وقال عطاء بن أبي رباح: صرهن: اضممهن، وقال ابن زيد: معناه: اجمعهن، وعن ابن عباس أيضا: أوثقهن.
وقرأ قوم: «فصرهن»؛ بضم الصاد، وشد الراء؛ كأنه يقول: فشدهن؛ ومنه: صرة الدنانير.
[2.261-264]
قوله تعالى: { مثل الذين ينفقون أمولهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضعف لمن يشآء والله وسع عليم } في الآية بيان شرف النفقة في سبيل الله، وتحسينها، وضمنها التحريض على ذلك، وهذه الآية في نفقة التطوع، وسبل الله كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة، وعائد بمنفعة على المسلمين، وعلى الملة وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد؛ لتكون كلمة الله هي العليا، والحبة: اسم جنس لكل ما يزرعه ابن آدم، وأشهر ذلك البر، وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب، فأكثر، وقد ورد القرآن؛ بأن الحسنة بعشر أمثالها؛ واقتضت الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، وبين ذلك الحديث الصحيح، واختلف في معنى قوله سبحانه: { والله يضعف لمن يشاء } ، فقيل: هي مبينة، ومؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام من الله تعالى؛ بأنه يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.
* ت *: وأرجح الأقوال عندي قول هذه الطائفة، وفي الحديث الصحيح عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، قال:
" إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة... "
الحديث، رواه مسلم والبخاري بهذه الحروف. انتهى.
وقال ابن عمر: لما نزلت هذه الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" «رب، زد أمتي»، فنزلت: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا... } ، [البقرة:245] الآية، فقال: «رب، زد أمتي»، فنزلت: { إنما يوفى الصبرون أجرهم بغير حساب } [الزمر:10] ".
وفي الآية حذف مضاف، تقديره مثل إنفاق الذين، وكمثل ذي حبة، وقوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، لما تقدم في الآية التي قبلها ذكر فضل الإنفاق في سبيل الله على العموم، بين أن ذلك إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه منا ولا أذى، وذلك أن المنفق في سبيل الله، إنما يريد وجه الله تعالى، ورجاء ثوابه، وأما من أراد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله تعالى، وهذا هو الذي متى أخلفه ظنه، من بالإنفاق وآذى، إذ لم يكن إنفاقه مخلصا لوجه الله، فالمن والأذى مبطلان للصدقة، وهما كاشفان لمقاصد المنفقين، والمن: ذكر النعمة؛ على معنى التعديد لها، والتقريع بها، والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المن، لأن المن جزء من الأذى، ولكنه نص عليه؛ لكثرة وقوعه، وقال زيد بن أسلم: لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه، تريد وجه الله، فلا تسلم عليه، وقالت له امرأة: «يا أبا أسامة، دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا؛ فإنهم إنما يخرجون؛ ليأكلوا الفواكه، فإن عندي أسهما وجعبة، فقال لها: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم».
وتضمن الله الأجر للمنفق في سبيل الله، والأجر: الجنة، ونفى عنه الخوف لما يستقبل، والحزن على ما سلف من دنياه؛ لأنه يغتبط بآخرته.
* ت *: ومما جاء من صحيح الآثار في هذا الباب ما رواه مالك في «الموطإ»، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة، يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة، دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة، دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام، دعي من باب الريان، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم "
، قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد»: في هذا الحديث من الفقه: [والفضائل] الحض على الإنفاق في سبل الخير، ومعنى زوجين، أي: شيئين من نوع واحد؛ نحو درهمين، أو دينارين، أو فرسين، أو قميصين، هكذا قال أهل العلم، وفيه: أن من أكثر من شيء، عرف به، ونسب إليه؛ ألا ترى إلى قوله: «فمن كان من أهل الصلاة»، يريد: من أكثر منها، فنسب إليها؛ لأن الجميع من أهل الصلاة؛ وكذلك: من أكثر من الجهاد، ومن الصيام على هذا المعنى، والريان: فعلان من الري، ومعنى الدعاء من تلك الأبواب: إعطاؤه ثواب العاملين تلك الأعمال، ونيله ذلك، والله أعلم، وفيه: أن للجنة أبوابا، يعني: متعددة بحسب الأعمال. انتهى.
وروى ابن أبي شيبة في «مسنده»، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن لكل أهل عمل بابا من أبواب الجنة يدعون فيه بذلك العمل "
هذا لفظه على ما نقله صاحب «الكوكب الدري». انتهى.
قوله تعالى: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى }: هذا إخبار، جزم من الله تعالى أن القول المعروف؛ وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله - خير من صدقة، هي في ظاهرها صدقة، وفي باطنها لا شيء؛ لأن ذلك القول المعروف فيه أجر، وهذه لا أجر فيها، والمغفرة: الستر للخلة، وسوء حالة المحتاج؛ ومن هذا قول الأعرابي، وقد سأل قوما بكلام فصيح، فقال له قائل: ممن الرجل؟ فقال: «اللهم غفرا، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب».
وقال النقاش يقال: معناه: ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا، إذا حرم.
ثم أخبر تعالى بغناه عن صدقة من هذه حاله، وحلمه عمن يقع منه هذا وإمهاله.
وحدث [ابن] الجوزي في «صفوة الصفوة» بسنده إلى حارثة بن النعمان الصحابي - رضي الله عنه - قال، لما كف بصره، جعل خيطا في مصلاه إلى باب حجرته، ووضع عنده مكتلا فيه تمر وغير ذلك، فكان إذا سأل المسكين أخذ من ذلك التمر، ثم أخذ من ذلك الخيط؛ حتى يأخذ إلى باب الحجرة، فيناوله المسكين، فكان أهله يقولون: نحن نكفيك، فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن مناولة المسكين تقي ميتة السوء "
انتهى.
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والأذى... } الآية. العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات، فقال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمن بها أو يؤذي؛ فإنها لا تتقبل صدقة، وقيل: بل يجعل الله للملك عليها أمارة، فهو لا يكتبها، قال: * ع *: وهذا حسن؛ لأن المان المؤذي لم تكن نيته خالصة لله سبحانه، فلم تترتب له صدقة، فهذا هو البطلان بالمن والأذى، وهما لا يبطلان صدقة غيرها سالمة النية.
ثم مثل الله سبحانه هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمه نيته؛ بالذي ينفق رياء، لا لوجه الله، والرياء: مصدر من «فاعل» من الرؤية: كأن الرياء تظاهر، وتفاخر بين من لا خير فيه من الناس.
قال المهدوي: والتقدير: كإبطال الذي ينفق رياء.
وقوله تعالى: { ولا يؤمن بالله واليوم الأخر } يحتمل أن يريد الكافر أو المنافق؛ إذ كل منهما ينفق؛ ليقال: جواد، ثم مثل سبحانه هذا المنفق رياء بصفوان عليه تراب، فيظنه الظان أرضا منبتة طيبة؛ كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي لها قدر، أو معنى، فإذا أصاب الصفوان وابل من المطر، انكشف ذلك التراب، وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائي، إذا كان يوم القيامة، وحضرت الأعمال، انكشف سره، وظهر أنه لا قدر لصدقاته، ولا معنى، والصفوان: الحجر الكبير الأملس، والوابل: الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل وجه الأرض، والصلد من الحجارة: الأملس الصلب الذي لا شيء فيه، ويستعار للرأس الذي لا شعر فيه.
وقوله تعالى: { لا يقدرون } يريد: الذين يتفقون رياء، أي لا يقدرون على الانتفاع بشيء من إنفاقهم ذلك، وهو كسبهم.
وقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الكفرين } إما عموم يراد به الخصوص، ويحتمل لا يهديهم في كفرهم؛ إذ هو ضلال محض، ويحتمل: لا يهديهم في صدقاتهم، وأعمالهم، وهم على الكفر.
[2.265-266]
وقوله تعالى: { ومثل الذين ينفقون أمولهم ابتغاء مرضات الله... } الآية: من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكر نقيض ما يتقدم ذكره؛ ليتبين حال التضاد بعرضها على الذهن، ولما ذكر الله صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين بذلوا صدقاتهم على وجهها في الشرع، فضرب لها مثلا، وتقدير الكلام: ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل غارس جنة، أو تقدر الإضمار في آخر الكلام، دون إضمار في أوله؛ كأنه قال: كمثل غارس جنة - وابتغاء: معناه طلب، وهو مصدر في موضع الحال - وتثبيتا: مصدر، ومرضاة: مصدر من: رضي.
قال: * ص *: { ابتغاء مرضات الله وتثبيتا } كلاهما مفعول من أجله، وقاله مكي، ورده ابن عطية؛ بأن ابتغاء: لا يكون مفعولا من أجله، لعطف: «وتثبتا» عليه، ولا يصح في «تثبيت» أن يكون مفعولا من أجله؛ لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت؛ وأجيب: بأنه يمكن أن يقدر مفعول التثبيت الثواب، أي: وتحصيلا لأنفسهم الثواب على تلك النفقة؛ فيصح أن يكون مفعولا من أجله، ثم قال أبو حيان، بعد كلام: والمعنى أنهم يثبتون من أنفسهم على الإيمان، وما يرجونه من الله تعالى بهذا العمل. انتهى.
قال قتادة وغيره: { وتثبيتا }: معناه: وتيقنا، أي: أن نفوسهم لها بصائر متأكدة، فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتا، وقال مجاهد والحسن: معنى قوله: { وتثبيتا } ، أي: أنهم يتثبتون، أين يضعون صدقاتهم.
قال الحسن: كان الرجل، إذا هم تثبت؛ فإن كان ذلك لله أمضاه، وإن خالطه شيء أمسك.
والقول الأول أصوب؛ لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد، والحسن إنما عبارته: «وتثبيتا»، فإن قال محتج: إن هذا من المصادر التي خرجت على غير الصدر؛ كقوله تعالى:
وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل:8]
والله أنبتكم من الأرض نباتا
[نوح:17] فالجواب: أن هذا لا يسوغ إلا مع ذكر الصدر، والإفصاح بالفعل المتقدم للمصدر، وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل، فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه، ثم تقول: أحمله على فعل كذا وكذا؛ لفعل لم يتقدم له ذكر، هذا مهيع كلام العرب فيما علمت.
والربوة: ما ارتفع من الأرض ارتفاعا يسيرا معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه وتعمقه، وما كان كذلك، فنباته أحسن.
ولفظ الربوة: مأخوذ من: ربا يربو، إذا زاد، وآتت: معناه أعطت، والأكل؛ بضم الهمزة: الثمر الذي يؤكل، والشيء المأكول من كل شيء، يقال له: أكل، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص؛ كسرج الدابة، وباب الدار، وضعفين: معناه اثنين مما يظن بها، ويحزر من مثلها.
ثم أكد سبحانه مدح هذه الربوة؛ بأنها إن لم يصبها وابل، فإن الطل يكفيها، وينوب مناب الوابل؛ وذلك لكرم الأرض، والطل: المستدق من القطر، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة، فشبه سبحانه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم؛ كتربية الفلو والفصيل؛ حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة، وذلك كله بخلاف الصفوان، وفي قوله تعالى: { والله بما تعملون بصير }: وعد ووعيد.
وقوله تعالى: { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب... } الاية: حكى الطبري عن ابن زيد، أنه قرأ قوله تعالى:
يأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن...
[البقرة:264] الآية: ثم قال: ضرب الله في ذلك مثلا؛ فقال: { أيود أحدكم... } الآية، وهذا بين، وهو مقتضى سياق الكلام، وقال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله؛ كأنه قال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير، فإذا فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فرضي ذلك عمر منه، رضي الله عنه، وروى ابن أبي مليكة عن عمر نحو.
* ع *: فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وقال بنحو هذا مجاهد وغيره، ونقل الثعلبي عن الحسن، قال: قل والله، من يعقل هذا المثل شيخ كبر سنه، وضعف جسمه، وكثر عياله، أفقر ما كان إلى جنته، وأحدكم أفقر ما يكون إلى عمله، إذا انقطعت الدنيا عنه. انتهى، وهو حسن جدا.
وقال أبو عبد الله اللخمي في «مختصره» لتفسير الطبري: وعن قتادة: هذا مثل، فاعقلوا عن الله أمثاله؛ هذا رجل كبرت سنه، ورق عظمه، وكثر عياله، ثم احترقت جنته، أحوج ما يكون إليها، يقول: أيحب أحدكم أن يضل عنه عمله يوم القيامة أحوج ما يكون إليه. وعن الحسن نحوه. انتهى.
وخص الأعناب والنخيل بالذكر، لشرفهما، وفضلهما على سائر الشجر، والواو في قوله: { وأصابه } واو الحال؛ وكذلك في قوله: { وله } ، وضعفاء: جمع ضعيف، والأعصار: الريح الشديدة العاصفة التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه يكون ذلك في شدة الحر، ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح جهنم.
و { لعلكم }: ترج في حق البشر، أي: إذا تأمل من بين له هذا البيان رجي له التفكر، وكان أهلا له، وقال ابن عباس: تتفكرون في زوال الدنيا، وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
[2.267-269]
قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبت ما كسبتم... } الآية: هذا خطاب لجميع أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه صيغة أمر بالإنفاق، واختلف المتأولون، هل المراد بهذا الإنفاق الزكاة المفروضة، أو التطوع، والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب، وصاحب التطوع يتلقاها على الندب ، وجمهور المتأولين قالوا: معنى { من طيبات }: من جيد ومختار ما كسبتم، وجعلوا الخبيث بمعنى الرديء، وقال ابن زيد: معناه: من حلال ما كسبتم، قال: وقوله: { ولا تيمموا الخبيث } ، أي: الحرام.
* ع *: وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية، لا من معناه في نفسه.
و { كسبتم }: معناه: كانت لكم فيه سعاية، { ومما أخرجنا لكم من الأرض }: النباتات، والمعادن، والركاز، وما ضارع ذلك، و { تيمموا }: معناه: تعمدوا، وتقصدوا، والتيمم: القصد، وقال الجرجاني: قال فريق من الناس: إن الكلام تم في قوله: { الخبيث } ، ثم ابتدأ خبرا آخر، فقال: تنفقون منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي: ساهلتم، قال: * ع *: كأن هذا المعنى عتاب للنفس وتقريع؛ وعلى هذا، فالضمير في { منه } عائد على { الخبيث }.
قال الجرجاني: وقال فريق آخر: بل الكلام متصل إلى قوله: { فيه }؛ وعلى هذا، فالضمير في «منه» عائد على: «ما كسبتم»؛ كأنه في موضع نصب على الحال، والمعنى في الآية: فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم، واعلموا أن الله غني عن صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة، فليفعل ذلك بما له قدر.
* ت *: وهذا يقوي القول بأنها في الزكاة المفروضة، و { حميد }: معناه محمود.
وقوله تعالى: { الشيطن يعدكم الفقر... } الآية: هذه الآية وما بعدها - وإن لم تكن أمرا بالصدقة، فهي جالبة النفوس إلى الصدقة - بين - عز وجل - فيها نزغات الشيطان، ووسوسته، وعداوته، وذكر بثوابه هو سبحانه، لا رب غيره، وذكر بتفضله بالحكمة، وأثنى عليها، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون الذين يقيمون بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله، وغير ذلك، ثم ذكر سبحانه علمه بكل نفقة ونذر، وفي ذلك وعد ووعيد، ثم بين الحكم في الإعلان والإخفاء؛ وكذلك إلى آخر المعنى.
والوعد؛ في كلام العرب، إذا أطلق، فهو في الخير، وإذا قيد بالموعود، فقد يقيد بالخير، وقد يقيد بالشر؛ كالبشارة، وهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه، والفحشاء: كل ما فحش، وفحش ذكره، روى ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى، فليتعوذ بالله من الشيطان "
ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: { الشيطن يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء... } الآية. قلت: هذا حديث صحيح خرجه أبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حسن غريب صحيح.
والمغفرة: هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل: هو الرزق في الدنيا، والتوسعة فيه، والنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله جل وعلا، وروي، أن في التوراة: «عبدي، أنفق من رزقي، أبسط عليك فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة»؛ وفي القرآن مصداقه، وهو:
وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين
[سبأ:39]
* ت *: روى الطبراني سليمان بن أحمد، بسنده عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أطعم أخاه حتى يشبعه، وسقاه من الماء، حتى يرويه، بعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندقين مسيرة مائة عام "
انتهى.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري، كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلما على ظمإ، سقاه الله عز وجل من الرحيق المختوم "
أخرجه أبو داود، من حديث أبي خالد، هو الدالاني، عن نبيح، وقد وثق أبو حاتم أبا خالد، وسئل أبو زرعة عن نبيح، فقال: هو كوفي ثقة. انتهى من «الإلمام في أحاديث الأحكام»؛ لابن دقيق العيد.
و { وسع }: لأنه وسع كل شيء رحمة وعلما.
{ يؤتي الحكمة }: أي: يعطيها لمن يشاء من عباده، والحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في عمل أو قول، وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه - عليه السلام - حكمة، وكل ما ذكره المتأولون فيها، فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس، قال الإمام الفخر في شرحه لأسماء الله الحسنى: قال المحققون : العلماء ثلاثة: علماء بأحكام الله فقط؛ وهم العلماء أصحاب الفتوى، وعلماء بالله فقط؛ وهم الحكماء، وعلماء بالقسمين؛ وهم الكبراء، فالقسم الأول كالسراج يحرق نفسه، ويضيء لغيره، والقسم الثاني حالهم أكمل من الأول؛ لأنه أشرق قلبه بمعرفة الله، وسره بنور جلال الله، إلا أنه كالكنز تحت التراب، لا يصل أثره إلى غيره، وأما القسم الثالث، فهم أشرف الأقسام، فهو كالشمس تضيء العالم؛ لأنه تام، وفوق التام. انتهى.
وباقي الآية تذكرة بينة، وإقامة لهمم الغفلة - و { الألبب }: العقول، واحدها لب.
[2.270-271]
وقوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر... } الآية: يقال: نذر الرجل كذا، إذا التزم فعله.
وقوله تعالى: { فإن الله يعلمه }. قال مجاهد: معناه: يحصيه، وفي الآية وعد ووعيد، أي: من كان خالص النية، فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى، ونحو ذلك، فهو ظالم يذهب فعله باطلا، ولا يجد ناصرا فيه.
وقوله تعالى: { إن تبدوا الصدقت فنعما هي... } الآية: ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع، قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال: بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفا، قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
* ع *: ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة "
، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء، والنوافل عرضة لذلك، قال الطبري: أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل.
وقوله تعالى: { فنعما هي }: ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء، والتقدير: نعم شيء إبداؤها، فالإبداء هو المخصوص بالمدح؛ وخرج أبو داود في «سننه»، عن أبي أمامة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" انطلق برجل إلى باب الجنة، فرفع رأسه، فإذا على باب الجنة مكتوب: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض الواحد بثمانية عشر؛ لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا وهو محتاج، والصدقة ربما وضعت في غني "
، وخرجه ابن ماجة في «سننه»، قال: حدثنا عبيد الله بن عبد الكريم، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوب: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: إن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة "
انتهى من «التذكرة».
وقرأ ابن كثير وغيره: «ونكفر»؛ بالنون، ورفع الراء، وقرأ ابن عامر: «ويكفر»، بالياء، ورفع الراء، وقرأ نافع وغيره: «ونكفر»، بالنون، والجزم، فأما رفع الراء، فهو على وجهين:
أحدهما: أن يكون الفعل خبر ابتداء، تقديره: ونحن نكفر، أو: والله يكفر.
والثاني: القطع، والاستئناف، والواو لعطف جملة على جملة، والجزم في الراء أفصح هذه القراءات؛ لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء، وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء، وأما رفع الراء، فليس فيه هذا المعنى، و «من» في قوله: { من سيئاتكم } للتبعيض المحض، لا أنها زائدة؛ كما زعم قوم، { والله بما تعملون خبير }: وعد ووعيد.
[2.272-273]
وقوله تعالى: { ليس عليك هداهم... } الآية: وردت آثار أن النبي صلى الله عليه وسلم منع فقراء أهل الذمة من الصدقة، فنزلت الآية مبيحة لهم، وذكر الطبري؛ أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة، إنما كان ليسلموا، وليدخلوا في الدين، فقال الله سبحانه: { ليس عليك هداهم } ، قال: * ع *: وهذه الصدقة التي أبيحت لهم حسبما تضمنته هذه الآثار، إنما هي صدقة التطوع، وأما المفروضة، فلا يجزىء دفعها لكافر، قال ابن المنذر: إجماعا فيما علمت، وقول المهدوي: إباحتها هذه الآية مردود، قال ابن العربي، وإذا كان المسلم يترك أركان الإسلام من الصلاة، والصيام، فلا تصرف إليه الصدقة؛ حتى يتوب، وسائر المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها؛ لدخولهم في اسم المسلمين. انتهى من «الإحكام»، ويعني بالصدقة المفروضة، والهدى الذي ليس على نبينا صلى الله عليه وسلم هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى الذي هو الدعاء، فهو عليه صلى الله عليه وسلم ، وليس بمراد في هذه الآية.
ثم أخبر سبحانه؛ أنه يهدي من يشاء، وفي الآية رد على القدرية وطوائف المعتزلة، ثم بين تعالى؛ أن النفقة المقبولة ما كان ابتغاء وجه الله.
وفي الآية تأويل آخر، وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة؛ أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله سبحانه، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل، { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } ، أي: في الآخرة، وهذا هو بيان قوله: { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } ، والخير هنا: المال؛ بقرينة الإنفاق، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، وهذا الذي قلناه تحرزا من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله، فهو المال.
وقوله تعالى: { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله... } الآية: التقدير: الإنفاق أو الصدقة للفقراء، قال مجاهد وغيره: المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم.
* ع *: ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر، ثم بين الله سبحانه من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله: { الذين أحصروا في سبيل الله } ، والمعنى: حبسوا، ومنعوا، وتأول الطبري في هذه الآية؛ أنهم هم حابسوا أنفسهم بربقة الدين، وقصد الجهاد، وخوف العدو، إذ أحاط بهم الكفر، فصار خوف العدو عذرا أحصروا به.
* ع *: كأن هذه الأعذار أحصرتهم، فالعدو وكل محيط يحصر، وقوله: { في سبيل الله } يحتمل الجهاد، ويحتمل الدخول في الإسلام، والضرب في الأرض: هو التصرف في التجارة، وكانوا لا يستطيعون ضربا في الأرض؛ لكون البلاد كلها كفرا مطبقا، وهذا في صدر الهجرة، وكانوا - رضي الله عنهم - من الانقباض، وترك المسألة، والتوكل على الله تعالى؛ بحيث يحسبهم الجاهل بباطن أحوالهم أغنياء.
* ت *: واعلم أن المواساة واجبة، وقد خرج مسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري، قال:
" بينما نحن في سفر، مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة، فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» "
، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر؛ حتى رئينا أنه لا حق لأحد منا في فضل انتهى.
و { التعفف }: تفعل، وهو بناء مبالغة من: عف عن الشيء، إذا أمسك عنه، وتنزه عن طلبه، وبهذا المعنى فسره قتادة وغيره.
* ت *: مدح الله سبحانه هؤلاء السادة على ما أعطاهم من غنى النفس، وفي الحديث الصحيح:
" ليس الغنى عن كثرة المال، وإنما الغنى غنى النفس "
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" اللهم، اجعل قوت آل محمد كفافا "
أخرجه مسلم، وغيره، وعندي أن المراد بالآل هنا متبعوه صلى الله عليه وسلم.
وفي سنن ابن ماجة، عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما من غني، ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا "
، وروى مسلم والترمذي عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسك شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى "
، قال أبو عيسى، واللفظ له: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
وقوله سبحانه: { تعرفهم بسيمهم }: السيما؛ مقصورة: العلامة، واختلف المفسرون في تعيينها، فقال مجاهد: هي التخشع والتواضع، وقال الربيع، والسدي: هي جهد الحاجة، وقضف الفقر في وجوههم، وقلة النعمة، وقال ابن زيد: هي رثة الثياب، وقال قوم، وحكاه مكي: هي أثر السجود، قال: * ع *: وهذا حسن، وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين، لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم أبدا، والإلحاف، والإلحاح بمعنى، قال: * ع *: والآية تحتمل معنيين.
أحدهما: نفي السؤال جملة، وهذا هو الذي عليه الجمهور؛ أنهم لا يسألون البتة.
والثاني: نفي الإلحاف فقط، أي: لا يظهر لهم سؤال، بل هو قليل وبإجمال.
* ت *: وهذا الثاني بعيد من ألفاظ الآية، فتأمله.
* ت *: وينبغى للفقير أن يتعفف في فقره، ويكتفي بعلم ربه، قال الشيخ ابن أبي جمرة: وقد قال أهل التوفيق: من لم يرض باليسير، فهو أسير.
انتهى، وذكر عبد الملك بن محمد بن أبي القاسم بن الكردبوس في «الاكتفاء في أخبار الخلفاء»، قال: وتكلم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بتسع كلمات، ثلاث في المناجاة، وثلاث في الحكمة، وثلاث في الآداب؛ أما المناجاة، فقال: كفاني فخرا أن تكون لي ربا، وكفاني عزا أن أكون لك عبدا، وأنت كما أحب، فاجعلني كما تحب، وأما الحكمة، فقال: قيمة كل امرىء ما كان يحسنه، وما هلك امرؤ عرف قدر نفسه، والمرء مخبوء تحت لسانه، وأما الآداب، فقال: استغن عمن شئت، فأنت نظيره، وتفضل على من شئت، فأنت أميره، واضرع إلى من شئت، فأنت أسيره. انتهى.
ولما كانت السيما تدل على حال صاحبها، ويعرف بها حاله، أقامها الله سبحانه مقام الإخبار عن حال صاحبها، فقال: «تعرفهم بسيماهم»، وقد قال الشيخ العارف بالله صاحب «الكلم الفارقية والحكم الحقيقية»: كل ما دل على معنى، فقد أخبر عنه، ولو كان صامتا، وأشار إليه، ولو كان ساكتا، لكن حصول الفهم والمعرفة بحسب اعتبار المعتبر، ونظر المتأمل المتدبر. انتهى.
قال:* ع *: وفي الآية تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا، وقال: * ص *: وقوله تعالى: { لا يسئلون الناس إلحافا } ، إذا نفي حكم من محكوم عليه بقيد، فالأكثر في لسانهم انصراف النفي إلى ذلك القيد، فالمعنى على هذا: ثبوت سؤالهم، ونفي الإلحاح، ويجوز أن ينفي الحكم، فينتفي ذلك القيد، فينتفي السؤال والإلحاح، وله نظائر. انتهى.
وقوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }: وعد محض، أي: يعلمه، ويحصيه؛ ليجازي عليه، ويثيب.
[2.274-277]
وقوله تعالى: { الذين ينفقون أمولهم باليل والنهار... } الآية: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كانت له أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، وقال قتادة: نزلت في المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير، قال: * ع *: والآية، وإن كانت نزلت في علي - رضي الله عنه - فمعناها يتناول كل من فعل فعله، وكل مشاء بصدقته في الظلم إلى مظنة الحاجة.
وقوله تعالى: { الذين يأكلون الربوا } { الربا }: هو الزيادة، مأخوذ من: ربا يربو، إذا نما، وزاد على ما كان، وغالبه: ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم: «أتقضي، أم تربي»، فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد؛ وكذلك أكثر البيوع الممنوعة، إنما تجد منعها لمعنى زيادة؛ إما في عين مال، أو في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه، ومعنى الآية: الذين يكسبون الربا، ويفعلونه، وإنما قصد إلى لفظة الأكل؛ لأنها أقوى مقاصد الناس في المال، قال ابن عباس وغيره: معنى قوله سبحانه: { لا يقومون } ، أي: من قبورهم في البعث يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، قالوا: كلهم يبعث كالمجنون؛ عقوبة له وتمقيتا عند جميع المحشر؛ ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة عبد الله بن مسعود: «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم».
وقوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا } معناه؛ عند جميع المتأولين: في الكفار، وأنه قول بتكذيب الشريعة، والآية كلها في الكفار المربين، نزلت، ولهم قيل: { فله ما سلف } ، ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية، ثم جزم الله سبحانه الخبر في قوله: { وأحل الله البيع وحرم الربوا } ، قيل: هذا من عموم القرآن المخصص، وقيل: من مجمله المبين، قال جعفر بن محمد الصادق: وحرم الله الربا؛ ليتقارض الناس.
وقوله تعالى: { فله ما سلف } ، أي: من الربا؛ لا تباعة عليه في الدنيا والآخرة، وهذا حكم من الله سبحانه لمن أسلم من الكفار، وفي قوله تعالى: { وأمره إلى الله } أربع تأويلات:
أحدها: أمر الربا في إمرار تحريمه وغير ذلك.
والثاني: أمر ما سلف، أي: في العفو وإسقاط التبعة فيها.
والثالث: أن الضمير عائد على ذي الربا؛ بمعنى: أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية.
والرابع: أن يعود الضمير على المنتهى، ولكن بمعنى التأنيس له ، وبسط أمله في الخير.
وقوله تعالى: { ومن عاد } ، يعني: إلى فعل الربا، والقول؛ إنما البيع الربا، والخلود في حق الكافر: خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظنا الآية في مسلم عاص، فهو خلود مستعار على معنى المبالغة.
وقوله تعالى: { يمحق الله الربوا ويربي الصدقت } ، { يمحق }: معناه: ينقص، ويذهب؛ ومنه: محاق القمر، وهو انتقاصه، { ويربي الصدقت }: معناه: ينميها، ويزيد ثوابها تضاعفا، تقول: ربت الصدقة، وأرباها الله تعالى، ورباها، وذلك هو التضعيف لمن يشاء؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم
" إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله تعالى، فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله؛ حتى تجيء يوم القيامة، وإن اللقمة لعلى قدر أحد ".
قال: * ع *: وقد جعل الله سبحانه هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشيع من بني آدم؛ إذ يظن الربا يغنيه، وهو في الحقيقة ممحق، ويظن الصدقة تفقره، وهي في الحقيقة نماء في الدنيا والآخرة، وعن يزيد بن أبي حبيب؛ أن أبا الخير حدثه؛ أنه سمع عقبة ابن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" كل امرىء في ظل صدقته؛ حتى يفصل بين الناس "
أو قال:
" حتى يحكم بين الناس "
، قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق بشيء فيه، ولو كعكة أو بصلة، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، يعني: البخاري ومسلما. انتهى من «الإلمام في أحاديث الأحكام»؛ لابن دقيق العيد.
قال الشيخ ابن أبي جمرة: ولا يلهم للصدقة إلا من سبقت له سابقة خير. انتهى.
قال أبو عمر في «التمهيد»: وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على بنيه، وكان في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، وحفظ في يوم صدقته من كل عاهة وآفة "
انتهى.
وروى أبو داود في «سننه»، أن سعد بن عبادة، قال:
" يا رسول الله، إن أم سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء، فحفر بئرا، وقال: هذه لأم سعد ".
وروى أبو داود في «سننه »، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري، كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلما على ظمإ، سقاه الله من الرحيق المختوم "
انتهى.
وقوله تعالى: { والله لا يحب كل كفار أثيم } يقتضي الزجر للكفار المستحلين للربا، ووصف «الكفار» ب «أثيم» إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان، وإما ليذهب الاشتراك الذي في «كفار»؛ إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض، قاله ابن فورك.
ولما انقضى ذكر الكافرين، عقب سبحانه بذكر ضدهم؛ ليبين ما بين الحالتين، فقال: { إن الذين ءامنوا... } الآية، وقد تقدم تفسير مثل هذه الألفاظ.
[2.278-281]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا... } الآية: سبب هذه الآية أنه لما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، قال في خطبته اليوم الثاني من الفتح:
" ألا كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس "
فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه، وأخص الناس به، وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته، فيستفيض في الناس، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، فلما استنزل صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام، اشترطوا شروطا، وكان في شروطهم: أن كل ربا لهم على الناس؛ فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم، فهو موضوع، فيروى؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه، ثم ردها الله بهذه الآية؛ كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية، وذكر النقاش رواية؛
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف: «لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم» "
، فلما جاءت آجال رباهم، بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت على بني المغيرة للمخزوميين، فقال بنو المغيرة: لا نعطي شيئا؛ فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت بها ثقيف، فكفت: هذا سبب الآية على اختصار مما روى ابن إسحاق، وابن جريج، والسدي وغيرهم.
فمعنى الآية: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا، وصفحكم عنه، ثم توعدهم تعالى، إن لم يذروا الربا بحرب منه، ومن رسوله، وأمته، والحرب داعية القتل.
وقوله تعالى: { فأذنوا } قال سيبويه: آذنت: أعلمت.
* ت *: وهكذا فسره البخاري، فقال: قال أبو عبد الله: فأذنوا، فاعلموا، وقال: * ع *: هي عندي من الأذن، وقال ابن عباس وغيره: معناه فاستيقنوا بحرب.
ثم ردهم سبحانه مع التوبة إلى رءوس أموالهم، وقال لهم: لا تظلمون في أخذ الزائد، ولا تظلمون في أن يتمسك بشيء من رءوس أموالكم، ويحتمل لا تظلمون في مطل، لأن مطل الغني ظلم؛ كما قال - عليه الصلاة والسلام - فالمعنى أنه يكون القضاء، مع وضع الربا؛ وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح؛ ألا ترى
" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار على كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر، فقال كعب: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للآخر: «قم، فاقضه» "
، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات.
وقوله سبحانه: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } حكم الله تعالى لأرباب الربا برءوس أموالهم عند الواجدين للمال، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حال اليسر، والعسر: ضيق الحال من جهة عدم المال، والنظرة التأخير.
* ت *: وفي «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا، فتجاوز عنه، لعل الله يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز عنه "
، وفي «صحيح مسلم»:
" من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر، أو يضع عنه "
، وفي رواية:
" من أنظر معسرا، أو وضع عنه، أنجاه الله من كرب يوم القيامة "
، وفي رواية:
" من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظله "
انتهى.
والميسرة: مصدر بمعنى اليسر، وارتفع: «ذو عسرة» ب «كان» التامة التي هي بمعنى: «وجد، وحدث»، وارتفع قوله: «فنظرة»؛ على خبر ابتداء مقدر، تقديره فالواجب نظرة.
واختلف أهل العلم هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة واقف على أهل الربا خاصة، وهو قول ابن عباس، وشريح، أو هو منسحب على كل دين حلال، وهو قول جمهور العلماء؟
* ع *: وما قاله ابن عباس إنما يترتب، إذا لم يكن فقر مدقع، وأما مع الفقر والعدم الصريح، فالحكم هي النظرة ضرورة.
* ت *: ولا يخالف ابن عباس في ذلك.
وقوله تعالى: { وأن تصدقوا خير لكم }: ندب الله بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر، وجعل ذلك خيرا من إنظاره، قاله جمهور العلماء.
وروى سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب؛ أنه قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة.
وقال ابن عباس: آخر ما نزل آية الربا.
قال: * ع *: ومعنى هذا عندي، أنها من آخر ما نزل؛ لأن جمهور الناس؛ ابن عباس، والسدي، والضحاك، وابن جريج، وغيرهم، قالوا: آخر آية نزلت قوله تعالى: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } ، وروي أن قوله: { واتقوا } نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال، ثم لم ينزل بعدها شيء، وروي بثلاث ليال، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه صلى الله عليه وسلم قال:
" اجعلوها بين آية الربا وآية الدين "
، وحكى مكي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" جاءني جبريل، فقال: اجعلها على مائتين وثمانين آية من البقرة ".
وقوله تعالى: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله... } الآية، وعظ لجميع الناس، وأمر يخص كل إنسان.
* ت *: حدثني من أثق به؛ أنه جلس عند شيخ من الأفاضل يجود عليه القرآن، فقرئت عليه هذه الآية، فبكى عندها، ثم بكى، إلى أن فاضت نفسه، ومال، فحركوه، فإذا هو ميت رحمه الله ونفع به، يا هذا، من صحا عقله من سكر هواه، وجهله، احترق بنار الندم والخجل من مهابة نظر ربه، وتنكرت صورة حاله في عينه نفوس الأغبياء الجهال، غافلة عن العظمة والجلال، ولاهية عن أهوال المعاد والمآل، مشغولة برذائل الأفعال، وفضول القيل والقال، والاستنباط والاحتيال؛ لازدياد الأموال، ولا يعلمون أنها فتنة ووبال، وطول حساب وبلاء وبلبال، اغتنموا، يا ذوي البصائر نعمة الإمهال، واطرحوا خوادع الأماني، وكواذب الآمال، فكأن قد فجأتكم هواجم الآجال. انتهى من «الكلم الفارقية، في الحكم الحقيقية».
و { يوما }: نصب على المفعول، لا على الظرف، وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة، والحساب والتوفية، وقال قوم: هو يوم الموت، والأول أصح، وهو يوم تنفطر لذكره القلوب، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان، وهذا رد على الجبرية.
[2.282]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه... } الآية.
قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة، قال: * ع *: معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات؛ إجماعا، ووصفه الأجل ب { مسمى } - دليل على أن الجهالة لا تجوز، وقال جمهور العلماء: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال، وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا، فما يضره الكتب، وإن كان غير ذلك، فالكتب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق، قال بعضهم: إن أشهدت، فحزم، وإن ائتمنت، ففي حل وسعة.
* ع *: وهذا هو القول الصحيح، ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان، فقال: إن وقع ذلك،
فليؤد...
[البقرة:283] الآية، فهذه وصية للذين عليهم الديون.
واختلف في قوله تعالى: { وليكتب بينكم كاتب }.
فقال عطاء، والشعبي: واجب على الكاتب أن يكتب، إذا لم يوجد سواه، وقال السدي: هو واجب مع الفراغ.
وقوله: { بالعدل }: معناه: بالحق، ثم نهى الله سبحانه الكتاب عن الإباءة، وحكى المهدوي عن الربيع، والضحاك؛ أن قوله تعالى: { ولا يأب } منسوخ بقوله: { ولا يضار كاتب ولا شهيد } ، قال * ع *: أما إذا أمكن الكتاب، فليس يجب الكتب على معين، بل له الامتناع، إلا إذا استأجره، وأما إذا عدم الكاتب، فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الكاتب.
وقوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق... } الاية: أمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملال؛ لأن الشهادة، إنما تكون بحسب إقراره، وإذا كتبت الوثيقة، وأقر بها، فهي كإملاله، والبخس: النقص بنوع من المخادعة، والمدافعة، وهؤلاء الذين أمروا بالإملال هم المالكون لأنفسهم، إذا حضروا.
ثم ذكر تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمان، فقال: «فإن كان الذي عليه الحق سفيها»، والسفيه: الهلهل الرأي في المال، الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء منها؛ مشبه بالثوب السفيه، وهو الخفيف النسج، والسفه: الخفة، وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب، أو وصي وذلك هو وليه، ثم قال: { أو ضعيفا } ، والضعيف: هو المدخول في عقله، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا، والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير، ووليه وصيه أو أبوه، والغائب عن موضع الإشهاد لمرض أو لغير ذلك من الأعذار، ووليه وكيله، وأما الأخرس، فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع.
وقوله: { بالعدل }: معناه: بالحق، وقصد الصواب.
وقوله تعالى: { واستشهدوا شهيدين... } الآية: الاستشهاد: طلب الشهادة، وعبر ببناء مبالغة في «شهيدين»؛ دلالة على من قد شهد، وتكرر ذلك منه؛ فكأنه إشارة إلى العدالة، قال ابن العربي في «أحكامه»: والصحيح أن الأمر بالاستشهاد محمول على الندب.
اه.
وقوله تعالى: { من رجالكم }: نص في رفض الكفار، والصبيان، والنساء، وأما العبيد، فاللفظ يتناولهم.
واختلف العلماء فيهم، وقول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وجمهور العلماء: أن شهادتهم لا تجوز، وغلبوا نقض الرق.
واسم كان الضمير الذي في قوله: { يكونا } ، والمعنى؛ في قول الجمهور: فإن لم يكن المستشهد رجلين، وقال قوم: بل المعنى: فإن لم يوجد رجلان.
ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال، قال: * ع *: وهذا قول ضعيف؛ ولفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور.
وقوله: { فرجل وامرأتان } ، أي: فليشهد أو فليكن رجل وامرأتان.
وقوله تعالى: { ممن ترضون من الشهداء }: رفع في موضع الصفة؛ لقوله: { فرجل وامرأتان } ، وهذا الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القصة هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض.
وفي قوله: { ممن ترضون }: دليل على أن في الشهود من لا يرضى؛ فيجيء من ذلك، أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة؛ حتى تثبت لهم.
وقوله تعالى: { أن تضل إحداهما... } الآية: «أن» مفعول من أجله، و الشهادة لم تقع؛ لأن تضل إحداهما، وإنما وقع إشهاد امرأتين؛ لأن تذكر إحداهما، إن ضلت الأخرى، قال سيبويه، وهذا كما تقول: أعددت هذه الخشبة؛ أن يميل الحائط، فأدعمه.
* ع *: ولما كانت النفوس مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث، قدم في هذه العبارة ذكر سبب الأمر المقصود إلى أن يخبر به، وهذا من أبرع الفصاحة؛ إذ لو قال لك رجل: أعددت هذه الخشبة؛ أن أدعم بها هذا الحائط، لقال السامع: ولم تدعم حائطا قائما، فيجب ذكر السبب، فيقال: إذا مال، فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة، قال أبو عبيد: ومعنى: { تضل } تنسى.
* ع *: والضلال عن الشهادة: إنما هو نسيان جزء منها، وذكر جزء، ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالا.
وقوله تعالى: { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا... } الآية: قال قتادة وغيره: معنى الآية: إذا دعوا أن يشهدوا، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية جمعت أمرين: لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها وقاله ابن عباس، وقال مجاهد: معنى الآية لا تأب، إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك، وأسند النقاش إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه فسر الآية بهذا.
* ت *: وهذا هو الحقيقة في الآية، وأما تسمية الشيء بما يئول إليه، فمجاز، والشاهد حقيقة من حصلت له الشهادة، قال مجاهد: فأما إذا دعيت أولا، فإن شئت؛ فاذهب، وإن شئت، فلا تذهب»، وقاله جماعة، قال: * ع *: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين، والمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود والأمن من تعطل الحق، فالمدعو مندوب، وإن خيف تلف الحق بتأخر الشاهد، وجب عليه القيام بها؛ سيما إن كانت محصلة، ودعي لأدائها، فهذه آكد؛ لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء.
* م *: { ولا يأب الشهداء } ، قال أبو البقاء: مفعول «يأب» محذوف، أي: ولا يأب الشهداء إقامة الشهادة أو تحمل الشهادة، «وإذا»: ظرف ل «يأب»، ويحتمل أن يكون ظرفا للمفعول المحذوف. اه.
و { تسئموا }: معناه تملوا، وقدم الصغير؛ اهتماما به، و { أقسط }: معناه أعدل، و { أقوم } ، أي: أشد إقامة، وقيل: أقوم، من: قام؛ بمعنى: اعتدل، و { أدنى }: معناه: أقرب، و { ترتابوا }: معناه: تشكوا.
قال ابن هشام: { إلى أجله }: لا يصح تعلقه ب «تكتبوه»؛ لاقتضائه استمرار الكتابة إلى أجل الدين، وإنما هو حال، أي: مستقرا في الذمة إلى أجله. اه من «المغني».
وقوله تعالى: { إلا أن تكون تجرة حاضرة... } الآية: لما علم الله سبحانه مشقة الكتب عليهم، نص على ترك ذلك، ورفع الجناح فيه، في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب، إنما هو في قليل كالطعام ونحوه، لا في كثير؛ كالأملاك ونحوها، وقال السدي، والضحاك: هذا فيما كان يدا بيد، تأخذ وتعطي.
وقوله تعالى: { تديرونها }: يقتضي التقابض والبينونة في المقبوض.
وقوله تعالى: { وأشهدوا إذا تبايعتم } ، اختلف، هل ذلك على الوجوب، أو على النذب؟ والوجوب في ذلك قلق؛ أما في الدقائق، فصعب شاق، وأما ما كثر، فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد إلى غير ذلك من المصالح، فلا يشهد، ويدخل ذلك كله في الائتمان، ويبقى الأمر في الإشهاد ندبا؛ لما فيه من المصلحة في الأغلب، وحكى المهدوي عن قوم؛ أنهم قالوا: { وأشهدوا إذا تبايعتم } منسوخ بقوله تعالى:
فإن أمن...
[البقرة:283] الآية: وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري.
واختلف الناس في معنى قوله تعالى: { ولا يضار كاتب ولا شهيد } ، أي: كاختلافهم في قوله تعالى:
لا تضار ولدة بولدها
[البقرة:233]، هل الفعل مسند إلى الفاعل، فأصله: «ولا يضار كاتب ولا شهيد»؛ بكسر الراء، وقيل: مسند إلى المفعول الذي لم يسم فعله، فأصله: «ولا يضارر»؛ بفتحها.
* ع *: ووجوه المضارة لا تنحصر، وفك الفعل هي لغة الحجاز، والإدغام لغة تميم.
وقوله: { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم }؛ أي: وإن تفعلوا المضارة، وقوله: { بكم } ، أي: حال بكم.
وباقي الآية موعظة وتهديد، والله المستعان لا رب غيره، وقيل: معنى الآية الوعد؛ لأن من اتقى علم الخير وألهمه.
* ت *: وفي «العتبية» من سماع ابن القاسم، قال: سمعت مالكا يقول: سمعت أنه يقال: ما زهد عبد، واتقى الله إلا أنطقه الله بالحكمة. اه.
والمراد بهذا العلم العلم النافع الذي يورث الخشية؛ قال أبو عمر بن عبد البر: روينا عن مسروق، قال: «كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه»، أبو عمر: إنما أعرفه بعمله. اه من كتاب «فضل العلم».
[2.283-285]
وقوله تعالى: { وإن كنتم على سفر... } الآية: لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد، والكتب؛ لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل بدلها الرهن، ونص على السفر؛ إذ هو الغالب من الأعذار، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر.
قال: * ع *: رهن الشيء؛ في كلام العرب معناه: دام، واستمر، قيل: ولما كان الرهن بمعنى الثبوت، والدوام، فمن ثم بطل الرهن؛ عند الفقهاء: إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهن؛ لأنه فارق ما جعل له.
وقوله تعالى: { مقبوضة }: هي بينونة المرتهن بالرهن.
وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن؛ وكذلك على قبض وكيله؛ فيما علمت.
واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه.
فقال مالك، وجميع أصحابه، وجمهور العلماء: قبض العدل قبض.
وقال الحكم بن عتيبة، وغيره: ليس بقبض.
وقول الجمهور أصح؛ من جهة المعنى في الرهن.
وقوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضا }: شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضا }: معناه: إن أسقط الكتب، والإشهاد، والرهن، وعول على أمانة المعامل، فليؤد الأمانة، وليتق الله ربه؛ وهذا يبين أن الإشهاد ليس بواجب؛ إذ لو كان واجبا، لما جاز إسقاطه، ثم قال: وجملة الأمر أن الإشهاد حزم، والائتمان ثقة بالله تعالى من الدائن، ومروءة من المديان، ثم ذكر الحديث الصحيح في قصة الرجل من بني إسرائيل الذي استسلف ألف دينار، وكيف تعاملا على الائتمان، ثم قال ابن العربي: وقد روي عن أبي سعيد الخدري؛ أنه قرأ هذه الآية، فقال: هذا نسخ لكل ما تقدم، يعني: من الأمر بالكتب، والإشهاد، والرهن. اه.
وقوله: { فليؤد }: أمر بمعنى الوجوب، وقوله: { أمنته }: مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة.
وقوله تعالى: { ولا تكتموا الشهدة... } الآية: نهي فيه تهديد ووعيد، وخص تعالى ذكر القلب؛ إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو البضعة التي بصلاحها يصلح الجسد كله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى: { والله بما تعملون عليم } توعد، وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد.
وروى البزار في «مسنده»، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من مشى إلى غريمه بحقه، صلت عليه دواب الأرض، ونون الماء، ونبتت له بكل خطوة شجرة، تغرس في الجنة، وذنبه يغفر "
اه من «الكوكب الدري».
قوله تعالى: { لله ما في السموات وما في الأرض... } الآية: المعنى: جميع ما في السموات، وما في الأرض ملك له سبحانه.
وقوله تعالى: { وإن تبدوا ما في أنفسكم... } الآية: قوله: { ما في أنفسكم } يقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس، واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها، فليست في النفس، إلا على تجوز.
واختلف في معنى هذه الآية.
فقال عكرمة وغيره: هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها، فلفظ الآية؛ على هذا التأويل: العموم، ومعناه الخصوص؛ وكذا نقل الثعلبي.
وقال ابن عباس: وأبو هريرة، وجماعة من الصحابة والتابعين: إن هذه الآية، لما نزلت، شق ذلك على الصحابة، وقالوا: هلكنا، يا رسول الله، إن حوسبنا بخواطر نفوسنا، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال لهم:
" أتريدون أن تقولوا، كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا فقالوها: فأنزل الله بعد ذلك: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [البقرة:286]؛ ونسخ بهذه تلك "
هذا معنى الحديث الصحيح، وله طرق من جهات، واختلفت عباراته، وتعاضدت عبارة هؤلاء القائلين بلفظة النسخ في هذه النازلة.
وقال ابن عباس: لما شق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها... } الآية، فنسخت الوسوسة، وثبت القول، والفعل.
وقال آخرون: هذه الآية محكمة غير منسوخة، والله محاسب خلقه على ما عملوه، وأضمروه، وأرادوه، ويغفر للمؤمنين، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق؛ ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة.
* ع *: وهذا هو الصواب، وإنما هي مخصصة، وذلك أن قوله تعالى: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه }: معناه: بما هو في وسعكم، وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد، والفكر فيه، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر، أشفق الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم فبين الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى، وخصصها، ونص على حكمه؛ أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليست هي، ولا دفعها في الوسع، بل هي أمر غالب، وليست مما يكسب، ولا يكتسب، وكان في هذا البيان فرحهم، وكشف كربهم، وتأتي الآية محكمة لا نسخ فيها، ومما يدفع أمر النسخ؛ أن الآية خبر، والأخبار يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ، فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة، حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: «قولوا سمعنا وأطعنا»، يجيء منه: الأمر بأن يبنوا على هذا، ويلتزموه، وينتظروا لطف الله في الغفران، فإذا قرر هذا الحكم، فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله تعالى:
إن يكن منكم عشرون صبرون يغلبوا مائتين
[الأنفال:65]، فهذا لفظه الخبر، ولكن معناه: التزموا هذا، وابنوا عليه، واصبروا بحسبه، ثم نسخ ذلك بعد ذلك، فهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها.
وقوله تعالى: { ويعذب من يشاء } ، يعني: من العصاة، وتعلق قوم بهذه الآية ممن قال بجواز تكليف ما لا يطاق، وقالوا: إن الله قد كلفهم أمر الخواطر، وذلك مما لا يطاق، قال: * ع *: وهذا غير بين، وإنما كان أمر الخواطر تأويلا أوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت تكليفا إلا على الوجه الذي ذكرناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، إنه على ذلك، قال الشيخ الولي العارف بالله ابن أبي جمرة: والخواطر عندهم ستة يعني عند العلماء العارفين بالله: أولها الهمة، ثم اللمة، ثم الخطرة؛ وهذه الثلاث عندهم غير مؤاخذ بها، ثم نية، ثم إرادة، ثم عزيمة، وهذه الثلاث مؤاخذ بها.
اه.
وقوله تعالى: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه... } الآية: سبب هذه الآية أنه لما نزلت: { وإن تبدوا ما في أنفسكم } ، وأشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم تقرر الأمر على أن قالوا:«سمعنا وأطعنا»، ورجعوا إلى التضرع والاستكانة، مدحهم الله تعالى، وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح، والثناء، ورفع المشقة في أمر الخواطر، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، لا كما قالت بنو إسرائيل:
سمعنا وعصينا
[البقرة:93]؛ فأعقبهم ضد ذلك، وهذه ثمرة العصيان، أعاذنا الله من نقمه.
و { آمن } معناه: صدق، والرسول: محمد صلى الله عليه وسلم، و { مآ أنزل إليه }: القرآن، وسائر ما أوحى الله إليه من جملة ذلك، وكل لفظة تصلح للإحاطة، وهي كذلك هنا، والإيمان بالله: هو التصديق به، أي: بوجوده وصفاته، ورفض كل معبود سواه، والإيمان بملائكته: هو اعتقادهم أنهم عباد لله مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، والإيمان بكتبه: هو التصديق بكل ما أنزل سبحانه على أنبيائه.
وقرأ الجمهور: { لا نفرق }؛ بالنون. والمعنى: يقولون: لا نفرق.
ومعنى هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى؛ في أنهم يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض.
وقوله تعالى: { وقالوا سمعنا وأطعنا }: مدح يقتضي الحض على هذه المقالة، وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر، والطاعة: قبول الأوامر، و { غفرانك }: مصدر، والعامل فيه فعل، تقديره: نطلب أو نسأل غفرانك.
* ت *: وزاد أبو حيان، قال: وجوز بعضهم الرفع فيه، على أن يكون مبتدأ، أي: غفرانك بغيتنا. اه.
{ وإليك المصير }: إقرار بالبعث، والوقوف بين يديه سبحانه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما أنزلت عليه هذه الآية، قال له جبريل: يا محمد، إن الله قد أجل الثناء عليك، وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل إلى آخر السورة.
[2.286]
وقوله تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها... } الآية: خبر جزم نص على أنه لا يكلف الله العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر، وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
[البقرة:185] وقوله تعالى:
وما جعل عليكم فى الدين من حرج
[الحج:78] وقوله:
فاتقوا الله ما استطعتم
[التغابن:16]، قال العراقي: { وسعها } ، أي: طاقتها. اه.
قال: * ع *: واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا الآن في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه، واختلف القائلون بجوازه، هل وقع في رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟
فقالت فرقة: وقع في نازلة أبي لهب؛ لأنه حكم عليه بتب اليدين، وصلي النار؛ وذلك مؤذن أنه لا يؤمن، وتكليف الشرع له الإيمان راتب، فكأنه كلف أن يؤمن، وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن؛ لأنه إذا آمن، فلا محالة أن يدين بسورة: { تبت يدا أبي لهب }.
وقالت فرقة: لم يقع قط، وقوله تعالى:
سيصلى نارا
[المسد:3] إنما معناه: إن وافى على كفره.
* ع *: وما لا يطاق على أقسام:
منه المحال عقلا؛ كالجمع بين الضدين، ومنه المحال عادة؛ كرفع إنسان جبلا، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك؛ كالاحتراق بالنار، ونحوه، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير.
وقوله تعالى: { لها ما كسبت } ، يريد: من الحسنات، { وعليها ما اكتسبت } ، يريد: من السيئات؛ قاله جماعة المفسرين؛ لا خلاف في ذلك، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان، وجاءت العبارة في الحسنات ب «لها»؛ من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه، ويسر المرء بها، فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئة ب «عليها»؛ من حيث هي أوزار، وأثقال، ومتحملات صعبة؛ وهذا كما تقول: لي مال، وعلي دين، وكرر فعل الكسب، فخالف بين التصريفين حسنا لنمط الكلام؛ كما قال:
فمهل الكفرين أمهلهم رويدا
[الطارق:17] هذا وجه.
* ع *: والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات مما يكسب دون تكلف؛ إذ كاسبها على جادة أمر الله، ورسم شرعه، والسيئات تكتسب؛ ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين لهذا المعنى.
وقال المهدوي وغيره: معنى الآية: لا يؤاخذ أحد بذنب أحد؛ قال: * ع *: وهذا صحيح في نفسه، لكن من غير هذه الآية.
وقوله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا }: معناه: قولوا، واختلف الناس في معنى قوله سبحانه: { إن نسينا أو أخطأنا } ، فذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الدعاء في النسيان الغالب، والخطإ غير المقصود، وهو الصحيح عندي، قال قتادة في تفسير الآية: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله تعالى تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطئها "
، وقال السدي: لما نزلت هذه الآية، فقالوها، قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: «قد فعل الله ذلك، يا محمد»، قال: * ع *: فظاهر قوليهما ما صححته؛ وذلك أن المؤمنين، لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى:
يحاسبكم به الله
[البقرة:284]، أمروا بالدعاء في ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه، وذلك في النسيان، والخطأ، والإصر الثقيل، وما لا يطاق على أتم أنواعه، وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق؛ ولذلك أمر المؤمنون بالدعاء في ألا يقع هذا الجائز الصعب. ومذهب أبي الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين؛ أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع.
وذهب الطبري وغيره إلى أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، وأن النسيان في الآية بمعنى الترك أي: إن تركنا شيئا من طاعتك، والخطأ هو المقصود من العصيان، والإصر هي العبادات الثقيلة؛ كتكاليف بني إسرائيل، وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز؛ كما تقول: لا طاقة لي على خصومة فلان، أو: لا طاقة لنا به؛ من حيث هو مهلك؛ كعذاب جهنم وغيره، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله: { واعف عنا } ، أي: فيما واقعناه، { واغفر لنا } ، أي: استر علينا ما علمت منا { وارحمنا } ، أي: تفضل مبتدئا برحمة منك لنا، فهذه مناح من الدعاء متباينة، و { أنت مولنا }: مدح في ضمنه تقرب إليه، وشكر على نعمه، ومولى: هو من ولي، وفي الحديث: أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «قل: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا» فقالها، فقال جبريل: قد فعل، قال: قل كذا وكذا، فيقولها فيقول جبريل: قد فعل إلى آخر السورة».
وتظاهرت بهذا المعنى أحاديث، وروى أبو مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة، كفتاه "
يعني من قيام الليل، قال صاحب «سلاح المؤمن»: هذا الحديث رواه الجماعة، يعني: الستة، ومعنى: «كفتاه» أجزتاه عن قيام الليل، وقيل: كفتاه من كل شيطان، فلا يقربه ليلته، وقيل: كفتاه ما يكون من الآفات تلك الليلة، وقيل: معناه حسبه بهما فضلا وأجرا، ويحتمل الجميع، والله أعلم. اه من «سلاح المؤمن».
وقال علي - رضي الله عنه -: «ما أظن أحدا عقل، وأدرك الإسلام ينام، حتى يقرأهما» وفي الحديث؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة، من كنز تحت العرش لم يؤتهن أحد قبلي "
كمل تفسير سورة البقرة، والحمد لله.
[3 - سورة آل عمران]
[3.1-4]
قوله جلت قدرته: { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } الأبرع في نظم الآية أن يكون: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } كلاما مبتدأ جزما؛ جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فحاجوه في عيسى ابن مريم، وقالوا: إنه الله على ما هو معلوم في السير، فنزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها، إلى أن دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال.
وقد تقدم تفسير قوله: { الحي القيوم } في آية الكرسي، والآية هناك إخبار لجميع الناس، وكررت هنا إخبارا بحجج هؤلاء النصارى، ويرد عليهم؛ إذ هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام ؛ لأنهم إذ يقولون: إنه صلب، فذلك موت في معتقدهم، وإذ من البين أنه ليس بقيوم.
وقراءة الجمهور «القيوم»، وقرىء خارج السبع: «القيام»؛ و «القيم»، وهذا كله من: قام بالأمر يقوم به، إذا اضطلع بحفظه، وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده، فالله تعالى القيام على كل شيء مما ينبغي له، أو فيه، أو عليه.
* ت *: وقد تقدم ما نقلناه في هذا الاسم الشريف؛ أنه اسم الله الأعظم، قال النووي: وروينا في كتاب الترمذي؛ عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا كربه أمر، قال:
" يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث "
، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. اه.
قال صاحب «سلاح المؤمن»: وعن علي رضي الله عنه ، قال: «لما كان يوم بدر، قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما صنع فجئت، فإذا هو ساجد يقول:
" يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم "
، ثم رجعت إلى القتال، ثم جئت، فإذا هو ساجد؛ لا يزيد على ذلك، ثم ذهبت إلى القتال، ثم جئت، فإذا هو ساجد يقول ذلك، ففتح الله عليه» رواه النسائي، والحاكم في «المستدرك»، واللفظ للنسائي.
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: { وإلهكم إله وحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } ، وفاتحة آل عمران: { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } "
رواه أبو داود، واللفظ له، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" اسم الله الأعظم في ثلاث سور: في سورة البقرة، وآل عمران، وطه "
، قال القاسم: فالتمستها أنه الحي القيوم.
انتهى.
وقوله: { بالحق }: يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى: ضمن الحقائق؛ في خبره، وأمره، ونهيه، ومواعظه.
والثاني: أن يكون المعنى: أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل؛ لما فيه من المصلحة الشاملة، وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله.
* ت *: أي: إذ لا يجب على الله سبحانه فعل؛
قال * ع *: فالباء، في هذا المعنى: على حد قوله:
سبحنك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق
[المائدة:116]. وقيل: معنى: { بالحق }: أي: مما اختلف فيه أهل الكتاب، واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون.
قال * ع *: وهذا داخل في المعنى الأول.
وقوله: { مصدقا }: حال مؤكدة؛ لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق، لما بين يديه من كتب الله سبحانه، { وما بين يديه }: هي التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت من شرعنا.
وقوله تعالى: { من قبل }: يعني: من قبل القرآن.
وقوله: { هدى للناس }: معناه: دعاء، والناس: بنو إسرائيل في هذا الموضع، وإن كان المراد أنهما هدى في ذاتهما، مدعو إليه فرعون وغيره، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر، و { الفرقان }: القرآن؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، ثم توعد سبحانه الكفار عموما بالعذاب الشديد، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران، و { عزيز }: معناه: غالب، والنقمة والانتقام: معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك.
[3.5-7]
قوله تعالى: { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء }: هذه الآية خبر عن علم الله تعالى بالأشياء، على التفصيل، وهذه صفة لم تكن لعيسى، ولا لأحد من المخلوقين، ثم أخبر سبحانه عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات، وهذا أمر لا ينكره عاقل، ولا ينكر أن عيسى وسائر البشر لا يقدرون عليه، ولا ينكر أن عيسى من المصورين؛ كغيره من سائر البشر، فهذه الآية تعظيم لله جلت قدرته في ضمنها الرد على نصارى نجران، وفي قوله: { إن الله لا يخفى عليه شيء }: وعيد، وشرح النبي صلى الله عليه وسلم كيفية التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره؛
" أن النطفة، إذا وقعت في الرحم، مكثت نطفة أربعين يوما، ثم تكون علقة أربعين يوما، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليها ملكا، فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد "
الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه، وفي مسند ابن «سنجر» حديث؛
" أن الله سبحانه يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل، ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة "
، وصور: بناء مبالغة من صار يصور، إذا أمال وثنى إلى حال ما، فلما كان التصوير إمالة إلى حال، وإثباتا فيها، جاء بناؤه على المبالغة، والكتاب في هذه الآية: القرآن، بإجماع، والمحكمات: المفصلات المبينات الثابتات الأحكام، والمتشابهات: هي التي تحتاج إلى نظر وتأويل، ويظهر فيها ببادي النظر: إما تعارض مع أخرى، وإما مع العقل إلى غير ذلك من أنواع التشابه، فهذا الشبه الذي من أجله توصف بمتشابهات، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ، ومن لم ينعم النظر، وهذا نحو الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات "
، أي: يكون الشيء حراما في نفسه، فيشبه عند من لم ينعم النظر شيئا حلالا؛ وكذلك الآية: يكون لها في نفسها معنى صحيح، فيشبه عند من لم ينعم النظر، أو عند الزائغ معنى آخر فاسدا، فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية.
قال * ع *: وأحسن ما قيل في هذه الآية قول محمد بن جعفر بن الزبير؛ أن المحكمات هي التي فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمتشابهات: لها تصريف وتحريف، وتأويل ابتلى الله فيهن العباد، قال ابن الحاجب في «منتهى الوصول»: مسألة في القرآن محكم ومتشابه، قال تعالى: { منه آيت محكمت هن أم الكتب وأخر متشبهت } ، فالمحكم: المتضح المعنى، قال الرهوني: يعني نصا كان أو ظاهرا، والمتشابه: مقابله إما للاشتراك؛ مثل:
ثلثة قروء
[البقرة:228]، أو للإجمال؛ مثل:
الذي بيده عقدة النكاح
[البقرة:237] وما ظاهره التشبيه؛ مثل:
من روحي
[ص:72]، و
أيدينا
[يس:71]، و
بيدي
[ص:75] و
بيمينه
[الزمر:67]، و
يستهزئ
[البقرة:15]، و
مكر الله
[آل عمران:54] ونحوه، والظاهر: الوقف على: { والراسخون في العلم }؛ لأن الخطاب بما لا يفهم بعيد. انتهى.
قال الرهوني: وسمي ما ذكر «متشابها»؛ لاشتباهه على السامع، قال الرهوني: والحق الوقف على: { وما يعلم تأويله إلا الله }. وهو المروي عن جماعة؛ منهم: ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، ومالك، وغيرهم، وفي مصحف أبي: «وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [في العلم] آمنا به». اه.
وقوله تعالى: { هن أم الكتب } ، أي: معظم الكتاب، وعمدة ما فيه: إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل، ولم يفرط في شيء منه، قال يحيى بن يعمر: كما يقال لمكة أم القرى.
قال * ع *: وكما يقال: أم الرأس لمجتمع الشؤون، فجميع المحكم هو أم الكتاب، ومعنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ، والمذمة لهم، والإشارة بذلك أولا إلى نصارى نجران، وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن، ثم يعم بعد ذلك كل زائغ، فذكر تعالى؛ أنه نزل الكتاب على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ إفضالا منه، ونعمة؛ وأن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه، والغالب فيه؛ وأن متشابهه الذي يحتمل التأويل، ويحتاج إلى التفهم هو أقله، ثم إن أهل الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم، ويتبعون المتشابه؛ ابتغاء الفتنة، وأن يفسدوا ذات البين، ويردوا الناس إلى زيغهم.
* م *: قال أبو البقاء: { وأخر }: معطوف على { آيت } ، و { متشبهت }: نعت ل { أخر }.
وقوله تعالى: { الذين في قلوبهم زيغ }: يعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة، والزيغ: الميل، و { ابتغاء }: نصب على المفعول من أجله، ومعناه: طلب الفتنة، قال الربيع: الفتنة هنا الشرك، وقال مجاهد: الفتنة: الشبهات، واللبس على المؤمنين، ثم قال: وابتغاء تأويله، والتأويل هو مرد الكلام، ومرجعه، والشيء الذي يقف عليه من المعاني، وهو من: آل يئول، إذا رجع، فالمعنى: وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة، هذا في ما له تأويل حسن، وإن كان مما لا يتأول، بل يوقف فيه، كالكلام في معنى الروح ونحوه، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه، ثم قال تعالى: { وما يعلم تأويله إلا الله } ، أي: وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله سبحانه.
واختلف في قوله: { والراسخون في العلم } ، فرأت فرقة أن رفع الراسخين هو بالعطف على اسم الله (عز وجل)؛ وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولون: { آمنا به } ، وقالت طائفة أخرى: والراسخون: رفع بالابتداء، وهو مقطوع من الكلام الأول، وخبره «يقولون»، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده.
قال * ع *: وهذه المسألة إذا تؤملت، قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين محكما ومتشابها، فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب، لا يحتاج فيه إلى نظر، ولا يتعلق به شيء يلبس، ويستوي في علمه الراسخ وغيره، والمتشابه على نوعين، منه: ما لا يعلم البتة؛ كأمر الروح، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه: ما يحمل على وجوه في اللغة، ومناح في كلام العرب، فيتأول، ويعلم تأويله، ولا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا؛ بحسب ما قدر له، فمن قال: إن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه، فمراده النوع الثاني الذي ذكرناه، ومن قال: إن الراسخين لا يعلمون تأويله، فمراده النوع الأول؛ كأمر الروح، ووقت الساعة، لكن تخصيصه المتشابه بهذا النوع غير صحيح، بل هو نوعان؛ كما ذكرنا، والضمير في { تأويله } عائد على جميع متشابه القرآن، وهما نوعان؛ كما ذكرنا، والرسوخ: الثبوت في الشيء، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم، فقال:
" هو من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه "
، قلت: ومن «جامع العتبية»، وسئل مالك عن تفسير الراسخين في العلم، فقال: العالمون العاملون بما علموا، المتبعون له، قال ابن رشد: قول مالك هذا هو معنى ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: من الراسخ في العلم؟ فقال:
" من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعف بطنه، فذلك الراسخ في العلم "
، قال ابن رشد: ويشهد لصحة هذا قول الله (عز وجل):
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28]؛ لأنه كلام يدل على أن من لم يخش الله، فليس بعالم. انتهى.
قلت: وقد جاء في فضل العلم آثار كثيرة، فمن أحسنها: ما رواه أبو عمر بن عبد البر بسنده، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تعلموا العلم؛ فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، ويرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، هو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء "
، قال أبو عمر: هكذا حدثنيه عبيد بن محمد مرفوعا بالإسناد الذي رويناه به عنه، وهو حديث حسن جدا، ولكن ليس له إسناد قوي، ورويناه من طرق شتى موقوفا على معاذ. انتهى من كتاب «فضل العلم»، قال الشيخ العارف أبو القاسم عبد الرحمن بن يوسف اللجائي (رحمه الله)، ومن علامة نور العلم، إذا حل بالقلب: المعرفة والمراقبة والحياء والتوبة والورع والزهد والتوكل والصبر والرضى والأنس والمجاهدة والصمت والخوف والرجاء والقناعة وذكر الموت. اه.
وقوله تعالى: { كل من عند ربنا }: فيه ضمير عائد على كتاب الله محكمه ومتشابهه، والتقدير: كله من عند ربنا.
ثم قال تعالى: { وما يذكر إلا أولوا الألبب } ، أي: ما يقول هذا، ويؤمن ويقف حيث وقف، ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب ، وهو العقل و «أولو»: جمع: «ذو».
[3.8-11]
وقوله تعالى: { ربنا لا تزغ قلوبنا... } الآية: لما ذكر الله سبحانه أهل الزيغ، وذكر نقيضهم، وظهر ما بين الحالتين، عقب ذلك؛ بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت، وهم أهل الزيغ، ويحتمل أن يكون هذا من تمام قول الراسخين، و { تزغ }: معناه: تمل قلوبنا عن الهدى والحق، و { من لدنك }: معناه: من عندك تفضلا، لا عن سبب منا، ولا عمل، وفي هذا استسلام وتطارح، والمراد: هب لنا نعيما صادرا عن الرحمة.
وقوله تعالى: { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه }: إقرار بالبعث ليوم القيامة، والريب: الشك، والمعنى أنه في نفسه حق لا ريب فيه.
وقوله تعالى: { إن الله لا يخلف الميعاد } ، يحتمل: أن يكون إخبارا منه سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمته، ويحتمل: أن يكون حكاية من قول الداعين، ففي ذلك إقرار بصفة ذات الله تعالى، والميعاد: من الوعد.
وقوله تعالى: { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أمولهم ولا أولدهم من الله شيئا... } الآية: الإشارة بالآية إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم، وهي بعد متناولة كل كافر، والوقود؛ بفتح الواو: كل ما يحترق في النار من حطب ونحوه، والدأب، والدأب؛ بسكون الهمزة وفتحها: مصدر: دأب يدأب، إذا لازم فعل شيء، ودام عليه مجتهدا فيه، ويقال للعادة دأب، والمعنى في الآية: تشبيه هؤلاء في لزومهم الكفر ودوامهم عليه بأولئك المتقدمين، وآخر الآية يقتضي الوعيد بأن يصيب هؤلاء ما أصاب أولئك، والكاف في قوله: { كدأب } في موضع رفع، والتقدير: دأبهم كدأب، والضمير في { قبلهم } عائد على { آل فرعون } ، ويحتمل: على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار.
وقوله: { كذبوا بآيتنا }: يحتمل: أن يريد المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامات المنصوبة.
[3.12-13]
وقوله تعالى: { قل للذين كفروا ستغلبون... } الآية: اختلف في تعيين هؤلاء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بالقول لهم:
فقيل: هم جميع معاصريه أمر أن يقول لهم هذا الذي فيه إعلام بغيب ، فوقع بحمد الله كذلك، فغلبوا، وصار من مات منهم على الكفر إلى جهنم.
وتظاهرت روايات عن ابن عباس وغيره؛ بأن المراد يهود المدينة، لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر، جمعهم، وقال:
" يا معشر يهود أسلموا من قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا "
، فقالوا: يا محمد، لا تغرنك نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا، لعرفت أنا نحن الناس، فأنزل الله فيهم هذه الآية» والحشر: الجمع والإحضار.
وقوله تعالى: { وبئس المهاد }: يعني: جهنم؛ هذا ظاهر الآية، وقال مجاهد: المعنى: بئس ما مهدوا لأنفسهم.
قال * ع *: فكان المعنى: وبئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم.
وقوله تعالى: { قد كان لكم آية في فئتين... } الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون؛ تثبيتا لنفوسهم، وتشجيعا لها، وأن يخاطب بها جميع الكفار، وأن يخاطب بها يهود المدينة، وبكل احتمال منها قد قال قوم، وقرىء شاذا: «ترونهم»؛ بضم التاء؛ فكأن معناها أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار؛ إنما كان تخمينا وظنا لا يقينا، وذلك أن «أرى»؛ بضم الهمزة: تقولها فيما بقي عندك فيه نظر، وأرى؛ بفتح الهمزة: تقولها في ما قد صح نظرك فيه، ونحا هذا المنحى أبو الفتح، وهو صحيح، والمراد بالفئتين: جماعة المؤمنين، وجماعة الكفار ببدر.
قال * ع *: ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر؛ و { يؤيد }: معناه يقوي؛ من «الأيد»، وهو القوة.
[3.14-17]
وقوله تعالى: { زين للناس حب الشهوت... } الآية هذه الآية ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخ، والشهوات ذميمة، واتباعها مرد، وطاعتها مهلكة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره "
، فحسبك أن النار حفت بها، فمن واقعها، خلص إلى النار، قلت: وقد جاءت أحاديث كثيرة في التزهيد في الدنيا، ذكرنا من صحيحها وحسنها في هذا المختصر جملة صالحة لا توجد في غيره من التفاسير، فعليك بتحصيله، فتطلع فيه على جواهر نفيسة، لا توجد مجموعة في غيره؛ كما هي بحمد الله حاصلة فيه، وكيف لا يكون هذا المختصر فائقا في الحسن، وأحاديثه بحمد الله مختارة، أكثرها من أصول الإسلام الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، فهذه أصول الإسلام، ثم من غيرها؛ كصحيح ابن حبان، وصحيح الحاكم، أعني: «المستدرك على الصحيحين»، وأبي عوانة، وابن خزيمة، والدارمي، والموطإ، وغيرها من المسانيد المشهورة بين أئمة الحديث؛ حسبما هو معلوم في علم الحديث، وقصدي من هذا نصح من اطلع على هذا الكتاب أن يعلم قدر ما أنعم الله به عليه، فإن التحدث بالنعم شكر، ولنرجع إلى ما قصدناه من نقل الأحاديث:
روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أردت اللحوق بي، فليكفيك من الدنيا، كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه "
حديث غريب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن البذاذة من الإيمان "
، خرجه أبو داود وقد نقله البغوي في «مصابيحه»، والبذاذة: هي رث الهيئة. اه و { القناطير }: جمع قنطار، وهو العقدة الكثيرة من المال؛ واختلف الناس في تحرير حده، وأصح الأقوال فيه: ما رواه أبي ابن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" القنطار ألف ومائتا أوقية "
، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية.
وقوله: { المقنطرة } ، قال الطبري: معناه: المضعفة، وقال الربيع: المال الكثير بعضه على بعض.
* ص *: { المقنطرة }: مفعللة، أو مفنعلة؛ من القنطار، ومعناه: المجتمعة.
* م *: أبو البقاء: و { من الذهب }: في موضع الحال من { المقنطرة } اه.
وقوله: { المسومة }: قال مجاهد: معناه المطهمة الحسان، وقال ابن عباس وغيره: معناه: الراعية، وقيل: المعدة، { والأنعم }: الأصناف الأربعة: الإبل، والبقر، والضأن، والمعز.
* ص *: والأنعام: واحدها نعم، والنعم: الإبل فقط، وإذا جمع، انطلق على الإبل والبقر والغنم. اه.
{ والحرث }: هنا اسم لكل ما يحرث من حب وغيره، والمتاع: ما يستمتع به، وينتفع مدة ما منحصرة، و { المآب }: المرجع، فمعنى الآية: تقليل أمر الدنيا وتحقيرها، والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى.
وقوله تعالى: { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم... } الآية : في هذه الآية تسلية عن الدنيا، وتقوية لنفوس تاركيها؛ ذكر تعالى حال الدنيا، وكيف استقر تزيين شهواتها، ثم جاء بالإنباء بخير من ذلك هازا للنفوس، وجامعا لها؛ لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل، وأنبىء: معناه: أخبر.
وقوله تعالى: { ورضون من الله } ، الرضوان: مصدر من «رضي»، وفي الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن أهل الجنة، إذا استقروا فيها، وحصل لكل واحد منهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله لهم: أتريدون أن أعطيكم ما هو أفضل من هذا؟ قالوا: يا ربنا، وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول الله سبحانه: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدا "
، هذا سياق الحديث، وقد يجيء مختلف الألفاظ، والمعنى قريب بعضه من بعض، قال الفخر: وذلك أن معرفة أهل الجنة، مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم، مثن عليهم أزيد عليهم في إيجاب السرور. اه.
وباقي الآية بين، وقد تقدم في سورة البقرة بيانه.
وقوله تعالى: { الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا } الآية: «الذين»: بدل من «الذين اتقوا»، وفسر سبحانه في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات، والصبر؛ في هذه الآية: معناه: على الطاعات، وعن المعاصي والشهوات، والصدق: معناه: في الأقوال والأفعال، والقنوت: الطاعة والدعاء أيضا، وبكل ذلك يتصف المتقي، والإنفاق: معناه: في سبيل الله ومظان الأجر، والاستغفار: طلب المغفرة من الله سبحانه، وخص تعالى السحر؛ لما فيه من الفضل؛ حسبما ورد فيه من صحيح الأحاديث؛ كحديث النزول:
" هل من داع، فأستجيب له، هل من مستغفر، فأغفر له "
، إلى غير ذلك مما ورد في فضله.
قلت: تنبيه: قال القرطبي في «تذكرته»، وقد جاء حديث النزول مفسرا مبينا في ما خرجه النسائي عن أبي هريرة، وأبي سعيد، قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الله (عز وجل) يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى "
، صححه أبو محمد عبد الحق. اه.
وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال:
" إن نزول الله تعالى إلى الشيء إقباله عليه من غير نزول "
اه.
والسحر: آخر الليل، قال نافع: «كان ابن عمر يحيي الليل صلاة، ثم يقول: يا نافع، أسحرنا، فأقول: لا، فيعاود الصلاة، ثم يسأل، فإذا قلت: نعم، قعد يستغفر».
قال * ع *: وحقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود، وسحور الصائم، ومن يمين لو وقعت، إنما هي من ثلث الليل الآخر إلى الفجر.
[3.18-20]
وقوله تعالى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو... } الآية: معنى: { شهد الله }: أعلم عباده بهذا الأمر الحق،
وقال * ص *: { شهد } ، بمعنى علم أو قضى، أو حكم، أو بين، وهي أقوال اه.
وأسند أبو عمر ابن عبد البر في كتاب «فضل العلم»؛ عن غالب القطان، قال: كنت أختلف إلى الأعمش، فرأيته ليلة قام يتهجد من الليل، وقرأ بهذه الآية: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملئكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلم } قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، فقلت للأعمش: إني سمعتك تقرأ هذه الآية ترددها، فما بلغك فيها؟ قال: حدثني أبو وائل، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله سبحانه: عبدي عهد إلي، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة "
اه.
وقرأ جميع القراء «أنه»؛ بفتح الهمزة؛ وبكسرها من قوله: { إن الدين }؛ على استئناف الكلام، وقرأ الكسائي وحده: «أن الدين»؛ بفتح الهمزة بدلا من «أنه» الأولى، { والملئكة وأولوا العلم }: عطف على اسم الله، قال الفخر: المراد بأولي العلم هنا: الذين عرفوا الله بالدلالة القطعية؛ لأن الشهادة، إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم، وهذا يدل أن هذه الدرجة الشريفة ليست إلا للعلماء بالأصول، وتكررت «لا إله إلا الله» هنا، وفائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبدا في تكرير هذه الكلمة، فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة، وإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلا بذكرها، وبتكريرها، كان مشتغلا بأعظم أنواع العبادات، فكان من التكرير في هذه الآية حض العباد على تكريرها. اه.
وصح في البخاري، عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه "
، وروى زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: يا رسول الله، وما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله "
، خرجه الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» اه من «التذكرة».
و { قائما }: حال من اسمه تعالى في قوله: { شهد الله } ، أو من قوله: { إلا هو } ، و { القسط }: العدل، وقوله تعالى: { إن الدين عند الله الإسلم... } الآية: الدين؛ في هذه الآية: الطاعة والملة، والمعنى: أن الدين المقبول أو النافع هو الإسلام، والإسلام في هذه الآية هو الإيمان والطاعات، قاله أبو العالية؛ وعليه جمهور المتكلمين، وحديث:
" بني الإسلام على خمس "
، وحديث مجيء جبريل يعلم الناس دينهم يفسر ذلك، ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب بعد علمهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا؛ قاله ابن عمر وغيره، و { الذين أوتوا الكتب }: لفظ يعم اليهود والنصارى، لكن الربيع بن أنس قال: المراد بهذه الآية اليهود؛ اختلفوا بعد موت موسى، وبعد مضي ثلاثة قرون، وقيل: الآية توبيخ لنصارى نجران، وسرعة الحساب: يحتمل أن يراد بها: مجيء القيامة والحساب؛ إذ كل آت قريب، ويحتمل أن يراد بسرعة الحساب: أن الله تعالى بإحاطته بكل شيء علما لا يحتاج إلى عد ولا فكرة؛ قاله مجاهد.
وقوله تعالى: { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن... } الآية: الضمير في «حاجوك» لليهود، ولنصارى نجران، والمعنى: إن جادلوك وتعنتوا بالأقاويل المزورة والمغالطات، فأسند إلى ما كلفت من الإيمان، والتبليغ، وعلى الله نصرك.
وقوله: { وجهي }: يحتمل أن يراد به المقصد، أي: جعلت مقصدي لله ، ويحتمل أن يراد به الذات، أي: أسلمت شخصي وذاتي لله، وأسلمت؛ في هذا الموضع بمعنى: دفعت، وأمضيت، وليست بمعنى دخلت في السلم؛ لأن تلك لا تتعدى، ومن اتبعني: في موضع رفع؛ عطفا على الضمير في «أسلمت»، والذين أوتوا الكتاب، في هذا الموضع: يجمع اليهود والنصارى؛ باتفاق، والأميون: الذين لا يكتبون، وهم العرب في هذه الآية، وقوله: { ءأسلمتم }: تقرير في ضمنه الأمر، وقال الزجاج: { ءأسلمتم }: تهدد، وهو حسن، و { البلغ }: مصدر بلغ؛ بتخفيف عين الفعل.
وفي قوله تعالى: { والله بصير بالعباد } وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين.
[3.21-25]
وقوله تعالى: { إن الذين يكفرون بآيت الله... } الآية: هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى، وتعم كل من كان بهذه الحال، وفيها توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أبو عبيدة بن الجراح، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛
" أن بني إسرائيل قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا، فاجتمع من عبادهم وأحبارهم مائة وعشرون؛ ليغيروا المنكر، وينكروا، فقتلوا جميعا، كل ذلك في يوم واحد، وذلك معنى قوله تعالى: { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } "
، و { حبطت }: معناه: بطلت.
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يدعون إلى كتب الله... } الآية: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله تعالى، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فقالا: إن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا، وبينكم، فأبيا عليه، ونزلت الآية.
قال * ع *: فالكتاب؛ في قوله: { من الكتب }: اسم جنس، والكتاب؛ في قوله: { إلى كتب الله } هو التوراة، وقال قتادة وابن جريج: هو القرآن، ورجح الطبري الأول.
وقوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا }: الإشارة فيه إلى التولي والإعراض، أي: إنما تولوا، وأعرضوا؛ لاغترارهم بأقوالهم، وافترائهم، ثم قال تعالى خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته، على جهة التوقيف والتعجيب: فكيف حال هؤلاء المغترين بالأباطيل، إذا حشروا يوم القيامة، واضمحلت تلك الزخارف والدعاوى، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم، وأعمالهم القبيحة، قال ابن عطية: والصحيح في يوم القيامة أنه يوم؛ لأن قبله ليلة، وفيه شمس، وقال النقاش: المراد باليوم الوقت.
[3.26-29]
وقوله تعالى: { قل اللهم ملك الملك... } الآية: هو سبحانه وتعالى مالك الملك كله مطلقا في جميع أنواعه، وأشرف ملك يؤتيه عباده سعادة الآخرة، روي أن الآية نزلت بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أمته؛ بفتح ملك فارس وغيره، فقالت اليهود والمنافقون: هيهات، وكذبوا بذلك.
ومذهب البصريين أن الأصل في «اللهم»: يا ألله، فعوض من ياء النداء ميما مشددة.
و { ملك }: نصب على النداء، وخص تعالى الخير بالذكر، وهو تعالى بيده كل شيء؛ إذ الآية في معنى دعاء ورغبة، فكأن المعنى: بيدك الخير فأجزل حظي منه، قال النووي: وروينا في كتاب «الترمذي» وغيره، عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة "
، ورواه الحاكم أبو عبد الله في «المستدرك على الصحيحين»؛ من طرق كثيرة، وزاد فيه في بعض طرقه:
" وبنى له بيتا في الجنة "
قال الحاكم: وفي الباب، عن جابر، وأبي هريرة، وبريدة الأسلمي. اه من «الحلية».
وقال ابن عباس وغيره في معنى قوله تعالى: { تولج الليل في النهار... } الآية: إنه ما ينتقص من النهار، فيزيد في الليل، وما ينتقص من الليل، فيزيد في النهار دأبا كل فصل من السنة، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار؛ كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر.
واختلف في معنى قوله تعالى: { وتخرج الحى من الميت... } الآية:
فقال الحسن: معناه: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وروي نحوه، عن سلمان الفارسي، وروى الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما سمع نغمة خالدة بنت الأسود ابن عبد يغوث، فقال:
" من هذه "
فأخبر بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" سبحان الذي يخرج الحي من الميت "
، وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافرا، والمراد على هذا: موت قلب الكافر، وحياة قلب المؤمن.
وذهب جمهور كثير إلى أن الحياة والموت في الآية حقيقة، لا أنها استعارة، ثم اختلفوا في المثل التي فسروا بها.
فقال ابن مسعود: هي النطفة، تخرج من الرجل، وهي ميتة، وهو حي، ويخرج الرجل منها، وهي ميتة.
وقال عكرمة: هو إخراج الدجاجة، وهي حية، من البيضة، وهي ميتة، وإخراج البيضة، وهي ميتة من الدجاجة، وهي حية.
وروى السدي، عن أبي مالك، قال: هي الحبة تخرج من السنبلة، والسنبلة تخرج من الحبة، وكذلك النواة.
وقوله تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكفرين أولياء... } الآية: هذا النهي عن الاتخاذ، إنما هو عن إظهار اللطف للكفار، والميل إليهم، فأما أن يتخذوا بالقلب، فلا يفعل ذلك مؤمن، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار.
واختلف في سبب نزولها، فقال ابن عباس في كعب بن الأشرف وغيره، قد بطنوا بنفر من الأنصار، ليفتنوهم عن دينهم، فنزلت في ذلك الآية، وقال قوم: نزلت في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وكتابه إلى أهل مكة، والآية عامة في جميع هذا.
وقوله تعالى: { فليس من الله في شيء }: معناه: في شيء: مرضي؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:
" من غشنا، فليس منا "
، ثم أباح سبحانه إظهار اتخاذهم بشرط الاتقاء، فأما إبطانه، فلا يصح أن يتصف به مؤمن في حال.
وقوله تعالى: { ويحذركم الله... } إلى آخر الآية: وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة.
وقوله: { نفسه }: نائبة عن «إياه»، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات، وفي الكلام حذف مضاف؛ لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه، قال ابن عباس، والحسن: ويحذركم الله عقابه.
وقوله تعالى: { قل إن تخفوا ما في صدوركم... } الآية: الضمير في «تخفوا» هو للمؤمنين الذين نهوا عن الكافرين، والمعنى: إنكم إن أبطنتم الحرص على إظهار موالاتهم، فإن الله يعلم ذلك، ويكرهه منكم.
[3.30-32]
وقوله تعالى: { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } ، قال ابن هشام في «المغني»: «يوم»: نصب بمحذوف، تقديره: اذكروا أو احذروا، ولا يصح أن يكون ظرفا ل «يحذركم»؛ كما زعم بعضهم؛ لأن التحذير في الدنيا وقع لا في الآخرة. اه.
وقوله تعالى: { وما عملت من سوء } ، يحتمل أن تكون «ما» معطوفة على «ما» الأولى، فهي في موضع نصب، ويكون «تود» في موضع الحال، وإليه ذهب الطبري وغيره، ويحتمل أن تكون «ما» رفع بالابتداء، والخبر في قوله: «تود». وما بعده، والأمد: الغاية المحدودة من المكان أو الزمان.
وقوله تعالى: { والله رءوف بالعباد } يحتمل أن يكون إشارة إلى أن تحذيره رأفة منه سبحانه بعباده، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة، فمقتضى ذلك: التأنيس؛ لئلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن، فسبحانه ما أرحمه بعباده.
وعن منصور بن عمار؛ أنه قال: أعقل الناس محسن خائف، وأجهل الناس مسيء آمن، فلما سمع عبد الملك بن مروان منه هذا الكلام؛ بكى حتى بل ثيابه، ثم قال له: اتل علي، يا منصور، شيئا من كتاب الله، فتلا عليه: { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا... } الآية، فقال عبد الملك: قتلتني، يا منصور، ثم غشي عليه. اه.
وقوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني... } الآية: قال الشيخ العارف بالله ابن أبي جمرة (رضي الله عنه): من علامة السعادة للشخص: أن يكون معتنيا بمعرفة السنة في جميع تصرفاته، والذي يكون كذلك هو دائم في عبادة؛ في كل حركاته وسكناته، وهذا هو طريق أهل الفضل؛ حتى حكي عن بعضهم؛ أنه لم يأكل البطيخ سنين؛ لما لم يبلغه كيفية السنة في أكله، وكيف لا، والله سبحانه يقول: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } والاتباعية الكاملة إنما تصح بأن تكون عامة في كل الأشياء، يعني: إلا ما خصصه به الدليل، جعلنا الله من أهلها في الدارين. انتهى.
قال * ع *: قال الحسن بن أبي الحسن، وابن جريج: إن قوما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد، إنا نحب ربنا، فنزلت هذه الآية، وقيل: أمر صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لنصارى نجران.
قال * ع *: ويحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا يدعون أنهم يحبون الله، ويحبهم.
قال عياض: اعلم أن من أحب شيئا، آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه، وكان مدعيا، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم، من تظهر علامات ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واتباع سنته، واتباع أقواله وأفعاله، والتأدب بآدابه في عسره ويسره؛ قال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني.
.. } الآية، قال عياض: روي في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من استمسك بحديثي، وفهمه وحفظه، جاء مع القرآن، ومن تهاون بالقرآن، وحديثي، خسر الدنيا والآخرة... "
الحديث، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" المستمسك بسنتي عند فساد أمتي، له أجر مائة شهيد "
، وقال أبي بن كعب:
" عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله في نفسه، ففاضت عيناه من خشية ربه، فيعذبه الله أبدا، وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله في نفسه، فاقشعر جلده من خشية الله، إلا كان مثله كمثل شجرة، قد يبس ورقها، فهي كذلك؛ إذ أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه؛ كما تحات عن الشجرة ورقها "
الحديث.
قال عياض: ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم: زهد مدعيها في الدنيا، وإيثاره الفقر، واتصافه فيه؛ ففي حديث أبي سعيد:
" إن الفقر إلى من يحبني منكم أسرع من السيل من أعلى الوادي، أو الجبل إلى أسفله "
، وفي حديث عبد الله بن مغفل:
" قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله، إني أحبك، فقال : انظر ما تقول؟ قال: والله لأحبك»؛ ثلاث مرات؛ قال: «إن كنت تحبني، فأعد للفقر تجفافا» "
، ثم ذكر نحو حديث أبي سعيد بمعناه اه من «الشفا».
قال * ع *: والمحبة: إرادة يقترن بها إقبال من النفس وميل بالمعتقد، وقد تكون الإرادة المجردة فيما يكره المريد، والله تعالى يريد وقوع الكفر، ولا يحبه، ومحبة العبد لله تعالى يلزم عنها، ولا بد أن يطيعه، ومحبة الله تعالى أمارتها للمتأمل أن يرى العبد مهديا مسددا ذا قبول في الأرض، فلطف الله تعالى بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته، وبهذا النظر يفسر لفظ المحبة؛ حيث وقعت من كتاب الله عز وجل.
[3.33-35]
وقوله تعالى: { إن الله اصطفى آدم ونوحا... } الآية: لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران، والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه، جاءت هذه الآيات معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه، ومنبئة عن حقيقته، كيف كانت، فبدأ تعالى بذكر فضل آدم ومن ذكر بعده، ثم خص امرأة عمران بالذكر؛ لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى (عليه السلام)، وكيف كان، وانصرف «نوح»، مع عجمته وتعريفه؛ لخفة الاسم؛ كهود ولوط، قال الفخر هنا: اعلم أن المخلوقات على قسمين: مكلف، وغير مكلف، واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلفين أربعة: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين.
* ت *: تأمله جعل الشياطين قسيما للجن. اه.
والآل؛ في اللغة: الأهل، والقرابة، ويقال للأتباع، وأهل الطاعة: آل، والآل؛ في الآية: يحتمل الوجهين، فإن أريد بالآل: القرابة، فالتقدير أن الله اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم، أو على العالمين جميعا؛ بأن يقدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، وإن أريد بالآل: الأتباع، فيستقيم دخول أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الآل؛ لأنها على ملة إبراهيم.
وقوله تعالى: { ذرية بعضها من بعض } ، أي: متشابهين في الدين، والحال، وعمران هو رجل من بني إسرائيل، وامرأة عمران اسمها حنة، ومعنى: { نذرت }: جعلت لك ما في بطني محررا، أي: حبيسا على خدمة بيتك، محررا من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس، { فتقبل مني } ، أي: ارض عني في ذلك، واجعله فعلا مقبولا مجازى به، و { السميع }: إشارة إلى دعائها، و { العليم }: إشارة إلى نيتها.
[3.36-38]
وقوله تعالى: { فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت }: الوضع: الولادة، وقولها: { رب إني وضعتها أنثى }: لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف، وبين الله ذلك بقوله: { والله أعلم بما وضعت } ، وقولها: { وليس الذكر كالأنثى } ، تريد في امتناع نذرها؛ إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان، قاله قتادة وغيره، وبدأت بذكر الأهم في نفسها، وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول: وليس الأنثى كالذكر، وفي قولها: { وإني سميتها مريم }: سنة تسمية الأطفال قرب الولادة؛ ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" ولد لي الليلة مولود، فسميته باسم أبي إبراهيم "
، وباقي الآية إعاذة، قال النووي: وروينا في سنن أبي داود؛ بإسناد جيد، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم "
وفي صحيح مسلم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل عبد الله، وعبد الرحمن "
وفي سنن أبي داود والنسائي، وغيرهما، عن أبي وهب الجشمي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة "
اه.
وفي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رواية أبي هريرة، قال:
" كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان، وبها يستهل الصبي إلا ما كان من مريم ابنة عمران، وابنها؛ فإن أمها قالت حين وضعتها: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطن الرجيم } ، فضرب بينهما حجاب، فطعن الشيطان في الحجاب "
، وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، والمعنى واحد؛ كما ذكرته، قال النووي: باب ما يقال عند الولادة: روينا في كتاب ابن السني، عن فاطمة (رضي الله عنها)؛ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دنا ولادها، أمر أم سلمة، وزينب بنت جحش؛ أن تأتياها، فتقرآ عندها آية الكرسي، و { إن ربكم الله... } إلى آخر الآية، وتعوذانها بالمعوذتين«. انتهى.
وقوله تعالى: { فتقبلها ربها بقبول حسن }: إخبار منه سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ بأنه رضي مريم لخدمة المسجد؛ كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك.
وقوله سبحانه: { وأنبتها نباتا حسنا }: عبارة عن حسن النشأة في خلقة وخلق.
* ص *: { بقبول } مصدر على غير الصدر، والجاري على: تقبل تقبلا، وعلى قبل قبولا، و { نباتا }: مصدر منصوب ب «أنبتها»؛ على غير الصدر. انتهى.
وقوله تعالى: { وكفلها زكريا } معناه: ضمها إلى إنفاقه وحضنه، والكافل: هو المربي، قال السدي وغيره: إن زكريا كان زوج أختها؛ ويعضد هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى: «ابنا الخالة»، والذي عليه الناس: أن زكريا إنما كفلها بالاستهام؛ لتشاحهم حينئذ فيمن يكفل المحرر.
وقوله تعالى: { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا }: المحراب: المبنى الحسن، ومحراب القصر: أشرف ما فيه؛ ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى؛ وهو موقف الإمام: محراب، ومعنى { رزقا } ، أي: طعاما يتعذى به، لم يعهده، ولا عرف كيف جلب إليها، قال مجاهد وغيره: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ونحوه عن ابن عباس إلا أنه قال: ثمار الجنة، وقوله: { أنى }: معناه: كيف، ومن أين، وقولها: { من عند الله } دليل على أنه ليس من جلب بشر، قال الزجاج. وهذا من الآية التي قال الله تعالى:
وجعلنها وابنها ءاية للعلمين
[الأنبياء:91] وقولها: { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب }: تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه لا تنتقص خزائنه، فليس يحسب ما خرج منها، وقد يعبر بهذه العبارة عن المكثرين من الناس؛ أنهم ينفقون بغير حساب، وذلك مجاز وتشبيه، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله سبحانه ، قال الشيخ ابن أبي جمرة (رضي الله عنه)، وقد قال العلماء في معنى قوله عز وجل: { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب }: إنه الفتوح، إذا كان على وجهه. اه، ذكر هذا عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم:
" لو دعيت إلى ذراع أو كراع، لأجبت ".
وقوله تعالى: { هنالك دعا زكريا ربه } هنالك؛ في كلام العرب: إشارة إلى مكان أو زمان فيه بعد، ومعنى هذه الآية: إن في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها من الله، وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت، وأن الله تعالى تقبلها، وجعلها من الصالحات، تحرك أمله لطلب الولد، وقوي رجاؤه، وذلك منه على حال سن ووهن عظم، واشتعال شيب، فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة يرثه، والذرية: اسم جنس، يقع على واحد فصاعدا؛ كما أن الولد: اسم جنس كذلك، وطيبة: معناه: سليمة في الخلق والدين، تقية، ثم قال تعالى:
فنادته الملئكة
[آل عمران:39]، وترك محذوف كثير دل عليه ما ذكر، تقديره: فقبل الله دعاءه، وبعث الملك، أو الملائكة، فنادته، وذكر جمهور المفسرين؛ أن المنادي إنما هو جبريل، وقال قوم: بل نادته ملائكة كثيرة؛ حسبما تقتضيه ألفاظ الآية، قلت: وهذا هو الظاهر، ولا يعدل عنه إلا أن يصح في ذلك حديث عنه صلى الله عليه وسلم، فيتبع.
[3.39-41]
وقوله تعالى: { فنادته } عبارة تستعمل في التبشير، وفي ما ينبغي أن يسرع به، وينهى إلى نفس السامع ليسر به، فلم يكن هذا في الملائكة إخبارا على عرف الوحي، بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل.
وقوله تعالى: { وهو قائم يصلي في المحراب } ، يعني: ب «المحراب»؛ في هذا الموضع: موقف الإمام من المسجد، ويحيى: اسم سماه الله به قبل أن يولد، و { مصدقا } نصب على الحال، قال ابن عباس وغيره: الكلمة هنا يراد بها عيسى ابن مريم.
قال * ع *: وسمى الله تعالى عيسى كلمة، إذ صدر عن كلمة منه تعالى، وهي «كن»، لا بسبب إنسان.
وقوله تعالى: { وسيدا }: قال قتادة : أي: والله سيد في الحلم والعبادة والورع.
قال * ع *: من فسر السؤدد بالحلم، فقد أحرز أكثر معنى السؤدد، ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه، فلم يفسره بحسب كلام العرب، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله: { مصدقا بكلمة من الله } ، وتحصل التقى بباقي الآية، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه، دون أن يوقع في باطل هذا اللفظ يعم السؤدد، وتفصيله أن يقال: بذل الندى، وهذا هو الكرم، وكف الأذى، وهنا هي العفة بالفرج، واليد، واللسان، واحتمال العظائم، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات والإنقاذ من الهلكات، وجبر الكسير، والإفضال على المسترفد، وانظر قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنا سيد ولد آدم، ولا فخر "
، وذكر حديث الشفاعة في إطلاق الموقف، وذلك منه اعتمال في رضا ولد آدم، ثم:
قال * ع *: أما أنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى عليه السلام .
وقوله تعالى: { وحصورا } أصل هذه اللفظة: الحبس والمنع، ومنه: حصر العدو.
قال * ع *: وأجمع من يعتد بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال: إنه الحصور عن الذنوب، وذهب بعض العلماء إلى أن حصره كان بأنه يمسك نفسه؛ تقى وجلدا في طاعة الله سبحانه، وكانت به القدرة على جماع النساء، قالوا: وهذه أمدح له، قال الإمام الفخر: وهذا القول هو اختيار المحققين؛ أنه لا يأتي النساء، لا للعجز، بل للعصمة والزهد.
قلت: قال عياض: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى عليه السلام ؛ بأنه حصور، ليس كما قال بعضهم: إنه كان هيوبا أو لا ذكر له، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا تليق بالأنبياء عليهم السلام ، وإنما معناه: معصوم من الذنوب، أي: لا يأتيها؛ كأنه حصر عنها، وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء؛ كفاية من الله له؛ لكونها مشغلة في كثير من الأوقات، حاطة إلى الدنيا، ثم هي؛ في حق من أقدر عليها، وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه درجة عليا، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: وسائر النبيين.
اه من «الشفا».
وباقي الآية بين.
وروي من صلاحه - عليه السلام -؛ أنه كان يعيش من العشب، وأنه كان كثير البكاء من خشية الله؛ حتى اتخذ الدمع في وجهه أخدودا.
* ص *: و { من الصلحين } ، أي: من أصلاب الأنبياء، أو صالحا من الصالحين، فيكون صفة لموصوف محذوف. اه.
قلت: والثاني أحسن، والأول تحصيل الحاصل، فتأمله.
وقوله تعالى: { قال رب أنى يكون لي غلم وقد بلغني الكبر... } الآية: ذهب الطبري وغيره إلي أن زكريا لما رأى حال نفسه، وحال امرأته، وأنها ليست بحال نسل، سأل عن الوجه الذي به يكون الغلام، أتبدل المرأة خلقتها أم كيف يكون؟
قال * ع *: وهذا تأويل حسن لائق بزكريا عليه السلام .
و { أنى }: معناها: كيف، ومن أين، وحسن في الآية { بلغني الكبر }؛ من حيث هي عبارة واهن منفعل.
وقوله: { كذلك } ، أي: كهذه القدرة المستغربة قدرة الله، ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا، وحال امرأته؛ كأنه قال: رب، على أي وجه يكون لنا غلام، ونحن بحال كذا، فقال له: كما أنتما يكون لكما الغلام، والكلام تام؛ على هذا التأويل في قوله: { كذلك }.
وقوله: { الله يفعل ما يشاء }: جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب.
وقوله: { قال رب اجعل لي ءاية } ، أي: علامة، قالت فرقة من المفسرين لم يكن هذا من زكريا على جهة الشك، وإنما سأل علامة على وقت الحمل.
وقوله تعالى: { ءايتك ألا تكلم الناس... } الآية: قال الطبري وغيره: لم يكن منعه الكلام لآفة، ولكنه منع محاورة الناس، وكان يقدر على ذكر الله، ثم استثنى الرمز، وهو استثناء منقطع، والكلام المراد في الآية: إنما هو النطق باللسان، لا الإعلام بما في النفس، والرمز في اللغة: حركة تعلم بما في نفس الرامز؛ كانت الحركة من عين ، أو حاجب، أو شفة، أو يد، أو عود، أو غير ذلك، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره: رموز.
وأمره تعالى بالذكر لربه كثيرا؛ لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه، قال محمد بن كعب القرظي: لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر، لرخص لزكرياء عليه السلام ؛ حيث قال: { آيتك ألا تكلم الناس ثلثة أيام إلا رمزا } ، لكنه قال له: { اذكر ربك كثيرا } قال الإمام الفخر: وفي الآية تأويلان:
أحدهما: أن الله تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل؛ ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر الله وطاعته؛ شكرا لله على هذه النعمة، ثم أعلم أن هذه الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه:
أحدها: أن قدرته على الذكر والتسبيح، وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من المعجزات.
وثانيها: أن حصول ذلك العجز مع صحة البينة من المعجزات.
وثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت تلك الحالة، فقد حصل الولد، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات.
والتأويل الثاني: أن المراد منه الذكر بالقلب؛ وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في أول الأمر أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة، فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله تعالى، سكتوا باللسان، وبقي الذكر في القلب؛ ولذلك قالوا: «من عرف الله، كل لسانه»، فكان زكرياء عليه السلام أمر بالسكوت باللسان واستحضار معاني الذكر والمعرفة، واستدامتها بالقلب. اه.
وقوله تعالى: { وسبح }: معناه: قل سبحان الله، وقال قوم: معناه صل، والأول أصوب؛ لأنه يناسب الذكر، ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس، والعشي، في اللغة: من زوال الشمس إلى مغيبها، والإبكار: مصدر أبكر الرجل، إذا بادر أمره من لدن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتتمادى البكرة شيئا بعد طلوع الشمس، يقال: أبكر الرجل وبكر.
[3.42-43]
وقوله تعالى: { وإذ قالت الملئكة }: العامل في «إذ»: «اذكر»؛ لأن هذه الآيات كلها إنما هي إخبارات بغيب تدل على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مقصد ذكرها هو الأظهر في حفظ رونق الكلام.
و { اصطفك }: معناه: تخيرك لطاعته، و { طهرك }: معناه: من كل ما يصم النساء في خلق، أو خلق، أو دين؛ قاله مجاهد وغيره، وقول الزجاج: قد جاء في التفسير؛ أن معناه: طهرك من الحيض والنفاس يحتاج إلى سند قوي، وما أحفظه، و { العلمين } يحتمل عالم زمانها.
قال * ع *: وسائغ أن يتأول عموم الاصطفاء على العالمين، وقد قال بعض الناس: إن مريم نبية من أجل مخاطبة الملائكة لها، وجمهور الناس على أنها لم تنبإ امرأة، و { اقنتي } معناه: اعبدي، وأطيعي؛ قاله الحسن وغيره، ويحتمل أن يكون معناه: أطيلي القيام في الصلاة، وهذا هو قول الجمهور، وهو المناسب في المعنى لقوله: { واسجدي } ، وروى مجاهد؛ أنها لما خوطبت بهذا، قامت حتى ورمت قدماها، وروى الأوزاعي: حتى سال الدم والقيح من قدميها، وروي أن الطير كانت، تنزل على رأسها تظنها جمادا.
واختلف المتأولون، لم قدم السجود على الركوع.
فقال قوم: كان ذلك في شرعهم، والقول عندي في ذلك: أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة، وهما طول القيام، والسجود، وخصا بالذكر لشرفهما، وهذان يختصان بصلاتها مفردة وإلا فمن يصلي وراء إمام، فليس يقال له: أطل قيامك، ثم أمرت بعد بالصلاة في الجماعة، فقيل لها: { واركعي مع الراكعين } ، وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر اللفظ، ولم يرد في الآية الركوع والسجود الذي هو منتظم في ركعة واحدة، والله أعلم.
وقال * ص *: قوله: { واركعي } ، الواو: لا ترتب، فلا يسأل، لم قدم السجود، إلا من جهة علم البيان، وجوابه أنه قدم؛ لأنه أقرب ما يكون العبد فيه من ربه، فكان أشرف، وقيل: كان مقدما في شرعهم. اه.
[3.44-48]
وقوله تعالى: { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك... } الآية: هذه المخاطبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإشارة بذلك إلى ما تقدم ذكره من القصص، والأنباء: الأخبار، والغيب: ما غاب عن مدارك الإنسان، ونوحيه: معناه: نلقيه في نفسك في خفاء، وحد الوحي: إلقاء المعنى في النفس في خفاء، فمنه بالملك، ومنه بالإلهام، ومنه بالإشارة، ومنه بالكتاب.
وفي هذه الآية بيان لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها، وهو لم يكن لديهم، أو من قرأها في كتبهم، وهو صلى الله عليه وسلم أمي من قوم أميين، أو: من أعلمه الله بها، وهو ذاك صلى الله عليه وسلم، و { لديهم }: معناه: عندهم ومعهم.
وقوله: { إذ يلقون أقلمهم... } الآية: جمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر، فروي أن قلم زكريا صاعد الجرية، ومضت أقلام الآخرين، وقيل غير هذا، قلت: ولفظ ابن العربي في «الأحكام» قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" فجرت الأقلام وعلا قلم زكريا "
اه، وإذا ثبت الحديث، فلا نظر لأحد معه.
و { يختصمون }: معناه: يتراجعون القول الجهير في أمرها.
وفي هذه الآية استعمال القرعة، والقرعة سنة،
" وكان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا سافر، أقرع بين نسائه "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لو يعلمون ما في الصف الأول، لاستهموا عليه ".
واختلف أيضا، هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده أو عن جماعة من الملائكة؟
و { وجيها }: نصب على الحال، وهو من الوجه، أي: له وجه ومنزلة عند الله، وقال البخاري: وجيها: شريفا اه.
{ ومن المقربين }: معناه: من الله تعالى، وكلامه في المهد: آية دالة على براءة أمه، وأخبر تعالى عنه أنه أيضا يكلم الناس كهلا، وفائدة ذلك أنه إخبار لها بحياته إلى سن الكهولة، قال جمهور الناس: الكهل الذي بلغ سن الكهولة، وقال مجاهد: الكهل: الحليم؛
قال * ع *: وهذا تفسير للكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب، واختلف الناس في حد الكهولة، فقيل: الكهل ابن أربعين، وقيل: ابن خمسة وثلاثين، وقيل: ابن ثلاثة وثلاثين، وقيل: ابن اثنين وثلاثين، هذا حد أولها، وأما آخرها، فاثنان وخمسون، ثم يدخل سن الشيخوخة.
وقول مريم: { أنى يكون لي ولد }: استفهام عن جهة حملها، واستغراب للحمل على بكارتها، و «يمسس»: معناه: يطأ ويجامع .
* ص *: والبشر يطلق على الواحد والجمع. اه.
والكلام في قوله: { كذلك } كالكلام في أمر زكريا، وجاءت العبارة في أمر زكريا: «يفعل»، وجاءت هنا: «يخلق»؛ من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان الذي يتعارف، وإن قل، وقصة مريم لا تتعارف البتة، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع، وأدل عليه.
وقوله تعالى: { إذا قضى أمرا }: معناه: إذا أراد إيجاده، والأمر واحد الأمور، وهو مصدر سمي به، والضمير في «له» عائد على الأمر والقول؛ على جهة المخاطبة.
وقوله: { كن }: خطاب للمقضي.
وقوله: { فيكون }؛ بالرفع: خطاب للمخبر.
وقوله تعالى: { ويعلمه الكتب... } الآية: الكتاب هنا: هو الخط باليد، وهو مصدر: كتب يكتب؛ قاله جمهور المفسرين.
[3.49-51]
وقوله: { ورسولا إلى بني إسرءيل } ، أي: ويجعله رسولا، وكانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل مبينا حكم التوراة، ونادبا إلى العمل بها، ومحللا أشياء مما حرم فيها؛ كالثروب ولحوم الإبل، وأشياء من الحيتان والطير، ومن أول القول لمريم إلى قوله: «إسرائيل»: خطاب لمريم، ومن قوله: { أني قد جئتكم } إلى قوله: { مستقيم }: يحتمل أن يكون خطابا لمريم؛ على معنى: يكون من قوله لبني إسرائيل كيت وكيت، ويكون في آخر الكلام محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره: فجاء عيسى بني إسرائيل رسولا، فقال لهم ما تقدم ذكره، ويحتمل أن يكون المحذوف مقدرا في صدر الكلام بعد قوله: { إلى بني إسرءيل } ، فيكون تقديره: فجاء عيسى؛ كما بشر الله رسولا إلى بني إسرائيل؛ بأني قد جئتكم، ويكون قوله: { أني قد جئتكم } ليس بخطاب لمريم، والأول أظهر.
وقوله: { أني أخلق لكم من الطين... } الآية: قرأ نافع: «إني أخلق» بكسر الهمزة، وقرأ باقي السبعة بفتحها، فوجه قراءة نافع إما القطع والاستئناف، وإما أنه فسر الآية بقوله: «إني»، كما فسر المثل في قوله:
كمثل ءادم
[آل عمران:59] ووجه قراءة الباقين البدل من «آية»؛ كأنه قال: وجئتكم بأني أخلق، و { أخلق }: معناه: أقدر وأهيىء بيدي.
* ص *: { كهيئة }: الهيئة: الشكل والصورة، وهو مصدر: هاء الشيء يهيىء هيئة، وهيأ، إذا ترتب واستقر على حال ما، وتعديه بالتضعيف، قال تعالى:
ويهيئ لكم من أمركم مرفقا
[الكهف:16] اه.
وقرأ نافع وحده: «فيكون طائرا»؛ بالإفراد؛ أي: يكون طائرا من الطيور، وقرأ الباقون: «فيكون طيرا»؛ بالجمع؛ وكذلك في «سورة المائدة» والطير: اسم جمع، وليس من أبنية الجموع، وإنما البناء في جمع طائر: أطيار، وجمع الجمع: طيور.
وقوله: { فأنفخ فيه } ، ذكر الضمير؛ لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيىء، ويحتمل أن يريد: فأنفخ في المذكور، وأنث الضمير في «سورة المائدة»؛ لأنه يحتمل أن يعود على الهيئة، أو على تأنيث لفظ الجماعة، وكون عيسى يخلق بيده، وينفخ بفيه، إنما هو ليبين تلبسه بالمعجزة، وأنها جاءت من قبله، وأما الإيجاد من العدم، وخلق الحياة في ذلك الطين، فمن الله تعالى وحده، لا شريك له.
وروي في قصص هذه الآية، أن عيسى عليه السلام كان يقول لبني إسرائيل: أي الطير أشد خلقة، وأصعب أن يحكى؟ فيقولون: الخفاش؛ لأنه طائر لا ريش له، فكان يصنع من الطين خفافيش، ثم ينفخ فيها فتطير، وكل ذلك بحضرة الناس، ومعاينتهم، فكانوا يقولون: «هذا ساحر» { أبرىء } معناه: أزيل المرض، و { الأكمه }: هو الذي يولد أعمى مضموم العينين؛ قاله ابن عباس وقتادة،
قال * ع *: والأكمه؛ في اللغة: هو الأعمى، وقد كان عيسى عليه السلام يبرىء بدعائه، ومسح يده على كل عاهة، ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى النبوة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرىء منها طبيب بوجه، وروي في إحيائه الموتى؛ أنه كان يضرب بعصاه الميت، أو القبر، أو الجمجمة؛ فيحيى الإنسان، ويكلمه بإذن الله، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها، وآيات عيسى عليه السلام إنما تجري فيما يعارض الطب؛ لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك الزمان، وشغلهم، وحينئذ أثيرت فيه العجائب، فلما جاء عيسى عليه السلام بغرائب لا تقتضيها الأمزجة وأصول الطب؛ وذلك إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، علمت الأطباء؛ أن هذه القوة من عند الله، وهذا كأمر السحرة مع موسى، والفصحاء مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووقع في التواريخ المترجمة عن الأطباء؛ أن جالينوس كان في زمن عيسى عليه السلام ، وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام، فمات في طريقه ذلك.
وقوله: { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } الآية: قال مجاهد وغيره: كان عيسى عليه السلام من لدن طفوليته، وهو في الكتاب، يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم في منازلهم، وبما يؤكل من الطعام، ويدخر، وكذلك إلى أن نبئى، فكان يقول لكل من سأله عن هذا المعنى: أكلت البارحة كذا، وادخرت كذا، وقال قتادة: معنى الآية: إنما هو في نزول المائدة عليهم، وذلك أنها لما نزلت، أخذ عليهم عهد أن يأكلوا ولا يخبأ أحد شيئا، ولا يدخره ولا يحمله إلى بيته، فخانوا، وجعلوا يخبئون، فكان عيسى عليه السلام يخبر كل أحد عما أكل، وعما ادخر في بيته من ذلك، وعوقبوا على ذلك.
وقوله: { فاتقوا الله وأطيعون }: تحذير، ودعاء إلى الله عز وجل.
وقوله: { هذا صرط مستقيم }: إشارة إلى قوله: { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } ، لأن ألفاظه جمعت الإيمان والطاعات، والصراط: الطريق، والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه.
[3.52-54]
وقوله تعالى: { فلما أحس عيسى منهم الكفر } الآية: قبل هذه الآية محذوف، به يتم اتساق الآيات، تقديره: فجاء عيسى؛ كما بشر الله به، فقال جميع ما ذكر لبني إسرائيل، { فلما أحس } ، ومعنى: { أحس }: علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه، ورأى من قرائن أحوالهم، وشدة عداوتهم، وإعراضهم، { قال من أنصاري إلى الله } وقوله: { إلى الله }: يحتمل معنيين:
أحدهما: من ينصرني في السبيل إلى الله.
والثاني: أن يكون التقدير: من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي، فإلى دالة على الغاية في كلا التقديرين، وليس يباح أن يقال: «إلى» بمعنى «مع»؛ كما غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى:
وأيديكم إلى المرافق
[المائدة:6]، فقال: «إلى» بمعنى «مع»، وهذه عجمة.
والحواريون قوم مر بهم عيسى صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى نصره واتباع ملته، فأجابوه، وقاموا بذلك خير قيام، وصبروا في ذات الله، واختلف، لم قيل لهم حواريون؟ فقال ابن جبير: لبياض ثيابهم ، وقال أبو أرطاة: لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها، وقال قتادة: الحواريون: أصفياء الأنبياء الذين تصلح لهم الخلافة، وقال الضحاك نحوه،
قال * ع *: وهذا القول تقرير حال القوم، وليس بتفسير اللفظة، وعلى هذا الحد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمته بهم في قوله:
" وحواريي الزبير "
والأقوال الأول هي تفسير اللفظة؛ إذ هي من الحور، وهو البياض، حورت الثوب: بيضته؛ ومنه الحواري، وقد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار: الحواريات؛ لغلبة البياض عليهن؛ ومنه قول أبي جلدة اليشكري: [الطويل]
فقل للحواريات يبكين غيرنا
ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وقول الحواريين: { واشهد } يحتمل أن يكون خطابا لعيسى عليه السلام ، أي: اشهد لنا عند الله، ويحتمل أن يكون خطابا لله تعالى؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:
" اللهم، اشهد "
، وقولهم: { ربنا ءامنا بما أنزلت } يريدون: الإنجيل، وآيات عيسى، { فاكتبنا مع الشهدين } ، أي: في عداد من شهد بالحق من مؤمني الأمم، ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى عليه السلام ، فقال: { ومكروا } ، يريد في تحيلهم في قتله بزعمهم فهذا هو مكرهم، فجازاهم الله تعالى؛ بأن طرح شبه عيسى على أحد الحواريين؛ في قول الجمهور، أو على يهودي منهم كان جاسوسا، وأعقب بني إسرائيل مذلة وهوانا في الدنيا والآخرة، فهذه العقوبة هي التي سماها الله تعالى مكرا في قوله: { ومكر الله } ، وذلك مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب.
وقوله: { والله خير المكرين }: معناه: فاعل حق في ذلك، وذكر أبو القاسم القشيري في «تحبيره»، قال: سئل ميمون، أحسبه: ابن مهران؛ عن قوله تعالى: { ومكروا ومكر الله } فقال: تخليته إياهم، مع مكرهم هو مكره بهم. اه. ونحوه عن الجنيد، قال الفراء: المكر من المخلوق الخب والحيلة، ومن الإله الاستدراج، قال الله تعالى:
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
[القلم:44] قال ابن عباس: كلما أحدثوا خطيئة، أحدثنا لهم نعمة. اه.
[3.55-58]
وقوله تعالى: { إذ قال الله يعيسى إني متوفيك... } الآية: اختلف في هذا التوفي.
فقال الربيع: هي وفاة نوم، وقال الحسن وغيره: هو توفي قبض وتحصيل، أي: قابضك من الأرض، ومحصلك في السماء وقال ابن عباس: هي وفاة موت، ونحوه لمالك في «العتبية»، وقال وهب بن منبه: توفاه الله بالموت ثلاث ساعات، ورفعه فيها، ثم أحياه بعد ذلك، وقال الفراء: هي وفاة موت، ولكن المعنى: إني متوفيك في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال، ففي الكلام تقديم وتأخير.
قال * ع *: وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر؛ من أن عيسى عليه السلام في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويقتل الدجال، ويفيض العدل، ويظهر هذه الملة ملة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ويححج البيت, ويعتمر، ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة، وقيل: أربعين سنة، ثم يميته الله تعالى.
قال * ع *: فقول ابن عباس: هي وفاة موت لا بد أن يتمم إما على قول وهب بن منبه، وإما على قول الفراء.
وقوله تعالى: { ورافعك إلي } عبارة عن نقله من سفل إلى علو، وإضافة الله سبحانه إضافة تشريف، وإلا فمعلوم أنه سبحانه غير متحيز في جهة، { ومطهرك } ، أي: من: دعاوى الكفرة ومعاشرتهم.
وقوله: { وجاعل الذين اتبعوك } الآية: قال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين، فتدخل في ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها متبعة لعيسى؛ قاله قتادة وغيره؛ وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين، فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه السلام ؛ أن أهل الإيمان به، كما يجب، هم فوق الذين كفروا بالحجة، والبرهان، والعز والغلبة، ويظهر من عبارة ابن جريج وغيره؛ أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره، وهم الحواريون.
وقوله تعالى: { ثم إلي مرجعكم } خطاب لعيسى، والمراد: الإخبار بالقيامة، والحشر، وباقي الآية بين، وتوفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة، فذلك هو بحسب الأعمال، وأما نفس دخول الجنة، فبرحمة الله وتفضله سبحانه.
وقوله تعالى: { ذلك نتلوه عليك من الآيت } الآية: «ذلك»: إشارة إلى ما تقدم من الأنباء، و { نتلوه }: معناه: نسرده، و { من الآيت }: ظاهره آيات القرآن، ويحتمل أن يريد: من المعجزات والمستغربات؛ أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا، وبسبب تلاوتنا، و { الذكر }: ما ينزل من عند الله. قال ابن عباس: الذكر: القرآن، و { الحكيم }: الذي قد كمل في حكمته.
[3.59-61]
وقوله تعالى: { إن مثل عيسى عند الله... } الآية: قال ابن عباس وغيره: سبب نزولها محاجة نصارى نجران في أمر عيسى، وقولهم: يا محمد، هل رأيت بشرا قط من غير فحل، أو سمعت به، ومعنى الآية أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم؛ إذ الناس مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل، وفي هذه الآية صحة القياس.
وقوله تعالى: { ثم قال } ترتيب للأخبار لمحمد صلى الله عليه وسلم، المعنى: خلقه من تراب، ثم كان من أمره في الأزل أن قال له: كن وقت كذا.
وقوله تعالى: { الحق من ربك } ، أي: هذا هو الحق، و { الممترين }: هم الشاكون، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم في عبارة اقتضت ذم الممترين؛ وهذا يدل على أن المراد بالامتراء غيره ونهي عن الامتراء، مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله.
وقوله تعالى: { فمن حاجك فيه } ، أي: في عيسى، ويحتمل في الحق، والعلم الذي أشير إليه بالمجيء هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة.
وقوله: { فقل تعالوا }: استدعاء للمباهلة، و { تعالوا }: تفاعلوا؛ من العلو، وهي كلمة قصد بها أولا تحسين الأدب مع المدعو، ثم اطردت؛ حتى يقولها الإنسان لعدوه، وللبهيمة، و { نبتهل }: معناه: نلتعن، ويقال: عليهم بهلة الله، والابتهال: الجد في الدعاء بالبهلة، روى محمد بن جعفر بن الزبير وغيره: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دعا نصارى نجران إلى المباهلة، قالوا: دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتك بما نفعل، فذهبوا إلى العاقب، وهو ذو رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى، فقال: يا معشر النصارى، والله، لقد عرفتم أن محمدا النبي المرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم قط نبيا، فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وأنه الاستئصال إن فعلتم، فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عيه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل، وانصرفوا إلى بلادكم؛ حتى يريكم زمن رأيه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نبقى على ديننا، وصالحوه على أموال، وقالوا له: ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا؛ فإنكم عندنا رضى».
قال * ع *: وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شاهد عظيم على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم عندهم، ودعاء النساء والأبناء أهز للنفوس، وأدعى لرحمة الله للمحقين، أو لغضبه على المبطلين.
[3.62-64]
وقوله تعالى: { إن هذا لهو القصص الحق } الآية: هذا خبر من الله تعالى، جزم مؤكد، فصل به بين المختصمين، والإشارة بهذا هي إلى ما تقدم في أمر عيسى عليه السلام ، والقصص معناه الإخبار.
وقال * ص *: { إن هذا لهو }: هذا، إشارة إلى القرآن. اه.
واختلف المفسرون من المراد بأهل الكتاب هنا.
فروى قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنهم يهود المدينة.
وقال ابن زيد وغيره: المراد نصارى نجران.
قال * ع *: والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران، لكن لفظ الآية يعمهم، وسواهم من النصارى واليهود، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى هرقل عظيم الروم، وكذا ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة، «والكلمة» هنا؛ عند الجمهور: عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها، وهي ما فسر بعد ذلك، وهذا كما تسمي العرب القصيدة «كلمة»، وقوله: { سوآء } نعت للكلمة، قال قتادة وغيره: معناه: إلى كلمة عدل، وفي مصحف ابن مسعود: «إلى كلمة عدل»؛ كما فسر قتادة،
قال * ع *: والذي أقوله في لفظة { سوآء }: إنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع، وهو أنه دعاهم إلى معان، جميع الناس فيها مستوون.
وقوله: { ألا نعبد إلا الله } هو في موضع خفض على البدل من { كلمة } ، أو في موضع رفع؛ بمعنى هي ألا نعبد إلا الله، واتخاذ بعضهم بعضا أربابا هو على مراتب ، أشدها: اعتقادهم الألوهية، وعبادتهم لهم؛ كعزير، وعيسى، ومريم، وأدنى ذلك: طاعتهم لأساقفتهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي، والتزامهم طاعتهم شرعا.
* م *: { فإن تولوا }: أبو البقاء: تولوا: فعل ماض، ولا يجوز أن يكون التقدير: «تتولوا»؛ لفساد المعنى؛ لأن قوله: { فقولوا اشهدوا } خطاب للمؤمنين، و { تولوا } للمشركين. اه.
وقوله: { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون }: أمر بالإعلان بمخالفتهم، ومواجهتهم بذلك وإشهادهم؛ على معنى التوبيخ والتهديد.
[3.65-68]
وقوله تعالى: { يأهل الكتب لم تحاجون في إبرهيم... } الآية: قال ابن عباس وغيره: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند النبي صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله الآية. ومعنى قوله تعالى: { فيما لكم به علم } ، أي: على زعمكم، وفسر الطبري هذا الموضع؛ بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم، وأنبيائهم مما أيقنوه، وثبتت عندهم صحته،
قال * ع *: وذهب عنه (رحمه الله)؛ أن ما كان هكذا، فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة؛ لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما كان هناك على حقيقته. قلت: وما قاله الطبري أبين، وهو ظاهر الآية، ومن المعلوم أن أكثر احتجاجاتهم إنما كانت تعسفا، وجحدا للحق.
وقوله تعالى: { ما كان إبرهيم يهوديا ولا نصرانيا } الآية: أخبر الله تعالى في هذه الآية عن حقيقة أمر إبراهيم عليه السلام ، ونفى عنه اليهودية والنصرانية، والإشراك، ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا أن أولى الناس بإبراهيم هم القوم الذين اتبعوه، فيدخل في ذلك كل من اتبع الحنيفية في الفترات؛ و { هذا النبي }: يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعث بالحنيفية السمحة، و { الذين ءامنوا }: يعني: بمحمد صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء؛ على ما يجب ثم أخبر سبحانه؛ أنه ولي المؤمنين؛ وعدا منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة؛ روى عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم "
، ثم قرأ: { إن أولى الناس بإبرهيم... } الآية.
[3.69-71]
وقوله تعالى: { ودت طائفة من أهل الكتب لو يضلونكم } ، قال مكي: قيل: إن هذه الآية عني بها قريظة، والنضير، وبنو قينقاع، ونصارى نجران.
* ص *: قوله تعالى: { ودت طائفة }: ود: بمعنى تمنى، ويستعمل معها: «أن، ولو»، وربما جمع بينهما نحو: «وددت أن لو فعل»، ومصدره الودادة، والاسم منه الود، وبمعنى: أحب، فيتعدى كتعدي أحب، ومصدره: مودة، والاسم منه ود، وقد يتداخلان في الاسم والمصدر اه.
وقوله تعالى: { وما يضلون إلا أنفسهم }: إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالون، ثم أعلم تعالى؛ أنهم لا يشعرون بذلك، أي: لا يتفطنون، ثم وقفهم تعالى موبخا لهم على لسان نبيه، والمعنى: قل لهم، يا محمد: لأي سبب تكفرون بآيات الله التي هي آيات القرآن، وأنتم تشهدون؛ أن أمره وصفة محمد في كتابكم؛ قال هذا المعنى قتادة وغيره.
ويحتمل أن يريد بالآيات ما ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من المعجزات.
قلت: ويحتمل الجميع من الآيات المتلوة والمعجزات التي شاهدوها منه صلى الله عليه وسلم.
وقال * ص *: { وأنتم تشهدون }: جملة حالية، ومفعول «تشهدون»: محذوف، أي: أنها آيات الله، أو ما يدل على صحتها من كتابكم، أو بمثلها من آيات الأنبياء. اه.
وقوله: { لم تلبسون }: معناه: تخلطون: تقول: لبست الأمر؛ بفتح الباء: بمعنى خلطته؛ ومنه قوله تعالى:
وللبسنا عليهم ما يلبسون
[الأنعام:9].
وفي قوله: { وأنتم تعلمون } توقيف على العناد ظاهر.
وباقى الآية تقدم بيانه في «سورة البقرة».
[3.72-74]
وقوله تعالى: { وقالت طائفة من أهل الكتب ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار... } الآية: أخبر الله سبحانه في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع، قال قتادة وغيره: قال بعض الأحبار: لنظهر الإيمان بمحمد صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار، فسيقول المسلمون عند ذلك: ما بال هؤلاء كانوا معنا ثم انصرفوا عنا، ما ذاك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر، فيشكون، ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد، قال الإمام الفخر : وفي إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من الفائدة وجوه:
الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، فلما أخبر بها عنهم، كان إخبارا بمغيب، فيكون معجزا.
الثاني: أنه تعالى، لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة، لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلام، لأمكن تأثيرها في قلب من ضعف إيمانه.
الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة، صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس اه.
وذكر تعالى عن هذه الطائفة من أهل الكتاب؛ أنهم قالوا: { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } ، ولا خلاف أن هذا القول هو من كلام الطائفة، واختلف الناس في قوله تعالى: { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم } ، فقال مجاهد وغيره من أهل التأويل: الكلام كله من قول الطائفة لأتباعهم.
وقوله تعالى: { قل إن الهدى هدى الله } اعتراض بين الكلامين؛
قال * ع *: والكلام على هذا التأويل يحتمل معاني:
أحدها: ولا تصدقوا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم؛ حذارا أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم، وحذارا أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم، إذا لم تستمروا عليه، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر، مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل الكلام أن يكون معناه: ولا تؤمنوا بمحمد، وتقروا بنبوته؛ إذ قد علمتم صحتها إلا لليهود الذين هم منكم، و { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم }: صفة لحال محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: تستروا بإقراركم أن قد أوتي مثل ما أوتيتم، أو فإنهم (يعنون العرب) يحاجونكم بالإقرار عند ربكم.
وقرأ ابن كثير وحده من بين السبعة: «آن يؤتى»؛ بالمد: على جهة الاستفهام الذي هو تقرير، وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة إلا الاعتراض الذي هو: { قل إن الهدى هدى الله }؛ فإنه لا يختلف؛ أنه من قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل: «آن يؤتى» على ما قبله من الفعل؛ لأن الاستفهام قاطع، فيجوز أن تكون «أن» في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف، تقديره: تصدقون أو تعترفون أو تذكرونه لغيركم، ونحو هذا مما يدل عليه الكلام.
قال * ع *: ويكون «يحاجوكم»؛ على هذا معطوفا على: «أن يؤتى». قال أبو علي: ويجوز أن يكون موضع «أن» نصبا، فيكون المعنى: أتشيعون أو تذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم:
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم
[البقرة:76] فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للأتباع على تصديقهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث.
قال * ع *: ويكون قوله تعالى: { أو يحاجوكم } في تأويل نصب «أن» بمعنى: أو تريدون أن يحاجوكم.
وقال السدي وغيره: الكلام كله من قوله: { قل إن الهدى هدى الله } إلى آخر الآية: هو مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن يقوله لأمته.
وحكى الزجاج وغيره؛ أن المعنى: قل إن الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.
ومعنى الآية على قول السدي: أي: لم يعط أحد مثل حظكم، وإلا فليحاجكم من ادعى سوى ذلك، أو يكون المعنى: أو يحاجونكم؛ على معنى الازدراء باليهود؛ كأنه قال: أو هل لهم أن يحاجوكم، أو يخاصموكم فيما وهبكم الله، وفضلكم به، وقال قتادة والربيع: الكلام كله من قوله: { قل إن الهدى هدى الله } إلى آخر الآية هو مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله للطائفة.
قال * ع *: ويحتمل أن يكون قوله: { أن يؤتى } بدلا من قوله: { هدى الله }. قلت: وقد أطالوا الكلام هنا، وفيما ذكرناه كفاية.
وقوله تعالى: { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله وسع عليم * يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } في الآية تكذيب لليهود في قولهم: لن يؤتي الله أحدا مثل ما أتى بني إسرائيل؛ من النبوة والشرف، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره.
[3.75-78]
وقوله تعالى: { ومن أهل الكتب من إن تأمنه... } الآية: أخبر تعالى عن أهل الكتاب؛ أنهم قسمان في الأمانة، ومقصد الآية ذم الخونة منهم، والتفنيد لرأيهم وكذبهم على الله في استحلالهم أموال العرب. قال الفخر وفي الآية ثلاثة أقوال:
الأول: أن أهل الأمانة منهم الذين أسلموا، أما الذين بقوا على اليهودية، فهم مصرون على الخيانة؛ لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين، وأخذ ماله.
الثاني: أن أهل الأمانة منهم هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهود.
الثالث: قال ابن عباس: أودع رجل عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب، فأدى إليه، وأودع آخر فنحاصا اليهودي دينارا، فخانه، فنزلت الآية. اه.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قال الطبري: وفائدة هذه الآية النهي عن ائتمانهم على مال، وقال شيخنا أبو عبد الله المغربي: فائدتها ألا يؤتمنوا على دين؛ يدل عليه ما بعده في قوله: { وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتب } ، والصحيح عندي: أنها في المال نص، وفي الدين تنبيه، فأفادت المعنيين بهذين الوجهين. قال ابن العربي: فالأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظيم قدرها أنها تقف على جنبتي الصراط لا يمكن من الجواز إلا من حفظها، ولهذا وجب عليك أن تؤديها إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك، فتقابل المعصية بالمعصية؛ وكذلك لا يجوز أن تغدر من غدرك. قال البخاري: باب إثم الغادر للبر والفاجر. اه.
والقنطار؛ في هذه الآية: مثال للمال الكثير، يدخل فيه أكثر من القنطار وأقل، وأما الدينار، فيحتمل أن يكون كذلك مثالا لما قل، ويحتمل أن يريد أن منهم طبقة لا تخون إلا في دينار فما زاد، ولم يعن لذكر الخائنين في أقل؛ إذ هم طغام حثالة، ودام: معناه: ثبث.
وقوله: { قائما }: يحتمل معنيين: قال قتادة، ومجاهد، والزجاج: معناه: قائما على اقتضاء حقك، يريدون بأنواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحاكم من غير مراعاة لهيئة هذا الدائم.
وقال السدي وغيره: معنى قائما: على رأسه.
وقوله: { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } الآية: الإشارة ب «ذلك» إلى كونهم لا يؤدون الأمانة، أي: يقولون نحن من أهل الكتاب، والعرب أميون أصحاب أوثان، فأموالهم لنا حلال، متى قدرنا على شيء منها، لا حجة علينا في ذلك، ولا سبيل لمعترض.
وقوله تعالى: { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } ذم لبني إسرائيل بأنهم يكذبون على الله سبحانه في غير ما شيء، وهم عالمون بمواضع الصدق.
قال * ص *: { وهم يعلمون }: جملة حالية. اه.
ثم رد الله تعالى في صدر قولهم: { ليس علينا }؛ بقوله: { بلى }؛ أي: عليهم سبيل، وحجة، وتباعة، ثم أخبر؛ على جهة الشرط؛ أن من أوفى بالعهد، واتقى عقوبة الله في نقضه، فإنه محبوب عند الله.
وقوله تعالى: { إن الذين يشترون بعهد الله... } الآية: آية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة، وهي آية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد الحق وختر المواثيق، وكل يأخذ من وعيدها؛ بحسب جريمته.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وقد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية، والذي يصح من ذلك: أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من حلف يمين صبر يقتطع بها مال امرىء مسلم، لقي الله، وهو عليه غضبان "
، فأنزل الله تصديق ذلك: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمنهم ثمنا قليلا... } الآية، قال: فجاء الأشعث بن قيس، فقال: في نزلت؛ كانت لي بئر في أرض ابن عم لي، وفي رواية:
" كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينتك أو يمينه»، قلت: إذن يحلف، يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث "
اه.
وقوله تعالى: { وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتب... } الآية: يلوون: معناه: يحرفون ويتحيلون؛ لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ، واشتراكها، وتشعب التأويلات؛ كقولهم:
رعنا
[البقرة:104]،
واسمع غير مسمع
[النساء:46] ونحو ذلك، وليس التبديل المحض بلي، وحقيقة اللي في الثياب والحبال ونحوها، وهو فتلها وإراغتها؛ ومنه: لي العنق، ثم استعمل ذلك في الحجج، والخصومات والمجادلات، والكتاب؛ في هذا الموضع: التوراة، والضمير في «تحسبوه» للمسلمين.
وقوله: { وما هو من عند الله }: نفي أن يكون منزلا من عند الله؛ كما ادعوا، وهو من عند الله، بالخلق، والاختراع، والإيجاد، ومنهم بالتكسب.
[3.79-80]
وقوله تعالى: { ما كان لبشر... } الآية: معناه: النفي التام؛ لأنا نقطع أن الله لا يؤتي النبوة للكذبة والمدعين، و { الكتب } هنا اسم جنس، و { الحكم }: بمعنى الحكمة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن من الشعر لحكما "
وقال الفخر. هنا اتفق أهل اللغة والتفسير على أن هذا الحكم هو العلم، قال تعالى:
وآتيناه الحكم صبيا
[مريم:12] يعني: العلم والفهم. اه.
«وثم»: في قوله: { ثم يقول }: معطية تعظيم الذنب في القول بعد مهلة من هذا الإنعام، وقوله: { عبادا }: جمع «عبد»، ومن جموعه عبيد، وعبدى.
قال * ع *: والذي أستقريت في لفظة العباد، أنه جمع عبد، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع، والدلالة على الطاعة، دون أن يقترن بها معنى التحقير، وتصغير الشأن، وأما العبيد، فيستعمل في التحقير.
قال * ص *: ونوقش ابن عطية بأن «عبدى»: اسم جمع، وتفريقه بين عباد وعبيد لا يصح. اه.
قلت: وقوله تعالى:
أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء
[الفرقان:17] ونحوه يوضحه. اه.
ومعنى الآية: ما كان لأحد من الناس أن يقول: اعبدوني، واجعلوني إلها، قال النقاش وغيره: وهذه الإشارة إلى عيسى عليه السلام ، والآية رادة على النصارى، وقال ابن عباس وجماعة من المفسرين: بل الإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وسبب نزول الآية أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعت الأحبار من يهود، والوفد من نصارى نجران: يا محمد، إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها، كما عبدت النصارى عيسى، فقال الرئيس من نصارى نجران: أو ذاك تريد يا محمد، وإليه تدعونا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" معاذ الله! ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت "
، فنزلت الآية، قال بعض العلماء: أرادت الأحبار أن تلزم هذا القول محمدا صلى الله عليه وسلم، لما تلا عليهم:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
[آل عمران:31] وإنما معنى الآية: فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله، فحرفوها بتأولهم، وهذا من نوع ليهم الكتاب بألسنتهم، قال الفخر وقال ابن عباس: إن الآية نزلت بسبب قول النصارى: المسيح ابن الله، وقول اليهود: عزير ابن الله وقيل: إن رجلا من المسلمين. قال: يا رسول الله، أفلا نسجد لك؟ فقال عليه السلام :
" ما ينبغي السجود إلا لله "
قيل: وقوله تعالى: { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } يقوي هذا التأويل. اه.
وقوله تعالى: { ولكن كونوا ربنيين } الآية: المعنى: ولكن يقول: كونوا ربانيين، وهو جمع رباني، قال قوم: منسوب إلى الرب؛ من حيث هو عالم ما علمه، عامل بطاعته، معلم للناس ما أمر به، وزيدت فيه النون؛ مبالغة، وقال قوم: منسوب إلى الربان، وهو معلم الناس، مأخوذ من: رب يرب، إذا أصلح، وربى، والنون أيضا زائدة؛ كما زيدت في غضبان، وعطشان، وفي البخاري: الرباني الذي يربى الناس بصغار العلم قبل كباره.
قال * ع *: فجملة ما يقال في الرباني: أنه العالم بالرب والشرع، المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس، وقوله: { بما كنتم }: معناه: بسبب كونكم عالمين دارسين، ف «ما»: مصدرية، وأسند أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم»، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" العلم علمان، علم في القلب، فذلك العلم النافع، وعلم في اللسان، فذلك حجة الله (عز وجل) على ابن آدم "
، ومن حديث ابن وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشر الشرار جبار العلماء، وخير الخيار خيار العلماء "
اه.
وقرأ جمهور الناس: «تدرسون»؛ بضم الراء: من درس، إذا أدمن قراءة الكتاب، وكرره.
وقرأ نافع وغيره: «ولا يأمركم»؛ برفع الراء: على القطع؛ قال سيبويه: المعنى لا يأمركم الله، وقال ابن جريج وغيره: المعنى: ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وأما قراءة من نصب الراء، وهو حمزة وغيره، فهي عطف على قوله: { أن يؤتيه الله } ، المعنى: ولا له أن يأمركم؛ قاله أبو علي وغيره، وهو الصواب، لا ما قاله الطبري؛ من أنها عطف على قوله: { ثم يقول } ، والأرباب؛ في هذه الآية: بمعنى الآلهة.
[3.81-85]
وقوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثق النبيين لما ءاتيتكم من كتب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه }: المعنى: واذكر يا محمد إذ، فيحتمل أن يكون أخذ هذا الميثاق؛ حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسما، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه، ووقت بعثه، والمعنى: إن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي؛ بأنه ملتزم هو ومن آمن به الإيمان بمن أتى بعده من الرسل، والنصر له، وقال ابن عباس: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم، فهو أخذ لميثاق الجميع، وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): لم يبعث الله نبيا آدم فمن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم: لئن بعث، وهو حي، ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره بأخذه على قومه، ثم تلا هذه الآية، وقاله السدي.
وقرأ حمزة: «لما»؛ بكسر اللام، وهي لام الجر، والتقدير لأجل ما آتيناكم؛ إذ أنتم القادة والرءوس، ومن كان بهذه الحال، فهو الذي يؤخذ ميثاقه، و «ما» في هذه القراءة بمعنى «الذي»، والعائد إليها من الصلة، تقديره: آتيناكموه، و «من»: لبيان الجنس، و { ثم جاءكم... } الآية: جملة معطوفة على الصلة، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول، وإنما حذف؛ تخفيفا لطول الكلام، وتقديره عند سيبويه: رسول به مصدق لما معكم، واللام في: «لتؤمنن به» هي اللام المتلقية للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق، وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور، وذلك جائز، وقرأ سائر السبعة «لما»؛ بفتح اللام، وذلك يتخرج على وجهين:
أحدهما: أن تكون «ما» موصولة في موضع رفع بالابتداء، واللام لام الابتداء، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثق النبيين } ، وخبر الابتداء قوله: { لتؤمنن } ، ولتؤمنن: متعلق بقسم محذوف، فالمعنى: والله، لتؤمنن، قاله أبو علي وهو متجه؛ بأن الحلف يقع مرتين.
والوجه الثاني: أن تكون «ما» للجزاء شرطا، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها، وهو مجزوم، و «جاءكم»: معطوف في موضع جزم، واللام الداخلة على «ما» ليست المتلقية للقسم، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى:
لئن لم ينته المنفقون
[الأحزاب:60] لأنها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله:
لنغرينك بهم
[الأحزاب:60] وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله: «لتؤمنن».
وقرأ نافع وحده: «آتيناكم»، بالنون، وقرأ الباقون: «آتيتكم»؛ بالتاء، ورسول؛ في هذه الآية: اسم جنس، وقال كثير من المفسرين هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري... } هذه الآية: هي وصف توقيف الأنبياء - عليهم السلام - على إقرارهم بهذا الميثاق، والتزامهم له، { وأخذتم }؛ في هذه الآية: عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتب والحكمة، فمن حيث أخذ عليهم، أخذوا هم أيضا، وقال الطبري: { أخذتم }؛ في هذه الآية: معناه: قبلتم، والإصر: العهد لا تفسير له في هذا الموضع إلا ذلك.
وقوله تعالى: { فاشهدوا } يحتمل معنيين:
أحدهما: فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد، قاله الطبري، وجماعة.
والمعنى الثاني: بثوا الأمر عند أممكم، واشهدوا به، وشهادة الله على هذا التأويل هي إعطاء المعجزات، وإقرار نبواتهم، هذا قول الزجاج وغيره.
وقال * ع *: فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها، والقول الثاني هو الأمر بأدائها، وحكم تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق، قاله علي بن أبي طالب، وغيره، وقرأ أبو عمرو: «يبغون»؛ بالياء من أسفل مفتوحة، و «ترجعون» بالتاء من فوق مضمومة، وقرأ عاصم بالياء من أسفل فيهما، وقرأ الباقون بالتاء فيهما، ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل.
و { تبغون }: معناه: تطلبون.
قال النووي: وروينا في كتاب ابن السني، عن السيد الجليل المجمع على جلالته وحفظه وديانته وورعه يونس بن عبيد بن دينار البصري الشافعي المشهور؛ أنه قال: ليس رجل يكون على دابة صعبة، فيقول في أذنها: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون } ، إلا وقفت بإذن الله تعالى.
وروينا في كتاب ابن السني، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة، فليناد: يا عباد الله، احبسوا، يا عباد الله، احبسوا، فإن لله عز وجل في الأرض حاضرا سيحبسها ".
قال النووي: حكى لي بعض شيوخنا؛ أنه انفلتت له دابة أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث، فقاله، فحبسها الله عليه في الحال، وكنت أنا مرة مع جماعة، فانفلتت منا بهيمة، فعجزوا عنها، فقلته، فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام. اه.
و { أسلم }: معناه: استسلم، عند الجمهور.
واختلفوا في معنى قوله: { طوعا وكرها } ، فقال مجاهد: هذه الآية كقوله تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله
[لقمان:25] فالمعنى: أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرها، ونحوه لأبي العالية، وعبارته: كل آدمي، فقد أقر على نفسه؛ بأن الله ربي، وأنا عبده، فمن أشرك في عبادته، فهو الذي أسلم كرها، ومن أخلص، فهو الذي أسلم طوعا.
قال * ع *: والمعنى في هذه الآية يفهم كل ناظر أن الكره خاص بأهل الأرض.
وقوله سبحانه: { أفغير دين الله }: توقيف لمعاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والكفار.
قوله تعالى: { قل ءامنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبرهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم... } الآية: المعنى قل: يا محمد، أنت وأمتك: { ءامنا بالله... } الآية, وقد تقدم بيانها في «البقرة»، ثم حكم تعالى في قوله: { ومن يبتغ غير الإسلم... } الآية؛ بأنه لا يقبل من آدمي دينا غير دين الإسلام، وهو الذي وافق في معتقداته دين كل من سمي من الأنبياء عليهم السلام ، وهو الحنيفية السمحة، وقال بعض المفسرين: إن { من يبتغ... } الآية، نزلت في الحارث بن سويد، قلت: وعلى تقدير صحة هذا القول، فهي تتناول بعمومها من سواه إلى يوم القيامة.
[3.86-89]
وقوله تعالى: { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمنهم... } الآيات: قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات من قوله: { كيف يهدي الله } في الحارث بن سويد الأنصاري، كان مسلما، ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم، فأرسل إلى قومه؛ أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل من توبة؟ فنزلت الآيات إلى قوله: { إلا الذين تابوا } ، فأرسل إليه قومه، فأسلم، قال مجاهد: وحسن إسلامه، وقال ابن عباس أيضا والحسن بن أبي الحسن: نزلت في اليهود والنصارى، شهدوا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به، فلما جاء من العرب، حسدوه، وكفروا به، ورجحه الطبري.
وقال النقاش: نزلت في طعيمة بن أبيرق.
قال * ع *: وكل من ذكر، فألفاظ الآية تعمه.
وقوله تعالى: { كيف }: سؤال عن حال لكنه سؤال توقيف على جهة الاستبعاد للأمر، فالمعنى أنهم لشدة هذه الجرائم يبعد أن يهديهم الله جميعا، وباقي الآية بين.
قال الفخر: واستعظم تعالى كفر هؤلاء المرتدين بعد حصول هذه الخصال الثلاث؛ لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود؛ وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل. اه.
[3.90-93]
وقوله تعالى: { إن الذين كفروا بعد إيمنهم ثم ازدادوا كفرا... } الآية: قال أبو العالية رفيع: الآية في اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته، وإقرارهم أنها في التوراة، ثم ازدادوا كفرا؛ بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم؛ من الافتراء، والبهت، والسعي على الإسلام، وغير ذلك.
قال * ع *: وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية: المرتدون اللاحقون بقريش، وغيرهم. وقال مجاهد: معنى قوله: { ثم ازدادوا كفرا } ، أي: أتموا على كفرهم، وبلغوا الموت به.
قال * ع *: فيدخل في هذا القول: اليهود، والمرتدون، وقال السدي نحوه، ثم أخبر تعالى أن توبة هؤلاء لن تقبل، وقد قررت الشريعة؛ أن توبة كل كافر تقبل، فلا بد في هذه الآية من تخصيص تحمل عليه، ويصح به نفي قبول التوبة، فقال الحسن وغيره: المعنى: لن تقبل توبتهم عند الغرغرة والمعاينة، وقال أبو العالية: المعنى: لن تقبل توبتهم من تلك الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال * ع *: وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدين، وهم الذين أشار إليهم بقوله سبحانه:
كيف يهدي الله قوما
[آل عمران:86]، فأخبر عنهم أنه لا تكون منهم توبة، فيتصور قبولها؛ فكأنه أخبر عن هؤلاء المعينين؛ أنهم يموتون كفارا، ثم أخبر الناس عن حكم كل من يموت كافرا، والملء: ما شحن به الوعاء، وقوله: { ولو افتدى به } ، قال الزجاج: المعنى: لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا، ولو أنفق ملء الأرض ذهبا، ولو افتدى أيضا به في الآخرة، لن يقبل منه، قال: فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب.
قال * ع *: وهذا قول حسن، وقال قوم: الواو زائدة، وهذا قول مردود، ويحتمل المعنى نفي القبول على كل وجه، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول، وباقي الآية وعيد بين، عافانا الله من عقابه، وختم لنا بما ختم به للصالحين من عباده.
وقوله تعالى: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون... } الآية: خطاب لجميع المؤمنين، فتحتمل الآية أن يريد لن تنالوا بر الله بكم، أي: رحمته ولطفه، ويحتمل أن يريد لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر؛ حتى تكونوا أبرارا إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر أعمالكم.
قال * ص *: قوله: { مما تحبون }: «من»: للتبعيض؛ تدل عليه قراءة عبد الله: «بعض ما تحبون» اه.
قال الغزالي: قال نافع: كان ابن عمر مريضا، فاشتهى سمكة طرية، فحملت إليه على رغيف، فقام سائل بالباب، فأمر بدفعها إليه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" أيما امرىء اشتهى شهوة، فرد شهوته، وآثر على نفسه غفر الله له "
اه من «الإحياء».
قال * ع *: وبسبب نزول هذه الآية تصدق أبو طلحة بحائطه المسمى بيرحا، وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها، وكان عبد الله بن عمر يشتهي أكل السكر باللوز، فكان يشتري ذلك، ويتصدق به.
قال الفخر: والصحيح أن هذه الآية في إيتاء المال على طريق الندب، لا أنها في الزكاة الواجبة. اه.
وقوله سبحانه: { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } شرط وجواب فيه وعد، أي: عليم مجاز به، وإن قل.
وقوله تعالى: { كل الطعام كان حلا لبني إسرءيل... } الآية إخبار بمغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلمه إلا الله، وعلماء أهل الكتاب، وحلا: معناه: حلالا، والآية رد على اليهود في زعمهم؛ أن كل ما حرموه على أنفسهم؛ أنه بأمر الله تعالى في التوراة، فأكذبهم الله تعالى بهذه الآية، وقوله سبحانه: { إلا ما حرم إسرءيل على نفسه } ، أي: فهو محرم عليهم في التوراة، لا هذه الزوائد التي افتروها.
وقال الفخر: قوله تعالى: { من قبل أن تنزل التوراة } ، المعنى: أن قبل نزول التوراة كان حلالا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه، فأما بعد نزول التوراة، فلم يبق الأمر كذلك، بل حرم الله عليهم أنواعا كثيرة بسبب بغيهم، وذلك هو عين النسخ الذي هم له منكرون. اه.
قال * ع *: ولم يختلف فيما علمت أن سبب تحريم يعقوب ما حرمه على نفسه هو بمرض أصابه، فجعل تحريم ذلك شكرا لله، إن شفي، وقيل: هو وجع عرق النسا، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن عصابة من بني إسرائيل، قالوا له: يا محمد، ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقال لهم: أنشدكم بالله! هل تعلمون؛ أن يعقوب مرض مرضا شديدا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرا، إن عافاه الله من سقمه، ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ قالوا: اللهم، نعم ".
قال * ع *: وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذا الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم لحوم الإبل وألبانها، وهو يحبها؛ تقربا بذلك؛ إذ ترك الترفه والتنعم من القرب، وهذا هو الزهد في الدنيا، وإليه نحا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؛ بقوله: «إياكم وهذه المجازر؛ فإن لها ضراوة كضراوة الخمر»؛ ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد، وقد مر بسوق الفاكهة، فرأى محاسنها، فقال: موعدك الجنة، إن شاء الله.
وقوله عز وجل: { قل فأتوا بالتوراة... } الآية: قال الزجاج. وفي هذا تعجيز لهم، وإقامة للحجة عليهم.
[3.94-97]
وقوله سبحانه: { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } ، أي: من بعد ما تبين له الحق، وقيام الحجة، فهو الظالم.
وقوله: { قل صدق الله } ، أي: الأمر كما وصف سبحانه، لا كما تكذبون، فإن كنتم تعتزون إلى إبراهيم، فاتبعوا ملته؛ على ما ذكر الله.
وقوله سبحانه: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة... } الآية: لا مرية أن إبراهيم عليه السلام وضع بيت مكة، وإنما الخلاف، هل هو وضع بدأة أو وضع تجديدا؟ وقال الفخر: يحتمل أولا في الوضع والبناء، ويحتمل أن يريد أولا في كونه مباركا، وهذا تحصيل المفسرين في الآية. اه.
قال ابن العربي في «أحكامه» وكون البيت الحرام مباركا، قيل: بركته ثواب الأعمال هناك، وقيل: ثواب قاصديه، وقيل: أمن الوحش فيه، وقيل: عزوف النفس عن الدنيا عند رؤيته، قال ابن العربي: والصحيح عندي أنه مبارك من كل وجه من وجوه الدنيا والآخرة؛ وذلك بجميعه موجود فيه. اه.
قال مالك في سماع ابن القاسم من «العتبية»: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، قال ابن القاسم: يريد القرية، قلت: قال ابن رشد في «البيان»: أرى مالكا أخذ ذلك من قول الله عز وجل؛ لأنه قال تعالى في بكة: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } ، وهو إنما وضع بموضعه الذي وضع فيه لا فيما سواه من القرية، وقال في «مكة»؛
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة
[الفتح:24] وذلك إنما كان في القرية، لا في موضع البيت. اه.
وقوله سبحانه: { فيه } ، أي: في البيت { ءايت بينت } ،
قال * ع *: والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالا مما في حرم الله من الآيات وخصا بالذكر؛ لعظمهما، و { مقام إبرهيم }: هو الحجر المعروف؛ قاله الجمهور، وقال قوم: البيت كله مقام إبراهيم، وقال قوم: الحرم كله مقام إبراهيم، والضمير في قوله: { ومن دخله } عائد على البيت؛ في قول الجمهور، وعائد على الحرم؛ في قول من قال: مقام إبراهيم هو الحرم.
وقوله: { كان ءامنا } قال الحسن وغيره: هذه وصف حال كانت في الجاهلية، إذا دخل أحد الحرم، أمن، فلا يعرض له، فأما في الإسلام، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود الله، وقال يحيى بن جعدة: معنى الآية: ومن دخل البيت، كان آمنا من النار، وحكى النقاش عن بعض العباد، قال: كنت أطوف حول الكعبة ليلا، فقلت: يا رب، إنك قلت: { ومن دخله كان ءامنا } ، فمماذا هو آمن؟ فسمعت مكلما يكلمني، وهو يقول: من النار، فنظرت، وتأملت، فما كان في المكان أحد، قال ابن العربي في «أحكامه»: وقول بعضهم: ومن دخله كان آمنا من النار لا يصح حمله على عمومه، ولكنه ثبت؛ أن من حج، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
قال ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم اه.
وقوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت } الآية: هو فرض الحج في كتاب الله؛ بإجماع، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «حج البيت»؛ بكسر الحاء، وقرأ الباقون بفتحها، فبكسر الحاء: يريدون عمل سنة واحدة، وقال الطبري: هما لغتان الكسر: لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية.
وقوله سبحانه: { من استطع إليه سبيلا } «من»: في موضع خفض بدل من «الناس»، وهو بدل البعض من الكل، وقال الكسائي وغيره: هي شرط في موضع رفع بالابتداء، والجواب محذوف، تقديره: فعليه الحج؛ ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله: { ومن كفر } ، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من ملك زادا وراحلة، فلم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا "
، وذهب جماعة من العلماء إلى أن قوله سبحانه: { من استطع إليه سبيلا } كلام عام لا يتفسر بزاد ولا راحلة، ولا غير ذلك، بل إذا كان مستطيعا غير شاق على نفسه، فقد وجب عليه الحج، وإليه نحا مالك في سماع أشهب، وقال: لا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى. هذا أنبل الأقوال، وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال ، والضمير في «إليه» عائد على البيت، ويحتمل على الحج.
وقوله سبحانه: { ومن كفر فإن الله غني عن العلمين } ، قال ابن عباس وغيره: المعنى: من زعم أن الحج ليس بفرض عليه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قرأ هذه الآية، فقال رجل من هذيل: يا رسول الله: من تركه، كفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" من تركه، لا يخاف عقوبته، ومن حجه لا يرجو ثوابه، فهو ذلك "
، وقال بمعنى هذا الحديث ابن عباس وغيره، وقال السدي وجماعة من أهل العلم. معنى الآية: من كفر بأن وجد ما يحج به، ثم لم يحج، قال السدي: من كان بهذه الحال، فهو كافر، يعني: كفر معصية، ولا شك أن من أنعم الله عليه بمال وصحة، ولم يحج، فقد كفر النعمة، وقال ابن عمر وجماعة: معنى الآية: ومن كفر بالله واليوم الآخر، قال الفخر: والأكثرون هم الذين حملوا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج، وقال الضحاك: لما نزلت آية الحج، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أهل الملل، وقال:
" إن الله تعالى كتب عليكم الحج، فحجوا "
، فآمن به المسلمون وكفر غيرهم فنزلت الآية، قال الفخر وهذا هو الأقوى، والله أعلم. اه.
ومعنى قوله تعالى: { غني عن العلمين }: الوعيد لمن كفر، والقصد بالكلام: فإن الله غني عنهم، ولكن عمم اللفظ؛ ليبرع المعنى، وتنتبه الفكر لقدرته سبحانه، وعظيم سلطانه، واستغنائه عن جميع خلقه لا رب سواه.
[3.98-101]
وقوله عز وجل: { قل يأهل الكتب لم تكفرون بآيت الله والله شهيد على ما تعملون }. هذه الآيات: توبيخ لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب: التوراة، وآيات الله يحتمل أن يريد بها القرآن، ويحتمل العلامات الظاهرة على يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه: { والله شهيد على ما تعملون } وعيد محض، قال الطبري: هاتان الآيتان: { قل يأهل الكتب لم تكفرون بآيت الله } ، وما بعدهما إلى قوله:
وأولئك لهم عذاب عظيم
[آل عمران:105]، نزلت بسبب رجل من اليهود، حاول الإغراء بين الأوس والخزرج، قال ابن إسحاق: حدثني الثقة عن زيد بن أسلم، قال: مر شاس بن قيس اليهودي، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، والحسد لهم؛ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، وهم في مجلس يتحدثون، فغاظه ما رآه من جماعتهم وصلاح بينهم بعد ما كان بينهم من العداوة، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله، ما لنا معهم، إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، فقال: اعمد إليهم، واجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله من أيام حربهم، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك، ففعل الفتى، فتكلم القوم عند ذلك، فتفاخروا، وتنازعوا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم، والله، رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح! موعدكم الظاهرة، يريدون: الحرة، فخرجوا إليها وتجاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، ووعظهم، فعرف القوم؛ أنها نزغة من الشيطان، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق الناس بعضهم بعضا من الأوس والخزرج، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، فأنزل الله في شاس بن قيس، وما صنع هذه الآيات.
وقال الحسن وغيره: نزلت في أحبار اليهود الذين يصدون المسلمين عن الإسلام، ويقولون: إن محمدا ليس بالموصوف في كتابنا.
قال * ع *: ولا شك في وقوع هذين الشيئين، وما شاكلهما من أفعال اليهود وأقوالهم، فنزلت الآيات في جميع ذلك، ومعنى «تبغون» أي: تطلبون لها الاعوجاج والانفساد، وأنتم شهداء: يريد جمع شاهد على ما في التوراة من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وصدقه، وباقي الآية وعيد.
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتب يردوكم بعد إيمنكم كفرين... } الآية: خطاب عام للمؤمنين، والإشارة بذلك وقت نزوله إلى الأوس والخزرج بسبب نائرة شاس بن قيس.
قال * ص *: قوله تعالى: { يردوكم بعد إيمنكم كفرين } ، رد: بمعنى صير، فيتعدى إلى مفعولين الأول: الكاف، والثاني: الكافرين؛ كقوله: [الوافر]
فرد شعورهن السود بيضا
ورد وجوههن البيض سودا
و { يعتصم }: معناه: يتمسك، وعصم الشيء، إذا منع وحمي؛ ومنه: قوله:
يعصمني من الماء
[هود:43] وباقي الآية بين.
[3.102-104]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته } ، قال ابن مسعود: «حق تقاته»: هو أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وكذلك عبر الربيع بن خيثم، وقتادة، والحسن، قالت فرقة: نزلت الآية على عموم لفظها؛ من لزوم غاية التقوى؛ حتى لا يقع الإخلال في شيء من الأشياء، ثم نسخ ذلك؛ بقوله تعالى:
فاتقوا الله ما استطعتم
[التغابن:16]، وبقوله:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
[البقرة:286] وقالت جماعة: لا نسخ هنا، وإنما المعنى: اتقوا الله حق تقاته في ما استطعتم، وهذا هو الصحيح، وخرج الترمذي، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، وهي: { اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا، لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟ "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وخرجه ابن ماجة أيضا اه.
وقوله تعالى: { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }: معناه: دوموا على الإسلام؛ حتى يوافيكم الموت، وأنتم عليه، والحبل في هذه الآية مستعار، قال ابن مسعود: حبل الله الجماعة، وروى أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، فقيل: يا رسول الله، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده، وقال: الجماعة، وقرأ: { واعتصموا بحبل الله جميعا } "
، وقال قتادة وغيره: حبل الله الذي أمر بالاعتصام به: هو القرآن ، ورواه أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن زيد: هو الإسلام، وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض.
وقوله تعالى: { ولا تفرقوا }: يريد: التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف، كالتفرق بالفتن، والافتراق في العقائد، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه، فليس بداخل في هذه الآية، بل ذلك هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:
" خلاف أمتي رحمة "
، وقد اختلفت الصحابة في الفروع أشد اختلاف، وهم يد واحدة على كل كافر.
وقوله سبحانه: { واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم... } الآية: هذه الآية تدل على أن الخطاب إنما هو للأوس والخزرج؛ كما تقدم، وكانت العداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة؛ حتى رفعها الله بالإسلام، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجا، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم، وتلا عليهم شيئا من القرآن؛ كما كان يصنع مع قبائل العرب، فآمنوا به، وأراد الخروج معهم، فقالوا: يا رسول الله، إن قدمت بلدنا على ما بيننا من العداوة والحرب، خفنا ألا يتم ما نريده بك، ولكن نمضي نحن، ونشيع أمرك، ونداخل الناس، وموعدنا وإياك العام القابل، فمضوا، وفعلوا، وجاءت الأنصار في العام القابل، فكانت العقبة الثانية، وكانوا اثني عشر رجلا فيهم خمسة من الستة الأولين، ثم جاءوا من العام الثالث، فكانت بيعة العقبة الكبرى، حضرها سبعون، وفيهم اثنا عشر نقيبا.
ووصف القصة مستوعب في السير، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين:
أحدهما: أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم، وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب: يبعث لنا الآن نبي نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما رأى النفر من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم لبعض: هذا، والله، النبي الذي تذكره بنو إسرائيل، فلا تسبقن إليه.
والوجه الآخر: الحرب التي كانت ضرستهم، وأفنت سراتهم، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم، فكان الأمر كما رجوا، فعدد الله سبحانه عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة، وذكرهم بها قال الفخر: كانت الأنصار قبل الإسلام أعداء، فلما أكرمهم الله [سبحانه] بالإسلام، صاروا إخوانا في الله متراحمين.
واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا، كان معاديا لأكثر الخلق، ومن كان وجهه إلى خدمة المولى سبحانه، لم يكن معاديا لأحد؛ لأنه يرى الكل أسيرا في قبضة القضاء والقدر، ولهذا قيل: إن العارف، إذا أمر، أمر برفق، ونصح لا بعنف وعسر، وكيف، وهو مستبصر بالله في القدر. اه.
وقوله تعالى: { فأصبحتم } عبارة عن الاستمرار.
قال * ص *: «أصبح»: يستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح، وبمعنى «صار»، فلا يلحظ فيها وقت الصباح، بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال، وأصبح: هنا بمعنى صار، وما ذكره ابن عطية من أن «أصبح» للاستمرار، لم يذهب إليه أحد من النحويين. اه.
قلت: وفيما ادعاه نظر، وهي شهادة على نفي وكلام.
* ع *: واضح من جهة المعنى، والشفا: حرف كل جرم له مهوى؛ كالحفرة، والبئر، والجرف، والسقف، والجدار، ونحوه، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى؛ كقوله:
شفا جرف
[التوبة:109]، وإلى الأسفل؛ كقوله: { شفا حفرة } فشبه الله كفرهم الذي كانوا عليه بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا، فأنقدهم الله منها بالإسلام.
وقوله تعالى: { فأنقذكم منها } ، أي: من النار، ويحتمل من الحفرة، والأول أحسن، قال العراقي: أنقذكم، أي: خلصكم. اه.
وقوله تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير }: أمر الله سبحانه الأمة؛ بأن يكون منها علماء يفعلون هذه الأفعال على وجوهها، ويحفظون قوانينها، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع، وقد علم الله سبحانه؛ أن الكل لا يكونون علماء، ف «من» هنا: للتبعيض، وهو تأويل الطبري وغيره.
وذهب الزجاج وغير واحد؛ إلى أن المعنى: ولتكونوا كلكم أمة يدعون، و «من»: لبيان الجنس، ومعنى الآية على هذا: أمر الأمة بأن يدعوا جميع العالم إلى الخير، فيدعون الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة، ويكون كل واحد في هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة، وروى الليث بن سعد، قال: حدثني محمد بن عجلان، أن وافدا النضري أخبره عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ليؤتين برجال يوم القيامة ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء؛ لمنازلهم من الله؛ يكونون على منابر من نور، قالوا: ومن هم، يا رسول الله؟ قال: هم الذين يحببون الله إلى الناس، ويحببون الناس إلى الله، ويمشون في الأرض نصحا، قلنا: يا رسول الله، هذا يحببون الله إلى الناس، فكيف يحببون الناس إلى الله؟! قال: يأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فإذا أطاعوهم، أحبهم الله تعالى "
اه من «التذكرة» للقرطبي.
قال * ع *: قال أهل العلم: وفرض الله سبحانه بهذه الآية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية، إذا قام به قائم، سقط عن الغير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "
والناس في الأمر بالمعروف وتغيير المنكر على مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الولاة، وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم، ولهم هي اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الولاة والحكام بعد النهي عنه قولا، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة بديهية من المنكر كالسلب والزنا ونحوه، فيغيرها بنفسه، بحسب الحال والقدرة، ويحسن لكل مؤمن أن يعتمل في تغيير المنكر، وإن ناله بعض الأذى؛ ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان وابن مسعود، وابن الزبير: «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويستعينون الله على ما أصابهم»، فهذا وإن لم يثبت في المصحف، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقيب الأمر والنهي؛ كما هو في قوله:
وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك
[لقمان:17].
[3.105-109]
وقوله سبحانه: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا... } الآية: قال ابن عباس: هي إشارة إلى كل من افترق من الأمم في الدين، فأهلكهم الافتراق، وقال الحسن: هي إشارة إلى اليهود والنصارى.
قلت: وروى أبو داود في سننه، عن معاوية بن أبي سفيان، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة "
، وروى أبو هريرة نحوه، ولم يذكر النار اه.
وقوله تعالى: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } الآية: بياض الوجوه: عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله؛ قاله الزجاج وغيره.
وقوله تعالى: { أكفرتم }: تقرير وتوبيخ متعلق بمحذوف، تقديره: فيقال لهم: أكفرتم، وفي هذا المحذوف جواب «أما»، وهذا هو فحوى الخطاب، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغني المعنى عنه؛ كقوله تعالى:
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة
[البقرة:184] المعنى: فأفطر، فعدة.
وقوله تعالى: { بعد إيمنكم } يقتضي أن لهؤلاء المذكورين إيمانا متقدما، واختلف أهل التأويل في تعيينهم، فقال أبي بن كعب: هم جميع الكفار، وإيمانهم هو إقرارهم يوم قيل لهم:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف:172] وقال أكثر المتأولين: المراد أهل القبلة من هذه الأمة، ثم اختلفوا، فقال الحسن: الآية في المنافقين، وقال قتادة: هي في أهل الردة، وقال أبو أمامة: هي في الخوارج.
وقوله تعالى: { تلك آيت الله نتلوها عليك بالحق } الإشارة ب «تلك» إلى هذه الآيات المتضمنة تعذيب الكفار، وتنعيم المؤمنين، ولما كان في هذا ذكر التعذيب، أخبر سبحانه؛ أنه لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد، وإذا لم يرد ذلك، فلا يوجد ألبتة؛ لأنه لا يقع من شيء إلا ما يريده سبحانه، وقوله: { بالحق }: معناه بالإخبار الحق، ويحتمل أن يكون المعنى: نتلوها عليك مضمنة الأفعال التي هي حق في نفسها من كرامة قوم، وتعذيب آخرين، ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قوما بعمل يرحمهم من أجله، وآخرين بعمل يعذبهم عليه، ذكر سبحانه الحجة القاطعة في ملكه جميع المخلوقات، وأن الحق ألا يعترض عليه؛ وذلك في قوله: { ولله ما في السموات وما في الأرض... } الآية.
[3.110-112]
وقوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس... } الآية: اختلف في تأويل هذه الآية.
فقيل: نزلت في الصحابة، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم: الآية خطاب لجميع الأمة؛ بأنهم خير أمة أخرجت للناس؛ ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس. وأما قوله: «كنتم»؛ على صيغة المضي؛ فإنها التي بمعنى الدوام؛ كما قال تعالى:
وكان الله غفورا رحيما
[الأحزاب:73] وقال قوم: المعنى: كنتم في علم الله، وهذه الخيرية التي خص الله بها هذه الأمة، إنما يأخذ بحظه منها من عمل بهذه الشروط من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله؛ مما جاء في فضل هذه الأمة ما خرجه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" نحن الآخرون الأولون يوم القيامة "
وفي رواية:
" السابقون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة "
، وفي رواية:
" نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق "
، وفي رواية:
" المقضي بينهم "
اه.
وخرج ابن ماجة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها، فنحن الآخرون الأولون "
، وفي رواية عن ابن عباس:
" فتفرج لنا الأمم عن طريقنا، فنمضي غرا محجلين من آثار الطهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها "
، وخرجه أيضا أبو داود الطيالسي في مسنده بمعناه. اه من «التذكرة».
وروى أبو داود في سننه، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أمتي هذه أمة مرحومة؛ ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا؛ الفتن، والزلازل، والقتل "
اه، وقد ذكرنا هذا الحديث أيضا عن غير أبي داود، وهذا الحديث ليس هو على عمومه في جميع الأمة؛ لثبوت نفوذ الوعيد في طائفة من العصاة. اه.
وقوله: { تأمرون بالمعروف } ، وما بعده: أحوال في موضع نصب.
وفي الحديث:
" خير الناس أتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم "
، رواه البغوي في «منتخبه». اه من «الكوكب الدري».
وقوله سبحانه: { منهم المؤمنون }: تنبيه على حال عبد الله بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعية ، وغيرهم ممن آمن.
وقوله تعالى: { لن يضروكم إلا أذى } ، أي: إلا أذى بالألسنة فقط، وأخبر سبحانه في قوله: { وإن يقتلوكم يولوكم الأدبار } ، بخبر غيب، صححه الوجود، فهي من آيات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفائدة الخبر هي في قوله: { ثم لا ينصرون } ، أي: لا تكون حرب اليهود معكم سجالا، وخص الأدبار بالذكر دون الظهر، تخسيسا للفار، وهكذا هو حيث تصرف.
وقوله تعالى: { ضربت }: معناه: أثبتت بشدة وإلزام، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام، وثقفوا: معناه أخذوا بحال المذنب المستحق الإهلاك، وقوله: { إلا بحبل من الله } في الكلام محذوف يدركه فهم السامع، تقديره: فلا نجاة لهم من القتل أو الاستئصال إلا بحبل، وهو العهد.
وقوله: { ذلك } إشارة إلى الغضب، وضرب الذلة والمسكنة، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره.
[3.113-114]
وقوله تعالى: { ليسوا سواء... } الآية: قال ابن عباس (رضي الله عنهما): لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود معهم، قال الكفار من أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا خيارا، ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله سبحانه في ذلك: { ليسوا سواء... } الآية، وقال مثله قتادة،. وابن جريج، وهو أصح التأويلات في الآية.
واختلف في قوله: { قائمة } ، فقال ابن عباس وغيره: معناه: قائمة على كتاب الله، وحدوده مهتدية، وقال السدي: القائمة: القانتة المطيعة، وهذا كله يرجع إلى معنى واحد، ويحتمل أن يراد ب { قائمة }: وصف حال التالين في آناء الليل، ومن كانت حاله هذه، فلا محالة؛ أنه معتدل على أمر الله، و { آيات الله }؛ في هذه الآية: هي كتبه، والآناء: الساعات، واحدها إني؛ بكسر الهمزة، وسكون النون، وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص شخص؛ بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل، وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة؛ إذ بعض الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة، ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عمارة آناء الليل بالقيام، وهكذا كان صدر هذه الأمة، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل، أو قبله بشيء، وحينئذ: كان يقوم الأكثر، والقيام طول الليل قليل، وقد كان في الصالحين من يلتزمه، وقد ذكر الله سبحانه القصد من ذلك في «سورة المزمل»، وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه، قلت: وقد تقدم في أول السورة: ما جاء من التأويل في حديث النزول، فلنذكر الآن الحديث بكماله، لما فيه من الفوائد:
روى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني؛ فأستجيب له، من يسألني؛ فأعطيه، من يستغفرني؛ فأغفر له "
رواه الجماعة، أعني: الكتب الستة؛ البخاري، ومسلما، وأبا داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وفي بعض الطرق: «حتى يطلع الفجر»، زاد ابن ماجة: «فلذلك كانوا يستحبون الصلاة آخر الليل على أوله».
وعن عمرو بن عبسة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكن "
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، والحاكم في «المستدرك»، واللفظ للترمذي، وقال: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
اه من «السلاح».
وعن أبي أمامة، قلت: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال:
" جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات "
، رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي رواية:
" جوف الليل الآخر أرجى "
، أو نحو هذا. اه من «السلاح».
ومما يدخل في ضمن قوله سبحانه: { ويسرعون في الخيرت }؛ أن يكون المرء مغتنما للخمس؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك "
؛ فيكون متى أراد أن يصنع خيرا، بادر إليه، ولم يسوف نفسه بالأمل، فهذه أيضا مسارعة في الخيرات، وذكر بعض الناس قال: دخلت مع بعض الصالحين في مركب، فقلت له: ما تقول (أصلحك الله) في الصوم في السفر؟ فقال لي: إنها المبادرة، يا ابن الأخ، قال المحدث: فجاءني، والله، بجواب ليس من أجوبة الفقهاء.
قال * ص *: قوله: { من الصلحين }: «من»: للتبعيض، ابن عطية: ويحسن أيضا أن تكون لبيان الجنس، وتعقب بأنه لم يتقدم شيء فيه إبهام، فيبين جنسه. اه.
[3.115-116]
وقوله تعالى: { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } ، أي: فلن يعطى دونكم، فلا تثابون عليه، وفي قوله سبحانه: { والله عليم بالمتقين }: وعد ووعيد.
[3.117]
وقوله تعالى: { مثل ما ينفقون في هذه الحيوة الدنيا كمثل ريح... } الآية: وقع في الآية التشبيه بين شيئين وشيئين، وترك من كل منهما ما دل عليه الكلام، وهذه غاية الإيجاز والبلاغة، وجمهور المفسرين على أن { ينفقون } يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في التحنث، أي: يبطلها كفرهم؛ كما تبطل الريح الزرع، والصر: البرد الشديد المحرق لكل ما يهب عليه، والحرث: شامل للزرع والثمار.
وقوله سبحانه: { حرث قوم ظلموا أنفسهم... } الآية: من أهل العلم من يرى أن كل مصائب الدنيا، فإنما هي بمعاصي العبيد، وينتزع ذلك من غير ما آية في القرآن، فيستقيم على قوله؛ أن كل حرث تحرقه ريح، فإنما هو لمن قد ظلم نفسه، والضمير في قوله: { وما ظلمهم الله } للكفار الذين تقدم ضميرهم في { ينفقون } ، وليس هو للقوم ذوي الحرث.
[3.118-119]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة } ، أي: لا تتخذوا من الكفار، واليهود، والمنافقين أخلاء تأنسون بهم في الباطن، وتفاوضونهم في الآراء.
وقوله سبحانه: { من دونكم } ، يعني: من دون المؤمنين.
وقوله سبحانه: { لا يألونكم خبالا }: معناه: لا يقصرون لكم فيما فيه فساد عليكم، تقول: ما ألوت في كذا، أي: ما قصرت، بل اجتهدت، والخبال: الفساد، قال ابن عباس: كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، وقال ابن عباس أيضا، وقتادة، والربيع، والسدي: نزلت في المنافقين.
قال * ع *: ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة، وتصريفهم في البيع والشراء، ونحو ذلك، و «ما» في قوله: { ما عنتم }: مصدرية، فالمعنى: ودوا عنتكم، والعنت: المشقة والمكروه يلقاه المرء، وعقبة عنوت، أي: شاقة.
قال * ص *: قال الزجاج: عنتكم، أي: مشقتكم، وقال ابن جرير: ضلالكم، وقال الزبيدي: العنت: الهلاك. اه.
وقوله تعالى: { قد بدت البغضاء من أفوههم } ، أي: فهم فوق المستتر الذي تبدو البغضاء في عينيه، وخص سبحانه الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، ثم قال سبحانه للمؤمنين: { قد بينا لكم الآيت إن كنتم تعقلون }؛ تحذيرا وتنبيها، وقد علم سبحانه؛ أنهم عقلاء، ولكن هذا هز للنفوس، كما تقول: إن كنت رجلا، فافعل كذا وكذا.
وقوله: { هأنتم أولآء تحبونهم }: الضمير في «تحبونهم» للذين تقدم ذكرهم في قوله: { بطانة من دونكم } ، قال: * ص *: { وتؤمنون بالكتب كله } ، قال أبو البقاء: الكتاب، هنا: جنس، أي: بالكتب كلها. اه.
وقوله تعالى: { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ }: عبارة عن شدة الغيظ، مع عدم القدرة على إنفاذه؛ ومنه قول أبي طالب: [الطويل]
...................
يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
وقوله سبحانه: { قل موتوا بغيظكم } قال فيه الطبري، وكثير من المفسرين: هو دعاء عليهم، وقال قوم: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا؛ فعلى هذا زال معنى الدعاء، وبقي معنى التقريع.
وقوله تعالى: { إن الله عليم بذات الصدور }: وعيد و { ذات الصدور }: ما تنطوي عليه.
[3.120-122]
وقوله سبحانه: { إن تمسسكم حسنة تسؤهم... } الآية: الحسنة والسيئة؛ في هذه الآية: لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، قلت: ويجب على المؤمن أن يجتنب هذه الأخلاق الذميمة؛ وروينا في «كتاب الترمذي»، عن واثلة بن الأسقع (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك "
اه.
والكيد: الاحتيال بالأباطيل، وقوله تعالى:
وأكيد كيدا
[الطارق:16] من باب تسمية العقوبة باسم الذنب.
وقوله تعالى: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } هذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد، وفيه نزلت هذه الآيات كلها، وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل، وقصدوا المدينة؛ ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر، فنزلوا عند أحد يوم الأربعاء، الثاني عشر من شوال، سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، وأقاموا هنالك يوم الخميس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يدبر وينتظر أمر الله سبحانه، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستشارهم، وأخبرهم أنه كان يرى بقرا تذبح، وثلما في ذباب سيفه، وأنه يدخل يده في درع حصينة، وأنه تأولها المدينة، وقال لهم: أرى ألا نخرج إلى هؤلاء الكفار، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول: أقم، يا رسول الله، ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا، أقاموا بشر محبس، وإن انصرفوا، مضوا خائبين، وإن جاءونا إلى المدينة، قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فوالله، ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا، فوافق هذا الرأي رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن فاتته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا، وشجعوا الناس، ودعوا إلى الحرب، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس صلاة الجمعة، وقد حشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب، فدخل إثر صلاته بيته، ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم، وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سلاحه، قالوا: يا رسول الله، أقم، إن شئت، فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما ينبغي لنبي لبس سلاحه أن يضعها؛ حتى يقاتل، ثم خرج بالناس، وسار حتى قرب من عسكر المشركين، فعسكر هنالك، وبات تلك الليلة، وقد غضب عبد الله بن أبي ابن سلول، وقال: أطاعهم، وعصاني، فلما كان في صبيحة يوم السبت، اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم على المسير إلى مناجزة المشركين، فنهض وهو في ألف رجل، فانخزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة رجل من منافق ومتبع، وقالوا: نظن أنكم لا تلقون قتالا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف، ورأوا كثافة المشركين، وقلة المسلمين، وكادوا أن يجبنوا، ويفشلوا، فعصمهم الله تعالى، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين فتصاف الناس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر على الرماة عبد الله بن جبير، وكانوا خمسين رجلا، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين، وأسند هو إلى الجبل، فلما اضطرمت نار الحرب، انكشف المشركون، وانهزموا، وجعل نساء المشركين يشددن في الجبل، ويرفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخيلهن، فجعل الرماة يقولون: الغنيمة الغنيمة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لهم: لا تبرحوا من هنا، ولو رأيتمونا تخطفنا الطير، فقال لهم عبد الله بن جبير، وقوم منهم: اتقوا الله واثبتوا؛ كما أمركم نبيكم، فعصوا، وخالفوا، وانصرفوا يريدون النهب، وخلوا ظهور المسلمين للخيل، وجاء خالد في جريدة خيل من خلف المسلمين، حيث كان الرماة، فحمل على الناس، ووقع التخاذل، وصيح في المسلمين من مقدمتهم، ومن ساقتهم، وصرخ صارخ: قتل محمد، فتخاذل الناس، واستشهد من المسلمين سبعون، وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى الجبل، وتحاوز الناس ".
هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآيات، وأمر أحد مستوعب في السير، وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره، و { تبوئ }: معناه: تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها، ويثبتون، وقوله سبحانه: { مقعد }: جمع مقعد، وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة قولك: مواقف، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعودا، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولا والمبارزة والسرعان يجولون.
قوله تعالى: { والله سميع } ، أي: ما تقول، وما يقال لك وقت المشاورة وغيره، و { همت }: معناه: أرادت، ولم تفعل، والفشل: في هذا الموضع: هو الجبن الذي كاد يلحق الطائفتين، ففي البخاري وغيره، عن جابر، قال: نزلت هذه الآية فينا؛ إذ همت طائفتان في بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: { والله وليهما }.
[3.123-125]
وقوله سبحانه: { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة... } لما أمر الله سبحانه بالتوكل عليه، ذكر بأمر بدر الذي كان ثمرته التوكل على الله سبحانه، والثقة به.
وقوله سبحانه: { وأنتم أذلة }: معناه: قليلون، واسم الذل في هذا الموضع: مستعار؛ إذ نسبتهم إلى عدوهم، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند المتأمل ذلتهم، وأنهم مغلوبون؛ روى ابن عمرو
" أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر في ثلاثمائة، وخمسة عشر، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم، إنهم حفاة، فاحملهم، اللهم إنهم عراة، فاكسهم، اللهم، إنهم جياع، فأشبعهم»، ففتح الله عليهم يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما فيهم رجل إلا قد رجع بجمل أو جملين، واكتسوا، وشبعوا "
رواه أبو داود، والحاكم في «المستدرك على الصحيحين»، واللفظ له، وقال: صحيح على شرط الشيخين. اه من «السلاح».
وقوله سبحانه: { إذ تقول }: العامل في «إذ» فعل مضمر، ويحتمل أن يكون العامل «نصركم»، وعلى هذا قول الجمهور؛ أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كان ببدر، قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام إلا يوم بدر، وكانوا يكونون في سائر الأيام عددا ومددا لا يضربون، قال الشعبي: وهم يحضرون حروب المسلمين إلى يوم القيامة، وقال قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف، قال عكرمة: كان الوعد يوم بدر، فلم يصبروا يوم أحد، ولا اتقوا، فلم يمدوا، ولو مدوا، لم يهزموا، وقال الضحاك، وابن زيد: إنما كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد، ففر الناس، وولوا مدبرين، فلم يمدهم الله، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة مردفين، والفور: النهوض المسرع إلى الشيء؛ مأخوذ من فور القدر، والماء ونحوه؛ ومنه: الفور في الحج والوضوء و { مسومين }: معناه: معلمين بعلامات، وروي أن الملائكة أعلمت يوم بدر بعمائم بيض إلا جبريل؛ فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة الزبير بن العوام، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين يوم بدر:
" سوموا؛ فإن الملائكة قد سومت ".
[3.126-127]
وقوله سبحانه: { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم }: الضمير في { جعله الله }: عائد على الإنزال والإمداد، ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، وتطمئن به قلوبكم، وترون حفاية الله بكم، وإلا فالكثرة لا تغني شيئا إلا أن ينصر الله، واللام في قوله: { ليقطع } متعلقة بقوله: { وما النصر } ، ويحتمل أن تكون متعلقة ب { جعله } فيكون قطع الطرف إشارة إلى من قتل ببدر؛ على قول ابن إسحاق وغيره، أو إلى من قتل بأحد على ما قال السدي، وقتل من المشركين ببدر سبعون، وقتل منهم يوم أحد اثنان وعشرون رجلا، والطرف الفريق.
وقوله سبحانه: { أو يكبتهم }: معناه يخزيهم والكبت: الصرع لليدين.
وقال * ص *: الكبت: الهزيمة، وقيل: الصرع لليدين اه.
وقوله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء... } الآية: روي في سبب هذه الآية؛ أنه لما هزم أصحابه صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه، وكسرت رباعيته، جعل يمسح وجهه، ويقول:
" كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم "
، وفي بعض طرق الحديث:
" كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى الله "
، فنزلت الآية، فقيل له: { ليس لك من الأمر شيء } ، أي: عواقب الأمور بيد الله، فامض أنت لشأنك، ودم على الدعاء إلى ربك. قلت: وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ممتثلا أمر ربه، قال عياض: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد، شق ذلك على أصحابه، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال:
" إني لم أبعث لعانا، ولكني بعثت داعيا، ورحمة، اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون "
، وروي عن عمر (رضي الله عنه)؛ أنه قال في بعض كلامه: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه، فقال:
رب لا تذر على الأرض
[نوح:26] ولو دعوت علينا، لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطيء ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت:
" اللهم، اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون "
اه.
قال الطبري وغيره من المفسرين: { أو يتوب } عطف على { يكبتهم } والمعنى: أو يتوب عليهم، فيسلمون أو يعذبهم، إن تمادوا على كفرهم؛ فإنهم ظالمون، ثم أكد سبحانه معنى قوله: { ليس لك من الأمر شيء } بذكر الحجة الساطعة في ذلك، وهي ملكه الأشياء، فقال سبحانه: { ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم } ، أي: فله سبحانه أن يفعل بحق ملكه ما يشاء، لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه، وذكر سبحانه:؛ أن الغفران أو التعذيب، إنما هو بمشيئته، وبحسب السابق في علمه، ثم رجى سبحانه في آخر ذلك؛ تأنيسا للنفوس.
[3.130-132]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا الربا أضعفا مضعفة... } الآية.
قال * ع *: هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد، ولا أحفظ سببا في ذلك مرويا، ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، وقد تقدم الكلام على ذلك في «سورة البقرة».
وقوله تعالى: { أعدت للكفرين } ، أي: أنهم المقصود، والمراد الأول، وقد يدخلها سواهم من العصاة، هذا مذهب أهل العلم في هذه الآية، وحكى الماوردي وغيره، عن قوم؛ أنهم ذهبوا إلى أن أكلة الربا، إنما توعدهم الله بنار الكفرة، لا بنار العصاة.
وقوله سبحانه: { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } ، قال محمد بن إسحاق: هذه الآية من قوله تعالى: { وأطيعوا الله } هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فر، وزوال الرماة عن مراكزهم.
[3.133-134]
وقوله تعالى: { سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض } ، قرأ نافع، وابن عامر: سارعوا بغير «واو»؛ وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ باقي السبعة بالواو، والمسارعة: المبادرة، وهي مفاعلة؛ إذ الناس كأن كل واحد يسرع ليصل قبل غيره، فبينهم في ذلك مفاعلة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:
فاستبقوا الخيرت
[البقرة:148]، والمعنى: سارعوا بالطاعة، والتقوى، والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله لكم فيها، قلت: وحق على من فهم كلام ربه؛ أن يبادر ويسارع إلى ما ندبه إليه ربه، وألا يتهاون بترك الفضائل الواردة في الشرع، قال النووي رحمه الله : اعلم أنه ينبغي لمن بلغه شيء في فضائل الأعمال؛ أن يعمل به، ولو مرة؛ ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه جملة، بل يأتي بما تيسر منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته:
" وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم "
انتهى من «الحلية».
وقوله سبحانه: { وجنة عرضها السموات والأرض } ، أي: كعرض السموات والأرض، قال ابن عباس في تفسير الآية: تقرن السموات والأرضون بعضها إلى بعض؛ كما تبسط الثياب، فذلك عرض الجنة؛ ولا يعلم طولها إلا الله سبحانه؛ وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن بين المصراعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل، إذا وردت خمصا ظماء "
وفي الصحيح:
" إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها "
فهذا كله يقوي قول ابن عباس، وهو قول الجمهور: «إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة، وهي ممتدة على السماء؛ حيث شاء الله تعالى، وذلك لا ينكر، فإن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض ".
قال * ع *: فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السموات والأرض، وقدرة الله أعظم من ذلك كله، قلت: قال الفخر وفي الآية وجه ثان؛ أن الجنة التي عرضها مثل عرض السموات والأرض، إنما تكون للرجل الواحد؛ لأن الإنسان يرغب فيما يكون ملكا له، فلا بد أن تصير الجنة المملوكة لكل أحد مقدارها هكذا. اه.
وقدرة الله تعالى أوسع، وفضله أعظم، وفي «صحيح مسلم»، والترمذي، من حديث المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه):
" في سؤال موسى ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة، وأنه رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: أترضى أن يكون لك ما كان لملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت، أي رب، فيقال له: لك ذلك ومثله معه، ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت، أي رب، فيقال له: لك ذلك، وعشرة أمثاله، فيقول: رضيت، أي رب، فيقال له: فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك، ولذت عينك "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وفي البخاري من طريق ابن مسعود (رضي الله عنه):
" إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار رجل يخرج حبوا، فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: رب، الجنة ملأى، فيقول له: إن لك مثل الدنيا عشر مرات "
اه.
وفي «جامع الترمذي»، عن ابن عمر (رضي الله عنهما)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية "
الحديث، قال أبو عيسى، وقد روي هذا الحديث من غير وجه، مرفوعا وموقوفا، وفي الصحيح ما معناه:
" إذا دخل أهل الجنة الجنة، تبقى فيها فضلة، فينشيء الله لها خلقا "
، أو كما قال. اه.
قال * ع *: وخص العرض بالذكر؛ لأنه يدل متى ما ذكر على الطول، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض، بل قد يكون الطويل يسير العرض؛ كالخيط ونحوه.
ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة بقوله: { الذين ينفقون فى السراء والضراء } ، وهما اليسر والعسر، قاله ابن عباس. إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط، وسرور النفس، ومع العسر الكراهية، وضر النفس، وكظم الغيظ: رده في الجوف، إذا كاد أن يخرج من كثرته، ومنعه: كظم له، والكظام: السير الذي يشد به فم الزق، والغيظ: أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان؛ ولذلك فسر بعض الناس الغيظ بالغضب، وليس تحرير الأمر كذلك، بل الغيظ حال للنفس، لا تظهر على الجوارح، والغضب حال لها تظهر في الجوارح وفعل ما؛ ولا بد؛ ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله سبحانه ؛ إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم، ولا يسند إليه تعالى الغيظ.
ووردت في كظم الغيظ، وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من أعظم العبادات، وجهاد النفس، ففي حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من كظم غيظا، وهو يقدر على إنفاذه، ملأه الله أمنا وإيمانا "
، إلى غير ذلك من الأحاديث، قلت: وروى أبو داود، والترمذي عن معاذ بن أنس (رضي الله عنه)؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من كظم غيظا، وهو يقدر على أن ينفذه، دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره في أي الحور شاء "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. اه.
وفي رواية أخرى لأبي داود: «ملأه الله أمنا وإيمانا، ومن ترك لبس ثوب جمال، وهو يقدر عليه، قال بشر: أحسبه قال: تواضعا ، كساه الله حلة الكرامة»، وحدث الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي بسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" من كف غضبه، كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه، ستر الله عورته، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره "
اه من «صفوة التصوف».
والعفو عن الناس: من أجل ضروب فعل الخير، ثم قال سبحانه: { والله يحب المحسنين } ، فعم أنواع البر، وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب.
[3.135-136]
وقوله سبحانه: { والذين إذا فعلوا فحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله... } الآية: ذكر سبحانه في هذه الآية صنفا هو دون الصنف الأول، فألحقهم بهم برحمته ومنه، وهم التوابون، وروي في سبب نزول هاتين الآيتين؛ أن الصحابة (رضي الله عنهم)، قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح، وعقوبته مكتوبة على باب داره، فأنزل الله هذه الآية؛ توسعة ورحمة، وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل».
وروي أن إبليس بكى، حين نزلت هذه الآية، والفاحشة لفظ يعم جميع المعاصي، وقد كثر استعماله في الزنا؛ حتى فسر السدي الفاحشة هنا بالزنا، وقال قوم: الفاحشة هنا: إشارة إلى الكبائر، وظلم النفس: إشارة إلى الصغائر، واستغفروا: معناه: طلبوا الغفران.
قال النووي: وروينا في سنن ابن ماجة؛ بإسناد جيد، عن عبد الله بن بسر (بضم الباء)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا "
انتهى من «الحلية».
و { ذكروا الله }: معناه: بالخوف من عقابه، والحياء منه؛ إذ هو المنعم المتطول، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى: { ومن يغفر الذنوب إلا الله }؛ اعتراضا موقفا للنفس، داعيا إلى الله مرجيا في عفوه، إذا رجع إليه، وجاء اسم «الله» مرفوعا بعد الاستثناء، والكلام موجب؛ حملا على المعنى؛ إذ هو بمعنى، وما يغفر الذنوب إلا الله، وعن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، قال: حدثني أبو بكر رضي الله عنه، وصدق أبو بكر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما من رجل يذنب ذنبا، ثم يقوم، فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: { والذين إذا فعلوا فحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله... } إلى آخر الآية "
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في «صحيحه»، وقال الترمذي، واللفظ له: حديث حسن انتهى من «السلاح».
وقوله سبحانه: { ولم يصروا }: الإصرار: هو المقام على الذنب، واعتقاد العودة إليه، وقوله: { وهم يعلمون } ، قال السدي: معناه: وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا، وقال ابن إسحاق: معناه: وهم يعلمون بما حرمت عليهم، وقيل: وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح، وقيل: وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار، ثم شرك سبحانه الطائفتين المذكورتين في قوله: { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم... } الآية.
قال * ص *: قوله: { ونعم } المخصوص بالمدح محذوف، أي المغفرة والجنة.
[3.137-143]
وقوله سبحانه: { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض... } الآية: الخطاب للمؤمنين، والمعنى: لا يذهب بكم أن ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد، فإن العاقبة للمتقين، وقديما ما أدال الله المكذبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون بعد ذلك، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء، وقال النقاش: الخطاب ب { قد خلت } للكفار.
قال * ع *: وذلك قلق، وخلت : معناه: مضت، والسنن: الطرائق.
وقال ابن زيد: سنن: معناه: أمثال، وهذا تفسير لا يخص اللفظة، وقوله: { فانظروا } هو عند الجمهور من نظر العين، وقال قوم: هو بالفكر.
وقوله تعالى: { هذا بيان للناس } ، يريد به القرآن؛ قاله الحسن وغيره، وقال جماعة: الإشارة ب «هذا» إلى قوله تعالى: { قد خلت من قبلكم سنن }.
وقال الفخر: يعني بقوله: «هذا بيان» ما تقدم؛ من أمره سبحانه، ونهيه، ووعده، ووعيده، وذكره لأنواع البينات والآيات. انتهى.
ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن، وهو الضعف، وأنسهم بأنهم الأعلون أصحاب العاقبة، ومن كرم الخلق ألا يهن الإنسان في حربه، إذا كان محقا، وإنما يحسن اللين في السلم والرضى، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن هين لين "
، وقوله سبحانه: { وأنتم الأعلون } إخبار بعلو كلمة الإسلام، هذا قول الجمهور، وهو ظاهر اللفظ.
قال * ص *: { وأنتم الأعلون }: في موضع نصب؛ على الحال.
وقوله سبحانه: { إن كنتم مؤمنين }: المقصد هز النفوس، وإقامتها، ويترتب من ذلك الطعن على من نجم في ذلك اليوم نفاقه أو اضطرب يقينه، أي: لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان، فالزموه، ثم قال تعالى؛ تسلية للمؤمنين: { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } ، والأسوة مسلاة للبشر؛ ومنه قول الخنساء: [الوافر]
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
والقرح: القتل والجراح؛ قاله مجاهد وغيره.
وقوله تعالى: { وتلك الأيام نداولها بين الناس } ، أخبر سبحانه على جهة التسلية؛ أن الأيام على قديم الدهر وغابره أيضا إنما جعلها دولا بين البشر، أي: فلا تنكروا أن يدال عليكم الكفار.
وقوله تعالى: { وليعلم الله الذين ءامنوا } ، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا فعل ذلك، والمعنى: ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم الله أزلا؛ أنهم يؤمنون وإلا فقد علمهم في الأزل، { ويتخذ منكم شهداء }: معناه أهل فوز في سبيله، حسبما ورد في فضائل الشهداء، وذهب كثير من العلماء إلى التعبير عن إدالة المؤمنين بالنصر، وعن إدالة الكفار بالإدالة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث؛
" أنهم يدالون؛ كما تنصرون "
والتمحيص: التنقية، قال الخليل: التمحيص: التخليص من العيب، فتمحيص المؤمنين هو تنقيتهم من الذنوب، والمحق: الإذهاب شيئا فشيئا؛ ومنه: محاق القمر، وقوله سبحانه: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم ويعلم الصبرين.
.. } الآية: حسبتم: معناه: ظننتم، وهذه الآية وما بعدها عتب وتقريع لطوائف من المؤمنين الذين وقعت منهم الهنوات المشهورة في يوم أحد، ثم خاطب الله سبحانه المؤمنين بقوله: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } ، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر، يريد عير قريش مبادرا، فلم يوعب الناس معه؛ إذ كان الظن أنه لا يلقى حربا، فلما قضى الله ببدر ما قضى، وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة، كان المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار؛ ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر، فلما جاء أمر أحد، لم يصدق كل المؤمنين، فعاتبهم الله بهذه الآية، وألزمهم تمني الموت؛ من حيث تمنوا أسبابه، وهو لقاء العدو ومضاربتهم، وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى؛ من حيث هو قتل، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادة والتنعيم، قلت:
وفي كلام * ع *: بعض إجمال، وقد ترجم البخاري تمني الشهادة، ثم أسند عن أبي هريرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" والذي نفسي بيده، لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم؛ أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل "
وخرجه أيضا مسلم، وخرج البخاري ومسلم من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من عبد يموت، له عند الله (عز وجل) خير، يسره أن يرجع إلى الدنيا، وأن الدنيا له وما فيها، إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا ، فيقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة "
اه.
فقد تبين لك تمني القتل في سبيل الله بهذه النصوص؛ لما فيه من الكرامة.
وصواب كلام * ع *: أن يقول: وإنما يتمنى القتل؛ للواحقه؛ من الشهادة والتنعيم.
وقوله سبحانه: { فقد رأيتموه } ، يريد: رأيتم أسبابه، وقوله: { وأنتم تنظرون }: تأكيد للرؤية، وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين.
[3.144-146]
وقوله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل... } الآية: هذا استمرار في عتبهم، وإقامة الحجة عليهم: المعنى أن محمدا عليه السلام رسول كسائر الرسل قد بلغ كما بلغوا، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة، وليست حياته وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك؛ لأنه يموت؛ كما ماتت الرسل قبله، ثم توعد سبحانه المنقلب على عقبيه بقوله: { فلن يضر الله شيئا }؛ لأن المعنى: فإنما يضر نفسه، وإياها يوبق، ثم وعد الشاكرين، وهم الذين صدقوا، وصبروا، ومضوا في دينهم، ووفوا لله بعهدهم؛ كسعد بن الربيع، ووصيته يومئذ للأنصار، وأنس بن النضر، وغيرهما، ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة، وقال علي (رضي الله عنه) في تفسير هذه الآية: الشاكرون الثابتون على دينهم؛ أبو بكر، وأصحابه، وكان يقول: أبو بكر أمير الشاكرين؛ إشارة منه إلى صدع أبي بكر بهذه الآية يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وثبوته في ذلك الموطن، وثبوته في أمر الردة، وسائر المواطن التي ظهر فيها شكره، وشكر الناس بسببه، ثم أخبر عز وجل عن النفوس؛ أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم عند الله تعالى، أي: فالجبن والخور لا يزيد في الأجل، والشجاعة والإقدام لا ينقص منه، وفي هذه الآية تقوية للنفوس في الجهاد، وفيها رد على المعتزلة في قولهم بالأجلين.
وقوله سبحانه: { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها... } الآية، أي: نؤت من شئنا منها ما قدر له؛ يبين ذلك قوله تعالى:
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد
[الإسراء:18]، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئا من الآخرة؛ لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا، فلا نصيب له في الآخرة، والأعمال بالنيات، وقرينة الكلام من قوله: { ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا، قال ابن فورك في قوله تعالى: { وسنجزي الشكرين }: إشارة إلى أنه ينعمهم بنعم الدنيا، لا أنهم يقصرون على الآخرة.
ثم ضرب سبحانه المثل للمؤمنين بمن سلف من صالح الأمم الذين لم يثنهم عن دينهم قتل الكفار لأنبيائهم، فقال: { وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير... } الآية: وفي «كأين» لغات، فهذه اللغة أصلها؛ لأنها كاف التشبيه دخلت على «أي»، و «كأين» في هذه الآية في موضع رفع بالابتداء، وهي بمنزلة «كم»، وبمعناها تعطى في الأغلب التكثير، وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: «قتل» مبنيا لما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون «قاتل»، فقوله: «قتل»، قال فيه جماعة من المفسرين، منهم الطبري: إنه مستند إلى ضمير «نبي»، والمعنى عندهم أن النبي قتل، ونحا إليه ابن عباس، وإذا كان هذا، ف «ربيون» مرتفع بالظرف بلا خلاف، وهو متعلق بمحذوف، وليس متعلقا ب «قتل»، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة: إن «قتل» إنما هو مستند إلى قوله: «ربيون»، وهم المقتولون، قال الحسن، وابن جبير: لم يقتل نبي في حرب قط.
قال * ع *: فعلى هذا القول يتعلق قوله: «معه» ب «قتل» ورجح الطبري القول الأول؛ بدلالة نازلة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المؤمنين إنما تخاذلوا يوم أحد، لما قيل: قتل محمد، فضرب المثل بنبي قتل، وترجيح الطبري حسن؛ ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله: { أفإن مات أو قتل } [آل عمران:144] وحجة من قرأ «قاتل»: أنها أعم في المدح؛ لأنه يدخل فيها من قتل، ومن بقي.
قال * ع *: ويحسن عندي على هذه القراءة استناد الفعل إلى الربيين، وقوله: { ربيون } ، قال ابن عباس وغيره: معناه: جموع كثيرة، وهو من الربة (بكسر الراء)، وهي الجماعة الكثيرة، وروي عن ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وغيرهما: أنهم قالوا: ربيون: معناه: علماء؛ ويقوي هذا القول قراءة من قرأ: ربيون (بفتح الراء)، منسوبون إلى الرب؛ إما لأنهم مطيعون له، أو من حيث إنهم علماء بما شرع.
وقوله سبحانه: { وما استكانوا } ، ذهبت طائفة من النحاة إلى أنه من السكون، وذهبت طائفة إلى أنه مأخوذ من: «كان، يكون»، وأصله: استكونوا، والمعنى: أنهم لم يضعفوا، ولا كانوا قريبا من ذلك، قلت: واعلم (رحمك الله) أن أصل الوهن والضعف عن الجهاد، ومكافحة العدو هو حب الدنيا، وكراهية بذل النفوس لله، وبذل مهجها للقتل في سبيل الله؛ ألا ترى إلى حال الصحابة (رضي الله عنهم)، وقلتهم في صدر الإسلام، وكيف فتح الله بهم البلاد، ودان لدينهم العباد، لما بذلوا لله أنفسهم في الجهاد، وحالنا اليوم، كما ترى؛ عدد أهل الإسلام كثير، ونكايتهم في الكفار نزر يسير، وقد روى أبو داود في «سننه» عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يوشك الأمم أن تتداعى عليكم؛ كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت "
اه، فانظر (رحمك الله)، فهل هذا الزمان إلا زماننا بعينه، وتأمل حال ملوكنا، إنما همتهم جمع المال من حرام وحلال، وإعراضهم عن أمر الجهاد، فإنا لله وإنا إليه راجعون على مصاب الإسلام.
[3.147-148]
وقوله تعالى: { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا... } الآية: هذه الآية في ذكر الربيين، أي: هذا كان قولهم، لا ما قاله بعضكم، يا أصحاب محمد:
لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا
[آل عمران:154]، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال، قلت: وهذه المقالة ترجح القول الثاني في تفسير الربيين؛ إذ هذه المقالة إنما تصدر من علماء عارفين بالله.
قال * ع *: واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا أن ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر؛ كما نزلت قصة أحد بعصيان من عصى ، وقولهم: { ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا }: عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض؛ جاء للتأكيد، ولتعم مناحي الذنوب؛ وكذلك فسره ابن عباس وغيره، وقال الضحاك: الذنوب عام، والإسراف في الأمر، أريد به الكبائر خاصة، { فآتهم الله ثواب الدنيا }؛ بأن أظهرهم على عدوهم، { وحسن ثواب الآخرة }: الجنة بلا خلاف.
قال الفخر: ولا شك أن ثواب الآخرة هي الجنة، وذلك غير حاصل في الحال، فيكون المراد أنه سبحانه، لما حكم لهم بحصولها في الآخرة، قام حكمه لهم بذلك مقام الحصول في الحال، ومحمل قوله: { ءاتهم } أنه سيؤتيهم.
وقيل: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية خاصة بالشهداء، وأنه تعالى في حال نزول هذه الآية، كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة. انتهى.
[3.149-152]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا } ، يعني: المنافقين الذين خيبوا المسلمين، وقالوا في أمر أحد: لو كان محمد نبيا، لم ينهزم.
وقوله سبحانه: { بل الله مولكم وهو خير النصرين } هذا تثبيت لهم، وقوله سبحانه: { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } سبب هذه الآية أنه لما ارتحل أبو سفيان بالكفار، رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فتجهز، واتبع المشركين، وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي قد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: والله يا محمد، لقد ساءنا ما أصابك، وكانت خزاعة تميل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ركب معبد؛ حتى لحق بأبي سفيان، فلما رأى أبو سفيان معبدا، قال: ما وراءك، يا معبد؟ قال محمد في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله، يتحرقون عليكم قد اجتمع معه من كان تخلف عنه، وندموا على ما صنعوا، قال: ويلك! ما تقول؟ قال: والله، ما أراك أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله، لقد أجمعنا الكرة إليهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، ووالله، لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم شعرا، قال: وما قلت؟ قال: قلت: [البسيط]
كادت تهد من الأصوات راحلتي
إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة
عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة
لما سموا برئيس غير مخذول
إلى آخر الشعر، فألقى الله الرعب في قلوب الكفار، وقال صفوان بن أمية: لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان، فنزلت الآية في هذا الإلقاء، وهي بعد متناولة كل كافر؛ قال الفخر: لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام، إلا وفي قلبه خوف من الرعب، إما عند الحرب، وإما عند المحاجة. انتهى.
وقوله سبحانه: { بما أشركوا } ، هذه باء السبب، والسلطان: الحجة والبرهان.
قال * ص *: قوله: { وبئس } ، المخصوص بالذم محذوف، أي: النار [انتهى].
وقوله سبحانه: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } ، جاء الخطاب لجميع المؤمنين، وإن كانت الأمور التي عاتبهم سبحانه عليها، لم يقع فيها جميعهم؛ ولذلك وجوه من الفصاحة، منها: وعظ الجميع، وزجره؛ إذ من لم يفعل معد أن يفعل؛ إن لم يزجر، ومنها: الستر والإبقاء على من فعل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر الله؛ إن صبروا وجدوا، فصدقهم الله وعده؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صاف المشركين يومئذ، ورتب الرماة، على ما قد ذكرناه قبل هذا، واشتعلت نار الحرب، وأبلى حمزة بن عبد المطلب، وأبو دجانة، وعلي، وعاصم بن أبي الأقلح، وغيرهم، وانهزم المشركون، وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا، فهذا معنى قوله عز وجل: { إذ تحسونهم بإذنه } ، والحس: القتل الذريع، يقال: حسهم إذا استأصلهم قتلا، وحس البرد النبات.
وقوله سبحانه: { حتى إذا فشلتم } ، يحتمل أن تكون «حتى» غاية؛ كأنه قال: إلى أن فشلتم، والأظهر الأقوى أن «إذا» على بابها تحتاج إلى الجواب، ومذهب الخليل، وسيبويه، وفرسان الصناعة؛ أن الجواب محذوف يدل عليه المعنى، تقديره: انهزمتم، ونحوه، والفشل: استشعار العجز، وترك الجد، والتنازع هو الذي وقع بين الرماة، { وعصيتم }: عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة، وتأمل (رحمك الله) ما يوجبه الركون إلى الدنيا، وما ينشأ عنها من الضرر، وإذا كان مثل هؤلاء السادة على رفعتهم وعظيم منزلتهم، حصل لهم بسببها ما حصل ؛ من الفشل والهزيمة، فكيف بأمثالنا، وقد حذر الله عز وجل ونبيه عليه السلام من الدنيا وآفاتها؛ بما لا يخفى على ذي لب، وقد ذكرنا في هذا «المختصر» جملة كافية لمن وفقه الله، وشرح صدره، وقد خرج البغوي في «المسند المنتخب» له، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة "
انتهى من «الكوكب الدري».
وقال - عليه السلام - للأنصار: لما تعرضوا له؛ إذ سمعوا بقدوم أبي عبيدة بمال البحرين:
" أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله، ما الفقر أخشى عليكم! ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم؛ كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم "
، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، واللفظ له، وقال: هذا حديث صحيح. انتهى.
واعلم (رحمك الله) أن تيسير أسباب الدنيا مع إعراضك عن أمر آخرتك، ليس ذلك من علامات الفلاح؛ وقد روى ابن المبارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد؛ أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف لي أن أعلم كيف أنا؟ قال:
" إذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة، وابتغيته، يسر لك، وإذا أردت شيئا من الدنيا، وابتغيته، عسر عليك، فأنت على حال حسنة، وإذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة، وابتغيته، عسر عليك، وإذا أردت شيئا من أمر الدنيا، وابتغيته، يسر لك، فأنت على حال قبيحة "
انتهى، فتأمله راشدا، وقوله: { من بعد ما أركم ما تحبون } ، يعني: هزيمة المشركين، قال الزبير، والله، لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة، وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل، ولا كثير؛ إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه، يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأوتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل، وانكفأ علينا القوم.
وقوله سبحانه: { منكم من يريد الدنيا } ، يعني بهم الذين حرصوا على الغنيمة، وكان المال همهم؛ قاله ابن عباس، وسائر المفسرين، وقال عبد الله بن مسعود: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا؛ حتى نزل فينا يوم أحد: { منكم من يريد الدنيا }.
وقوله سبحانه: { ومنكم من يريد الأخرة } إخبار عن ثبوت من ثبت من الرماة، مع عبد الله بن جبير؛ امتثالا للأمر حتى قتلوا، ويدخل في هذا أنس بن النضر، وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين.
[3.153-155]
وقوله تعالى: { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد } العامل في إذ قوله «عفا», وقراءة الجمهور «تصعدون» (بضم التاء، وكسر العين)؛ من: أصعد، ومعناه: ذهب في الأرض، والصعيد: وجه الأرض، ف «أصعد»: معناه: دخل في الصعيد؛ كما أن «أصبح»: دخل في الصباح.
وقوله سبحانه: { ولا تلوون على أحد } مبالغة في صفة الانهزام، وقرأ حميد بن قيس: «على أحد» (بضم الألف والحاء)، يريد الجبل، والمعني بذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان على الجبل، والقراءة الشهيرة أقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت، وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادي صلى الله عليه وسلم:
" إلي، عباد الله "
، والناس يفرون، وفي قوله تعالى: { في أخراكم }: مدح له صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك هو موقف الأبطال في أعقاب الناس؛ ومنه قول الزبير بن باطا: ما فعل مقدمتنا إذا حملنا، وحاميتنا إذا فررنا؛ وكذلك كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس؛ ومنه قول سلمة بن الأكوع: كنا إذا احمر البأس، اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { فأثبكم }: معناه: جازاكم على صنيعكم، واختلف في معنى قوله تعالى: { غما بغم } ، فقال قوم: المعنى: أثابكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين بفشلكم، وتنازعكم، وعصيانكم. قال قتادة، ومجاهد: الغم الأول: أن سمعوا ألا إن محمدا قد قتل، والثاني: القتل والجرح.
وقوله تعالى: { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } ، أي: من الغنيمة، ولا ما أصابكم، أي: من القتل والجراح، وذل الانهزام، واللام من قوله: «لكي لا» متعلقة ب «أثابكم»، المعنى : لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه، إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه، ثم ذكر سبحانه أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين، فغشي أهل الإخلاص، قلت: وفي «صحيح البخاري»، عن أنس؛ أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس، ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، ونحوه عن الزبير، وابن مسعود، «والواو» في قوله: { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } ، واو الحال، ذهب أكثر المفسرين إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن.
وقوله سبحانه: { يظنون بالله غير الحق }: معناه: يظنون أن دين الإسلام ليس بحق، وأن أمر محمد صلى الله عليه وسلم يضمحل.
قلت: وقد وردت أحاديث صحاح في الترغيب في حسن الظن بالله عز وجل، ففي «صحيح مسلم»، وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله عز وجل يقول سبحانه:
" أنا عند ظن عبدي بي... "
الحديث، وقال ابن مسعود: والله الذي لا إله غيره، لا يحسن أحد الظن بالله عز وجل إلا أعطاه الله ظنه، وذلك أن الخير بيده، وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من حسن عبادة المرء حسن ظنه "
اه. وقوله: { ظن الجهلية }: ذهب الجمهور إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، وهذا كقوله سبحانه:
حمية الجهلية
[الفتح:26] و
تبرج الجهلية
[الأحزاب:33] وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية، وهم أبو سفيان ومن معه، قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله ابن أبي ابن سلول: قتل بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر من شيء، يريد أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء، لسمع من رأينا، فلم يخرج، فلم يقتل أحد منا.
وقوله سبحانه: { قل إن الأمر كله لله } اعتراض أثناء الكلام فصيح، ومضمنه الرد عليهم، وقوله سبحانه: { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك... } الآية: أخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين، وهذه كانت سنته في المنافقين، لا إله إلا هو.
وقوله سبحانه: { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: { وليبتلي الله ما في صدوركم }: اللام في «ليبتلي» متعلقة بفعل متأخر، تقديره: وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة، والابتلاء هنا الاختبار.
وقوله سبحانه: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } قال عمر (رضي الله عنه): المراد بهذه الآية جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو.
وقيل: نزلت في الذين فروا إلى المدينة.
قال ابن زيد: فلا أدري، هل عفي عن هذه الطائفة خاصة، أم عن المؤمنين جميعا.
وقوله تعالى: { إنما استزلهم الشيطن ببعض ما كسبوا }: ظاهره عند جمهور المفسرين: أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم بوسوسته وتخويفه، والفرار من الزحف من الكبائر؛ بإجماع فيما علمت، وقد عده صلى الله عليه وسلم في السبع الموبقات.
[3.156-158]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخونهم... } الآية: نهى الله المؤمنين؛ أن يكونوا مثل الكفار المنافقين في هذا المعتقد الفاسد الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها، ومن قاتل فقتل، لو قعد في بيته لعاش، ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين، أو نحو منه، وصرح بهذ المقالة عبد الله بن أبي المنافق، وأصحابه؛ قاله مجاهد وغيره، والضرب في الأرض: السير في التجارة، وغزى: جمع غاز.
وقوله تعالى: { ليجعل الله ذلك } الإشارة ب «ذلك» إلى هذا المعتقد الذى جعله الله حسرة لهم؛ لأن الذي يتيقن أن كل قتل وموت، إنما هو بأجل سابق يجد برد اليأس والتسليم لله سبحانه على قلبه، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته، لم يمت، يتحسر ويتلهف؛ وعلى هذا التأويل، مشى المتأولون، وهو أظهر ما في الآية، والتحسر: التلهف على الشي، والغم به.
وقوله سبحانه: { والله بما تعملون بصير } توكيد للنهي في قوله: { لا تكونوا } ووعيد لمن خالفه، ووعد لمن امتثله.
وقوله سبحانه: { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم } اللام في { ولئن قتلتم } هي المؤذنة بمجيء القسم، واللام في قوله: { لمغفرة } هي المتلقية للقسم، والتقدير: والله، لمغفرة وترتب الموت قبل القتل في قوله تعالى: { ما ماتوا وما قتلوا }؛ مراعاة لترتب الضرب في الأرض والغزو، وقدم القتل هنا؛ لأنه الأشرف الأهم، ثم قدم الموت في قوله تعالى: { ولئن متم أو قتلتم }؛ لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر، وآية تزهيد في الدنيا والحياة، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا، وحض على طلب الشهادة، والمعنى: إذا كان الحشر لا بد في كلا الأمرين، فالمضي إليه في حال شهادة أولى؛ وعن سهل بن حنيف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه "
، رواه الجماعة إلا البخاري، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من طلب الشهادة صادقا، أعطيها، ولو لم تصبه "
، انفرد به مسلم. انتهى من «سلاح المؤمن».
[3.159-160]
وقوله سبحانه: { فبما رحمة من الله لنت لهم }: معناه: فبرحمة، قال القشيري في «التحبير»: واعلم أن الله سبحانه يحب من عباده من يرحم خلقه، ولا يرحم العبد إلا إذا رحمه الله سبحانه، قال الله تعالى لنبيه عليه السلام : { فبما رحمة من الله لنت لهم }. اه.
قال * ع *: ومعنى هذه الآية التقريع لكل من أخل يوم أحد بمركزه، أي: كانوا يستحقون الملام منك، ولكن برحمة منه سبحانه لنت لهم، وجعلك على خلق عظيم، وبعثك لتتميم محاسن الأخلاق، ولو كنت فظا غليظ القلب، لانفضوا من حولك، وتفرقوا عنك، والفظ: الجافي في منطقه ومقاطعه، وفي صفته صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة: «ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق»، والفظاظة: الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا، وغلظ القلب: عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، والانفضاض: افتراق الجموع.
وقوله تعالى: { فاعف عنهم واستغفر لهم... } الآية: أمر سبحانه نبيه عليه السلام بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، فأمره أن يعفو عنهم فيما له عليهم من حق، ثم يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذا صاروا في هذه الدرجة، كانوا أهلا للاستشارة.
قال * ع *: ومن لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب، هذا مما لا خلاف فيه، وقد وردت أحاديث كثيرة في الاستشارة، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، فأما في حلال، أو حرام، أو حد، فتلك قوانين شرع، ما فرطنا في الكتاب من شيء، والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، ويتخير، فإذا أرشده الله إلى ما شاء منه، عزم عليه، وأنفذه متوكلا على الله؛ إذ هو غاية الاجتهاد المطلوب منه، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل، فقد قال الحسن ابن أبي الحسن: ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله.
قال * ع *: والتوكل على الله سبحانه وتعالى من فروض الإيمان وفصوله، ولكنه مقترن بالجد في الطاعات، والتشمير والحزامة بغاية الجهد، وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام :
" قيدها وتوكل ".
وقوله تعالى: { إن الله يحب المتوكلين } هذه غاية في الرفعة، وشرف المنزلة، وقد جاءت آثار صحيحة في فضل التوكل وعظيم منزلة المتوكلين، ففي «صحيح مسلم» عن عمران بن حصين؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، قالوا: من هم، يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون "
وخرج أبو عيسى الترمذي، عن أبي أمامة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم، ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي "
، وخرجه ابن ماجة أيضا، وخرج أبو بكر البزار، وأبو عبد الله الترمذي الحكيم، عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الله سبحانه أعطاني سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عمر: يا رسول الله، فهلا استزدته قال: قد استزدته، فأعطاني مع كل واحد من السبعين الألف سبعين ألفا، فقال عمر: يا رسول الله، فهلا استزدته، فقال: قد استزدته، فأعطاني هكذا، وفتح أبو وهب يديه، قال أبو وهب: قال هشام: هذا من الله لا يدرى، ما عدده "
، وخرج أبو نعيم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة ألف، فقال أبو بكر: يا رسول الله، زدنا، قال: وهكذا، وأشار سليمان بن حرب بيده، فقال أبو بكر: يا رسول الله، زدنا، فقال عمر: إن الله عز وجل قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق عمر» "
اه من «التذكرة»، وما وقع من ذكر الحثية والحفنة ليس هو على ظاهره، فالله سبحانه منزه عن صفات الأجسام.
وقوله تعالى: { وإن يخذلكم } أي: يترككم، والخذل الترك، والضمير في: { من بعده } يعود على اسم الله، ويحتمل على الخذل.
[3.161-163]
وقوله تعالى: { وما كان لنبي أن يغل } ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: «أن يغل»؛ بفتح الياء، وضم الغين، وقرأ باقي السبعة: «أن يغل»؛ بضم الياء، وفتح الغين، واللفظة بمعنى الخيانة في خفاء، تقول العرب: أغل الرجل يغل إغلالا، إذا خان، واختلف على القراءة الأولى، فقال ابن عباس وغيره: نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فقيل: كانت هذه المقالة من مؤمن لم يظن في ذلك حرجا.
وقيل: كانت من منافقين، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفا، قال النقاش: ويقال: إنما نزلت؛ لأن الرماة قالوا يوم أحد: الغنيمة الغنيمة، فإنا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئا، فهو له، وقال ابن إسحاق: الآية إنما أنزلت، إعلاما بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئا مما أمر بتبليغه.
وأما على القراءة الثانية، فمعناها عند الجمهور، أي: ليس لأحد أن يغل النبي، أي: يخونه في الغنيمة؛ لأن المعاصي تعظم بحضرته؛ لتعيين توقيره.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وهذا القول هو الصحيح، وذلك أن قوما غلوا من الغنائم، أو هموا، فأنزل الله تعالى الآية، فنهاهم الله عن ذلك، رواه الترمذي. انتهى.
وقوله تعالى: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيمة... } الآية: وعيد لمن يغل من الغنيمة، أو في زكاته بالفضيحة يوم القيامة على رءوس الأشهاد، قال القرطبي في «تذكرته»: قال علماؤنا (رحمهم الله) في قوله تعالى: { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيمة }: إن ذلك على الحقيقة؛ كما بينه صلى الله عليه وسلم، أي: يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته، معذبا بحمله وثقله، ومروعا بصوته، وموبخا بإظهار خيانته. انتهى. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" أدوا الخائط والمخيط؛ فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة "
رواه مالك في «الموطأ»، قال أبو عمر في «التمهيد»: الشنار: لفظة جامعة لمعنى العار والنار، ومعناها الشين، والنار؛ يريد أن الغلول شين وعار ومنقصة في الدنيا، وعذاب في الآخرة. انتهى، وفي الباب أحاديث صحيحة في الغلول، وفي منع الزكاة.
وقوله سبحانه: { أفمن اتبع رضون الله } ، أي: الطاعة الكفيلة برضوان الله.
قال * ص *: «أفمن»: استفهام، معناه: النفي، أي: ليس من اتبع ما يئول به إلى رضا الله تعالى عنه؛ فباء برضاه، كمن لم يتبع ذلك؛ فباء بسخطه. انتهى.
وقوله سبحانه: { هم درجت عند الله } قال ابن إسحاق وغيره: المراد بذلك الجمعان المذكوران؛ أهل الرضوان، وأصحاب السخط، أي: لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النار أيضا، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره: أن المراد بقوله: «هم»، إنما هو لمتبعي الرضوان، أي: لهم درجات كريمة عند ربهم، وفي الكلام حذف، تقديره: هم ذوو درجات، والدرجات: المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة، أو في التكرمة، أو في العذاب، وباقي الآية وعد ووعيد.
[3.164-165]
وقوله تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم... } الآية: اللام في «لقد»: لام القسم، «ومن» في هذه الآية: معناه: تطول وتفضل سبحانه، وقد يقال: «من» بمعنى كدر معروفه بالذكر، فهي لفظة مشتركة، وقوله: { من أنفسهم } ، أي: في الجنس، واللسان، والمجاورة، فكونه من الجنس يوجب الأنس به، وكونه بلسانهم يوجب حسن التفهيم، وكونه جارا وربيا يوجب التصديق والطمأنينة؛ إذ قد خبروه وعرفوا صدقه وأمانته، ثم وقف الله سبحانه المؤمنين على الخطإ في قلقهم للمصيبة التي نزلت بهم، وإعراضهم عما نزل بالكفار، فقال: { أو لما أصبتكم مصيبة } ، أي: يوم أحد { قد أصبتم مثليها } ، أي: يوم بدر؛ إذ قتل من الكفار سبعون، وأسر سبعون، هذا تفسير ابن عباس، والجمهور.
وقال الزجاج: واحد المثلين: هو قتل السبعين يوم بدر، والثاني: هو قتل اثنين وعشرين يوم أحد، ولا مدخل للأسرى؛ لأنهم قد فدوا.
و { أنى }: معناها: كيف، ومن أين، { قل هو من عند أنفسكم } ، أي: حين خالفتم النبي صلى الله عليه وسلم في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة، ويترك الكفار بشر محبس، فأبيتم إلا الخروج، وهذا هو تأويل الجمهور، وقالت طائفة: { هو من عند أنفسكم }: إشارة إلى عصيان الرماة، وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين، وقال علي والحسن: بل ذلك لما قبلوا الفداء يوم بدر؛ وذلك أن الله سبحانه أخبرهم على لسان نبيه بين قتل الأسرى أو يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدة الأسرى، فاختاروا أخذ الفداء، ورضوا بالشهادة، فقتل منهم يوم أحد سبعون، قلت: وهذا الحديث رواه الترمذي عن علي (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد بن نصر الداوودي: وعن الضحاك: { أنى هذا } ، أي: بأي ذنب هذا؟ قال ابن عباس: { قل هو من عند أنفسكم } عقوبة لمعصيتكم لنبيكم عليه السلام . انتهى.
[3.166-167]
وقوله سبحانه: { وما أصبكم يوم التقى الجمعان } ، يعني: يوم أحد.
وقوله سبحانه: { وليعلم المؤمنين } ، أي: ليعلم الله المؤمن من المنافق، والإشارة بقوله سبحانه: { نافقوا وقيل لهم }: هي إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، حين انخزل بنحو ثلث الناس، فمشى في إثرهم عبد الله بن عمرو بن حزام أبو جابر بن عبد الله، فقال لهم: اتقوا الله، ولا تتركوا نبيكم، وقاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا، ونحو هذا من القول، فقال له ابن أبي: ما أرى أن يكون قتالا، ولو علمنا أن يكون قتال، لكنا معكم، فلما يئس منهم عبد الله، قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع النبي صلى الله عليه وسلم فاستشهد.
وقوله تعالى: { أو ادفعوا } ، قال ابن جريج وغيره: معناه: كثروا السواد، وإن لم تقاتلوا، فيندفع القوم؛ لكثرتكم، وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو: «أو ادفعوا»: استدعاء للقتال حمية؛ إذ ليسوا بأهل للقتال في سبيل الله، والمعنى: قاتلوا في سبيل الله، أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة؛ ألا ترى أن قزمان قال في ذلك اليوم: والله، ما قاتلت إلا على أحساب قومي، وقول الأنصاري يومئذ؛ لما أرسلت قريش الظهر في الزروع: أترعى زروع بني قيلة، ولما نضارب.
[3.168-172]
وقوله تعالى: { الذين قالوا لإخونهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } ، { الذين } بدل من { الذين } المتقدم، { لإخونهم } ، أي: لأجل إخوانهم، أو في شأن إخوانهم المقتولين، ويحتمل أن يريد: لإخوانهم الأحياء من المنافقين، ويكون الضمير في «أطاعونا» للمقتولين، وقعدوا: جملة في موضع الحال، معترضة أثناء الكلام، وقولهم: { لو أطاعونا } ، يريدون: في ألا يخرجوا، وباقي الآية بين.
ثم أخبر سبحانه عن الشهداء؛ أنهم في الجنة أحياء يرزقون، وعن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن الله يطلع على الشهداء، فيقول: يا عبادي، ما تشتهون، فأزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا، لا فوق ما أعطيتنا، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا، فنقاتل في سبيلك، فنقتل مرة أخرى، فيقول سبحانه: «قد سبق أنكم لا تردون "
، والأحاديث في فضل الشهداء كثيرة.
قال الفخر: والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التواتر، ثم قال: قال بعض المفسرين: أرواح الشهداء أحياء، وهي تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة. انتهى.
والعقيدة أن الأرواح كلها أحياء، لا فرق بين الشهداء وغيرهم في ذلك إلا ما خصص الله به الشهداء من زيادة المزية والحياة التي ليست بمكيفة، وفي «صحيح مسلم»، عن مسروق قال، سألنا ابن مسعود عن هذه الآية: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ، فقال: أما أنا، فقد سألت عن ذلك، فقال، يعني النبي صلى الله عليه وسلم:
" أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل... "
الحديث إلى آخره اه.
ومن الآثار الصحيحة الدالة على فضل الشهداء ما رواه مالك في «الموطأ»؛ أنه بلغه أن عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما، وكان قبرهما مما يلي السيل، وكانا في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يغيرا، كأنما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن، وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت، فرجعت، كما كانت، وكان بين أحد، وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة، قال أبو عمر في «التمهيد»: حديث مالك هذا يتصل من وجوه صحاح بمعنى واحد متقارب، وعبد الله بن عمرو هذا هو والد جابر بن عبد الله، وعمرو بن الجموح هو ابن عمه، ثم أسند أبو عمر، عن جابر بن عبد الله، قال: لما أراد معاوية أن يجري العين بأحد، نودي بالمدينة: من كان له قتيل، فليأت قتيله، قال جابر: فأتيناهم، فأخرجناهم رطابا يتثنون، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم، فانفطرت دما، قال أبو سعيد الخدري: «لا ينكر بعد هذا منكر أبدا» وفي رواية: «فاستخرجهم يعني: معاوية ، بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم، تتثنى أطرافهم»، قال أبو عمر: الذي أصابت المسحاة أصبعه هو حمزة (رضي الله عنه).
ثم أسند عن جابر قال: رأيت الشهداء يخرجون على رقاب الرجال؛ كأنهم رجال نوم؛ حتى إذا أصابت المسحاة قدم حمزة (رضي الله عنه): «فانثعبت دما» انتهى.
وقوله سبحانه: { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم... } الآية: معناه: يسرون، ويفرحون، وذهب قتادة وغيره إلى أن استبشارهم هو أنهم يقولون: إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم، فيستشهدون، فينالون من الكرامة مثل ما نلنا نحن، فيسرون لهم بذلك؛ إذ يحصلون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذهب فريق من العلماء إلى أن الإشارة في قوله: { بالذين لم يلحقوا } ، إلى جميع المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة؛ وذلك لما عاينوا من ثواب الله، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، ومستبشرون للمؤمنين أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ ثم أكد سبحانه استبشارهم بقوله: { يستبشرون بنعمة } ، ثم بين سبحانه بقوله: { وفضل } ، أن إدخاله إياهم الجنة هو بفضل منه، لا بعمل أحد، وأما النعمة في الجنة، والدرجات، فقد أخبر أنها على قدر الأعمال.
قلت: وخرج أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن حرب صاحب ابن المبارك في «رقائقه»، بسنده، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي؛
" أن الشهداء في قباب من حرير في رياض خضر، عندهم حوت وثور، يظل الحوت يسبح فى أنهار الجنة يأكل من كل رائحة في أنهار الجنة، فإذا أمسى وكزه الثور بقرنه، فيذكيه، فيأكلون لحمه، يجدون في لحمه طعم كل رائحة، ويبيت الثور في أفناء الجنة، فإذا أصبح، غدا عليه الحوت، فوكزه بذنبه، فيذكيه، فيأكلون، فيجدون في لحمه طعم كل رائحة في الجنة، ثم يعودون، وينظرون إلى منازلهم من الجنة، ويدعون الله عز وجل أن تقوم الساعة... "
الحديث. انتهى. مختصرا، وقد ذكره صاحب «التذكرة» مطولا.
وقرأ الكسائي: «وإن الله»؛ بكسر الهمزة؛ على استئناف الإخبار، وقرأ باقي السبعة بالفتح على أن ذلك داخل فيما يستبشر به، وقوله: { الذين استجابوا } يحتمل أن يكون صفة للمؤمنين؛ على قراءة من كسر الألف من «إن»، والأظهر أن الذين ابتداء، وخبره في قوله: { للذين أحسنوا منهم... } ، والمستجيبون لله والرسول: هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب قريش.
[3.173-174]
وقوله سبحانه: { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم... } الآية: «الذين»: صفة للمحسنين، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين حملهم أبو سفيان ذلك، «فالناس» الأول هم الركب، و «الناس» الثاني عسكر قريش؛ هذا قول الجمهور، وهو الصواب، وقول من قال: إن الآية نزلت في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان، و { إن الناس } هنا هو نعيم بن مسعود قول ضعيف، وعن ابن عباس؛ أنه قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل» قالها إبراهيم عليه السلام ، حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمنا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ، رواه مسلم. والبخاري. انتهى.
[3.175-178]
وقوله سبحانه: { إنما ذلكم الشيطن يخوف أولياءه... } الآية: إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب عن رسالة أبي سفيان، ومن جزع من جزع من الخبر.
وقرأ الجمهور: «يخوف أولياءه»، قال قوم: معناه: يخوف المنافقين، ومن في قلبه مرض، وحكى أبو الفتح بن جني، عن ابن عباس؛ أنه قرأ «يخوفكم أولياءه»، فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان، وهي مفسرة لقراءة الجماعة، وفي قراءة أبي بن كعب: «يخوفكم بأوليائه»، وفي كتاب «القصد إلى الله تعالى»؛ للمحاسبي، قال: وكلما عظمت هيبة الله عز وجل في صدور الأولياء، لم يهابوا معه غيره؛ حياء منه عز وجل أن يخافوا معه سواه. انتهى.
وقوله سبحانه: { ولا يحزنك الذين يسرعون فى الكفر } ، والمسارعة في الكفر: هي المبادرة إلى أقواله وأفعاله، والجد في ذلك، وسلى الله تعالى نبيه عليه السلام بهذه الآية عن حال المنافقين والمجاهرين؛ إذ كلهم مسارع، وقوله تعالى: { إنهم لن يضروا الله شيئا }: خبر في ضمنه وعيد لهم، أي: وإنما يضرون أنفسهم، والحظ: إذا أطلق، فإنما يستعمل في الخير، وقوله سبحانه: { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم }: نملي: معناه: نمهل ونمد في العمر، والمعنى: لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرا لهم، فالآية رد على الكفار في قولهم: إن كوننا ممولين أصحة دليل على رضا الله بحالتنا.
[3.179-180]
وقوله تعالى: { ما كان الله ليذر } ، أي: ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين، مشكلا أمرهم؛ حتى يميز بعضهم من بعض؛ بما يظهره من هؤلاء وهؤلاء في «أحد» من الأفعال والأقوال، هذا تفسير مجاهد وغيره.
وقوله: { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } ، أي: في أمر أحد، وما كان من الهزيمة وأيضا: فما كان الله ليطلعكم على المنافقين تصريحا وتسمية لهم، ولكن بقرائن أفعالهم وأقوالهم.
قال الفخر: وذلك أن سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه، أي: لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الإمتياز إلا بامتحانات؛ كما تقدم، فأما معرفة ذلك على سبيل الإطلاع من الغيب، فهو من خواص الأنبياء، فلهذا قال تعالى: { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء }. انتهى.
وقال الزجاج وغيره: روي أن بعض الكفار قال: لم لا يكون جميعنا أنبياء، فنزلت هذه الآية، و { يجتبي }: معناه: يختار ويصطفي، وقوله سبحانه: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتهم الله من فضله } الآية: قال السدي وجماعة من المتأولين: الآية نزلت في البخل بالمال، والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة، ونحو ذلك، قال: ومعنى: { سيطوقون ما بخلوا به } هو الذي ورد في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه، فيسأله من فضل عنده، فيبخل عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ؛ حتى يطوقه "
، قلت: وفي البخاري وغيره، عنه صلى الله عليه وسلم قال:
" من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه، يعني: شدقيه، يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتهم الله من فضله... } "
الآية.
قلت: واعلم أنه قد وردت آثار صحيحة بتعذيب العصاة بنوع ما عصوا به؛ كحديث:
" من قتل نفسه بحديدة، فهو يجأ نفسه بحديدته في نار جهنم، والذي قتل نفسه بالسم، فهو يتحساه في نار جهنم "
، ونحو ذلك.
قال الغزالي في «الجواهر»: واعلم أن المعاني في عالم الآخرة تستتبع الصور، ولا تتبعها، فيتمثل كل شيء بصورة توازي معناه، فيحشر المتكبرون في صور الذر يطؤهم من أقبل وأدبر، والمتواضعون أعزاء. انتهى، وهو كلام صحيح يشهد له صحيح الآثار؛ ويؤيده النظر والإعتبار، اللهم، وفقنا لما تحبه وترضاه.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قال علماؤنا: البخل: منع الواجب، والشح: منع المستحب، والصحيح المختار أن هذه الآية في الزكاة الواجبة؛ لأن هذا وعيد لمانعيها، والوعيد إذا اقترن بالفعل المأمور به، أو المنهي عنه، اقتضى الوجوب أو التحريم. انتهى. وتعميمها في جميع أنواع الواجب أحسن.
وقوله سبحانه: { ولله ميراث السموات والأرض } خطاب على ما يفهمه البشر، دال على فناء الجميع، وأنه لا يبقى مالك إلا الله سبحانه.
[3.181-182]
وقوله سبحانه: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء... } الآية: نزلت بسبب فنحاص اليهودي وأشباهه؛ كحيي بن أخطب وغيره، لما نزلت:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
[الحديد:11]، قالوا: يستقرضنا ربنا، إنما يستقرض الفقير الغني، وهذا من تحريف اليهود للتأويل على نحو ما صنعوا في توراتهم.
وقوله تعالى: { قول الذين قالوا }: دال على أنهم جماعة.
وقوله تعالى: { سنكتب ما قالوا... } الآية: وعيد لهم، أي: سنحصي عليهم قولهم، ويتصل ذلك بفعل آبائهم من قتل الأنبياء بغير حق.
وقوله سبحانه: { إن الله }؛ أي: وبأن الله ليس بظلام للعبيد.
قال * ص *: قيل: المراد هنا نفي القليل والكثير من الظلم؛ كقول طرفة: [الطويل].
ولست بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
ولا يريد: أنه قد يحل التلاع قليلا.
وزاد أبو البقاء وجها آخر، وهو أن يكون على النسب، أي: لا ينسب سبحانه إلى ظلم، فيكون من باب بزاز وعطار. انتهى، قلت: وهذا القول أحسن ما قيل هنا، فمعنى وما ربك بظلام، أي: بذي ظلم.
[3.183-184]
وقوله سبحانه: { الذين قالوا إن الله عهد إلينا... } هذه المقالة قالتها أحبار اليهود مدافعة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إنك لم تأتنا بقربان تأكله النار، فنحن قد عهد إلينا ألا نؤمن لك.
وقوله تعالى: { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينت وبالذي قلتم }؛ من أمر القربان، والمعنى: أن هذا منكم تعلل وتعنت، ولو أتيتكم بقربان، لتعللتم بغير ذلك، ثم أنس سبحانه نبيه بالأسوة والقدوة فيمن تقدم من الأنبياء.
قال الفخر: والمراد { بالبينت } المعجزات. انتهى.
والزبر: الكتاب المكتوب، قال الزجاج: زبرت: كتبت.
[3.185]
وقوله سبحانه: { كل نفس ذائقة الموت... } الآية: وعظ فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأمته عن أمر الدنيا وأهلها، ووعد بالفلاح في الآخرة؛ فبالفكرة في الموت يهون أمر الكفار وتكذيبهم، { وإنما توفون أجوركم } ، أي: على الكمال، ولا محالة أن يوم القيامة تقع فيه توفية الأجور، وتوفية العقوبات، و { زحزح }: معناه: أبعد، والمكان الزحزاح: البعيد، { وفاز }: معناه: نجا من خطره وخوفه، و { الغرور }: الخدع، والترجية بالباطل والحياة الدنيا، وكل ما فيها من الأموال هي متاع قليل يخدع المرء، ويمنيه الأباطيل؛ وعلى هذا فسر الآية جمهور المفسرين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها "
، ثم تلا هذه الآية، قلت: وأسند أبو بكر بن الخطيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما سكن حب الدنيا قلب عبد قط إلا التاط منها بخصال ثلاث: أمل لا يبلغ منتهاه، وفقر لا يدرك غناه، وشغل لا ينفك عناه "
انتهى.
[3.186]
وقوله تعالى: { لتبلون في أمولكم وأنفسكم... } الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته، والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله، وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت، والأمراض وفقد الأحبة، قال الفخر: قال الواحدي: اللام في { لتبلون }: لام قسم. انتهى.
وقوله: { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتب... } الآية: قال عكرمة وغيره: السبب في نزولها أقوال فنحاص، وقال الزهري وغيره: نزلت بسبب كعب بن الأشرف؛ حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله، والأذى: اسم جامع في معنى الضرر، وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ من سب، وأقوالهم في جهة الله سبحانه، وأنبيائه، وندب سبحانه إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي: من أشدها وأحسنها، والعزم: إمضاء الأمر المروى المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما.
[3.187]
وقوله سبحانه: { وإذ أخذ الله ميثق الذين أوتوا الكتب... } الآية: توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم، قال جمهور من العلماء: الآية عامة في كل من علمه الله علما، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" من سئل عن علم، فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار "
، والضمير في: { لتبيننه } ، { ولا تكتمونه }: عائد على { الكتب } ، والنبذ: الطرح، وأظهر الأقوال في هذه الآية أنها نزلت في اليهود، وهم المعنيون، ثم كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة.
[3.188-190]
وقوله سبحانه: { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا... } الآية: ذهبت جماعة إلى أن الآية في المنافقين، وقالت جماعة كبيرة: إنما نزلت في أهل الكتاب أحبار اليهود، قال سعيد بن جبير: الآية في اليهود، فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم من النبوة والكتاب، فهم يقولون: نحن على طريقهم، ويحبون أن يحمدوا بذلك، وهم ليسوا على طريقهم، وقراءة سعيد بن جبير: «بما أوتوا»؛ بمعنى «أعطوا» (بضم الهمزة والطاء)؛ وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال، والمفازة مفعلة من فاز يفوز، إذا نجا، وباقي الآية بين.
ثم دل سبحانه على مواضع النظر والعبرة، فقال: { إن في خلق السموات والأرض واختلف اليل والنهار } ، أي: تعاقب الليل والنهار؛ إذ جعلهما سبحانه خلفة، ويدخل تحت اختلافهما قصر أحدهما وطول الآخر، وبالعكس، واختلافهما بالنور والظلام، والآيات: العلامات الدالة على وحدانيته، وعظيم قدرته سبحانه.
قال الفخر: واعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الإشتغال بالخلق والإستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام، والجواب عن شبهات المبطلين، عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والكبرياء والجلال، وذكر الأدعية ، فختم بهذه الآيات بنحو ما في «سورة البقرة». انتهى.
[3.191-192]
وقوله سبحانه: { الذين يذكرون الله قيما وقعودا }: الذين: في موضع خفض صفة ل { أولي الألبب } ، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر الله، وأن يحضر القلب اللسان؛ وذلك من أعظم وجوه العبادات، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة، وابن آدم متنقل في هذه الثلاث الهيئات، لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه، وكذلك جرت عائشة (رضي الله عنها) إلى حصر الزمن في قولها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه».
قلت: خرجه أبو داود، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغيره.
وذهب جماعة إلى أن قوله تعالى: { الذين يذكرون الله } إنما هو عبارة عن الصلاة، أي: لا يضيعونها، ففي حال العذر يصلونها قعودا، وعلى جنوبهم، ثم عطف على هذه العبادة التي هي ذكر الله باللسان، أو الصلاة فرضها وندبها بعبادة أخرى عظيمة، وهي الفكرة في قدرة الله تعالى ومخلوقاته، والعبر التي بث. [المتقارب]
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
قال الغزالي: ونهاية ثمرة الدين في الدنيا تحصيل معرفة الله، وتحصيل الأنس بذكر الله تعالى، والأنس يحصل بدوام الذكر، والمعرفة تحصل بدوام الفكر. انتهى من «الإحياء».
ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله، فقال:
" تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق؛ فإنكم لا تقدرون قدره ".
قال * ع *: وهذا هو قصد الآية في قوله: { ويتفكرون في خلق السموات والأرض }.
وقال بعض العلماء: المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء، وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات، وفي أحوال الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا عبادة كتفكر "
وقال ابن عباس، وأبو الدرداء: فكرة ساعة خير من قيام ليلة، وقال سري السقطي: فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك، فتجعلها في الآخرة، وقال الحسن بن أبي الحسن: الفكرة مرآة المؤمن، ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته ، وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء؛ ليتوضأ لصلاة الليل، وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح، أقام كذلك مفكرا حتى طلع الفجر، فقال له: ما هذا يا أبا سليمان؟ فقال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح، تذكرت قول الله سبحانه:
إذ الأغلل في أعنقهم والسلسل
[غافر:71]، فتفكرت في حالي، وكيف أتلقى الغل، إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبح.
قال * ع *: وهذه نهاية الخوف، وخير الأمور أوساطها، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله ومعاني سنة رسوله لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا، لكن يحسن ألا تخلو البلاد من مثل هذا.
قال * ع *: وحدثني أبي (رحمه الله)، عن بعض علماء المشرق، قال: كنت بائتا في مسجد الإقدام ب «مصر» فصليت العتمة، فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له، حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة، وسهرنا، فلما أقيمت صلاة الصبح، قام ذلك الرجل، فاستقبل القبلة، وصلى مع الناس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة، خرج، فتبعته لأعظه، فلما دنوت منه، سمعته، وهو ينشد: [المنسرح]
منسجن الجسم غائب حاضر
منتبه القلب صامت ذاكر
منبسط في الغيوب منقبض
كذاك من كان عارفا ناكر
يبيت في ليله أخا فكر
فهو مدى الليل نائم ساهر
قال: فعلمت أنه ممن يعبد الله بالفكرة، فانصرفت عنه.
قال الفخر: ودلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر. انتهى.
وفي «العتبية»: قال مالك: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر. قال مالك: وهو من الأعمال، وهو اليقين؛ قال الله عز وجل: { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } ، قال ابن رشد: والتفكر من الأعمال؛ كما قاله مالك (رحمه الله)، وهو من أشرف الأعمال؛ لأنه من أعمال القلوب التي هي أشرف الجوارح؛ ألا ترى أنه لا يثاب أحد على عمل من أعمال الجوارح من سائر الطاعات، إلا مع مشاركة القلوب لها بإخلاص النية لله (عز وجل) في فعلها. انتهى من «البيان والتحصيل».
قال ابن بطال: إن الإنسان إذا كمل إيمانه، وكثر تفكره، كان الغالب عليه الإشفاق والخوف. انتهى.
قال ابن عطاء الله: الفكرة سير القلب في ميادين الاعتبار، والفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت، فلا إضاءة له.
قلت: قال بعض المحققين: وذلك أن الإنسان إذا تفكر، علم، وإذا علم، عمل.
قال ابن عباد: قال الإمام أبو القاسم القشيري (رحمه الله): التفكر نعت كل طالب، وثمرته الوصول بشرط العلم، ثم فكر الزاهدين: في فناء الدنيا، وقلة وفائها لطلابها؛ فيزدادون بالفكر زهدا، وفكر العابدين: في جميل الثواب، فيزدادون نشاطا ورغبة فيه، وفكر العارفين: في الآلاء والنعماء؛ فيزدادون محبة للحق سبحانه. انتهى.
وقوله تعالى: { ربنا ما خلقت هذا بطلا } ، أي: يقولون: يا ربنا؛ على النداء، ما خلقت هذا باطلا، يريد: لغير غاية منصوبة، بل خلقته، وخلقت البشر؛ لينظروا فيه؛ فيوحدوك، ويعبدوك؛ فمن فعل ذلك نعمته، ومن ضل عن ذلك، عذبته، وقولهم: { سبحنك } ، أي: تنزيها لك عما يقول المبطلون، وقولهم: { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } ، أي: فلا تفعل ذلك بنا، والخزي: الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء.
قال أنس بن مالك، والحسن بن أبي الحسن، وابن جريج، وغيرهم: هذه إشارة إلى من يخلد في النار، وأما من يخرج منها بالشفاعة والأمان، فليس بمخزى، أي: وما أصابه من عذابها، إنما هو تمحيص لذنوبه.
وقوله سبحانه: { وما للظلمين من أنصار }: هو من قول الداعين.
[3.193-194]
وقوله سبحانه: { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمن... } الآية: حكاية عن أولي الألباب، قال أبو الدرداء: يرحم الله المؤمنين؛ ما زالوا يقولون: ربنا ربنا، حتى استجيب لهم، قال ابن جريج وغيره: المنادي محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي: المنادي كتاب الله، وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعه، وقولهم: { ما وعدتنا على رسلك } ، معناه: على ألسنة رسلك، وقولهم: { ولا تخزنا يوم القيمة إنك لا تخلف الميعاد }: إشارة إلى قوله تعالى:
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه
[التحريم:8] فهذا وعده تعالى، وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود.
قال * ص *: قال أبو البقاء: الميعاد مصدر بمعنى الوعد. انتهى.
[3.195-198]
وقوله سبحانه: { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى... } الآية: استجاب بمعنى أجاب، روي أن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: يا رسول الله، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة، ولم يذكر النساء في شيء من ذلك، فنزلت الآية. وهي آية وعد من الله، أي: هذا فعله سبحانه مع الذي يتصفون بما ذكر، قال الفخر: روي عن جعفر الصادق؛ أنه قال: من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية؛ قال: لأن الله تعالى حكى عنهم؛ أنهم قالوا: ربنا؛ خمس مرات، ثم أخبر أنه استجاب لهم. انتهى.
وقوله تعالى: { بعضكم من بعض } ، يعني: في الأجر، وتقبل الأعمال، أي: أن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد، قال الفخر: قوله سبحانه: { بعضكم من بعض } ، أي: شبه بعض، أو مثل بعض، والمعنى: أنه لا تفاوت في الثواب بين الذكر والأنثى؛ إذا استووا في الطاعة؛ وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين، إنما هو بالأعمال، لا بسر صفات العاملين؛ لأن كونهم ذكرا أو أنثى، أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب. انتهى.
وبين سبحانه حال المهاجرين، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله، وهاجر أيضا إلى الله إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: { وأخرجوا من ديرهم }: عبارة فيها إلزام الذنب للكفار، واللام في قوله: { لأكفرن }: لام القسم، و { ثوابا }: مصدر موكد، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلد... } الآية: نزلت: { لا يغرنك } في هذه الآية منزلة: «لا تظن»؛ أن حال الكفار حسنة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، والتقلب: التصرف في التجارات، والأرباح، والحروب، وسائر الآمال؛ وقوله: { نزلا }: معناه تكرمة.
وقوله تعالى: { وما عند الله خير للأبرار } يحتمل أن يريد: خير مما هؤلاء فيه، من التقلب والتنعم، ويحتمل أن يريد: خير مما هم فيه في الدنيا، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
" الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر "
قال القاضي ابن الطيب: هذا بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة، وقيل: المعنى أنها سجن المؤمن؛ لأنها موضع تعبه في الطاعة.
[3.199-200]
وقوله تعالى: { وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خشعين لله } ، قال جابر بن عبد الله وغيره: هذه الآية نزلت بسبب أصحمة النجاشي سلطان الحبشة، آمن بالله، وبمحمد عليه السلام ، وأصحمة: تفسيره بالعربية: عطية؛ قاله سفيان وغيره، وقال قوم: نزلت في عبد الله بن سلام، وقال ابن زيد ومجاهد: نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب.
وقوله سبحانه: { لا يشترون بئايت الله ثمنا قليلا }: مدح لهم، وذم لسائر كفار أهل الكتاب؛ لتبديلهم وإيثارهم مكاسب الدنيا على آخرتهم، وعلى آيات الله سبحانه، ثم ختم الله سبحانه السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء، والفوز بنعيم الآخرة، فحض سبحانه على الصبر على الطاعات، وعن الشهوات، وأمر بالمصابرة، فقيل: معناه مصابرة الأعداء؛ قاله زيد بن أسلم، وقيل: معناه مصابرة وعد الله في النصر؛ قاله محمد بن كعب القرظي، أي: لا تسأموا وانتظروا الفرج، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" انتظار الفرج بالصبر عبادة ".
قال الفخر: والمصابرة عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بين الإنسان، وبين الغير. انتهى.
وقوله: { ورابطوا }: معناه عند الجمهور: رابطوا أعداءكم الخيل، أي: ارتبطوها؛ كما يرتبطها أعداؤكم، قلت: وروى مسلم في «صحيحه»، عن سلمان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان "
، وخرج الترمذي، عن فضالة بن عبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله؛ فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وخرجه أبو داود بمعناه، وقال:
" ويؤمن من فتاني القبر "
، وخرجه ابن ماجة بإسناد صحيح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" من مات مرابطا في سبيل الله، أجرى الله عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتان، ويبعثه الله آمنا من الفزع "
، وروى مسلم والبخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا، وما فيها "
انتهى.
وجاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة يطول ذكرها.
قال صاحب «التذكرة»: وروى أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة؛ صيامها، وقيامها، ورباط يوم في رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا "
، أراه قال:
" من عبادة ألفي سنة، صيامها، وقيامها... "
الحديث ذكره القرطبي مسندا. انتهى.
والرباط: هو الملازمة في سبيل الله؛ أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا، واللفظة مأخوذة من الربط، قلت: قال الشيخ زين الدين العراقي في «اختصاره لغريب القرآن»؛ لأبي حيان: معنى: رابطوا: دوموا واثبتوا، ومتى ذكرت العراقي، فمرادي هذا الشيخ. انتهى.
وروى ابن المبارك في «رقائقه»، أن هذه الآية: { اصبروا وصابروا ورابطوا } ، إنما نزلت في انتظار الصلاة خلف الصلاة؛ قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: ولم يكن يومئذ عدو يرابط فيه. انتهى.
وقوله سبحانه: { لعلكم تفلحون }: ترج في حق البشر، والحمد لله حق حمده.
[4 - سورة النساء]
[4.1]
قوله تعالى: { يأيها الناس اتقوا ربكم... } الآية: في الآية تنبيه على الصانع، وعلى افتتاح الوجود، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب، والمراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم، وقال: { وحدة }؛ على تأنيث لفظ النفس، و «زوجها»، يعني: حواء، قال ابن عباس وغيره: خلق الله آدم وحشا في الجنة وحده، ثم نام، فانتزع الله إحدى أضلاعه القصيرى من شماله، وقيل: من يمينه، فخلق منها حواء ، ويعضد هذا الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن المرأة خلقت من ضلع أعوج... "
الحديث، { وبث }: معناه: نشر؛ كقوله تعالى:
كالفراش المبثوث
[القارعة:4] أي: المنتشر، وفي تكرير الأمر بالتقوى تأكيد لنفوس المأمورين، و { تساءلون }: معناه: تتعاطفون به، فيقول أحدكم: أسألك بالله، وقوله: { والأرحام } ، أي: واتقوا الأرحام، وقرأ حمزة «والأرحام» (بالخفض)؛ عطفا على الضمير؛ كقولهم: أسألك بالله وبالرحم؛ قاله مجاهد وغيره.
قال * ع *: وهذه القراءة عند نحاة البصرة لا تجوز؛ لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض إلا في ضرورة الشعر؛ كقوله: [البسيط]
.................
فاذهب فما بك والأيام من عجب
لأن الضمير المخفوض لا ينفصل؛ فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف، واستسهل بعض النحاة هذه القراءة. انتهى كلام * ع *.
قال * ص *: والصحيح جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار؛ كمذهب الكوفيين، ولا ترد القراءة المتواترة بمثل مذهب البصريين، قال: وقد أمعنا الكلام عليه في قوله تعالى:
وكفر به والمسجد الحرام
[البقرة:217] انتهى، وهو حسن، ونحوه للإمام الفخر.
وفي قوله تعالى: { إن الله كان عليكم رقيبا }: ضرب من الوعيد، قال المحاسبي: سألت أبا جعفر محمد بن موسى، فقلت: أجمل حالات العارفين ما هي؟ فقال: إن الحال التي تجمع لك الحالات المحمودة كلها في حالة واحدة هي المراقبة، فألزم نفسك، وقلبك دوام العلم بنظر الله إليك؛ في حركتك، وسكونك، وجميع أحوالك؛ فإنك بعين الله (عز وجل) في جميع تقلباتك، وإنك في قبضته؛ حيث كنت، وإن عين الله على قلبك، وناظر إلى سرك وعلانيتك، فهذه الصفة، يا فتى، بحر ليس له شط، بحر تجري منه السواقي والأنهار، وتسير فيه السفن إلى معادن الغنيمة. انتهى من كتاب «القصد إلى الله سبحانه».
[4.2-3]
وقوله سبحانه: { وءاتوا اليتمى أمولهم... } قال ابن زيد: هذه مخاطبة لمن كانت عادته من العرب ألا يرث الصغير من الأولاد، وقالت طائفة: هذه مخاطبة للأوصياء.
قال ابن العربي: وذلك عند الابتلاء والإرشاد. انتهى.
وقوله: { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ، قال ابن المسيب وغيره: هو ما كان يفعله بعضهم من إبدال الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف، وقيل: المراد: لا تأكلوا أموالهم خبيثا، وتدعوا أموالكم طيبا، وقيل غير هذا.
والطيب هنا: الحلال، والخبيث: الحرام.
وقوله: { إلى أمولكم }: التقدير: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل، والضمير في «إنه»: عائد على الأكل، والحوب: الإثم؛ قاله ابن عباس وغيره؛ وتحوب الرجل، إذا ألقى الحوب عن نفسه، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج؛ فإن هذه الأربعة بخلاف «تفعل» كله؛ لأن «تفعل» معناه: الدخول في الشيء؛ ك «تعبد»، و «تكسب»، وما أشبهه؛ ويلحق بهذه الأربعة «تفكهون» في قوله تعالى:
لو نشاء لجعلناه حطما فظلتم تفكهون
[الواقعة:65] أي: تطرحون الفكاهة عن أنفسكم.
وقوله تعالى: { كبيرا }: نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر.
وقوله تعالى: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتمى... } الآية: قال أبو عبيدة: خفتم ههنا بمعنى أيقنتم.
قال * ع *: وما قاله غير صحيح، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه، وإنما هو من أفعال التوقع، إلا أنه قد يميل فيه الظن إلى إحدى الجهتين؛ قلت: وكذا رد الداوودي على أبي عبيدة، ولفظه: وعن أبي عبيدة: { فإن خفتم ألا تعدلوا }: مجازه: أيقنتم، قال أبو جعفر: بل هو على ظاهر الكلمة. انتهى.
و { تقسطوا }: معناه: تعدلوا؛ يقال: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار؛ قالت عائشة (رضي الله عنها): نزلت هذه الآية في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم، فيريدون أن يبخسوهن في المهر؛ لمكان ولايتهم عليهن، فقيل لهم: اقسطوا في مهورهن، فمن خاف ألا يقسط، فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يكايسن في حقوقهن، وقاله ربيعة.
قال الحسن وغيره: { ما طاب }: معناه ما حل.
وقيل: «ما» ظرفية، أي: ما دمتم تستحسنون النكاح، وضعف؛ قلت: وفي تضعيفه نظر، فتأمله.
قال الإمام الفخر: وفي تفسير { ما طاب } بما حل نظر؛ وذلك أن قوله تعالى: { فانكحوا }: أمر إباحة، فلو كان المراد بقوله: { ما طاب لكم } ، أي: ما حل لكم لتنزلت الآية منزلة ما يقال: أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم ، وذلك يخرج الآية عن الفائدة، ويصيرها مجملة لا محالة، أما إذا حملنا «طاب» على استطابة النفس، وميل القلب، كانت الآية عامة دخلها التخصيص، وقد ثبت في أصول الفقه؛ أنه إذا وقع التعارض بين الإجمال والتخصيص، كان رفع الإجمال أولى؛ لأن العام المخصص حجة في غير محل التخصيص، والمجمل لا يكون حجة أصلا.
انتهى، وهو حسن، و { مثنى وثلث ورباع }: موضعها من الإعراب نصب على البدل من «ما طاب»، وهي نكرات لا تنصرف؛ لأنها معدولة وصفة.
وقوله: { فوحدة } ، أي: فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم، يريد به الإماء، والمعنى: إن خاف ألا يعدل في عشرة واحدة، فما ملكت يمينه، وأسند الملك إلى اليمين؛ إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن؛ ألا ترى أنها المنفقة؛ كما قال عليه السلام :
" حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "
، وهي المعاهدة المبايعة.
قال ابن العربي: قال علماؤنا: وفي الآية دليل على أن ملك اليمين لا حق له في الوطء والقسم؛ لأن المعنى: فإن خفتم ألا تعدلوا في القسم، فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، فجعل سبحانه ملك اليمين كله بمنزلة الواحدة، فانتفى بذلك أن يكون للأمة حق في وطء أو قسم. انتهى من «الأحكام».
وقوله: { ذلك أدنى ألا تعولوا } ، أدنى: معناه: أقرب ألا تعولوا، أي: ألا تميلوا، قاله ابن عباس وغيره، وقالت فرقة: معناه: أدنى ألا يكثر عيالكم، وقدح في هذا الزجاج وغيره.
[4.4-5]
وقوله تعالى: { وءاتوا النساء صدقتهن نحلة... } الآية: قال ابن عباس وغيره: الآية خطاب للأزواج وقال أبو صالح: هي خطاب لأولياء النساء؛ لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام، وقيل: إن الآية في المتشاغرين الذين يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور.
قال * ع *: والآية تتناول هذه التأويلات الثلاث، ونحلة، أي: عطية منكم لهن، وقيل: نحلة: معناه: شرعة؛ مأخوذ من النحل، وقيل: التقدير: نحلة من الله لهن؛ قال ابن العربي: وذلك أن النحلة في اللغة: العطية عن غير عوض. انتهى.
وقوله: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا... } الآية: الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف، والمعنى: إن وهبن غير مكرهات، طيبة نفوسهن، والضمير في «منه» يعود على الصداق؛ قاله عكرمة وغيره، «ومن»: تتضمن الجنس ههنا؛ ولذلك يجوز أن تهب المهر كله.
وقوله تعالى: { هنيئا مريئا }: قال اللغويون: الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة؛: وكذلك المريء.
وقوله سبحانه: { ولا تؤتوا السفهاء أمولكم } ، قال أبو موسى الأشعري وغيره: نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه، كان من كان، وقوله: { أمولكم } ، يريد: أموال المخاطبين؛ قاله أبو موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وغيرهم، وقال ابن جبير: يريد أموال السفهاء، وأضافها إلى المخاطبين، إذ هى كأموالهم، و { قياما } جمع قيمة.
وقوله تعالى: { وارزقوهم فيها... } الآية: قيل: معناه: فيمن تلزم الرجل نفقته، وقيل: في المحجورين من أموالهم، و { معروفا }: قيل: معناه: ادعوا لهم، وقيل: معناه: عدوهم وعدا حسنا، أي: إن رشدتم، دفعنا لكم أموالكم، ومعنى اللفظة: كل كلام تعرفه النفوس، وتأنس إليه، ويقتضيه الشرع.
[4.6-7]
وقوله: { وابتلوا اليتمى... } الآية: الابتلاء: الاختبار، و { بلغوا النكاح }: معناه: بلغوا مبلغ الرجال بحلم أو حيض، أو غير ذلك، ومعناه: جربوا عقولهم، وقرائحهم، وتصرفهم، و { ءانستم }: معناه: علمتم، وشعرتم، وخبرتم، ومالك (رحمه الله) يرى الشرطين البلوغ والرشد المختبر، وحينئذ يدفع المال.
قال * ع *: والبلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط، ولكنها حالة الغالب على بني آدم؛ أن تلتئم عقولهم فيها، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه، فقال: إذا بلغ ذلك الوقت، فلينظر إلى الشرط، وهو الرشد حينئذ؛ وفصاحة الكلام تدل على ذلك؛ لأن التوقيت بالبلوغ جاء ب «إذا»، والمشروط جاء ب «إن» التي هي قاعدة حروف الشرط، «وإذا» ليست بحرف شرط إلا في ضرورة الشعر، قال ابن عباس: الرشد في العقل وتدبير المال لا غير؛ وهو قول ابن القاسم في مذهبنا.
وقال الحسن، وقتادة: الرشد في العقل والدين؛ وهو رواية أيضا عن مالك.
وقوله تعالى: { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا }: نهي منه سبحانه للأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم ، والإسراف: الإفراط في الفعل، والسرف: الخطأ في مواضع الإنفاق، وبدارا: معناه: مبادرة كبرهم، أي أن الوصي يستغنم مال محجوره، وأن يكبروا: نصب ب «بدار»، ويجوز أن يكون التقدير مخافة أن يكبروا.
وقوله تعالى: { ومن كان غنيا فليستعفف } ، يقال: عف الرجل عن الشيء، واستعف، إذا أمسك، فأمر الغني بالإمساك عن مال اليتيم؛ وأباح الله للوصي الفقير أن يأكل من مال يتيمه بالمعروف.
واختلف العلماء في حد { المعروف } ، فقال ابن عباس وغيره: إنما يأكل الوصي بالمعروف؛ إذا شرب من اللبن، وأكل من التمر بما يهنأ الجرباء، ويلط الحوض، ويجد التمر، وما أشبهه، قلت: يقال للقطران: الهنا؛ في لغة العرب؛ كذا رأيته منصوصا عليه.
وقوله تعالى: { فإذا دفعتم إليهم أمولهم فأشهدوا عليهم }: أمر من الله تعالى بالتحرز والحزم، وهذا هو الأصل في الإشهاد في المدفوعات كلها؛ إذا كان حبسها أولا معروفا.
قال * ع *: والأظهر أن { حسيبا } هنا: معناه: حاسبا أعمالكم، ومجازيا بها، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق.
وقوله سبحانه: { للرجال نصيب مما ترك الولدان والأقربون... } الآية: قال قتادة وغيره: سبب نزول هذه الآية أن العرب كان منها من لا يورث النساء، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرمح، وقاتل بالسيف.
[4.8]
وقوله تعالى: { وإذا حضر القسمة أولوا القربى... } الآية: اختلف فيمن خوطب بهذه الآية، فقيل: الخطاب للوارثين، وقيل: للمحتضرين؛ والمعنى: إذا حضركم الموت، أيها المؤمنون، وقسمتم أموالكم بالوصية، وحضركم من لا يرث من ذوي القرابة، واليتامى، فارزقوهم منه؛ قاله ابن عباس وغيره.
واختلف، هل هي منسوخة بآية المواريث، أو هي محكمة؟ وعلى أنها محكمة، فهل الأمر على الوجوب، فيعطى لهم ما خف، أو على الندب؟ خلاف.
والضمير في قوله: { فارزقوهم } ، وفي قوله: { لهم }: عائد على الأصناف الثلاثة، والقول المعروف: كل ما يتأنس به؛ من دعاء، أو عدة، أو غير ذلك.
[4.9]
وقوله تعالى: { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم... } الآية: اختلف، من المراد في هذه الآية؟ فقال ابن عباس وغيره: المراد: من حضر ميتا حين يوصي، فيقول له: قدم لنفسك، وأعط لفلان وفلان، ويؤذي الورثة بذلك، فكأن الآية تقول لهم: كما كنتم تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم، ولا تحملوه على تبذير ماله، وتركهم عالة، وقال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس ذلك، وهو أن يقول للمحتضر: أمسك على ورثتك، وأبق لولدك، وينهاه عن الوصية، فيضر بذلك ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وكل من يستحق أن يوصى له؛ فقيل لهم: كما كنتم تخشون على ذريتكم، وتسرون بأن يحسن إليهم؛ فكذلك فسددوا القول في جهة اليتامى والمساكين.
قال * ع *: والقولان لا يطردان في كل الناس، بل الناس صنفان؛ يصلح لأحدهما القول الواحد، وللآخر القول الثاني؛ وذلك أن الرجل، إذا ترك ورثة أغنياء، حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين، حسن أن يندب إلى الترك لهم، والاحتياط؛ فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين، فالمراعى إنما هو الضعف، فيجب أن يمال معه.
وقال ابن عباس أيضا: المراد بالآية: ولاة الأيتام، فالمعنى: أحسنوا إليهم، وسددوا القول لهم، واتقوا الله في أكل أموالهم؛ كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم خلاف ذلك.
وقالت: فرقة: بل المراد جميع الناس، فالمعنى: أمرهم بالتقوى في الأيتام، وأولاد الناس، والتسديد لهم في القول، وإن لم يكونوا في حجورهم؛ كما يريد كل أحد أن يفعل بولده بعده، والسديد: معناه: المصيب للحق.
[4.10]
وقوله تعالى: { إن الذين يأكلون أمول اليتمى ظلما... } الآية: أكثر الناس أن الآية نزلت في الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من أموال اليتامى، وهي تتناول كل آكل، وإن لم يكن وصيا، وورد في هذا الوعيد أحاديث؛ منها: حديث أبي سعيد الخدري، قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم، عن ليلة أسري به، قال:
" رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار تخرج من أسافلهم، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ".
قلت: تأمل (رحمك الله) صدر هذه السورة معظمه إنما هو في شأن الأجوفين البطن والفرج مع اللسان، وهما المهلكان، وأعظم الجوارح آفة وجناية على الإنسان، وقد روينا عن مالك في «الموطأ»، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
" من وقاه الله شر اثنين، ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه ".
قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد»: ومعلوم أنه أراد صلى الله عليه وسلم ما بين لحييه: اللسان، وما بين رجليه: الفرج، والله أعلم.
ولهذا أردف مالك حديثه هذا بحديثه عن زيد بن أسلم، عن أبيه؛ أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر (رضي الله عنه)، وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه، غفر الله لك، فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد، قال أبو عمر: وفي اللسان آثار كثيرة، ثم قال أبو عمر: وعن أبي هريرة: أن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان: البطن، والفرج، ثم أسند أبو عمر عن سهل ابن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من يتكفل لي بما بين لحييه وما بين رجليه، وأضمن له الجنة "
، ومن طريق جابر نحوه. انتهى.
والصلى: هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها، والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره، وأهل جهنم لا تذهبهم النار، فهم فيها صالون (أعاذنا الله منها بجوده وكرمه)، والسعير: الجمر المشتعل. وهذه آية من آيات الوعيد، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة؛ لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم.
[4.11]
وقوله تعالى: { يوصيكم الله في أولدكم... } الآية: تتضمن الفرض والوجوب، قيل: نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع.
وقيل: بسبب جابر بن عبد الله.
وقوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين } أي: حظ مثل حظ الأنثيين.
وقوله: { فوق اثنتين } ، معناه: اثنتين فما فوقهما تقتضي ذلك قوة الكلام، وأما الوقوف مع اللفظ، فيسقط معه النص على الاثنتين، ويثبت الثلثان لهما؛ بالإجماع، ولم يحفظ فيه خلاف إلا ما روي عن ابن عباس؛ أنه يرى لهما النصف ، ويثبت لهما أيضا ذلك بالقياس على الأختين؛ وبحديث الترمذي؛ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى للابنتين بالثلثين».
وقوله سبحانه: { فإن لم يكن له ولد }: المعنى: ولا ولد ولد، ذكرا كان أو أنثى، { فلأمه الثلث } ، أي: وللأب الثلثان.
وقوله تعالى: { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } ، أي: كانوا أشقاء أو للأب أو للأم، والإجماع على أنهم لا يأخذون السدس الذي يحجبون الأم عنه؛ وكذا أجمعوا على أن أخوين فصاعدا يحجبون الأم عنه إلا ما روي عن ابن عباس؛ من أن الأخوين في حكم الواحد.
وقدم الوصية في اللفظ؛ اهتماما بها، وندبا إليها؛ إذ هي أقل لزوما من الدين؛ وأيضا: قدمها لأن الشرع قد حض عليها فلا بد منها، والدين قد يكون وقد لا يكون؛ وأيضا: قدمها إذ هي حظ مساكين وضعاف، وأخر الدين؛ لأنه حق غريم يطلبه بقوة، وله فيه مقال، وأجمع العلماء على أن الدين مقدم على الوصية، والإجماع على أنه لا يوصى بأكثر من الثلث، واستحب كثير منهم ألا يبلغ الثلث.
وقوله تعالى: { ءبآؤكم وأبناؤكم } رفع بالابتداء، والخبر مضمر، تقديره: هم المقسوم عليهم، أو هم المعطون، وهذا عرض للحكمة في ذلك، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورثون على غير هذه الصفة.
قال ابن زيد: { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } ، يعني: في الدنيا والآخرة، قال الفخر: وفي الآية إشارة إلى الانقياد إلى الشرع، وترك ما يميل إليه الطبع. انتهى.
[4.12-14]
وقوله تعالى: { ولكم نصف ما ترك أزوجكم إن لم يكن لهن ولد... } الآية: الولد هنا في هذه الآية، وفي التي بعدها: هم بنو الصلب، وبنو ذكورهم، وإن سفلوا، والكلالة: خلو الميت عن الوالد والولد؛ هذا هو الصحيح.
وقوله تعالى: { وله أخ أو أخت... } الآية: الإجماع على أن الأخوة في هذه الآية للأم، وأما حكم سائر الإخوة سواهم، فهو المذكور في آخر السورة.
وقرأ سعد بن أبي وقاص: «وله أخ أو أخت لأمه»، والأنثى والذكر في هذه النازلة سواء، بإجماع.
وقوله سبحانه: { غير مضار } ، قال ابن عباس: «الضرار في الوصية من الكبائر» ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أبو هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من ضار في وصيته، ألقاه الله تعالى في واد في جهنم ".
قال * ع *: ووجوه المضارة كثيرة؛ من ذلك: أن يقر بحق ليس عليه، أو يوصي بأكثر من ثلثه، أو لوارثه.
قال * ص *: { غير مضار }: منصوب على الحال: أي: غير مضار ورثته. انتهى.
قلت: وتقدير أبي حيان: «ورثته» يأباه فصاحة ألفاظ الآية؛ إذ مقتضاها العموم، فلو قال: «غير مضار ورثة، أو غيرهم»، لكان أحسن، لكن الغالب مضارة الورثة، فلهذا قدرهم.
وقوله تعالى: { تلك حدود الله... } الآية: «تلك»: إشارة إلى القسمة المتقدمة في المواريث، وباقي الآية بين.
[4.15-16]
وقوله تعالى: { والتي يأتين الفحشة من نسائكم... } الآية: الفاحشة؛ في هذا الموضع: الزنا، وقوله: { من نسائكم } ، إضافة في معناها الإسلام، وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة لا تتم إلا بأربعة شهداء، تغليظا على المدعي، وسترا على العباد.
قلت: ومن هذا المعنى اشتراط رؤية كذا في كذا؛ كالمرود في المكحلة.
قال * ع *: وكانت أول عقوبة الزناة الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية النور وبالرجم في الثيب؛ قاله عبادة بن الصامت وغيره، وعن عمران بن حصين؛ أنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه الوحي، ثم أقلع عنه، ووجهه محمر، فقال:
" قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم "
، خرجه مسلم، وهو خبر آحاد، ثم ورد في الخبر المتواتر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم، ولم يجلد، فمن قال: إن السنة المتواترة تنسخ القرآن، جعل رجم الرسول دون جلد ناسخا لجلد الثيب، وهذا الذي عليه الأمة؛ أن السنة المتواترة تنسخ القرآن؛ إذ هما جميعا وحي من الله سبحانه، ويوجبان جميعا العلم والعمل.
ويتجه عندي في هذه النازلة بعينها أن يقال: إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه، وبقاء حكمه في قوله تعالى: «الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة»، وهذا نص في الرجم، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة، والحديث بكماله في مسلم، والسنة هي المبينة، ولفظ «البخاري»: «أو يجعل الله لهن سبيلا؛ الرجم للثيب، والجلد للبكر». انتهى.
وقوله تعالى: { والذان يأتينها منكم... } الآية: قال مجاهد وغيره: الآية الأولى في النساء عموما، وهذه في الرجال، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة عامة؛ ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى: { من نسائكم } ، وقوله في الثانية: { منكم } ، وأجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان؛ كما تقدم.
[4.17-18]
وقوله تعالى: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهلة... } الآية.
قال * ص *: التوبة: مبتدأ؛ على حذف مضاف، أي: قبول التوبة. انتهى.
قال * ع *: «إنما»: حاصرة، وهو مقصد المتكلم بها أبدا، فقد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر؛ كقوله تعالى:
إنما الله إله وحد
[النساء:171]، وقد لا تصادف ذلك؛ كقوله: «إنما الشجاع عنترة»، وهي في هذه الآية حاصرة؛ إذ ليست التوبة إلا لهذا الصنف المذكور، وتصح التوبة، وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة، وتصح أيضا التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب.
وقوله تعالى: { على الله } ، أي: على فضل الله ورحمته لعباده، وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم:
" ما حق العباد على الله "
، إنما معناه: ما حقهم على فضله ورحمته، والعقيدة أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلا، و { السوء }؛ في هذه الآية: يعم الكفر والمعاصي، وقوله تعالى: { بجهالة }: معناه: بسفاهة، وقلة تحصيل أدى إلى المعصية، وليس المعنى أن تكون الجهالة بأن ذلك الفعل معصية؛ لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا فاسد إجماعا، وما ذكرته في الجهالة قاله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكر ذلك عنهم أبو العالية، وقال قتادة: اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية، فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا؛ وقال به ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وروي عن مجاهد والضحاك؛ أنهما قالا: الجهالة هنا العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة.
قال * ع *: يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله سبحانه، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى:
أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو
[الحديد:20].
واختلف المتأولون في قوله تعالى: { من قريب }.
فقال ابن عباس والسدي: معنى ذلك: قبل المرض والموت، وقال الجمهور: معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه، وروى أبو قلابة؛ أن الله تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف، ثم جرى له ما جرى، ولعن وأنظر، قال: وعزتك، لا برحت من قلبه، ما دام فيه الروح، فقال الله تعالى:
" وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح ".
قال * ع *: فابن عباس (رضي الله عنه) ذكر أحسن أوقات التوبة، والجمهور حدوا آخر وقتها، وروى بشير بن كعب، والحسن؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، ويغلب على عقله ".
قال * ع *: لأن الرجاء فيه باق، ويصح منه الندم والعزم على الترك، وقوله تعالى: { من قريب } ، إنما معناه: من قريب إلى وقت الذنب، ومدة الحياة كلها قريب، والمبادرة في الصحة أفضل، قلت: بل المبادرة واجبة.
وقوله تعالى: { وكان الله عليما } ، أي: بمن يتوب، وييسره هو سبحانه للتوبة { حكيما }: فيما ينفذه من ذلك، وفي تأخير من يؤخر حتى يهلك، ثم نفى بقوله تعالى: { وليست التوبة... } الآية: أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته، وصار في حيز اليأس؛ كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء، والغرق، فلم ينفعه ما أظهره من الإيمان؛ وبهذا قال ابن عباس وجماعة المفسرين.
قال * ع *: والعقيدة عندي في هذه الآيات: أن من تاب من قريب، فله حكم التائب، فيغلب الظن عليه؛ أنه ينعم ولا يعذب؛ هذا مذهب أبي المعالي وغيره.
وقال غيرهم: بل هو مغفور له قطعا لإخبار الله تعالى بذلك، وأبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة، ومن لم يتب حتى حضره الموت، فليس في حكم التائبين، فإن كان كافرا، فهو يخلد، وإن كان مؤمنا، فهو عاص في المشيئة، لكن يغلب الخوف عليه، ويقوى الظن في تعذيبه، ويقطع من جهة السمع؛ أن من هذه الصنيفة من يغفر الله تعالى له؛ تفضلا منه لا يعذبه.
وأعلم الله تعالى أيضا؛ أن الذين يموتون، وهم كفار؛ فلا مستعتب لهم، ولا توبة في الآخرة.
وقوله تعالى: { أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما }: إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون، وهم كفار، فقط، فالعذاب عذاب خلود مؤبد، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه الوعيد ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت، فهو في جهة هؤلاء عذاب لا خلود معه، { وأعتدنا } معناه: يسرناه وأحضرناه.
[4.19-21]
قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها... } الآية: قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية، إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، وإن شاؤوا زوجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها الزواج، فنزلت الآية في ذلك.
وقال بعض المتأولين: معنى الآية: لا يحل لكم عضل النساء اللواتي أنتم أولياء لهن، وإمساكهن دون تزويج؛ حتى يمتن، فتورث أموالهن.
قال * ع *: فعلى هذا القول: فالموروث مالها، لا هي؛ وروي نحو هذا عن ابن عباس.
وقوله تعالى: { ولا تعضلوهن... } الآية: قال ابن عباس وغيره: هي أيضا في أولئك الأولياء الذين كانوا يرثون المرأة، لأنهم كانوا يتزوجونها؛ إذا كانت جميلة، ويمسكونها حتى تموت؛ إذا كانت دميمة؛ وقال نحوه الحسن، وعكرمة، وقال ابن عباس أيضا: هي في الأزواج في الرجل يمسك المرأة، ويسيء عشرتها؛ حتى تفتدي منه؛ فذلك لا يحل له، وقال مثله قتادة، وهو أقوى الأقوال؛ ودليل ذلك: قوله: { إلا أن يأتين بفاحشة } ، وإذا أتت بفاحشة، فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها؛ إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج على ما سنبينه الآن (إن شاء الله)، وكذلك قوله: { عاشروهن... } إلى آخر الآية، يظهر منه تقوية ما ذكرته.
واختلف في معنى «الفاحشة» هنا، فقال الحسن بن أبي الحسن: هو الزنا، قال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل، فلا بأس أن يضارها، ويشق عليها؛ حتى تفتدي منه، وقال السدي: إذا فعلن ذلك، فخذوا مهورهن.
قلت: وحديث المتلاعنين يضعف هذا القول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
" فذاك بما استحللت من فرجها... "
الحديث.
وقال ابن عباس وغيره: الفاحشة في هذه الآية: البغض والنشوز؛ فإذا نشزت، حل له أن يأخذ مالها.
قال * ع *: وهو مذهب مالك.
وقال قوم: الفاحشة: البذاء باللسان، وسوء العشرة قولا وفعلا، وهذا في معنى النشوز.
قال * ع *: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال.
وقوله تعالى: { وعاشروهن بالمعروف }: أمر يعم الأزواج والأولياء، ولكن المتلبس في الأغلب بهذا الأمر الأزواج، والعشرة: المخالطة والممازجة.
وقوله تعالى: { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا } ، قال السدي: الخير الكثير في المرأة الولد، وقال نحوه ابن عباس.
قال * ع *: ومن فصاحة القرآن العموم الذي في لفظة «شيء»؛ لأنه يطرد هذا النظر في كل ما يكرهه المرء مما يجمل الصبر عليه، ويحسن، إذ عاقبة الصبر إلى خير، إذا أريد به وجه الله.
وقوله تعالى: { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج.
.. } الآية: لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها، عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج، والمنع من أخذ مالها مع ذلك.
وقال بعض الناس: يؤخذ من الآية جواز المغالاة بالمهور، وقال قوم: لا تعطي الآية ذلك؛ لأن التمثيل إنما جاء على جهة المبالغة.
والبهتان: مصدر في موضع الحال، ومعناه: مبهتا، ثم وعظ تعالى عباده، و { أفضى }: معناه: باشر، وقال مجاهد وغيره: الإفضاء في هذه الآية: الجماع، قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكني.
واختلف في المراد بالميثاق الغليظ.
فقال الحسن وغيره: هو قوله تعالى:
فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن
[البقرة:229] وقال مجاهد، وابن زيد: الميثاق الغليظ: عقدة النكاح، وقول الرجل: نكحت، وملكت النكاح، ونحوه ، فهذه التي بها تستحل الفروج.
وقال عكرمة، والربيع: الميثاق الغليظ يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ".
[4.22]
قوله تعالى: { ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف }: سبب الآية ما اعتادته بعض قبائل العرب أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه، وقد كان في العرب من تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة.
واختلف في مقتضى ألفاظ الآية.
فقالت فرقة: قوله: { ما نكح } ، يريد: النساء، أي: لا تنكحوا النساء اللواتي نكح آباؤكم، وقوله: { إلا ما قد سلف } ، معناه: ولكن ما قد سلف، فدعوه، وقال بعضهم: المعنى: لكن ما قد سلف، فهو معفو عنكم لمن كان واقعه، فكأنه قال: ولا تفعلوا، حاشا ما قد سلف، وقالت فرقة: معناه: لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من عقودهم الفاسدة إلا ما قد سلف منكم من تلك العقود الفاسدة، فمباح لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذا كان مما يقرر الإسلام عليه، وقيل: إلا ما قد سلف، فهو معفو عنكم، وقال ابن زيد: معنى الآية: النهي عن أن يطاء الرجل امرأة وطئها الأب، إلا ما سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا بالنساء، لا على وجه المناكحة، فذلك جائز لكم؛ لأن ذلك الزنا كان فاحشة، والمقت: البغض والاحتقار، بسبب رذيلة يفعلها الممقوت، { وساء سبيلا }: أي: بئس الطريق والمنهج لمن يسلكه؛ إذ عاقبته إلى عذاب الله.
قال * ص *: «ساء» للمبالغة في الذم؛ ك «بئس»، وسبيلا: تفسيره، والمخصوص بالذم محذوف، أي: سبيل هذا النكاح؛ كقوله تعالى:
بئس الشراب
[الكهف: 29]، أي: ذلك الماء انتهى.
[4.23]
وقوله سبحانه: { حرمت عليكم أمهتكم... } الآية: حكم حرم الله به سبعا من النسب، وستا من بين رضاع وصهر، وألحقت السنة المتواترة سابعة، وهي الجمع بين المرأة وعمتها، ومضى عليه الإجماع، وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية، وقال عمرو ابن سالم مثل ذلك، وجعل السابعة قوله تعالى:
والمحصنات
[النساء:24].
وقوله تعالى : { وأمهات نسائكم } ، أي: سواء دخل بالبنت، أو لم يدخل، فبالعقد على البنت حرمت الأم؛ هذا الذي عليه الجمهور.
وقوله تعالى: { وربائبكم التي في حجوركم } ذكر الأغلب من هذه الأمور؛ إذ هذه حالة الربيبة في الأكثر، وهي محرمة، وإن لم تكن في الحجر، ويقال: حجر (بكسر الحاء، وفتحها)، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر.
وقوله: { التي دخلتم بهن } ، قال ابن عباس وغيره: الدخول هنا الجماع، وجمهور العلماء يقولون: إن جميع أنواع التلذذ بالأم يحرم الإبنة؛ كما يحرمها الجماع، والحلائل: جمع حليلة؛ لأنها تحل من الزوج حيث حل، فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم؛ إلى أنها من لفظة «الحلال»، فهي حليلة بمعنى محللة.
وقوله تعالى: { الذين من أصلبكم } يخرج من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب، وحرمت حليلة الابن من الرضاع، وإن لم يكن للصلب بالإجماع المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم:
" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
وقوله تعالى: { وأن تجمعوا بين الأختين }: لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح، ولا خلاف في جواز جمعهما بالملك، ومذهب مالك؛ أن له أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى، فيلزمه أن يحرم فرج الأولى بعتق، أو كتابة، أو غير ذلك؛ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها "
، وأجمعت الأمة على ذلك.
وقوله تعالى: { إلا ما قد سلف }: استثناء منقطع، معناه: لكن ما قد سلف من ذلك، ووقع وأزاله الإسلام، فإن الله تعالى يغفره، والإسلام يجبه.
[4.24-25]
وقوله تعالى: { والمحصنت } عطفا على المحرمات، قيل: والتحصن التمنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل: فتستعمله في الزواج؛ لأن ملك الزوج منعة وحفظ، وتستعمله في الحرية؛ لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا ، والحرة بخلاف ذلك؛ ألا ترى إلى قول هند: «وهل تزني الحرة»، وتستعمله في الإسلام؛ لأنه حافظ، وتستعمله في العفة؛ لأنها إذا ارتبط بها إنسان، وظهرت على شخص ما، وتخلق بها، فهي منعة وحفظ.
وحيثما وقعت اللفظة في القرآن، فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض؛ كما سيأتي بيانه في أماكنه (إن شاء الله).
فقوله سبحانه في هذه الآية: { والمحصنت } قال فيه ابن عباس وغيره: هن ذوات الأزواج، محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي، وروي عن ابن شهاب؛ أنه سئل عن هذه الآية: { والمحصنت من النساء } ، فقال: نرى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج، والعفائف من حرائر ومملوكات، ولم يحل شيء من ذلك إلا بنكاح، أو شراء، أو تملك، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحصان، ولفظ ملك اليمين، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا، قال عبيدة السلماني وغيره: قوله سبحانه: { كتب الله عليكم }: إشارة إلى ما ثبت من القرآن من قوله سبحانه:
مثنى وثلث ورباع
[النساء:3]؛ وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله: { كتب الله عليكم } ، إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس، وبين ما كانت الجاهلية تفعله.
قال الفخر: و { كتب الله عليكم }: مصدر من غير لفظ الفعل، قال الزجاج: ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر، ويكون { عليكم } خبرا له، فيكون المعنى: الزموا كتاب الله. انتهى.
وفي «التمهيد» لأبي عمر بن عبد البر: { كتب الله عليكم }: أي: حكمه فيكم وقضاؤه عليكم. انتهى.
وقوله سبحانه: { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ، قال عطاء وغيره: المعنى: وأحل لكم ما وراء من حرم، قلت: أي: على ما علم تفصيله من الشريعة.
قال * ع *: و { أن تبتغوا بأمولكم }: لفظ يجمع التزوج والشراء، و { محصنين }: معناه: متعففين، أي: تحصنون أنفسكم بذلك، { غير مسفحين } ، أي: غير زناة، والسفاح: الزنا.
وقوله سبحانه: { فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن } ، قال ابن عباس وغيره: المعنى: فإذا استمتعتم بالزوجة، ووقع الوطء، ولو مرة، فقد وجب إعطاء الأجر، وهو المهر كله ، وقال ابن عباس أيضا وغيره: إن الآية نزلت في نكاح المتعة، قال ابن المسيب: ثم نسخت.
قال * ع *: وقد كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به } ، أي: من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة، ومن قال بأن الآية المتقدمة في المتعة، قال: الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة، وزيادة في الأجر جائز.
وقوله تعالى: { ومن لم يستطع منكم طولا... } الآية: قال ابن عباس وغيره: الطول هنا: السعة في المال؛ وقاله مالك في «المدونة»، فعلى هذا التأويل لا يصح للحر أن يتزوج الأمة إلا باجتماع شرطين: عدم السعة في المال، وخوف العنت، وهذا هو نص مالك في «المدونة».
قال مالك في «المدونة»: «وليست الحرة تحته بطول، إن خشي العنت»، وقال في «كتاب محمد» ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول.
قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وهو ظاهر القرآن، ونحوه عن ابن حبيب.
وقال أبو حنيفة: وجود الحرة تحته لا يجوز معه نكاح الأمة؛ وقاله الطبري، وتقول: طال الرجل طولا (بفتح الطاء)؛ إذا تفضل، ووجد، واتسع، وطولا (بضمها): في ضد القصر، و { المحصنت } في هذا الموضع: الحرائر والفتاة، وإن كانت في اللغة واقعة على الشابة، أية كانت، فعرفها في الإماء، وفتى كذلك، و { المؤمنت }؛ في هذا الموضع: صفة مشترطة عند مالك، وجمهور أصحابه، فلا يجوز نكاح أمة كافرة عندهم؛ قلت: والعلة في منع نكاح الأمة ما يؤول إليه الحال من استرقاق الولد.
وقوله تعالى: { والله أعلم بإيمنكم بعضكم من بعض } ، ومعناه: والله أعلم ببواطن الأمور، ولكم ظواهرها، فإذا كانت الفتاة ظاهرها الإيمان، فنكاحها صحيح، وفي اللفظ أيضا: تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر، فلا تعجبوا بمعنى الحرية، والمقصد بهذا الكلام أن الناس سواء، بنو الحرائر، وبنو الإماء، أكرمهم عند الله أتقاهم، وفي هذا توطئة لنفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة.
وقوله تعالى: { فانكحوهن بإذن أهلهن } ، معناه : بولاية أربابهن المالكين، { وءاتوهن أجورهن } ، أي: مهورهن، { بالمعروف }: معناه: بالشرع والسنة، و { محصنت }: الظاهر أنه بمعنى عفيفات.
قال * ص *: محصنات: منصوب على الحال، والظاهر أن العامل وآتوهن، ويجوز أن يكون العامل: فانكحوهن محصنات، أي: عفائف. انتهى.
والمسافحات: الزواني المتبذلات اللواتي هن سوق للزنا، ومتخذات الأخدان هن المستترات اللواتي يصحبن واحدا واحدا، ويزنين خفية، وهذان كانا نوعين في زنا الجاهلية؛ قاله ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى: { فإذا أحصن... } الآية، أي: تزوجن، قال الزهري وغيره: فالمتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث، وفي مسلم والبخاري، «أنه قيل: يا رسول الله، الأمة إذا زنت، ولم تحصن»؟ فأوجب عليها الحد» والفاحشة، هنا الزنا.
قال * ص *: وجواب: «إذا»: «فإن أتين»، وجوابه. انتهى.
و { المحصنت } في هذه الآية: الحرائر؛ إذ هي الصفة المشروطة في الحد الكامل، والرجم لا يتنصف، فلم يرد في الآية بإجماع، والعنت في اللغة: المشقة.
قال ابن عباس وغيره: والمقصد به هنا الزنا.
وقوله تعالى: { وأن تصبروا خير لكم } يعني: عن نكاح الإماء؛ قاله ابن عباس وغيره: وهذا ندب إلى الترك؛ وعلته ما يؤدي إليه نكاح الإماء من استرقاق الولد ومهنتهن.
[4.26-28]
وقوله تعالى: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم... } الآية: التقدير عند سيبويه: يريد الله لأن يبين لكم، ويهديكم، بمعنى: يرشدكم، والسنن: الطرق، ووجوه الأمور، وأنحاؤها، والذين من قبلنا: هم المؤمنون من كل شريعة.
وقوله سبحانه: { والله يريد أن يتوب عليكم... } الآية: مقصد هذه الآية الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله تعالى توطئة مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات، واختلف المتأولون في تعيين متبعي الشهوات، فقال مجاهد: هم الزناة، وقال السدي: هم اليهود والنصارى، وقالت فرقة: هم اليهود خاصة؛ لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، وقال ابن زيد: ذلك على العموم في هؤلاء، وفي كل متبع شهوة؛ ورجحه الطبري.
وقوله تعالى: { يريد الله أن يخفف عنكم... } الآية: أي: لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء، خففنا عنكم بإباحة الإماء، قاله مجاهد وغيره، وهو ظاهر مقصود الآية، ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية مخرج التفضل؛ لأنها تتناول كل ما خففه الله سبحانه عن عباده، وجعله الدين يسرا، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما؛ حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب.
[4.29-31]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل إلا أن تكون تجرة... } الآية: الاستثناء منقطع، المعنى: لكن إن كانت تجارة، فكلوها، وأخرج البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله "
انتهى.
وقوله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ، أجمع المتأولون على أن المقصود بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضا، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل، أو بأن يحملها على غرر، ربما مات منه، فهذا كله يتناوله النهي، وقد احتج عمرو بن العاصي بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد؛ خوفا على نفسه منه، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه.
وقوله تعالى: { ومن يفعل ذلك عدونا وظلما... } الآية: اختلف في المشار إليه ب «ذلك».
فقال عطاء: «ذلك» عائد على القتل؛ لأنه أقرب مذكور، وقالت فرقة: «ذلك» عائد على أكل المال بالباطل، وقتل النفس، وقالت فرقة: «ذلك»: عائد على كل ما نهي عنه من أول السورة، وقال الطبري: «ذلك» عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى:
يأيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها
[النساء:19]؛ لأن كل ما نهي عنه قبله إلى أول السورة، قرن به وعيد.
قال ابن العربي في «أحكامه» والقول الأول أصح، وما عداه محتمل. انتهى.
والعدوان: تجاوز الحد.
قال * ص *: { عدوانا وظلما }: مصدران في موضع الحال، أي: معتدين وظالمين، أبو البقاء: أو مفعول من أجله. انتهى.
واختلف العلماء في الكبائر.
فقال ابن عباس وغيره: الكبائر: كل ما ورد عليه وعيد بنار، أو عذاب، أو لعنة، أو ما أشبه ذلك.
وقال ابن عباس أيضا: كل ما نهى الله عنه ، فهو كبير، وعلى هذا القول أئمة الكلام؛ القاضي، وأبو المعالي، وغيرهما؛ قالوا: وإنما قيل: صغيرة؛ بالإضافة إلى أكبر منها، وإلا فهي في نفسها كبيرة؛ من حيث المعصي بالجميع واحد، واختلف العلماء في هذه المسألة، فجماعة من الفقهاء والمحدثين يرون أن باجتناب الكبائر تكفر الصغائر قطعا، وأما الأصوليون، فقالوا: محمل ذلك على غلبة الظن، وقوة الرجاء، لا على القطع، ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر، والآية التي قيدت الحكم، فترد إليها هذه المطلقات كلها: قوله تعالى:
ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء: 48 و116].
و { كريما }: يقتضي كرم الفضيلة، ونفي العيوب؛ كما تقول: ثوب كريم، وهذه آية رجاء، وروى أبو حاتم البستي في «المسند الصحيح» له، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري؛
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، ثم قال: «والذي نفسي بيده»، ثلاث مرات، ثم سكت، فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة؛ حتى إنها لتصفق، ثم تلا: { إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم... } الآية» "
انتهى من " التذكرة " للقرطبي، ونحوه ما رواه مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر "
؛ قال القرطبي: وعلى هذا جماعة أهل التأويل، وجماعة الفقهاء، وهو الصحيح؛ أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعد الله الصدق، وقوله الحق سبحانه، وأما الكبائر، فلا تكفرها إلا التوبة منها. انتهى.
قلت: وفي «صحيح مسلم»، عن أبي هريرة (رضي الله عنه)؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات "
انتهى.
[4.32-33]
وقوله تعالى: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض... } الآية: سبب الآية أن النساء قلن: ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث، وشاركناهم في الغزو، وروي أن أم سلمة قالت ذلك، أو نحوه، وقال الرجال: ليت لنا في الآخرة حظا زائدا على النساء؛ كما لنا عليهن في الدنيا، فنزلت الآية.
قال * ع *: لأن في تمنيهم هذا تحكما على الشريعة وتطرقا إلى الدفع في صدر حكم الله تعالى، فهذا نهي عن كل تمن بخلاف حكم شرعي، وأما التمني في الأعمال الصالحة، فذلك هو الحسن، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" وددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا... "
الحديث. وفي غير موضع؛ ولقوله تعالى: { وسألوا الله من فضله } [النساء: 32]. قال القشيري: سمعت الشيخ أبا علي يقول: من علامات المعرفة ألا تسأل حوائجك، قلت أو كثرت إلا من الله تعالى مثل موسى اشتاق إلى الرؤية، فقال:
رب أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143]، واحتاج مرة إلى رغيف، فقال:
رب إني لمآ أنزلت إلي من خير فقير
[القصص:24] انتهى من «التحبير».
وقوله تعالى: { للرجال نصيب... } الآية: قالت فرقة: معناه: من الأجر، والحسنات، فكأنه قيل للناس: لا تتمنوا في أمر مخالف لما حكم الله به؛ لاختيار ترونه أنتم، فإن الله تعالى قد جعل لكل أحد نصيبا من الأجر والفضل بحسب اكتسابه فيما شرع له، وهذا قول حسن، وفي تعليقه سبحانه النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير.
وقوله سبحانه: { واسألوا الله من فضله } ، قال ابن جبير وغيره: هذا في فضل العبادات، والدين، لا في فضل الدنيا، وقال الجمهور: ذلك على العموم، وهو الذي يقتضيه اللفظ، فقوله: { وسألوا الله } يقتضي مفعولا ثانيا، تقديره: واسألوا الله الجنة أو كثيرا من فضله.
وقوله تعالى: { ولكل جعلنا موالي... } أي: ولكل أحد، قال ابن عباس وغيره، الموالي هنا العصبة والورثة، والمعنى: ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون.
وقوله تعالى: { والذين } رفع بالابتداء، والخبر في قوله: { فآتوهم نصيبهم }.
واختلف من المراد ب «الذين».
فقال الحسن وابن عباس وابن جبير وغيرهم: هم الأحلاف، فإن العرب كانت تتوارث بالحلف، ثم نسخت بآيات الأنفال:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
[الأنفال: 75].
وقال ابن عباس أيضا: هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم، كانوا يتوارثون بهذه الآية؛ حتى نسخ ذلك بما تقدم.
وقال ابن المسيب: هم الذين كانوا يتبنون.
قال * ع *: ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف.
[4.34]
وقوله: { الرجال قوامون } بناء مبالغة، وهو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه، وحفظه، فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وللرجال عليهن درجة؛ لفضل القوامية، فعليه أن يبذل المهر والنفقة، وحسن العشرة، ويحجبها ويأمرها بطاعة الله تعالى، وينهي إليها شعائر الإسلام؛ من صلاة، وصيام؛ وما وجب على المسلمين، وعليها الحفظ لماله، والإحسان إلى أهله، والالتزام لأمره في الحجبة وغيرها إلا بإذنه، وقبول قوله في الطاعات. انتهى.
و " ما " مصدرية في الموضعين، والصلاح في قوله: { فالصلحت } هو الصلاح في الدين، و { قنتت }: معناه: مطيعات لأزواجهن، أو لله في أزواجهن، { حفظت للغيب }: معناه: لكل ما غاب عن علم زوجها مما استرعيته، وروى أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" خير النساء امرأة، إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها "
، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
وقوله: { بما حفظ الله }: «ما»: مصدرية، تقديره: بحفظ الله، ويصح أن تكون بمعنى «الذي» ويكون العائد في «حفظ» ضمير نصب، أي: بالذي حفظه الله، ويكون المعنى: إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها، وإما أوامره ونواهيه للنساء، فكأنها حفظه، بمعنى أن النساء يحفظن بإزاء ذلك وبقدره.
وقوله تعالى: { والتي تخافون نشوزهن... } الآية: النشوز: أن تتعوج المرأة، ويرتفع خلقها، وتستعلي على زوجها.
{ واهجروهن في المضاجع }: قال ابن عباس: يضاجعها، ويوليها ظهره، ولا يجامعها، وقال مجاهد: جنبوا مضاجعتهن ، وقال ابن جبير: هي هجرة الكلام، أي: لا تكلموهن، وأعرضوا عنهن، فيقدر حذف، تقديره: واهجروهن في سبب المضاجع، حتى يراجعنها.
* م *: قوله: { في المضاجع } ، ذكر أبو البقاء فيه وجهين:
الأول: أن «في» على بابها من الظرفية، أي: اهجروهن في مواضع الاضطجاع، أي: اتركوا مضاجعتهن دون ترك مكالمتهن.
الثاني: أنها بمعنى السبب، أي: اهجروهن بسبب المضاجع؛ كما تقول: في هذه الجناية عقوبة. انتهى، وكونها للظرفية أظهر، والله أعلم.
والضرب في هذه الآية: هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما، ولا يشين جارحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اضربوا النساء؛ إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح "
قال عطاء: قلت عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالشراك ونحوه.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله عز وجل: { واضربوهن } ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" أيها الناس إن لكم على نسائكم حقا، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين، فلهن رزقهن، وكسوتهن بالمعروف "
وفي هذا دليل على أن الناشز لا نفقة لها ولا كسوة، وأن الفاحشة هي البذاء ليس الزنا؛ كما قال العلماء، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الضرب، وبين أنه لا يكون مبرحا، أي: لا يظهر له أثر على البدن. انتهى. قال * ع *: وهذه العظة والهجر والضرب مراتب، إن وقعت الطاعة عند إحداها، لم يتعد إلى سائرها، و { تبغوا }: معناه: تطلبوا، و { سبيلا }: أي: إلى الأذى، وهو التعنيت والتعسف بقول أو فعل، وهذا نهي عن ظلمهن، وحسن هنا الاتصاف بالعلو والكبر، أي: قدره سبحانه فوق كل قدر، ويده بالقدرة فوق كل يد؛ فلا يستعلي أحد بالظلم على امرأته، فالله تعالى بالمرصاد، وينظر إلى هذا حديث أبي مسعود،
" قال: كنت أضرب غلامي، فسمعت قائلا يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، فصرفت وجهي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اعلم أبا مسعود؛ أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد...» "
الحديث.
[4.35]
وقوله تعالى: { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا... } الآية: اختلف من المأمور بالبعثة. فقيل: الحكام، وقيل: المخاطب الزوجان، وإليهما تقديم الحكمين، وهذا في مذهب مالك، والأول لربيعة وغيره، ولا يبعث الحكمان إلا مع شدة الخوف والشقاق، ومذهب مالك وجمهور العلماء: أن الحكمين ينظران في كل شيء، ويحملان على الظالم، ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق، وهو قول علي بن أبي طالب في «المدونة» وغيرها.
وقوله: { إن يريدا إصلحا } ، قال مجاهد وغيره: المراد الحكمان، أي: إذا نصحا وقصدا الخير، بورك في وساطتهما، وقالت فرقة: المراد الزوجان، والأول أظهر، وكذلك الضمير في { بينهما } ، يحتمل الأمرين، والأظهر أنه للزوجين، والاتصاف ب { عليما خبيرا }: يناسب ما ذكر من إرادة الإصلاح.
[4.36-37]
وقوله تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالولدين إحسنا... } العبادة: التذلل بالطاعة، وإحسانا، مصدر، والعامل فيه فعل، تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وبذي القربى: هو القريب النسب من قبل الأب والأم، قال ابن عباس وغيره: والجار ذو القربى: هو القريب النسب، والجار الجنب: هو الجار الأجنبي، وقالت فرقة: الجار ذو القربى: هو الجار القريب المسكن منك، والجار الجنب هو البعيد المسكن منك، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض؛ أدناها الزوجة.
قال ابن عباس وغيره: الصاحب بالجنب: هو الرفيق في السفر.
وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن أبي ليلى وغيرهم: هو الزوجة، وقال ابن زيد: هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه، وأسند الطبري؛
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه، وهما على راحلتين، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة، فقطع قضيبين، أحدهما معوج، وخرج فأعطى صاحبه القويم، وحبس هو المعوج، فقال له الرجل: كنت، يا رسول الله، أحق بهذا، فقال له: " يا فلان، إن كل صاحب يصحب الآخر، فإنه مسئول عن صحابته، ولو ساعة من نهار "
، قلت: وأسند الحافظ محمد بن طاهر المقدسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره "
انتهى من «صفوة التصوف».
وفي الحديث الصحيح، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه "
، أخرجه البخاري، وأخرجه أيضا من طريق عائشة (رضي الله عنها) انتهى.
وابن السبيل: المسافر، وسمي ابنه؛ للزومه له، وما ملكت أيمانكم: هم العبيد الأرقاء.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وقد أمر الله سبحانه بالرفق بهم، والإحسان إليهم؛ وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إخوانكم ملككم الله رقابهم، فأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم، فأعينوهم "
انتهى.
ونفى سبحانه محبته عمن صفته الخيلاء والفخر، وذلك ضرب من التوعد، يقال: خال الرجل يخول خولا، إذا تكبر وأعجب بنفسه، وخص سبحانه هاتين الصفتين هنا؛ إذ مقتضاهما العجب والزهو، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله بالإحسان إليهم.
وقوله تعالى: { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } الآية: قالت فرقة: «الذين» في موضع نصب بدل من " من " في قوله: { من كان مختالا } ، ومعناه؛ على هذا: يبخلون بأموالهم، ويأمرون الناس، يعني، إخوانهم ومن هو مظنة طاعتهم؛ بالبخل بالأموال أن تنفق في شيء من وجوه الإحسان إلى من ذكر، { ويكتمون مآ آتاهم الله من فضله } ، يعني: من الرزق والمال، فالآية، إذن، في المؤمنين، أي: وأما الكافرون فأعد لهم عذابا مهينا، وروي أن الآية نزلت في أحبار اليهود بالمدينة؛ إذ كتموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وبخلوا به، والتوعد بالعذاب المهين لهم، و { وأعتدنا }: معناه يسرنا وأحضرنا، والعتيد: الحاضر، والمهين: الذي يقترن به خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب.
[4.38-39]
وقوله تعالى: { والذين ينفقون أمولهم رئآء الناس... } الآية: «الذين» في موضع رفع؛ على القطع، والخبر محذوف، وتقديره، بعد «اليوم الآخر»: معذبون.
والصحيح الذي عليه الجمهور أن هذه الآية في المنافقين، والقرين: فعيل بمعنى فاعل من المقارنة، وهي الملازمة، والاصطحاب، والإنسان كله يقارنه الشيطان لكن الموفق عاص له.
وقوله تعالى: { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر... } الآية: التقدير: وأي شيء عليهم، لو آمنوا، وفي هذا الكلام تفجع ما عليهم، واستدعاء جميل يقتضي حيطة وإشفاقا، { وكان الله بهم عليما }: إخبار يتضمن وعيدا، وينبه على سوء تواطئهم، أي: لا ينفعهم كتم مع علم الله بهم.
[4.40]
وقوله تعالى: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة... } الآية: مثقال: مفعال من الثقل، والذرة: الصغيرة الحمراء من النمل، وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: الذرة: رأس النملة، وقرأ ابن عباس: «مثقال نملة»؛ قال قتادة عن نفسه، ورواه عن بعض العلماء: لأن تفضل حسناتي على سيئاتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا جميعا.
وقوله سبحانه: { وإن تك حسنة }: التقدير: وإن تك زنة الذرة، وفي " صحيح مسلم " وغيره، من حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم: سلم سلم "
، وفيه:
" فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل، والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا، كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا، قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا، ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها خيرا "
، وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني في هذا الحديث، فاقرءوا إن شئتم: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } ، فيقول الله عز وجل:
" شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط... "
الحديث. انتهى.
ولفظ البخاري:
" فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار، إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم... "
الحديث.
وقرأ نافع وابن كثير: { حسنة } (بالرفع)؛ على تمام «كان»، التقدير: وإن توجد حسنة، ويضاعفها: جواب الشرط، وقرأ ابن كثير: «يضعفها»، وهو بناء تكثير يقتضي أكثر من مرتين إلى أقصى ما تريد من العدد، قال بعض المتأولين: هذه الآية خص بها المهاجرون؛ لأن الله تعالى أعلم في كتابه؛ أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار، وأعلم في هذه الآية أنها مضاعفة مرارا كثيرة؛ حسبما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرضة، وروى غيره: ألف ألف مرة، وقال بعضهم: بل وعد بذلك جميع المؤمنين.
قال * ع *: والآية تعم المؤمنين والكافرين، فأما المؤمنون، فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر، فما زاد، وأما الكافرون، فما يفعلونه من خير، فإنه تقع عليه المكافأة بنعم الدنيا، ويأتون يوم القيامة، ولا حسنة لهم، قلت: وقد ذكرنا في هذا المختصر من أحاديث الرجاء، وأحاديث الشفاعة جملة صالحة لا توجد مجتمعة في غيره على نحو ما هي فيه، عسى الله أن ينفع به الناظر فيه، ومن أعظلم أحاديث الرجاء ما ذكره عياض في «الشفا» قال: ومن حديث أنس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من شجر وحجر "
انتهى.
وهذا الحديث أخرجه النسائي، ولفظه:
" إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على الأرض من شجر وحجر... "
الحديث. انتهى من «الكوكب الدري».
و { من لدنه }: معناه: من عنده، والأجر العظيم: الجنة؛ قاله ابن مسعود وغيره، وإذا من الله سبحانه بتفضله على عبده، بلغ به الغاية، اللهم من علينا بخير الدارين بفضلك.
[4.41-42]
وقوله جلت قدرته: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا... } الآية: لما تقدم في التي قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة، حسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم، ومعنى الآية: أن الله سبحانه يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ومعنى الأمة؛ في هذه الآية: جميع من بعث إليه؛ من آمن منهم، ومن كفر، وكذلك قال المتأولون: إن الإشارة ب «هؤلاء» إلى قريش وغيرهم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية، فاضت عيناه، وكذلك ذرفت عيناه - عليه السلام - حين قرأها ابن مسعود؛ حسبما هو مذكور في الحديث الصحيح، وفي «صحيح البخاري»، عن عقبة بن عامر، قال:
" صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد صلاته على الميت بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر، فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها "
، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { لو تسوى } قالت فرقة معناه: تنشق الأرض، فيحصلون فيها، ثم تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم، وقالت فرقة: معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا ترابا كالبهائم.
وقوله تعالى: { ولا يكتمون الله حديثا }: معناه، عند طائفة: أن الكفار، لما يرونه من الهول وشدة المخاوف، يودون لو تسوى بهم الأرض، فلا ينالهم ذلك الخوف، ثم استأنف الكلام، فأخبر أنهم لا يكتمون الله حديثا، لنطق جوارحهم بذلك كله، حين يقول بعضهم
والله ربنا ما كنا مشركين
[الأنعام: 23] فيقول الله سبحانه: «كذبتم» ثم تنطق جوارحهم، فلا تكتم حديثا، وهذا قول ابن عباس.
وقالت طائفة: الكلام كله متصل و ودهم ألا يكتموا الله حديثا إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا:
والله ربنا ما كنا مشركين
[الأنعام: 23] والرسول في هذه الآية الجنس، شرف بالذكر، وهو مفرد دل على الجمع.
[4.43]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون... } الآية: نزلت قبل تحريم الخمر، وجمهور المفسرين على أن المراد سكر الخمر إلا الضحاك، فإنه قال: المراد سكر النوم، وهذا قول ضعيف، والمراد ب «الصلاة» هنا الصلاة المعروفة.
وقالت طائفة: الصلاة هنا المراد بها موضع الصلاة، والصلاة معا.
قال ابن العربي في «الأحكام»: وروي في سبب نزول هذه الآية عن علي (رضي الله عنه)؛ أنه قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا، وسقانا من الخمر يعني: وذلك قبل تحريمها قال: فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني، فقرأت: قل يأيها الكفرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون, قال فأنزل الله تعالى { يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون... } الآية: خرجه الترمذي وصححه. انتهى.
وقوله: { ولا جنبا إلا عابري سبيل } ، قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وغيره: عابر السبيل: المسافر.
وقال ابن مسعود وغيره: عابر السبيل هنا: الخاطر في المسجد، وعابر سبيل هو من العبور، أي: الخطور والجواز، والمريض المذكور في الآية هو الحضري، وأصل الغائط ما انخفض من الأرض، ثم كثر استعماله في قضاء الحاجة.
واللمس في اللغة لفظ يقع للمس الذي هو الجماع، وللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه، واختلف في موقعها هنا، فمالك (رحمه الله) يقول: اللفظة هنا تقتضي الوجهين، فالملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم، ومعنى قوله سبحانه: { فتيمموا }: اقصدوا، والصعيد؛ في اللغة: وجه الأرض؛ قاله الخليل وغيره، واختلف الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب.
فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض، ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة، وجعلت الطيب بمعنى الطاهر، وهذا هو مذهب مالك، وقالت طائفة منهم: الطيب بمعنى المنبت؛ كما قال تعالى:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه
[الأعراف:58]، فالصعيد عندهم هو التراب، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغيره، فمكان الإجماع أن يتيمم في تراب منبت طاهر غير منقول، ولا مغضوب، وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين ، وبه قال الجمهور، وفي «المدونة»؛ أن التيمم ضربتان، وجمهور العلماء أنه ينتهي في مسح اليدين إلى المرافق.
[4.44-46]
وقوله سبحانه: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يشترون الضللة... } الآية: { ألم تر }: من رؤية القلب، وهي علم بالشيء، والمراد ب «الذين»: اليهود؛ قال قتادة وغيره، ثم اللفظ يتناول معهم النصارى، وقال ابن عباس: نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي، والكتاب: التوراة والإنجيل، و { يشترون }: عبارة عن إيثارهم الكفر، وتركهم الإيمان، وقالت فرقة: أراد الذين كانوا يعطون أموالهم للأحبار على إقامة شرعهم، فهو شراء حقيقة، { ويريدون أن تضلوا السبيل } معناه: أن تكفروا.
وقوله سبحانه: { والله أعلم بأعدائكم } خبر في ضمنه التحذير منهم، { وكفى بالله وليا } ، أي: اكتفوا بالله وليا.
وقوله سبحانه: { من الذين هادوا } ، قال بعض المتأولين: «من» راجعة على «الذين» الأولى، وقالت فرقة: «من» متعلقة ب «نصيرا»، والمعنى: ينصركم من الذين هادوا، فعلى هذين التأويلين لا يوقف في قوله: «نصيرا»، وقالت فرقة: هي ابتداء كلام، وفيه إضمار، تقديره: قوم يحرفون، وهذا مذهب أبي علي، وعلى هذا التأويل يوقف في «نصيرا»، وقول سيبويه أصوب؛ لأن إضمار الموصول ثقيل، وإضمار الموصوف أسهل، وتحريفهم للكلام على وجهين، إما بتغيير اللفظ، وقد فعلوا ذلك في الأقل، وإما بتغيير التأويل، وقد فعلوا ذلك في الأكثر، وإليه ذهب الطبري، وهذا كله في التوراة؛ على قول الجمهور، وقالت طائفة: هو كلم القرآن، وقال مكي: هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فالتحريف على هذا في التأويل.
وقوله تعالى عنهم: { سمعنا وعصينا } عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه، و { غير مسمع }: يتخرج فيه معنيان:
أحدهما: غير مأمور وغير صاغر؛ كأنهم قالوا: غير أن تسمع مأمورا بذلك.
والآخر: على جهة الدعاء، أي: لا سمعت؛ كما تقول: امض غير مصيب، ونحو ذلك، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم ب { غير مسمع } ، أرادت في الباطن الدعاء عليه، وأرت ظاهرا؛ أنها تريد تعظيمه، قال ابن عباس وغيره نحوه، وكذلك كانوا يريدون منه في أنفسهم معنى الرعونة ، وحكى مكي معنى رعاية الماشية، ويظهرون منه معنى المراعاة، فهذا معنى لي اللسان، وقال الحسن ومجاهد: { غير مسمع } ، أي: غير مقبول منك، و { ليا }: أصله «لويا»، و { طعنا في الدين }: أي: توهينا له وإظهارا للإستخفاف به.
قال * ع *: وهذا اللي باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب.
وقوله تعالى: { ولو أنهم... } الآية: المعنى: ولو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا، و { أقوم }: معناه: أعدل وأصوب، و { قليلا }: نعت إما لإيمان، وإما لنفر، أو قوم، والمعنى مختلف.
[4.47-50]
وقوله تعالى: { يأيها الذين أوتوا الكتب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم... } الآية: هذا خطاب لليهود والنصارى، { ولما معكم }: من شرع وملة، لا لما معهم من مبدل، ومغير، والطامس: الداثر المغير الأعلام، قالت طائفة: طمس الوجوه هنا هو خلو الحواس منها، وزوال الخلقة، وقال ابن عباس وغيره: طمس الوجوه: أن تزال العينان خاصة منها، وترد العينان في القفا، فيكون ذلك ردا على الأدبار، ويمشي القهقرى، وقال مالك (رحمه الله): كان أول إسلام كعب الأحبار؛ أنه مر برجل من الليل، وهو يقرأ هذه الآية: { يأيها الذين أوتوا الكتب ءامنوا... } الآية، فوضع كفيه على وجهه، ورجع القهقرى إلى بيته، فأسلم مكانه، وقال: «والله، لقد خفت ألا أبلغ بيتي، حتى يطمس وجهي»، وأصحاب السبت: هم الذين اعتدوا في السبت في الصيد؛ حسبما تقدم، قال قتادة وغيره: وأمر الله في هذه الآية واحد الأمور دال على جنسها لا واحد الأوامر، فهي عبارة عن المخلوقات؛ كالعذاب، واللعنة هنا، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به.
وقوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... } الآية: هذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد، وتلخيص الكلام فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف: كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار؛ بإجماع، ومؤمن محسن لم يذنب قط، ومات على ذلك، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى، بإجماع، وتائب مات على توبته، فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن، إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة، ومذنب مات قبل توبته، فهذا هو موضع الخلاف، فقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه، ولا تضره سيئاته، وجعلوا آيات الوعيد كلها في الكفار، وآيات الوعد عامة في المؤمنين؛ تقيهم وعاصيهم، وقالت المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة، فهو في النار، ولا بد، وقالت الخوارج: إذا كان صاحب كبيرة، أو صغيرة، فهو في النار مخلد، ولا إيمان له؛ لأنهم يرون كل الذنوب كبائر، وجعلوا آيات الوعد كلها في المؤمن الذي لم يعص قط، والمؤمن التائب، وقال أهل السنة: هو في المشيئة، وهذه الآية هي الحاكمة، وهي النص في موضع النزاع، وذلك أن قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } فصل مجمع عليه، وقوله: { ويغفر ما دون ذلك } فصل قاطع للمعتزلة، راد على قولهم ردا لا محيد لهم عنه، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام، لصح قول المرجئة، فجاء قوله: { لمن يشاء } ، ردا عليهم مبينا أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم؛ بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن، ولما حتم سبحانه على أنه لا يغفر الشرك، ذكر قبح موقعه، وقدره في الذنوب، والفرية: أشد مراتب الكذب قبحا، وهو الاختلاق.
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء... } الآية: لا خلاف بين المتأولين أن المراد بالآية اليهود، وإنما اختلفوا في المعنى الذي به زكوا أنفسهم.
فقال الحسن، وقتادة: ذلك قولهم:
نحن أبناء الله وأحباؤه
[المائدة:18]، وقولهم:
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا
[البقرة:111] إلى غير ذلك من غرورهم.
قال * ع *: فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله، وزكاه الله عز وجل، قال ابن عباس وغيره: الفتيل: الخيط الذي في شق نواة التمرة، وذلك راجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه، ولا شيء دونه في الصغر، فكيف بما فوقه.
وقوله تعالى: { انظر كيف يفترون على الله الكذب... } الآية: يبين أن تزكيتهم أنفسهم كانت بالباطل، والكذب؛ ويقوي أن التزكية كانت بقولهم: { نحن أبناء الله وأحباؤه } أن الافتراء أعظم في هذه المقالة، و { كيف } يصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله { يفترون }؛ و { كفى به إثما مبينا } خبر، في ضمنه تعجب وتعجيب من أمرهم.
قال * ص *: { وكفى به } عائد على الافتراء، وقيل: على الكذب. انتهى.
[4.51-52]
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت والطغوت... } الآية: أجمع المتأولون أن المراد بها طائفة من اليهود، والقصص يبين ذلك، ومجموع ما ذكره المفسرون في تفسير الجبت والطاغوت يقتضي أنه كل ما عبد وأطيع من دون الله تعالى.
وقوله تعالى: { ويقولون للذين كفروا... } الآية: سببها أن قريشا قالت لكعب بن الأشرف، حين ورد مكة: أنت سيدنا، وسيد قومك، إنا قوم ننحر الكوماء، ونقري الضيف، ونصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونعبد آلهتنا التي وجدنا عليها آباءنا، وهذا محمد قد قطع الرحم، فمن أهدى نحن أو هو؟ فقال كعب: أنتم أهدى منه، وأقوم دينا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، فالضمير في «يقولون» عائد على كعب، وعلى الجماعة التي معه من اليهود المحرضين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم «والذين كفروا» في هذه الآية هم كفار قريش، والإشارة ب «هؤلاء» إليهم والذين آمنوا هم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وقالت فرقة: بل المراد حيي بن أخطب وأتباعه، وهم المقصود من أول الآيات.
قال * ص *: «للذين»: اللام للتبليغ متعلقة ب «يقولون». انتهى.
[4.53-55]
وقوله تعالى: { أم لهم نصيب من الملك... } الآية: عرف «أم» أن تعطف بعد استفهام متقدم؛ كقولك: أقام زيد أم عمرو؟ فإذا وردت، ولم يتقدمها استفهام؛ كما هي هنا، فمذهب سيبويه؛ أنها مضمنة معنى الإضراب عن الكلام الأول، والقطع منه، وهي متضمنة مع ذلك معنى الاستفهام، فهي بمعنى «بل» مع همزة استفهام؛ كقول العرب: «إنها لإبل أم شاء»، التقدير عند سيبويه: إنها لإبل بل أهي شاء؟ وكذلك هذا الموضع: بل ألهم نصيب من الملك، فإذا عرفت هذا، فالمعنى على الأرجح الذي هو مذهب سيبويه والحذاق: أن هذا استفهام على معنى الإنكار، أي: ألهم ملك؛ فإذن لو كان، لبخلوا به، والنقير: هي النكتة التي في ظهر النواة من التمر؛ هذا قول الجمهور، وهذا كناية عن الغاية في الحقارة والقلة، وتكتب «إذن» بالنون وبالألف، فالنون هو الأصل؛ ك «عن»، و «من»، وجاز كتبها بالألف؛ لصحة الوقوف عليها، فأشبهت نون التنوين، ولا يصح الوقوف على عن ومن.
وقوله تعالى: { أم يحسدون الناس على ما ءاتهم الله... } الآية: «أم» هذه على بابها من العطف بعد الاستفهام.
وقال * ص *: { أم يحسدون }: «أم» أيضا منقطعة تتقدر ب «بل» و «الهمزة». انتهى. قلت: والظاهر ما قاله * ع *
واختلف في المراد ب «الناس» هنا.
فقال ابن عباس وغيره: هو النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل: النبوة فقط، والمعنى: فلم يخصونه بالحسد، ولا يحسدون آل إبراهيم في جميع ما آتيناهم من هذا وغيره من الملك، وقال قتادة: «الناس» هنا: العرب، حسدتها بنو إسرائيل في أن كان النبي صلى الله عليه وسلم منها، والفضل على هذا التأويل هو محمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو عمر بن عبد البر: وقد ذم الله قوما على حسدهم، فقال: { أم يحسدون الناس على ما ءاتهم الله من فضله } ، ثم حدث بسنده، عن عمرو بن ميمون، قال: لما رفع الله موسى نجيا، رأى رجلا متعلقا بالعرش، فقال: يا رب، من هذا، فقال: هذا عبد من عبادي، صالح، إن شئت أخبرتك بعمله، فقال: يا رب، أخبرني، فقال: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ثم حدث أبو عمر بسنده، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الحسد يأكل الحسنات؛ كما تأكل النار الحطب "
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد! قيل: فما المخرج منهن، يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ "
انتهى من «التمهيد».
وقوله تعالى: { فمنهم من ءامن به } اختلف في الضمير من «به».
فقال الجمهور: هو عائد على القرآن الذي في قوله تعالى:
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها
[النساء:47]؛ فأعلم الله سبحانه أن منهم من آمن؛ كما أمر؛ فلذلك ارتفع الوعيد بالطمس، ولم يقع، وصد قوم ثبت الوعيد عليهم في الآخرة؛ بقوله سبحانه: { وكفى بجهنم سعيرا }.
وقيل: هو عائد على إبراهيم عليه السلام .
وقيل: هو عائد على الفضل الذي آتاه الله النبي عليه السلام ، والعرب على ما تقدم.
[4.56-57]
وقوله تعالى: { إن الذين كفروا بئايتنا سوف نصليهم نارا... } الآية: لما تقدم في الآية وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم، جاءت هذه الآية بالوعيد النص لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم؛ ممن فعل فعلهم من الكفرة، واختلف في معنى تبديل الجلود.
فقالت فرقة: تبدل عليهم جلود أغيار؛ إذ نفوسهم هي المعذبة، والجلود لا تألم في ذاتها، وقالت فرقة: تبديل الجلود هو إعادة ذلك الجلد بعينه الذي كان في الدنيا، وإنما سماه تبديلا؛ لأن أوصافه تتغير، قال الحسن بن أبي الحسن: تبدل عليهم في اليوم سبعين ألف مرة (عافانا الله من عذابه برحمته).
ولما ذكر سبحانه وعيد الكفار، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال الصالحة، و { ظليلا }: معناه عند بعضهم: يقي الحر والبرد، ويصح أن يريد أنه ظل لا يستحيل ولا يتنقل، وصح وصفه بظليل؛ لامتداده، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
" إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها "
، ورأيت لبعضهم ما نصه وذكر الطبري في كتابه، قال: لما خلق الله عز وجل الجنة، قال لها: امتدي، فقالت: يا رب، كم، وإلى كم؟ فقال لها: امتدي مائة ألف سنة، فامتدت، ثم قال لها: امتدي، فقالت: يا رب: كم، والى كم؟ فقال لها: امتدي مائة ألف سنة، فامتدت، ثم قال لها: امتدي، فقالت: يا رب: كم، وإلى كم؟ فقال لها: امتدي مقدار رحمتي، فامتدت، فهي تمتد أبد الآبدين، فليس للجنة طرف؛ كما أنه ليس لرحمة الله طرف. انتهى، فهذا لا يعلم إلا من جهة السمع، فهو مما اطلع عليه الطبري، وهو إمام حافظ محدث ثقة؛ قاله الخطيب أحمد بن علي بن ثابت.
[4.58]
وقوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمنت إلى أهلها... } الآية: قال ابن جريج وغيره: الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة، ومن ابن عمه شيبة، فطلبه العباس بن عبد المطلب؛ ليضيف السدانة إلى السقاية، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم، ونزل عليه جبريل بهذه الآية، قال عمر ابن الخطاب: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه، فدعا عثمان وشيبة، فقال لهما: خذاها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ثم الآية بعد تتناول الولاة فيما لديهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، وعدل الحكومات، وتتناول من دونهم من الناس؛ في حفظ الودائع، والتحرز في الشهادات، وغير ذلك؛ كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى، قال ابن العربي في «أحكامه»: هذه الآية في أداء الأمانة، والحكم بين الناس عامة في الولاة والخلق؛ لأن كل مسلم عالم، بل كل مسلم حاكم، ووال، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، وهم الذين يعدلون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والعبد راع في مال سيده، وهو مسؤول عنه، وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته "
، فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على ما قلناه. انتهى.
و { نعما }: أصله: «نعم ما»؛ سكنت الميم الأولى، وأدغمت في الثانية، وحركت العين ؛ لإلتقاء الساكنين، وخصت بالكسر؛ إتباعا للنون، و «ما» المردوفة على «نعم» إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها، ومع أنها موطئة، فهي بمعنى «الذي».
[4.59]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول... } الآية: لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة، تقدم في هذه إلى الرعية، فأمر بطاعته عز وجل، وهي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله، وطاعة الأمراء؛ على قول الجمهور، وهو قول ابن عباس وغيره، فالأمر على هذا التأويل هو ضد النهي؛ ومنه لفظة «الأمير»، وقال جابر وجماعة: «أولو الأمر»: أهل القرآن والعلم.
قال عطاء: طاعة الرسول هي اتباع سنته، يعني: بعد موته، ولفظ ابن العربي في «أحكامه» قال: قوله تعالى: { وأولي الأمر منكم... } فيها قولان:
الأول: قال ميمون بن مهران: هم أصحاب السرايا، وروى في ذلك حديثا، وهو اختيار البخاري، وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن حذافة، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية.
والثاني: هم العلماء، وبه قال أكثر التابعين، واختاره مالك والطبري.
والصحيح عندي: أنهم الأمراء والعلماء، أما الأمراء؛ فلأن الأمر منهم، والحكم إليهم، وأما العلماء؛ فلأن سؤالهم متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب، ويدخل فيه تأمر الزوج على الزوجة؛ لأنه حاكم عليها. انتهى.
وقوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء... } الآية: معنى التنازع أن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها، والرد إلى الله هو النظر في كتابه العزيز، والرد إلى الرسول هو سؤاله صلى الله عليه وسلم في حياته، والنظر في سنته بعد وفاته، هذا قول مجاهد وغيره، وهو الصحيح.
وقوله سبحانه: { إن كنتم تؤمنون بالله... } الآية: فيه بعض وعيد، و { تأويلا }: معناه: مآلا؛ في قول جماعة، وقال قتادة وغيره: المعنى: أحسن عاقبة، وقالت فرقة: المعنى أن الله ورسوله أحسن نظرا وتأولا منكم، إذا انفردتم بتأولكم.
[4.60-63]
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك... } الآية: تقول العرب: زعم فلان كذا؛ في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق، وغاية درجة الزعم إذا قوي: أن يكون مظنونا، وإذا قال سيبويه: زعم الخليل، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به؛ وكأن أقوى رتب «زعم» أن تبقى معها عهدة الخبر على المخبر.
قال عامر الشعبي: نزلت الآية في منافق اسمه بشر، خاصم رجلا من اليهود، فدعاه اليهودي إلى المسلمين؛ لعلمه أنهم لا يرتشون، وكان المنافق يدعو اليهودي إلى اليهود؛ لعلمه أنهم يرتشون، فاتفقا بعد ذلك على أن أتيا كاهنا كان بالمدينة، فرضياه، فنزلت هذه الآية فيهما، وفي صنفيهما، فالذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل على محمد عليه السلام هم المنافقون، والذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبله هم اليهود، وكل قد أمر في كتابه بالكفر بالطاغوت، والطاغوت هنا الكاهن المذكور، فهذا تأنيب للصنفين.
وقال ابن عباس: الطاغوت هنا هو كعب بن الأشرف، وهو الذي تراضيا به، وقيل غير هذا.
وقوله: { رأيت } ، هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحا، وهي رؤية قلب لمن صد منهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالقرائن الصادرة عنه.
وقوله تعالى: { فكيف إذا أصبتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } ، قالت فرقة: هي في المنافقين الذين احتكموا؛ حسبما تقدم، فالمعنى: فكيف بهم إذا عاقبهم الله بهذه الذنوب بنقمة منه، ثم حلفوا، إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم وتقريبه.
وقوله تعالى: { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم }: تكذيب لهم وتوعد، أي: فهو سبحانه مجازيهم، فأعرض عنهم، وعظهم بالتخويف من عذاب الله وغيره من المواعظ.
وقوله سبحانه: { وقل لهم في أنفسهم }.
قال * ص *: أي: قل لهم خاليا بهم؛ لأن النصح، إذا كان في السر، كان أنجح، أو: قل لهم في حال أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولا يبلغ منهم الزجر عن العود إلى ما فعلوا. انتهى.
واختلف في «القول البليغ»، فقيل: هو الزجر والردع والكف بالبلاغة من القول، وقيل: هو التوعد بالقتل، إن استداموا حالة النفاق؛ قاله الحسن، وهذا أبلغ ما يكون في نفوسهم، والبلاغة مأخوذة من بلوغ المراد بالقول.
[4.64]
وقوله تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }: تنبيه على جلالة الرسل، أي: فأنت، يا محمد، منهم تجب طاعتك، وتتعين إجابة الدعوة إليك، و { بإذن الله }: معناه: بأمر الله، و { ظلموا أنفسهم }: أي: بالمعصية، والنفاق، وعن العتبي، قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك، يا رسول الله، سمعت الله تعالى يقول: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } ، وقد جئتك مستعفيا من ذنوبي، مستغفرا إلى ربي، ثم أنشأ يقول: [البسيط]
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف، وفيه الجود والكرم
قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: «يا عتبي: الحق الأعرابي، فبشره أن الله تعالى قد غفر له». انتهى من «حلية النووي»، و «سنن الصالحين»؛ للباجي، وفيه: مستغفرا من ذنوبي، مستشفعا بك إلى ربي.
[4.65-68]
وقوله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم... } الآية: قال الطبري: قوله: «فلا»: رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم، وقال غيره: إنما قدم «لا» على القسم؛ اهتماما بالنهي، وإظهارا لقوته، قال ابن عطاء الله في «التنوير»: وفي قوله سبحانه: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم }: دلالة على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله على نفسه، قولا وفعلا، وأخذا وتركا، وحبا وبغضا؛ فتبين لك من هذا أنه لا تحصل لك حقيقة الإيمان بالله إلا بأمرين: الامتثال لأمره، والاستسلام لقهره سبحانه. انتهى.
و { شجر }: معناه اختلط والتف من أمورهم، وهو من الشجر، شبه بالتفاف الأغصان، والحرج: الضيق والتكلف والمشقة، قال مجاهد: حرجا: شكا.
وقوله: { تسليما }. مصدر مؤكد منبىء عن التحقيق في التسليم؛ لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر، إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة؛ كما قال تعالى:
وكلم الله موسى تكليما
[النساء:164] قال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت، ورجح الطبري هذا؛ لأنه أشبه بنسق الآية، وقالت طائفة: نزلت في رجل خاصم الزبير ابن العوام في السقي بماء الحرة؛ كما هو مذكور في البخاري وغيره، وأن الزبير قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك.
و { كتبنا }: معناه: فرضنا، { أن اقتلوا أنفسكم }: معناه: يقتل بعضكم بعضا، وقد تقدم نظيره في «البقرة»، وسبب الآية، على ما حكي: أن اليهود قالوا؛ لما لم يرض المنافق بحكم النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا أسخف من هؤلاء يؤمنون بمحمد، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا، ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا، فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا، لفعلناه، فنزلت الآية معلمة بحال أولئك المنافقين، وأنه لو كتب ذلك على الأمة، لم يفعلوه، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون؛ كثابت، قلت: وفي «العتبية»، عن مالك، عن أبي بكر (رضي الله عنه) نحو مقالة ثابت بن قيس، قال ابن رشد: ولا شك أن أبا بكر من القليل الذي استثنى الله تعالى في الآية، فلا أحد أحق بهذه الصفة منه. انتهى.
قال * ص *: { إلا قليل }: الجمهور بالرفع، على البدل من واو «فعلوه»؛ عند البصريين. انتهى.
{ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به }: لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا، لكان خيرا لهم و { تثبيتا } ، معناه: يقينا وتصديقا، ونحو هذا، أي: يثبتهم الله.
ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر، ووصفه إياه بالعظيم مقتض ما لا يحصيه بشر من النعيم المقيم، والصراط المستقيم: الإيمان المؤدي إلى الجنة، والمقصود تعديد ما كان ينعم به عليهم سبحانه.
[4.69-70]
وقوله (جلت عظمته): { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم... } الآية: لما ذكر الله سبحانه الأمر الذي لو فعلوه، لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله، وهذه الآية تفسر قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } ، وقالت طائفة: إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد الأنصاري الذي أري الأذان : يا رسول الله، إذا مت، ومتنا، كنت في عليين، فلا نراك، ولا نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك، فنزلت هذه الآية.
قال * ع *: ومعنى أنهم معهم: في دار واحدة، ومتنعم واحد، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن يعتقد أنه مفضول، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من يشاء، والصديق: فعيل من الصدق، وقيل: من الصدقة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" الصديقون المتصدقون "
ولفظ الشهداء في هذه الآية: يعم أنواع الشهداء.
قال * ص *: { وحسن أولئك رفيقا } فيه معنى التعجب؛ كأنه قال: وما أحسن أولئك رفيقا، وقد قدمنا في كلام ابن الحاج ما يدل على أن التعجب لازم ل «فعل» المستعمل للمدح والذم، على كل حال، سواء استعملت استعمال نعم أو لا. انتهى.
وقوله تعالى: { ذلك الفضل من الله }: الإشارة ب «ذلك» إلى كون المطيعين مع المنعم عليهم.
[4.71-73]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا خذوا حذركم... } الآية: هذا خطاب للمخلصين من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، وحماية الإسلام، و { خذوا حذركم }: أي: احزموا واستعدوا بأنواع الاستعداد، و { انفروا }: معناه: اخرجوا، و { ثبات }: معناه جماعات متفرقات، وهي السرايا، والثبة: حكي أنها فوق العشرة، و { جميعا }: معناه: الجيش الكثير مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ هكذا قال ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى: { وإن منكم } إيجاب، والخطاب لجماعة المؤمنين، والمراد ب «من»: المنافقون، وعبر عنهم ب { منكم } إذ في الظاهر في عداد المؤمنين، واللام الداخلة على «من»: لام التأكيد، والداخلة على: «يبطئن»: لام القسم؛ عند الجمهور، وتقديره: وإن منكم لمن، والله، ليبطئن، ويبطئن: معناه: يبطىء غيره، أي: يثبطه،. ويحمله على التخلف عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، و { مصيبة } ، يعني: من قتال، واستشهاد، وإنما هي مصيبة بحسب اعتقاد المنافقين ونظرهم الفاسد، وإنما الشهادة في الحقيقة نعمة من الله سبحانه؛ لحسن مآلها ، و { شهيدا }: معناه: مشاهدا.
وقوله تعالى: { ولئن أصبكم فضل من الله } ، أي: ظفرتم وغنمتم، ندم المنافق، وقال: { يليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } متمنيا شيئا قد كان عاهد أن يفعله، ثم غدر في عهده.
وقوله تعالى: { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة }: التفاتة بليغة، واعتراض بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم، وقال الزجاج: قوله: «كأن لم يكن بينكم وبينه مودة» مؤخر، وإنما موضعه: «فإن أصابتكم مصيبة»،
قال * ع *: وهذا ضعيف؛ لأنه يفسد فصاحة الكلام.
قال * ص *: وقوله: { فأفوز } بالنصب: هو جواب التمني. انتهى.
[4.74-76]
وقوله تعالى: { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحيوة الدنيا بالآخرة... } الآية: هذا أمر من الله سبحانه للمؤمنين بالجهاد، ويشرون هنا: معناه: يبيعون، ثم وصف سبحانه ثواب المقاتلين، والأجر العظيم: الجنة.
وقوله تعالى: { وما لكم لا تقتلون في سبيل الله... } الآية: «ما»: استفهام، { والمستضعفين }: عطف على اسم الله عز وجل، أي: وفي سبيل المستضعفين؛ لإستنقاذهم، ويعني ب «المستضعفين»: من كان بمكة تحت إذلال كفرة قريش، وفيهم كان صلى الله عليه وسلم يقول:
" اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين "
، { والولدن }: عبارة عن الصبيان، و { القرية } هنا: مكة بإجماع، والآية تتناول المؤمنين والأسرى في حواضر الشرك إلى يوم القيامة.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قال علماؤنا (رحمهم الله): أوجب الله تعالى في هذه الآية القتال؛ لإستنقاذ الأسرى من يد العدو، وقد روى الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني "
يعني: الأسير، قال مالك (رحمه الله): على الناس أن يفكوا الأسرى بجميع أموالهم؛ وكذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم. انتهى.
وقوله تعالى: { الذين ءامنوا يقتلون في سبيل الله... } الآية: هذه الآية تقتضي تقوية قلوب المؤمنين وتحريضهم، وقرينة ذكر الشيطان بعد تدل على أن المراد بالطاغوت هنا الشيطان، وإعلامه تعالى بضعف كيد الشيطان فيه تقوية لقلوب المؤمنين، وتجرئة لهم على مقارعة الكيد الضعيف؛ فإن العزم والحزم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره ويهده.
[4.77-78]
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة... } الآية: اختلف المتأولون، فيمن المراد بقوله: { الذين قيل لهم }.
فقال ابن عباس وغيره: كان جماعة من المؤمنين قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين، فأمرهم عن الله تعالى بكف الأيدي، فلما كتب عليهم القتال بالمدينة، شق ذلك على بعضهم، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع عن مقارعة العدو، فنزلت الآية فيهم.
وقال ابن عباس أيضا ومجاهد: إنما الآية حكاية عن حال اليهود؛ أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، ونهي المؤمنين عن فعل مثله.
وقيل: المراد المنافقون.
و «أو»: تقدم شرحها في «سورة البقرة»؛ في قوله تعالى:
أو أشد قسوة
[البقرة:74]؛ لأن الموضعين سواء.
وقولهم: { لم كتبت علينا القتال }: رد في صدر أوامر الله سبحانه، وقلة استسلام له، والأجل القريب: يعنون به موتهم على فرشهم؛ هكذا قال المفسرون.
قال * ع *: وهذا يحسن؛ إذا كانت الآية في اليهود أو في المنافقين، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام، وكثرة عددهم، ويحسن القول بأنها في المنافقين اطراد ذكرهم فيما يأتي بعد من الآيات.
وقوله سبحانه: { قل متع الدنيا قليل } المعنى: قل، يا محمد، لهؤلاء: متاع الدنيا، أي: الاستمتاع بالحياة فيها الذي حرصتم عليه قليل، وباقي الآية بين.
وهذا إخبار منه سبحانه يتضمن تحقير الدنيا، قلت: ولما علم الله في الدنيا من الآفات، حمى منها أولياءه، ففي الترمذي عن قتادة بن النعمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إذا أحب الله عبدا، حماه الدنيا؛ كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء "
، قال أبو عيسى: وفي الباب عن صهيب، وأم المنذر، وهذا حديث حسن، وفي الترمذي عن ابن مسعود قال:
" نام النبي صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك فراشا؟! فقال: مالي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها "
، وفي الباب عن ابن عمر، وابن عباس، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
وقوله سبحانه: { في بروج } الأكثر والأصح الذي عليه الجمهور: أنه أراد ب «البروج»: الحصون التي في الأرض المبنية؛ لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله لهم بها، قال قتادة: المعنى: في قصور محصنة؛ وقاله ابن جريج والجمهور، وبرج: معناه: ظهر؛ ومنه تبرج المرأة، و { مشيدة }: قال الزجاج وغيره: معناه: مرفوعة مطولة؛ ومنه أشاد الرجل ذكر الرجل؛ إذا رفعه، وقالت طائفة: { مشيدة }: معناه: محسنة بالشيد، وهو الجص، وروى النسائي عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أكثروا ذكر هاذم اللذات "
، يعني: الموت، وخرجه ابن ماجة والترمذي، وخرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، وروى ابن ماجة بسنده، عن ابن عمر؛ أنه قال:
" كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من الأنصار، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقا، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس "
، وأخرجه مالك أيضا. انتهى من «التذكرة».
وقوله تعالى: { وإن تصبهم حسنة... } الآية: الضمير في { تصبهم } عائد على { الذين قيل لهم كفوا أيديكم }؛ وهذا يدل على أنهم المنافقون؛ لأن المؤمنين لا تليق بهم هذه المقالة؛ ولأن اليهود لم يكونوا للنبي صلى الله عليه وسلم تحت أمر، فتصيبهم بسببه أسواء، والمعنى: إن تصب هؤلاء المنافقين حسنة من غنيمة أو غير ذلك، رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع الله، لا ببركة اتباعك والإيمان بك، وإن تصبهم سيئة، أي: هزيمة، أو شدة جوع، أو غير ذلك، قالوا: هذه بسببك.
وقوله: { قل كل من عند الله }: إعلام من الله سبحانه؛ أن الخير والشر، والحسنة والسيئة خلق له، ومن عنده، لا رب غيره، ولا خالق ولا مخترع سواه، والمعنى: قل، يا محمد، لهؤلاء.
ثم وبخهم سبحانه بالاستفهام عن علة جهلهم، وقلة فهمهم، وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق، والفقه في اللغة: الفهم، وفي الشرع: الفهم في أمور الدين، ثم غلب عليه الاستعمال في علم المسائل الأحكامية.
[4.79-81]
وقوله تعالى: { ما أصابك من حسنة فمن الله... } الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وغيره داخل في المعنى، ومعنى الآية؛ عند ابن عباس وغيره: على القطع، واستئناف الأخبار من الله عز وجل؛ بأن الحسنة منه، ومن فضله، وبأن السيئة من الإنسان؛ بإذناه، وهي من الله تعالى بخلقه واختراعه، لا خالق سواه سبحانه، لا شريك له، وفي مصحف ابن مسعود: «فمن نفسك، وأنا قضيتها عليك»، وقرأ بها ابن عباس، وفي رواية: «وأنا قدرتها عليك»؛ ويعضد هذا التأويل أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم معناها: أن ما يصيب ابن آدم من المصائب، فإنما هو عقوبة ذنوبه، قال أبو جعفر أحمد بن نصر الداوودي: قوله تعالى: { وما أصابك من سيئة فمن نفسك }: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره. انتهى.
وفي قوله سبحانه: { وأرسلنك للناس رسولا } ، ثم تلاه بقوله: { وكفى بالله شهيدا }: توعد للكفار، وتهديد تقتضيه قوة الكلام؛ لأن المعنى: شهيدا على من كذبه.
وقوله تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } ، فالمعنى: أن الرسول عليه السلام إنما يأمر وينهى؛ بيانا وتبليغا عن الله، و { تولى }: معناه: أعرض، و { حفيظا }: يحتمل معنيين: أي: لتحفظهم حتى لا يقعوا في الكفر والمعاصي ونحوه، أو لتحفظ مساويهم وتحسبها عليهم، وهذه الآية تقتضي الإعراض عمن تولى، والترك له، وهي قبل نزول القتال، وإنما كانت توطئة ورفقا من الله عز وجل؛ حتى يستحكم أمر الإسلام.
وقوله تعالى: { ويقولون طاعة... } الآية: نزلت في المنافقين باتفاق المفسرين، المعنى: يقولون لك، يا محمد: أمرنا طاعة، فإذا خرجوا من عندك، اجتمعوا ليلا، وقالوا غير ما أظهروا لك، و { بيت }: معناه: فعل ليلا، وهو مأخوذ من بات أو من البيت؛ لأنه ملتزم بالليل.
وقوله: { تقول }: يحتمل أن يكون معناه: تقول أنت، ويحتمل تقول هي لك ، والأمر بالإعراض إنما هو عند معاقبتهم ومجازاتهم، وأما استمرار عظتهم ودعوتهم، فلازم، ثم أمر سبحانه بالتوكل عليه، والتمسك بعروته الوثقى؛ ثقة بإنجاز وعده في النصر، والوكيل: القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها.
[4.82-84]
وقوله تعالى: { أفلا يتدبرون القرءان... } الآية: المعنى: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون كلام الله تعالى، فتظهر لهم براهينه، وتلوح لهم أدلته، قلت: اعلم (رحمك الله تعالى)؛ أن تدبر القرآن كفيل لصاحبه بكل خير، وأما الهذرمة والعجلة، فتأثيرها في القلب ضعيف؛ قال النووي (رحمه الله): وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في يوم وليلة؛ ويدل عليه ما رويناه بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي وغيرها، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث "
انتهى.
قال * ع*: والتدبر هو النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء، هذا كله يقتضيه قوله سبحانه: { أفلا يتدبرون القرءان } ، وهذا أمر بالنظر والاستدلال، ثم عرف تعالى بموقع الحجة، أي: لو كان من كلام البشر، لدخله ما في البشر من القصور، وظهر فيه التناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه؛ إذ ذلك موجود في كلام البشر، والقرآن منزه عنه؛ إذ هو كلام المحيط بكل شيء سبحانه.
قال * ع *: فإن عرضت لأحد شبهة، وظن اختلافا في شيء من كتاب الله، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه.
وقوله تعالى: { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف... } الآية: قال جمهور المفسرين: إن الآية من المنافقين حسبما تقدم، والمعنى: أن المنافقين كانوا يتشوفون إلى سماع ما يسيء النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين، أو فتح عليهم، حقروها وصغروا شأنها، وأذاعوا ذلك التحقير والتصغير، وإذا طرأت لهم شبهة خوف للمسلمين أو مصيبة، عظموها، وأذاعوا ذلك، و { أذاعوا به }: معناه: أفشوه، وهو فعل يتعدى بحرف الجر وبنفسه أحيانا.
وقالت فرقة: الآية نزلت في المنافقين، وفيمن ضعف جلده، وقلت تجربته من المؤمنين؛ وفي الصحيح من حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؛ أنه جاء، وقوم في المسجد، يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ثم قال: فقلت: يا رسول الله، أطلقت نساءك؟ فقال: لا، قال عمر: فقمت على باب المسجد، فقلت: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف... } الآية؛ قال: وأنا الذي استنبطته.
وقوله تعالى: { ولو ردوه إلى الرسول... } الآية: المعنى: لو أمسكوا عن الخوض واستقصوا الأمر من قبل الرسول، وأولي الأمر، وهم الأمراء والعلماء، لعلمه طلابه من أولي الأمر، والبحثة عنه، وهم مستنبطوه؛ كما يستنبط الماء، وهو استخراجه من الأرض.
وقوله سبحانه: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته.
.. } الآية: خطاب لجميع المؤمنين؛ باتفاق من المتأولين، وقوله: { إلا قليلا } هو مستثنى في قول جماعة من قوله: { لاتبعتم الشيطن إلا قليلا } ، وقال ابن عباس، وابن زيد: ذلك مستثنى من قوله: «أذاعوا به إلا قليلا»، ورجحه الطبري، وقال قتادة: هو مستثنى من قوله: «يستنبطونه إلا قليلا».
* ت *: قال الداوودي: قال أبو عبيدة: وإنما كره العلماء أن يجعلوا الاستثناء من قوله: { لاتبعتم الشيطن إلا قليلا }؛ لأنه لا وجه له؛ فإنه لولا فضل الله ورحمته، لاتبعوا الشيطان كلهم. انتهى، وهو حسن، وأما قوله: «لا وجه له»، ففيه نظر، فقد وجهه العلماء بما لا نطيل بذكره.
وقوله تعالى: { فقاتل في سبيل الله... } الآية: هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، لكن لم نجد قط في خبر، أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم، دون الأمة مدة ما، والمعنى، والله أعلم؛ أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي: أنت، يا محمد، وكل واحد من أمتك القول له: فقاتل في سبيل الله، لا تكلف إلا نفسك، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد، ولو وحده؛ ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" والله، لأقاتلنكم حتى تنفرد سالفتي "
، وقول أبي بكر (رضي الله عنه) وقت الردة: «ولو خالفتني يميني، لجاهدتها بشمالي»، وعسى إذا وردت من الله تعالى، فقال عكرمة وغيره: هي واجبة؛ بفضل الله ووعده الجميل، قلت: أي: واقع ما وعد به سبحانه، والتنكيل: الأخذ بأنواع العذاب.
[4.85-87]
وقوله سبحانه: { من يشفع شفعة حسنة... } الآية: قال مجاهد وغيره: هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع لينفع، فله نصيب، ومن يشفع ليضر، فله كفل، والكفل: النصيب، ويستعمل في الخير وفي الشر، وفي كتاب الله تعالى:
يؤتكم كفلين من رحمته
[الحديد:28]، وروى أبو داود، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من شفع لأحد شفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا "
انتهى.
و { مقيتا }: معناه: قديرا؛ ومنه قول الزبير بن عبد المطلب: [الوافر]
وذي ضغن كففت النفس عنه
وكنت على إساءته مقيتا
أي: قديرا.
وقيل: مقيتا: معناه شهيدا، وقيل: حفيظا.
وذهب مقاتل إلى أنه الذي يقوت كل حيوان، قال الداوودي: قال الكلبي المقيت هو المقدر بلغة قريش. انتهى.
وقوله سبحانه: { وإذا حييتم بتحية... } الآية: قالت: فرقة: معنى الآية: تخيير الراد؛ فإذا قال البادىء: «السلام عليك»، فللراد أن يقول: «وعليك السلام» فقط، وهذا هو الرد، وله أن يقول: «وعليك السلام، ورحمة الله»، وهذا هو التحية بأحسن، وروي عن ابن عمر وغيره انتهاء السلام إلى البركة، وقالت فرقة: المعنى: إذا حييتم بتحية، فإن نقص المسلم من النهاية، فحيوا بأحسن منها، وإن انتهى، فردوها، كذلك قال عطاء، والآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم، فيقال له: «عليك»؛ كما في الحديث، وفي أبي داود، والترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أولى الناس بالله من بدأ بالسلام "
انتهى.
وأكثر أهل العلم على أن الابتداء بالسلام سنة مؤكدة، ورده فريضة؛ لأنه حق من الحقوق؛ قاله الحسن وغيره، قال النووي: وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من عبدين متحابين في الله عز وجل يستقبل أحدهما صاحبه فيصافحه، فيصليان على النبي صلى الله عليه وسلم إلا لم يتفرقا حتى تغفر ذنوبهما، ما تقدم منها وما تأخر "
، وروينا فيه عن أنس أيضا، قال: «ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد رجل، ففارقه؛ حتى قال: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»؛ وروينا فيه، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن المسلمين إذا التقيا، فتصافحا، وتكاشرا بود ونصيحة، تناثرت خطاياهما بينهما "
، وفي رواية: «إذا التقى المسلمان، فتصافحا، وحمدا الله تعالى، واستغفرا غفر الله عز وجل لهما». انتهى.
و { حسيبا }: معناه حفيظا، وهو فعيل من الحساب.
وقوله سبحانه: { الله لا إله إلا هو ليجمعنكم... } الآية: لما تقدم الإنذار والتحذير الذي تضمنه قوله تعالى: { إن الله كان على كل شيء حسيبا } ، تلاه الإعلام بصفة الربوبية، وحال الوحدانية والإعلام بالحشر والبعث من القبور للثواب والعقاب إعلاما بقسم، تقديره: وحقه وعظمته ليجمعنكم، والجمع بمعنى الحشر.
وقوله سبحانه: { ومن أصدق من الله حديثا }: المعنى: لا أحد أصدق من الله تعالى.
[4.88-90]
وقوله تعالى: { فما لكم في المنفقين فئتين... } الآية: واختلف في هؤلاء المنافقين.
فقال ابن عباس: هم قوم كانوا بمكة أظهروا الإيمان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كتب بعثوا بها إلى المدينة، ثم خرجوا مسافرين إلى الشام، وأعطتهم قريش بضاعات، وقالوا لهم: أنتم لا تخافون أصحاب محمد؛ لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان، فاتصل خبرهم بالمدينة، فاختلف المؤمنون فيهم، فقالت فرقة: نخرج إليهم؛ فإنهم منافقون، وقالت فرقة: بل هم مؤمنون، لا سبيل لنا إليهم، فنزلت الآية، وعن مجاهد نحوه.
قال * ع *: ويعضده ما في آخر الآية من قوله تعالى: { حتى يهاجروا } ، وقال زيد بن ثابت: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين الذين رجعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وهو في «صحيح البخاري» مسندا، قال ابن العربي في «أحكامه»، وهذا القول هو اختيار البخاري والترمذي. انتهى.
قال * ع *: وعلى هذا، فقوله سبحانه: { حتى يهاجروا } المراد هجر ما نهى الله عنه؛ كما قال عليه السلام :
" والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه "
، و { فئتين }: معناه: فرقتين، و { أركسهم }: معناه: أرجعهم في كفرهم وضلالهم، والركس: الرجيع؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة:
" إنها ركس "
، وحكى النضر بن شميل والكسائي: ركس وأركس بمعنى واحد، أي: أرجعهم، ومن قال من المتأولين: أهلكهم، أو أضلهم، فإنما هو بالمعنى، وباقي الآية بين.
قال * ص *: { أركسهم } ، أي: ردهم في الكفر.
وقال ابن العربي في «أحكامه»: أخبر الله تعالى أنه رد المنافقين إلى الكفر، وهو الإركاس، وهو عبارة عن الرجوع إلى الحالة المكروهة؛ كما قال في الروثة: «إنها ركس»، أي: رجعت إلى حالة مكروهة، فنهى الله سبحانه الصحابة أن يتعلقوا فيهم بظاهر الإيمان؛ إذ كان باطنهم الكفر، وأمرهم بقتلهم، حيث وجدوهم. انتهى.
وقوله تعالى: { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثق... } الآية.
قال * ص *: { إلا الذين يصلون }: استثناء متصل من مفعول { فخذوهم واقتلوهم }. انتهى.
قال * ع *: هذه الآية من آيات الموادعة في أول الإسلام، ثم نسخت بما في سورة «براءة» فالآية تقتضي أن من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء أهل العهد، فدخل في عدادهم، وفعل فعلهم من الموادعة، فلا سبيل عليه.
وقوله تعالى: { أو جاءوكم }: عطف على { يصلون } ، ويحتمل أن يكون على قوله: { بينكم وبينهم ميثق } ، والمعنى في العطفين مختلف، وهذا أيضا حكم قبل أن يستحكم أمر الإسلام، فكان المشرك، إذا اعتزل القتال، وجاء إلى دار الإسلام مسالما كارها لقتال قومه مع المسلمين، ولقتال المسلمين مع قومه، لا سبيل عليه، وهذه نسخت أيضا بما في «براءة»، ومعنى { حصرت }: ضاقت، وحرجت؛ ومنه: الحصر في القول، وهو ضيق الكلام على المتكلم، و { حصرت }: في موضع نصب على الحال، واللام في قوله: { لسلطهم } جواب «لو»، والمعنى: ولو شاء الله، لسلط هؤلاء الذين هم بهذه الصفة من المسالمة والمتاركة عليكم، { فإن اعتزلوكم } ، أي: إذا وقع هذا، فلم يقاتلوكم، فلا سبيل لكم عليهم، وهذا كله، والذي في سورة «الممتحنة»:
لا ينهكم الله...
[الممتحنة:8] منسوخ؛ قاله قتادة وغيره.
و { السلم }: الصلح.
[4.91]
وقوله تعالى: { ستجدون ءاخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم... } الآية: لما وصف الله سبحانه المحققين في المتاركة وإلقاء السلم، نبه على طائفة مخادعة كانوا يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم، يقولون لهم: نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون أيضا للمسلمين: نحن معكم، وعلى دينكم؛ خبثة منهم وخديعة، وقوله: { إلى الفتنة }: معناه: إلى الاختبار، حكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم، فيقال لأحدهم: قل: ربي الخنفساء، ربي العود، ربي العقرب، ونحوه، فيقولها، ومعنى: { أركسوا }: أي: رجعوا رجع ضلالة، أي: أهلكوا في الاختبار بما واقعوه من الكفر، وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين؛ إذا لم يرجعوا عن حالهم، و { ثقفتموهم }: مأخوذ من الثقاف، أي: ظفرتم بهم، مغلوبين متمكنا منهم، والسلطان: الحجة، قال عكرمة: حيثما وقع السلطان في كتاب الله عز وجل، فهو الحجة.
[4.92]
وقوله تعالى: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ... } الآية: قال جمهور المفسرين: معنى الآية: وما كان في إذن الله، وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول، وهو الذي تكون فيه «إلا» بمعنى «لكن»، والتقدير: لكن الخطأ قد يقع، ويتجه في معنى الآية وجه آخر، وهو أن تقدر «كان» بمعنى «استقر»، و «وجد»؛ كأنه قال: وما وجد، ولا تقرر، ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ؛ إذ هو مغلوب فيه، فيجيء الاستثناء على هذا متصلا، وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد، وبشاعة شأنه.
وقوله تعالى: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ... } الآية: حقيقة الخطإ ألا يقصده بالقتل، ووجوه الخطإ كثيرة لا تحصى، يربطها عدم القصد.
قال ابن عباس وغيره: الرقبة المؤمنة: هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان، وقالت جماعة، منهم مالك بن أنس: يجزىء كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه، إن مات، قال مالك: ومن صلى وصام أحب إلي، ولا يجزىء ذو العيب الكثير؛ كأقطع اليدين، أو الرجلين، أو الأعمى؛ إجماعا فيما علمت ، و { مسلمة }: معناه: مؤداة مدفوعة، وهي على العاقلة فيما جاوز ثلث الدية، و { إلا أن يصدقوا }: يريد: أولياء القتيل، وقوله: { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن... } الآية: أي: وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمنا قد آمن، وبقي في قومه، وهم كفرة عدو لكم، فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير الرقبة؛ قاله ابن عباس وغيره، وسقطت الدية عندهم؛ لوجهين:
أحدهما: أن أولياء المقتول كفار، فلا يصح دفع الدية إليهم.
والآخر: قلة حرمة هذا المقتول، فلا دية فيه.
واحتجوا بقوله تعالى:
والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا
[الأنفال:72].
وقالت فرقة: بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط، وسواء قتل بين أظهر المسلمين، أو بين قومه الكفار؛ لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار.
قال * ع *: وقائل المقالة الأولى يقول: إن قتل المؤمن في بلد المسلمين، وقومه حرب، ففيه الدية لبيت المال والكفارة.
وقوله تعالى: { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق... } الآية: قال ابن عباس وغيره: المقتول من أهل العهد خطأ لا نبالي، كان مؤمنا أو كافرا، على عهد قومه فيه الدية والتحرير.
وقوله: { فمن لم يجد فصيام شهرين... } الآية، أي: فمن لم يجد الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها، فيجزيه صيام شهرين متتابعة الأيام، لا يتخللها فطر، و { توبة }: نصب على المصدر، ومعناه: رجوعا بكم إلى التيسير والتسهيل.
[4.93]
وقوله تعالى: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم... } الآية: المتعمد في لغة العرب: القاصد إلى الشيء، والجمهور أن المتعمد كل من قتل، كان القتل بحديدة أو غيرها، وهذا هو الصحيح، ورأي الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد، ورأوا فيه تغليظ الدية، ومالك لا يرى شبه العمد، ولا يقول به، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمدا أو خطأ لا غير.
وقوله تعالى: { فجزاؤه جهنم } ، تقديره عند أهل السنة: فجزاؤه، إن جازاه بذلك، أي: هو أهل لذلك، ومستحقه؛ لعظيم ذنبه.
قال * ع *: ومن أقيم عليه الحد، وقتل قودا، فهو غير متبع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه؛ إجماعا، وللحديث الصحيح، عن عبادة بن الصامت؛ أنه:
" من عوقب في الدنيا، فهو كفارة له "
، ومعنى الخلود هنا: مدة طويلة، إن جازاه الله؛ ويدل على ذلك سقوط لفظ التأبيد.
قال * ع *: والجمهور على قبول توبته، وروي عن بعض العلماء؛ أنهم كانوا يقصدون الإغلاظ، والتخويف أحيانا، فيطلقون ألا تقبل توبته؛ منهم ابن شهاب، وابن عباس، فكان ابن شهاب، إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل، قال له: توبتك مقبولة، وإذا سأله من لم يفعل، قال: لا توبة للقاتل، وعن ابن عباس نحوه، قال الداوودي وعن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" والله، للدنيا وما فيها أهون على الله من قتل نفس بغير حق، ومن أعان على قتل مسلم بشطر كلمة، لقي الله يوم يلقاه مكتوب على جبهته: آيس من رحمة الله "
، وعن معاوية، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من قتل مؤمنا متعمدا، أو مات كافرا "
، وعن أبي هريرة؛ أنه سئل عن قاتل المؤمن، هل له من توبة؟ فقال: لا، والله الذي لا إله إلا هو، لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، قال: ولو أن أهل السموات والأرض أشركوا في دم مؤمن إلا كبهم الله جميعا في النار». انتهى.
[4.94]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا... } الآية: تقول: ضربت في الأرض؛ إذا سرت لتجارة أو غزو، أو غيره، مقترنة ب «في»، وضربت الأرض، دون «في»؛ إذا قصدت قضاء الحاجة.
وقال * ص *: ضربتم، أي: سافرتم.
قال * ع *: وسبب هذه الآية؛ أن سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيت رجلا له جمل، ومتيع، وقيل: غنيمة، فسلم على القوم، وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم، فقتله، واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، والذي عليه الأكثر، وهو في سير ابن إسحاق، وفي مصنف أبي داود وغيرهما؛ أن القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض، حين مات، هو محلم بن جثامة، وقرأ جمهور السبعة: «فتبينوا»، وقرأ حمزة والكسائي: «فتثبتوا» (بالثاء المثلثة) في الموضعين هنا، وفي «الحجرات»، وقرأ نافع وغيره: «السلم»، ومعناه: الاستسلام، أي: ألقى بيده، واستسلم لكم، وأظهر دعوتكم، وقرأ باقي السبعة: «السلام» (بالألف)، يريد: سلام ذلك المقتول على السرية؛ لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته، وانقياده، وفي بعض طرق عاصم: «السلم» بكسر السين المشددة، وسكون اللام ، وهو الصلح، والمعنى المراد بهذه الثلاثة متقارب، وقرىء: «لست مؤمنا» بفتح الميم أي: لسنا نؤمنك.
وقوله تعالى: { فعند الله مغانم كثيرة }: عدة منه سبحانه بما يأتي به من فضله؛ من الحلال دون ارتكاب محظور، أي: فلا تتهافتوا.
واختلف في قوله: { كذلك كنتم من قبل }.
فقال ابن جبير: معناه: كذلك كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، فمن الله عليكم بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك كل واحد منهم خائف من قومه، متربص أن يصل إليكم، فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره، وقال ابن زيد: المعنى: كذلك كنتم كفرة، فمن الله عليكم بأن أسلمتم، فلا تنكروا أن يكون هو كافرا، ثم يسلم لحينه، ثم وكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد، وذلك منه خبر يتضمن تحذيرا منه سبحانه، أي: فاحفظوا أنفسكم، وجنبوا الزلل الموبق لكم.
[4.95-96]
وقوله تعالى: { لا يستوي القعدون من المؤمنين غير أولي الضرر... } الآية: في قوله تعالى: { لا يستوي } إبهام على السامع، وهو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد، فالمتأمل يمشي مع فكرته، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما، والقاعدون عبارة عن المتخلفين.
قلت: وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن في الجنة شجرة تخرج من أعلاها الحلل، ومن أسفلها خيل بلق من ذهب مسرجة ملجمة بالدر والياقوت، لا تروث، ولا تبول، ذوات أجنحة، فيجلس عليها أولياء الله؛ فتطير بهم حيث شاءوا ، فيقول الذين أسفل منهم: يأهل الجنة، ناصفونا، يا رب، ما بلغ هؤلاء هذه الكرامة؟! فيقول الله تعالى: إنهم كانوا يصومون، وكنتم تفطرون، وكانوا يقومون بالليل وكنتم تنامون، وكانوا ينفقون، وكنتم تبخلون، وكانوا يجاهدون العدو وكنتم تجبنون "
انتهى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة: «غير» - بالرفع - صفة للقاعدين، وقرأ نافع وغيره: «غير» - بالنصب - استثناء من القاعدين، وروي من غير ما طريق؛ أن الآية نزلت: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون»، فجاء ابن أم مكتوم، حين سمعها، فقال: يا رسول الله، هل من رخصة، فإني ضرير البصر، فنزلت عند ذلك؛ { غير أولي الضرر } ، قال الفلتان بن عاصم (رضي الله عنه)؛ كنا قعودا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل عليه، وكان إذا أوحي إليه، دام بصره مفتوحة عيناه، وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله، وكنا نعرف ذلك في وجهه، قال: فلما فرغ، قال للكاتب: اكتب: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون...» إلى آخر الآية، قال: فقام الأعمى، فقال: يا رسول الله، ما ذنبنا؟ قال: فأنزل الله على رسوله، فقلنا للأعمى: إنه ينزل عليه، قال: فخاف أن ينزل فيه شيء، فبقي قائما مكانه، يقول: أتوب إلى رسول الله، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للكاتب: اكتب: { غير أولي الضرر } ، وأهل الضرر: هم أهل الأعذار، إذ قد أضرت بهم؛ حتى منعتهم الجهاد؛ قاله ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى: { بأمولهم وأنفسهم } ، هي الغاية في كمال الجهاد، قال ابن جريج: الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر.
قال * ع *: لأنهم مع المؤمنين بنياتهم؛ كما هو مذكور في الحديث الصحيح.
قال ابن جريج: والتفضيل بالأجر العظيم والدرجات هو على القاعدين من غير عذر، و { الحسنى }: الجنة التي وعدها الله المؤمنين؛ وكذلك قال السدي وغيره.
وقال ابن محيريز: الدرجات: هي درجات في الجنة سبعون ما بين الدرجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة، قلت: وفي «صحيح البخاري»، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن؛ ومنه تفجر أنهار الجنة "
انتهى.
وقال ابن زيد: الدرجات في الآية هي السبع المذكورة في «براءة» في قوله تعالى:
ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب
[التوبة:120] الآية.
قال * ع *: ودرجات الجهاد، لو حصرت، أكثر من هذه، لكن يجمعها بذل النفس، والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها، فالأقوال كلها متقاربة، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس.
[4.97-100]
وقوله تعالى: { إن الذين توفهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم... } الآية: المراد بهذه الآية إلى قوله: { مصيرا } جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة، فافتتنوا، فلما كان أمر بدر، خرج منهم قوم مع الكفار، فقتلوا ببدر، فنزلت الآية فيهم.
قال * ع *: والذي يجري مع الأصول أن من مات من هؤلاء مرتدا، فهو كافر، ومأواه جهنم على جهة الخلود المؤبد، وهذا هو ظاهر أمر هؤلاء، وإن فرضنا فيهم من مات مؤمنا، وأكره على الخروج، أو مات بمكة، فإنما هو عاص في ترك الهجرة، مأواه جهنم على جهة العصيان دون خلود.
وقوله تعالى: { توفهم }: يحتمل أن يكون فعلا ماضيا، ويحتمل أن يكون مستقبلا؛ على معنى: «تتوفاهم»؛ فحذفت إحدى التاءين وتكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي من هذا المعنى في المستقبل بعد نزول الآية، و { ظالمي أنفسهم }: نصب على الحال، أي: ظالميها بترك الهجرة، و { توفهم الملئكة }: معناه: تقبض أرواحهم، قال الزجاج، وحذفت النون من ظالمين؛ تخفيفا؛ كقوله:
بلغ الكعبة
[المائدة:95]، وقول الملائكة: { فيم كنتم }: تقرير وتوبيخ، وقول هؤلاء: { كنا مستضعفين في الأرض }: اعتذار غير صحيح؛ إذ كانوا يستطيعون الحيل، ويهتدون السبل، ثم وقفتهم الملائكة على ذنبهم بقولهم: { ألم تكن أرض الله وسعة } ، والأرض الأولى: هي أرض مكة خاصة، وأرض الله هي الأرض بالإطلاق، والمراد: فتهاجروا فيها إلى مواضع الأمن، وهذه المقاولة إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء، وهي دالة على أنهم ماتوا مسلمين وإلا فلو ماتوا كافرين، لم يقل لهم شيء من هذا، ثم استثنى سبحانه من كان استضعافه حقيقة من زمنى الرجال، وضعفة النساء، والولدان، قال ابن عباس: «كنت أنا وأمي من المستضعفين»، والحيلة: لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، والسبيل: سبيل المدينة؛ فيما قاله مجاهد وغيره، والصواب: أنه عام في جميع السبل، ثم رجى الله تعالى هؤلاء بالعفو عنهم، والمراغم: المتحول والمذهب؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال مجاهد: المراغم المتزحزح عما يكره، وقال ابن زيد: المراغم: المهاجر، وقال السدي: المراغم: المبتغى للمعيشة.
قال * ع *: وهذا كله تفسير بالمعنى، وأما الخاص باللفظة، فإن المراغم هو موضع المراغمة، فلو هاجر أحد من هؤلاء المحبوسين بمكة، لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة، قال ابن عباس وغيره: السعة هنا هي السعة في الرزق، وقال مالك: السعة: سعة البلاد.
قال * ع *: وهذا هو المشبه للفصاحة؛ أن يريد سعة الأرض؛ وبذلك تكون السعة في الرزق، واتساع الصدر، وغير ذلك من وجوه الفرج، وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى: { ألم تكن أرض الله وسعة }.
قال مالك بن أنس (رحمه الله): الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي له أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن، ويعمل فيها بغير الحق.
وقوله تعالى: { ومن يخرج من بيته مهجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت... } الآية حكم هذه الآية باق في الجهاد، والمشي إلى الصلاة، والحج، ونحوه، قلت: وفي الباب حديث عن أبي أمامة، وسيأتي عند قوله تعالى:
فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم
[النور:61].
قال * ع *: والآية نزلت بسبب رجل من كنانة، وقيل: من خزاعة، اسمه ضمرة في قول الأكثر؛ لما سمع قول الله تعالى: الذين { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } قال: إني لذو مال وعبيد، وكان مريضا، فقال: أخرجوني إلى المدينة، فأخرج في سرير، فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت الآية بسببه .
قال * ع *: ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين، وقد خرج غازيا، فله سهمه من الغنيمة، قاسوا ذلك على الأجر، ووقع: عبارة عن الثبوت، وكذلك هي «وجب»؛ لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة، فشبه لازم المعاني بذلك، وباقي الآية بين.
[4.101]
وقوله تعالى: { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة... } الآية: ضربتم: معناه: سافرتم، قال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن راهويه: تقصر الصلاة في أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلا؛ وحجتهم أحاديث رويت في ذلك، عن ابن عمر، وابن عباس.
وقال الحسن والزهري: تقصر في مسيرة يومين، وروي هذا أيضا عن مالك، وروي عنه: تقصر في مسافة يوم وليلة، وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى.
والجمهور على جواز القصر في السفر المباح.
وقال عطاء: لا تقصر إلا في سفر طاعة، وسبيل خير، والجمهور: أنه لا قصر في سفر معصية، والجمهور أنه لا يقصر المسافر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض، وهو قول مالك وجماعة المذهب، وإلى ذلك في الرجوع، وقد ثبت؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم:
" صلى الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين "
، وليس بينهما ثلث يوم ويظهر من قوله تعالى: { فليس عليكم جناح أن تقصروا } أن القصر مباح أو مخير فيه، وقد روى ابن وهب، عن مالك، أن المسافر مخير فيه؛ وقاله الأبهري؛ وعليه حذاق المذهب، وقال مالك في «المبسوط»: القصر سنة؛ وهذا هو الذي عليه جمهور المذهب؛ وعليه جواب «المدونة» بالإعادة في الوقت لمن أتم في سفره.
وقال ابن سحنون وغيره: القصر فرض.
وقوله تعالى: { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا... } الآية، وفي حديث يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن الله تعالى يقول: { إن خفتم }؛ وقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال؛
" صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ".
ويفتنكم: معناه يمتحنكم بالحمل عليكم، وإشغال نفوسكم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الظهر بأصحابه، قال المشركون: قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم، فقال قائل منهم: إن لهم أخرى في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين: { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } إلى آخر صلاة الخوف.
[4.102]
وقوله تعالى: { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة... } الآية: قال جمهور الأمة: الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، وكذلك جمهور العلماء على أن صلاة الخوف تصلى في الحضر، إذا نزل الخوف، قال الطبري: { فأقمت لهم }: معناه: حدودها وهيئتها.
وقوله تعالى: { فلتقم طائفة منهم معك }: أمر بالانقسام، أي: وسائرهم وجاه العدو، ومعظم الروايات والأحاديث على أن صلاة الخوف إنما نزلت الرخصة فيها في غزوة ذات الرقاع، واختلف من المأمور بأخذ الأسلحة هنا؟ فقيل: الطائفة المصلية، وقيل: بل الحارسة.
قال * ع *: ولفظ الآية يتناول الكل، ولكن سلاح المصلين ما خف، قلت: ومن المعلوم أنه إذا كانت الطائفة المصلية هي المأمورة بأخذ السلاح، فالحارسة من باب أحرى.
واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف؛ وبحسب ذلك، اختلف الفقهاء، فروى يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة؛ أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، فصفت طائفة معه، وطائفة وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وروى القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل هذا الحديث بعينه، إلا أنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة، سلم، ثم قضت بعد سلامه، وبحديث القاسم بن محمد، أخذ مالك، وإليه رجع بعد أن كان أولا يميل إلى رواية يزيد بن رومان، وروى عبد الرزاق عن مجاهد، قال: لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف إلا مرتين: مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة بعسفان، والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة.
قال * ع *: وظاهر اختلاف الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه صلى صلاة الخوف في غير هذين الموطنين، وقد ذكر ابن عباس؛ أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة خوف.
وقوله تعالى: { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم... } الآية: المعنى: فإذا سجدوا معك الركعة الأولى، فلينصرفوا؛ هذا على بعض الهيئات المروية، وقيل: المعنى: فإذا سجدوا ركعة القضاء، وهذا على رواية ابن أبي حثمة، والضمير في قوله: { فليكونوا } ، يحتمل أن يكون للذين سجدوا، ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو، ويجيء الكلام وصاة في حال الحذر والحرب.
وقوله تعالى: { ود الذين كفروا لو تغفلون... } الآية: إخبار عن معتقد القوم، وتحذير من الغفلة؛ لئلا ينال العدو أمله، وأسلحة: جمع سلاح، وفي قوله تعالى: { ميلة وحدة }: مبالغة، أي: مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية.
وقوله تعالى: { ولا جناح عليكم... } الآية: ترخيص.
قال ابن عباس: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا، فوضع سلاحه، فعنفه بعض الناس.
قال * ع *: كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين، وينقاس عليهما كل عذر، ثم قوى سبحانه نفوس المؤمنين بقوله: { إن الله أعد للكفرين عذابا مهينا }.
[4.103]
وقوله تعالى: { فإذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قيما وقعودا... } الآية: ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به، إنما هو إثر صلاة الخوف على حد ما أمروا عند قضاء المناسك بذكر الله، فهو ذكر باللسان، والطمأنينة في الآية: سكون النفوس من الخوف، وقال بعض المتأولين: المعنى: فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر، فأقيموها تامة أربعا.
وقوله تعالى: { كتبا موقوتا }: معناه: منجما في أوقات، هذا ظاهر اللفظ، وروي عن ابن عباس؛ أن المعنى: فرضا مفروضا، فهما لفظان بمعنى واحد كرر؛ مبالغة.
[4.104]
وقوله تعالى: { ولا تهنوا في ابتغاء القوم }: أي: لا تلينوا وتضعفوا؛ يقال: حبل واهن، أي: ضعيف؛ ومنه: «وهن العظم» وابتغاء القوم: طلبهم، وهذا تشجيع لنفوس المؤمنين، وتحقير لأمر الكفرة، ثم تأكد التشجيع بقوله: { وترجون من الله ما لا يرجون } ، وهذا برهان بين، ينبغي بحسبه أن تقوى نفوس المؤمنين، وباقي الآية بين.
[4.105]
وقوله تعالى: { إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أرك الله... } الآية: في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة.
وقوله تعالى: { بما أراك الله }: معناه: على قوانين الشرع إما بوحي ونص أو نظر جار على سنن الوحي، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة.
وقوله تعالى: { ولا تكن للخائنين خصيما } ، قال الهروي: { خصيما }: أي: مخاصما، ولا دافعا. انتهى.
قال * ع *: سببها، باتفاق من المتأولين: أمر بني أبيرق، وكانوا إخوة: بشر، وبشير، ومبشر، وطعيمة، وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينحل الشعر لغيره، فكان المسلمون يقولون: والله، ما هو إلا شعر الخبيث، فقال شعرا يتنصل فيه؛ فمنه قوله: [الطويل]
أفي كل ما قال الرجال قصيدة
نحلت، وقالوا: ابن الأبيرق قالها
قال قتادة بن النعمان: وكان بنو أبيرق أهل فاقة، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من درمك الشام، فجعله في مشربة له، وفي المشربة درعان له، وسيفان، فعدي على المشربة من الليل، فلما أصبح، أتاني عمي رفاعة، فقال: يابن أخي، أتعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، وذهب بطعامنا، وسلاحنا، قال: فتحسسنا في الدار، وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا نارا في هذه الليلة، ولا نراه إلا على بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا، ونحن نسأل: والله، ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فسمع ذلك لبيد، فاخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق، فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، فقالوا: إليك عنا، أيها الرجل، فوالله، ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يابن أخي، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بهذه القصة، فأتيته صلى الله عليه وسلم، فقصصتها عليه، فقال: انظر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه رفاعة عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرميانهم بالسرقة على غير بينة، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت، ذكر منهم إسلام وصلاح، فرميتهم بالسرقة من غير بينة، قال: فرجعت، وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي، ولم أكلمه، فأتيت عمي، فقال: ما صنعت، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن: { إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق... } الآيات، قال: فالخائنون: بنو أبيرق، والبريء المرمي لبيد بن سهل، والطائفة التي همت أسير وأصحابه.
قال * ع *: قال قتادة وغير واحد: هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق، ويقال فيه: طعيمة.
قال * ع *: وطعمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد، وهرب إلى مكة، فروي أنه نقب حائط بيت؛ ليسرقه، فانهدم الحائط عليه، فقتله، ويروى أنه اتبع قوما من العرب، فسرقهم، فقتلوه.
[4.106]
وقوله تعالى: { واستغفر الله } ، ذهب الطبري إلى أن المعنى: استغفر من ذنبك في خصامك للناس.
قال * ع *: وهذا ليس بذنب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر، وهو يعتقد براءتهم، والمعنى: واستغفر للمؤمنين من أمتك، والمتخاصمين بالباطل، لا أن تكون ذا جدال عنهم، وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: «سبحانك، اللهم، وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» "
، رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان في «صحيحيهما»، وقال الترمذي، واللفظ له: حديث حسن صحيح غريب، ورواه النسائي والحاكم أيضا من طرق عن عائشة وغيرها . انتهى من «السلاح».
[4.107]
وقوله تعالى: { ولا تجدل عن الذين يختانون أنفسهم } ، لفظ عام يندرج تحته أصحاب النازلة، ويتقرر به توبيخهم، وفي قوله تعالى: { إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما }: رفق وإبقاء؛ فإن الخوان هو الذي تتكرر منه الخيانة؛ كطعيمة بن الأبيرق، والأثيم هو الذي يقصدها، فيخرج من هذا التشديد الساقط مرة واحدة، ونحو ذلك، واختيان الأنفس هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة.
[4.108]
وقوله تعالى: { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله... } الآية: الضمير في «يستخفون» للصنف المرتكب للمعاصي، ويندرج في طي هذا العموم أهل الخيانة في النازلة المذكورة، وأهل التعصب لهم، والتدبير في خدع النبي صلى الله عليه وسلم والتلبيس عليه، ويحتمل أن يكون الضمير لأهل هذه النازلة، ويدخل في معنى هذا التوبيخ كل من يفعل نحو فعلهم، قال صاحب «الكلم الفارقية، والحكم الحقيقية»: النفوس المرتكبة للمحارم؛ المحتقبة للمآثم، والمظالم؛ شبيهة بالأراقم، تملأ أفواهها سما، وتقصد من تقذفه عليه عدوانا وظلما، تجمع في ضمائرها سموم شرورها وضررها، وتحتال لإلقائها على الغافلين عن مكائدها وخدعها. انتهى.
ومعنى: { وهو معهم } ، بالإحاطة والعلم والقدرة، ويبيتون: يدبرون ليلا، ويحتمل أن تكون اللفظة مأخوذة من البيت، أي: يستترون في تدبيرهم بالجدرات.
[4.109-111]
وقوله تعالى: { هأنتم هؤلآء }: خطاب للقوم الذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي، ويندرج في طي هذا العموم أهل النازلة، وهو الأظهر عندي؛ بحكم التأكيد بهؤلاء، وهي إشارة إلى حاضرين، ومن «مصابيح البغوي» عن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل، وهو يعلمه لم يزل في سخط الله، حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال؛ حتى يخرج مما قال "
، ويروى:
" من أعان على خصومة لا يدري أحق أم باطل، فهو في سخط الله؛ حتى ينزع "
انتهى.
وقوله تعالى: { فمن يجدل الله عنهم يوم القيمة... } الآية: وعيد محض، ولما تمكن هذا الوعيد، وقضت العقول بأن لا مجادل لله سبحانه، ولا وكيل يقوم بأمر العصاة عنده، عقب ذلك بهذا الرجاء العظيم، والمهل المنفسح، فقال: { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه... } الآية، وباقي الآية بين.
[4.112-113]
وقوله تعالى: { ومن يكسب خطيئة أو إثما } ، ذهب بعض الناس إلى أنهما لفظان بمعنى، كرر؛ لإختلاف اللفظ، وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم؛ لأن الخطيئة تكون عن عمد، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وهذه الآية لفظها عام، ويندرج تحت ذلك العموم أهل النازلة المذكورة، وبريء النازلة، وهو لبيد، كما تقدم، أي: ويتناول عموم الآية كل بريء.
وقوله: { فقد احتمل بهتنا }: تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر، فهي كالمحمولات، و { بهتنا }: معناه: كذبا، ثم وقف الله تعالى نبيه على مقدار عصمته له، وأنها بفضل منه سبحانه ورحمته.
وقوله تعالى: { لهمت }: معناه: لجعلته همها وشغلها، حتى تنفذه؛ وهذا يدل على أن الألفاظ عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل التعصب لبني أبيرق قد وقع همهم وثبت، ثم أخبر تعالى أنهم لا يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شيء، قلت: ثم ذكر سبحانه ما أنعم به على نبيه من إنزال الكتاب، والحكمة، وتعليمه ما لم يكن يعلم، قال ابن العربي في رحلته: اعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام: توحيد، وتذكير، وأحكام، وعلم التذكير هو معظم القرآن، فإنه مشتمل على الوعد والوعيد، والخوف والرجاء، والقرب وما يرتبط بها، ويدعو إليها ويكون عنها، وذلك معنى تتسع أبوابه، وتمتد أطنابه. انتهى، وباقي الآية وعد كريم لنبيه عليه السلام ، وتقرير نعمه لديه سبحانه، لا إله غيره.
[4.114]
وقوله تعالى: { لا خير في كثير من نجوهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلح بين الناس... } الآية: الضمير في { نجوهم }: عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات عامة التناول، وفي عمومها يندرج أصحاب النازلة، وهذا من الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة، قال النووي وروينا في كتابي «الترمذي» و «ابن ماجة»، عن أم حبيبة (رضي الله عنها)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمرا بمعروف، أو نهيا عن منكر، أو ذكرا لله تعالى "
انتهى.
والنجوى: المسارة، وقد تسمى بها الجماعة؛ كما يقال: قوم عدل، وليست النجوى بمقصورة على الهمس في الأذن، والمعروف لفظ يعم الصدقة والإصلاح وغيرهما، ولكن خصا بالذكر؛ اهتماما؛ إذ هما عظيما الغناء في مصالح العباد، ثم وعد تعالى بالأجر العظيم على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى.
[4.115-116]
وقوله تعالى: { ومن يشاقق الرسول... } الآية: لفظ عام نزل بسبب طعمة بن أبيرق؛ لأنه ارتد وسار إلى مكة، فاندرج الإنحاء عليه في طي هذا العموم المتناول لمن اتصف بهذه الصفات إلى يوم القيامة.
وقوله: { نوله ما تولى }: وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره في تودد الطاغوت، ثم أوجب تعالى؛ أنه لا يغفر أن يشرك به، وقد مضى تفسير مثل هذه الآية.
[4.117-119]
وقوله تعالى: { إن يدعون من دونه إلا إنثا وإن يدعون إلا شيطنا مريدا... } الآية: الضمير في { يدعون }: عائد على من ذكر في قوله:
ومن يشاقق الرسول
[النساء:115]، و «إن»: نافية بمعنى «ما»، ويدعون: عبارة مغنية موجزة في معنى: يعبدون ويتخذون آلهة، قلت وفي «البخاري» { إلا إنثا }: يعني الموات حجرا ومدرا، وما أشبهه. انتهى، وفي مصحف عائشة: «إلا أوثانا»؛ ونحوه عن ابن عباس، والمراد بالشيطان هنا إبليس؛ قاله الجمهور، وهو الصواب؛ لأن سائر المقالة به تليق، و { مريدا }: معناه: متمردا عاتيا صليبا في غوايته، وأصل اللعن: الإبعاد، والمفروض: معناه: في هذا الموضع المنحاز، وهو مأخوذ من الفرض، وهو الحز في العود وغيره.
قال * ع *: ويحتمل أن يريد واجبا إن اتخذه، وبعث النار هو نصيب إبليس.
وقوله: { ولأضلنهم... } الآية: معنى أضلنهم: أصرفهم عن طريق الهدى، { ولأمنينهم } لأسولن لهم، وأمانيه لا تنحصر في نوع واحد، والبتك: القطع.
وقوله: { ولأمرنهم فليغيرن خلق الله } اختلف المتأولون في معنى تغيير خلق الله، وملاك تفسير هذه الآية أن كل تغيير ضار، فهو داخل في الآية، وكل تغيير نافع فهو مباح، وفي «مختصر الطبري»: { فليغيرن خلق الله } ، قال ابن عباس: خلق الله: دين الله ، وعن إبراهيم، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد مثله، وفسر ابن زيد:
لا تبديل لخلق الله
[الروم:30]، أي: لدين الله، واختار الطبري هذا القول؛ واستدل له بقوله تعالى:
ذلك الدين القيم
[الروم:30] وأجاز أن يدخل في الآية كل ما نهى الله عنه من معاصيه، والترك لطاعته. انتهى، وهو حسن.
قال * ع *: واللامات كلها للقسم.
قال * ص *: { ولأضلنهم } ، مفعوله محذوف، أي: عن الهدى؛ وكذا: { ولأمنينهم } ، أي: الباطل؛ وكذا { ولآمرنهم } ، أي: بالبتك، فليبتكن؛ وكذا: { ولآمرنهم } ، أي: بالتغيير، فليغيرن كل ما أوجده الله للطاعة فيستعينون به في المعصية. انتهى.
ولما ذكر الله سبحانه عتو الشيطان، وما توعد به من بث مكره، حذر تبارك وتعالى عباده؛ بأن شرط لمن يتخذه وليا جزاء الخسران.
[4.120-122]
وقوله تعالى: { يعدهم ويمنيهم } ، أي: يعدهم بأباطيله من المال، والجاه، وأن لا بعث، ولا عقاب، ونحو ذلك لكل أحد ما يليق بحاله، ويمنيهم كذلك، ثم ابتدأ سبحانه الخبر عن حقيقة ذلك؛ بقوله: { وما يعدهم الشيطن إلا غرورا } ثم أخبر سبحانه بمصير المتخذين الشيطان وليا، وتوعدهم بأن مأواهم جهنم، لا يدافعونها بحيلة، ولا يتروغون، و { محيصا }: من حاص؛ إذا راغ ونفر؛ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ولم ندر إن حصنا من الموت حيصة
كم العمر باق والمدى متطاول
ومنه الحديث:
" فحاصوا حيصة حمر الوحش "
، ولما ذكر سبحانه ما تقدم من الوعيد، واقتضى ذلك التحذير، عقب ذلك عز وجل بالترغيب في ذكره حالة المؤمنين، وأعلم بصحة وعده، ثم قرر ذلك بالتوقيف عليه في قوله: { ومن أصدق من الله قيلا } ، والقيل والقول واحد، ونصبه على التمييز.
[4.123]
وقوله تعالى: { ليس بأمنيكم ولا أماني أهل الكتب... } الاية: الأماني: جمع أمنية، وهي ما يتشهاه المرء، ويطمع نفسه فيه، قال ابن عباس وغيره: الخطاب لأمة النبي صلى الله عليه وسلم وفي «مختصر الطبري»، عن مسروق وغيره، قال: احتج المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى، وقال أهل الكتاب: نحن أهدى، فأنزل الله هذه الآية، وعن مجاهد: قالت العرب: لن نبعث، ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى:
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى
[البقرة:111]، وقالوا:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[البقرة:80]، قال الطبري: وقول مجاهد أولى بالصواب، وذلك أن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي، وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان. انتهى.
وعليه عول * ص *: في سبب نزول الآية، أعني: على تأويل مجاهد.
وقوله تعالى: { من يعمل سوءا يجز به }.
قال جمهور الناس: لفظ الآية عام، فالكافر والمؤمن مجازى، فأما مجازات الكافر، فالنار، وأما مجازات المؤمن، فبنكبات الدنيا؛ فمن بقي له سوء إلى الآخرة، فهو في المشيئة يغفر الله لمن يشاء، ويجازي من يشاء.
[4.124-125]
وقوله تعالى: { ومن يعمل من الصلحت } ، دخلت «من» للتبعيض؛ إذ الصالحات على الكمال مما لا يطيقه البشر؛ ففي هذا رفق بالعباد، لكن في هذا البعض الفرائض، وما أمكن من المندوب إليه، ثم قيد الأمر بالإيمان؛ إذ لا ينفع عمل دونه، والنقير: النكتة التي في ظهر النواة ومنه تنبت، وعن ابن عباس: ما تنقره بأصبعك.
ثم أخبر تعالى إخبارا موقفا على أنه لا أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله، أي: أخلص مقصده وتوجهه، وأحسن في أعماله، واتبع الحنيفية ملة إبراهيم إمام العالم، وقدوة الأديان، ثم ذكر سبحانه تشريفه لنبيه إبراهيم عليه السلام ؛ باتخاذه خليلا، وسماه خليلا؛ إذ كان خلوصه، وعبادته، واجتهاده على الغاية التي يجري إليها المحب المبالغ، وذهب قوم؛ إلى أنه سمي خليلا من «الخلة» بفتح الخاء ، أي: لأنه أنزل خلته وفاقته بالله تعالى، وكذلك شرف الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بالخلة؛ كما هو مصرح به في الحديث الصحيح.
[4.126]
وقوله تعالى: { ولله ما في السموت وما في الأرض... } الآية: ذكر سبحانه سعة ملكه وإحاطته بكل شيء، عقب ذكر الدين، وتبيين الجادة منه؛ ترغيبا في طاعته والانقطاع إليه سبحانه.
[4.127]
وقوله تعالى: { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم... } الآية: معنى قوله: { يفتيكم فيهن }: أي: يبين لكم حكم ما سألتم عنه.
قال * ع *: تحتمل «ما» أن تكون في موضع رفع؛ عطفا على اسم الله عز وجل، أي: ويفتيكم ما يتلى عليكم في الكتاب، يعني: القرآن، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الآية في أمر النساء، وهو قوله تعالى في صدر السورة:
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتمى فانكحوا ما طاب لكم من النساء...
[النساء:3]، قالت عائشة: نزلت هذه الآية أولا، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر النساء، فنزلت، { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن... } الآية.
وقوله تعالى: { في يتمى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن }: معناه: النهي عما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة بدون ما تستحقه من المهر، ومن عضل الدميمة الغنية حتى تموت، فيرثها العاضل، والذي كتب الله لهن هو توفية ما تستحقه من مهر.
وقوله تعالى: { وترغبون أن تنكحوهن } ، أي: إن كانت الجارية غنية جميلة، فالرغبة في نكاحها، وإن كانت بالعكس، فالرغبة عن نكاحها.
وقوله تعالى: { والمستضعفين من الولدن } عطف على «يتامى النساء»، والذي يتلى في المستضعفين من الولدان هو قوله تعالى:
يوصيكم الله في أولدكم...
[النساء:11]؛ وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية، ولا الصبي الصغير، ففرض الله تعالى لكل واحد حقه.
وقوله تعالى: { وأن تقوموا لليتمى بالقسط }: عطف أيضا على ما تقدم، والذي تلي في هذا المعنى هو قوله تعالى:
ولا تأكلوا أمولهم إلى أمولكم...
[النساء:2]، إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم، والقسط: العدل، وباقي الآية بين.
[4.128]
وقوله تعالى: { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا... } الآية: هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ونحو ذلك مما يرغب زوجها عنها، فيعرض عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة، فتريد هي بقاء العصمة، فهذه التي أباح الله بينهما الصلح ورفع الجناح فيه.
واختلف في سبب نزول الآية، فقال ابن عباس وجماعة: نزلت في النبي عليه السلام وسودة بنت زمعة وفي المصنفات: أن سودة لما كبرت، وهبت يومها لعائشة، وقال ابن المسيب وغيره: نزلت بسبب رافع بن خديج وامرأته خولة، وقال مجاهد: نزلت بسبب أبي السنابل وامرأته، ولفظ ابن العربي في «أحكامه »: قوله تعالى: { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا... } الآية: قالت عائشة (رضي الله تعالى عنها): هي المرأة تكون عند الرجل ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول له: أجعلك من شأني في حل، فنزلت الآية، قال الفقيه أبو بكر بن العربي: فرضوان الله على الصديقة المطهرة، لقد وفت بما حملها ربها من العهد في قوله تعالى:
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله والحكمة
[الأحزاب:34] انتهى.
وقوله تعالى: { والصلح خير } لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف خير على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة.
وقوله تعالى: { وأحضرت الأنفس الشح } معذرة عن عبيده تعالى، أي: لا بد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره، وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا.
فقال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها، وبقسمه لها أيامها.
وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها؛
قال * ع *: وهذا حسن.
والشح: الضبط على المعتقدات، وفي الهمم، والأموال، ونحو ذلك، فما أفرط منه، ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال تعالى فيه:
ومن يوق شح نفسه
[الحشر:9] وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية، أو التي تقتضيها المروءة، فهو البخل، وهي رذيلة، لكنها قد تكون في المؤمن؛ ومنه الحديث:
" قيل: يا رسول الله، أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: نعم "
، وأما الشح، ففي كل أحد، وينبغي ألا يفرط إلا على الدين؛ ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى: { وأحضرت الأنفس الشح } ، وقوله:
ومن يوق شح نفسه
[الحشر:9]، فقد أثبت أن لكل نفس شحا، وقول النبي عليه السلام :
" وأن تصدق وأنت صحيح شحيح "
، وهذا لم يرد به واحدا بعينه، وليس يجمل أن يقال هنا: أن تصدق وأنت صحيح بخيل.
وقوله تعالى: { وإن تحسنوا }: ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة، والصبر على خلق الزوجة، { وتتقوا }: معناه: تتقوا الله في وصيته بهن؛ إذ هن عوان عندكم .
[4.129]
وقوله تعالى: { ولن تستطيعوا أن تعدلوا... } الآية: معناه: العدل التام على الإطلاق، والمستوي في الأفعال، والأقوال، والمحبة، والجماع، وغير ذلك،
" وكان صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، ثم يقول: اللهم، هذا فعلي فيما أملك، فلا تؤاخذني بما تملك، ولا أملك ".
فوصف الله سبحانه حالة البشر؛ أنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج، دون بعض، ثم نهى سبحانه عن الميل كل الميل، وهو أن يفعل فعلا يقصده من التفضيل، وهو يقدر ألا يفعله، فهذا هو كل الميل، وإن كان في أمر حقير.
وقوله سبحانه: { فتذروها كالمعلقة } ، أي: لا هي أيم، ولا ذات زوج، وجاء في التي قبل: { وإن تحسنوا } ، وفي هذه:
وإن تصلحوا
[النساء: 128]؛ لأن الأولى في مندوب إليه، وفي هذه في لازم؛ إذ يلزمه العدل فيما يملك.
[4.130]
وقوله تعالى: { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته... } الآية: إن شح كل واحد من الزوجين، فلم يتصالحا، لكنهما تفرقا بطلاق، فإن الله تعالى يغني كل واحد منهما عن صاحبه بفضله، ولطائف صنعه في المال، والعشرة، والسعة، وجود المرادات، والتمكن منها، والواسع: معناه: الذي عنده خزائن كل شيء.
[4.131-133]
وقوله سبحانه: { ولله ما في السموات وما في الأرض }: تنبيه على موضع الرجاء لهذين المفترقين، ثم جاء بعد ذلك قوله: { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض }؛ تنبيها على استغنائه عن العباد، ومقدمة للخبر بكونه غنيا حميدا، ثم جاء بعد ذلك قوله: { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا } مقدمة للوعيد، فهذه وجوه تكرار هذا الخبر الواحد ثلاث مرات متقاربة.
* ت *: وفي تمشيته هذه عندي نظر، والأحسن بقاء الكلام على نسقه فقوله (رحمه الله): «تنبيه على موضع الرجاء لهذين المفترقين» حسن، وإنما الذي فيه قلق ما بعده من توجيهه.
وقوله تعالى: { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتب من قبلكم وإيكم... } الآية: لفظ عام لكل من أوتي كتابا، فإن وصيته سبحانه لعباده لم تزل منذ أوجدهم.
* ت *: قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي في «سراج الملوك»: ولما ضرب ابن ملجم عليا (رضي الله عنه)، أدخل منزله، فاعترته غشية، ثم أفاق، فدعا أولاده؛ الحسن، والحسين، ومحمدا، فقال: أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والعدل على الصديق والعدو، والعمل في النشاط والكسل، والرضا عن الله في الشدة والرخاء؛ يا بني، ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعده النار بخير، وكل نعيم دون الجنة حقير، وكل بلاء دون النار عافية، من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومن سل سيف بغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه، كشف الله عورات بنيه، ومن نسي خطيئته، استعظم خطيئة غيره، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن أعجب برأيه ضل. ومن جالس العلماء وقر، ومن خالط الأنذال احتقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار، يا بني، الأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين، يا بني، العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله، وواحد في ترك مجالسة السفهاء، يا بني، زينة الفقر الصبر، وزينة الغنى الشكر، يا بني، لا شرف أعز من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى، يا بني، الحرص مفتاح البغي، ومطية النصب، طوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه، وحبه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وقوله وفعله. انتهى.
والوكيل: القائم بالأمور، المنفذ فيها ما رآه، وقوله: { أيها الناس }: مخاطبة للحاضرين من العرب، وتوقيف للسامعين؛ لتحضر أذهانهم، وقوله: { بآخرين } يريد من نوعكم، وتحتمل الآية أن تكون وعيدا لجميع بني آدم، ويكون الآخرون من غير نوعهم؛ كالملائكة، وقول الطبري: «هذا الوعيد والتوبيخ للشافعين والمخاصمين في قصة بني أبيرق» بعيد، واللفظ إنما يظهر حسن رصفه بعمومه وانسحابه على العالم جملة، أو العالم الحاضر.
[4.134-135]
وقوله تعالى: { من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والأخرة... } الآية: أي: من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا، ولا يعتقد أن ثم سواه، فليس كما ظن، بل عند الله سبحانه ثواب الدارين، فمن قصد الآخرة، أعطاه الله من ثواب الدنيا، وأعطاه قصده، ومن قصد الدنيا فقط، أعطاه من الدنيا ما قدر له، وكان له في الآخرة العذاب، والله تعالى سميع للأقوال، بصير بالأعمال والنيات، وفي الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى... "
الحديث، قال النووي: بلغنا عن ابن عباس؛ أنه قال: «إنما يحفظ الرجل على قدر نيته»، وقال غيره: إنما يعطى الناس على قدر نياتهم. انتهى.
ثم خاطب سبحانه المؤمنين بقوله: { كونوا قومين بالقسط } ، وهو العدل، ومعنى { شهداء لله } ، أي: لذاته، ولوجهه، ولمرضاته سبحانه، وقوله: { ولو على أنفسكم }: متعلق ب { شهداء } ، هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق، ويحتمل أن يكون المعنى: شهداء لله بالوحدانية، ويتعلق قوله: { ولو على أنفسكم } ، ب { قومين بالقسط } ، والتأويل الأول أبين، وشهادة المرء على نفسه هو إقراره بالحقائق.
قال * ص *: وقوله تعالى: { إن يكن غنيا أو فقيرا }: ضمير «يكن» عائد إلى المشهود عليه، والضمير في «بهما» عائد على جنسي الغني والفقير. انتهى.
قال * ع *: وقوله: { أولى بهما }: أي: هو أنظر لهما، وروى الطبري؛ أن هذه الآية هي بسبب نازلة بني أبيرق، وقيام من قام فيها بغير القسط.
وقوله تعالى: { فلا تتبعوا الهوى }: نهي بين، واتباع الهوى مرد مهلك.
وقوله تعالى: { أن تعدلوا } يحتمل أن يكون معناه: مخافة أن تعدلوا، ويكون العدل هنا بمعنى العدول عن الحق، ويحتمل أن يكون معناه: محبة أن تعدلوا، ويكون العدل بمعنى القسط.
وقوله تعالى: { وإن تلووا أو تعرضوا... } الآية: قال ابن عباس: هي في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر، وقال ابن زيد وغيره: هي في الشهود يلوي الشهادة بلسانه، أو يعرض عن أدائها.
قال * ع *: ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، والتوسط بين الناس، وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل، والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة، فتأمله، وقد تقدم تفسير اللي، وباقي الآية وعيد.
[4.136]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله... } الآية: اختلف من المخاطب بهذه الآية:
فقيل: الخطاب للمؤمنين، ومضمن هذا الأمر الثبوت والدوام، وقالت فرقة: الخطاب لأهل الكتابين، ورجحه الطبري، وقيل: الخطاب للمنافقين، أي: يأيها الذين آمنوا في الظاهر، ليكن إيمانكم حقيقة.
وقوله سبحانه: { ومن يكفر بالله... } إلى آخر الآية: وعيد، وخبر مضمنه تحذير المؤمنين من حالة الكفر.
[4.137]
وقوله تعالى: { إن الذين ءامنوا ثم كفروا... } الآية: قال مجاهد، وابن زيد: الآية في المنافقين، فإن منهم من كان يؤمن، ثم يكفر، ثم يؤمن، ثم يكفر، ثم ازداد كفرا؛ بأن تم على نفاقه حتى مات.
قال * ع *: وهذا هو التأويل الراجح، وتأمل قوله تعالى: { لم يكن الله ليغفر لهم }؛ فإنها عبارة تقتضي أن هؤلاء محتوم عليهم من أول أمرهم؛ ولذلك ترددوا، وليست هذه العبارة مثل أن يقول: لا يغفر الله لهم، بل هي أشد، فتأمل الفرق بين العبارتين؛ فإنه من دقيق غرائب الفصاحة التي في كتاب الله سبحانه.
[4.138-139]
وقوله تعالى: { بشر المنفقين بأن لهم عذابا أليما... } الآية: في هذه الآية دليل ما على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين، ثم نص سبحانه من صفات المنافقين على أشدها ضررا، وهي موالاتهم الكافرين، واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك؛ ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين؛ غفلة، أو جهالة، أو مسامحة ثم وقفهم سبحانه؛ على جهة التوبيخ، فقال: { أيبتغون عندهم العزة }؛ والإستكثار، أي: ليس الأمر كذلك؛ فإن العزة لله جميعا يؤتيها من يشاء، وقد وعد بها المؤمنين، وجعل العاقبة للمتقين، والعزة أصلها الشدة والقوة؛ ومنه:
وعزني في الخطاب
[ص:23] أي: غلبني بشدته.
[4.140]
وقوله سبحانه: { وقد نزل عليكم في الكتب... } الآية: مخاطبة لجميع من أظهر الإيمان من محقق ومنافق؛ لأنه إذا أظهر الإيمان، فقد لزمه امثتال أوامر كتاب الله تعالى، والإشارة بهذه الآية إلى قوله تعالى:
وإذا رأيت الذين يخوضون في ءايتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره
[الأنعام:68] إلى نحو هذا من الآيات، والكتاب في هذا الموضع القرآن، وفي الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع والمعاصي، وألا يجالسوا، وقد قيل: [الطويل]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن مقتد
وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ثم توعد سبحانه المنافقين والكافرين بجمعهم في جهنم، فتأكد بذلك النهي عن مجالستهم وخلطتهم.
[4.141-143]
وقوله تعالى: { الذين يتربصون بكم... } الآية: هذه صفة المنافقين، و { يتربصون بكم }: معناه: ينتظرون دور الدوائر عليكم، فإن كان فتح للمؤمنين، ادعوا فيه النصيب بحكم ما يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافرين نيل من المؤمنين، ادعوا فيه النصيب بحكم ما يبطنونه من موالاة الكفار، وهذا حال المنافقين، و { نستحوذ }: معناه: نغلب على أمركم ونحوطكم؛ ومنه:
استحوذ عليهم الشيطن
[المجادلة:19]، معناه: غلب على أمرهم، ثم سلى سبحانه المؤمنين، وأنسهم بما وعدهم به في قوله: { فالله يحكم بينكم يوم القيمة } ، أي: وبينهم، وينصفكم من جميعهم، وبقوله تعالى: { ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا } ، أي: يوم القيامة؛ قاله علي (رضي الله عنه)؛ وعليه جميع أهل التأويل، والسبيل (هنا): الحجة والغلبة. قلت: إلا ابن العربي لم يرتض هذا التأويل، قال: وإنما معنى الآية أحد ثلاثة وجوه:
الأول: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويستبيح بيضتهم.
الثاني: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا إلا أن يتواصوا بالباطل، ولا يتناهوا عن المنكر، ويتباعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدو من قبلهم، وهذا نفيس جدا.
الثالث: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا بالشرع، فإن وجد ذلك، فبخلاف الشرع، ونزع بهذا علماؤنا؛ بالاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم. انتهى.
ومخادعة المنافقين: هي لأولياء الله، ففي الكلام حذف مضاف؛ إذ لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله سبحانه.
وقوله تعالى: { وهو خادعهم }: عبارة عن عقوبتهم، سماها باسم الذنب، وقال ابن جريج، والحسن، والسدي، وغيرهم من المفسرين: إن هذا الخدع هو أن الله تعالى يعطي لهذه الأمة يوم القيامة نورا لكل إنسان مؤمن، أو منافق، فيفرح المنافقون، ويظنون؛ أنهم قد نجوا، فإذا جاءوا إلى الصراط، طفىء نور كل منافق، ونهض المؤمنون، فذلك قول المنافقين:
انظرونا نقتبس من نوركم
[الحديد:13]، فذلك هو الخدع الذي يجري على المنافقين، ثم ذكر سبحانه كسلهم في الصلاة، وتلك حال كل من يعمل كارها غير معتقد فيه الصواب، بل تقية أو مصانعة.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { ولا يذكرون الله إلا قليلا } ، روى الأئمة مالك وغيره، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس، وكانت بين قرني الشيطان، قام ينقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا "
قال ابن العربي: وقد بين تعالى صلاة المؤمنين بقوله:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خشعون
[المؤمنون:1، 2] ومن خشع خضع، واستمر، ولم ينقر صلاته، ولم يستعجل. انتهى.
و { مذبذبين }: معناه: مضطربين لا يثبتون على حال، والتذبذب: الاضطراب، فهؤلاء المنافقون مترددون بين الكفار والمؤمنين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:
" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين "
، والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان.
[4.144-147]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكفرين أولياء من دون المؤمنين... } الآية: خطابه سبحانه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان، ففي اللفظ رفق بهم، وهم المراد بقوله سبحانه: { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا }؛ لأن هذا التوقيف إنما هو لمن ألم بشيء من الفعل المؤدي إلى هذه الحال، والمؤمنون المخلصون ما ألموا قط بشيء من ذلك، ويقوي هذا المنزع قوله تعالى: { من دون المؤمنين } ، أي: والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة، وهذا لا يقال للمؤمنين والمخلصين، بل المعنى: يأيها الذين أظهروا الإيمان، والتزموا لوازمه، والسلطان: الحجة.
ثم أخبر تعالى عن المنافقين؛ أنهم في الدرك الأسفل من نار جهنم ؛ وذلك لأنهم أسرى غوائل من الكفار، وأشد تمكنا من أذى المسلمين؛ قلت: وأيضا لأنهم شاهدوا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وما جعل الله على يديه من الخوارق ما لم يشاهد غيرهم من الكفار، فكانت الحجة عليهم أعظم، وكان كفرهم محض عناد، وروي عن أبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهما؛ أنهم قالوا: المنافقون في الدرك الأسفل من النار، في توابيت من النار تقفل عليهم، ثم استثنى عز وجل التائبين من المنافقين، ومن شروط التائب؛ أن يصلح في قوله وفعله، ويعتصم بالله، أي: يجعله منعته، وملجأه، ويخلص دينه لله تعالى، وإلا فليس بتائب، وقوله: { فأولئك مع المؤمنين } ، أي: في رحمة الله سبحانه، وفي منازل الجنة، ثم وعد سبحانه المؤمنين الأجر العظيم، وهو التخليد في الجنة.
وقال * ص *: { فأولئك }: خبره مضمر، والتقدير: فأولئك مؤمنون مع المؤمنين؛ قاله أبو البقاء. انتهى.
ثم قال سبحانه للمنافقين: { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم... } الآية: أي: أي منفعة له سبحانه في ذلك أو حاجة؟! قال أبو عبد الله اللخمي: زعم الطبري؛ أن قوله تعالى: { ما يفعل الله بعذابكم }: خطاب للمنافقين، ولا يكاد يقوم له على ذلك دليل يقطع به، وليس في ذكر المنافقين قبله ما يقتضي أن يحمل عليهم خاصة، مع احتمال الآية للعموم، فقطعه بأن الآية في المنافقين حكم لا يقوم به دليل. انتهى، وهو حسن؛ إذ حمل الآية على العموم أحسن.
والعجب من * ع *: كيف تبع الطبري في هذا التخصيص، ويظهر والله أعلم أنهما عولا في تخصيص الآية على قوله تعالى: { وءامنتم } ، وهو محتمل أن يحمل في حق المنافقين على ظاهره، وفي حق المؤمنين على معنى: «دمتم على إيمانكم»، والله أعلم.
والشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترنا بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيدا وتنبيها على جلالة موقعه، ثم وعد سبحانه بقوله: { وكان الله شكرا عليما }: أي يتقبل أقل شيء من العمل، وينميه؛ فذلك شكر منه سبحانه لعباده، والشكور من البهائم: الذي يأكل قليلا، ويظهر به بدنه، والعرب تقول في مثل: «أشكر من بروقة»؛ لأنها يقال: تخضر وتتنضر بظل السحاب دون مطر، وفي قوله: { عليما }: تحذير وندب إلى الإخلاص.
[4.148-149]
وقوله تعالى: { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم... } الآية: قراءة الجمهور بضم الظاء، وقرىء شاذا بفتحها، واختلف على قراءة الجمهور، فقالت فرقة: المعنى: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم، فلا يكره له الجهر به، ثم اختلفت هذه الفرقة في كيفية الجهر بالسوء، وما هو المباح منه، فقال ابن عباس وغيره: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول، أي: بما يوازي الظلامة، وقال مجاهد وغيره: نزلت في الضيف المحول رحله، فإنه رخص له أن يجهر بالسوء من القول للذي لم يكرمه، يريد: بقدر الظلم، والظلامة، وفي «صحيح البخاري»، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت "
انتهى.
«وسميع عليم»: صفتان لائقتان بالجهر بالسوء، وبالظلم أيضا، فإنه يعلمه ويجازي عليه، ولما ذكر سبحانه عذر المظلوم في أن يجهر بالسوء لظالمه، أتبع ذلك عرض إبداء الخير، وإخفائه، والعفو عن السوء، ثم وعد عليه سبحانه بقوله: { فإن الله كان عفوا قديرا } وعدا خفيا تقتضيه البلاغة، ورغب سبحانه في العفو؛ إذ ذكر أنها صفته مع القدرة على الإنتقام.
قال * ع *: ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها، قال الداوودي: وعن ابن عمر؛ أنه قال: لا يحب الله سبحانه أن يدعو أحد على أحد إلا أن يظلم، فقد رخص له في ذلك. انتهى.
[4.150-152]
وقوله تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله... } إلى آخر الآية: نزلت في اليهود والنصارى، وقد تقدم بيان هذه المعاني.
وقوله تعالى: { والذين ءامنوا بالله ورسله... } الآية: لما ذكر سبحانه أن المفرقين بين الرسل هم الكافرون حقا، عقب ذلك بذكر المؤمنين بالله ورسله جميعا، وهم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ليصرح بوعد هؤلاء؛ كما صرح بوعيد أولئك، فبين الفرق بين المنزلتين.
[4.153-154]
وقوله تعالى: { يسألك أهل الكتب أن تنزل عليهم كتبا من السماء... } الآية: قال قتادة سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بكتاب من عند الله خاص لليهود، يأمرهم فيه بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحوه عن ابن جريج، وزاد: «إلى فلان، وإلى فلان أنك رسول الله»، ثم قال سبحانه؛ على جهة التسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم: { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } ، وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور، تقديره: فلا تبال، يا محمد، من سؤالهم وتشططهم؛ فإنها عادتهم، وجمهور المتأولين على أن { جهرة } معمول ل { أرنا } ، أي: حتى نراه جهارا، أي: عيانا، وأهل السنة معتقدون أن هؤلاء لم يسألوا محالا عقلا، لكنه محال من جهة الشرع؛ إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا يرى سبحانه في هذه الدنيا، والرؤية في الآخرة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المتواتر، وهي جائزة عقلا من غير تحديد، ولا تكييف ولا تحيز؛ كما هو تعالى معلوم لا كالمعلومات؛ كذلك هو مرئي، لا كالمرئيات سبحانه؛ هذه حجة أهل السنة، وقولهم، وقد تقدم قصص القوم في «البقرة»، وظلمهم: هو تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه.
وقوله تعالى: { ثم اتخذوا العجل }: «ثم»: للترتيب في الأخبار، لا في نفس الأمر، التقدير؛ ثم قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل، وذلك أن اتخاذ العجل كان عند أمر المضي إلى المناجاة، ولم يكن الذين صعقوا ممن اتخذ العجل، لكن الذين اتخذوه كانوا قد جاءتهم البينات.
وقوله سبحانه: { فعفونا عن ذلك } ، يعني: بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم، ثم وقع العفو عن الباقين منهم.
[4.155-157]
وقوله سبحانه: { فبما نقضهم }: «ما» زائدة مؤكدة، التقدير: فبنقضهم، فالآية مخبرة عن أشياء واقعوها هي ضد ما أمروا به، وحذف جواب هذا الكلام بليغ مبهم متروك مع ذهن السامع، تقديره: لعناهم ونحوه، ثم قال سبحانه: { وبكفرهم }: أي: بعيسى، و { قولهم على مريم بهتنا } ، هو رميهم إياها بالزنا بعد رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد؛ و { قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم... } الآية: هذه الآية والتي قبلها عدد الله تعالى فيهما أقوال بني إسرائيل، وأفعالهم؛ على اختلاف الأزمان، وتعاقب القرون؛ فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه الطائفة التي قالت: إنا قتلنا المسيح غير الذين نقضوا الميثاق في الطور، وغير الذين اتخذوا العجل، وقول بني إسرائيل إنما هو إلى قوله: { عيسى ابن مريم }.
وقوله تعالى: { رسول الله } ، إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى، وهي الرسالة، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل، ولزمهم الذنب، وهم لم يقتلوا عيسى؛ لأنهم صلبوا ذلك الشخص؛ على أنه عيسى، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول الله، فلزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى.
قال * ص *: و { عيسى }: بدل أو عطف بيان من { المسيح } ، و { رسول الله } كذلك، ويجوز أن يكون صفة ل { عيسى } ، وأن يكون نصبا على إضمار أعني.
قلت: وهذا الأخير أحسنها من جهة المعنى. انتهى.
ثم أخبر سبحانه أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى، وما صلبوه، ولكن شبه لهم، واختلفت الرواة في هذه القصة، والذي لا يشك فيه أن عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض ويدعو إلى الله، وكانت بنو إسرائيل تطلبه، وملكهم في ذلك الزمان يجعل عليه الجعائل، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريون يسيرون معه؛ حيث سار، فلما كان في بعض الأوقات، شعر بأمر عيسى، فروي أن رجلا من اليهود جعل له جعل، فما زال ينقر عنه؛ حتى دل على مكانه، فلما أحس عيسى وأصحابه بتلاحق الطالبين بهم، دخلوا بيتا بمرأى من بني إسرائيل، فروي أنهم عدوهم ثلاثة عشر، وروي: ثمانية عشر، وحصروا ليلا، فروي أن عيسى فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة، ووجههم إلى الآفاق، وبقي هو ورجل معه، فرفع عيسى، وألقي شبهه على الرجل، فصلب ذلك الرجل، وروي أن الشبه ألقي على اليهودي الذي دل عليه، فصلب، وروي أن عيسى عليه السلام لما أحيط بهم، قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل، ويخلص هؤلاء، وهو رفيقي في الجنة، فقال سرجس: أنا، فألقي عليه شبه عيسى، وروي أن شبه عيسى ألقي على الجماعة كلها، فلما أخرجهم بنو إسرائيل، نقصوا واحدا من العدة، فأخذوا واحدا ممن عليه الشبه حسب هذه الروايات التي ذكرناها، فصلبوه، وروي أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر رفع عيسى، لما رأوه من نقصان العدة، واختلاط الأمر.
وقوله تعالى: { وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه... } الآية: يعني اختلاف المحاولين لأخذه؛ لأنهم حين فقدوا واحدا من العدد، وتحدث برفع عيسى، اضطربوا، واختلفوا، لكن أجمعوا على صلب واحد من غير ثقة، ولا يقين، أنه هو.
وقوله تعالى: { وما قتلوه يقينا } ، قال ابن عباس وجماعة: المعنى: وما صح ظنهم عندهم، ولا تحققوه يقينا، فالضمير في «قتلوه» عندهم عائد على الظن؛ كما تقول: ما قتلت هذا الأمر علما، قلت: وعبارة السدي: «وما قتلوا أمره يقينا أن الرجل هو عيسى». انتهى من «مختصر الطبري»، وقال قوم: الضمير عائد على عيسى، أخبر سبحانه أنهم ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة، لا يقينا ولا شكا، لكن لما حصلت في ذلك الدعوى، صار قتله عندهم مشكوكا فيه، وقال قوم من أهل اللسان: الكلام تام في قوله: { وما قتلوه } ، و { يقينا }: مصدر مؤكد للنفي في قوله: { وما قتلوه } ، المعنى: نخبركم يقينا، أو نقص عليكم يقينا، أو أيقنوا بذلك يقينا.
وقال * ص *: بعد كلام: والظاهر أن الضمير في { قتلوه } عائد إلى عيسى لتتحد الضمائر، و { يقينا }: منصوب في موضع الحال من فاعل { قتلوه }: أي: مستيقنين أنه عيسى، أو نعت لمصدر محذوف، أي: قتلا يقينا. انتهى.
[4.158]
وقوله تعالى: { بل رفعه الله إليه }: يعني: إلى سمائه وكرامته، وعيسى عليه السلام في السماء؛ على ما تضمنه حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة عيسى ويحيى، ذكره البخاري في حديث المعراج، وذكره غيره، وهو هنالك مقيم؛ حتى ينزله الله تعالى لقتل الدجال، وليملأ الأرض عدلا ويحيا فيها أربعين سنة، ثم يموت، كما يموت البشر.
[4.159]
وقوله تعالى: { وإن من أهل الكتب إلا ليؤمنن به قبل موته }: اختلف في معنى الآية:
فقال ابن عباس وغيره: الضمير في { موته } راجع إلى عيسى، والمعنى: أنه لا يبقى من أهل الكتاب أحد، إذا نزل عيسى إلى الأرض، إلا يؤمن بعيسى؛ كما يؤمن سائر البشر، وترجع الأديان كلها واحدا، يعني: يرجعون على دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ عيسى واحد من أمته وعلى شريعته، وأئمتنا منا كما ورد في الحديث الصحيح.
وقال مجاهد وابن عباس أيضا وغيرهما: الضمير في { به } لعيسى، وفي { موته } للكتابي، لكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه، وقال عكرمة: الضمير في { به } لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم و { قبل موته } للكتابي قال: وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو غرق أو سقط عليه جدار، فإنه يؤمن في ذلك الوقت، وفي مصحف أبي بن كعب: «قبل موتهم»، ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي.
قال * ص *: { وإن من أهل الكتب... } الآية: «إن»: هنا نافية، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه، أي: وما أحد من أهل الكتاب؛ كما حذف في قوله تعالى:
وإن منكم إلا واردها
[مريم:71] وقوله تعالى:
وما منا إلا له مقام معلوم
[الصافات:164] أي: وما أحد منا، وما أحد منكم، قال الشيخ أبو حيان: { ليؤمنن به }: جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه هو الخبر، وكذلك أيضا { إلا له مقام } و { إلا واردها } ، هما الخبر، قال الزجاج: وحذف «أحد» مطلوب في كل نفي يدخله الإستثناء؛ نحو: ما قام إلا زيد، أي: ما قام أحد إلا زيد. انتهى.
[4.160-162]
وقوله تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبت أحلت لهم... } الآية: { فبظلم }: معطوف على قوله سبحانه:
فبما نقضهم
[النساء:155] والطيبات هنا: هي الشحوم، وبعض الذبائح، والطير والحوت، وغير ذلك، وقرأ ابن عباس: «طيبات كانت أحلت لهم».
{ وبصدهم عن سبيل الله كثيرا }: يحتمل أن يريد صدهم في ذاتهم، ويحتمل أن يريد صدهم غيرهم، { وأخذهم الربا } ، هو الدرهم بالدرهمين إلى أجل، ونحو ذلك مما هو مفسدة، وقد نهوا عنه، ثم استثنى سبحانه الراسخين في العلم منهم؛ كعبد الله بن سلام، ومخيريق، ومن جرى مجراهم.
واختلف الناس في قوله سبحانه: { والمقيمين } ، وكيف خالف إعرابها إعراب ما تقدم وما تأخر.
فقال بعض نحاة البصرة والكوفة: إنما هذا من قطع النعوت، إذا كثرت على النصب ب «أعني» والرفع بعد ذلك ب «هم»؛ وقال قوم: { والمقيمين }: عطف على «ما» في قوله: { وما أنزل من قبلك } ، والمعنى: ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، وهم الملائكة، أو من تقدم من الأنبياء، وقال قوم: { والمقيمين }: عطف على الضمير في منهم، وقال آخرون: بل على الكاف في قوله: { من قبلك }.
وزاد ص: { والمقيمين } منصوب على المدح، قال: وقرأ جماعة: «والمقيمون» انتهى.
[4.163-164]
وقوله تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده... } الآية: سبب نزولها قول بعض أحبار يهود:
ما أنزل الله على بشر من شيء...
[الأنعام:91] فأنزل الله سبحانه الآية؛ تكذيبا لهم.
قال * ع *: إسماعيل هو الذبيح؛ في قول المحققين، والوحي: إلقاء المعنى في خفاء، وعرفه في الأنبياء بوساطة جبريل عليه السلام ، وكلم الله سبحانه موسى بكلام دون تكييف، ولا تحديد، ولا حرف، ولا صوت، والذي عليه الراسخون في العلم؛ أن الكلام هو المعنى القائم في النفس، ويخلق الله لموسى إدراكا من جهة السمع يتحصل به الكلام، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات، معلوم لا كالمعلومات؛ فكذلك كلامه لا كالكلام.
[4.165]
وقوله سبحانه: { رسلا مبشرين ومنذرين... } الآية: رسلا: بدل من الأول، وأراد سبحانه أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إلي رسولا، لآمنت، والله سبحانه «عزيز»؛ لا يغالبه شيء، ولا حجة لأحد عليه، حكيم في أفعاله، فقطع الحجة بالرسل؛ حكمة منه سبحانه.
[4.166-169]
وقوله تعالى: { لكن الله يشهد بما أنزل إليك... } الآية: سببها قول اليهود:
ما أنزل الله على بشر من شيء
[الأنعام:91].
وقال * ص *: «لكن»: استدراك، ولا يبتدأ بها، فيتعين تقدير جملة قبلها يبينها سبب النزول، وهو أنه لما نزل:
إنا أوحينا إليك
[النساء:163]، قالوا: ما نشهد لك بهذا؛ فنزل: { لكن الله يشهد }. انتهى.
وقوله تعالى: { أنزله بعلمه } ، هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله عز وجل؛ خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم، والمعنى عند أهل السنة: أنزله، وهو يعلم إنزاله ونزوله.
وقوله سبحانه: { والملئكة يشهدون }: تقوية لأمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ورد على اليهود.
وقوله تعالى: { وكفى بالله شهيدا } ، تقديره: وكفى الله شهيدا، لكنه دخلت الباء؛ لتدل على أن المراد اكتفوا بالله، وباقي الآية بين.
[4.170-173]
وقوله تعالى: { يأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم... } الآية: خطاب لجميع الناس، وهي دعاء إلى الشرع، ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام، ونحو هذا، لكانت: «يا أيها الذين آمنوا»، والرسول في الآية: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال سبحانه: { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض } ، وهذا خبر بالاستغناء، وأن ضرر الكفر إنما هو نازل بهم، ثم خاطب سبحانه أهل الكتاب من النصارى، وهو أن يدعوا الغلو، وهو تجاوز الحد.
وقوله: { في دينكم }: معناه: في دين الله الذي أنتم مطلوبون به؛ بأن توحدوا الله، ولا تقولوا على الله إلا الحق، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل، وعن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل "
رواه مسلم، والبخاري والنسائي، وفي مسلم:
" أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء "
انتهى.
وقوله تعالى: { فآمنوا بالله ورسله }؛ أي: الذين من جملتهم: عيسى، ومحمد عليهما السلام .
وقوله تعالى: { إنما الله إله وحد }: «إنما»؛ في هذه الآية: حاصرة، و { سبحنه }: معناه: تنزيها له، وتعظيما، والاستنكاف إباءة بأنفة.
قال * ع *: وقوله سبحانه: { ولا الملئكة المقربون }: زيادة في الحجة، وتقريب من الأذهان، أي: وهؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك، فكيف بسواهم، وفي هذه الآية دليل على تفضيل الملائكة على الأنبياء.
وقوله سبحانه: { فسيحشرهم }: عبارة وعيد.
قال * ع *: وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء، وما جرى مجراه.
[4.174]
وقوله تعالى: { يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم... } الآية: إشارة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والبرهان: الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، والنور المبين: يعني القرآن؛ لأن فيه بيان كل شيء، وفي «صحيح مسلم»، عن زيد بن أرقم، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:
" أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله؛ فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا "
، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال:
" وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله؛ ثلاثا في أهل بيتي... "
الحديث، وفي رواية:
" كتاب الله؛ فيه الهدى والنور من استمسك به، وأخذ به، كان على الهدى، ومن أخطأه، ضل "
، وفي رواية:
" ألا وإني تارك فيكم ثقلين:أحدهما: كتاب الله، وهو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة "
انتهى.
[4.175]
وقوله سبحانه: { فأما الذين ءامنوا بالله واعتصموا به }: أي: اعتصموا بالله، ويحتمل: اعتصموا بالقرآن؛ كما قال عليه السلام :
" القرآن حبل الله المتين؛ من تمسك به عصم "
، والرحمة والفضل: الجنة ونعيمها، و { يهديهم }: معناه: إلى الفضل، وهذه هداية طريق الجنان؛ كما قال تعالى:
سيهديهم ويصلح بالهم...
[محمد:5] الآية؛ لأن هداية الإرشاد قد تقدمت، وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه، فيهديهم هنا بمعنى: يعرفهم، وباقي الآية بين.
[4.176]
وقوله تعالى: { يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكللة } ، قد تقدم القول في تفسير «الكلالة» في صدر السورة، وكان أمر الكلالة عند عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مشكلا، والله أعلم، ما الذي أشكل عليه منها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:
" تكفيك منها آية الصيف "
التي نزلت في آخر سورة «النساء» بيان فيه كفاية، قال كثير من الصحابة: هذه الآية هي من آخر ما نزل.
وقوله سبحانه: { يبين الله لكم أن تضلوا }: التقدير: لئلا تضلوا، { والله بكل شيء عليم } ، سبحانه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.
[5 - سورة المائدة]
[5.1]
قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود... } الآية عامة في الوفاء بالعقود، وهي الربوط في القول، كل ذلك في تعاهد على بر أو في عقدة نكاح، أو بيع، أو غيره، فمعنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة، وفسر بعض الناس لفظ «العقود» بالعهود، وقال ابن شهاب: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، وفي صدره: «هذا بيان من الله ورسوله: { يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود } ، فكتب الآيات إلى قوله:
إن الله سريع الحساب
[المائدة:4].
قال * ع *: وأصوب ما يقال في هذه الآية: أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول، فيعمم لفظ المؤمنين في مؤمني أهل الكتاب، وفي كل مظهر للإيمان، وإن لم يبطنه، وفي المؤمنين حقيقة، ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع.
وقوله تعالى: { أحلت لكم بهيمة الأنعام } اختلف في معنى { بهيمة الأنعام }.
فقال قتادة وغيره: هي الأنعام كلها.
* ع *: كأنه قال: أحلت لكم الأنعام. وقال الطبري: قال قوم: بهيمة الأنعام: وحشها، وهذا قول حسن؛ وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وانضاف إليها من سائر الحيوان ما يقال له: أنعام بمجموعه معها، والبهيمة في كلام العرب: ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم.
وقوله: { إلا ما يتلى عليكم }: استثناء ما تلي في قوله تعالى:
حرمت عليكم الميتة
[المائدة:3] «وما» في موضع نصب؛ على أصل الاستثناء.
وقوله سبحانه: { غير محلي الصيد... } نصب «غير»؛ على الحال من الكاف والميم في قوله: { أحلت لكم } ، وهو استثناء بعد استثناء.
قال * ص *: وهذا هو قول الجمهور، واعترض بأنه يلزم منه تقييد الحلية بحالة كونهم غير محلين الصيد، وهم حرم ، والحلية ثابتة مطلقا.
قال * ص *: والجواب عندي عن هذا؛ أن المفهوم هنا متروك؛ لدليل خارجي، وكثير في القرآن وغيره من المفهومات المتروكة لمعارض، ثم ذكر ما نقله أبو حيان من الوجوه التي لم يرتضها.
* م *: وما فيها من التكلف، ثم قال: ولا شك أن ما ذكره الجمهور من أن «غير»: حال، وإن لزم عنه الترك بالمفهوم، فهو أولى من تخريج تنبو عنه الفهوم. انتهى.
وقوله سبحانه: { إن الله يحكم ما يريد }: تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام الجاهلية، أي: فأنت أيها السامع لنسخ تلك التي عهدت، تنبه، فإن الله الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد لا معقب لحكمه سبحانه.
قال * ع *: وهذه الآية مما تلوح فصاحتها، وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام، ولمن عنده أدنى إبصار، وقد حكى النقاش؛ أن أصحاب الكندي قالوا للكندي: أيها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم، أعمل لكم مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج، فقال: والله، ما أقدر عليه، ولا يطيق هذا أحد؛ إني فتحت المصحف، فخرجت سورة المائدة، فنظرت، فإذا هو قد أمر بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.
[5.2]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر الله }: خطاب للمؤمنين حقا؛ ألا يتعدوا حدود الله في أمر من الأمور، قال عطاء بن أبي رباح: شعائر الله جميع ما أمر به سبحانه، أو نهى عنه، وهذا قول راجح، فالشعائر: جمع شعيرة، أي: قد أشعر الله أنها حده وطاعته، فهي بمعنى معالم الله.
وقوله تعالى: { ولا الشهر الحرام }: أي: لا تحلوه بقتال ولا غارة، والأظهر أن الشهر الحرام أريد به رجب؛ ليشتد أمره، وهو شهر كان تحريمه مختصا بقريش، وكانت تعظمه، ويحتمل أنه أريد به الجنس في جميع الأشهر الحرم.
وقوله سبحانه: { ولا الهدي }: أي: لا يستحل ولا يغار عليه، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد، هذا معنى كلام ابن عباس.
وقال الجمهور: الهدي عام في أنواع ما يهدى قربة، والقلائد: ما كان الناس يتقلدونه من لحاء السمر وغيره؛ أمنة لهم.
وقال * ص *: { ولا القلئد }: أي: ولا ذوات القلائد، وقيل: بل المراد القلائد نفسها؛ مبالغة في النهي عن التعرض للهدي. انتهى.
وقوله تعالى: { ولا ءامين البيت الحرام }: أي: قاصدينه من الكفار؛ المعنى: لا تحلوهم، فتغيرون عليهم، وهذا منسوخ ب «آية السيف»؛ بقوله تعالى:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
[التوبة:5] فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج، فهو محكم، وكل ما كان منها في الكفار، فهو منسوخ.
وقوله سبحانه: { يبتغون فضلا من ربهم ورضونا } ، قال فيه جمهور المفسرين: معناه: يبتغون الفضل من الأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم، وهذه الآية نزلت عام الفتح، وفيها استئلاف من الله سبحانه للعرب، ولطف بهم؛ لتنبسط النفوس؛ بتداخل الناس، ويردون الموسم، فيسمعون القرآن، ويدخل الإيمان في قلوبهم، وتقوم عليهم الحجة؛ كالذي كان، ثم نسخ الله ذلك كله بعد عام في سنة تسع؛ إذ حج أبو بكر (رضي الله عنه)، ونودي في الناس بسورة «براءة».
وقوله تعالى: { وإذا حللتم فاصطدوا }: مجيء إباحة الصيد عقب التشديد فيه حسن في فصاحة القول.
وقوله سبحانه: { فاصطدوا }: أمر، ومعناه الإباحة؛ بإجماع.
وقوله تعالى: { ولا يجرمنكم }: معناه: لا يكسبنكم، وجرم الرجل: معناه: كسب، وقال ابن عباس: معناه: لا يحملنكم، والمعنى: متقارب، والتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب.
وقوله تعالى: { شنآن قوم }: الشنآن: هو البغض، فأما من قرأ شنآن بفتح النون ، فالأظهر فيه أنه مصدر؛ كأنه قال: لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدوانا عليهم وظلما لهم، وهذه الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، حين أراد المسلمون أن يستطيلوا على قريش، وألفافها المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه عام الحديبية، وذلك سنة ست من الهجرة، فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين، وحيكة للكفار، فنهي المؤمنون عن مكافأتهم، وإذ لله فيهم إرادة خير، وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان.
وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: «إن صدوكم»، ومعناه: إن وقع مثل ذلك في المستقبل، وقراءة الجمهور أمكن.
ثم أمر سبحانه الجميع بالتعاون على البر والتقوى، قال قوم: هما لفظان بمعنى، وفي هذا تسامح، والعرف في دلالة هذين؛ أن البر يتناول الواجب والمندوب، والتقوى: رعاية الواجب، فإن جعل أحدهما بدل الآخر، فبتجوز.
قلت: قال أحمد بن نصر الداوودي: قال ابن عباس: البر ما أمرت به، والتقوى ما نهيت عنه. انتهى، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع؛ أن لفظ التقوى يطلق على معان، وقد بيناها في آخر «سورة النور»، وفي الحديث الصحيح:
" والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "
، قال ابن الفاكهاني، عند شرحه لهذا الحديث: وقد روينا في بعض الأحاديث:
" من سعى في حاجة أخيه المسلم، قضيت له أو لم تقض غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق "
، انتهى من «شرح الأربعين» حديثا.
ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم والعدوان، ثم أمر بالتقوى، وتوعد توعدا مجملا، قال النووي: وعن وابصة بن معبد:
" أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال: نعم، فقال: استفت قلبك؛ البر: ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك "
حديث حسن رويناه في مسند أحمد، يعني: ابن حنبل، والدارمي وغيرهما، وفي «صحيح مسلم»، عن النواس بن سمعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس "
انتهى.
[5.3]
وقوله تعالى: { حرمت عليكم الميتة والدم... } الآية: تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من بهيمة الأنعام، { والدم }: معناه: المسفوح، { ولحم الخنزير }: مقتض لشحمه؛ بإجماع، { وما أهل لغير الله به }: قد تقدم، { والمنخنقة }: معناه: التي تموت خنقا، { والموقوذة }: التي ترمى أو تضرب بعصا، وشبهها، { والمتردية }: هي التي تتردى من علو إلى سفل، فتموت، { والنطيحة }: فعيلة بمعنى مفعولة، { وما أكل السبع }: يريد كل ما افترسه ذو ناب، وأظفار من الحيوان، وكانت العرب تأكل هذه المذكورات، ولم تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك.
واختلف العلماء في قوله تعالى: { إلا ما ذكيتم } ، فقال ابن عباس، وجمهور العلماء: الاستثناء من هذه المذكورات، فما أدرك منها يطرف بعين أو يحرك ذنبا، وبالجملة: ما يتحقق أنه لم تفض نفسه، بل له حياة، فإنه يذكى على سنة الذكاة، ويؤكل، وما فاضت نفسه، فهو الميتة، وقال مالك مرة بهذا القول، وقال أيضا، وهو المشهور عنه، وعن أصحابه من أهل المدينة: إن قوله تعالى: { إلا ما ذكيتم }: معناه: من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها، وهو ما لم تنفذ مقاتلها، ويتحقق أنها لا تعيش، ومتى صارت في هذا الحد، فهي في حكم الميتة، فالاستثناء عند مالك متصل؛ كقول الجمهور، لكنه يخالف في الحال التي يصح فيها ذكاة هذه المذكورات واحتج لمالك؛ بأن هذه المذكورات لو كانت لا تحرم إلا بموتها، لكان ذكر الميتة أولا يغني عنها، ومن حجة المخالف أن قال: إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة، فلو لم يذكر لها غير الميتة، لظنت أنها ميتة الوجع؛ حسبما كانت عليه، والذكاة في كلام العرب: الذبح.
وقوله سبحانه: { وما ذبح على النصب }: عطف على المحرمات المذكورة، والنصب: حجارة تنصب، يذبحون عليها، قال ابن جريج: وليست النصب بأصنام؛ فإن الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب، وكانت العرب تعبدها، قال ابن زيد: ما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به: شيء واحد.
قال * ع *: ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، لكن خص بالذكر بعد جنسه؛ لشهرة أمره.
وقوله سبحانه: { وأن تستقسموا بالأزلام }: حرم سبحانه طلب القسم، وهو النصيب، أو القسم بفتح القاف، وهو المصدر؛ بالأزلام، وهي سهام، قال صاحب «سلاح المؤمن»: والاستقسام: هو الضرب بها؛ لإخراج ما قسم لهم، وتمييزه بزعمهم. انتهى، وأزلام العرب على أنواع ؛ منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها «افعل»، وعلى الآخر «لا تفعل»، وثالث مهمل؛ لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده، وهي متشابهة فأخرج أحدها، وأتمر له، وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه، أعاد الضرب.
وقوله سبحانه: { ذلكم فسق }: إشارة إلى الاستقسام بالأزلام.
وقوله تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم }: معناه؛ عند ابن عباس وغيره: من أن ترجعوا إلى دينهم، وظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه، وظهور الدين يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام، وفساد جمعه؛ لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار؛ ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حتى انكشف المسلمون، وظنها هزيمة: «ألا بطل السحر اليوم»، إلى غير هذا من الأمثلة، وهذه الآية في قول الجمهور؛ عمر بن الخطاب وغيره: نزلت في عشية يوم عرفة يوم الجمعة، وفي ذلك اليوم امحى أمر الشرك من مشاعر الحج، ولم يحضر من المشركين الموسم بشر، فيحتمل قوله تعالى: { اليوم }: أن تكون إشارة إلى اليوم بعينه، ويحتمل أن تكون إشارة إلى الزمن والوقت، أي: هذا الأوان يئس الكفار من دينكم.
وقوله: { الذين كفروا }: يعم سائر الكفار من العرب وغيرهم؛ وهذا يقوي أن اليأس إنما هو من انحلال أمر الإسلام، وأمر سبحانه بخشيته التي هي رأس كل عبادة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:
" ومفتاح كل خير "
وقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم }: تحتمل الإشارة ب «اليوم» ما قد ذكرناه، حكى الطبري؛ أن النبي عليه السلام لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة، والظاهر أنه عاش صلى الله عليه وسلم أكثر بأيام يسيرة، قلت: وفي سماع ابن القاسم، قال مالك: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في اليوم الذي توفي فيه، وقف على بابه، فقال:
" إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه، يا فاطمة بنت رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، اعملا لما عند الله؛ فإني لا أغني عنكما من الله شيئا "
، قال ابن رشد: هذا حديث يدل على صحته قول الله عز وجل:
ما فرطنا في الكتب من شيء
[الأنعام:38]، وقال تعالى:
تبيانا لكل شيء
[النحل:89]، فالمعنى في ذلك: أن الله عز وجل نص على بعض الأحكام، وأجمل القول في بعضها، وأحال على الأدلة في سائرها بقوله:
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم
[النساء:83] فبين النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمله الله في كتابه؛ كما أمره؛ حيث يقول:
لتبين للناس ما نزل إليهم
[النحل:44] فما أحل صلى الله عليه وسلم، أو حرم، ولم يوجد في القرآن نصا، فهو مما بين من مجمل القرآن، أو علمه بما نصب من الأدلة فيه، فهذا معنى الحديث، والله أعلم، فما ينطق صلى الله عليه وسلم عن الهوى؛ إن هو إلا وحي يوحى.
انتهى من «البيان والتحصيل».
وفي «الصحيح»؛ «أن عمر ابن الخطاب، قال له يهودي: آية في كتابكم تقرأونها، لو علينا نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال له عمر: أي آية هي؟ فقال: { اليوم أكملت لكم دينكم } ، فقال له عمر: قد علمنا ذلك اليوم؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واقف بعرفة يوم الجمعة».
قال * ع *: ففي ذلك اليوم عيدان للإسلام، إلى يوم القيامة، وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام، ونور العقائد، وكمال الدين، وسعة الأحوال، وغير ذلك مما اشتملت عليه هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة، والخلود في رحمة الله سبحانه، جعلنا الله ممن شملته هذه النعمة.
وقوله سبحانه: { ورضيت لكم الإسلام دينا }: يحتمل الرضا في هذا الموضع؛ أن يكون بمعنى الإرادة، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه؛ لأن الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال، والله تعالى قد أراد لنا الإسلام، ورضيه لنا، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا يرضاها.
وقوله سبحانه: { فمن اضطر في مخمصة } ، يعني: من دعته ضرورة إلى أكل الميتة، وسائر تلك المحرمات، وسئل صلى الله عليه وسلم، متى تحل الميتة للناس؟ فقال:
" إذا لم يصطبحوا، ولم يغتبقوا، ولم يحتفئوا بقلا "
والمخمصة: المجاعة التي تخمص فيها البطون، أي: تضمر.
وقوله سبحانه: { غير متجانف لإثم } هو بمعنى:
غير باغ ولا عاد
[البقرة:173] وقد تقدم تفسيره.
قال * ص *: متجانف: أي: مائل منحرف.انتهى، وقد تقدم في «البقرة».
[5.4]
وقوله تعالى: { يسألونك ماذا أحل لهم }: سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب. سأله عاصم بن عدي وغيره، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب.
قال * ع *: وظاهر الآية أن سائلا سأل عما يحل للناس من المطاعم؛ لأن قوله تعالى: { قل أحل لكم الطيبت } ليس بجواب عما يحل للناس اتخاذه من الكلاب إلا أن يكون من باب إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه، وهو موجود كثيرا من النبي صلى الله عليه وسلم، والطيب: الحلال.
وقوله سبحانه: { وما علمتم }: أي: وصيد ما علمتم، قال الضحاك وغيره: { وما علمتم من الجوارح مكلبين }: هي الكلاب خاصة.
قال العراقي في «مكلبين»: أصحاب أكلب لها معلمين. انتهى، وأعلى مراتب التعليم، أن يشلى الحيوان فينشلي، ويدعى فيجيب، ويزجر بعد ظفره بالصيد، فينزجر، وجوارح: جمع جارح، أي: كاسب، يقال: جرح فلان، واجترح؛ إذا اكتسب؛ ومنه قوله تعالى:
ويعلم ما جرحتم بالنهار
[الأنعام:60]، أي: ما كسبتم من حسنة وسيئة.
قال * ع *: وقرأ جمهور الناس: { وما علمتم } بفتح العين واللام ، وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية: «علمتم» بضم العين وكسر اللام : أي: من أمر الجوارح، والصيد بها، وقرأ جمهور الناس: «مكلبين» بفتح الكاف وشد اللام ، والمكلب: معلم الكلاب، ومضريها، ويقال لمن يعلم غير كلب: مكلب؛ لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب.
وقوله سبحانه: { تعلمونهن مما علمكم الله }: أي: تعلمونهن الحيلة في الاصطياد، والتأتي لتحصيل الحيوان، وهذا جزء مما علمه الإنسان، ف «من»: للتبعيض.
وقوله تعالى: { فكلوا مما أمسكن عليكم }: يحتمل: مما أمسكن، فلم يأكلن منه شيئا، ويحتمل: مما أمسكن، وإن أكلن منه، وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد، إذا أكل منه الجارح.
وقوله سبحانه: { واذكروا اسم الله عليه }: أمر بالتسمية عند الإرسال، وذهب مالك وجمهور العلماء؛ أن التسمية واجبة، مع الذكر، ساقطة مع النسيان، فمن تركها عامدا، فقد أفسد الذبيحة والصيد، ومن تركها ناسيا، سمى عند الأكل، وكانت الذبيحة جائزة، وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد.
ثم أمر سبحانه بالتقوى على الجملة، والإشارة إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر والنواهي، وفي قوله: { إن الله سريع الحساب }: وعيد وتحذير.
[5.5]
وقوله سبحانه: { اليوم أحل لكم الطيبت }: إشارة إلى الزمن والأوان، والخطاب للمؤمنين.
وقوله سبحانه: { وطعام الذين أوتوا الكتب حل لكم }: الطعام في هذه الآية: الذبائح؛ كذا قال أهل التفسير.
واختلفوا في لفظة { طعام }.
فقال الجمهور: هي الذبيحة كلها، وقالت جماعة: إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحة، أي: الحلال لهم منها لا ما لا يحل لهم؛ كالطريف، والشحوم المحضة.
واختلف في لفظة { أوتوا الكتب }.
فقالت طائفة: إنما أحل لنا ذبائح الصرحاء منهم، لا من كان دخيلا في هذين الدينين، وقال جمهور الأمة؛ ابن عباس، والحسن، ومالك، وغيرهم: إن ذبيحة كل نصراني حلال، كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهود، وتأولوا قول الله تعالى:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم
[المائدة:51].
وقوله سبحانه: { وطعامكم حل لهم }: أي: ذبائحكم، فهذه رخصة للمسلمين، لا لأهل الكتاب، لما كان الأمر يقتضي أن شيئا قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه منهم، رخص الله تعالى لنا في ذلك؛ دفعا للمشقة بحسب التجاور.
وقوله سبحانه: { والمحصنت }: عطف على الطعام المحلل، ذهب جماعة منهم مالك إلى أن المحصنات في هذه الآية الحرائر، فمنعوا نكاح الأمة الكتابية، وذهب جماعة إلى أنهن العفائف، فأجازوا نكاح الأمة الكتابية، والأجور في الآية: المهور، وانتزع بعض العلماء من لفظ: { ءاتيتموهن }؛ أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها به، و { محصنين }: معناه: متزوجين على السنة.
وقوله سبحانه: { ومن يكفر بالإيمن }: أي: بالأمور التي يجب الإيمان بها، وباقي الآية بين.
[5.6]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم... } الآية: قال ابن العربي: في «أحكامه»: لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية مدنية؛ كما أنه لا خلاف أن الوضوء كان معقولا قبل نزولها غير متلو؛ ولذلك قال علماؤنا: إن الوضوء كان بمكة سنة، ومعناه: كان مفعولا بالسنة، وقوله: { إذا قمتم }: معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. انتهى.
قال زيد بن أسلم والسدي: معنى الآية: إذا قمتم من المضاجع، يعني النوم، والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير، تقديره: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، يعني: الملامسة الصغرى فاغسلوا، وهنا تمت أحكام الحدث الأصغر، ثم قال: { وإن كنتم جنبا فاطهروا } ، فهذا حكم نوع آخر، ثم قال للنوعين جميعا: { وإن كنتم مرضى أو على سفر...... فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } ، وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك وغيره.
وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير، بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله: { فاطهروا } ، ودخلت الملامسة الصغرى في قولنا: «محدثين»، ثم ذكر بعد ذلك بقوله: { وإن كنتم مرضى... } إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعا، وكانت الملامسة هي الجماع.
وقال * ص *: { إذا قمتم } أي: إذا أردتم، وعبر بالقيام عن إرادته؛ لأنه مسبب عنها. انتهى.
ومن أحسن الأحاديث وأصحها في فضل الطهارة والصلاة: ما رواه مالك في «الموطإ»، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط "
قال أبو عمر في «التمهيد»: هذا الحديث من أحسن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال.
قال صاحب «كتاب العين»: الرباط: ملازمة الثغور، قال: والرباط مواظبة الصلاة أيضا انتهى.
والغسل، في اللغة: إيجاد الماء في المغسول، مع إمرار شيء عليه كاليد، والوجه ما واجه الناظر وقابله، والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن ابن عمر؛ أنه كان ينضح الماء في عينيه. واليد لغة تقع على العضو من المنكب إلى أطراف الأصابع، وحد الله سبحانه موضع الغسل منه؛ بقوله: { إلى المرافق }.
واختلف العلماء، هل تدخل المرافق في الغسل أم لا، وتحرير العبارة في هذا المعنى: أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها، فالحد أول المذكور بعدها، وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها، فالاحتياط يعطي أن الحد آخر المذكور بعدها؛ ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل، والروايتان عن مالك، قال ابن العربي في «أحكامه»، وقد روى الدارقطني وغيره عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما توضأ أدار الماء على مرفقيه.
انتهى.
واختلف في رد اليدين في مسح الرأس، هل هو فرض أو سنة، بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض، فالجمهور على أنه سنة.
وقيل: هو فرض، والإجماع على استحسان مسح الرأس باليدين جميعا، وعلى الإجزاء بواحدة، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة، والمشهور الإجزاء؛ ويترجح عدم الإجزاء؛ لأنه خروج عن سنة المسح، وكأنه لعب إلا أن يكون ذلك عن ضرر مرض ونحوه، فينبغي ألا يختلف في الإجزاء.
والباء في قوله تعالى: { برؤوسكم } مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس، والمعنى عنده: وامسحوا رؤوسكم، وهي للإلصاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس؛ كأن المعنى: أوجدوا مسحا برؤوسكم، فمن مسح، ولو شعرة فقد فعل ذلك.
* ت *: قال ابن العربي في «أحكامه»: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة مسح الرأس؛
" أنه أقبل بيده، وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه "
، وفي البخاري:
" فأدبر بهما، وأقبل "
، وهما صحيحان متوافقان، وهي مسألة من «أصول الفقه»؛ في تسمية الفعل بابتدائه أو بغايته. انتهى.
وقرأ حمزة وغيره: «وأرجلكم» بالخفض ، وقرأ نافع وغيره بالنصب، والعامل: «اغسلوا»، ومن قرأ بالخفض، جعل العامل أقرب العاملين، وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل، وأن المسح لا يجزىء، وفي الصحيح:
" ويل للأعقاب من النار "
إذ رأى صلى الله عليه وسلم أعقابهم تلوح، قال ابن العربي في «القبس»: ومن قرأ «وأرجلكم» بالخفض ، فإنه أراد المسح على الخفين؛ وهو أحد التأويلات في الآية. انتهى، وهذا هو الذي صححه في «أحكامه».
والكلام في قوله: { إلى الكعبين } كما تقدم في قوله: { إلى المرافق } ، وفي «صحيح مسلم» وغيره عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من مسلم يتوضأ، فيحسن وضوءه، ثم يقوم، فيصلي ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة "
، فقلت: ما أجود هذه؟ فقال عمر: التي قبلها أجود، قال:
" ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء "
، وأخرجه الترمذي من حديث أبي إدريس الخولاني، عن عمر، زاد في آخره:
" اللهم، اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين "
انتهى مختصرا.
واختلف اللغويون في { الكعبين }.
والجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبتي الرجل.
وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء، قال مالك: هو فرض مع الذكر، ساقط مع النسيان، وروى الدارقطني في سننه:
" من توضأ، فذكر اسم الله على وضوئه، كان طهورا لجسده، ومن توضأ، ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهورا لأعضائه "
انتهى من «الكوكب الدري».
وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب، و { اطهروا } أمر لواجد الماء عند الجمهور، وقال عمر بن الخطاب وغيره: لا يتيمم الجنب ألبتة، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء.
وقوله سبحانه: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج... } الآية: الإرادة صفة ذات، وجاء الفعل مستقبلا؛ مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة، والحرج: الضيق، والحرجة: الشجر الملتف المتضايق، ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" دين الله يسر "
، وقوله عليه السلام :
" بعثت بالحنيفية السمحة "
، وجاء لفظ الآية على العموم، والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم، والرخصة فيه، وزوال الحرج في تحمل الماء أبدا؛ ولذلك قال أسيد: «ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر».
وقوله سبحانه: { ولكن يريد ليطهركم... } الآية: إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى، و { لعلكم }: ترج في حق البشر، وفي الحديث الصحيح عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن، أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها "
، رواه مسلم، والترمذي، وفي رواية له:
" التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملأه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر "
، وزاد في رواية أخرى:
" ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب؛ حتى تخلص إليه "
انتهى.
[5.7-10]
وقوله تعالى: { واذكروا نعمة الله عليكم وميثقه... } الاية: خطاب للمؤمنين، ونعمة الله: اسم جنس، يجمع الإسلام، وحسن الحال، وحسن المآل، والميثاق: هو ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، وكل موطن قال الناس فيه: «سمعنا وأطعنا»، هذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين.
وقال مجاهد: المراد: الميثاق المأخوذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم عليه السلام .
والأول أرجح وأليق بنمط الكلام، وباقي الآية بين متكرر، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه «بهجة المجالس»: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من وعده الله على عمل ثوابا، فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقابا، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له "
، وعن ابن عباس مثله. انتهى.
[5.11]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم... } الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته، والجمهور أن سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما استعان بيهود في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، وصاحبه، قالوا: نعم، يا أبا القاسم، انزل حتى نصنع لك طعاما، وننظر في معونتك، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل جدار وكان معه أبو بكر وعمر وعلي، فتآمرت يهود في قتله، وقالوا: من رجل يظهر على الحائط، فيصب عليه حجرا يشدخه، فجاء جبريل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فقام صلى الله عليه وسلم من المكان، وتوجه إلى المدينة، ونزلت الآية في ذلك؛ ويترجح هذا القول بما يأتي بعد من الآيات في وصف غدر يهود، ونقضهم المواثيق.
[5.12-13]
وقوله سبحانه: { ولقد أخذ الله ميثق بني إسرءيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا }: هذه الآية المتضمنة للخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي، إنما كانت في أمر بني النضير، والإجماع على أن النقيب كبير القوم، القائم بأمورهم، قال قتادة وغيره: هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط، تكفل بكل واحد سبطه، بأن يؤمنوا ويلتزموا التقوى.
قال * ع *: ونحو هذا كانت النقباء ليلة بيعة العقبة، مع النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في { معكم } ، لبني إسرائيل، أي: معكم بنصري، وحياطتي، وتأييدي، واللام في قوله: { لئن }: هي المؤذنة بمجيء القسم، ولام القسم هي قوله: { لأكفرن }؛ والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة: أنها قد يستغنى عنها أحيانا، ويتم الكلام دونها، ولو كانت لام قسم، لم يترتب ذلك، وإقامة الصلاة: توفية شروطها، والزكاة هنا: شيء من المال كان مفروضا عليهم فيما قال بعض المفسرين، { وعزرتموهم }: معناه: وقرتموهم، وعظمتموهم، ونصرتموهم، وقرأ عاصم الجحدري: «وعزرتموهم» خفيفة الزاي ؛ حيث وقع، وقرأ في «سورة الفتح»: «وتعزروه» بفتح التاء، وسكون العين، وضم الزاي ، وسواء السبيل: وسطه، وسائر ما في الآية بين، والله المستعان.
وقوله تعالى : { فبما نقضهم ميثقهم لعنهم وجعلنا قلوبهم قسية... } الآية: أي: فبنقضهم، والقسوة: غلظ القلب، ونبوه عن الرقة والموعظة، وصلابته حتى لا ينفعل لخير.
وقوله تعالى: { ونسوا حظا مما ذكروا به }: نص على سوء فعلهم بأنفسهم، أي: قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به، فنسوه، وتركوه، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام ؛ أنه لا يزال في مستأنف الزمان يطلع على خائنة منهم، وغائلة، وأمور فاسدة.
قالت فرقة: خائنة: مصدر، والمعنى: على خيانة، وقال آخرون: معناه: على فرقة خائنة، فهي اسم فاعل صفة لمؤنث.
وقوله تعالى: { فاعف عنهم واصفح }: منسوخ بما في «براءة»، وباقي الآية بين.
[5.14]
وقوله تعالى: { ومن الذين قالوا إنا نصرى }: «من»: متعلقة ب { أخذنا } ، التقدير: وأخذنا من الذين قالوا: إنا نصارى ميثاقهم، ويحتمل أن تكون معطوفة على { خائنة منهم } ، والأول أرجح، وعلق قولهم: «نصارى» بقولهم ودعواهم؛ من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله، وسموا به أنفسهم دون استحقاق.
وقوله سبحانه: { فأغرينا بينهم العداوة }: أي: أثبتناها بينهم وألصقناها، والإغراء: مأخوذ من الغراء الذي يلصق به، وقال البخاري: الإغراء: التسليط. انتهى.
والضمير في { بينهم } يحتمل أن يعود على اليهود، والنصارى؛ لأن العداوة بينهم موجودة مستمرة، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط؛ لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة، ثم توعدهم بعذاب الآخرة؛ إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.
واعلم (رحمك الله)؛ أنه قد جاءت آثار صحيحة في ذم الشحناء والتباغض والهجران لغير موجب شرعي، ففي «صحيح مسلم»، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا "
، وفي رواية:
" تعرض الأعمال في كل خميس واثنين، فيغفر الله في ذلك اليوم لكل امرىء لا يشرك بالله شيئا "
الحديث. انتهى.
وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" لا يحل لامرىء مسلم أن يهاجر مسلما فوق ثلاث ليال، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، فأولهما فيئا يكون سبقه بالفيء كفارة له، وإن سلم عليه، فلم يقبل، ورد عليه سلامه، ردت عليه الملائكة، وردت على الآخر الشياطين، وإذا ماتا على صرامهما، لم يدخلا الجنة "
، أراه قال: أبدا. انتهى، وسنده جيد، ونصه قال ابن المبارك: أخبرنا شعبة عن يزيد الرشك، عن معاذة العدوية، قالت: سمعت هشام بن عامر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث.
وقوله: «لم يدخلا الجنة»: ليس على ظاهره، أي: لم يدخلا الجنة أبدا؛ حتى يقتص لبعضهم من بعض، أو يقع العفو، أو تحل الشفاعة؛ حسبما هو معلوم في صحيح الآثار.
[5.15-17]
وقوله سبحانه: { يأهل الكتب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتب... } الآية: أهل الكتاب: لفظ يعم اليهود والنصارى، ولكن نوازل الإخفاء؛ كالرجم وغيره، إنما حفظت لليهود؛ لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره، وفي إعلامه صلى الله عليه وسلم بخفي ما في كتبهم، وهو أمي لا يكتب، ولا يصحب القراء دليل على صحة نبوته؛ لو ألهمهم الله للخير، { ويعفوا عن كثير }: أي: لم يفضحهم فيه؛ إبقاء عليهم، والضمير في { يعفوا } للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { قد جاءكم من الله نور }: هو محمد صلى الله عليه وسلم، و { كتب مبين }: هو القرآن، ويحتمل أن يريد موسى عليه السلام ، والتوراة: أي: لو اتبعتموها حق الاتباع، والأول هو ظاهر الآية، وهو أظهر، و { سبل السلم }: أي: طرق السلامة والنجاة، ويحتمل أن يكون «السلام» هنا اسما من أسماء الله عز وجل، فالمعنى: طرق الله، و { الظلمت }: الكفر، و { النور }: الإيمان، وباقي الآية بين متكرر.
وقوله سبحانه: { قل فمن يملك }: أي: لا مالك، ولا راد لإرادة الله تعالى في المسيح، ولا في غيره.
وقوله سبحانه: { يخلق ما يشاء }: إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد، بل اختراعا؛ كآدم عليه السلام .
وقوله تعالى: { والله على كل شيء قدير }: عموم معناه الخصوص فيما عدا الذات، والصفات، والمحالات.
[5.18]
وقوله سبحانه: { وقالت اليهود والنصرى نحن أبنؤا الله وأحبؤه... } الآية: البنوة؛ في قولهم هذا: بنوة الحنان والرأفة، لأنهم ذكروا أن الله سبحانه أوحى إلى إسرائيل؛ أن أول أولادك بكري؛ فضلوا بذلك، وقالوا: { نحن أبنؤا الله وأحبؤه } ، ولو صح ما رووا، لكان معناه: بكرا في التشريف أو النبوة، ونحوه، وكانت هذه المقالة منهم عندما دعاهم النبي عليه السلام إلى الإيمان به، وخوفهم العذاب، فقالوا: نحن لا نخاف ما تقول؛ لأنا أبناء الله وأحباؤه؛ ذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن: نحن ندخل النار، فنقيم فيها أربعين يوما، فرد الله عليهم قولهم، فقال لنبيه عليه السلام : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم }: أي: لو كانت منزلتكم منه فوق منازل البشر، لما عذبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم، ثم ترك الكلام الأول، وأضرب عنه غير مفسد له، ودخل في غيره، فقال: بل أنتم بشر كسائر الناس، والخلق أكرمهم عند الله أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان، فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر، فيعذبه، وله ملك السموات والأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما يشاء، ولا معقب لحكمه، وإليه مصير العباد بالحشر والمعاد.
[5.19]
وقوله تعالى: { يأهل الكتب }: يعني: اليهود والنصارى: { قد جاءكم رسولنا }: محمد عليه السلام .
وقوله: { على فترة من الرسل }: أي: على انقطاع من مجيئهم مدة ما، والفترة: سكون بعد حركة؛ في الأجرام، ويستعار ذلك للمعاني، وقد قال عليه السلام :
" لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة "
، وفي الصحيح؛ أن الفترة التي كانت بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبين عيسى ستمائة سنة، وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود: ما أنزل الله على بشر بعد موسى من شيء؛ قاله ابن عباس.
وقوله: { أن تقولوا }: معناه: حذارا أن تقولوا يوم القيامة: { ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } ، وقامت الحجة عليكم، { والله على كل شيء قدير }؛ فهو الهادي والمضل لا رب غيره.
[5.20-22]
وقوله سبحانه: { وإذ قال موسى لقومه يقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء... } الآية: المعنى: واذكر لهم، يا محمد؛ على جهة إعلامهم بغيب كتبهم؛ ليتحققوا نبوتك، ثم عدد عيون تلك النعم، فقال: { إذ جعل فيكم أنبياء }: أي: حاطة، ومنقذون من النار، وشرف في الدنيا والآخرة، { وجعلكم ملوكا } ، أي: فيكم ملوكا؛ لأن الملك شرف في الدنيا، وحاطة في نوائبها، { وءتكم ما لم يؤت أحدا من العلمين } ، قال مجاهد: هو المن والسلوى، والحجر، والغمام، وقال غيره: كثرة الأنبياء؛ وعلى هذا القول: فالعالمون على العموم، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى، فالعالمون عالم زمانهم؛ لأن ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الله أكثر من ذلك، و { المقدسة } معناه: المطهرة، قال ابن عباس: هي الطور وما حوله، وقال قتادة: هي الشام، قال الطبري: ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر.
قال * ع *: وتظاهرت الروايات؛ أن «دمشق» هي قاعدة الجبارين، ثم حذرهم موسى الارتداد على الأدبار، وذلك هو الرجوع القهقرى، والخاسر: الذي قد نقص حظه، ثم ذكر عز وجل؛ أنهم تعنتوا ونكصوا، قالوا يا موسى: { إن فيها قوما جبارين } ، والجبار: من الجبر؛ كأنه لقدرته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته، والنخلة الجبارة: العالية التي لا تنال بيد، وكان من خبر الجبارين؛ أنهم كانوا أهل قوة، فلما بعث موسى الإثني عشر نقيبا مطلعين من أمر الجبارين، وأحوالهم، رأوا لهم قوة وبطشا وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم، فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك من بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى؛ ليرى فيه أمر ربه، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل، خان منهم عشرة، فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوا به، ففشا الخبر؛ حتى اعوج أمر بني إسرائيل، وقالوا:
اذهب أنت وربك فقاتلا
[المائدة:24]، ولم يف من النقباء إلا يوشع بن نون، وكالب بن يوفتا، ويقال فيه: «كالوث» (بثاء مثلثة).
[5.23-26]
وقوله تعالى: { قال رجلان من الذين يخافون } أي: يخافون الله سبحانه؛ قال أكثر المفسرين: الرجلان يوشع بن نون، وهو ابن أخت موسى، وكالب بن يوفتا، { أنعم الله عليهما } بالإيمان الصحيح، وربط الجأش، والثبوت، وقولهم: { فاذهب أنت وربك فقاتلا... } الآية: عبارة تقتضي كفرا، وقيل: المعنى: فاذهب أنت وربك يعينك، وأن الكلام معصية لا كفر، وذكر ابن إسحاق وغيره؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم الناس يوم بدر، وقال لهم:
" أشيروا علي، أيها الناس، فقال له المقداد بن الأسود: يا رسول الله، لسنا نقول؛ كما قالت بنو إسرائيل: { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قعدون } ، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، ثم تكلم سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى "
، ولما سمع موسى عليه السلام قولهم، ورأى عصيانهم، تبرأ إلى الله منهم، وقال داعيا عليهم: { قال رب إني لآ أملك إلا نفسي وأخي } ، يعني: هارون.
وقوله: { فافرق بيننا }: دعاء حرج، والمعنى: فافرق بيننا وبينهم حتى لا نشقى بفسقهم، { قال فإنها محرمة عليهم } أي: قال الله، وحرم الله تعالى على بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة يتيهون في الأرض، أي: في أرض تلك النازلة، وهو فحص التيه؛ وهو؛ على ما يحكى: طول ثلاثين ميلا، في عرض ستة فراسخ، ويروى أنه لم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع، وكالوث، وروي أن يوشع نبىء بعد كمال الأربعين سنة، وخرج ببني إسرائيل من التيه، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة، وفي تلك الحرب، وقفت له الشمس ساعة، حتى استمر هزم الجبارين، والتيه: الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم.
وقوله تعالى: { فلا تأس على القوم الفسقين } معناه: فلا تحزن، والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام ، قال ابن عباس: ندم موسى على دعائه على قومه، وحزن عليهم، فقال الله له: { فلا تأس على القوم الفسقين }.
[5.27-30]
وقوله تعالى: { واتل عليهم نبأ ابني ءادم بالحق إذ قربا قربانا... } الآية: اتل: معناه: اسرد وأسمعهم إياه، وهذه من علوم الكتب الأول، فهي من دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هي من غامض كتب بني إسرائيل. قال الفخر: وفي الآية قولان:
أحدهما: اتل على الناس.
والثاني: اتل على أهل الكتاب. انتهى.
و { ابني ءادم }: هما لصلبه، وهما هابيل وقابيل، روت جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود؛ أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى، وكان الذكر يتزوج أنثى البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته، فولدت مع قابيل أختا جميلة، ومع هابيل أختا ليست كذلك، فلما أراد آدم أن يزوجها من هابيل، قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم، فلم يأتمر، فاتفقوا على التقريب، فتقبل قربان هابيل، ووجب أن يأخذ أخت قابيل؛ فحينئذ: { قال لأقتلنك } ، وقول هابيل: { إنما يتقبل الله من المتقين }: كلام، قبله محذوف، تقديره: ولم تقتلني، وليس لي ذنب في قبول الله قرباني، وإنما يتقبل الله من المتقين؟! وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ: أنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه، وهو موحد، فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي للشرك وللمعاصي، فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة، علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا.
قلت:
قال * ع *: في معنى هذه الألفاظ (يعني حيث وقعت في الشرع)، وأما في هذه الآية، فليس باتقاء شرك؛ على ما سيأتي، وقول هابيل: { ما أنا بباسط يدي إليك... } الآية: قال عبد الله بن عمر، وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل، ولكنه تحرج، وهذا هو الأظهر.
قال * ع *: ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص، لا كافر؛ لأنه لو كان كافرا، لم يكن للتحرج هنا وجه، و { تبوأ }: معناه: تمضي متحملا، وقوله: { بإثمي وإثمك }: قيل: معناه: بإثم قتلي وسائر آثامك، وقيل: المعنى: بإثمي الذي يختص بي فيما فرط لي، وهذا تأويل يعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة، فيؤخذ من حسنات الظالم، فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم تكن له حسنات، أخذ من سيئات المظلوم، فتطرح عليه ".
وقوله: { وذلك جزؤا الظلمين } يحتمل: أن يكون من قول هابيل لأخيه، ويحتمل: أن يكون إخبارا من الله تعالى لمحمد عليه السلام ، قال الفخر: وقوله تعالى: { فطوعت له نفسه قتل أخيه } قال المفسرون: معناه: سهلت له نفسه قتل أخيه. انتهى.
وقوله سبحانه: { فأصبح من الخسرين }: أصبح: عبارة عن جميع أوقاته، وهذا مهيع كلام العرب؛ ومنه: [المنسرح]
أصبحت لا أحمل السلاح
................البيت
وقول سعد: فأصبحت بنو أسد تعزرني، إلى غير ذلك من استعمال العرب، ومن خسران قابيل ما صح، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها "
؛ وذلك لأنه أول من سن القتل.
[5.31-32]
وقوله تعالى: { فبعث الله غرابا... } الآية: قيل: أصبح في ثاني يوم قتله يطلب إخفاء أمر قتله، فلم يدر ما يصنع به، فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت، فجعل يبحث في الأرض، ويلقي التراب على الغراب الميت، وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم، ولذلك جهل سنة المواراة؛ وكذلك حكى الطبري، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بما في الكتب الأول، والسوءة: العورة، ويحتمل أن يراد الحالة التي تسوء الناظر، ثم إن قابيل وارى أخاه، وندم على ما كان منه من معصية في قتله، حيث لا ينفعه الندم.
واختلف العلماء في قابيل، هل هو من الكفار أو من العصاة، والظاهر أنه من العصاة، قال الفخر: ولم ينتفع قابيل بندمه؛ لأن ندمه كان لأسباب؛ منها: سخط أبويه وإخوته، وعدم انتفاعه بقتله، ونحو ذلك، ولما كان ندمه لهذه الأسباب لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه هذا الندم.
وقوله تعالى: { من أجل ذلك } هو إشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام، لا أنه إشارة إلى قصة قابيل وهابيل. انتهى.
وقوله سبحانه: { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرءيل... } الآية: جمهور الناس على أن قوله: { من أجل ذلك }: متعلق بقوله: { كتبنا } أي: من أجل هذه النازلة، ومن جراها؛ كتبنا، وقال قوم: بل هو متعلق بقوله: { من الندمين } أي: ندم؛ من أجل ما وقع، والوقف؛ على هذا، على { ذلك } ، والناس على أن الوقف { من الندمين } ، ويقال: فعلت ذلك من أجلك بفتح الهمزة ومن إجلك بكسرها .
وقوله سبحانه: { بغير نفس } أي: بغير أن تقتل نفس نفسا، والفساد في الأرض: يجمع الزنا، والارتداد، والحرابة.
وقوله سبحانه: { فكأنما قتل الناس جميعا } روي عن ابن عباس؛ أنه قال: المعنى: من قتل نفسا واحدة، وانتهك حرمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعا، ومن ترك قتل نفس واحدة، وصان حرمتها؛ مخافتي، واستحياها، فهو كمن أحيا الناس جميعا، قال الحسن وابن زيد: { ومن أحيها } أي: عفا عمن وجب له قتله بعد القدرة، وقيل غير هذا.
ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل؛ أنهم جاءتهم الرسل بالبينات في هذا وفي سواه، { ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك } في كل عصر يسرفون، ويتجاوزون الحدود.
[5.33-34]
وقوله سبحانه: { إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله... } الآية: روى أنس بن مالك وغيره: «أن الآية نزلت في قوم من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، ثم إنهم مرضوا، واستوخموا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن يكونوا في لقاح الصدقة، وقال:
" اشربوا من ألبانها وأبوالها "
، فخرجوا فيها، فلما صحوا، قتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، فبعث الطلب في آثارهم، فأخذوا، قال جميع الرواة: فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، ويروى: وسمل وتركهم في جانب الحرة، يستسقون، فلا يسقون»، فقيل: إن هذه الآية ناسخة لفعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، ووقف الأمر على هذه الحدود.
وقال جماعة: إنها غير ناسخة لذلك الفعل؛ لأن العرنيين مرتدون، لا سيما، وفي بعض الطرق؛ أنهم سملوا أعين الرعاء، وقالوا: هذه الآية هي في المحارب المؤمن.
قال مالك: المحارب عندنا: من حمل على الناس السلاح في مصر أو برية، فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم، دون نائرة، ولا دخل، ولا عداوة؛ وبهذا القول قال جماعة من أهل العلم، قالوا: والإمام مخير فيه بأن يعاقبه بما رأى من هذه العقوبات، فأما قتل المحارب، فبالسيف ضربة للعنق، وأما صلبه، فبعد القتل عند جماعة، وقال جماعة: بل يصلب حيا، ويقتل بالطعن على الخشبة، وروي هذا عن مالك، وهو الأظهر من الآية، وهو الأنكى في النكال، وأما القطع، فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل.
وقوله سبحانه: { أو ينفوا من الأرض }: الظاهر: أن الأرض في هذه الآية هي أرض النازلة، وقد جنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب؛ ومنه حديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام، إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب، يظن به أن يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب، ترك مسرحا، وهذا هو صريح مذهب مالك.
وقوله تعالى: { ذلك لهم خزي في الدنيا } الآية: إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم، فيحتمل الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، وبالجملة فهم في المشيئة.
وقوله سبحانه: { إلا الذين تابوا }: استثنى عز وجل التائب قبل أن يقدر عليه، وأخبر سبحانه بسقوط حقوقه عنه؛ بقوله: { فاعلموا أن الله غفور رحيم } ، والعلماء على أن الآية في المؤمنين، ويؤخذ المحارب بحقوق الناس، وإن تاب؛ هذا هو الصحيح.
[5.35-37]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة... } الآية: هذه الآية وعظ من الله تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعظ؛ لأنه يرد على النفوس، وهي خائفة وجلة { وابتغوا }: معناه: اطلبوا، و { الوسيلة }: القربة، وأما الوسيلة المطلوبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أيضا من هذا؛ لأن الدعاء له بالوسيلة والفضيلة إنما هو أن يؤتاهما في الدنيا، ويتصف بهما، ويكون ثمرة ذلك في الآخرة التشفيع في المقام المحمود، قلت: وفي كلامه هذا ما لا يخفى، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة التي كان يرجوها من ربه،
" وأنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو... "
الحديث، وخص سبحانه الجهاد بالذكر، وإن كان داخلا في معنى الوسيلة تشريفا له؛ إذ هو قاعدة الإسلام.
وقوله تعالى: { يريدون أن يخرجوا من النار }: إخبار بأنهم يتمنون هذا، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا فارت بهم النار، قربوا من حاشيتها، فحينئذ يريدون الخروج، ويطمعون به، وتأول هو وغيره الآية على هذا؛ قلت: ويؤيده ما خرجه البخاري في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم؛
" حيث أتاه آتيان، فأخذا بيده "
، وفيه:
" فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج، رمى الرجل بحجر في فيه "
، وفيه أيضا:
" فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع تتوقد تحته نار، فإذا اقترب، ارتفعوا، فإذا خمدت، رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة، فقلت: ما هذا؟ فقالا: انطلق "
الحديث، وأخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار؛ أنهم ليسوا بخارجين من النار، بل عذابهم فيها مقيم مؤبد.
[5.38-40]
وقوله سبحانه: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما... } الآية: قلت: المسروق: مال أو غيره.
فشرط المال: أن يكون نصابا، بعد خروجه، مملوكا لغير السارق، ملكا محترما, تاما، لا شبهة له فيه، محرزا، مخرجا منه إلى ما ليس بحرز له، استسرارا.
فالنصاب: ربع دينار أو ثلاثة دراهم، أو ما يساوي ثلاثة دراهم، وقوله: { أيديهما } يعني: أيمان النوعين، والنكال: العذاب، والنكل: القيد.
وقوله سبحانه: { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه... } الآية: جمهور العلماء على أن توبة السارق لا تسقط عنه القطع، وقال الشافعي: إذا تاب السارق قبل أن يتلبس الحكام بأخذه، فتوبته تدفع عنه حكم القطع؛ قياسا على توبة المحارب.
وقوله سبحانه: { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء } أي: فلا معقب لحكمه سبحانه، ولا معترض عليه، يفعل ما يشاء لا إله إلا هو.
[5.41-43]
وقوله تعالى: { يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر... } الآية: تسلية لنبيه عليه السلام وتقوية لنفسه؛ بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين واليهود، والمعنى: قد وعدناك النصر والظهور عليهم، فلا يحزنك ما يقع منهم، ومعنى المسارعة في الكفر: البدار إلى نصره، والسعي في كيد الإسلام، وإطفاء نوره، قال مجاهد وغيره: قوله تعالى: { من الذين قالوا ءامنا بأفوههم ولم تؤمن قلوبهم } يراد به المنافقون.
وقوله: { سمعون للكذب سمعون لقوم ءاخرين }: يراد به اليهود، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين؛ لأن جميعهم يسمع الكذب، بعضهم من بعض، ويقبلونه؛ ولذلك جاءت عبارة سماعهم في صيغة المبالغة؛ إذ المراد أنهم يقبلون ويستزيدون من ذلك.
وقوله سبحانه: { سمعون لقوم ءاخرين }: يحتمل أن يريد: يسمعون منهم، وذكر الطبري عن جابر؛ أن المراد بالقوم الآخرين يهود فدك، وقيل: يهود خيبر، ويحتمل أن يكون معنى { سمعون لقوم ءاخرين } بمعنى: جواسيس مسترقين الكلام؛ لينقلوه لقوم آخرين، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقون ويهود المدينة، قلت: وهذا هو الذي نص عليه ابن إسحاق في السير.
قال: * ع *: وقيل لسفيان بن عيينة: هل جرى للجاسوس ذكر في كتاب الله عز وجل؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية: { سمعون لقوم ءاخرين }.
وقوله سبحانه: { يحرفون الكلم من بعد موضعه }: هذه صفة اليهود في معنى ما حرفوه من التوراة، وفيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم { من بعد موضعه } ، أي: من بعد أن وضع مواضعه، وقصدت به وجوهه القويمة، يقولون إن أوتيتم هذا، فخذوه، روي أن يهود فدك قالوا ليهود المدينة: استفتوا محمدا، فإن أفتاكم بما نحن عليه من الجلد والتجبية، فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروا الرجم؛ قاله الشعبي وغيره وقيل غير هذا من وقائعهم، فالإشارة ب { هذا } إلى التحميم والجلد في الزنا، على قول، ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام ؛ على جهة قطع الرجاء منهم: { ومن يرد الله فتنته } أي: محنته بالكفر، { فلن تملك له من الله شيئا } ، ثم أخبر تعالى عنهم؛ أنهم الذين سبق لهم في علمه ألا يطهر قلوبهم، وأن يكونوا مدنسين بالكفر، { لهم في الدنيا خزي }؛ بالذلة والمسكنة التي ضربت عليهم في أقطار الأرض، وفي كل أمة.
قال * ص *: { سمعون } ، أي: هم سماعون، ومثله أكالون. انتهى.
وقوله سبحانه: { أكلون للسحت }: فعالون؛ بناء مبالغة، أي: يتكرر أكلهم، ويكثر، والسحت: كل ما لا يحل كسبه من المال.
وقوله تعالى: { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم }: تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم، ولحكام أمته بعده، وقال ابن عباس وغيره: هذا التخيير منسوخ بقوله سبحانه:
وأن احكم بينهم بما أنزل الله
[المائدة:49]، وقال كثير من العلماء: هي محكمة، وهذا هو الأظهر؛ إن شاء الله، وفقه هذه الآية أن الأمة مجمعة فيما علمت على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في تظالمهم، وأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها، فالحاكم مخير، وإذا رضي به الخصمان، فلا بد من رضا أساقفتهم أو أحبارهم؛ قاله ابن القاسم في «العتبية»، قلت: وعبارة الداوودي قال مالك: ولا يحكم بينهم، إذا اختار الحكم إلا في المظالم، فيحكم بينهما بما أنزل الله، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أن يعلنوه، فيعاقبون بسبب إعلانه، ثم يردون إلى أساقفتهم، قال مالك: وإنما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين قبل أن تكون لهم ذمة. انتهى.
وقال ابن العربي في «أحكامه»: إنما أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم؛ ليحقق تحريفهم، وتبديلهم، وكذبهم، وكتمهم ما في التوراة، ومنه صفته صلى الله عليه وسلم فيها، والرجم على زناتهم، وعنه أخبر الله تعالى بقوله:
يأهل الكتب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتب ويعفوا عن كثير
[المائدة:15]؛ فيكون ذلك من آياته الباهرة، وحججه البينة، وبراهينه القاطعة الدامغة للأمة المخزية اليهودية. انتهى.
وقوله تعالى: { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا }: أمن الله سبحانه نبيه من ضررهم، إذا أعرض عنهم، وحقر في ذلك شأنهم، { وإن حكمت } ، أي: اخترت الحكم في نازلة ما، { فاحكم بينهم بالقسط } ، أي: بالعدل، ثم قال سبحانه: { وكيف يحكمونك } المعنى: وكيف يحكمونك بنية صادقة، وهم قد خالفوا حكم التوراة التي يصدقون بها، وتولوا عن حكم الله فيها؛ فأنت الذي لا يؤمنون بك أحرى بأن يخالفوا حكمك، وهذا بين أنهم لا يحكمونه عليه السلام إلا رغبة في ميله إلى أهوائهم.
وقوله سبحانه: { من بعد ذلك } ، أي: من بعد كون حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه.
وقوله تعالى: { وما أولئك بالمؤمنين } يعني: بالتوراة وبموسى.
[5.44]
وقوله سبحانه: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } ، أي: إرشاد في المعتقد والشرائع، والنور: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، و { النبيون الذين أسلموا }: هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة نبينا محمد عليه السلام ، وأسلموا: معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله سبحانه، وقوله: { للذين هادوا }: متعلق ب { يحكم } أي: يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم، { والربانيون }: عطف على النبيين، أي: ويحكم بها الربانيون، وهم العلماء، وقد تقدم تفسير الرباني، والأحبار أيضا: العلماء، واحدهم: حبر بكسر الحاء، وفتحها ، وكثر استعمال الفتح؛ فرقا بينه وبين «الحبر» الذي يكتب به، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان قبل مبعث نبينا محمد عليه السلام .
وقوله سبحانه: { بما استحفظوا } ، أي: بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة، وأخذه العهد عليهم؛ في العمل والقول بها، وعرفهم ما فيها، فصاروا شهداء عليه، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا؛ حتى تبدلت التوراة، والقرآن بخلاف هذا؛ لقوله تعالى:
وإنا له لحفظون
[الحجر:9].
وقوله تعالى: { فلا تخشوا الناس واخشون }: حكاية لما قيل لعلماء بني إسرائيل.
وقوله: { ولا تشتروا بآيتي ثمنا قليلا }: نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين، وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها، ويحتمل أن يكون قوله: { فلا تخشوا الناس... } إلى آخر الآية خطابا لأمة نبينا محمد عليه السلام .
واختلف العلماء في المراد بقوله: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون }.
فقالت جماعة: المراد: اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين؛ وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب؛ قال الفخر: وتمسكت الخوارج بهذه الآية في التكفير بالذنب، وأجيب بأن الآية نزلت في اليهود، فتكون مختصة بهم، قال الفخر: وهذا ضعيف؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
قلت: وهذه مسألة خلاف في العام الوارد على سبب، هل يبقى على عمومه، أو يقصر على سببه؟ انتهى.
وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم: الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله، ولكنها في أمراء هذه الأمة كفر معصية ؛ لا يخرجهم عن الإيمان، وهذا تأويل حسن، وقيل لحذيفة بن اليمان: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل، فقال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لكم كل حلوة، ولهم كل مرة، لتسلكن طريقهم قذ الشراك.
[5.45]
وقوله تعالى: { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس... } الآية، أي: وكتبنا على بني إسرائيل في التوراة، ومعنى هذه الآية: الخبر بأن الله تعالى كتب فرضا على بني إسرائيل؛ أنه من قتل نفسا، فيجب في ذلك أخذ نفسه، ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: «ورخص الله لهذه الأمة، ووسع لها بالدية، ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى، والجمهور { أن النفس بالنفس }: عموم يراد به الخصوص في المتماثلين؛ كما ورد في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يقتل مسلم بكافر "
، وكذلك قوله سبحانه: { والجروح قصاص }: عموم يراد به الخصوص فيما لا يخاف منها على النفس، وكتب الفقه محل استيعاب الكلام على هذه المعاني.
قال * ص *: { والجروح قصاص } ، أي: ذات قصاص. انتهى.
وقوله سبحانه: { فمن تصدق به فهو كفارة له } ، المعنى: أن من تصدق بجرحه أو دم وليه، وعفا، فإن ذلك العفو كفارة لذنوبه يعظم الله أجره بذلك، قاله ابن عمر وغيره، وفي معناه حديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: وهو قوله: صلى الله عليه وسلم:
" ما من رجل يصاب بشيء في جسده فتصدق به إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة "
، رواه الترمذي. انتهى.
وقيل: المعنى: فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب؛ كما أن القصاص كفارة، فكذلك العفو كفارة وأما أجر العافي، فعلى الله تعالى؛ قاله ابن عباس وغيره.
وقيل: المعنى: إذا جنى جان، فجهل، وخفي أمره، فتصدق هذا الجاني؛ بأن اعترف بذلك، ومكن من نفسه؛ فذلك الفعل كفارة لذنبه.
[5.46-50]
وقوله سبحانه: { وقفينا على ءاثرهم بعيسى ابن مريم... } الآية: الضمير في { ءاثرهم } للنبيين.
وقوله: { وهدى وموعظة للمتقين }: خص المتقون بالذكر؛ لأنهم المقصود به في علم الله وإن كان الجميع يدعى إلى توحيد الله، ويوعظ، ولكن ذلك على غير المتقين عمى وحيرة.
وقرأ حمزة وحده: «وليحكم» بكسر اللام، وفتح الميم ؛ على «لام كي»، ونصب الفعل بها، والمعنى: وآتيناه الإنجيل؛ ليتضمن الهدى والنور والتصديق، وليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وقرأ باقي السبعة: «وليحكم» بسكون لام الأمر، وجزم الفعل ، ومعنى أمره لهم بالحكم: أي: هكذا يجب عليهم.
قلت: وإذ من لازم حكمهم بما أنزل الله فيه اتباعهم لنبينا محمد عليه السلام والإيمان به؛ كما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، قال الفخر: قيل: المراد: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه؛ من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قيل: والمراد بالفاسقين: من لم يمتثل من النصارى. انتهى، وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله.
وقوله سبحانه: { ومهيمنا } ، أي: جعل الله القرآن مهيمنا على الكتب، يشهد بما فيها من الحقائق، وعلى ما نسبه المحرفون إليها، فيصحح الحقائق، ويبطل التحريف، وهذا هو معنى { مهيمنا } ، أي: شاهد، ومصدق، ومؤتمن، وأمين؛ حسب اختلاف عبارة المفسرين في اللفظة، وقال المبرد: «مهيمن»: أصله «مؤيمن»؛ بني من «أمين»؛ أبدلت همزته هاء؛ كما قالوا: أرقت الماء، وهرقته؛ واستحسنه الزجاج.
وقوله سبحانه: { فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق }: المعنى؛ عند الجمهور: إن اخترت أن تحكم، فاحكم بينهم بما أنزل الله، وليست هذه الآية بناسخة لقوله:
أو أعرض عنهم
[المائدة:42].
ثم حذر الله تعالى نبيه عليه السلام من اتباع أهوائهم.
وقوله تعالى: { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهجا } ، أي: لكل أمة؛ قاله الجمهور، وهذا عندهم في الأحكام، وأما في المعتقدات، فالدين واحد لجميع العالم، ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء، لا سيما وقد تقدم ذكرهم، وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية، مع هذا الاحتمال تنبيها لنبينا محمد عليه السلام ، أي: فاحفظ شرعتك ومنهاجك؛ لئلا تستزلك اليهود، أو غيرهم في شيء منه، وأكثر المتأولين على أن الشرعة والمنهاج بمعنى واحد ، وهي الطريق، وقال ابن عباس وغيره: { شرعة ومنهجا }: سبيلا وسنة، ثم أخبر سبحانه؛ أنه لو شاء، لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه لم يشأ؛ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع؛ كذا قال ابن جريج وغيره.
ثم أمر سبحانه باستباق الخيرات في امتثال الأوامر، وختم سبحانه بالموعظة والتذكير بالمعاد، فقال: { إلى الله مرجعكم جميعا } ، والمعنى: فالبدار البدار.
وقوله سبحانه: { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } ، معناه: في الثواب والعقاب، فتخبرون به إخبار إيقاع، وهذه الآية بارعة الفصاحة، جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، وكل كتاب الله كذلك، إلا أنا بقصور أفهامنا يبين لنا في بعض أكثر مما يبين لنا في بعض.
وقوله تعالى: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم... } الآية: الهوى مقصور يجمع على أهواء، والهواء ممدود يجمع على أهوية، ثم حذر تعالى نبيه عليه السلام من اليهود؛ أن يفتنوه؛ بأن يصرفوه عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام؛ لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له مرارا: احكم لنا في نازلة كذا بكذا، ونتبعك على دينك.
وقوله سبحانه: { فإن تولوا } ، قبله محذوف، تقديره: فإن حكموك واستقاموا، فنعما ذلك، وإن تولوا, { فاعلم... } الآية، وخصص سبحانه إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها؛ لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا، وذنوبهم نوعان: نوع يخصهم، ونوع يتعدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين، وبه توعدهم الله في الدنيا، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة.
وقال الفخر: وجوزوا ببعض الذنوب في الدنيا، لأن مجازاتهم بالبعض - كاف في إهلاكهم وتدميرهم. انتهى.
وقوله سبحانه: { فاعلم... } الآية: وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع، وقصة قريظة والنضير، وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم.
وقوله تعالى: { وإن كثيرا من الناس لفسقون }: إشارة إليهم، ويندرج في عموم الآية غيرهم.
وقوله تعالى: { أفحكم الجهلية يبغون }: إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان، ويحكمون بحسب الشهوات، { ومن أحسن من الله حكما } ، أي: لا أحد أحسن منه حكما تبارك وتعالى.
[5.51-53]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصرى أولياء }: نهى الله سبحانه المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة، وحكم هذه الآية باق، وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين، فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: { فإنه منهم } ، وسبب نزول هذه الآية أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع، أراد النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم، فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول مخاصما، وقال: يا محمد، أحسن في موالي، فإني امرؤ أخاف الدوائر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد وهبتهم لك، ونزلت الآية في ذلك. وقوله عز وجل: { بعضهم أولياء بعض }: جملة مقطوعة من النهي.
وقوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم }: إنحاء على عبد الله بن أبي، وعلى كل من اتصف بهذه الصفة.
وقوله سبحانه: { فترى الذين }: المعنى: فترى يا محمد، { الذين في قلوبهم مرض }؛ إشارة إلى عبد الله بن أبي ومن تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قينقاع.
وقوله تعالى: { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة }: لفظ محفوظ عن عبد الله بن أبي ومن تبعه من المنافقين، ودائرة: معناه نازلة من الزمان، وإنما كان ابن أبي يظهر أنه يستبقيهم لنصرة النبي عليه السلام ، وأنه الرأي، وكان يبطن خلاف ذلك.
وقوله سبحانه: { فعسى الله أن يأتي بالفتح } ، وهو ظهور نبيه عليه السلام ، و علو كلمته، وتمكينه من بني قينقاع وقريظة والنضير، وفتح مكة، { أو أمر من عنده } يهلك به أعداء الشرع، وهو أيضا فتح لا يقع فيه للبشر سبب.
وقرأ ابن الزبير: «فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين».
وقوله تعالى: { ويقول الذين ءامنوا أهؤلآء الذين أقسموا بالله جهد أيمنهم } ، قرأ نافع وغيره: «يقول» بغير واو ، وقرأ حمزة وغيره: «ويقول»، وقرأ أبو عمرو وحده: «ويقول» بالواو، ونصب اللام ؛ فذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا القول من المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح، وحصلت ندامة المنافقين، وفضحهم الله تعالى، فحينئذ: يقول المؤمنون: { أهؤلاء الذين أقسموا } الآية.
وتحتمل الآية أن تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض: { نخشى أن تصيبنا دائرة }: إذ فهم منهم أن تمسكهم باليهود إنما هو إرصاد لله ولرسوله، فمقتهم النبي عليه السلام والمؤمنون، وترك لهم النبي عليه السلام بني قينقاع؛ رغبة في المصلحة والألفة، وأما قراءة أبي عمرو: «ويقول» بالنصب ، فلا يتجه معها أن يكون قول المؤمنين إلا عند الفتح، وظهور ندامة المنافقين، وفضيحتهم.
وقوله تعالى: { جهد أيمنهم }: نصب «جهد» على المصدر المؤكد، والمعنى: أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الأيمان؛ إنهم لمعكم، قد ظهر الآن منهم من موالاة اليهود، وخذل الشريعة ما يكذب أيمانهم.
وقوله: { حبطت أعملهم }: يحتمل أن يكون إخبارا من الله سبحانه، ويحتمل أن يكون من قول المؤمنين، ويحتمل أن يكون قوله: { حبطت } دعاء، أي: بطلت أعمالهم.
[5.54-59]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه... } الآية: خطاب للمؤمنين إلى يوم القيامة، ومعنى الآية؛ أن الله عز وجل وعد هذه الأمة أن من ارتد منها، فإنه يجيء سبحانه بقوم ينصرون الدين، ويغنون عن المرتدين.
قال الفخر: وقدم الله تعالى محبته لهم على محبتهم له؛ إذ لولا حبه لهم، لما وفقهم أن صاروا محبين له. انتهى، وفي كتاب «القصد إلى الله سبحانه»؛ للمحاسبي، قلت للشيخ: فهل يلحق المحبين لله عز وجل خوف؟ قال: نعم، الخوف لازم لهم؛ كما لزمهم الإيمان لا يزول إلا بزواله، وهذا هو خوف عذاب التقصير في بدايتهم؛ حتى إذا صاروا إلى خوف الفوت، صاروا إلى الخوف الذي يكون في أعلى حال، فكان الخوف الأول يطرقهم خطرات، وصار خوف الفوت وطنات، قلت: فما الحالة التي تكشف عن قلوبهم شديد الخوف والحزن؟ قال: الرجاء بحسن الظن؛ لمعرفتهم بسعة فضل الله عز وجل، وأملهم منه أن يظفروا بمرادهم، إذا وردوا عليه، ولولا حسن ظنهم بربهم، لتقطعت أنفسهم حسرات، وماتوا كمدا، قلت: أي شيء أكثر شغلهم، وما الغالب على قلوبهم في جميع أحوالهم؟ قال: كثرة الذكر لمحبوبهم على طريق الدوام والاستقامة، لا يملون ، ولا يفترون، وقد أجمع الحكماء أن من أحب شيئا، أكثر من ذكره، ثم قال: قال ذو النون: ما أولع أحد بذكر الله إلا أفاد منه حب الله تعالى. انتهى.
وفي الآية إنحاء على المنافقين، وعلى من ارتد في مدة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الفخر: وهذه الآية إخبار بغيب، وقد وقع الخبر على وفقه؛ فيكون معجزا، وقد ارتدت العرب وغيرهم أيام أبي بكر، فنصر الله الدين، وأتى بخير منهم. انتهى.
وقوله سبحانه: { أذلة على المؤمنين } ، معناه: متذللين من قبل أنفسهم، غير متكبرين، وهذا كقوله عز وجل:
أشداء على الكفار رحماء بينهم
[الفتح:29]؛ وكقوله عليه السلام :
" المؤمن هين لين "
، وفي قراءة ابن مسعود: «أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين».
وقوله تعالى: { ولا يخفون لومة لائم }: إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم يعتذرون بممالأة الأحلاف والمعارف من الكفار، ويراعون أمرهم، قلت: وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده على أبي ذر، قال: «أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بسبع: أوصاني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي يعني: في شأن الدنيا ، وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرا، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت، وأوصاني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني ألا أسأل الناس شيئا، وأوصاني أن أستكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله».
انتهى.
وقوله سبحانه: { ذلك فضل الله }: الإشارة ب «ذلك» إلى كون القوم يحبون الله عز وجل ويحبهم، وواسع: معناها ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم به سبحانه.
وقوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله... } الآية: «إنما» في هذه الآية حاصرة، وقرأ ابن مسعود: «إنما مولاكم الله»، والزكاة هنا: لفظ عام للزكاة المفروضة، والتطوع بالصدقة، ولكل أفعال البر، إذ هي منمية للحسنات، مطهرة للمرء من دنس السيئات، ثم وصفهم سبحانه بتكثير الركوع، وخص بالذكر؛ لكونه من أعظم أركان الصلاة، وهي هيئة تواضع، فعبر عن جميع الصلاة؛ كما قال سبحانه:
والركع السجود
[الحج:26] هذا هو الصحيح.، وهو تأويل الجمهور، ولكن اتفق مع ذلك أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أعطى خاتمه، وهو راكع.
قال السدي: وإن اتفق ذلك لعلي، فالآية عامة في جميع المؤمنين.
ثم أخبر تعالى: أن من يتولى الله ورسوله والمؤمنين، فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءت العبارة عامة في أن حزب الله هم الغالبون، ثم نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ الذين اتخذوا ديننا هزوا ولعبا، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله سبحانه:
إنا كفينك المستهزءين
[الحجر:95] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم:
إنا معكم إنما نحن مستهزءون
[البقرة:14].
ثم أمر سبحانه بتقواه، ونبه النفوس بقوله: { إن كنتم مؤمنين }.
وقوله سبحانه: { وإذا نديتم إلى الصلوة اتخذوها هزوا ولعبا... } الآية: إنحاء على اليهود، وتبيين لسوء فعلهم.
وقوله: { وأن أكثركم فسقون }: معنى المحاورة: هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال؛ من أنا مؤمنون، وأنتم فاسقون؛ كما تقول لمن تخاصمه: هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا, وكذبت أنت, وقال بعض المتأولين: { وأن أكثركم }: معطوف على { ما }؛ كأنه قال: إلا أن آمنا بالله وبكتبه، وبأن أكثركم فاسقون، وهذا مستقيم المعنى، وقال: { أكثركم } ، من حيث إن فيهم من آمن؛ كابن سلام وغيره.
[5.60-63]
وقوله سبحانه: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة } ، يعني: مرجعا عند الله يوم القيامة؛ ومنه:
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس
[البقرة:125]، ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر عليه السلام أن يقول لهم: { هل أنبئكم } هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزوا ولعبا؛ قال ذلك الطبري، وتوبع عليه، ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئا، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين، أي: قل يا محمد، للمؤمنين: هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت المرجع إلى الله؛ أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله، وغضب عليهم.
وقوله سبحانه: { وجعل } ، هي بمعنى «صير»، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في «البقرة»، و { عبد الطغوت }: تقديره: ومن عبد الطاغوت، وقرأ حمزة وحده «وعبد الطاغوت» بفتح العين، وضم الباء، وكسر التاء من الطاغوت ؛ وذلك أن «عبد» لفظ مبالغة؛ كقدس.
قال الفخر: قيل: الطاغوت هنا: العجل، وقيل: الطاغوت أحبارهم، وكل من أطاع أحدا في معصية الله فقد عبده. انتهى.
و { مكانا }: يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه، أي: المحل إذ محلهم جهنم، ويحتمل أن يريد في الدنيا، فهي استعارة للمكانة، والحالة.
وقوله سبحانه: { وإذا جاءوكم } يعني: اليهود، وخاصة المنافقين منهم؛ قاله ابن عباس وغيره.
وقوله: { والله أعلم بما كانوا يكتمون }: أي: من الكفر، والرؤية هنا تحتمل أن تكون قلبية، وأن تكون بصرية، و { في الإثم } ، أي: موجبات الإثم، واللام في: { لبئس }: لام قسم.
وقوله تعالى: { لولا ينههم الربنيون والأحبار }: تحضيض في ضمنه توبيخ لهم، قال الفخر: والمعنى: هلا ينهاهم. انتهى.
قال الطبري: كان العلماء يقولون: ما في القرآن آية هي أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها.
وقال الضحاك بن مزاحم: ما في القرآن آية أخوف عندي منها؛ أنا لا ننهى؛ وقال نحو هذا ابن عباس.
وقوله سبحانه: { عن قولهم الإثم }: ظاهره أن الإثم هنا يراد به الكفر، ويحتمل أن يراد سائر أقوالهم المنكرة في النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقرأ ابن عباس: «بئس ما كانوا يصنعون»؛ بغير لام قسم.
[5.64]
وقوله سبحانه وتعالى: { وقالت اليهود يد الله... } إلى قوله: { لا يحب المفسدين }: هذه الآية تعديد كبيرة في أقوالهم وكفرهم، أي: فمن يقول هذه العظيمة، فلا يستنكر نفاقه وسعيه في رد أمر الله تعالى.
قال ابن عباس وجماعة: معنى قولهم: التبخيل؛ وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد، فقالوا هذه المقالة، يعنون بها؛ أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة، تعالى الله عن قولهم، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك
[الإسراء:29] فإن المراد: لا تبخل؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" مثل البخيل والمتصدق... "
الحديث، وذكر الطبري والنقاش؛ أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي، وأنه قالها.
وقوله سبحانه: { غلت أيديهم }: خبر يحتمل في الدنيا، ويحتمل في الآخرة، فإن كان خبرا عن الدنيا، فالمعنى: غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في وجوه البر ونحوه، وإذا كان خبرا عن الآخرة، فالمعنى: غلت في النار، قلت: ويحتمل الأمرين معا.
وقوله تعالى: { بل يداه مبسوطتان }: العقيدة في هذا المعنى: نفي التشبيه عن الله سبحانه، وأنه ليس بجسم، ولا له جارحة، ولا يشبه، ولا يكيف، ولا يتحيز، ولا تحله الحوادث، تعالى عما يقول المبطلون علوا كبيرا، قال ابن عباس في هذه الآية: { يداه }: نعمتاه، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين:
فقيل: نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة، وقيل: النعمة الظاهرة، والنعمة الباطنة، والظاهر أن قوله سبحانه: { بل يداه مبسوطتان } عبارة عن إنعامه على الجملة، وعبر عنها باليدين؛ جريا على طريقة العرب في قولهم: فلان ينفق بكلتا يديه؛ ومنه قول الأعشى: [الطويل]
يداك يدا مجد فكف مفيدة
وكف إذا ما ضن بالمال تنفق
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق، ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام : { وليزيدن كثيرا منهم } ، يعني: اليهود { ما أنزل إليك من ربك طغينا وكفرا } ، ثم قال سبحانه: { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيمة } ، العداوة: أخص من البغضاء؛ لأن كل عدو، فهو يبغض، وقد يبغض من ليس بعدو، والبغضاء: قد لا تتجاوز النفوس، وقد ألقى الله سبحانه الأمرين على بني إسرائيل.
قال الفخر: وقد أوقع الله بين فرقهم الخصومة الشديدة، وانتهى أمرهم إلى أن يكفر بعضهم بعضا، وفي قوله: { وألقينا بينهم العداوة... }: قولان:
أحدهما: أن المراد ما بين اليهود والنصارى من العداوة؛ لأنه جرى ذكرهم في قوله:
لا تتخذوا اليهود والنصرى أولياء
[المائدة:51]، وهذا قول الحسن ومجاهد.
والثاني: ما وقع من العداوة بين فرق اليهود، فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية، وبعضهم موحدة، وبعضهم مشبهة، وكذلك بين فرق النصارى؛ كالملكانية، والنسطورية، واليعقوبية. انتهى.
وقوله سبحانه: { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله }: استعارة بليغة، قال مجاهد: معنى الآية: كلما أوقدوا نارا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم، أطفأها الله، فالآية بشارة لنبينا محمد عليه السلام وللمؤمنين، وباقي الآية بين.
[5.65-66]
وقوله تعالى: { ولو أن أهل الكتب ءامنوا ... } الآية: هذه الآية تحتمل أن يراد بها معاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، وتحتمل أن يراد بها الأسلاف، والمعاصرون.
وقوله سبحانه: { ولو أنهم أقاموا التوراة } ، أي: أظهروا أحكامها، فهي كإقامة السوق، وإقامة الصلاة.
وقوله سبحانه: { والإنجيل }: يقتضي دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب؛ في هذه الآية، قلت: وقال مكي: معنى: { أقاموا التوراة والإنجيل }: أي: عملوا بما فيهما، وأقروا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم وبنبوته. انتهى من «الهداية».
وقوله: { وما أنزل إليهم من ربهم }: معناه: من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء عليهم السلام ، واختلف في معنى: { من فوقهم ومن تحت أرجلهم } ، فقال ابن عباس وغيره: المعنى: لأعطتهم السماء مطرها، والأرض نباتها بفضل الله تعالى، وقال الطبري وغيره: إن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة؛ كما يقال: فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه.
وقوله سبحانه: { منهم أمة مقتصدة }: معناه: معتدلة، والقصد والاقتصاد: الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال، قال ابن زيد: وهؤلاء هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب.
قال * ع *: وهذا هو الراجح.
[5.67-68]
وقوله سبحانه: { يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك... } الآية: هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه عليه السلام بالتبليغ على الاستيفاء والكمال؛ لأنه قد كان بلغ صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر في هذه الآية بألا يتوقف عن شيء مخافة أحد؛ وذلك أن رسالته عليه السلام تضمنت الطعن على أنواع الكفرة، وبيان فساد حالهم، فكان يلقى منهم صلى الله عليه وسلم عنتا، وربما خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية، فقال الله تعالى له: { بلغ ما أنزل إليك من ربك } ، أي: كاملا، { والله يعصمك من الناس } ، قالت عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها): «من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي، فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: { يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك... } الآية»، وقال عبد الله ابن شقيق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعقبه أصحابه يحرسونه، فلما نزلت: { والله يعصمك من الناس } ، خرج، فقال:
" يا أيها الناس، الحقوا بملاحقكم ؛ فإن الله قد عصمني "
، قلت: وخرج الترمذي هذا الحديث أيضا من طريق عائشة، وكما وجب عليه التبليغ عليه السلام ، وجب على علماء أمته، وقد قال عليه السلام :
" بلغوا عني ولو آية "
، وعن زيد بن ثابت (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" نضر الله امرأ سمع منا حديثا، فحفظه حتى يبلغه؛ فرب حامل فقه إلى من ليس بفقية، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "
، رواه أبو داود، واللفظ له، والترمذي والنسائي وابن ماجة، وابن حبان في «صحيحه»، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ورواه من حديث ابن مسعود، وقال: حسن صحيح. انتهى من «السلاح».
وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت هذه الآية بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقتله به.
قال ابن العربي: قوله تعالى: { والله يعصمك من الناس }: معناه: يجعل بينك وبينهم حجابا يمنع من وصول مكروههم إليك؛ كعصام القربة الذي يمنع سيلان الماء منها، ولعلمائنا في الآية تأويلات.
أصحها: أن العصمة عامة في كل مكروه، وأن الآية نزلت بعد أن شج وجهه، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنه أراد من القتل خاصة، والأول أصح، وقد كان صلى الله عليه وسلم أوتي بعض هذه العصمة بمكة في قوله تعالى:
إنا كفينك المستهزءين
[الحجر:95] ثم كملت له العصمة بالمدينة، فعصم من الناس كلهم. انتهى من كتابه في تفسير أفعال الله الواقعة في القرآن.
ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام ؛ أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه: { لستم على شيء } ، أي: على شيء مستقيم؛ { حتى تقيموا التوراة والإنجيل } ، وفي إقامتهما الإيمان بنبينا محمد عليه السلام ، قلت: وهذه الآية عندي من أخوف آية في القرآن؛ كما أشار إلى ذلك سفيان، فتأملها حق التأمل.
وقوله سبحانه: { وما أنزل إليكم من ربكم } الآية: يعني به القرآن.
[5.69-70]
وقوله تعالى: { إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصبئون والنصرى من ءامن بالله واليوم الأخر وعمل صلحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }: الذين آمنوا: لفظ عام لكل مؤمن من ملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن غيرها من الملل، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم، وبينت الطوائف على اختلافها، وهذا هو تأويل الجمهور، وقد مضى الكلام في «سورة البقرة»، فراجعه هناك، وقرأ الجمهور: «والصابئون»، وقرىء خارج السبعة: «والصابئين»، وهي بينة الإعراب، وأما على قراءة الجمهور، فاختلف في إعرابها، ومذهب سبيويه، والخليل، ونحاة البصرة: أنه من المقدم الذي معناه التأخير، كأنه قال: إن الذين آمنوا والذين هادوا، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك.
قال * ص *: ووجه ثان أن خبر «إن» محذوف، أي: إن الذين آمنوا لهم أجرهم، وخبر «الصابئين»: { من ءامن } وما بعده، قال ابن عصفور؛ وهو حسن جدا؛ إذ ليس فيه أكثر من حذف خبر «إن»؛ للفهم، وهو جائز في فصيح الكلام. انتهى.
قلت: قال ابن مالك: وهو أسهل من التقديم والتأخير، وقيل: إن الصابئين في موضع نصب، ولكنه جاء على لغة بلحارث الذين يجعلون التثنية بالألف على كل حال، والجمع بالواو على كل حال؛ قاله أبو البقاء، وقيل غير هذا.
[5.71-75]
وقوله سبحانه: { وحسبوا ألا تكون فتنة }: المعنى في هذه الآية: وظن هؤلاء الكفرة بالله، والعصاة من بني إسرائيل ألا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا، فلجوا في شهواتهم، وعموا فيها، إذ لم يبصروا الحق، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:
" حبك الشيء يعمي ويصم "
وقوله سبحانه: { ثم تاب الله عليهم } ، قالت جماعة من المفسرين: هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول، ورد ملكهم وحالهم، ثم عموا وصموا بعد ذلك؛ حتى أخرجوا الخرجة الثانية، ولم ينجبروا أبدا، ومعنى: { تاب الله عليهم }؛ أي: رجع بهم إلى الطاعة والحق، ومن فصاحة القرآن: استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال؛ إليهم، ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا بلام القسم عن كفر القائلين: { إن الله هو المسيح ابن مريم } وهذا قول اليعقوبية من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم، فقال: { وقال المسيح يبني إسرءيل اعبدوا الله ربي وربكم... } الآية: فضلوا هم، وكفروا؛ بسبب ما رأوا على يديه من الآيات.
وقوله تعالى: { وما للظلمين من أنصار } ، يحتمل أن يكون من قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله سبحانه لنبيه محمد عليه السلام .
وقوله تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثلث ثلثة وما من إله إلا إله وحد... } الآية: إخبار مؤكد؛ كالذي قبله، عن هذه الطائفة الناطقة بالتثليث، وهم فرق، منهم النسطورية وغيرهم، ولا معنى لذكر أقوالهم في كتب التفسير.
وقوله سبحانه: { ثلث ثلثة }: لا يجوز فيه إلا الإضافة، وخفض «ثلاثة»؛ لأن المعنى أحد ثلاثة، فإن قلت: زيد ثالث اثنين، أو رابع ثلاثة، جاز لك أن تضيف؛ كما تقدم، وجاز ألا تضيف، وتنصب «ثلاثة»؛ على معنى: زيد يربع ثلاثة.
وقوله سبحانه: { وما من إله إلا إله وحد... } الآية: خبر صادع بالحق، وهو سبحانه الخالق المبدع المتصف بالصفات العلا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ثم توعدهم، إن لم ينتهوا عما يقولون، ثم رفق جل وعلا بهم؛ بتحضيضه إياهم على التوبة، وطلب المغفرة، ثم وصف نفسه سبحانه بالغفران والرحمة؛ استجلابا للتائبين وتأنيسا لهم؛ ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم.
قال * ص *: { ليمسن }: اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط. انتهى.
وقوله تعالى: { وأمه صديقة }: بناء مبالغة من الصدق، ويحتمل من التصديق؛ وبه سمي أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)؛ وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال: إنها نبية.
وقوله سبحانه: { كانا يأكلان الطعام }: تنبيه على نقص البشرية، وعلى حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية، و { يؤفكون }: معناه: يصرفون؛ ومنه قوله عز وجل:
يؤفك عنه من أفك
[الذاريات:9]، والأرض المأفوكة التي صرفت عن أن ينالها المطر، والمطر في الحقيقة هو المصروف، ولكن قيل: أرض مأفوكة؛ لما كانت مأفوكا عنها.
[5.76-77]
وقوله تعالى: { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم... } الآية: الضر بفتح الضاد : المصدر، وبضمها الاسم، وهو عدم الخير، و { السميع }؛ لأقوالهم { والعليم } بنياتهم، والغلو: تجاوز الحد؛ من غلا السهم؛ إذا تجاوز الغرض المقصود، وتلك المسافة هي غلوته، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم هو بنو إسرائيل، ووصف تعالى اليهود؛ بأنهم ضلوا قديما، وأضلوا كثيرا من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى: { كثيرا وضلوا عن سواء السبيل }.
[5.78-81]
وقوله تعالى: { لعن الذين كفروا من بني إسرءيل... } الآية: قال ابن عباس (رضي الله عنه): لعنوا بكل لسان؛ لعنوا في التوراة، وفي الزبور، والإنجيل، والفرقان.
وقوله سبحانه: { كانوا لا يتنهون عن منكر فعلوه... } الآية: ذم الله سبحانه هذه الفرقة الملعونة؛ بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، أي: أنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي، وإن نهى منهم ناه، ولم يمتنع عن مواصلة العاصي، ومؤاكلته، وخلطته؛ وروى ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الرجل من بني إسرائيل كان، إذا رأى أخاه على ذنب، نهاه عنه؛ تعذيرا، فإذا كان من الغد، لم يمنعه ما رأى منه؛ أن يكون أكيله أو خليطه، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى "
، قال ابن مسعود: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس، وقال:
" لا، والله حتى تأخذوا على يد الظالم، فتأطروه على الحق أطرا "
، والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه، ونهى بمعروف، أي: برفق، وقول معروف، وأمن الضرر عليه، وعلى المؤمنين، فإن تعذر على أحد النهي؛ لشيء من هذه الوجوه، ففرض عليه الإنكار بقلبه، وألا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا.
وقوله سبحانه: { لبئس ما كانوا يفعلون }: اللام لام قسم، وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أفضل الجهاد كلمة حق "
، أو قال:
" كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر "
انتهى.
وقوله تعالى لنبيه محمد عليه السلام : { ترى كثيرا } يحتمل أن تكون رؤية عين؛ فلا يريد إلا معاصريه، ويحتمل أن تكون رؤية قلب؛ وعلى هذا، فيحتمل أن يريد المعاصرين له، ويحتمل أن يريد أسلافهم، و { الذين كفروا }: عبدة الأوثان.
وقوله سبحانه: { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم... } ، أي: قدمته للآخرة، واجترحته، ثم فسر ذلك قوله تعالى: { أن سخط الله عليهم }؛ ف { أن سخط }: في موضع رفع بدل من { ما } ، ويتحمل أن يكون التقدير: هو أن سخط الله عليهم.
وقوله تعالى: { والنبي } إن كان المراد الأسلاف، فالنبي: داود وعيسى، وإن كان المراد معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمراد ب «النبي» هو صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله سبحانه: { ترى كثيرا منهم } كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل، وأنه يعني به المنافقين؛ ونحوه لمجاهد.
[5.82-86]
وقوله تعالى: { لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا... } الآية: اللام في قوله: { لتجدن }: لام ابتداء، وقال الزجاج: هي لام قسم، وهذا خبر مطلق منسحب على الزمان كله، وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم، ومردوا على استشعار اللعنة، وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لجت عداوتهم، وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين؛ وكذلك المشركون عبدة الأوثان والنيران، وأما النصارى، فإنهم يعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إن حاربوا، فإنما حربهم أنفة، لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا، فسلمهم صاف، واليهود (لعنهم الله) ليسوا على شيء من هذه الخلال، بل شأنهم الخبث، واللي بالألسنة، والمكر، والغدر، ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود، وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، وفي قوله سبحانه: { الذين قالوا إنا نصرى }: إشارة إلى معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من النصارى؛ بأنهم ليسوا على حقيقية النصرانية، وإنما هو قول منهم، وزعم.
وقوله تعالى: { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا... } الآية: معناه: ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله تعالى، وعبادة، وإن لم يكونوا على هدى، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية، وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون لها، متطاولون في البنيان، وأمور الدنيا؛ حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة؛ فلذلك لا يرى فيهم زاهد، قال الفخر: القس والقسيس: اسم رئيس النصارى، والجمع: قسيسون، وقال قطرب: القس والقسيس: العالم؛ بلغة الروم، وهذا مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين. انتهى.
ووصف الله سبحانه النصارى، بأنهم لا يستكبرون، وهذا موجود فيهم حتى الآن، واليهودي متى وجد عزا، طغى وتكبر، ثم مدحهم سبحانه، فقال: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع... } الآية: قال النووي: ينبغي للقارىء أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع؛ فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، ودلائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم آية واحدة، ليلة كاملة، أو معظم ليلة يتدبرها، وصعق جماعات منهم عند سماع القرآن، وقراءته، ومات جماعات منهم، ويستحب البكاء والتباكي لمن لا يقدر على البكاء؛ فإن البكاء عند القراءة صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين، قال الله عز وجل:
ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا
[الإسراء:109] وقد وردت آثار كثيرة في ذلك. انتهى من «الحلية» للنووي.
وذكر ابن عباس وابن جبير ومجاهد؛ أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن، فبكوا وآمنوا، ورجعوا إلى النجاشي، فآمن، ولم يزل مؤمنا حتى مات، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي عليه السلام ؛ فكان يراه من موضعه بالمدينة؛ وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عليه، قال أبو صالح: كانوا سبعة وستين رجلا، وقال ابن جبير: كانوا سبعين، عليهم ثياب الصوف، وكلهم صاحب صومعة؛ اختارهم النجاشي.
وصدر الآية في قرب المودة عام فيهم، ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصا فيمن آمن، وإنما وقع التخصيص من قوله تعالى: { وإذا سمعوا } ، وجاء الضمير عاما؛ إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منهم، وفي هذا استدعاء للنصارى، ولطف من الله بهم؛ ليؤمنوا.
قال * ص *: { مما عرفوا من الحق }: «من» الأولى لابتداء الغاية.
قال أبو البقاء: ومعناها: من أجل الذي عرفوا، و «من» الثانية لبيان «ما» الموصولة. انتهى.
قال العراقي: { تفيض } ، أي: تسيل منها العبرة، وفي الحديث:
" اقرءوا القرآن، وابكوا، فإن لم تبكوا، فتباكوا "
، خرجه البزار. انتهى من «الكوكب الدري»، وفيه عن البزار أيضا؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من خرج من عينيه مثل جناح ذباب دموعا من خشية الله، لم يدخل النار حتى يعود اللبن في ضرعه "
انتهى.
وقولهم: { مع الشهدين } ، يعني: نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأمته؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال الطبري: لو قال قائل: معنى ذلك: «مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم»، لكان صوابا، وهو كلام صحيح؛ وكأن ابن عباس خصص أمة محمد؛ لقول الله سبحانه:
وكذلك جعلنكم أمة وسطا...
[البقرة:143]، وقولهم: { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق }: توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار، والقوم الصالحون: محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ قاله ابن زيد وغيره من المفسرين، ثم ذكر تعالى ما أثابهم به من النعيم على إيمانهم وإحسانهم، ثم ذكر سبحانه حال الكافرين المكذبين، وأنهم قرناء الجحيم.
[5.87-89]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبت ما أحل الله لكم... } الآية: قال ابن عباس وغيره نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلغت منهم المواعظ، وخوف الله تعالى إلى أن حرم بعضهم النساء، وبعضهم النوم بالليل، والطيب، وهم بعضهم بالاختصاء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
" أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، وأنال الطيب، فمن رغب عن سنتي، فليس مني "
، قال الطبري: كان فيما يتلى: «من رغب عن سنتك، فليس من أمتك، وقد ضل عن سواء السبيل»، والطيبات في هذه الآية: المستلذات؛ بدليل إضافتها إلى ما أحل الله؛ وبقرينة ما ذكر من سبب الآية.
وقوله سبحانه: { ولا تعتدوا } ، قال عكرمة وغيره: معناه: في تحريم ما أحل الله، وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى: ولا تعتدوا، فتحلوا ما حرم الله، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين؛ كأنه قال: لا تشددوا؛ فتحرموا حلالا، ولا تترخصوا؛ فتحلوا حراما، قلت: وروى مالك في «الموطإ»، عن أبي النضر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما مات عثمان بن مظعون، ومر بجنازته:
" ذهبت، ولم تلتبس منها بشيء ".
قال أبو عمر في «التمهيد»: هذا الحديث في «الموطإ» مقطوع، وقد رويناه متصلا مسندا من وجه صالح حسن، ثم أسند أبو عمر عن عائشة، قالت:
" لما مات عثمان بن مظعون، كشف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه، وقبل بين عينيه، وبكى بكاء طويلا، فلما رفع على السرير، قال: طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها ".
قال أبو عمر: كان عثمان بن مظعون أحد الفضلاء العباد الزاهدين في الدنيا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتبتلين منهم، وقد كان هو وعلي بن أبي طالب هما أن يترهبا ويتركا النساء، ويقبلا على العبادة، ويحرما طيبات الطعام على أنفسهما، فنزلت: { يأيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبت ما أحل الله لكم... } الآية. ونقل هذا معمر وغيره عن قتادة. انتهى.
وقوله سبحانه: { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمن }: معناه: شددتم، وعقد اليمين كعقد الحبل والعهد؛ قال الحطيئة: [البسيط]
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
قال الفخر: وأما وجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها، فهو ما تقدم من أن قوما من الصحابة (رضي الله عنهم) حرموا على أنفسهم المطاعم والملاذ، وحلفوا على ذلك، فلما نهاهم الله تعالى عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. انتهى.
وقوله سبحانه: { فكفرته إطعام عشرة مسكين } ، أي: إشباعهم مرة واحدة، وحكم هؤلاء ألا يتكرر واحد منهم في كفارة يمين واحدة.
واختلف في معنى قوله سبحانه: { من أوسط } ، فرأى مالك وجماعة معه هذا التوسط في القدر، ورأى ذلك جماعة في الصنف، والوجه أن يعم بلفظ «الوسط» القدر والصنف، فرأى مالك أن يطعم المسكين ب «المدينة» مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك رطل وثلث، وهذا لضيق المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أن يتوسع، ورأى من يقول: إن التوسط إنما هو في الصنف أن يكون الرجل المكفر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد، وينحط عن الأعلى، ويكفر بالوسط من ذلك، ومذهب «المدونة»؛ أن يراعي المكفر عيش البلد، وتأويل العلماء في الحانث في اليمين بالله: أنه مخير في الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، والعلماء على أن العتق أفضل ذلك، ثم الكسوة، ثم الإطعام، وبدأ الله تعالى عباده بالأيسر، فالأيسر، قال الفخر: وبدأ سبحانه بالإطعام؛ لأنه أعم وجودا، والمقصود منه التنبيه على أنه سبحانه يراعي التخفيف، والتسهيل في التكاليف، وثانيها: أن الإطعام أفضل، قلت: وهذا هو مشهور مذهب مالك. انتهى، ويجزىء عند مالك من الكسوة في الكفارة ما يجزىء في الصلاة.
وقوله سبحانه: { أو تحرير رقبة } ، أي: مؤمنة؛ قاله مالك وجماعة؛ لأن هذا المطلق راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في قتل الخطإ.
وقوله سبحانه: { فمن لم يجد }: معناه: لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاث المذكورة. واختلف العلماء في حد هذا العادم، ومتى يصح له الصيام؛ فقال الشافعي ومالك وجماعة من العلماء: إذا كان المكفر لا يملك إلا قوته، وقوت عياله، يومه وليلته، فله أن يصوم، فإن كان عنده زائد على ذلك ما يطعم عشرة مساكين، لزمه الإطعام، قال الطبري: وقال آخرون: جائز لمن لم يكن له فضل على رأس ماله الذي يتصرف به في معايشه؛ أن يصوم، وقرأ أبي بن كعب، وابن مسعود: «ثلثة أيام متتابعات»، وقال بذلك جماعة.
وقال مالك وغيره: إن تابع، فحسن، وإن فرق، أجزأ، وقوله: { إذا حلفتم } ، معناه: وأردتم الحنث، أو وقعتم فيه.
[5.90-92]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس... } الآية:
قال * ع *: وفي معنى الأزلام: الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس، وأخبر سبحانه أن هذه الأشياء رجس، قال ابن عباس في هذه الآية: رجس: سخط، وقال ابن زيد: الرجس الشر.
قال * ع *: الرجس: كل مكروه ذميم، وقد يقال للعذاب والرجز: العذاب لا غير، والركس: العذرة لا غير، والرجس يقال للأمرين.
وقوله سبحانه: { فاجتنبوه }: أمر باجتنابه، فحرمت الخمر؛ بظاهر القرآن، ونص الأحاديث، وإجماع الأمة، وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ كقصة حمزة، حين جب الأسنمة، وقوله: وهل أنتم إلا عبيد أبي، ثم أعلم سبحانه عباده أن الشيطان إنما يريد أن تقع العداوة بسبب الخمر، وما يعتري عليها بين المؤمنين، وبسبب الميسر؛ إذ كانوا يتقامرون على الأموال؛ حتى ربما بقي المقمور فقيرا، فتحدث من ذلك ضغائن وعداوات، فإن لم يصل الأمر إلى حد العداوة، كانت بغضاء، ولا تحسن عاقبة قوم متباغضين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا "
، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين، ويجاهد العدو، والبغضاء تنقض عرى الدين، وتهدم عماد الحماية، وكذلك أيضا يريد الشيطان أن يصد المؤمنين عن ذكر الله، وعن الصلاة، ويشغلهم عنها باتباع الشهوات، والخمر والميسر والقمار كله من أعظم الآفات في ذلك، وفي قوله سبحانه: { فهل أنتم منتهون }: وعيد زائد على معنى: «انتهوا».
[5.93-94]
وقوله سبحانه: { ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصلحت جناح فيما طعموا... } الآية: قال ابن عباس وغيره: لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: يا رسول الله، كيف بمن مات منا، وهو يشربها، ويأكل الميسر، ونحو هذا من القول، فنزلت هذه الآية، وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى، والجناح: الإثم والحرج، والتكرار في قوله سبحانه: «اتقوا» يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها، وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم، وليست الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها، واتقى كل التقوى، بل هي لكل مؤمن، وإن كان عاصيا أحيانا؛ إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره، محسن، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه، و { طعموا }: معناه: ذاقوا فصاعدا في رتب الأكل والشرب، وقد يستعار للنوم وغيره، وحقيقته في حاسة الذوق.
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } ، أي: ليختبرنكم ليرى طاعتكم من معصيتكم، وقوله: «بشيء» يقتضي تبعيضا، و «من»: يحتمل أن تكون للتبعيض، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ كقوله تعالى:
فاجتنبوا الرجس من الأوثن
[الحج:30].
وقوله تعالى: { ليعلم الله من يخافه بالغيب }: معناه: ليستمر علمه تعالى عليه، وهو موجود؛ إذ قد علم تعالى ذلك في الأزل، و { بالغيب }: قال الطبري: معناه: في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه، فهو غائب عنه، والظاهر أن المعنى: بالغيب من الناس، أي: في الخلوة ممن خاف الله. انتهى، قلت: وقول الطبري أظهر، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد النهي بالعذاب الأليم، وهو عذاب الآخرة.
[5.95-98]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم... } الآية: الصيد: مصدر عومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام، ومعناه الخصوص فيما عدا ما استثني، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور "
، وأجمع الناس على إباحة قتل الحية، وبسط هذا في كتب الفقه، و { حرم }: جمع حرام، وهو الذي يدخل في الحرم، أو في الإحرام، واختلف في قوله: { متعمدا } ، فقال مجاهد وغيره: معناه: متعمدا لقتله، ناسيا لإحرامه، فهذا يكفر،وأما إن كان ذاكرا لإحرامه، فهو أعظم من أن يكفر، وقد حل ولا رخصة له.
وقال جماعة من أهل العلم، منهم ابن عباس ومالك والزهري وغيرهم: المتعمد: القاصد للقتل، الذاكر لإحرامه، فهو يكفر، وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران، وقرأ نافع وغيره: «فجزاء مثل»، بإضافة الجزاء إلى «مثل» ، وقرأ حمزة وغيره: «فجزاء» بالرفع ، «مثل» بالرفع أيضا ، واختلف في هذه المماثلة، كيف تكون، فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة، وعظم المرأى، فيجعلان ذلك من النعم جزاءه، وذهب الشعبي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة يقوم الصيد المقتول، ثم يشتري بقيمته ند من النعم، ورد الطبري وغيره هذا القول، والنعم: لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم، إذا اجتمعت هذه الأصناف، فإن انفرد كل صنف لم يقل «نعم» إلا للإبل وحدها، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة، وبالتقدير فيها، وعلى هذا جمهور الناس.
قال ابن وهب في «العتبية»: من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد؛ كما خيره الله تعالى في أن يخرج هديا بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياما، فإن اختار الهدي، حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة؛ لأنها أدنى الهدي، فما لم يبلغ شاة، حكما فيه بالطعام، ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما، وكذلك قال مالك في «المدونة»: إذا أراد المصيب أن يطعم أو يصوم، فإن كان لما أصاب نظير من النعم، فإنه يقوم صيده طعاما، لا دراهم، قال: وإن قوماه دراهم، واشتري بها طعام، لرجوت أن يكون واسعا، والأول أصوب، فإن شاء، أطعمه، وإلا صام مكان كل مد يوما، وإن زاد ذلك على شهرين، أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقال: كم من رجل يشبع من هذا الصيد، فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؟ فإن شاء، أخرج ذلك الطعام، وإن شاء، صام عدد أمداده، وهذا قول حسن احتاط فيه؛ لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة، فبهذا النظر يكثر الإطعام.
وقوله تعالى: { هديا بلغ الكعبة } ذكرت «الكعبة»؛ لأنها أم الحرم، والحرم كله منحر لهذا الهدي؛ ولا بد أن يجمع في هذا الهدي بين الحل والحرم حتى يكون بالغ الكعبة، فالهدي لا ينحر إلا في الحرم.
واختلف في الطعام، فقال جماعة: الإطعام والصوم حيث شاء المكفر من البلاد ، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: الهدي والإطعام بمكة، والصوم حيث شئت.
وقوله سبحانه: { ليذوق وبال أمره }: الذوق هنا مستعار، والوبال: سوء العاقبة، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله، وعبر ب { أمره } عن جميع حاله؛ من قتل وتكفير، وحكم عليه، ومضي ماله، أو تعبه بالصوم، واختلف في معنى قوله سبحانه: { عفا الله عما سلف... } الآية: فقال عطاء بن أبي رباح، وجماعة: معناه: عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة، ومن عاد الآن في الإسلام، فإن كان مستحلا، فينتقم الله منه في الآخرة، ويكفر في ظاهر الحكم، وإن كان عاصيا، فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط، قالوا: وكلما عاد المحرم، فهو يكفر.
قال * ع *: ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظرائه، وأصحابه (رحمهم الله)، وقال ابن عباس وغيره: أما المتعمد، فإنه يكفر أول مرة، وعفا الله عن ذنبه، فإن اجترأ، وعاد ثانيا، فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك؛ كما قال الله تعالى.
وقوله سبحانه: { والله عزيز ذو انتقام }: تنبيه على صفتين تقتضيان خوف من له بصيرة، ومن خاف، ازدجر، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل "
، قلت: والصيد للهو مكروه، وروى أبو داود في سننه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان، افتتن "
انتهى.
وقوله تعالى: { أحل لكم صيد البحر وطعامه متعا لكم... } الآية: البحر: الماء الكثير، ملحا كان أو عذبا، وكل نهر كبير: بحر، وطعامه: هو كل ما قذف به، وما طفا عليه؛ قاله جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ وهو مذهب مالك.
و { متعا }: نصب على المصدر، والمعنى: متعكم به متاعا تنتفعون به، وتأتدمون، و { لكم }: يريد حاضري البحر ومدنه، و { للسيارة }: المسافرين، واختلف في مقتضى قوله سبحانه: { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } ، فتلقاه بعضهم على العموم من جميع جهاته؛ فقالوا: إن المحرم لا يحل له أن يصيد، ولا أن يأمر من يصيد، ولا أن يأكل صيدا صيد من أجله، ولا من غير أجله، وأن لحم الصيد بأي وجه كان حرام على المحرم، وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لا يرى بأسا للمحرم أن يأكل ما صاده حلال لنفسه، أو لحلال مثله، وقال بمثل قول عمر عثمان بن عفان والزبير بن العوام؛ وهو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة، وهو حلال، والنبي عليه السلام محرم.
ثم ذكر سبحانه بأمر الحشر والقيامة، مبالغة في التحذير؛ ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة، وأنها بيت الله تعالى، وعنصر هذه الفضائل ذكر سبحانه في قوله: { جعل الله الكعبة البيت }؛ تنبيها سنه في الناس، وهداهم إليه، وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام، والهدي قوام، والقلائد قوام، أي: أمر يقوم للناس بالتأمين، ووضع الحرب أوزارها، وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه، و { جعل } ، في هذه الآية: بمعنى «صير»، والكعبة بيت مكة، وسمي كعبة لتربيعه، قال أهل اللغة: كل بيت مربع، فهو مكعب، وكعبة، وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى: { قياما للناس } ، أي: موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات، وضبط النفوس في الشهر الحرام، ومع الهدي والقلائد، قال مكي: معنى { قياما للناس } ، أي: جعلها بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عن ظلم بعضهم بعضا، وكذلك الهدي والقلائد جعل ذلك أيضا قياما للناس؛ فكان الرجل إذا دخل الحرم أمن من عدوه، وإذا ساق الهدي كذلك، لم يعرض له، وكان الرجل إذا أراد الحج، تقلد بقلادة من شعر، وإذا رجع تقلد بقلادة من لحاء شجر الحرم، فلا يعرض له، ولا يؤذى حتى يصل إلى أهله، قال ابن زيد: كان الناس كلهم فيهم ملوك تدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك تدفع عن بعضهم ظلم بعض، فجعل الله لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن بعض. انتهى من «الهداية».
والشهر هنا: اسم جنس، والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، وشهر مضر، وهو رجب، وأما الهدي، فكان أمانا لمن يسوقه؛ لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب، وأما القلائد، فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج، تقلد من لحاء السمر أو غيره شيئا، فكان ذلك أمانا له، وكذلك إذا انصرفوا، تقلدوا من شجر الحرم، وقوله { ذلك }: إشارة إلى أن جعل الله هذه الأمور قياما.
وقوله سبحانه: { بكل شيء عليم }: عام عموما تاما في الجزئيات ودقائق الموجودات، والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر.
[5.99-100]
وقوله سبحانه: { ما على الرسول إلا البلغ... } الآية: إخبار للمؤمنين مضمنه الوعيد، إن انحرفوا، ولم يمتثلوا ما بلغ الرسول إليهم، { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } ، قلت: قال الشيخ أبو مدين (رضي الله عنه): الحق تعالى مطلع على السرائر والظواهر في كل نفس وحال، فأيما قلب رآه مؤثرا له، حفظه من الطوارق والمحن ومضلات الفتن، وقال (رحمه الله): ماعرف الحق من لم يؤثره، وما أطاعه من لم يشكره. انتهى.
وقوله تعالى: { قل لا يستوي الخبيث والطيب... } ألاية: لفظ عام في جميع الأمور، فيتصور في المكاسب، وعدد الناس، والمعارف من العلوم ونحوها، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة، والطيب وإن قل: نافع جميل العاقبة، وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى:
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا
[الأعراف:58]، والخبث: هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح، وهي بخلاف ذلك. وقوله سبحانه: { فاتقوا الله يأولي الألبب }: تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل، وخص أولو الألباب بالذكر؛ لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور، والذين لا ينبغي لهم إهمالها؛ مع ألبابهم وإدراكهم.
[5.101-102]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم... } الآية: اختلف الرواة في سببها، والظاهر من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات، حسبما هو معلوم في الروايات، فزجرهم الله تعالى عن ذلك بهذه الآية، وأشياء: اسم لجمع شيء، قال ابن عباس: معنى الآية: لا تسألوا عن أشياء في ضمن الأنباء عنها مساءة لكم؛ إما بتكليف شرعي يلزمكم، وإما بخبر يسوءكم، ولكن إذا نزل القرآن بشيء، وابتدأكم ربكم بأمر، فحينئذ إن سألتم عن تفصيله وبيانه بين لكم، وأبدي، ويحتمل قوله: { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرءان تبد لكم }؛ أن يكون في معنى الوعيد؛ كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم، لقيتم غب ذلك وصعوبته، قال النووي: وعن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله عز وجل فرض فرائض؛ فلا تضيعوها، وحد حدودا؛ فلا تعتدوها، وحرم أشياء؛ فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء؛ رحمة بكم، لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها "
، ورويناه في «سنن الدارقطني». انتهى، وفي «صحيح البخاري»، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم "
انتهى.
و { عفا الله عنها }: معناه: تركها، ولم يعرف بها، { قد سألها قوم من قبلكم } قال الطبري: كقوم صالح؛ في سؤالهم الناقة؛ وكبني إسرائيل؛ في سؤالهم المائدة، أي: وكطلب الأمم قديما التعمق في الدين من أنبيائها، ثم لم تف بما كلفت.
[5.103-104]
وقوله سبحانه: { ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام... } الآية: أي: لم يجعل سبحانه شيئا من ذلك، ولا سنه لعباده، المعنى: ولكن الكفار فعلوا ذلك؛ كعمرو بن لحي وغيره من رؤسائهم؛ { يفترون على الله الكذب }؛ بقولهم: هذه قربة إلى الله، { وأكثرهم } ، يعني: الأتباع { لا يعقلون } ، بل يتبعون هذه الأمور تقليدا، و { جعل } في هذه الآية: لا يتجه أن تكون بمعنى «خلق»، ولا بمعنى «صير»، وإنما هي بمعنى: «ما سن ولا شرع».
قال * ص *: { ما جعل }: ذهب ابن عطية والزمخشري إلى أنها بمعنى: «شرع»، قال ابن عطية: ولا تكون بمعنى «خلق»، لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى «صير»؛ لعدم المفعول الثاني، قال أبو حيان: ولم يذكر النحويون لها هذا، وقد جاء حذف أحد مفعولي «ظن» وأخواتها قليلا، فتحمل هذه على حذف المفعول الثاني، أي: ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاميا مشروعا، وهو أولى من إثبات معنى لم يسمع فيها، وذكر أبو البقاء؛ أنها هنا بمعنى «سمى» انتهى.
قلت: وحاصل كلام أبي حيان؛ أنه شهادة على نفي، وعلى تقدير صحته، فيحمل كلام ابن عطية على أنه تفسير معنى، لا تفسير إعراب.
وبحيرة: فعلية بمعنى مفعولة، وبحر: شق، كانوا إذا نتجت الناقة عشرة بطون، شقوا أذنها بنصفين طولا، فهي مبحورة، وتركت ترعى، وترد الماء، ولا ينتفع بشيء منها، ويحرم لحمها؛ إذا ماتت على النساء، ويحلل للرجال؛ وذلك كله ضلال، والسائبة: هي الناقة تسيب للآلهة، والناقة أيضا إذا تابعت ثنتي عشرة إناثا ليس فيهن ذكر، سيبت، وكانت السوائب أيضا في العرب؛ كالقربة عند المرض يبرأ منه، والقدوم من السفر، وإذا نزل بأحدهم أمر يشكر الله تعالى عليه، تقرب بأن يسيب ناقة، فلا ينتفع منها بلبن، ولا ظهر، ولا غيره، يرون ذلك كعتق بني آدم؛ ذكره السدي وغيره، وكانت العرب تعتقد أن من عرض لهذه النوق، فأخذها أو انتفع منها بشيء، فإنه تلحقه عقوبة من الله، والوصيلة: قال أكثر الناس: إن الوصيلة في الغنم، قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون، أو خمسة، فإن كان آخرها جديا، ذبحوه لبيت الآلهة، وإن كان عناقا، استحيوها، وإن كان جدي وعناق، استحيوهما، وقالوا: هذه العناق وصلت أخاها، فمنعته من أن يذبح، وعلى أن الوصيلة في الغنم، جاءت الروايات عن أكثر الناس، وروي عن ابن المسيب؛ أن الوصيلة من الإبل، وأما الحامي؛ فإنه الفحل من الإبل، إذا ضرب في الإبل عشر سنين، وقيل: إذا ولد من صلبه عشر، وقيل: إذا ولد من ولد ولده، قالوا: حمى ظهره، فسيبوه، لا يركب، ولا يسخر في شيء، وعبارة الفخر: وقيل: الحامي: الفحل؛ إذا ركب ولد ولده. انتهى، قلت: والذي في «البخاري»: والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، وإذا قضى ضرابه، ودعوه للطواغيت، وأعفوه من الحمل، فلم يحمل شيء عليه، وسموه الحامي. انتهى.
وقوله سبحانه: { وإذا قيل لهم } ، يعني: لهؤلاء الكفار المستنين بهذه الأشياء: { تعالوا إلى ما أنزل الله } ، يعني: القرآن الذي فيه التحريم الصحيح، { قالوا حسبنا } ، معناه: كفانا.
[5.105]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم... } الآية: قال أبو ثعلبة الخشني: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال:
" ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة، وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، وذر عوامهم؛ فإن وراءكم أياما؛ أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم "
، وهذا التأويل الذي لا نظر لأحد معه؛ لأنه مستوف للصلاح صادر عن النبي عليه السلام ، وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين، متى رجي القبول، أو رجي رد الظالم، ولو بعنف ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين؛ إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس، فإذا خيف هذا، ف { عليكم أنفسكم }: محكم واجب أن يوقف عنده.
وقوله سبحانه: { إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } ، هذا تذكير بالحشر وما بعده، وذلك مسل عن أمور الدنيا، مكروهها ومحبوبها، روي عن بعض الصالحين؛ أنه قال: ما من يوم إلا ويجيء الشيطان، فيقول: ما تأكل، وما تلبس، وأين تسكن، فأقول له: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر.
قال * ع *: فمن فكر في مرجعه إلى الله سبحانه، فهذا حاله، قلت: وخرج البغوي في «المسند المنتخب»، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" يا أيها الناس، إنكم تعملون أعمالا تعزب عنكم إلى يوم القيامة، وتوشك العوازب أن تؤوب إلى أهلها، فمسرور بها، ومكظوم "
انتهى من «الكوكب الدري»، والله المستعان.
[5.106-108]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا شهدة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان... } الآية، إلى قوله:
يوم يجمع الله الرسل
[المائدة:109] قال مكي : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا، ومعنى، وحكما.
قال * ع *: وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها؛ وذلك بين من كتابه، وبالله نستعين.
لا نعلم خلافا أن سبب هذه الآية أن تميما الداري وعدي بن بداء، وكانا نصرانيين، سافرا إلى المدينة، يريدان الشام؛ لتجارتهما، وقدم المدينة أيضا ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاصي، يريد الشام تاجرا، قال الفخر: وكان مسلما، فخرجوا رفاقة، فمرض ابن أبي مارية في الطريق، وأوصى إلى تميم وعدي؛ أن يؤديا رحله إلى أوليائه من بني سهم، وروى ابن عباس عن تميم الداري؛ أنه قال: برىء الناس من هذه الآية غيري وغير عدي بن بداء، وذكر القصة، إلا أنه قال: وكان معه جام فضة، يريد به الملك، فأخذته أنا وعدي، فبعناه بألف، وقسمنا ثمنه، فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثمت من ذلك، فأتيت أهله، فأخبرتهم الخبر، وأديت خمسمائة، فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف عمرو بن العاصي، ورجل آخر معه، ونزعت من عدي خمسمائة.
قال * ع *: واختلفت ألفاظ هذه القصة، وما ذكرته هو عمود الأمر، ولم تصح لعدي صحبة فيما علمت، ولا ثبت إسلامه، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين، ولا وجه عندي لذكره في الصحابة.
وأما معنى الآية من أولها إلى آخرها، فهو أن الله سبحانه أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي، إذا حضره الموت: أن تكون شهادة عدلين، فإن كان في سفر، وهو الضرب في الأرض، ولم يكن معه من المؤمنين أحد، فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما، وأديا الشهادة على وصيته، حلفا بعد الصلاة؛ أنهما ما كذبا، ولا بدلا، وأن ما شهدنا به حق ما كتمنا فيه شهادة الله، وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا، أو خانا، أو نحو هذا مما هو إثم، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر، وابن جبير، وأبي مجلز، وإبراهيم، وشريح، وعبيدة السلماني، وابن سيرين، ومجاهد وغيرهم، قالوا: ومعنى قوله: { منكم } ، أي: من المؤمنين، ومعنى: { من غيركم } ، أي: من الكافرين.
قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت، ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون في التجارة مع أنواع الكفرة، واختلفت هذه الجماعة المذكورة، فمذهب أبي موسى الأشعري وغيره؛ أن الآية محكمة، ومذهب جماعة منهم؛ أنها منسوخة؛ بقوله:
وأشهدوا ذوي عدل منكم
[الطلاق:2]؛ وبما عليه إجماع جمهور الناس؛ أن شهادة الكفار لا تجوز.
قال * ع *: ولنرجع الآن إلى الإعراب، ولنقصد القول المفيد؛ لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطا شديدا، وذكر ذلك والرد عليه يطول، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع، والله المستعان.
فقوله تعالى: { شهدة بينكم } ، هي الشهادة التي تحفظ لتؤدى، ورفعها بالابتداء، والخبر في قوله: { اثنان } ، وقوله تعالى: { إذا حضر أحدكم الموت }: إذا قارب الحضور، والعامل في «إذا» المصدر الذي هو «شهادة»، وهذا على أن تجعل «إذا» بمنزلة «حين»، لا تحتاج إلى جواب، ولك أن تجعل «إذا» في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب، لكن استغني عن جوابها بما تقدم في قوله: { شهدة بينكم }؛ إذ المعنى: إذا حضر أحدكم الموت، فينبغي أن يشهد، وقوله: { حين الوصية }: ظرف زمان، والعامل فيه { حضر } ، وإن شئت، جعلته بدلا من «إذا»، وقوله: { ذوا عدل }: صفة لقوله: { اثنان } ، و { منكم }: صفة أيضا بعد صفة، وقوله: { من غيركم }: صفة ل { ءاخران } وقوله: { تحبسونهما }: صفة ل { ءاخران } أيضا، واعترض بين الموصوف والصفة بقوله: { إن أنتم } ، إلى { الموت } ، وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة، إنما يكون مع ضرورة السفر، وحلول الموت فيه، واستغني عن جواب «إن»؛ لما تقدم من قوله: { أو ءاخران من غيركم } ، وقال جمهور من العلماء: الصلاة هنا صلاة العصر، وقال ابن عباس: إنما هي صلاة الذميين، وأما العصر، فلا حرمة لها عندهما، والفاء في قوله: { فيقسمان }: عاطفة جملة على جملة؛ لأن المعنى تم في قوله: { من بعد الصلوة } ، وقوله: { إن ارتبتم } شرط لا يتجه تحليف الشاهدين إلا به، والضمير في قول الحالفين: { لا نشتري به }: عائد على القسم، أو على اسم الله، وقوله: { لا نشتري } جواب يقتضيه قوله: { فيقسمان بالله }؛ لأن «أقسم» ونحوه يتلقى بما تتلقى به الإيمان، وقوله: { ثمنا } ، أي: ذا ثمن، وخص ذو القربى بالذكر؛ لأن العرب أميل الناس إلى قراباتهم، واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل، وقوله: { ولا نكتم شهدة الله } ، أضاف الشهادة إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها، الناهي عن كتمانها، وروي عن الشعبي وغيره: «شهادة» بالتنوين ، «الله» بقطع الألف دون مد وخفض الهاء ، وقال أيضا: يقف على الهاء من: «شهادة» بالسكون، ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد؛ كما تقدم، وروي عنه كان يقرأ: «آلله» بمد ألف الإستفهام في الوجهين ، أعني: بسكون الهاء من «شهادة»، وتحريكها منونة منصوبة، ورويت هذه التي هي تنوين «شهادة»، ومد ألف الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب، قال أبو الفتح: إنما تسكن هاء «شهادة» في الوقف عليها.
وقوله سبحانه: { فإن عثر }: استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه، و { استحقا إثما }: معناه: استوجباه من الله، وكانا أهلا له؛ لأنهما ظلما وخانا.
وقوله تعالى: { فآخران } ، أي: إذا عثر على خيانتهما، فالأوليان باليمين وإقامة القضية: آخران من القوم الذين هم ولاة الميت، واستحق عليهم حظهم، أو نصيبهم، أو مالهم، أو ما شئت من هذه التقديرات، وقرأ نافع وغيره: «استحق» مضمومة التاء ، «والأوليان»؛ على تثنية الأولى، وروي عن ابن كثير: «استحق» بفتح التاء ؛ وكذلك روى حفص عن عاصم.
وفي قوله: { استحق }: استعارة؛ لأنه وجه لهذا الاستحقاق إلا الغلبة على الحال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه، فاستحق هنا كما تقول لظالم يظلمك: «هذا قد استحق علي مالي أو منزلي بظلمه»، فتشبهه بالمستحق حقيقة؛ إذ تصور تصوره، وتملك تملكه؛ وهكذا هي «استحق» في الآية على كل حال، وإن أسندت إلى النصيب ونحوه.
وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر : «استحق» بضم التاء ، «الأولين»: على جمع أول؛ ومعناها: من القوم الذين استحق عليهم أمرهم؛ إذ غلبوا عليه، ثم وصفهم بأنهم أولون، أي: في الذكر في هذه الآية، وذلك في قوله: { اثنان ذوا عدل منكم } ، ثم بعد ذلك قال: { أو ءاخران من غيركم } ، وقوله: { فيقسمان } ، يعني: الآخرين اللذين يقومان مقام شاهدي الزور، وقولهما: { لشهدتنا }؛ أي: لما أخبرنا نحن به، وذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولا وحرفاه، { وما اعتدينا }؛ في قولنا هذا، وقولهما: { إنا إذا لمن الظلمين }: تبر في صيغة الاستعظام والاستقباح للظلم.
وقوله تعالى: { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهدة على وجهها أو يخفوا أن ترد أيمن بعد أيمنهم... } الآية: الإشارة ب «ذلك» هي إلى جميع ما حد قبل؛ من حبس الشاهدين من بعد الصلاة لليمين، ثم إن عثر على جورهما، ردت اليمين، وغرما، فذلك كله أقرب إلى اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل؛ لأنهم يخافون الفضيحة، ورد اليمين؛ هذا قول ابن عباس، وجمع الضمير في { يأتوا } أو { يخفوا }؛ إذ المراد صنف ونوع من الناس، والمعنى: ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا، وأقرب إلى أن يخافوا، وباقي الآية بين.
[5.109-111]
وقوله تعالى: { يوم يجمع الله الرسل }؛ ذهب قوم إلى أن العامل في { يوم }: ما تقدم من قوله تعالى: { لا يهدي } ، وذلك ضعيف، ورصف الآية وبراعتها إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفا، والعامل مقدر، إما «اذكر»، أو: «تذكروا»، أو «احذروا»، ونحو هذا مما حسن اختصاره؛ لعلم السامع به، والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة، وخص الرسل بالذكر؛ لأنهم قادة الخلق، وهم المكلمون أولا، و { ماذا أجبتم }: معناه: ماذا أجابتكم الأمم، وهذا السؤال للرسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم، واختلف الناس في معنى قولهم عليهم السلام : { لا علم لنا }: قال الطبري: ذهلوا عن الجواب، لهول المطلع؛ وقاله الحسن، وعن مجاهد؛ أنه قال: يفزعون، فيقولون: لا علم لنا، وضعف بعض الناس هذا المنزع؛ بقوله تعالى:
لا يحزنهم الفزع الأكبر
[الأنبياء:103]، وقال ابن عباس: معنى الآية: لا علم لنا إلا ما علمتنا؛ أنت أعلم به منا، وقول ابن عباس حسن، وهو أصوب هذه المناحي؛ لأنه يتخرج على التسليم لله تعالى، ورد الأمر إليه؛ إذ هو العالم بجميع ذلك؛ على التفصيل والكمال، فرأوا التسليم والخضوع لعلمه المحيط سبحانه، قال مكي: قال ابن عباس: المعنى: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، وهو اختيار الطبري، وقيل: لما كان السؤال عاما يقتضي بعمومه سؤالهم عن سر الأمم وعلانيتها، ردوا الأمر إليه؛ إذ ليس عندهم إلا علم الظاهر؛ قال مكي: وهذا القول أحب الأقوال إلي، قال: ومعنى مسألة الله الرسل عما أجيبوا، إنما هو لمعنى التوبيخ لمن أرسلوا إليه؛ كما قال تعالى:
وإذا الموءودة سئلت
[التكوير:8]، انتهى من «الهداية».
وقوله تعالى: { إذ قال الله يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك... } الآية: { قال } هنا بمعنى يقول؛ لأن ظاهر هذا القول أنه في القيامة؛ تقدمة لقوله سبحانه:
ءأنت قلت للناس
[المائدة:116].
وقوله سبحانه: { وإذ تخرج الموتى } ، أي: من قبورهم، وكف بني إسرائيل عنه عليه السلام هو رفعه حين أحاطوا به في البيت مع الحواريين، وكذلك منعه منهم قبل ذلك إلى تلك النازلة الأخيرة، فهناك ظهر عظم الكف.
وقوله سبحانه: { وإذ أوحيت إلى الحواريين } ، هو من جملة تعديد النعم على عيسى عليه السلام : و { أوحيت }؛ في هذا الموضع: إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر، وبالجملة فهو إلقاء معنى في خفاء، أوصله سبحانه إلى نفوسهم، كيف شاء، والرسول في هذه الآية: عيسى، وقول الحواريين: { واشهد }: يحتمل أن يكون مخاطبة منهم لله سبحانه، ويحتمل أن يكون لعيسى.
[5.112-113]
وقوله سبحانه: { إذ قال الحواريون... } الآية: اعتراض أثناء وصف حال قول الله لعيسى يوم القيامة، مضمن الاعتراض إخبار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته بنازلة الحواريين في المائدة، إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها تقتدي بمحاسنه، وتزدجر عما ينفر منه من طلب الآيات ونحوه، وقرأ الجمهور: «هل يستطيع ربك» بالياء ورفع الباء من «ربك»، والمعنى: هل يفعل ربك هذا، وهل تقع منه إجابة إليه ، ولم يكن منهم هذا شكا في قدرة الله سبحانه؛ إذ هم أعرف بالله من أن يشكوا في قدرته، وقرأ الكسائي: «هل تستطيع ربك» بالتاء ونصب الباء من «ربك» ، والمعنى: هل تستطيع سؤال ربك، وأدغم اللام في التاء، أعني الكسائي، وقال قوم: قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، ويظهر من قوله عليه السلام : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين }: إنكار لقولهم، واقتراحهم الآيات، والتعرض لسخط الله بها، وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر، ولما خاطبهم عليه السلام بهذه المخاطبة، صرحوا بمقاصدهم التي حملتهم على طلب المائدة، فقالوا: { نريد أن نأكل منها }؛ فنشرف في العالم، { وتطمئن قلوبنا } ، أي: تسكن فكرنا في أمرك بالمعاينة لأمر نازل من السماء بأعيننا، { ونعلم } علم الضرورة والمشاهدة؛ { أن قد صدقتنا }؛ فلا تعرضنا الشبه التي تعرض في علم الاستدلال؛ وهذا يؤيد أن مقالتهم كانت في مبدأ أمرهم، ثم استمروا على إيمانهم، وصبروا، وهلك من كفر، وقولهم: { ونكون عليها من الشهدين } ، أي: من الشاهدين بهذه النازلة، الناقلين لها إلى غيرنا الداعين إلى هذا الشرع؛ بسببها، وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة: «هل لكم في صيام ثلاثين يوما لله سبحانه، ثم إن سألتموه حاجة، قضاها»، فلما صاموها، قالوا: يا معلم الخير، إن حق من عمل عملا أن يطعم، فهل يستطيع ربك، فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصوم.
[5.114-115]
وقوله سبحانه: { قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء... } الآية، أي: أجابهم عيسى عليه السلام إلى ما سألوا، فيروى أنه لبس جبة شعر، ورداء شعر، وقام يصلي، ويبكي، والعيد: المجتمع، وقوله: { لأولنا وءاخرنا } ، روي عن ابن عباس؛ أن المعنى: يكون مجتمعا لجميعنا أولنا وآخرنا، قال: فأكل من المائدة حين وضعت أول الناس؛ كما أكل آخرهم، { وآية منك } ، أي: وعلامة على صدقي، فأجاب الله تعالى دعوة عيسى عليه السلام ، وقال: { إني منزلها عليكم } ، ثم شرط عليهم سبحانه شرطه المتعارف في الأمم؛ أنه من كفر بعد آية الاقتراح، عذب أشد عذاب، والجمهور أن المائدة نزلت كما أخبر الله سبحانه، واختلفوا في كيفية ذلك، فقال أبو عبد الرحمن السلمي: نزلت المائدة خبزا وسمكا، وقال عطية: المائدة سمكة فيها طعم كل طعام، وقال ابن عباس: نزل خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أينما نزلوا، إذا شاءوا، وقال عمار بن ياسر: سألوا عيسى مائدة يكون عليها طعام لا ينفذ، فقيل لهم: إنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا، أو تخونوا، فإن فعلتم، عذبتم، قال: فما مضى يوم؛ حتى خبئوا، وخانوا، يعني: بني إسرائيل، فمسخوا قردة وخنازير، وقال ميسرة: كانت المائدة، إذا وضعت لبني إسرائيل، اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم، وأكثر الناس في قصص المائدة مما رأيت اختصاره؛ لعدم سنده.
[5.116-118]
وقوله سبحانه: { وإذ قال الله يعيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله... } الآية: اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول، فقال السدي وغيره: لما رفع الله عيسى إلى السماء، قالت النصارى ما قالت، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله تعالى عن قولهم، فقال: { سبحنك... } الآية، ويجيء على هذا قوله: { وإن تغفر لهم } ، أي: في التوبة من الكفر؛ لأن هذا قاله، وهم أحياء في الدنيا، وقال ابن عباس، وجمهور الناس: هذا القول من الله إنما هو يوم القيامة يقوله الله له على رءوس الخلائق، فيرى الكفار تبريه منهم، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل، ف { قال }؛ على هذا التأويل بمعنى: «يقول»؛ ونزل الماضي موضع المستقبل؛ لدلالته على كون الأمر وثبوته، وقوله آخرا: { وإن تغفر لهم }: معناه: إن عذبت العالم كله، فبحقك، فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت؛ لا اعتراض عليك، وإن غفرت وسبق ذلك في علمك؛ فلأنك أهل لذلك؛ لا معقب لحكمك، ولا منازع لك، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم، مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب، وهذا القول عندي أرجح؛ ويتقوى بما يأتي بعد، وهو قوله سبحانه:
هذا يوم ينفع الصدقين صدقهم
[المائدة:119].
وقوله: { سبحنك } ، أي : تنزيها لك عن أن يقال هذا، وينطق به؛ { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } ، أي: ما يكون لبشر محدث أن يدعي الألوهية، ثم قال: { إن كنت قلته فقد علمته } لأنك أحطت بكل شيء علما, وأحصيت كل شيء عددا, فوفق الله عيسى لهذه الحجة البالغة, وقوله { تعلم ما في نفسي } ، خص النفس بالذكر؛ لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات.
والمعنى: أن الله سبحانه يعلم ما في نفس عيسى، ويعلم كل أمره مما عسى ألا يكون في نفسه.
وقوله: { ولا أعلم ما في نفسك }: معناه: ولا أعلم ما عندك من المعلومات، وما أحطت به، وذكر «النفس» هنا مقابلة لفظية، في اللسان العربي؛ يقتضيها الإيجاز؛ وهذا ينظر من طرف خفي إلى قوله تعالى:
ومكروا ومكر الله
[آل عمران:54]؛ و
الله يستهزىء بهم
[البقرة:15] فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية، إذ هي من فصيح الكلام، وبارع العبارة.
ثم أقر عيسى عليه السلام لله تعالى؛ بأنه سبحانه علام الغيوب، أي: ولا علم لي أنا بغيب.
وقوله: { فلما توفيتني }: أي: قبضتني بالرفع، والتصيير في السماء، و { الرقيب }: الحافظ المراعي.
وقوله: { فإنك أنت العزيز }: أي: في قدرتك، { الحكيم } في أفعالك.
والمعنى: إن يكن لك في الناس معذبون، فهم عبادك، وإن يكن مغفور لهم، فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله.
[5.119-120]
{ قال الله هذا يوم ينفع الصدقين صدقهم }؛ فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله سبحانه ، وكل ما كان أتقى، فهو أدخل في العبارة، وجاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى عليه السلام في حاله، وصدقه؛ فيحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم، وإن كان اللفظ يعمه وسواه.
ثم ذكر تعالى ما أعده لهم برحمته، وطوله، جعلنا الله منهم بمنه، وسعة جوده، لا رب غيره، ولا مرجو في الدارين سواه، وباقي الآية بين. جعل الله ما كتبناه من هذه الأحرف نورا يسعى بين أيدينا بمنه. والحمد لله كما هو أهله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
[6 - سورة الأنعام]
[6.1-2]
قوله تعالى: { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمت والنور }.
قال علي بن عبد الرحمن اليفرني في شرحه ل «البرهانية»: قال الإمام الفخر: لفظ الحمد معرفا لا يقال إلا في حق الله عز وجل؛ لأنه يدل على التعظيم، ولا يجوز أن يقال: الحمد لزيد. قاله سيبويه.
وذكر ابن العربي في «القانون» عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من شيء أحب إلى الله من الحمد، وأبلغ الحمد الحمد لله على كل حال ".
قال ابن العربي: وفي بعض الآثار:
" ما من نعمة عظمت إلا والحمد لله أعظم منها "
انتهى.
قال * ع *: و { جعل } هاهنا بمعنى: «خلق»، ولا يجوز غير ذلك.
قال قتادة، والسدي؛ وجمهور من المفسرين: الظلمات الليل، والنور النهار.
وقالت فرقة: الظلمات الكفر، والنور الإيمان.
قال * ع *: وهذا على جهة التشبيه صحيح، وعلى ما يفهمه عباد الأوثان غير جيد؛ لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق اللغز الذي برىء القرآن منه، والنور أيضا هنا للجنس.
وقوله تعالى: { ثم } دالة على قبح فعل الذين كفروا؛ لأن المعنى: أن خلقه السموات والأرض، وغيرها الموجبة لحمده، وتوحيده قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك على العباد قد تبين، فكان الواجب عليهم إخلاص التوحيد له، ثم هم بعد هذا كله بربهم يعدلون؛ أي: يسوون، ويمثلون، وعدل الشيء قرينه ومثيله.
و { الذين كفروا } في هذا الموضع كل من عبد شيئا سوى الله إلا أن السابق من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب؛ لمجاورتهم له، ولفظ الآية أيضا يشير إلى المانوية العابدين للنور، القائلين: إن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلام.
وقوله تعالى: { هو الذي خلقكم من طين } فالمعنى: خلق آدم من طين.
وقوله سبحانه: { ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده } اختلف في هذين الأجلين، فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: { أجلا } أجل الإنسان من لدن ولادته إلى موته، والأجل المسمى عنده من وقت موته إلى حشره، ووصفه ب { مسمى عنده }؛ لأنه استأثر سبحانه بعلم وقت القيامة. وقال ابن عباس: { أجلا } الدنيا، { وأجل مسمى } الآخرة.
وقيل غير هذا.
{ وتمترون } معناه: تشكون.
[6.3-6]
وقوله سبحانه: { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } قاعدة الكلام في هذه الآية: أن حلول الله في الأماكن مستحيل تعالى أن يحويه مكان، كما تقدس أن يحده زمان، بل كان قبل أن خلق المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان.
وإذا تقرر هذا، فقالت فرقة من العلماء: تأويل ذلك على تقدير صفة محذوفة من اللفظ ثابتة في المعنى، كأنه قال: وهو الله المعبود في السموات، وفي الأرض. وعبر بعضهم بأن قدر: وهو الله المدبر للأمر في السموات والأرض.
وقال الزجاج: { في } متعلقة بما تضمنه اسم الله من المعاني، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.
قال * ع *: وهذا عندي أفضل الأقوال، وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ، وجزالة المعنى.
وإيضاحه: أنه أراد أن يدل على خلقه، وآثار قدرته، وإحاطته، واستيلائه، ونحو هذه الصفات، فجمع هذه كلها في قوله: { وهو الله } أي: الذي له هذه كلها في السموات، وفي الأرض، كأنه قال: وهو الله الخالق، الرازق، المحيي، المحيط في السموات وفي الأرض، كما تقول: زيد السلطان في المشرق والمغرب و «الشام» و «العراق»، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالا، وإذا كان مقصد قولك الآمر، الناهي، الناقض، المبرم، الذي يعزل ويولي في المشرق والمغرب، فأقمت السلطان مقام هذه، كان فصيحا صحيحا، فكذلك في الآية أقام لفظة { الله } مقام تلك الصفات المذكورة.
وقالت فرقة: { وهو الله } ابتداء وخبر، تم الكلام عنده، ثم استأنف، وتعلق قوله: { في السموات } بمفعول { يعلم } ، كأنه قال: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات، وفي الأرض.
وقوله تعالى: { يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } خبر في ضمنه تحذير وزجر، و { تكسبون } لفظ عام لجميع الاعتقادات، والأقوال، والأفعال.
وقوله سبحانه: { وما تأتيهم من ءاية من ءايت ربهم إلا كانوا عنها معرضين } تضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء الذين يعدلون بالله سواه، بأنهم يعرضون عن كل آية، وكذبوا بالحق، وهو محمد عليه السلام وما جاء به.
قال * ص *: { من ءاية من ءايت ربهم } «من» الأولى زائدة للاستغراق، وما بعدها فاعل بقوله: { تأتيهم }.
و «من» الثانية للتبعيض انتهى.
وقوله تعالى: { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } هذا وعيد لهم شديد، وهذه العقوبات التي توعدوا بها تعم عقوبات الدنيا كبدر وغيرها، وعقوبات الآخرة.
وقوله سبحانه: { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنهم في الأرض ما لم نمكن لكم } هذا حض على العبرة، والرؤية هنا رؤية القلب، والقرن: الأمة المقترنة في مدة من الزمن.
واختلف في مدة القرن كم هي؟
فالأكثر على أنها مائة سنة.
وقيل غير هذا.
وقيل: القرن الزمن نفسه، وهو على حذف مضاف، تقديره: من أهل قرن. قال عياض في «الإكمال»: واختلف في لفظ القرن، وذكر الحربي فيه الاختلاف من عشر سنين إلى مائة وعشرين، ثم قال يعني الحربي: وليس منه شيء واضح، وأرى القرن كل أمة هلكت، فلم يبق منها أحد. انتهى.
والضمير في { مكنهم } عائد على القرن، والمخاطبة في { لكم } هي للمؤمنين، ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس، و { السماء } هنا المطر، و { مدرارا } بناء تكثير، ومعناه: يدر عليهم بحسب المنفعة.
وقوله سبحانه: { وأنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين }.
{ أنشأنا }: اخترعنا، وخلقنا، ويظهر من الآية أن القرن إنما هو وفاة الأشياخ، ثم ولادة الأطفال.
[6.7-9]
وقوله تعالى: { ولو نزلنا عليك كتبا في قرطاس } الآية.
لما أخبر عنهم سبحانه بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية أتبع ذلك بإخبار فيه مبالغة، والمعنى: ولو نزلنا بمرأى منهم عليك كتابا أي: كلاما مكتوبا في قرطاس، أي: في صحيفة.
{ فلمسوه بأيديهم } يريد: أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه؛ ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه، وتابعوا كفرهم وقالوا: هذا سحر مبين.
وقوله سبحانه: { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } أي: يصدق محمدا في نبوءته، ثم رد الله عليهم بقوله: { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } قال ابن عباس وغيره: في الكلام حذف، تقديره: ولو أنزلنا ملكا، فكذبوه لقضي الأمر بعذابهم، ولم ينظروا حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية، وكذبت بعد أن أظهرت إليها.
وقالت فرقة: { لقضي الأمر } أي: لماتوا من هول رؤية الملك في صورته، ويؤيد هذا التأويل ما بعده من قوله: { ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا } فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته، فإذ قد تقعد أنهم لا يطيقون رؤية الملك في صورته، فالأولى في قوله: { لقضي الأمر } أي: لماتوا؛ لهول رؤيته، { ثم لا ينظرون } ، أي: لا يؤخرون.
ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، فسمعا حس الملائكة، وقائلا يقول في السحاب: أقدم حيزوم، فانكشف قناع قلب أحدهما، فمات لهول ذلك، فكيف برؤية ملك في خلقته.
{ وللبسنا } أي: لفعلنا لهم في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به، وذلك لا يحسن.
قلت: وفي البخاري: { وللبسنا عليهم ما يلبسون }: لشبهنا.
[6.10-12]
وقوله سبحانه: { ولقد استهزئ برسل من قبلك } الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بالأسوة في الرسل، وتقوية لنفسه على محاجة المشركين، وإخبار يتضمن وعيد مكذبيه، والمستهزئين به.
و { حاق } معناه: نزل، وأحاط، وهي مخصوصة في الشر؛ يقال: حاق يحيق حيقا.
وقوله سبحانه: { قل سيروا في الأرض } حض على الاعتبار بآثار من مضى ممن فعل مثل فعلهم.
وقوله سبحانه: { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله }.
قال بعض أهل التأويل: تقدير الكلام: قل لمن ما في السموات والأرض، فإذا تحيروا فلم يجيبوا قل لله.
والصحيح من التأويل أن الله عز وجل أمر نبيه عليه السلام أن يقطعهم بهذه الحجة، والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم، ولا عند أحد ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم، ثم يتركب احتجاجه عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يأيها الكافرون العادلون بربهم لمن ما في السموات والأرض، ثم سبقهم فقال: لله أي لا مدافعة في هذا عندكم، ولا عند أحد.
ثم ابتدأ يخبر عن الله تعالى: { كتب على نفسه الرحمة } معناه: قضاها وأنفذها. وفي هذا المعنى أحاديث صحيحة؛ ففي «صحيح مسلم»؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم
" جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها؛ خشية أن تصيبه ".
ولمسلم في طريق آخر:
" كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة ".
وخرج مسلم، والبخاري، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم قال:
" لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي ".
وفي طريق:
" سبقت غضبي "
إلى غير ذلك من الأحاديث. انتهى.
قال * ع *: فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات. تغمدنا الله بفضل منه.
ويتضمن هذا الإخبار عن الله سبحانه بأنه كتب الرحمة لتأنيس الكفار، ونفي يأسهم من رحمة الله إذا أنابوا.
واللام في قوله: { ليجمعنكم } لام قسم، والكلام مستأنف، وهذا أظهر الأقوال وأصحها.
وقوله سبحانه: { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون }.
{ الذين } رفع بالابتداء، وخبره: { فهم لا يؤمنون }.
[6.13-16]
وقوله تعالى: { وله ما سكن في اليل والنهار } الآية.
{ وله } عطف على قوله: { لله } ، و { سكن } هي من السكنى، ونحوه؛ أي: ما ثبت وتقرر. قاله السدي، وغيره.
وقالت فرقة: هو من السكون، وهو ضعيف.
وقوله تعالى: { قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض } الآية.
قال الطبري وغيره: أمر عليه السلام أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم، فتجيء الآية على هذا جوابا لكلامهم.
قال * ع *: وهذا يحتاج إلى سند، والفصيح أنه لما قرر معهم أن الله تعالى له ما في السموات والأرض، وله ما سكن في الليل والنهار، أمر أن يقول لهم على جهة التوبيخ والتوقيف: أغير الله الذي هذه أفعاله أتخذ وليا، بمعنى: أن هذا خطأ بين ممن يفعله.
والولي لفظ عام لمعبود وغير ذلك.
ثم أخذ في صفات الله تعالى فقال: { فاطر } بخفض الراء نعت لله عز وجل.
قال * ص *: { فاطر } الجمهور بالجر، ووجهه ابن عطية، وغيره على أنه نعت { لله }.
وأبو البقاء على أنه بدل، وكأنه رأى الفصل بين البدل والمبدل أسهل؛ لأن البدل في المشهور على نية تكرار العامل. انتهى.
و «فطر» معناه: ابتدع، وخلق، وأنشأ، وفطر أيضا في اللغة: شق، ومنه
هل ترى من فطور
[الملك:3] أي: من شقوق.
و { يطعم ولا يطعم } المقصود به: يرزق ولا يرزق.
وقوله: { قل إني أمرت... } إلى { عظيم }.
قال المفسرون: المعنى أول من أسلم من هذه الأمة، وبهذه الشريعة، ولفظة { عصيت } عامة في أنواع المعاصي، ولكنها هاهنا إنما تشير إلى الشرك المنهي عنه. واليوم العظيم هو يوم القيامة.
وقرأ نافع وغيره «من يصرف عنه» مسندا إلى المفعول، وهو الضمير العائد على العذاب.
وقرأ حمزة وغيره «من يصرف» بإسناد الفعل إلى الضمير العائد إلى «ربي»، ويعمل في ضمير العذاب المذكور، ولكنه محذوف.
وقوله: { وذلك } إشارة إلى صرف العذاب، وحصول الرحمة، و { الفوز } النجاة.
[6.17-19]
وقوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كشف له إلا هو }.
يمسسك: معناه يصبك، وينلك، والضر بضم الضاد: سوء الحال في الجسم وغيره، وبفتحها ضد النفع، ومعنى الآية: الإخبار أن الأشياء كلها بيد الله؛ إن ضر فلا كاشف لضره غيره، وإن أصاب بخير، فكذلك أيضا.
وعن ابن عباس قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال:
" يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف "
رويناه في الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية غير الترمذي زيادة:
" احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك... "
وفي آخره:
" واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ".
قال النووي: هذا حديث عظيم الموقع. انتهى من «الحلية».
وقرأت فرقة: «وأوحى إلي هذا القرآن» على بناء الفعل للفاعل، ونصب «القرآن»، وفي «أوحى» ضمير يعود على الله تعالى.
وقوله: { لأنذركم به ومن بلغ } معناه على قول الجمهور: بلاغ القرآن، أي: لأنذركم وأنذر من بلغه، ففي «بلغ» ضمير محذوف؛ لأنه في صلة «من» فحذف لطول الكلام.
وقالت فرقة: ومن بلغ الحلم.
وروي في معنى التأويل الأول أحاديث. وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام.
وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم تثبت صحته أنها في قوم من اليهود، قالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره، فقال لهم: «لا إله إلا الله وبذلك أمرت» فنزلت الآية. والله أعلم.
وأمر الله سبحانه نبيه عليه السلام أن يعلن بالتبري من شهادة الكفرة، والإعلان بالتوحيد لله عز وجل والتبري من إشراكهم.
قال الغزالي في «الإحياء». وينبغي للتالي أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمرا أو نهيا قدر المنهي، والمأمور، وكذا إن سمع وعدا أو وعيدا، وكذا ما يقف عليه من القصص، فالمقصود به الاعتبار. قال تعالى:
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك
[هود:120].
وقال تعالى:
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
[آل عمران:138].
وقال: { وأوحي إلي هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ }.
قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله عز وجل انتهى.
[6.20-22]
وقوله سبحانه: { الذين آتينهم الكتب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }.
قال قتادة، وغيره: يعرفون محمدا عليه السلام .
وقوله: { الذين خسروا أنفسهم } الآية؛ روي أن كل عبد له منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة، والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار، فهنا هي الخسارة البينة، والربح للآخرين. وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } المعنى: واذكر يوم نحشرهم.
[6.23-26]
وقوله تعالى: { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين }.
الفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة، تقال بمعنى حب الشيء، والإعجاب به، وتقال بمعنى الاختبار. ومن قال: إن أصل الفتنة الاختبار من: فتنت الذهب في النار، ثم يستعار بعد ذلك في غير ذلك، فقد أخطأ؛ لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع عليه باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له، كقول ذي الرمة: [الطويل]
ولف الثريا في ملاءته الفجر
ونحوه، والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه، وباقي الآية مضى تفسيره عند قوله سبحانه:
ولا يكتمون الله حديثا
[النساء:42] فانظره هناك.
قال * ع *: وعبر قتادة عن الفتنة هنا بأن قال: معذرتهم.
وقال الضحاك: كلامهم.
وقيل غير هذا مما هو في ضمن ما ذكرناه.
وقوله سبحانه: { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والنظر نظر القلب، وقال: { كذبوا } في أمر لم يقع؛ إذ هي حكاية عن يوم القيامة، فلا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل، ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقا في الفعل، وإثباتا له، وهذا مهيع في اللغة.
{ وضل عنهم } معناه: ذهب افتراؤهم في الدنيا، وكذبهم على الله.
وقوله سبحانه: { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة } الآية.
«أكنة» جمع: كنان، وهو الغطاء { أن يفقهوه } أي: يفهموه، والوقر الثقل.
وقوله سبحانه: { وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها }. الرؤية هنا رؤية العين، يريد كانشقاق القمر وشبهه.
وقولهم: { إن هذا إلا أسطير الأولين } إشارة إلى القرآن، والأساطير جمع أسطار، كأقوال وأقاويل، وأسطار جمع سطر أو سطر. وقيل: أساطير جمع إسطارة، وهي الترهات.
وقيل: جمع أسطورة كأعجوبة، وأضحوكة. وقيل: هم اسم جمع، لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط، والمعنى: إخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر، وتحكى، ولا تحقق كالتواريخ، وإنما شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث، وعبد الله بن أبي أمية، عن رستم ونحوه، ومجادلة الكفار كانت مرادتهم نور الله بأقوالهم المبطلة.
{ وهم ينهون عنه } قال قتادة وغيره: المعنى: ينهون عن القرآن.
وقال ابن عباس وغيره: ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: ينهون غيرهم، ويبعدون هم بأنفسهم، والنأي البعد.
قال * ص *: { وإن يهلكون }: إن نافية بمعنى «ما»، و { أنفسهم } مفعول ب { يهلكون } انتهى. { وما يشعرون } معناه: ما يعلمون علم حس، ونفي الشعور مذمة بالغة؛ إذ البهائم تشعر وتحس، فإذا قلت: فلان لا يشعر، فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات.
[6.27-28]
وقوله جلت عظمته: { ولو ترى إذ وقفوا على النار } الآية: المخاطبة فيه للنبي صلى الله عليه وسلم وجواب «لو» محذوف، تقديره في آخر الآية: لرأيت هولا عظيما ونحوه.
و { وقفوا } معناه: حسوا، ويحتمل قوله: { وقفوا على النار } بمعنى «دخلوها». قاله الطبري.
ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها، وعاينوها.
وقولهم: { يليتنا نرد } معناه إلى الدنيا.
وقوله سبحانه: { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } الآية: يتضمن أنهم كانوا يخفون أمورا في الدنيا، فظهرت لهم يوم القيامة، أو ظهر وبال ذلك وعاقبته، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقيل: إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا، وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بهم أتباعهم، فظهر لهم ذلك يوم القيامة.
ويصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه، فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغيرها، فكيف الظن بما كانوا يعلنونه من كفر ونحوه. وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة:
يوم تبلى السرائر
[الطارق:9]. وقوله سبحانه: { ولو ردوا لعدوا } إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يوجد، وهذا النوع مما استأثر الله تعالى بعلمه، فإن أعلم بشيء منه علم، وإلا لم يتكلم فيه.
قال الفخر: قال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة؛ لأن الله تعالى حكى عن هؤلاء أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وما ذاك إلا للقضاء السابق فيهم. انتهى.
[6.29-31]
وقوله تعالى: { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } هذا على تأويل الجمهور ابتداء كلام، وإخبار عنهم بهذه المقالة، و «إن » نافية، ومعنى الآية عنهم التكذيب بالحشر والعودة إلى الله.
وقوله سبحانه: { أليس هذا بالحق } الإشارة بهذا إلى البعث الذي كذبوا به في الدنيا، وقولهم: { بلى وربنا } إيمان، ولكنه حين لا ينفع.
وقوله: { فذوقوا } استعارة بليغة، والمعنى باشروه مباشرة الذائق، و { بغتة } معناه: فجأة، تقول: بغتني الأمر؛ أي: فجأني، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة
وأفظع شيء حين يفجأك البغت
ونصبها على المصدر في موضع الحال.
وقولهم: { قالوا يحسرتنا على ما فرطنا فيها } نداء الحسرة على تعظيم الأمر، وتشنيعه.
و { فرطنا } معناه: قصرنا، والضمير في قوله: { فيها } عائد على الساعة؛ أي: في التقدمة لها. قاله الحسن.
ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا، إذ المعنى يقتضيها، ومجيء الظرفية أمكن.
قلت: قال عبد الحق في «العاقبة»: لا يعرف مقدار الحياة إلا الموتى؛ لأنهم قد ظهرت لهم الأمور، وانكشفت لهم الحقائق، وتبدت لهم المنازل، وعلموا مقدار الأعمال الصالحة، ولما استبان لهم ذلك، وعلموا مقدار ما ضيعوا، وقيمة ما فيه فرطوا، ندموا وأسفوا، وودوا أنهم إلى الدنيا رجعوا، فالذي عمل صالحا ود أن لو رجع إلى الدنيا ليزداد من عمله الصالح، ويكثر من تجره الرابح، والمقصر يود أنه لو رد ليستدرك ما فيه فرط، وقد قال عليه السلام:
" " ما من أحد يموت إلا ندم " قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: " إن كان محسنا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم ألا يكون نزع "
خرجه الترمذي. انتهى.
وقوله تعالى: { وهم يحملون } الواو واو الحال، والأوزار جمع وزر بكسر الواو، وهو الثقل من الذنوب، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال. ومن قال: إنه من الوزر، وهو الجبل الذي يلجأ إليه، فهو قول غير بين.
وقال الطبري وغيره: هذا على جهة الحقيقة، ورووا في ذلك خبرا: أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفوحها فيسلم عليه ويقول طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك، فاركبني اليوم. قال: فيحمله تمثال العمل. وإن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه، ويقول: أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم، قال: فيحمل تمثال عمله الخبيث وأوزاره على ظهره.
قلت: والأحاديث الصحيحة في معنى ما ذكره الطبري كثيرة كأحاديث مانعي الزكاة، وغيرها.
قال مكي: وروى المقبري عن أبي هريرة في حديث يرفعه، قال:
" إذا كان يوم القيامة بعث الله مع كل امرىء مؤمن عمله، وبعث مع الكافر عمله فلا يرى المؤمن شيئا يروعه، ولا شيئا يفزعه ويخافه إلا قال له عمله: أبشر بالذي يسرك فإنك لست بالذي يراد بهذا. ولا يرى الكافر شيئا يفزعه ويروعه ويخافه إلا قال له عمله: أبشر يا عدو الله بالذي يسوءك، فوالله إنك لأنت الذي تراد بهذا "
انتهى.
[6.32-33]
وقوله سبحانه: { وما الحيوة الدنيا إلا لعب ولهو } الآية. هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا، والمعنى: أنها إذ كانت فانية لا طائل لها أشبهت اللعب، واللهو الذي لا طائل له إذا تقضى. وهذه الآية تتضمن الرد على قولهم:
إن هي إلا حياتنا الدنيا
[الأنعام:29] وهو المقصود بها.
قال عبد الحق في «العاقبة»: اعلم رحمك الله أن حب الدنيا هو سبب طول الأمل، والإكباب عليها يمنع من الفكرة في الخروج عنها، والجهل بغوائلها يحمل على الإرادة لها، والازدياد منها؛ لأن من أحب شيئا أحب الكون معه، والازدياد منه، ومن كان مشغوفا بالدنيا محبا لها قد خدعته بزخرفها وأمالته برونقها كيف يحب مفارقتها، أو يحب مزايلتها، هذا أمر لم تجر العادة به، ولا حدثنا عنه، بل نجد من كان على هذه الصفة أعمى عن طريق الخير، أصم عن داعي الرشد، أفن الرأي، سيىء النظر، ضعيف الإيمان، لم تترك له الدنيا ما يسمع به، ولا ما يرى، إنما دينه وشغله وحديثه دنياه، لها ينظر، ولها يسمع، قد ملأت عينه وقلبه، ثم قال: واعلم أن أهل القبور إنما يندمون على ما يتركون، ويفرحون بما يقدمون، فما عليه أهل القبور يندمون، أهل الدنيا عليه يقتتلون. انتهى.
وقوله سبحانه: { قد نعلم... } الآية: { نعلم } إذا كانت من الله تعالى تتضمن استمرار العلم وقدمه، فهي تعم الماضي، والحال ، والاستقبال.
قلت: ونحو هذا لأبي حيان قال: وعبر هنا بالمضارع؛ لأن المراد الاتصاف بالعلم، واستمراره، ولم يلحظ فيه الزمان، كقولهم: فلان يعطي ويمنع. انتهى.
وقرأ نافع وحده «ليحزنك» من أحزن.
وقرأ الباقون: «ليحزنك» من حزنت الرجل.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة «لا يكذبونك» بتشديد الذال، وفتح الكاف وقرأها ابن عباس، وردها على قارىء قرأ عليه «يكذبونك» بضم الياء، وقال: إنهم كانوا يسمونه الأمين.
وقرأ نافع والكسائي بسكون الكاف، وتخفيف الذال، وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان، وهما بمعنى واحد، فمعنى: لا يكذبونك، أي: لا يعتقدون كذبك، وإنهم يعلمون صدقك، ولكنهم يجحدون عنادا وظلما، وهذا تأويل قتادة والسدي وغيرهما.
وحكي عن طائفة من الكفار أنها كانت تقول: إنا لنعلم أن محمدا صادق، ولكن إذا آمنا به فضلنا بنو هاشم بالنبوءة، فنحن لا نؤمن به أبدا. رويت هذه المقالة عن أبي جهل، ومن جرى مجراه.
وأسند الطبري:
" أن جبريل وجد النبي صلى الله عليه وسلم حزينا فسأله، فقال: كذبني هؤلاء، فقال: إنهم لا يكذبونك بل يعلمون أنك صادق ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون "
وجحد العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر، وظواهر القرآن تعطيه، و { يجحدون }: حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة، وهو ضد الإقرار.
[6.34-36]
وقوله سبحانه: { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا } الآية.
قال ابن جريج، والضحاك: عزى الله بهذه الآية نبيه عليه السلام ثم قوى سبحانه رجاء نبيه فيما وعده من النصر، بقوله: { ولا مبدل لكلمت الله } ، أي: لا راد لأمره، وكلماته السابقة بما يكون، فكأن المعنى: فاصبر كما صبروا، وانتظر ما يأتي، وثق بهذا الإخبار، فإنه لا مبدل له.
وقوله تعالى: { وإن كان كبر عليك إعراضهم... } الآية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر، والمعنى: إن كنت تعظم تكذيبهم، وكفرهم على نفسك، وتلتزم الحزن، فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض، أو على ارتقاء سلم في السماء، فافعل، أي: ولست بقادر على شيء من هذا ، ولا بد لك من التزام الصبر، واحتمال المشقة، { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجهلين } في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله، وأمضاه. وروى الدارقطني في «سننه» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا أصاب أحدكم هم أو حزن فليقل سبع مرات: الله الله ربي لا أشرك به شيئا "
انتهى من «الكوكب الدري».
و { فتأتيهم بئاية } أي: بعلامة.
وقال مكي، والمهدوي: الخطاب بقوله: { فلا تكونن من الجهلين } للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ. قلت وما قاله * ع *: فيه عندي نظر؛ لأن هذا شأن التأويل إخراج اللفظ عن ظاهره لموجب، على أن أبا محمد مكيا رحمه الله نقل هذا القول عن غيره نقلا، ولفظه: { فلا تكونن من الجهلين } أي: ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه.
وقيل: معنى الخطاب لأمة النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: فلا تكونوا من الجاهلين، ومثله في القرآن كثير. انتهى من «الهداية».
وقوله سبحانه: { إنما يستجيب الذين يسمعون } هذا من النمط المتقدم في التسلية، أي: لا تحفل بمن أعرض، فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يفهمون الآيات، ويتلقون البراهين بالقبول، فعبر عن ذلك كله ب { يسمعون } إذ هو طريق العلم، وهذه لفظة تستعملها الصوفية رضي الله عنهم إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغا شافيا، قالوا: سمع.
ثم قال تعالى: { والموتى } يريد الكفار أي: هم بمثابة الموتى، فعبر عنهم بضد ما عبر عن المؤمنين، وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور الله، والصمم عن وعي كلماته. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة.
و { يبعثهم الله } يحتمل معنيين: قال الحسن: معناه يبعثهم بأن يؤمنوا حين يوفقهم، وقراءة الحسن «ثم إليه ترجعون» بالتاء من فوق، فتناسبت الآية.
وقال مجاهد، وقتادة: { والموتى } يريد الكفار { يبعثهم الله } ، أي: يحشرهم يوم القيامة، { ثم إليه } ، أي: إلى سطوته، وعقابه يرجعون.
[6.37-38]
وقوله سبحانه: { وقالوا لولا نزل عليه ءاية من ربه } «لولا» تحضيض بمعنى «هلا»، ومعنى الآية: هلا نزل على محمد بيان واضح كملك يشهد له، أو كنز، أو غير ذلك من تشططهم المحفوظ في هذا، ثم أمر عليه السلام بالرد عليهم بأن الله عز وجل قادر على ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون أنها لو نزلت، ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، ويحتمل { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنه سبحانه إنما جعل الإنذار في آيات معرضة للنظر، والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون.
وقوله سبحانه: { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثلكم } المعنى: في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته المنصوبة لمن فكر واعتبر؛ كالدواب والطير، ويدخل في هذين جميع الحيوان، وهي أمم أي: جماعات مماثلة للناس في الخلق، والرزق، والحياة، والموت، والحشر.
ويحتمل أن يريد بالمماثلة في كونها أمما لا غير، إلا أن الفائدة في هذه الآية بأن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمما.
قال الطبري، وغيره: والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها، وتحاسب، ويقتص لبعضها من بعض، على ما روي في الأحاديث؛ أي: فإذا كان هذا يفعل بالبهائم، فأنتم أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء.
وروى أبو ذر: أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
" أتعلمون فيما انتطحتا؟ قلنا: لا، قال: فإن الله يعلم وسيقضي بينهما ".
وقال مكي: المماثلة في أنها تعرف الله، وتعبده.
وقوله: { بجناحيه } تأكيد، وبيان، وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة؛ إذ يقال: طائر السعد، والنحس. وقال تعالى:
ألزمنه طئره في عنقه
[الإسراء:13]، ويقال: طار لفلان طائر كذا، أي: سهمه في المقتسمات، فقوله تعالى: { بجناحيه } إخراج للطائر عن هذا كله.
وقوله سبحانه: { ما فرطنا في الكتب من شيء } التفريط: التقصير في الشيء مع القدرة على ترك التقصير.
قال أبو حيان: أصل فرطنا يتعدى ب «في» ثم يضمن معنى أغفلنا، فيتعدى إلى مفعول به، وهو هنا كذلك، فيكون { من شيء } في موضع المفعول به. انتهى.
و { الكتب }: القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات.
وقيل: اللوح المحفوظ، { ومن شىء } على هذا القول عام في جميع الأشياء، وعلى القول بأنه القرآن خاص.
و { يحشرون }؛ قالت فرقة من العلماء: حشر البهائم بعثها، واحتجوا بالأحاديث المضمنة أن الله تعالى يقتص للجماء من القرناء، ومن قال: إنما هي كناية عن العدل، وليست بحقيقة، فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز ونحوها.
[6.39-41]
وقوله سبحانه: { والذين كذبوا بآيتنا صم وبكم... } الآية كأنه قال: وما من دابة، ولا طائر، ولا شيء، إلا وفيه آية منصوبة دالة على وحدانية الله تعالى ولكن الذين كذبوا بآياتنا صم وبكم لا يتلقون ذلك، ولا يقبلونه، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب.
وقال النقاش: نزلت في بني عبد الدار.
قال * ع *: ثم تنسحب على سواهم.
وقوله: { في الظلمت } ينوب عن عمي، وفي الظلمات أهول عبارة، وأفصح، وأوقع في النفس.
قال أبو حيان: { في الظلمت } خبر مبتدإ محذوف، أي: هم في الظلمات، أو صفة ل { بكم }؛ أي: كائنون في الظلمات، أو حال من الضمير المقدر في الخبر، أي: ضالون في الظلمات. انتهى.
وقوله سبحانه: { قل أرأيتكم } ابتداء احتجاج على الكفار الجاعلين لله شركاء، والمعنى: أرأيتم إذا خفتم عذاب الله، أو خفتم هلاكا، أو خفتم الساعة، أتدعون أصنامكم وتلجئون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة، بل إنما تدعون الله الخالق الرازق، فيكشف ما خفتموه، إن شاء، وتنسون أصنامكم، أي: تتركونهم، فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول، وإغفال، فكيف يجعل إلها من هذه حاله في الشدائد والأزمات.
[6.42-45]
وقوله سبحانه: { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذنهم } في الكلام حذف، تقديره: فكذبوا فأخذناهم؟ أي: تابعناهم بالبأساء الآية، والبأساء المصائب في الأموال، والضراء في الأبدان. هذا قول الأكثر.
وقيل: قد يوضع كل واحد بدل الآخر، والتضرع التذلل، والاستكانة، ومعنى الآية توعد الكفار، وضرب المثل لهم، و { لولا } تحضيض، وهي التي تلي الفعل بمعنى: «هلا» وهذا على جهة المعاتبة لمذنب غائب، وإظهار سوء فعله مع تحسر ما عليه.
قلت: أي: مع تحسر ما، باعتبار حالة البشر.
وقوله سبحانه: { فلما نسوا ما ذكروا به... } الآية عبر عن الترك بالنسيان، و { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } أي: من النعم الدنيوية بعد الذي أصابهم من البأساء والضراء، و { فرحوا } معناه: بطروا، وأعجبوا، وظنوا أن ذلك لا يبيد، وأنه دال على رضا الله عنهم، وهو استدراج من الله تعالى.
وقد روي عن بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذنهم بغتة }.
وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا رأيت الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم، فذلك استدراج ثم تلا: { فلما نسوا ما ذكروا به... } "
الآية كلها، و { أخذنهم } في هذا الموضع معناه: استأصلناهم بغتة أي: فجأة، والمبلس الحزين الباهت اليائس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال.
وقوله تعالى: { فقطع دابر القوم... } الآية.
الدابر: آخر القوم الذي يأتي من خلفهم، وهذه كناية عن استئصال شأفتهم، ومحو آثارهم، كأنهم وردوا العذاب حتى ورد آخرهم الذي دبرهم، وحسن الحمد عقب هذه الآية لجمال الأفعال المتقدمة في أن أرسل سبحانه الرسل، ولطف في الأخذ بالبأساء والضراء؛ ليتضرع إليه، فيرحم، وينعم، وقطع في آخر الأمر دابر الظلمة، وذلك حسن في نفسه، ونعمة على المؤمنين، فحسن الحمد عقب هذه الأفعال، وبحمده سبحانه ينبغي أن يختم كل فعل، وكل مقال، إذ هو المحمود على كل حال لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
[6.46-49]
وقوله تعالى: { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصركم... } الآية { أخذ } معناه أذهب، والضمير في { به } عائد على المأخوذ، و { يصدفون } معناه: يعرضون، وينفرون، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه
وهن عن كل سوء يتقى صدف
وقوله تعالى: { قل أرأيتكم إن أتكم عذاب الله بغتة... } الآية وعيد وتهديد.
قال: * ع *: { أرءيتم } عند سيبويه: تتنزل منزلة «أخبروني»؛ ولذلك لا تحتاج إلى مفعولين.
وقوله: { بغتة }: معناه: لم يتقدم عندكم منه علم، و { وجهرة } ، معناه: تبدو لكم مخايله ومباديه، ثم يتوالى حتى ينزل.
قال الحسن بن أبي الحسن: { بغتة } ليلا و { جهرة }: نهارا.
وقال مجاهد: { بغتة } فجاءة { ءامنين }. و { جهرة }: وهم ينظرون.
قال أبو حيان: { هل يهلك }؟ «هل» حرف استفهام، معناه هنا النفي، أي: ما يهلك؛ ولذلك دخلت «إلا» على ما بعدها. انتهى.
وقوله سبحانه: { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } ،أي: إلا ليبشروا بإنعامنا ورحمتنا من آمن، ومنذرين بعذابنا وعقابنا من كذب وكفر، قال أبو حيان: { مبشرين ومنذرين }: حال فيها معنى العلية، أي: أرسلناهم للتبشير والإنذار. انتهى.
ثم وعد سبحانه من سلك طريق البشارة، فآمن وأصلح في امتثال الطاعة، وأوعد الآخرين.
[6.50-53]
وقوله تعالى: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك... } الآية: هذا من الرد على القائلين:
لولا نزل عليه ءاية
[الأنعام:37] والطالبين أن ينزل ملك، أو تكون له جنة أو كنز، ونحو هذا، والمعنى: إنما أنا بشر، وإنما أتبع ما يوحى إلي، وهو القرآن وسائر ما يأتيه من الله سبحانه، أي: وفي ذلك عبر وآيات لمن تأمل.
وقوله سبحانه: { قل هل يستوي الأعمى والبصير } ، أي: هل يستوي المؤمن المفكر في الآيات، مع الكافر المعرض عن النظر؛ أفلا تتفكرون، وجاء الأمر بالفكرة في عبارة العرض والتحضيض.
وقوله تعالى: { وأنذر به } ، أي: وأنذر بالقرآن الذين هم مظنة الإيمان، وأهل للانتفاع، والضمير في { به } عائد على ما يوحى.
وقوله سبحانه: { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع }: إخبار من الله سبحانه عن صفة الحال يوم الحشر، قال الفخر: قوله: { لعلهم يتقون }: قال ابن عباس: معناه: وأنذرهم لكي يخافوا في الدنيا، وينتهوا عن الكفر والمعاصي. انتهى.
وقوله سبحانه: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي }: المراد ب { الذين } ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا؛ كبلال، وصهيب، وعمار، وخباب، وصبيح، وذي الشمالين والمقداد، ونحوهم، وسبب الآية أن بعض أشراف الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء، فلو طردتهم، لأتبعناك، ورد في ذلك حديث عن ابن مسعود، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة، فنزلت الآية، و { يدعون ربهم بالغداة والعشي }: قال الحسن بن أبي الحسن: المراد به صلاة مكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشيا، وقيل: قوله: { بالغداة والعشي }: عبارة عن استمرار الفعل، وأن الزمان معمور به، والمراد على هذا التأويل، قيل: الصلوات الخمس؛ قاله ابن عباس وغيره، وقيل: الدعاء، وذكر الله، واللفظة على وجهها، وقيل: القرآن وتعلمه؛ قاله أبو جعفر، وقيل: العبادة؛ قاله الضحاك.
وقوله تعالى: { يريدون وجهه } قلت: قال الغزالي في «الجواهر»: النية والعمل؛ بهما تمام العبادة، فالنية أحد جزأي العبادة، لكنها خير الجزأين، ومعنى النية إرادة وجه الله سبحانه بالعمل، قال الله تعالى: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } ، ومعنى إخلاصها تصفية الباعث عن الشوائب، ثم قال الغزالي: وإذا عرفت فضل النية، وأنها تحل حدقة المقصود، فاجتهد أن تستكثر من النية في جميع أعمالك؛ حتى تنوي بعمل واحد نيات كثيرة، فاجتهد ولو صدقت رغبتك، لهديت لطريق رشدك. انتهى.
وقوله سبحانه: { ما عليك من حسابهم من شيء } ، قال الحسن والجمهور: أي: من حساب عملهم، والمعنى: أنك لم تكلف شيئا غير دعائهم، وقوله: { فتطردهم }: هو جواب النفي في قوله: { ما عليك } ، وقوله: { فتكون }: جواب النهي في قوله: { ولا تطرد }.
و { فتنا بعضهم ببعض } ، أي: ابتلينا، و { ليقولوا }: معناه: ليصير بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا؛ على جهة الاستخفاف والهزء: { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } ، فاللام في { ليقولوا }: لام الصيرورة.
وقوله سبحانه: { أليس الله بأعلم بالشكرين } ، أي: يأيها المستخفون، ليس الأمر أمر استخفاف، فالله أعلم بمن يشكر نعمه.
[6.54-57]
وقوله سبحانه: { وإذا جاءك الذين يؤمنون بئايتنا فقل سلم عليكم... } الآية: قال جمهور المفسرين: هؤلاء هم الذين نهى الله عن طردهم، وشفع ذلك بأن أمر سبحانه أن يسلم النبي عليه السلام عليهم، ويؤنسهم، قال خباب بن الأرت: لما نزلت: { وإذا جاءك الذين يؤمنون بئايتنا... } الآية، فكنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لنا: سلام عليكم، ونقعد معه، فإذا أراد أن يقوم، قام، وتركنا، فأنزل الله تعالى:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم...
[الكهف:28]، فكان يقعد معنا، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه، قمنا وتركناه، حتى يقوم، و { سلم عليكم }: ابتداء، والتقدير: سلام ثابت أو واجب عليكم، والمعنى: أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، ولفظه لفظ الخبر، وهو في معنى الدعاء، قال الفخر قوله تعالى: { كتب ربكم على نفسه الرحمة }: النفس ههنا: بمعنى الذات، والحقيقة، لا بمعنى الجسم، والله تعالى مقدس عنه. انتهى.
قلت: قال ابن العربي في كتاب «تفسير الأفعال الواقعة في القرآن»: قوله تعالى: { كتب ربكم على نفسه الرحمة } ، قال علماؤنا: كتب: معناه أوجب، وعندي أنه كتب حقيقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الله خلق القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة "
انتهى.
وقرأ عاصم، وابن عامر أنه بفتح الهمزة في الأولى والثانية «فأنه»: الأولى بدل من { الرحمة } ، و «أنه» الثانية: خبر ابتداء مضمرة، تقديره: فأمره أنه غفور رحيم، هذا مذهب سيبويه، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «إنه» بكسر الهمزة في الأولى والثانية ، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية، والجهالة في هذا الموضع: تعم التي تضاد العلم، والتي تشبه بها؛ وذلك أن المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تسمى معصيته تلك جهالة، قال مجاهد: من الجهالة ألا يعلم حلالا من حرام، ومن جهالته أن يركب الأمر.
قلت: أي: يتعمده، ومن الجهالة التي لا تضاد العلم قوله صلى الله عليه وسلم في استعاذته:
" أو أجهل أو يجهل علي "
؛ ومنها قول الشاعر: [الوافر]
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قال الفخر: قال الحسن: كل من عمل معصية، فهو جاهل، فقيل: المعنى أنه جاهل بمقدار ما فاته من الثواب، وما استحقه من العقاب، قلت: وأيضا فهو جاهل بقدر من عصاه. انتهى.
والإشارة بقوله تعالى: { وكذلك نفصل الأيت } ، إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين، وبيان فساد منزع العارضين لذلك، وتفصيل الآيات: تبيينها وشرحها وإظهارها، قلت: ومما يناسب هذا المحل ذكر شيء مما ورد في فضل المصافحة، وقد أسند أبو عمر في «التمهيد»، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعلقمة؛ أنهما قالا: «من تمام التحية المصافحة»، وروى مالك في «الموطإ»، عن عطاء الخراساني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تصافحوا؛ يذهب الغل، وتهادوا؛ تحابوا، وتذهب الشحناء "
، قال أبو عمر في «التمهيد»: هذا الحديث يتصل من وجوه شتى حسان كلها، ثم أسند أبو عمر من طريق أبي داود وغيره، عن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من مسلمين يلتقيان، فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرفا "
، ثم أسند أبو عمر عن البراء بن عازب، قال:
" لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأحسب أن المصافحة للعجم فقال: نحن أحق بالمصافحة منهم؛ ما من مسلمين يلتقيان، فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما، ونصيحة، إلا ألقيت ذنوبهما بينهما "
، وأسند أبو عمر عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا التقى المسلمان، فتصافحا، أنزل الله عليهما مائة رحمة؛ تسعون منها للذي بدأ بالمصافحة، وعشرة للذي صوفح، وكان أحبهما إلى الله أحسنهما بشرا بصاحبه "
انتهى.
وقد ذكرنا طرفا من آداب المصافحة في غير هذا الموضع، فقف عليه، واعمل به، ترشد، فإن العلم إنما يراد للعمل، وبالله التوفيق.
وخص سبيل المجرمين بالذكر؛ لأنهم الذين آثروا ما تقدم من الأقوال، وهو أهم في هذا الموضع؛ لأنها آيات رد عليهم.
وأيضا: فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين، وتأول ابن زيد؛ أن قوله: { المجرمين } معني به الآمرون بطرد الضعفة.
وقوله سبحانه: { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم... } الآية: أمر الله سبحانه نبيه عليه السلام ؛ أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه، و { تدعون }: معناه تعبدون، ويحتمل أن يريد: تدعون في أموركم، وذلك من معنى العبادة، واعتقادهم الأصنام آلهة.
وقوله تعالى: { قل إني على بينة من ربي }: المعنى: قل إني على أمر بين، { وكذبتم به } ، الضمير في «به» عائد على «بين»، أو على الرب، وقيل: على القرآن، وهو جلي، وقال بعض المفسرين: الضمير في «به» الثاني عائد على «ما»، والمراد بها الآيات المقترحة؛ على ما قال بعض المفسرين، وقيل: المراد به العذاب، وهو يترجح من وجهين:
أحدهما: من جهة المعنى؛ وذلك أن قوله: { وكذبتم به } يتضمن أنكم واقعتم ما تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي.
والآخر: من جهة لفظ الاستعجال الذي لم يأت في القرآن إلا للعذاب.
وأما اقتراحهم للآيات، فلم يكن باستعجال.
وقوله: { إن الحكم إلا لله } ، أي: القضاء والإنفاذ، و { يقص الحق } ، أي: يخبر به، والمعنى: يقص القصص الحق، وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما: «يقضي الحق»، أي: ينفذه.
[6.58-59]
وقوله سبحانه: { قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم }: المعنى: لو كان عندي الآيات المقترحة، أو العذاب؛ على التأويل الآخر، لقضي الأمر، أي: لوقع الانفصال، وتم النزاع؛ لظهور الآية المقترحة، أو لنزول العذاب؛ بحسب التأويلين، وقيل: المعنى: لقامت القيامة، وقوله: { والله أعلم بالظلمين }: يتضمن الوعيد والتهديد.
وقوله تعالى: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو }: مفاتح: جمع مفتح، وهذه استعارة؛ عبارة عن التوصل إلى الغيوب؛ كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب، ولو كان جمع «مفتاح»، لقال: مفاتيح، ويظهر أيضا أن «مفاتح» جمع «مفتح» بفتح الميم ، أي: مواضع تفتح عن المغيبات؛ ويؤيد هذا قول السدي وغيره: { مفاتح الغيب }: خزائن الغيب، فأما مفتح بالكسر ، فهو بمعنى مفتاح، قال الزهراوي: ومفتح أفصح، وقال ابن عباس وغيره: الإشارة بمفاتح الغيب هي إلى الخمسة في آخر لقمان:
إن الله عنده علم الساعة...
[لقمان:34] الآية، قلت: وفي «صحيح البخاري»، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فى الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } [لقمان:34] "
انتهى.
وقوله سبحانه: { من ورقة } ، أي: من ورق النبات، { ولا حبة في ظلمت الأرض } ، يريد: في أشد حال التغيب، وحكى بعض الناس عن جعفر بن محمد قولا: أن الورقة يراد بها السقط من أولاد بني آدم، والحبة: يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب يراد به الحي، واليابس يراد به الميت، وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد، ولا ينبغي أن يلتفت إليه.
وقوله تعالى: { إلا في كتب مبين } ، قيل: يعني كتابا على الحقيقة، ووجه الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحفظة، وذلك أنه روي أن الحفظة يرفعون ما كتبوه، ويعارضونه بهذا الكتاب المشار إليه؛ ليتحققوا صحة ما كتبوه، وقيل: المراد بقوله: { إلا في كتب }: علم الله عز وجل المحيط بكل شيء.
قال الفخر: وهذا هو الأصوب، ويجوز أن يقال: ذكر تعالى ما ذكر من الورقة والحبة؛ تنبيها للمكلفين على أمر الحساب. انتهى.
قال مكي: قال عبد الله بن الحارث: ما في الأرض شجر، ولا مغرز إبرة إلا عليها ملك، موكل، يأتي الله بعلمها بيبسها إذا يبست، ورطوبتها إذا رطبت.
وقيل: المعنى في كتبها؛ أنه لتعظيم الأمر، ومعناه: اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب؛ فكيف ما فيه ثواب أو عقاب. انتهى من «الهداية».
[6.60-64]
وقوله سبحانه: { وهو الذي يتوفكم باليل } ، يعني به: النوم، و { يعلم ما جرحتم } ، أي: ما كسبتم بالنهار، ويحتمل أن يكون { جرحتم } هنا من الجرح؛ كأن الذنب جرح في الدين، والعرب تقول:
....................
وجرح اللسان كجرح اليد
و { يبعثكم }: يريد به الإيقاظ، والضمير في { فيه } عائد على النهار؛ قاله مجاهد وغيره، ويحتمل أن يعود الضمير على التوفي، أي: يوقظكم في التوفي، أي: في خلاله وتضاعيفه؛ قاله عبد الله بن كثير.
و { ليقضى أجل مسمى }: المراد به آجال بني آدم، { ثم إليه مرجعكم }؛ يريد: بالبعث والنشور، { ثم ينبئكم } ، أي: يعلمكم إعلام توقيف، ومحاسبة، ففي هذه الآية إيضاح الآيات المنصوبة للنظر، وفيها ضرب مثال للبعث من القبور؛ لأن هذا أيضا إماتة وبعث على نحو ما.
وقوله سبحانه: { وهو القاهر فوق عباده }: القاهر إن أخذ صفة فعل، أي: مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب، فيصح أن تجعل { فوق } ظرفية للجهة؛ لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها العباد من فوقهم، وإن أخذ { القاهر } صفة ذات، بمعنى القدرة والاستيلاء، ف { فوق }: لا يجوز أن تكون للجهة، وإنما هي لعلو القدر والشأن؛ على حد ما تقول: الياقوت فوق الحديد، والأحرار فوق العبيد، و { يرسل عليكم }: معناه: يبثهم فيكم، و { حفظة }: جمع حافظ، والمراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال، وروي أنهم الملائكة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:
" يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار "
؛ وقال السدي وقتادة، وقال بعض المفسرين: حفظة يحفظون الإنسان من كل شيء؛ حتى يأتي أجله، والأول أظهر.
وقرأ حمزة وحده: «توفاه».
وقوله تعالى: { رسلنا }: يريد به؛ على ما ذكر ابن عباس، وجميع أهل التأويل: ملائكة مقترنين بملك الموت، يعاونونه ويأتمرون له، { ثم ردوا } ، أي: العباد، { إلى الله مولهم } ، وقوله: { الحق }: نعت ل { مولهم } ، ومعناه: الذي ليس بباطل، ولا مجاز، { ألا له الحكم }: كلام مضمنه التنبيه، وهز النفوس، { وهو أسرع الحسبين }: قيل لعلي (رضي الله عنه): كيف يحاسب الله العباد في يوم واحد؟! قال: كما يرزقهم في الدنيا في يوم واحد.
وقوله تعالى: { قل من ينجيكم من ظلمت البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية... } الآية: هذا تماد في توبيخ العادلين بالله الأوثان، وتركهم عبادة الرحمن الذي ينجي من الهلكات، ويلجأ إليه في الشدائد، ودفع الملمات، و { ظلمت البر والبحر }: يريد بها شدائدهما، فهو لفظ عام يستغرق ما كان من الشدائد؛ بظلمة حقيقية، وما كان بغير ظلمة، والعرب تقول: عام أسود، ويوم مظلم، ويوم ذو كواكب، يريدون به الشدة، قال قتادة وغيره: المعنى: من كرب البر والبحر، وتدعونه: في موضع الحال، والتضرع: صفة بادية على الإنسان، وخفية: معناه: الاختفاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «وخفية» بكسر الخاء ، وقرأ الأعمش: «وخيفة»؛ من الخوف.
وقوله سبحانه: { قل الله ينجيكم منها... } الآية: سبق في المجادلة إلى الجواب؛ إذ لا محيد عنه، { ومن كل كرب }: لفظ عام أيضا، ليتضح العموم الذي في «الظلمات»، { ثم أنتم } ، أي: ثم بعد معرفتكم بهذا كله، وتحققكم له ، أنتم تشركون.
[6.65-67]
وقوله تعالى: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم... } الآية: هذا إخبار يتضمن الوعيد، والأظهر من نسق الآيات: أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم، وهو مذهب الطبري.
وقال أبي بن كعب، وجماعة: هو للمؤمنين، وهم المراد.
وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين والمؤمنين؛ وفي «البخاري» وغيره من حديث جابر وغيره:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما نزلت الآية: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } ، قال: أعوذ بوجهك، فلما نزلت: { أو من تحت أرجلكم } ، قال: أعوذ بوجهك، فلما نزلت: { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } قال: هذه أهون أو أيسر "
؛ فاحتج بهذا الحديث من قال: إنها نزلت في المؤمنين، قال الطبري وغيره: ممتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار، وهون الثالثة؛ لأنها بالمعنى هي التي دعا فيها، فمنع حسب حديث «الموطإ» وغيره، و { من فوقكم أو من تحت أرجلكم }: لفظ عام للمنطبقين على الإنسان، وقال السدي، عن أبي مالك: { من فوقكم }: الرجم، { أو من تحت أرجلكم }: الخسف؛ وقاله سعيد بن جبير ومجاهد.
وقوله سبحانه: { أو يلبسكم شيعا }: معناه: يخلطكم فرقا، والبأس: القتل، وما أشبهه من المكاره، وفي قوله تعالى: { انظر كيف نصرف الأيت }: استرجاع لهم، وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل؛ إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم، والفقه: الفهم.
وقوله تعالى: { وكذب به قومك وهو الحق } ، الضمير في { به } عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات؛ قاله السدي، وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يعود الضمير على الوعيد الذي تضمنته الآية، ونحا إليه الطبري، وقوله: { قل لست عليكم بوكيل }: معناه: لست بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان والهدى، وهذا كان قبل نزول آيات الجهاد والأمر بالقتال، ثم نسخ.
وقوله سبحانه: { لكل نبإ مستقر }: أي: غاية يعرف عندها صدقه من كذبه، و { سوف تعلمون }: تهديد محض ووعيد.
[6.68-69]
وقوله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في ءايتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره }: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون داخلون في الخطاب معه، هذا هو الصحيح؛ لأن علة النهي، وهي سماع الخوض في آيات الله، تشملهم وإياه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم هو والمؤمنون أن ينابذوا الكفار بالقيام عنهم، إذا استهزءوا وخاضوا؛ ليتأدبوا بذلك، ويدعوا الخوض والاستهزاء، قلت: ويدل على دخول المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخطاب قوله تعالى:
وقد نزل عليكم في الكتب أن إذا سمعتم ءايت الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره
[النساء:140]. انتهى.
والخوض: أصله في الماء، ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل؛ تشبيها بغمرات الماء.
{ وإما ينسينك }: «إما»: شرط، وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب، وقرأ ابن عامر وحده: «ينسينك» بتشديد السين، وفتح النون ، والمعنى واحد إلا أن التشديد أكثر مبالغة، و { الذكرى } والذكر واحد في المعنى، ووصفهم ب { الظلمين } متمكن؛ لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، و { أعرض }؛ في هذه الآية: بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض، وأكمل وجوهه؛ ويدل على ذلك: { فلا تقعد }.
وقوله سبحانه: { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } ، وروي أنه لما نزلت:
فلا تقعدوا معهم
[النساء:140] قال المؤمنون إذا كنا لا نقرب المشركين، ولا نسمع أقوالهم، فلا يمكننا طواف ولا قضاء عبادة في الحرم، فنزلت لذلك: { وما على الذين يتقون... } الآية.
قال * ع *: فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج إليه من التصرف بين المشركين في عبادة ونحوها، وقيل: إن هذه الآية الأخيرة ليست إباحة بوجه، وإنما معناها: لا تقعدوا معهم، ولا تقربوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود؛ لأن عليكم شيئا من حسابهم، وإنما هو ذكرى لكم، ويحتمل المعنى: ولكن ذكرى لعلهم إذا جانبتموهم، يتقون بالإمساك عن الاستهزاء، ويحتمل المعنى: ولكن ذكروهم ذكرى، وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين، وأهل الجدل والخوض فيه، وحكى الطبري، عن أبي جعفر؛ أنه قال: «لا تجالسوا أهل الخصومات؛ فإنهم الذين يخوضون في آيات الله»، وفي الحديث، عنه صلى الله عليه وسلم:
" أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء؛ وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب؛ وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه "
، خرجه أبو داود. انتهى من «الكوكب الدري»، وقد ذكرنا هذا الحديث من غير طريق أبي داود بلفظ أوضح من هذا.
[6.70-73]
وقوله سبحانه: { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا }: هذا أمر بالمتاركة، وكان ذلك بحسب قلة المسلمين يومئذ، قال قتادة: ثم نسخ ذلك، وما جرى مجراه بالقتال، وقال مجاهد: الآية إنما هي للتهديد والوعيد، فهي كقوله تعالى:
ذرني ومن خلقت وحيدا
[المدثر:11]، وليس فيها نسخ؛ لأنها متضمنة خبرا، وهو التهديد، { وغرتهم الحيوة الدنيا } ، أي: خدعتهم من الغرور، وهو الأطماع بما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله وإمهاله، وطمعهم ذلك فيما لم يتحصل من رحمته، واعلم أن أعقل العقلاء مؤمن مقبل على آخرته قد جعل الموت نصب عينيه، ولم يغتر بزخارف الدنيا؛ كما اغتر بها الحمقى، بل جعل همه واحدا؛ هم المعاد وما هو صائر إليه؛ وقد روى البزار في مسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من جعل الهموم هما واحدا؛ هم المعاد، كفاه الله هم الدنيا، ومن تشعبت به الهموم؛ هموم الدنيا، لم يبال الله تعالى في أي أوديتها هلك "
انتهى من «الكوكب الدري».
وقوله سبحانه: { وذكر به }: أي بالقرآن، وقيل: الضمير في { به } به عائد على الدين، و { أن تبسل } في موضع المفعول له، أي: لئلا تبسل، ومعناه: تسلم؛ قاله الحسن وعكرمة وقال قتادة: تحبس وترهن، وقال ابن عباس: تفضح، وقال ابن زيد: تجزى، وهذه كلها متقاربة المعنى؛ ومنه قول الشنفرى: [الطويل]
هنالك لا أرجو حياة تسرني
سمير الليالي مبسلا بالجرائر
وباقي الآية بين.
{ وإن تعدل كل عدل } ، أي: وإن تعط كل فدية، وإن عظمت، فتجعلها عدلا لها، لا يقبل منها، وقال أبو عبيدة: { وإن تعدل } ، هو من العدل المضاد للجور؛ ورده الطبري بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة.
قال * ع *: ولا يلزم هذا الرد، لأن الأمر إنما هو يوم القيامة، ولا تقبل فيه توبة، ولا عمل. قلت: وأجلى من هذا أن يحمل كلام أبي عبيدة على معنى أنه لا يقبل منها عدلها؛ لاختلال شرطه، وهو الإيمان، و { أبسلوا }: معناه: أسلموا بما اجترحوه من الكفر، والحميم: الماء الحار؛ ومنه: الحمام، والحمة.
وقوله سبحانه: { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } ، المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله، والدعاء: يعم العبادة وغيرها؛ لأن من جعل شيئا موضع دعائه، فإياه يعبد، وعليه يتوكل، و { ما لا ينفعنا ولا يضرنا }: يعني: الأصنام، { ونرد على أعقبنا }: تشبيه بمشي القهقرى، وهي المشية الدنية؛ فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر.
وقوله سبحانه: { كالذي استهوته الشيطين } في الكلام حذف، تقديره: ردا كرد الذي، و { استهوته }: بمعنى: استدعت هواه وأمالته، و { هدانا }: بمعنى: أرشدنا، فسياق هذا المثل كأنه قال: أيصلح أن نكون بعد الهدى نعبد الأصنام؛ فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب؛ فنكون كرجل على طريق واضح، فاستهوته عنه الشياطين، فخرج عنه إلى دعوتهم، فبقي حائرا.
وقوله: { له أصحب }: يريد: له أصحاب على الطريق الذي خرج منه، فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس، و { ائتنا } من الإتيان، بمعنى المجيء، وقول من قال: إن المراد ب { الذي }؛ في هذه الآية: عبد الرحمن بن أبي بكر: وبالأصحاب: أبواه قول ضعيف؛ يرده قول عائشة في الصحيح: «ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي»، قلت: تريد وقصة الغار؛
إذ يقول لصاحبه
[التوبة:40]، وقوله:
ولا يأتل أولوا الفضل منكم...
[النور:22]؛ إذ نزلت في شأن أبي بكر، وشأن مسطح.
قال * ع *: حدثني أبي (رضي الله عنه) قال: سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة، يقول: من نازع أحدا من الملحدين ، فإنما ينبغي أن يرد عليه بالقرآن والحديث؛ فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: { ائتنا } ، ومن ينازعهم بالجدل، ويحلق عليهم به، فكأنه بعد من الطريق الواضح أكثر، ليرد هذا الزائغ، فهو يخاف عليه أن يضل.
قال * ع *: وهذال انتزاع حسن جدا، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } ، أي: لم يخلقها باطلا لغير معنى، بل لمعان مفيدة، وحقائق بينة.
وقوله سبحانه: { ويوم يقول } «يوم»: نصب على الظرف، وتقدير الكلام: واذكر الخلق والإعادة يوم، وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها، واذكر الإعادة يوم يقول الله للأجساد: كوني معادة.
وقوله تعالى: { يوم ينفخ في الصور } ، الجمهور أن الصور هو القرن الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
" إنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث "
، وباقي الآية بين.
[6.74-75]
وقوله تعالى: { وإذ قال إبرهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة إني أرك وقومك في ضلل مبين } ، قال الطبري: نبه الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بإبراهيم في محاجته قومه؛ إذ كانوا أهل أصنام، وكان قوم النبي صلى الله عليه وسلم أهل أصنام، وقوله: { أصناما ءالهة }: مفعولان، وذكر أن آزر أبا إبراهيم عليه السلام كان نجارا محسنا، ومهندسا، وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم، فحظي عنده آزر لذلك، وكان على خطة عمل الأصنام تعمل بأمره وتدبيره، ويطبع هو في الصنم بختم معلوم عنده؛ وحينئذ يعبد ذلك الصنم، فلما نشأ إبراهيم ابنه على الصفة التي تأتي بعد، كان أبوه يكلفه ببيعها، فكان إبراهيم ينادي عليها: من يشتري ما يضره ولا ينفعه، ويستخف بها، ويجعلها في الماء منكوسة، ويقول لها: اشربي، فلما اشتهر أمره بذلك، وأخذ في الدعاء إلى الله عز وجل، قال لأبيه هذه المقالة، و { أرك }؛ في هذا الموضع: يشترك فيها القلب والبصر، و { مبين }: بمعنى: ظاهر واضح.
وقوله سبحانه: { وكذلك نري إبرهيم ملكوت السموات والأرض }: الآية المتقدمة تقضي بهداية إبراهيم عليه السلام ، والإشارة ب «ذلك» هي إلى تلك الهداية، أي: وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر، أريناه ملكوت، و { نري }: لفظها: الاستقبال، ومعناها: المضي، وهذه الرؤية قيل: هي رؤية البصر، وروي في ذلك؛ أن الله عز وجل فرج لإبراهيم عليه السلام السموات والأرض؛ حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى، والملكوت الأسفل؛ وهذا هو قول مجاهد قال: تفرجت له السموات والأرضون، فرأى مكانه في الجنة، وبه قال سعيد بن جبير، وسلمان الفارسي، وقيل: هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت، وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب: ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقيل: هي رؤية قلب، رأى بها ملكوت السموات والأرض بفكرته ونظره، و { ملكوت }: بناء مبالغة، وهو بمعنى الملك، والعرب تقول: لفلان ملكوت اليمن، أي: ملكه، واللام في: { ليكون }: متعلقة بفعل مؤخر، تقديره: وليكون من الموقنين، أريناه، والموقن: العالم بالشيء علما لا يمكن أن يطرأ له فيه شك، وروي عن ابن عباس في تفسير: { وليكون من الموقنين } قال: جلى له الأمور سرها وعلانيتها، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب، قال الله له: إنك لا تستطيع هذا، فرده لا يرى أعمالهم.
[6.76-79]
وقوله سبحانه: { فلما جن عليه اليل رءا كوكبا قال هذا ربي } الآية: جن الليل: ستر وغطى بظلامه، ذهب ابن عباس وناس كثيرون إلى أن هذه القصة وقعت في حال صباه وقبل البلوغ والتكليف، ويحتمل أن تكون وقعت له بعد بلوغه وكونه مكلفا، وحكى الطبري هذا عن فرقة، وقالت: إنه استفهم قومه؛ على جهة التوقيف والتوبيخ، أي: هذا ربي، وحكي أن النمرود جبار ذلك الزمان رأى له منجموه أن مولودا يولد في سنة كذا في عمله يكون خراب الملك على يديه، فجعل يتتبع الحبالى، ويوكل بهن حراسا، فمن وضعت أنثى، تركت، ومن وضعت ذكرا، حمل إلى الملك فذبحه، وأن أم إبراهيم حملت، وكانت شابة قوية، فسترت حملها، فلما قربت ولادتها، بعثت أبا إبراهيم إلى سفر، وتحيلت لمضيه إليه، ثم خرجت هي إلى غار، فولدت فيه إبراهيم، وتركته في الغار، وكانت تتفقده فوجدته يتغذى بأن يمص أصابعه، فيخرج له منها عسل وسمن ونحو هذا، وحكي: بل كان يغذيه ملك، وحكي: بل كانت أمه تأتيه بألبان النساء التي ذبح أبناؤهن، والله أعلم، أي ذلك كان، فشب إبراهيم أضعاف ما يشب غيره، والملك في خلال ذلك يحس بولادته، ويشدد في طلبه، فمكث في الغار عشرة أعوام، وقيل: خمس عشرة سنة، وأنه نظر أول ما عقل من الغار، فرأى الكواكب، وجرت قصة الآية، والله أعلم.
فإن قلنا بأنه وقعت له القصة في الغار في حال الصبا، وعدم التكليف؛ على ما ذهب إليه بعض المفسرين، ويحتمله اللفظ، فذلك ينقسم على وجهين: إما أن يجعل قوله: { هذا ربي } تصميما واعتقادا، وهذا باطل؛ لأن التصميم على الكفر لم يقع من الأنبياء صلوات الله عليهم ، وإما أن نجعله تعريضا للنظر والاستدلال؛ كأنه قال: أهذا المنير البهي ربي؛ إن عضدت ذلك الدلائل.
وإن قلنا: إن القصة وقعت له في حال كبره، وهو مكلف، فلا يجوز أن يقول هذا مصمما ولا معرضا للنظر؛ لأنها رتبة جهل أو شك، وهو عليه السلام منزه معصوم من ذلك كله؛ فلم يبق إلا أن يقولها على جهة التقرير لقومه والتوبيخ لهم، وإقامة الحجة عليهم في عبادة الأصنام؛ كأنه قال: أهذا المنير ربي، وهو يريد: على زعمكم؛ كما قال تعالى:
أين شركائي
[النحل:27]، أي: على زعمكم، ثم عرض إبراهيم عليهم من حركة الكوكب وأفوله أمارة الحدوث، وأنه لا يصلح أن يكون ربا، ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك، ثم في الشمس كذلك؛ فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المنيرات الرفيعة؛ أنها لا تصلح للربوبية، فأصنامكم التي هي خشب وحجارة أحرى أن يبين ذلك فيها؛ ويعضد عندي هذا التأويل قوله: { إني بريء مما تشركون } ، قلت: وإلى ترجيح هذا أشار عياض في «الشفا»؛ قال: وذهب معظم الحذاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكتا لقومه، ومستدلا عليهم.
قال * ع *: ومثل لهم بهذه الأمور؛ لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك، وهذا الأمر كله إنما وقع في ليلة واحدة، رأى الكوكب، وهو الزهرة في قول قتادة، وقال السدي: هو المشتري جانحا إلى الغروب، فلما أفل بزغ القمر، وهو أول طلوعه، فسرى الليل أجمع، فلما بزغت الشمس، زال ضوء القمر قبلها؛ لانتشار الصباح، وخفي نوره، ودنا أيضا من مغربه، فسمى ذلك أفولا؛ لقربه من الأفول التام؛ على تجوز في التسمية، وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشر من الشهر إلى ليلة عشرين، وليس يترتب في ليلة واحدة؛ كما أجمع أهل التفسير، إلا في هذه الليالي، وبذلك يصح التجوز في أفول القمر، «وأفل»؛ في كلام العرب: معناه: غاب، وقيل: معناه: ذهب، وهذا خلاف في العبارة فقط، والبزوغ في هذه الأنوار: أول الطلوع، وما في كون هذا الترتيب في ليلة من التجوز في أفول القمر؛ لأن أفوله لو قدرناه مغيبه، لكان ذلك بعد بزوغ الشمس، وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار، و { يهدني }: يرشدني؛ وهذا اللفظ يؤيد قول من قال: إن القصة في حال الصغر، والقوم الضالون هنا عبدة المخلوقات؛ كالأصنام وغيرها، ولما أفلت الشمس، لم يبق شيء يمثل لهم به، فظهرت حجته، وقوي بذلك على منابذتهم والتبري من إشراكهم، وقوله: { إني بريء مما تشركون }: يؤيد قول من قال: إن القصة في حال الكبر والتكليف، و { وجهت وجهي } ، أي: أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني للذي فطر السموات والأرض، أي: اخترعها و { حنيفا }: أي مستقيما، والحنف: الميل؛ فكأنه مال عن كل جهة إلى القوام.
[6.80-82]
وقوله تعالى: { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله } ، أي: أتراجعوني في الحجة في توحيد الله، { وقد هدن } ، أي: قد أرشدني إلى معرفته وتوحيده، { ولا أخاف ما تشركون به } ، الضمير في { به } يعود على { الله } والمعنى: ولا أخاف الأصنام التي تشركونها بالله في الربوبية، ويحتمل أن يعود على «ما»، والتقدير: ما تشركون بسببه، وقوله: { إلا أن يشاء ربي شيئا }: استثناء ليس من الأول، و { شيئا }: منصوب ب { يشاء } ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضررا، استثنى مشيئة ربه تعالى في أن يريده بضر، و { علما }: نصب على التمييز، وهو مصدر بمعنى الفاعل؛ كما تقول العرب: تصبب زيد عرقا، المعنى: تصبب عرق زيد؛ فكذلك المعنى هنا وسع علم ربي كل شيء، { أفلا تتذكرون }: توقيف وتنبيه وإظهار لموضع التقصير منهم، وقوله: { وكيف أخاف ما أشركتم... } الآية إلى { تعلمون } ، هي كلها من قول إبراهيم عليه السلام لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، والمعنى: وكيف أخاف أصناما لا خطب لها، إذ نبذتها، ولا تخافون أنتم الله عز وجل، وقد أشركتم به في الربوبية { ما لم ينزل به عليكم سلطنا } والسلطان: الحجة، ثم استفهم؛ على جهة التقرير: { فأي الفريقين } ، مني ومنكم { أحق بالأمن } ، قال أبو حيان: { وكيف }: استفهام، معناه التعجب والإنكار. انتهى.
وقوله سبحانه: { الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمنهم بظلم... } الآية، قال ابن إسحاق، وابن زيد، وغيرهما: هذا قول من الله عز وجل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة إبراهيم وغيره، ولكل مؤمن تقدم أو تأخر.
قال * ع *: هذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية، ويحسن رصفها، وهو خبر من الله عز وجل، و { يلبسوا }: معناه: يخلطوا، والظلم؛ في هذا الموضع: الشرك؛ تظاهرت بذلك الأحاديث الصحيحة، وفي قراءة مجاهد: «ولم يلبسوا إيمانهم بشرك» { وهم مهتدون } ، أي: راشدون.
[6.83-86]
وقوله تعالى: { وتلك حجتنا ءاتينها إبرهيم على قومه }: «تلك»: إشارة إلى هذه الحجة المتقدمة.
وقوله سبحانه: { نرفع درجت من نشاء } ، «الدرجات»: أصلها في الأجسام، ثم تستعمل في المراتب والمنازل المعنوية.
وقوله سبحانه: { ووهبنا له إسحق ويعقوب... } الآية: { ووهبنا }: عطف على «آتينا» وإسحاق ابنه من سارة، ويعقوب هو ابن إسحاق، وقوله: { ومن ذريته }: المعنى: وهدينا من ذريته، والضمير في { ذريته } ، قال الزجاج: جائز أن يعود على إبراهيم، ويعترض هذا بذكر لوط عليه السلام ؛ إذ ليس هو من ذرية إبراهيم، بل هو ابن أخيه، وقيل: ابن أخته، ويتخرج ذلك عند من يرى الخال أبا، وقيل: يعود الضمير على نوح، وهذا هو الجيد، ونصب { داوود }: يحتمل أن يكون ب { وهبنا } ، ويحتمل أن يكون ب { هدينا } ، { وكذلك نجزي المحسنين }: وعد من الله عز وجل لمن أحسن في عبادته، وترغيب في الإحسان، وفي هذه الآية أن عيسى عليه السلام من ذرية نوح أو إبراهيم؛ بحسب الاختلاف في عود الضمير من { ذريته } ، وهو ابن ابنة؛ وبهذا يستدل في الأحباس على أن ولد البنت من الذرية، ويونس هو ابن متى، { وكلا فضلنا على العلمين }: معناه: عالمي زمانهم.
[6.87-90]
وقوله سبحانه: { ومن ءابآئهم وذريتهم }: المعنى: وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات، ف «من» للتبعيض، والمراد: من آمن منهم، نبيا كان أو غير نبي، و { اجتبيناهم } ، أي: تخيرناهم وهديناهم، أي: أرشدناهم إلى الإيمان، والفوز برضا الله عز وجل، والذرية: الأبناء، ويطلق على جميع البشر ذرية؛ لأنهم أبناء.
وقوله تعالى: { ذلك هدى الله... } الآية: { ذلك }: إشارة إلى النعمة في قوله: { واجتبينهم } و { أولئك }: إشارة إلى من تقدم ذكره، والكتاب يراد به الصحف والتوراة والإنجيل والزبور.
وقوله سبحانه: { فإن يكفر بها هؤلآء }: إشارة إلى كفار قريش، وإلى كل كافر في ذلك العصر؛ قاله ابن عباس وغيره، وقوله: { فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكفرين }: هم مؤمنو أهل المدينة؛ قاله ابن عباس وغيره، والآية على هذا التأويل، وإن كان القصد بنزولها هذين الصنفين، فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الحسن وغيره: المراد ب «القوم»: من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين، وقال أبو رجاء: المراد: الملائكة.
قلت: ويحتمل أن يكون المراد الجميع.
وقوله سبحانه: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ، والظاهر في الإشارة ب { أولئك } إلى المذكورين قبل من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين، ومعنى الاقتداء: اتباع الأثر في القول والفعل والسيرة، وإنما يصح اقتداؤه صلى الله عليه وسلم بجميعهم في العقود، والإيمان، والتوحيد الذي ليس بينهم فيه اختلاف، وأما أعمال الشرائع فمختلفة، وقد قال عز وجل:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهجا
[المائدة:48]، واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره مخاطب بشرع من قبله في العقود والإيمان والتوحيد؛ لأنا نجد شرعنا ينبىء أن الكفار الذين كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم كأبويه وغيرهما في النار، ولا يدخل الله تعالى أحدا النار إلا بترك ما كلف، وذلك في قوله سبحانه:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
[الإسراء:15]، وغير ذلك، وقاعدة المتكلمين: أن العقل لا يوجب ولا يكلف، وإنما يوجب الشرع، فالوجه في هذا أن يقال: إن آدم عليه السلام فمن بعده، دعا إلى توحيد الله (عز وجل) دعاء عاما، واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع الآمر بتوحيد الله تعالى، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك؛ بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن، ولا يعبد غير الله، فمن فرضناه لم يجد سبيلا إلى العلم بشرع آمر بتوحيد الله، وهو مع ذلك لم يكفر، ولا عبد صنما، بل تخلى، فأولئك أهل الفترات الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث، فعبد صنما أو غيره، وكفر، فهو تارك للواجب عليه، مستوجب للعقاب بالنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ومن كان معه من الناس وقبله مخاطبون على ألسنة الأنبياء قبل بالتوحيد، وغير مخاطبين بفروع شرائعهم؛ إذ هي مختلفة، وإذ لم يدعهم إليها نبي؛ قال الفخر: واحتج العلماء بهذه الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام ؛ وتقريره: أنا بينا أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم، ثم إنه تعالى، لما ذكر الكل، أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجمع من خصال الطاعة والعبودية والأخلاق الحميدة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، ولما أمره الله تعالى بذلك، امتنع أن يقال: إنه قصر في تحصيلها؛ فثبت أنه حصلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه من خصال الخير ما كان فيهم مفرقا بأسرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أن يقال: إنه أفضلهم بكليتهم؛ والله أعلم.
انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي: «فبهداهم اقتد» بحذف الهاء في الوصل، وإثباتها في الوقف ، وهذا هو القياس شبيهة بألف الوصل في أنها تقطع في الابتداء، وتسقط في الوصل.
وقوله سبحانه: { قل لا أسألكم عليه أجرا } ، أي: قل لهؤلاء الكفرة المعاندين: لا أسألكم على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة الله تعالى أجرة؛ إن هو إلا موعظة وذكرى ودعاء لجميع العالمين.
[6.91-92]
وقوله سبحانه: { وما قدروا الله حق قدره... } الآية: قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في بني إسرائيل، قال النقاش: وهي آية مدنية، وقيل: المراد رجل مخصوص منهم، يقال له مالك بن الضيف؛ قاله ابن جبير، وقيل: فنحاص؛ قاله السدي، و { قدروا }: هو من توفية القدر والمنزلة، وتعليله بقولهم: { ما أنزل الله }: يقضي بأنهم جهلوا، ولم يعرفوا الله حق معرفته؛ إذ أحالوا عليه بعثة الرسل، قال الفخر: قال ابن عباس: { ما قدروا الله حق قدره } ، أي: ما عظموا الله حق تعظيمه، وقال الأخفش: ما عرفوه حق معرفته، وقال أبو العالية: ما وصفوه حق قدرته وعظمته، وهذه المعاني كلها صحيحة. انتهى، وروي أن مالك بن الصيف كان سمينا، فجاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بزعمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنشدك الله، ألست تقرأ فيما أنزل على موسى: إن الله يبغض الحبر السمين "
، فغضب، وقال: «والله ما أنزل الله على بشر من شيء»، قال الفخر: وهذه الآية تدل على أن النكرة في سياق النفي تعم، ولو لم تفد العموم، لما كان قوله تعالى: { قل من أنزل الكتب الذي جاء به موسى نورا } إبطالا لقولهم ونقضا عليهم. انتهى.
وقوله تعالى: { قل من أنزل الكتب } ، يعني: التوراة، و { قرطيس }: جمع قرطاس، أي: بطائق وأوراقا، وتوبيخهم بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وجميع ما عليهم فيه حجة.
وقوله سبحانه: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم } ، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقصد به الامتنان عليهم، وعلى آبائهم.
والوجه الثاني: أن يكون المقصود ذمهم، أي: وعلمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه، فما انتفعتم به؛ لإعراضكم وضلالكم.
ثم أمره سبحانه بالمبادرة إلى موضع الحجة، أي: قل الله هو الذي أنزل الكتاب على موسى، ثم أمره سبحانه بترك من كفر، وأعرض، وهذه آية منسوخة بآية القتال؛ إن تؤولت موادعة، ويحتمل ألا يدخلها نسخ إذا جعلت تتضمن تهديدا ووعيدا مجردا من موادعة.
وقوله سبحانه: { وهذا كتب أنزلنه مبارك }: «هذا»: إشارة إلى القرآن، وقوله: { مصدق الذي بين يديه } ، يعني: التوراة والإنجيل؛ لأن ما تقدم، فهو بين يدي ما تأخر، و { أم القرى }: مكة، ثم ابتدأ تبارك وتعالى بمدح قوم وصفهم، وأخبر عنهم؛ أنهم يؤمنون بالآخرة والبعث والنشور، ويؤمنون بالقرآن، ويصدقون بحقيقته، ثم قوى عز وجل مدحهم بأنهم يحافظون على صلاتهم التي هي قاعدة العبادات، وأم الطاعات، وإذا انضافت الصلاة إلى ضمير، لم تكتب إلا بالألف، ولا تكتب في المصحف بواو إلا إذا لم تضف إلى ضمير.
وقد جاءت آثار صحيحة في ثواب من حافظ على صلاته، وفي فضل المشي إليها؛ ففي «سنن أبي داود»، عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة "
، وروى أبو داود أيضا بسنده، عن سعيد بن المسيب، قال: حضر رجلا من الأنصار الموت، فقال: إني محدثكم حديثا ما أحدثكموه إلا احتسابا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إذا توضأ أحدكم، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة، فليقرب أو ليبعد، فإن أتى المسجد، فصلى في جماعة، غفر له، فإن أتى المسجد، وقد صلوا بعضا، وبقي بعض، صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك فإن أتى المسجد، وقد صلوا، فأتم الصلاة، كان كذلك "
، وأخرج أبو داود، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من توضأ فأحسن وضوءه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله عز وجل مثل أجر من صلاها أو حضرها، لا ينقص ذلك من أجورهم "
انتهى.
[6.93]
وقوله سبحانه: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } ، هذه ألفاظ عامة، فكل من واقع شيئا مما يدخل تحت هذه الألفاظ، فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى، وقال قتادة وغيره: المراد بهذه الآيات مسيلمة، والأسود العنسي.
قال عكرمة: أولها في مسيلمة، والآخر في عبد الله بن أبي سرح، وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، وبالجملة فالآية تتناول من تعرض شيئا من معانيها إلى يوم القيامة؛ كطليحة الأسدي، والمختار بن أبي عبيد وسواهما.
وقوله تعالى: { ولو ترى إذ الظلمون في غمرات الموت... } الآية: جواب «لو» محذوف، تقديره: «لرأيت عجبا أو هولا، ونحو هذا، وحدف هذا الجواب أبلغ في نفس السامع، و { الظلمون } لفظ عام في أنواع الظلم الذي هو كفر، و «الغمرات»: جمع غمرة، وهي المصيبة المذهلة، وهي مشبهة بغمرة الماء، والملائكة، يريد: ملائكة قبض الروح، و { باسطوا أيديهم }: كناية عن مدها بالمكروه، وهذا المكروه هو لا محالة أوائل العذاب، وأماراته، قال ابن عباس: يضربون وجوههم وأدبارهم، وقوله: { أخرجوا أنفسكم }: حكاية لما تقوله الملائكة، والتقدير: يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم، وذلك على جهة الإهانة، وإدخال الرعب عليهم، ويحتمل: أخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن، إن كان ما زعمتموه حقا في الدنيا، وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم القبيح، قلت: والتأويل الأول هو الصحيح، وقد أسند أبو عمر في «التمهيد»، عن ابن وضاح، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثم ذكر سنده، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح، قالت: اخرجي، أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، قال: فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان.، ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء، يعني: السابعة، وإذا كان الرجل السوء، وحضرته الملائكة عند موته، قالت: اخرجي، أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج... "
وذكر الحديث. انتهى، و { الهون }: الهوان.
وقوله تعالى: { بما كنتم تقولون على الله غير الحق... } الآية: لفظ عام لأنواع الكفر، ولكنه يظهر منه الإنحاء على من قرب ذكره.
[6.94]
وقوله سبحانه: { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقنكم أول مرة... } الآية: هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم، واعلم أيها الأخ؛ أن هذه الآية الكريمة ونحوها من الآي، وإن كان مساقها في الكفار، فللمؤمن الموقن فيها معتبر ومزدجر، وقد قيل: إن القبر بحر الندامات، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من أحد يموت إلا ندم، قالوا: وما ندامته، يا رسول الله؟ قال: إن كان محسنا، ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئا، ندم ألا يكون نزع "
انتهى.
و { كما خلقنكم أول مرة }: تشبيها بالانفراد الأول في وقت الخلقة، و { خولنكم } ، معناه: أعطيناكم، و { وراء ظهوركم }: إشارة إلى الدنيا؛ لأنهم يتركون ذلك موجودا.
وقوله سبحانه: { وما نرى معكم شفعاءكم }: توقيف على الخطإ في عبادة الأصنام، واعتقادهم أنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى، قال أبو حيان: { وما نرى }: لفظه لفظ المستقبل، وهو حكاية حال. انتهى.
وقرأ نافع والكسائي: «بينكم» بالنصب ؛ على أنه ظرف، والتقدير: لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم، ونحو هذا، وهذا وجه واضح؛ وعليه فسره الناس؛ مجاهد وغيره، وقرأ باقي السبعة: «بينكم» بالرفع ، وقرأ ابن مسعود وغيره: «لقد تقطع ما بينكم»، و { ضل } ، معناه: تلف وذهب، و { ما كنتم تزعمون } ، يريد: دعواهم أنها تشفع، وأنها تشارك الله في الألوهية، تعالى الله عن قولهم.
[6.95-97]
وقوله سبحانه: { إن الله فالق الحب والنوى } ، هذا ابتداء تنبيه على العبرة والنظر، ويتصل المعنى بما قبله؛ لأن المقصد أن الله فالق الحب والنوى لا هذه الأصنام، قال قتادة وغيره: هذه إشارة إلى فعل الله سبحانه في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه، ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة منه.
وقوله: { يخرج الحي من الميت... } الآية: قال ابن عباس وغيره: الإشارة إلى إخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة، وإخراج النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك سائر الحيوان من الطير وغيره، وهذا القول أرجح ما قيل هنا.
وقوله سبحانه: { ذلكم الله } ابتداء وخبر متضمن التنبيه، { فأنى تؤفكون } ، أي: تصرفون وتصدون، و { فالق الإصباح } ، أي: شاقه ومظهره، والفلق: الصبح، و { حسبانا }: جمع حساب، أي: يجريان بحساب، هذا قول ابن عباس وغيره، وقال مجاهد في «صحيح البخاري»: المراد بحسبان كحسبان الرحى، وهو الدولاب والعود الذي عليه دورانه.
وقوله سبحانه: { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمت البر والبحر... } الآية: هذه المخاطبة تعم المؤمنين والكافرين، والحجة بها على الكافرين قائمة، والعبرة بها للمؤمنين متمكنة.
[6.98-99]
وقوله سبحانه: { وهو الذي أنشأكم من نفس وحدة } ، يريد: آدم عليه السلام ، { فمستقر ومستودع } ، اختلف المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع.
فقال الجمهور: مستقر في الرحم، ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي الله بخروجهم، قال ابن عون: مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض، فقالوا: قد توفي، فأخبرني بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله عن: { مستقر ومستودع } ، فقال: مستقر في الرحم، ومستودع في الصلب، وقال ابن عباس: المستقر: الأرض، والمستودع: عند الرحمن، وقال ابن جبير: المستودع: في الصلب، والمستقر في الآخرة، قال الفخر: والمنقول عن ابن عباس في أكثر الروايات أن المستقر هو الأرحام، والمستودع الأصلاب، ثم قرأ:
ونقر في الأرحام ما نشاء
[الحج:5] ومما يدل على قوة هذا القول؛ أن النطفة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا، والجنين في رحم الأم يبقى زمانا طويلا، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب، كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى. انتهى.
قال * ع *: والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه، وليس بمستقر فيه استقرارا مطلقا؛ لأنه يتنقل لا محالة، ثم ينتقل إلى الرحم، ثم ينتقل إلى الدنيا، ثم ينتقل إلى القبر، ثم ينتقل إلى المحشر، ثم ينتقل إلى الجنة أو النار، فيستقر في أحدهما استقرارا مطلقا ، وليس فيها مستودع؛ لأنه لا نقلة له بعد، وهو في كل رتبة متوسطة بين هذين الطرفين مستقر بالإضافة إلى التي قبلها، ومستودع بالإضافة إلى التي بعدها؛ لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها نقلة، ولا بد.
وقوله تعالى: { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } ، { السماء }؛ في هذا الموضع: السحاب، وكل ما أظلك فهو سماء، وقوله: { نبات كل شيء } ، قيل: معناه: مما ينبت، وقال الطبري: المراد ب { كل شيء }: كل ما ينمو من جميع الحيوان والنبات والمعادن، وغير ذلك؛ لأن ذلك كله يتعذى وينمو بنزول الماء من السماء، والضمير في { منه } يعود على النبات، وفي الثاني يعود على الخضر، و { خضرا }: بمعنى: أخضر؛ ومنه قوله عليه السلام :
" الدنيا خضرة حلوة "
، بمعنى: خضراء؛ وكأن خضرا إنما يأتي أبدا لمعنى النضارة، وليس للون فيه مدخل، وأخضر إنما تمكنه في اللون، وهو في النضارة تجوز، و { حبا متراكبا }: يعم جميع السنابل وما شاكلها؛ كالصنوبر، والرمان، وغير ذلك.
وقوله: { ومن النخل } ، تقديره: ونخرج من النخل والطلع أول ما يخرج من النخل، في أكمامه، و { قنون }: جمع قنو، وهو العذق بكسر العين ، وهي الكباسة، والعرجون: عوده الذي فيه ينتظم التمر، و { دانية }: معناه: قريبة من التناول؛ قاله ابن عباس وغيره.
وقرأ الجمهور: «وجنات» بالنصب ؛ عطفا على قوله: «نبات»، وروي عن عاصم: «وجنات» بالرفع ؛ على تقدير: ولكم جنات أو نحو هذا، { والزيتون والرمان } بالنصب إجماعا ؛ عطفا على قوله: «حبا»، و { مشتبها وغير متشابه } ، قال قتادة: معناه يتشابه في الورق ويتباين في الثمر، وقال الطبري: جائز أن يتشابه في الثمر ويتباين في الطعم، ويحتمل أن يريد يتشابه في الطعم ويتباين في المنظر، وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في أنواع الثمرات.
وقوله سبحانه: { انظروا } ، وهو نظر بصر تتركب عليه فكرة قلب، «والثمر»؛ في اللغة: جنى الشجر وما يطلع، وإن سمي الشجر: ثمارا، فبتجوز، وقرأ جمهور الناس: { وينعه } بفتح الياء ، وهو مصدر ينع يينع؛ إذا نضج، وبالنضج فسره ابن عباس، وقد يستعمل «ينع» بمعنى استقل واخضر ناضرا، قال الفخر: وقدم سبحانه الزرع؛ لأنه غذاء، والثمار فواكه وإنما قدم النخل على الفواكه؛ لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب. انتهى.
[6.100-102]
وقوله سبحانه: { وجعلوا لله شركاء الجن }: { جعلوا }: بمعنى صيروا، و { الجن }: مفعول، و { شركاء } مفعول ثان.
قال * ص *: { وجعلوا لله شركاء الجن }: { جعلوا }: بمعنى: صيروا، والجمهور على نصب «الجن»، فقال ابن عطية وغيره: هو مفعول أول ل { جعلوا } ، و { شركاء } الثاني، وجوزوا فيه أن يكون بدلا من { شركاء } ، و { لله } في موضع المفعول الثاني، و { شركاء } الأول، ورده أبو حيان؛ بأن البدل حينئذ لا يصح أن يحل محل المبدل منه؛ إذ لو قلت: وجعلوا لله الجن، لم يصح، وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل؛ على الأشهر، أو معمولا للعامل، في المبدل منه؛ على قول، وهذا لا يصح؛ كما ذكرنا، قلت: وفيه نظر. انتهى، قلت: وما قاله الشيخ أبو حيان عندي ظاهر، وفي نظر الصفاقسي نظر، وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله تعالى، والقائلين: إن الجن تعلم الغيب، العابدين للجن، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك، وتستجير بجن الوادي في أسفارها ونحو هذا، وأما الذين خرقوا البنين، فاليهود في ذكر عزير، والنصارى في ذكر المسيح، وأما ذاكرو البنات، فالعرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم؛ فكأن الضمير في { جعلوا } و { خرقوا }؛ لجميع الكفار؛ إذ فعل بعضهم هذا، وبعضهم هذا، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد، وقرأ الجمهور: «وخلقهم» بفتح اللام ؛ على معنى: وهو خلقهم، وفي مصحف ابن مسعود: «وهو خلقهم»، والضمير في { خلقهم } يحتمل العودة على الجاعلين، ويحتملها على المجعولين، وقرأ السبعة سوى نافع: «وخرقوا» بتخفيف الراء ؛ بمعنى اختلقوا وافتروا، وقرأ نافع: «وخرقوا» بتشديد الراء ؛ على المبالغة، وقوله: { بغير علم } نص على قبح تقحم المجهلة، وافتراء الباطل على عمى، و { سبحنه }: معناه: تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى، و { بديع }: بمعنى: مبدع، و { أنى }: بمعنى: كيف، وأين، فهي استفهام في معنى التوقيف والتقرير، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد .
وقوله سبحانه: { وخلق كل شىء } لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته، ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى، وكلامه، فليس هو عموما مخصصا؛ على ما ذهب إليه قوم؛ لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئا، ثم يخرجه التخصيص، وهذا لم يتناول قط هذه التي ذكرناها، وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان: قتلت كل فارس، وأفحمت كل خصم، فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه، وأما قوله: { وهو بكل شيء عليم } فهو عموم على الإطلاق؛ لأنه سبحانه يعلم كل شيء، لا رب غيره، وباقي الآية بين.
[6.103-107]
وقوله سبحانه: { لا تدركه الأبصر وهو يدرك الأبصر } ، أجمع أهل السنة على أن الله عز وجل يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلا، ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز، واختصار تبيين ذلك: أن يعتبر بعلمنا بالله عز وجل ؛ فمن حيث جاز أن نعلمه؛ لا في مكان، ولا متحيزا، ولا مقابلا، ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود، جاز أن نراه؛ غير مقابل، ولا محاذى، ولا مكيفا، ولا محددا، وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول: مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة، ثم ورد الشرع بذلك؛ كقوله عز وجل:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
[القيامة:22، 23]، وتعدية النظر ب «إلى» إنما هو في كلام العرب؛ لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار؛ على ما ذهب إليه المعتزلة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، وتواتر، وكثر نقله:
" إنكم ترون ربكم يوم القيامة؛ كما ترون القمر ليلة البدر "
، ونحوه من الأحاديث الصحيحة على اختلاف ألفاظها، واستمحل المعتزلة الرؤية بآراء مجردة، وتمسكوا بقوله تعالى: { لا تدركه الأبصر } وانفصال أهل السنة عن تمسكهم؛ بأن الآية مخصوصة في الدنيا، ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها؛ وأيضا فإنا نفرق بين معنى الإدراك، ومعنى الرؤية، ونقول: إنه عز وجل تراه الأبصار، ولا تدركه؛ وذلك أن الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء، والوصول إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل، والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي، ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله: { وهو يدرك الأبصر } ، ويحسن معناه، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي؛ أنهم فرقوا بين الرؤية والإدراك، و { اللطيف }: المتلطف في خلقه واختراعه، والبصائر: جمع بصيرة، فكأنه قال: قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق، والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين، والبصيرة أيضا هي المعتقد.
وقوله سبحانه: { فمن أبصر } ، و { من عمي }: عبارة مستعارة فيمن اهتدى، ومن ضل، وقوله: { وما أنا عليكم بحفيظ } كان في أول الأمر وقبل ظهور الإسلام، ثم بعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم حفيظا على العالم، آخذا لهم بالإسلام؛ أو السيف.
وقوله سبحانه: { وكذلك نصرف الأيت } أي: نرددها ونوضحها، وقرأ الجمهور: «وليقولوا درست» بكسر اللام ؛ على أنها لام كي، وهي على هذا لام الصيرورة، أي: لما صار أمرهم إلى ذلك، وقرأ نافع وغيره: «درست»، أي: يا محمد درست في الكتب القديمة ما تجيئنا به، وقرأ ابن كثير وغيره: «دارست»، أي: دارست غيرك وناظرته، وقرأ ابن عامر: «درست» بإسناد الفعل إلى الآيات ؛ كأنهم أشاروا إلى أنها ترددت على أسماعهم؛ حتى بليت في نفوسهم، وامحت، واللام في قوله: { ليقولوا } ، وفي قوله: { ولنبينه }: متعلقان بفعل متأخر، وتقديره: «صرفناها»، وذهب بعض الكوفيين إلى أن «لا»: مضمرة بعد «أن» المقدرة في قوله: { وليقولوا } ، فتقدير الكلام عندهم: ولأن لا يقولوا درست؛ كما أضمروها في قوله:
يبين الله لكم أن تضلوا
[النساء:176].
قال * ع *: وهذا قلق، ولا يجيز البصريون إضمار «لا» في موضع من المواضع.
قلت: ولكنه حسن جدا من جهة المعنى؛ إذ لا يعلمون أنه درس أو دارس أحدا صلى الله عليه وسلم، فتأمله.
وقوله سبحانه: { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو... } الآية: هذه الآية فيها موادعة، وهي منسوخة.
[6.108-110]
وقوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله... } الآية: مخاطبة للمؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: سببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب : إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها، وإما أن نسب إلهه ونهجوه، فنزلت الآية، وحكمها على كل حال باق في الأمة، فلا يحل لمسلم أن يتعرض إلى ما يؤدي إلى سب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو الله عز وجل، وعبر عن الأصنام بالذين، وهي لا تعقل، وذلك على معتقد الكفرة فيها، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة، و { عدوا }: مصدر من الاعتداء، و { بغير علم }: بيان لمعنى الاعتداء.
وقوله تعالى: { كذلك زينا لكل أمة عملهم }: إشارة إلى ما زين لهؤلاء من التمسك بأصنامهم، وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه سبحانه في النفوس من المحبة للخير والشر، وتزيين الشيطان هو ما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء، وقوله: { ثم إلى ربهم مرجعهم... } الآية: تتضمن وعدا جميلا للمحسنين، ووعيدا ثقيلا للمسيئين.
وقوله سبحانه: { وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن جاءتهم ءاية ليؤمنن بها }: اللام في قوله: { لئن } لام توطئة للقسم، وأما المتلقية للقسم فهي قوله: { ليؤمنن بها } ، وآية: يريد: علامة، وحكي أن الكفار لما نزلت:
إن نشأ ننزل عليهم من السماء ءاية فظلت أعنقهم لها خضعين
[الشعراء:4]، أقسموا حينئذ؛ أنها إن نزلت، آمنوا، فنزلت هذه الآية، وحكي أنهم اقترحوا أن يعود الصفا ذهبا، وأقسموا على ذلك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في ذلك، فجاءه جبريل، فقال له: إن شئت أصبح ذهبا، فإن لم يؤمنوا، هلكوا عن آخرهم معاجلة؛ كما فعل بالأمم المقترحة، وإن شئت، أخروا حتى يتوب تائبهم، فقال عليه الصلاة والسلام : بل حتى يتوب تائبهم، ونزلت الآية.
قال ابن العربي: قوله: { جهد أيمنهم } ، يعني: غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. انتهى من «الأحكام».
ثم قال تعالى: قل لهم، يا محمد؛ على جهة الرد والتخطئة: إنما الآيات عند الله وليست عندي، فتقترح علي، ثم قال: { وما يشعركم } ، قال مجاهد: وابن زيد: المخاطب بهذا الكفار، وقال الفراء وغيره: المخاطب بهذا المؤمنون، { وما يشعركم }: معناه: وما يعلمكم وما يدريكم، وقرأ ابن كثير وغيره : «إنها» بكسر الألف ، على القطع، واستئناف الأخبار، فمن قرأ «تؤمنون» بالتاء ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة؛ استقامت له المخاطبة، أولا وآخرا، للكفار، ومن قرأ بالياء، وهي قراءة نافع. وغيره، فيحتمل أن يخاطب، أولا وآخرا، المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بقوله: { وما يشعركم } الكفار، ثم يستأنف الإخبار عنهم للمؤمنين، وقرأ نافع وغيره: «أنها» بفتح الألف ، فقيل: إن «لا» زائدة في قوله: { لا يؤمنون }؛ كما زيدت في قوله تعالى:
وحرام على قرية أهلكنها أنهم لا يرجعون
[الأنبياء:95]، ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى، لأنها لو لم تكن زائدة، لعاد الكلام عذرا للكفار، وفسد المراد بالآية، وضعف الزجاج وغيره زيادة «لا»، ومنهم من جعل { أنها } بمعنى لعلها، وحكام سيبويه عن الخليل، وهذا التأويل لا يحتاج معه إلى تقدير زيادة، «لا»، وحكى الكسائي: أنه كذلك في مصحف أبي «وما أدراكم لعلها إذا جاءت»، ورجح أبو علي أن تكون «لا» زائدة، وبسط شواهده في ذلك.
وقوله سبحانه: { ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } ، فالمعنى؛ على ما قالت فرقة: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار، وفي لهبها في الآخرة، لما لم يؤمنوا في الدنيا، ثم استأنف على هذا: ونذرهم في الدنيا في طغيانهم يعمهون، وقالت فرقة: إنما المراد بالتقليب التحويل عن الحق والهدى والترك في الضلالة والكفر، ومعنى الآية: أن هؤلاء الذين أقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية نحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم؛ أن لو جاءت فلا يؤمنون بها؛ كما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من عبادة الله تعالى، فأخبر الله عز وجل على هذا التأويل بصورة فعله بهم، وقالت فرقة: قوله: { كما }؛ في هذه الآية: إنما هي بمعنى المجازاة، أي: لما لم يؤمنوا أول مرة، نجازيهم، بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى، ونطبع على قلوبهم، فكأنه قال: ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم، جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع، والضمير في { به } يحتمل أن يعود على الله عز وجل، أو على القرآن، أو على النبي صلى الله عليه وسلم { ونذرهم }: معناه: نتركهم، والطغيان: التخبط في الشر، والإفراط فيما يتناوله المرء، و { يعمهون }: معناه: يترددون في حيرتهم.
[6.111-112]
وقوله سبحانه: { ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى... } الآية: أخبر سبحانه أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال ملائكة وإحياء سلفهم حسبما اقترحه بعضهم؛ أن يحشر قصي وغيره، فيخبر بصدق محمد عليه السلام ، أو يحشر عليهم كل شيء قبلا ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه سبحانه في نفس من يشاء، لا رب غيره.
وقرأ نافع وغيره: «قبلا»، ومعناه مواجهة ومعاينة؛ قاله ابن عباس وغيره، ونصبه على الحال، وقال المبرد: معناه: ناحية؛ كما تقول: لي قبل فلان دين.
قال * ع *: فنصبه؛ على هذا: هو على الظرف، وقرأ حمزة وغيره: «قبلا» بضم القاف والباء ، واختلف في معناه، فقال بعضهم: هو بمعنى «قبل» بكسر القاف، أي: مواجهة؛ كما تقول: قبل ودبر.
وقال الزجاج والفراء: هو جمع قبيل، وهو الكفيل، أي وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد وغيره: هو جمع قبيل، أي: صنفا صنفا، ونوعا نوعا، والنصب في هذا كله على الحال، { ولكن أكثرهم يجهلون } ، أي: يجهلون في اعتقادهم أن الآية تقتضي إيمانهم، ولا بد، فيقتضي اللفظ أن الأقل لا يجهل، فكان فيهم من يعتقد أن الآية لو جاءت لم يؤمن إلا من شاء الله منه ذلك، قلت: وقال مكي: { ولكن أكثرهم يجهلون } ، أي: في مخالفتك، وهم يعلمون أنك نبي صادق فيما جئتهم به، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداعب أبا سفيان بعد الفتح بمخصرة في يده، ويطعن بها أبا سفيان، فإذا أحرقته، قال: نح عني مخصرتك، فوالله، لو أسلمت إليك هذا الأمر، ما اختلف عليك فيه اثنان. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" أسألك بالذي أسلمت له، قتالك إياي عن أي شيء كان؟ فقال له أبو سفيان: تظن أني كنت أقاتلك تكذيبا مني لك، والله، ما شككت في صدقك قط، وما كنت أقاتلك إلا حسدا مني لك، فالحمد لله الذي نزع ذلك من قلبي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يشتهي ذلك منه، ويتبسم "
انتهى من «الهداية».
وقوله سبحانه: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن... } الآية: تتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وعرض القدوة عليه، أي: هذا الذي امتحنت به، يا محمد، من الأعداء قد امتحن به غيرك من الأنبياء؛ ليبتلي الله أولي العزم منهم، و { شيطين الإنس والجن }: يريد: المتمردين من النوعين، و { يوحي }: معناه: يلقيه في اختفاء، فهو كالمناجاة والسرار، و { زخرف القول }: محسنه ومزينه بالأباطيل؛ قاله عكرمة ومجاهد، والزخرفة؛ أكثر ما تستعمل في الشر والباطل، و { غرورا }: مصدر، ومعناه يغرون به المضللين، والضمير في { فعلوه } عائد على اعتقادهم العداوة، ويحتمل على «الوحي» الذي تضمنه { يوحي }.
وقوله سبحانه: { فذرهم وما يفترون }: لفظ يتضمن الأمر بالموادعة، وهو منسوخ؛ قال قتادة: كل «ذر» في كتاب الله منسوخ بالقتال.
[6.113-115]
وقوله سبحانه: { ولتصغى }: معناه: لتميل، قال الفخر: والضمير في قوله: { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالأخرة } يعود على زخرف القول، وكذلك في قوله: { وليرضوه } والاقتراف: معناه الاكتساب.
وقال الزجاج: و { ليقترفوا } ، أي: يختلقوا ويكذبوا، والأول أفصح. انتهى.
والقراء على كسر اللام في الثلاثة الأفعال؛ على أنها لام كي معطوفة على غرورا و { حكما } أبلغ من حاكم؛ إذ هي صيغة للعدل من الحكام، والحاكم جار على الفعل، فقد يقال للجائر، و { مفصلا }: معناه: مزال الإشكال، والكتاب أولا هو القرآن، وثانيا اسم جنس للتوراة والإنجيل والزبور والصحف.
وقوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين }: تثبيت ومبالغة وطعن على الممترين.
قلت: وقد تقدم التنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم معصوم، وأن الخطاب له، والمراد غيره ممن يمكن منه الشك.
وقوله سبحانه: { وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا... } الآية: { تمت }؛ في هذا الموضع: بمعنى: استمرت وصحت في الأزل صدقا وعدلا، وليس بتمام من نقص، ومثله ما وقع في كتب «السيرة» من قولهم: وتم حمزة على إسلامه، في الحديث مع أبي جهل، والكلمات: ما أنزل على عباده، و { لا مبدل لكلمته }: معناه: في معانيها.
[6.116-118]
وقوله سبحانه: { وإن تطع أكثر من في الأرض... } الآية: المعنى: فامض، يا محمد لما أمرت به، وبلغ ما أرسلت به، فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك، قال ابن عباس: الأرض هنا: الدنيا، وحكي أن سبب هذه الآية أن المشركين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الذبائح، وقالوا: أتأكل ما تقتل، وتترك ما قتل الله، فنزلت الآية، ثم وصفهم تعالى بأنهم إنما يقتدون بطنونهم ويتبعون تخرصهم، والخرص: الحرز والظن، وهذه الآية خبر في ضمنه وعيد للضالين، ووعد للمهتدين، وقوله سبحانه: { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآيته مؤمنين... } الآية: القصد بهذه الآية النهي عما ذبح للنصب وغيرها، وعن الميتة وأنواعها، ولا قصد في الآية إلى ما نسي المؤمن فيه التسمية أو تعمدها بالترك.
[6.119-121]
وقوله سبحانه: { وما لكم ألا تأكلوا... } الآية: «ما»: استفهام يتضمن التقرير، { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } ، أي: فصل الحرام من الحلال، وانتزعه بالبيان، و «ما» في قوله: { إلا ما اضطررتم إليه } ، يريد بها: من جميع ما حرم؛ كالميتة وغيرها، وهي في موضع نصب بالاستثناء، والاستثناء منقطع.
وقوله سبحانه: { وإن كثيرا } يريد الكفرة المحادين المجادلين، ثم توعدهم سبحانه بقوله: { إن ربك هو أعلم بالمعتدين }.
وقوله جلت عظمته: { وذروا ظهر الإثم وباطنه } نهي عام، والظاهر والباطن: يستوفيان جميع المعاصي، وقال قوم: الظاهر: الأعمال، والباطن: المعتقد، وهذا أيضا حسن؛ لأنه عام، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي أمامة، قال:
" سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإثم؟ قال: ما حك في صدرك، فدعه "
، وروى ابن المبارك أيضا بسنده؛ أن رجلا قال:
" يا رسول الله، ما يحل لي مما يحرم علي؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه ثلاث مرات في كل ذلك يسكت رسول الله، ثم قال: أين السائل فقال: أنا ذا، يا رسول الله، قال: ما أنكر قلبك، فدعه "
انتهى، وقد ذكرنا معناه من طرق في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته.
ثم توعد تعالى كسبة الإثم بالمجازاة على ما اكتسبوه من ذلك، والاقتراف: الاكتساب.
وقوله سبحانه: { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق... } الآية: مقصد الآية النهي عن الميتة؛ إذ هي جواب لقول المشركين: تتركون ما قتل الله، ومع ذلك، فلفظها يعم ما تركت التسمية عليه من ذبائح الإسلام، وبهذا العموم تعلق ابن عمر وابن سيرين والشعبي وغيرهم؛ فقالوا: ما تركت التسمية عليه، لم يؤكل، عمدا كان أونسيانا، وجمهور العلماء على أنه يؤكل إن كان تركها نسيانا؛ بخلاف العمد، وقيل: يؤكل، سواء تركت عمدا أو نسيانا، إلا أن يكون مستخفا.
وقوله تعالى: { وإن الشيطين... } الآية: قال عكرمة: هم مردة الإنس من مجوس فارس، وذلك أنهم كانوا يوالون قريشا على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم: { ليوحون إلى أوليائهم }؛ من قريش { ليجدلوكم }؛ بقولهم: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؛ فذلك من مخاطبتهم هو الوحي، والأولياء هم قريش، وقال ابن زيد وعبد الله بن كثير: بل الشياطين الجن، واللفظة على وجهها، وأولياؤهم: كفرة قريش، ووحيهم بالوسوسة، وعلى ألسنة الكهان.
ثم نهى سبحانه عن طاعتهم بلفظ يتضمن الوعيد وعرض أصعب مثال في أن يشبه المؤمن بالمشرك، قال ابن العربي: قوله تعالى: { وإن الشيطين ليوحون إلى أوليائهم } ، سمى الله تعالى ما يقع في القلوب في الإلهام وحيا، وهذا مما يطلقه شيوخ المتصوفة، وينكره جهال المتوسمين بالعلم، ولم يعلموا أن الوحي على ثمانية أقسام، وأن إطلاقه في جميعها جائز في دين الله. انتهى من «أحكام القرآن».
[6.122-124]
وقوله سبحانه: { أو من كان ميتا فأحيينه } ، لما تقدم ذكر المؤمنين، وذكر الكافرين، مثل سبحانه في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات يترددون فيها، ولا يمكنهم الخروج منها؛ ليبين عز وجل الفرق بين الطائفتين، والبون بين المنزلتين، و { نورا } أمكن ما يعني به الإيمان، قيل: ويحتمل أن يراد به النور الذي يؤتاه المؤمن يوم القيامة، { وجعلنا }؛ في هذه الآية: بمعنى صيرنا، فهي تتعدى إلى مفعولين، الأول: { مجرميها } ، والثاني: { أكبر } ، وفي الكلام؛ على هذا: تقديم وتأخير، وتقديره: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، وقدم الأهم؛ إذ لعلة كبرهم أجرموا، ويصح أن يكون المفعول الأول: «أكابر»، و «مجرميها»؛ مضاف، والمفعول الثاني: في قوله: { في كل قرية } ، و { ليمكروا }: نصب بلام الصيرورة؛ والأكابر: جمع أكبر؛ كما الأفاضل جمع أفضل، قال الفخر: وإنما جعل المجرمين أكابر؛ لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وركوب الباطل من غيرهم؛ ولأن كثرة المال والجاه يحملان الإنسان على المبالغة في حفظهما؛ وذلك الحفظ لا يتم إلا بجميع الأخلاق الذميمة؛ كالغدر والمكر والكذب والغيبة والنميمة والأيمان الكاذبة؛ ولو لم يكن للمال والجاه سوى أن الله تعالى حكم بأنه إنما وصف بهذه الأوصاف الذميمة من كان له مال وجاه، لكفى ذلك دليلا على خساسة المال والجاه. انتهى، وما ذكره من المال والجاه هو الأغلب.
{ ومايشعرون } ، أي: ما يعلمون.
وقوله سبحانه: { وإذا جاءتهم ءاية } ، أي: علامة ودليل على صحة الشرع، تشططوا، وقالوا: لن نؤمن حتى يفلق لنا البحر، ويحيى لنا الموتى، ونحو ذلك، فرد الله تعالى عليهم بقوله: { الله أعلم حيث يجعل رسالته } فيمن اصطفاه، وانتخبه، لا فيمن كفر، وجعل يتشطط على الله سبحانه، قال الفخر: قال المفسرون: قال الوليد بن المغيرة: لو كانت النبوة حقا، لكنت أولى بها، قال الضحاك: أراد كل واحد من هؤلاء الكفرة أن يخص بالوحي والرسالة؛ كما أخبر عنهم سبحانه:
بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة
[المدثر:52] انتهى.
ثم توعد سبحانه بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة.
[6.125-129]
وقوله سبحانه: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلم... } الآية: { من }: شرط، و { يشرح } جواب الشرط.
والآية نص في أن الله تعالى يريد هدى المؤمن، وضلال الكافر، وهذا عند جميع أهل السنة بالإرادة القديمة التي هي صفة ذاته تبارك وتعالى، والهدى هنا: هو خلق الإيمان في القلب، وشرح الصدر: هو تسهيل الإيمان، وتحبيبه، وإعداد القلب لقبوله وتحصيله، والصدر: عبارة عن القلب، وفي { يشرح } ضمير يعود على اسم الله عز وجل يعضده اللفظ والمعنى، ولا يحتمل غيره، والقول بأنه عائد على «المهدي» قول يتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأعمال، ويجب أن يعتقد ضعفه، والحذر منه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
" أنه لما نزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله، كيف يشرح الصدر؟ قال: إذا نزل النور في القلب، انشرح له الصدر، وانفسح، قالوا: وهل لذلك علامة، يا رسول الله؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت، قبل الموت "
، والقول في قوله: { ومن يرد أن يضله } كالقول في قوله: { فمن يرد الله أن يهديه } ، وقرأ حمزة وغيره: «حرجا» بفتح الراء ، وروي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قرأها يوما بفتح الراء، فقرأها له بعض الصحابة بكسر الراء، فقال: ابغوني رجلا من كنانة، وليكن راعيا، وليكن من بني مدلج، فلما جاء، قال له: يا فتى، ما الحرجة عندكم؟ قال الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية، قال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.
وقوله سبحانه: { كأنما يصعد في السماء } ، أي: كأن هذا الضيق الصدر متى حاول الإيمان أو فكر فيه، يجد صعوبته عليه، والعياذ بالله، كصعوبة الصعود في السماء، قاله ابن جريج وغيره، و { في السماء } ، يريد: من سفل إلى علو، وتحتمل الآية أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كئود؛ كأنه يصعد بها في الهواء، ويصعد: معناه: يعلو، ويصعد: معناه: يتكلف من ذلك ما يشق عليه.
وقوله: { كذلك يجعل الله الرجس } ، أي: وكما كان الهدى كله من الله، والضلال بإرادته تعالى ومشيئته؛ كذلك يجعل الله الرجس، قال أهل اللغة: الرجس يأتي بمعنى العذاب، ويأتي بمعنى النجس.
وقوله تعالى: { وهذا صرط ربك مستقيما } الآية: هذا إشارة إلى القرآن والشرع الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس، و { فصلنا } ، معناه: بينا وأوضحنا.
وقوله سبحانه: { لقوم يذكرون } ، أي: للمؤمنين، والضمير في قوله: { لهم دار السلم } عائد عليهم ، والسلام: يتجه أن يكون اسما من أسماء الله عز وجل، ويتجه أن يكون مصدرا بمعنى السلامة.
وقوله تعالى: { عند ربهم } يريد في الآخرة بعد الحشر، ووليهم، أي: ولي الإنعام عليهم، و { بما كانوا يعملون } ، أي: بسبب ما كانوا يقدمون من الخير، ويفعلون من الطاعة والبر.
وقوله سبحانه: { ويوم نحشرهم جميعا يمعشر الجن قد استكثرتم من الإنس } ، والمعنى: واذكر يوم، وفي الكلام حذف، تقديره: نقول: يا معشر الجن، وقوله: { قد استكثرتم }: معناه: أفرطتم، و { من الإنس }: يريد: في إضلالهم وأغوائهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال الكفار من الإنس، وهم أولياء الجن الموبخين؛ على جهة الاعتذار عن الجن: { ربنا استمتع بعضنا ببعض } ، أي: انتفع؛ وذلك كاستعاذتهم بالجن؛ إذ كان العربي إذا نزل واديا، ينادي: يا رب الوادي، إني أستجير بك في هذه الليلة، ثم يرى سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي، ونحو ذلك، وبلوغ الأجل المؤجل: هو الموت، وقيل: هو الحشر.
وقوله تعالى: { قال النار مثواكم... } الآية: إخبار من الله تعالى عما يقول لهم يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم، و { مثواكم } ، أي: موضع ثوائكم؛ كمقامكم الذي هو موضع الإقامة؛ قاله الزجاج، والاستثناء في قوله: { إلا ما شاء الله } قالت فرقة: «ما» بمعنى «من»، فالمراد: إلا من شاء الله ممن آمن في الدنيا بعد، إن كان من هؤلاء الكفرة، وقال الطبري: إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار، وقال الطبري، عن ابن عباس: إنه كان يتأول في هذا الاستثناء؛ أنه مبلغ حال هؤلاء في علم الله، ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا.
قال * ع *: والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار، ولا يصح هذا عن ابن عباس (رضي الله عنه).
قال * ص *: { إلا ما شاء الله }: قيل: استثناء منقطع، أي: لكن ما شاء الله من العذاب الزائد على النار، وقيل: متصل، واختلفوا في تقديره، فقيل: هو استثناء من الأشخاص، وهم من آمن في الدنيا، ورد بأنه يختلف زمان المستثنى والمستثنى منه، فيكون منقطعا لا متصلا؛ لأن من شرط المتصل اتحاد زماني المخرج والمخرج منه. انتهى، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: { وكذلك نولي بعض الظلمين بعضا } ، قال قتادة: معناه: نجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم، وقال أيضا: المعنى نجعل بعضهم يلي بعضا في دخول النار، وقال ابن زيد: معناه: نسلط بعض الظالمين على بعض، ونجعلهم أولياء النقمة منهم.
قال * ع *: وقد حفظ هذا في استعمال الصحابة والتابعين؛ كقول ابن الزبير: ألا إن فم الذبان قتل لطيم الشيطان؛ و { كذلك نولي بعض الظلمين بعضا بما كانوا يكسبون }.
[6.130-132]
وقوله تعالى: { يمعشر الجن والإنس ألم يأتكم... } الآية: هذا الكلام داخل في القول يوم الحشر.
قال الفخر: قال أهل اللغة: المعشر: كل جماعة أمرهم واحد، وتحصل بينهم معاشرة ومخالطة، فالمعشر: المعاشر. انتهى، و { منكم }: يعني: من الإنس؛ قاله ابن جريج وغيره، وقال ابن عباس: من الطائفتين، ولكن رسل الجن هم رسل الإنس، وهم النذر، و { يقصون }: من القصص، وقولهم: { شهدنا }: إقرار منهم بالكفر.
وقوله سبحانه: { وغرتهم الحيوة الدنيا }: التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم الوجوه لهم، وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل، ويحتمل { غرتهم }؛ أن يكون بمعنى: أشبعتهم وأطغتهم بحلوائها؛ كما يقال: غر الطائر فرخه.
وقوله سبحانه: { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كفرين }: الجمع بين هذه الآية وبين الآي التي تقتضي إنكار المشركين الإشراك هو إما بأنها طوائف، وإما بأنها طائفة واحدة في مواطن شتى.
وقوله: { ذلك أن لم يكن } ، أي: ذلك الأمر، و { القرى }: المدن، والمراد: أهل القرى، و { بظلم }: يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه لم يكن سبحانه ليهلكهم دون نذارة، فيكون ظلما لهم، والله تعالى ليس بظلام للعبيد.
والآخر: أن الله عز وجل لم يهلكهم بظلم واقع منهم دون أن ينذرهم، وهذا هو البين القوي، وذكر الطبري (رحمه الله) التأويلين.
وقوله سبحانه: { ولكل درجت مما عملوا... } الآية: إخبار من الله سبحانه أن المؤمنين في الآخرة على درجات من التفاضل بحسب أعمالهم، وتفضل المولى سبحانه عليهم ، ولكن كل راض بما أعطي غاية الرضا، والمشركون أيضا على دركات من العذاب، قلت: وظاهر الآية أن الجن يثابون وينالون الدرجات والدركات، وقد ترجم البخاري على ذلك، فقال: ذكر الجن وثوابهم وعقابهم؛ لقوله تعالى: { يمعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم... } الآية، إلى قوله: { وما ربك بغفل عما يعملون... } ، قال الداوودي: قال الضحاك: من الجن من يدخل الجنة، ويأكل ويشرب. انتهى.
[6.133-135]
وقوله سبحانه: { وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء } الآية متضمنة وعيدا وتحذيرا من بطش الله عز وجل في التعجيل بذلك، وإما مع المهلة ومرور الجديدين؛ فذلك عادته سبحانه في الخلق بإذهاب خلق واستخلاف آخرين.
وقوله سبحانه: { إنما توعدون لأت } ، هو من الوعيد؛ بقرينة: { وما أنتم بمعجزين } ، أي: وما أنتم بناجين هربا فتعجزوا طالبكم، ثم أمر سبحانه نبيه عليه السلام أن يتوعدهم بقوله: { اعملوا } ، أي: فسترون عاقبة عملكم الفاسد، وصيغة «افعل» هنا: هي بمعنى الوعيد والتهديد، و { على مكانتكم }: معناه: على حالكم وطريقتكم، و { عقبة الدار } ، أي: مآل الآخرة، ويحتمل مآل الدنيا؛ بالنصر والظهور، ففي الآية إعلام بغيب.
[6.136-138]
وقوله: { وجعلوا لله مما ذرأ } ، يعني: مشركي العرب الذين تقدم الرد عليهم من أول السورة، و { ذرأ }: معناه: خلق وأنشأ وبث، وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت تجعل من غلاتها وزروعها وثمارها وأنعامها جزءا تسميه لله، وجزءا تسميه لأصنامها، وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله؛ إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر، وليس ذلك بالله سبحانه، فكانوا إذا جمعوا الزرع، فهبت الريح، فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم، أقروه، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الذي لله، ردوه، وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئا، قالوا: لا بد للآلهة من نفقة، فيجعلون نصيب الله تعالى في ذلك؛ قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم؛ أنهم كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل؛ وكذلك في الأنعام؛ كانوا إذا أصابتهم السنة، أكلوا نصيب الله، وتحاموا نصيب شركائهم.
وقوله سبحانه: { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركاؤهم } ، الكثير هنا يراد به من كان يئد من مشركي العرب، والشركاء؛ ههنا: الشياطين الآمرون بذلك، المزينون له، والحاملون عليه أيضا من بني آدم، ومقصد الآية الذم للوأد والإنحناء على فعلته، و { ليردوهم }: معناه: ليهلكوهم من الردى، و { ليلبسوا }: معناه: ليخلطلوا.
وقوله سبحانه: { ولو شاء الله ما فعلوه } يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة الله عز وجل، وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله، وقوله: { فذرهم }: وعيد محض.
وقوله سبحانه: { وقالوا هذه أنعم وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعم حرمت ظهورها } الآية تتضمن ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة القربة كذبا منهم على الله سبحانه، و { حجر }: معناه: التحجير، وهو المنع والتحريم، { وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها }: قال جماعة من المفسرين: إنهم كانت لهم سنة في أنعام ما؛ ألا يحج عليها، فكانت تركب في كل وجه إلا في الحج، وقالت فرقة: بل ذلك في الذبائح، جعلوا لآلهتهم نصيبا منها لا يذكرون الله على ذبحها.
[6.139-140]
وقوله سبحانه: { وقالوا ما في بطون هذه الأنعم خالصة لذكورنا ومحرم على أزوجنا... } الآية: كان من مذاهبهم الفاسدة في بعض الأنعام أن يحرموا ما ولدت على نسائهم، ويخصصونه لذكورهم، ف { أزوجنا }: يراد به جماعة النساء التي هي معدة أن تكون أزواجا؛ قاله مجاهد، وقوله: { وإن يكن ميتة } ، يعني: أنه كان من سنتهم أن ما خرج من الأجنة ميتا من تلك الأنعام الموقوفة، فهو حلال للرجال والنساء جميعا، وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها، ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات.
وقوله سبحانه: { قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغير علم... } الآية: تتضمن التشنيع بسوء فعلهم، والتعجيب من سوء حالهم فيما ذكر، قال عكرمة: وكان الوأد في ربيعة وفي مضر.
قال * ع *: وكان جمهور العرب لا يفعله، ثم إن فاعليه كان منهم من يفعله خوف العيلة والافتقار، وكان منهم من يفعله غيرة؛ مخافة السباء، و { قد ضلوا }: إخبار عنهم بالحيرة، { وما كانوا }: يريد في هذه الفعلة، ويحتمل أن يريد: وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفعلة مهتدين، ولكنهم زادوا بهذه الفعلة ضلالا.
[6.141-142]
وقوله سبحانه: { وهو الذي أنشأ جنت معروشت وغير معروشت... } الآية: تنبيه على مواضع الاعتبار، و { أنشأ }: معناه: خلق واخترع، و { معروشت } ، قال ابن عباس: ذلك في ثمر العنب، منها: ما عرش وسمك، ومنها: ما لم يعرش، و { متشبها }: يريد: في المنظر، و { غير متشبه }: في الطعم؛ قاله ابن جريج وغيره، وقوله: { كلوا من ثمره }: نص في الإباحة، وقوله سبحانه: { وءاتوا حقه يوم حصاده }: قال ابن عباس وجماعة: هي في الزكاة المفروضة.
قال * ع *: وهذا القول معترض بأن السورة مكية؛ وبأنه لا زكاة فيما ذكر من الرمان، وما في معناه، وحكى الزجاج؛ أن هذه الآية قيل فيها: إنها نزلت بالمدينة، وقال مجاهد وغيره: بل قوله: { وءاتوا حقه يوم حصاده }: ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد، وعند الذرو، وعند تكديسه في البيدر، فإذا صفى وكال، أخرج من ذلك الزكاة.
وقالت طائفة: هذا حكم صدقات المسلمين؛ حتى نزلت الزكاة المفروضة، فنسختها.
قال * ع *: والنسخ غير مترتب في هذه الآية، ولا تعارض بينها وبين آية الزكاة، بل تنبني هذه على الندب، وتلك على الفرض.
وقوله سبحانه: { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } النهي عن الإسراف: إما للناس عن التمنع عن أدائها؛ لأن ذلك إسراف من الفعل، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاءة لهم، وكل قد قيل به في تأويل الآية.
وقوله سبحانه: { ومن الأنعم حمولة وفرشا } { حمولة }: عطف على { جنت معروشت }. التقدير: وأنشأنا من الأنعام حمولة، والحمولة: ما تحمل الأثقال من الإبل والبقر عند من عادته أن يحمل عليها، والفرش: ما لا يحمل ثقلا؛ كالغنم وصغار البقر والإبل، وهذا هو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وغيرهم، ولا مدخل في الآية لغير الأنعام، وقوله: { كلوا مما رزقكم الله }: نص إباحة، وإزالة ما سنه الكفرة من البحيرة والسائبة وغير ذلك، ثم تابع النهي عن تلك السنن الآفكة؛ بقوله سبحانه: { ولا تتبعوا خطوت الشيطن } ، وهي جمع خطوة، أي: لا تمشوا في طريقه، قلت: ولفظ البخاري: { خطوت } من الخطو، والمعنى: آثاره. انتهى.
[6.143-145]
وقوله سبحانه: { ثمنية أزوج } ، واختلف في نصبها فقيل: على البدل من «ما» في قوله: { كلوا مما رزقكم الله } ، وقيل: على الحال، وقيل: على البدل من قوله: { حمولة وفرشا } ، وهذا أصوب الأقوال، وأجراها على معنى الآية، والزوج: الذكر، والزوج الأنثى، فكل واحد منهما زوج صاحبه، وهي أربعة أنواع؛ فتجيء ثمانية أزواج، والضأن: جمع ضائنة وضائن.
وقوله سبحانه: { قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين } ، هذا تقسيم على الكفار؛ حتى يتبين كذبهم على الله، أي: لا بد أن يكون حرم الذكرين؛ فيلزمكم تحريم جميع الذكور، أو الأنثيين؛ فيلزمكم تحريم جميع الإناث، { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } ، فيلزمكم تحريم الجميع، وأنتم لم تلتزموا شيئا يوجبه هذا التقسيم، وفي هذه السؤالات تقريع وتوبيخ، ثم أتبع تقريعهم بقوله: { نبئوني } ، أي: أخبروني { بعلم } ، أي: من جهة نبوة أو كتاب من كتب الله { إن كنتم صدقين } ، و { إن } شرط، وجوابه في { نبئوني }.
وقوله سبحانه: { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءالذكرين حرم... } الآية: القول في هذه الآية في المعنى وترتيب التقسيم؛ كما تقدم، فكأنه قال: أنتم الذين تدعون أن الله حرم خصائص من هذه الأنعام لا يخلو تحريمه من أن يكون في الذكرين أو في الأنثيين، أو فيما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، لكنه لم يحرم لا هذا ولا هذا ولا هذا؛ فلم يبق إلا أنه لم يقع تحريم، قال الفخر: والصحيح عندي أن هذه الآية لم ترد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم، بل هي استفهام على سبيل الإنكار، وحاصل الكلام: أنكم لا تعترفون بنبوة أحد من الأنبياء، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة. انتهى.
وقوله سبحانه: { أم كنتم شهداء إذ وصكم الله بهذا }: استفهام؛ على سبيل التوبيخ، و { شهداء }: جمع شهيد، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: { قل لآ أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة... } الآية: هذه الآية نزلت بمكة، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت، سورة المائدة بالمدينة، وزيد في المحرمات؛ كالخمر، وكأكل كل ذي ناب من السباع مما وردت به السنة.
قال * ع *: ولفظة التحريم، إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور غاية المنع والحظر، وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين، وأجمع عليه الكل منهم، ولم تضطرب فيه ألفاظ الأحاديث، وأمضاه الناس وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع، ولحق بالخنزير والميتة، وهذه صفة تحريم الخمر، وما اقترنت به قرينة اضطراب ألفاظ الحديث، واختلف الأمة فيه، مع علمهم بالأحاديث؛ كقوله عليه السلام :
" كل ذي ناب من السباع حرام "
، وقد روي عنه «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع»، ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك، فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو على الكراهية ونحوها، وما اقترنت به قرينة التأويل؛ كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الأنسية، فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك؛ لأنها لم تخمس، وتأول بعضهم أن ذلك لئلا تفنى حمولة الناس، وتأول بعضهم التحريم المحض، وثبت في الأمة الاختلاف في لحمها، فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها، وباقي الآية بين.
[6.146-150]
وقوله سبحانه: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر... } الآية: هذا خبر من الله سبحانه يتضمن تكذيب اليهود في قولهم: «إن الله لم يحرم علينا شيئا، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه»، و { كل ذي ظفر }: يراد به الإبل، والنعام، والإوز ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع، وله ظفر، وأخبرنا سبحانه في هذه الآية بتحريم الشحوم عليهم، وهي الثروب وشحم الكلى، وما كان شحما خالصا خارجا عن الاستثناء الذي في الآية ، واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائحهم، فعن مالك: كراهية شحومهم من غير تحريم.
وقوله تعالى: { إلا ما حملت ظهورهما } ، يريد: ما اختلط باللحم في الظهر والأجناب ونحوه، قال السدي وأبو صالح: الأليات مما حملت ظهورهما، والحوايا: ما تحوى في البطن، واستدار، وهي المصارين والحشوة ونحوها، وقال ابن عباس وغيره: هي المباعر، وقوله: { أو ما اختلط بعظم } ، يريد: في سائر الشخص.
وقوله سبحانه: { ذلك جزينهم ببغيهم } يقتضي أن هذا التحريم إنما كان عقوبة لهم على بغيهم، واستعصائهم على أنبيائهم.
وقوله سبحانه: { وإنا لصدقون }: إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم: ما حرم الله علينا شيئا.
وقوله سبحانه: { فإن كذبوك }: أي: فيما أخبرت به؛ أن الله حرمه عليهم، { فقل ربكم ذو رحمة وسعة } أي في إمهاله؛ إذ لم يعاجلكم بالعقوبة، مع شدة جرمكم، ولكن لا تغتروا بسعة رحمته؛ فإن له بأسا لا يرد عن القوم المجرمين، إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذه الآية وما جانسها من آيات مكة مرتفع حكمها بآية القتال، ثم أخبر سبحانه نبيه عليه السلام ؛ بأن المشركين سيحتجون؛ لتصويب ما هم عليه من شركهم وتدينهم: بتحريم تلك الأشياء بإمهال الله تعالى لهم، وتقريره حالهم، وأنه لو شاء غير ذلك، لما تركهم على تلك الحال، ولا حجة لهم فيما ذكروه؛ لأنه سبحانه شاء إشراكهم وأقدرهم على الاكتساب، ويلزمهم على احتجاجهم أن تكون كل طريقة وكل نحلة صوابا، إذ كلها لو شاء الله لم تكن، وفي الكلام حذف يدل عليه تناسق الكلام؛ كأنه قال: سيقول المشركون كذا وكذا، وليس في ذلك حجة لهم، ولا شيء يقتضي تكذيبك، ولكن، { كذلك كذب الذين من قبلهم }؛ بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم، وفي قوله تعالى: { حتى ذاقوا بأسنا }: وعيد بين.
وقوله سبحانه: { قل هل عندكم من علم }. أي: من قبل الله، { قل فلله الحجة البلغة } ، يريد البالغة غاية المقصد في الأمر الذي يحتج له، ثم أعلم سبحانه أنه لو شاء، لهدى العالم بأسره، و { هلم }: معناها: هات؛ وهي حينئذ متعدية، وقد تكون بمعنى: «أقبل»؛ فلا تتعدى، وبعض العرب يجعلها اسم فعل؛ ك «رويدك»، وبعضهم يجعلها فعلا، ومعنى الآية: قل هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم ما زعمتم تحريمه، { فإن شهدوا } ، أي: فإن افترى لهم أحد أو زور شهادة أو خبرا عن نبوة ونحو ذلك، فجنب أنت ذلك، ولا تشهد معهم، قلت: وهذه الآية والتي بعدها من نوع ما تقدم من أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره ممن يمكن ذلك منه، { وهم بربهم يعدلون } ، أي: يجعلون له أندادا يسوونهم به، تعالى الله عن قولهم.
[6.151-153]
وقوله سبحانه: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا }: هذا أمر من الله عز وجل لنبيه عليه السلام أن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر، و { ما } نصبت بقوله: { اتل } ، وهي بمعنى «الذي»، و «أن»، في قوله: { ألا تشركوا } في موضع رفع، التقدير: الأمر أن، أو ذاك أن، وقال كعب الأحبار: هذه الآية هي مفتتح التوراة: «بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم...» إلى آخر الآيات، وقال ابن عباس: هذه الآيات هي المحكمات المذكورة في آل عمران، اجتمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قط في ملة، وقد قيل: إنها العشر الكلمات المنزلة على موسى، والإملاق: الفقر وعدم المال؛ قاله ابن عباس وغيره، قال القشيري: خوف الفقر قرينة الكفر، وحسن الثقة بالرب سبحانه نتيجة الإيمان. انتهى من «التحبير».
وقوله سبحانه: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ، قال مجاهد: { التي هي أحسن }: التجارة فيه، والأشد هنا: الحزم والنظر في الأمور وحسن التصرف فيها، وليس هذا بالأشد المقرون بالأربعين، بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير.
وقوله سبحانه: { وأوفوا الكيل والميزان }: أمر بالاعتدال.
وقوله سبحانه: { لا نكلف نفسا إلا وسعها }: يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز.
وقوله تعالى: { وإذا قلتم فاعدلوا }: يتضمن الشهادات والأحكام والتوسط بين الناس وغير ذلك، أي: ولو كان ميل الحق على قراباتكم.
وقوله سبحانه: { وأن هذا صرطي مستقيما فاتبعوه }: الإشارة ب { هذا } هي إلى الشرع الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الطبري: الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدمت من قوله: { قل تعالوا } ، وقال ابن مسعود: إن الله سبحانه جعل طريقه صراطا مستقيما طرفه محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، ونهايته الجنة، وتتشعب منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار، وقال أيضا: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا، فقال:
" هذا سبيل الله "
ثم خط عن يمين ذلك وعن شماله خطوطا، فقال:
" هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها "
، ثم قرأ هذه الآية.
قال * ع *: وهذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل، والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل، ومظنة السوء المعتقد، و { لعلكم } ترج بحسبنا، ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله، جاءت العبارة: { لعلكم تعقلون } ، والمحرمات الأخر شهوات، وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر، وركوب الجادة الكاملة يتضمن فعل الفضائل، وتلك درجة التقوى.
[6.154-157]
وقوله سبحانه: { ثم ءاتينا موسى الكتب تماما على الذي أحسن } ، { ثم }؛ في هذه الآية: إنما مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال: ثم مما قضيناه أنا آتينا موسى الكتاب؛ ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدم بالزمان على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتلاوته ما حرم الله، و { الكتب }: التوراة، و { تماما }: مصدر، وقوله: { على الذي أحسن }: مختلف في معناه، فقالت فرقة: { الذي } بمعنى الذين و { أحسن }: فعل ماض صلة «الذين»، وكأن الكلام: وآتينا موسى الكتاب تفضلا على المحسنين من أهل ملته، وإتماما للنعمة عليهم، وهذا تأويل مجاهد؛ ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود: «تماما على الذين أحسنوا»، وقالت فرقة : المعنى: تماما على ما أحسن هو من عبادة ربه، يعني: موسى عليه السلام وهذا تأويل الربيع وقتادة، وقالت فرقة: المعنى: تماما على الذي أحسن الله فيه إلى عباده من النبوات وسائر النعم؛ و { بلقاء ربهم } ، أي: بالبعث.
وقوله سبحانه: { وهذا كتب أنزلنه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } ، { هذا } إشارة إلى القرآن، و { مبارك }: وصف بما فيه من التوسعات وأنواع الخيرات، ومعناه: منمى خيره مكثر، والبركة: الزيادة والنمو، { فاتبعوه }: دعاء إلى الدين، { واتقوا }: أمر بالتقوى العامة في جميع الأشياء؛ بقرينة قوله: { لعلكم ترحمون } ، و «أن» في قوله: { أن تقولوا } في موضع نصب، والعامل فيه: { أنزلنه } ، والتقدير: وهذا كتاب أنزلناه؛ كراهية أن تقولوا، والطائفتان: اليهود والنصارى بإجماع المتأولين، والدراسة: القراءة والتعلم بها، ومعنى الآية: إزالة الحجة من أيدي قريش وسائر العرب، ولما تقرر أن البينة قد جاءتهم، والحجة قد قامت عليهم حسن بعد ذلك أن يقع التقرير بقوله سبحانه: { فمن أظلم ممن كذب بآيت الله وصدف عنها } ، أي: حاد عنها، وزاغ، وأعرض، و { سنجزي الذين }: وعيد.
[6.158]
وقوله سبحانه: { هل ينظرون } ، أي: ينتظرون، يعني: العرب المتقدم الآن ذكرهم، و { الملئكة } هنا: هم ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج.
وقوله تعالى: { أو يأتي ربك } ، قال الطبري: لموقف الحساب يوم القيامة، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين، وقال الزجاج: إن المراد: «أو يأتي عذاب ربك».
قال * ع *: وعلى كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف، تقديره: أمر ربك، أو بطش ربك، أو حساب ربك، وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل على الله تعالى؛ ألا ترى أن الله عز وجل يقول:
فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا
[الحشر:2]؛ فهذا إتيان قد وقع، وهو على المجاز، وحذف المضاف.
قال الفخر: والجواب المعتمد عليه هنا أن هذا حكاية مذهب الكفار، واعتقادهم، فلا يفتقر إلى تأويله، وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة. انتهى.
قلت: وما ذكره الفخر من أن هذا حكاية مذهب الكفار هي دعوى تفتقر إلى دليل.
وقوله سبحانه : { أو يأتي بعض ءايت ربك } ، قال مجاهد وغيره هي إشارة إلى طلوع الشمس من مغربها؛ بدليل التي بعدها.
قال * ع *: ويصح أن يريد سبحانه بقوله: { أو يأتي بعض ءايت ربك } جميع ما يقطع بوقوعه من أشراط الساعة، ثم خصص سبحانه بعد ذلك بقوله: { يوم يأتي بعض ءايت ربك } الآية التي ترتفع التوبة معها، وقد بينت الأحاديث الصحاح في البخاري ومسلم؛ أنها طلوع الشمس من مغربها، ومقصد الآية تهديد الكفار بأحوال لا يخلون منها، وقوله: { أو كسبت في إيمنها خيرا }؛ يريد: جميع أعمال البر، وهذا الفصل هو للعصاة من المؤمنين؛ كما أن قوله: { لم تكن ءامنت من قبل } هو للكافرين، فالآية المشار إليها تقطع توبة الصنفين، قال الداوودي: قوله تعالى: { أو كسبت في إيمنها خيرا } ، يريد أن النفس المؤمنة التي ارتكبت الكبائر لا تقبل منها التوبة يومئذ، وتكون في مشيئة الله تعالى؛ كأن لم تتب، وعن عائشة (رضي الله عنها): إذا خرجت أول الآيات، طرحت الأقلام، وحبست الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال. انتهى.
وقوله سبحانه: { قل انتظروا إنا منتظرون }: لفظ يتضمن الوعيد.
[6.159-161]
وقوله سبحانه: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } ، قال ابن عباس وغيره: المراد ب «الذين» اليهود والنصارى، أي: فرقوا دين إبراهيم، ووصفهم ب «الشيع»؛ إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حض للمؤمنين على الائتلاف وترك الاختلاف، وقال أبو الأحوص وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: الآية في أهل البدع والأهواء والفتن، ومن جرى مجراهم من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: فرقوا دين الإسلام، وقرأ حمزة والكسائي: «فارقوا»، ومعناه: تركوا.
وقوله تعالى: { لست منهم في شيء }: أي: لا تشفع لهم، ولا لهم بك تعلق، وهذا على الإطلاق في الكفار، وعلى جهة المبالغة في العصاة.
وقوله سبحانه: { إنما أمرهم إلى الله... } الآية: وعيد محض، وقال السدي: هذه آية لم يؤمر فيها بقتال، فهي منسوخة بالقتال.
قال * ع *: الآية خبر لا يدخله نسخ، ولكنها تضمنت بالمعنى أمرا بموادعة، فيشبه أن يقال: إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي قد تقرر نسخه في آيات أخرى.
وقوله سبحانه: { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها... } الآية: قال ابن مسعود وغيره: { الحسنة } هنا: «لا إله إلا الله»، و { السيئة }: الكفر.
قال: * ع *: وهذه هي الغاية من الطرفين، وقالت فرقة: ذلك لفظ عام في جميع الحسنات والسيئات، وهذا هو الظاهر، وتقدير الآية: من جاء بالحسنة، فله ثواب عشر أمثالها، وقرأ يعقوب وغيره: «فله عشر» بالتنوين «أمثالها» بالرفع .
وقوله تعالى: { قل إنني هداني ربي إلى صرط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم... } الآية: في غاية الوضوح والبيان، و { قيما }: نعت للدين، ومعناه: مستقيما، و { ملة }: بدل من الدين.
[6.162-165]
وقوله سبحانه: { قل إن صلاتي ونسكي... } الآية: أمر من الله عز وجل لنبيه عليه السلام أن يعلن بأن مقصده في صلاته، وطاعته من ذبيحة وغيرها، وتصرفه مدة حياته، وحاله من إخلاص وإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل، وإرادة وجهه، وطلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به؛ حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة؛ أن صلاته ونسكه وحياته ومماته بيد الله عز وجل، والله يصرفه في جميع ذلك كيف شاء سبحانه، ويكون قوله: { وبذلك أمرت }؛ على هذا التأويل راجعا إلى قوله: { لا شريك له } فقط، أو راجعا إلى القول؛ وعلى التأويل الأول، يرجع إلى جميع ما ذكر من صلاة وغيرها، وقالت فرقة: النسك؛ في هذه الآية: الذبائح.
قال * ع *: ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية؛ أنها نازلة قد تقدم ذكرها، والجدل فيها في السورة، وقالت فرقة: النسك؛ في هذه الآية: جميع أعمال الطاعات؛ من قولك: نسك فلان، فهو ناسك؛ إذا تعبد، وقرأ السبعة سوى نافع: «ومحياي» بفتح الياء ، وقرأ نافع وحده: «ومحياي» بسكون الياء ، قال أبو حيان: وفيه جمع بين ساكنين، وسوغ ذلك ما في الألف من المد القائم مقام الحركة. انتهى، وقوله: «وأنا أول المسلمين»، أي: من هذه الأمة .
وقوله سبحانه: { قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء... } الآية: حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه، ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك، فنزلت هذه الآية، وهي استفهام يقتضي التوبيخ لهم، و { أبغي }: معناه أطلب؛ فكأنه قال: أفيحسن عندكم أن أطلب إلها غير الله الذي هو رب كل شيء، وما ذكرتم من كفالتكم باطل ليس الأمر كما تظنون، فلا تكسب كل نفس من الشر والإثم إلا عليها وحدها، { ولا تزر } ، أي: تحمل { وزرة } ، أي: حاملة حمل أخرى وثقلها، و «الوزر»: أصله الثقل، ثم استعمل في الإثم؛ تجوزا واستعارة، { ثم إلى ربكم مرجعكم }: تهديد ووعيد، وقوله: { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } ، أي: في أمري في قول بعضكم: هو ساحر، وبعضكم: هو شاعر، إلى غير ذلك؛ قاله بعض المتأولين، وهذا التأويل يحسن في هذا الموضع، وإن كان اللفظ يعم جميع أنواع الاختلافات بين الأديان والملل والمذاهب وغير ذلك، و { خلئف }: جمع خليفة، أي: يخلف بعضكم بعضا؛ لأن من أتى خليفة لمن مضى، وهذا يتصور في جميع الأمم وسائر أصناف الناس، ولكنه يحسن في أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسمى أهلها بجملتهم خلائف للأمم، وليس لهم من يخلفهم؛ إذ هم آخر الأمم، وعليهم تقوم الساعة، وروى الحسن بن أبي الحسن؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل "
، ويروى:
" أنتم آخرها وأكرمها على الله ".
وقوله: { ورفع بعضكم فوق بعض درجت }: لفظ عام في المال، والقوة، والجاه، وجودة النفوس والأذهان، وغير ذلك، وكل ذلك إنما هو ليختبر الله سبحانه الخلق، فيرى المحسن من المسيء، ولما أخبر الله عز وجل بهذا، ففسح للناس ميدان العمل، وحضهم سبحانه على الاستباق إلى الخيرات، توعد ووعد؛ تخويفا منه وترجية، فقال: { إن ربك سريع العقاب } إما بأخذاته في الدنيا، وإما بعقاب الآخرة، وحسن أن يوصف عقاب الآخرة ب «سريع»؛ لما كان متحققا مضمون الإتيان والوقوع، وكل آت قريب، { وإنه لغفور رحيم }: ترجية لمن أذنب وأراد التوبة، وهذا في كتاب الله كثير، وهو اقتران الوعيد بالوعد؛ لطفا من الله سبحانه بعباده، اللهم اجعلنا ممن شملته رحمتك وغفرانك، بجودك وإحسانك، ومن كلام الشيخ الولي العارف أبي الحسن الشاذلي (رحمه الله) قال: من أراد ألا يضره ذنب، فليقل: رب أعوذ بك من عذابك يوم تبعث عبادك، وأعوذ بك من عاجل العذاب، ومن سوء الحساب، فإنك لسريع الحساب، وإنك لغفور رحيم، رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، فاغفر لي وتب علي لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين. انتهى، نسأل الله أن ينفع به ناظره وأن يجعله لنا ذخرا ونورا يسعى بين أيدينا يوم لقائه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
[7 - سورة الأعراف]
[7.1-3]
قوله جلت عظمته: { المص كتب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين } تقدم القول في تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور، والحرج: الضيق ومنه: الحرجة؛ الشجر الملتف الذي قد تضايق، والحرج هاهنا يعم الشك، والخوف، والهم، وكل ما يضيق الصدر، والضمير في «منه» عائد على الكتاب، أي: بسبب من أسبابه.
وقوله سبحانه: { فلا يكن في صدرك حرج منه } اعتراض في أثناء الكلام، ولذلك قال بعض الناس: إن فيه تقديما وتأخيرا.
وقوله: { وذكرى } معناه تذكرة وإرشاد.
وقوله سبحانه: { اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم } أمر يعم جميع الناس، { ولا تتبعوا من دونه } ، أي: من دون ربكم { أولياء } يريد: كل من عبد، واتبع من دون الله، { وقليلا }: نعت لمصدر نصب بفعل مضمر.
وقال مكي: هو منصوب بالفعل الذي بعده، و«ما» في قوله: { ما تذكرون } مصدرية.
[7.4-5]
وقوله سبحانه: { وكم من قرية أهلكنها فجاءها بأسنا بيتا أو هم قائلون } قالت فرقة: المراد وكم من أهل قرية.
وقالت فرقة: اللفظ يتضمن هلاك القرية وأهلها، وهو أعظم في العقوبة، و«الفاء» في قوله سبحانه: { فجاءها بأسنا } لترتيب القول فقط.
وقيل: المعنى أهلكناها بالخذلان، وعدم التوفيق، فجاءها بأسنا بعد ذلك و { بيتا } ، نصب على المصدر في موضع الحال، و { قائلون } من القائلة، وإنما خص وقتي الدعة والسكون؛ لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول؛ لما فيه من البغتة والفجأة.
قال أبو حيان: أو للتفصيل، أي: جاء بعضهم بأسنا ليلا، وبعضهم نهارا انتهى.
وقوله عز وجل: { فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظلمين } هذه الآية يتبين منها أن المراد في الآية قبلها أهل القرى، والدعوى في كلام العرب تأتي لمعنيين:
أحدهما: الدعاء، ومنه قوله عز وجل:
فما زالت تلك دعواهم
[الأنبياء: 15].
والثاني: الادعاء، وهذه الآية تحتمل المعنيين، ثم استثنى سبحانه من غير الأول كأنه قال: لم يكن منهم دعاء أو ادعاء إلا الإقرار، والاعتراف، أي: هذا كان بدل الدعاء، والادعاء، واعترافهم.
وقولهم: { إنا كنا ظلمين } هو في المدة التي ما بين ظهور العذاب إلى إتيانه على أنفسهم، وفي ذلك مهلة بحسب نوع العذاب تتسع لهذه المقالة، وغيرها.
وروى ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم ".
[7.6-7]
وقوله سبحانه: { فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين... } الآية وعيد من الله عز وجل لجميع العالم أخبر سبحانه أنه يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن جميع أعمالهم، ويسأل النبيين عما بلغوا، وهذا هو سؤال التقرير، فإن الله سبحانه قد أحاط علما بكل ذلك قبل السؤال، فأما الأنبياء والمؤمنون، فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة، وأما الكفار، ومن نفذ عليه الوعيد من العصاة، فيعقبهم جوابهم عذابا وتوبيخا.
* ت *: وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» بسنده عن مالك أنه قال: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة كما تسأل الأنبياء يعني عن تبليغ العلم انتهى.
وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما من عبد يخطو خطوة إلا يسأل عنها ما أراد بها ".
وقد ذكرنا حديث مسلم عن أبي برزة في غير هذا الموضع. وخرج الطبراني بسنده عن ابن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده، فيوقفه بين يديه، فيسأله عن جاهه، كما يسأله عن عمله "
انتهى.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد، قال: بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل المرء، الصلاة، فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله.
وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه معنى هذا الحديث مرفوعا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة "
قال: يقول ربنا عز وجل للملائكة انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كتبت تامة، وإن كان انتقص منها شيء، قال الله: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك. انتهى.
واللفظ لأبي داود.
وقال النسائي: ثم سائر الأعمال تجري على ذلك انتهى من «التذكرة»
وقوله سبحانه: { فلنقصن عليهم بعلم } أي: فلنسردن عليهم أعمالهم قصة قصة، { بعلم } أي: بحقيقة ويقين { وما كنا غائبين }.
[7.8-10]
وقوله عز وجل: { والوزن يومئذ الحق } التقدير: والوزن الحق ثابت، أو ظاهر يومئذ، أي يوم القيامة.
قال جمهور الأمة: إن الله عز وجل أراد أن يبين لعباده أن الحساب والنظر يوم القيامة هو في غاية التحرير، ونهاية العدل بأمر قد عرفوه في الدنيا، وعهدته أفهامهم، فميزان القيامة له عمود وكفتان على هيئة موازين الدنيا، جمع لفظ «الموازين»؛ إذ في الميزان موزونات كثيرة، فكأنه أراد التنبيه عليها.
قال الفخر: والأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد، لظواهر الآيات، وحمل الموازين على الموزنات، أو على الميزان الواحد يوجبان العدول عن ظاهر اللفظ، وذلك إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على ظاهره، ولا مانع هاهنا منه، فوجب إجراء اللفظ على حقيقته، فكما لم يمتنع إثبات ميزان له كفتان، فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة، وما الموجب لتركه، والمصير إلى التأويل. انتهى. قال أبو حيان: موازينه جمع باعتبار الموزونات، وهذا على مذهب الجمهور؛ في أن الميزان واحد.
وقال الحسن: لكل واحد ميزان، فالجمع إذن حقيقة انتهى.
والآيات هنا البراهين والأوامر والنواهي.
وقوله سبحانه: { ولقد مكنكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معيش.... } الآية خطاب لجميع الناس، والمعايش: بكسر الياء دون همز جمع معيشة، وهي لفظة تعم جميع المأكول الذي يعاش به، والتحرف الذي يؤدي إليه، { وقليلا } نصب ب { تشكرون } ويحتمل أن تكون { ما } مع الفعل بتأوليل المصدر، و { قليلا } نعت لمصدر محذوف، تقديره: شكرا قليلا شكركم، أو شكرا قليلا تشكرون.
[7.11-18]
وقوله سبحانه: { ولقد خلقنكم ثم صورنكم... } الآية: هذه الآية معناها التنبيه على مواضع العبرة، والتعجيب من غريب الصنعة، وإسداء النعمة.
واختلف العلماء في ترتيب هذه الآية؛ لأن ظاهرها/ يقتضي أن الخلق والتصوير لبني آدم قبل القول للملائكة أن يسجدوا، وقد صححت الشريعة أن الأمر لم يكن كذلك، فقالت فرقة: المراد بقوله سبحانه: { ولقد خلقنكم ثم صورنكم } آدم، وإن كان الخطاب لبنيه.
وقال مجاهد: المعنى: ولقد خلقناكم، ثم صورناكم في صلب آدم، وفي وقت استخراج ذرية آدم من ظهره أمثال الذر في صورة البشر، ويترتب في هذين القولين أن تكون «ثم» على بابها في الترتيب، والمهلة.
وقال ابن عباس، والربيع بن أنس: أما «خلقناكم» فآدم، وأما «صورناكم» فذريته في بطون الأمهات.
وقال قتادة، وغيره: بل ذلك كله في بطون الأمهات من خلق، وتصوير، { وثم } لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجمل في أنفسها.
وقوله سبحانه: { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من السجدين * قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصغرين * قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صرطك المستقيم } تقدم الكلام على قصص الآية في «سورة البقرة».
«وما» في قوله: { ما منعك } استفهام على جهة التوبيخ والتقريع، و«لا» في قوله: { ألا تسجد } قيل: هي زائدة، والمعنى: ما منعك أن تسجد، وكذلك قال أبو حيان: إنها زائدة، كهي في قوله تعالى:
لئلا يعلم أهل الكتب
[الحديد: 29].
قال: ويدل على زيادتها سقوطها في قوله تعالى:
ما منعك أن تسجد
[ص: 75] في «ص» انتهى. وجواب إبليس اللعين ليس بمطابق لما سئل عنه، لكن [لما] جاء بكلام يتضمن الجواب والحجة، فكأنه قال: منعني فضلي عليه، إذ أنا خير منه، وظن إبليس أن النار أفضل من الطين، وليس كذلك بل هما في درجة واحدة من حيث إنهما جماد مخلوق، ولما ظن إبليس أن صعود النار، وخفتها يقتضي فضلا على سكون الطين وبلادته، قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين، فأخطأ قياسه، وذهب عليه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من الطين.
وقال الطبري: ذهب عليه ما في النار من الطيش، والخفة، والاضطراب، وفي الطين من الوقار، والأناة والحلم، والتثبت وروي عن الحسن، وابن سيرين أنهما قالا: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالقياس، وهذا القول منهما ليس هو بإنكار للقياس. وإنما خرج كلامهما نهيا عما كان في زمانهما من مقاييس الخوارج وغيرهم، فأراد حمل الناس على الجادة.
وقوله سبحانه: { فاهبط منها } الآية: يظهر منه أنه أهبط أولا، وأخرج من الجنة، وصار في السماء، لأن الأخبار تظاهرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة، ثم أمر آخرا بالهبوط من السماء مع آدم، وحواء، والحية. وقوله: { إنك من الصغرين } حكم عليه بضد معصيته التي عصى بها، وهي الكبرياء، فعوقب بالحمل عليه، بخلاف شهوته، وأمله والصغار: الذل قاله السدي.
ومعنى: { أنظرني } أخرني فأعطاه الله النظرة إلى النفخة الأولى. قاله أكثر الناس وهو الأصح والأشهر في الشرع.
وقوله: { فبما } يريد به القسم، كقوله في الآية الأخرى:
فبعزتك
[ص: 82] و { أغويتني } قال الجمهور: معناه: أضللتني من الغي، وعلى هذا المعنى قال محمد بن كعب القرظي: قاتل الله القدرية لإبليس أعلم بالله منهم، يريد في أنه علم أن الله يهدي ويضل.
وقوله: { لأقعدن لهم صرطك } المعنى: لاعترضن لهم في طريق شرعك، وعبادتك، ومنهج النجاة، فلأصدنهم عنه.
ومنه قوله عليه السلام:
" إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه نهاه عن الإسلام، وقال: تترك دين آبائك، فعصاه فأسلم، فنهاه عن الهجرة فقال: تدع أهلك وبلدك، فعصاه فهاجر، فنهاه عن الجهاد، فقال: تقتل وتترك ولدك، فعصاه فجاهد فله الجنة... "
الحديث.
وقوله سبحانه: { ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمنهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين } مقصد الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة، فعبر عن ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم، وفي اللفظ تجوز، وهذا قول جماعة من المفسرين.
قال الفخر: وقوله: { لأقعدن لهم صرطك المستقيم } أي: على صراطك. أجمع النحاة على تقدير «على» في هذا الموضع. انتهى.
وقوله: { ولا تجد أكثرهم شكرين } أخبر اللعين أن سعايته تفعل ذلك ظنا منه، وتوسما في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة، فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته، كالغل، والحسد، والشهوات، ونحو ذلك.
قال ابن عباس، وقتادة: إلا أن إبليس لم يقل: إنه يأتي بني آدم من فوقهم، ولا جعل الله له سبيلا إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنه، وما ظنه إبليس صدقه الله عز وجل.
ومنه قوله سبحانه:
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين
[سبأ: 20] فجعل أكثر العالم كفرة، ويبينه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح:
" يقول الله عز وجل: يا آدم أخرج بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار، فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحدا إلى الجنة "
ونحوه مما يخص أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
" ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود "
و { شكرين } معناه: مؤمنين؛ لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن. قاله ابن عباس وغيره .
وقوله سبحانه: { اخرج منها } أي: من الجنة { مذءوما } أي معيبا { مدحورا }؛ أي مقصيا مبعدا.
{ لمن تبعك } بفتح اللام هي لام قسم.
وقال أبو حيان: الظاهر أنها الموطئة للقسم، و«من» شرطية في موضع رفع بالابتداء، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه، ويجوز أن تكون لام ابتداء، و«من» موصولة في موضع رفع بالابتداء، والقسم المحذوف، وجوابه، وهو «لأملأن» في موضع خبرها. انتهى.
وقال الفخر: وقيل: { مذءوما } ، أي: محقورا؛ فالمذؤوم المحتقر. قاله الليث.
وقال ابن الأنباري: المذؤوم المذموم.
وقال الفراء: أذأمته إذا عيبته. انتهى.
وباقي الآية بين. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، وسوء القضاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء.
[7.19-21]
وقوله جل وعلا: { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظلمين }
إذا أمر الإنسان بشيء، وهو متلبس به، فإنما المقصد من ذلك أن يستمر على حاله، ويتمادى في هيئته.
وقوله سبحانه لآدم: { اسكن } هو من هذا الباب، وقد تقدم الكلام في «سورة البقرة» على «الشجرة»، وتعيينها، وقوله سبحانه: «هذه» قال (م): الأصل هذي، والهاء بدل من الياء، ولذلك كسرت الذال، إذ ليس في كلامهم هاء تأنيث قبلها كسرة انتهى.
وقوله عز وجل: { فوسوس لهما الشيطن ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءتهما } الوسوسة الحديث في إخفاء همسا وإسرارا من الصوت، والوسواس صوت الحلي، فشبه الهمس به، وسمى إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة، إذ هي أبلغ الإسرار وأخفاه. هذا في حال الشيطان معنا الآن، وأما مع آدم، فممكن أن تكون وسوسة بمحاورة خفية، أو بإلقاء في نفس، واللام في «ليبدي» هي في قول الأكثرين لام الصيرورة والعاقبة، ويمكن أن تكون لام «كي» على بابها.
وما { ما ووري } معناه ما ستر من قولك: وارى يواري إذا ستر، والسوأة الفرج والدبر، ويشبه أن يسمى بذلك؛ لأن منظره يسوء.
وقالت طائفة: إن هذه العبارة إنما قصد بها أنها كشفت لهما معائبهما، وما يسوءهما، ولم يقصد بها العورة، وهذا القول محتمل، إلا أن ذكر خصف الورق يرده إلا أن يقدر الضمير في { عليهما } عائد على بدنيهما فيصح.
وقوله سبحانه: { وقال ما نهكما... } الآية، هذا القول المحكي عن إبليس يدخله من التأويل ما دخل الوسوسة، فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحوارا، وممكن أن يقولها إلقاء في النفس، ووحيا.
و { إلا أن } تقديره عن سيبويه والبصريين: إلا كراهية أن، وتقديره عند الكوفيين " إلا أن لا " على إضمار «لا»، ويرجح قول البصريين أن إضمار الأسماء أحسن من إضمار الحروف.
وقرأ جمهور الناس «ملكين» بفتح اللام.
وقرأ ابن عباس: «ملكين» بكسرها، ويؤيده قوله:
وملك لا يبلى
[طه: 120] وقال بعض الناس: يؤخذ من هذه الألفاظ أن الملائكة أفضل من البشر، وهي مسألة اختلف الناس فيها، وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
و { قاسمهمآ } أي: حلف لهما بالله، وهي مفاعلة، إذ قبول المحلوف له اليمين كالقسم.
[7.22-25]
وقوله عز وجل: { فدلهما بغرور } قال: * ع *: يشبه عندي أن تكون هذه استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو سبب ضعيف يغتر به، فإذا تدلى به، وتورك عليه، انقطع به، وهلك، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه، فيقع في مصيبة بالذي يدلي من هوة بسبب ضعيف.
وقوله سبحانه: { بدت } قيل: تمزقت عنهما ثياب الجنة وملابسها، وتطايرت تبريا منهما، و { يخصفان } معناه: يلصقانها، والمخصف الأشفى وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة.
قال البخاري: يخصفان يؤلفان الورق بعضه إلى بعض انتهى. وهو معنى ما تقدم.
وروى أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم عليه السلام كان يمشي في الجنة كأنه النخلة السحوق فلما أكل من الشجرة وبدت له حاله فر على وجهه، فأخذت شجرة بشعر رأسه، فقال لها: «أرسليني » فقالت: ما أنا بمرسلتك، فناداه ربه جل وعلا أمني تفر يا آدم؟ فقال: لا يا رب، ولكن أستحييك، فقال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك. قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا، قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كدا.
وقوله: { عن تلكما } بحسب اللفظ أنه إنما أشار إلى شجرة مخصوصة، { وأقل لكمآ: إن الشيطآن لكما عدو مبين } إشارة إلى الآية التي في «طه» في قوله:
فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى
[ طه: 117] وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من جعل النسيان على بابه، وقولهما: { ربنا ظلمنا أنفسنا } اعتراف من آدم وحواء عليهما السلام وطلب للتوبة، والستر، والتغمد بالرحمة، فطلب آدم هذا، فأجيب، وطلب إبليس النظرة، ولم يطلب التوبة، فوكل إلى سوء رأيه.
قال الضحاك وغيره: هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه، وقوله عز وجل: { قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو } المخاطبة بقوله: { اهبطوا }.
قال: أبو صالح، والسدي، والطبري، وغيرهم: هي لآدم، وحواء، وإبليس، والحية.
وقالت فرقة: هي مخاطبة لآدم وذريته، وإبليس وذريته.
قال * ع *: وهذا ضعيف لعدمهم في ذلك الوقت.
* ت *: وما ضعفه رحمه الله صححه في «سورة البقرة»، فتأمله هناك، وعداوة الحية معروفة.
روى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما سالمناهن منذ حاربناهن ".
[7.26]
وقوله سبحانه: { يبني ءادم قد أنزلنا عليكم لباسا يوري سوءتكم } الآية خطاب لجميع الأمم وقت النبي صلى الله عليه وسلم والسبب والمراد: قريش، ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت.
قال مجاهد: ففيهم نزلت هذه الأربع آيات.
وقوله: { أنزلنا } يحتمل التدريج أي: لما أنزل المطر، فكان عنه جميع ما يلبس، ويحتمل أن يريد ب { أنزلنا } خلقنا، كقوله:
وأنزل لكم من الأنعم ثمنية أزوج
[الزمر:6]،
وأنزلنا الحديد
[الحديد: 25] و { لباسا } عام في جميع ما يلبس، و { يوري }: يستر.
وقرأ الجمهور: «وريشا»، وقرأ عاصم، وأبو عمرو «ورياشا» وهما عبارتان عن سعة الرزق، ورفاهة العيش، وجودة الملبس والتمتع.
وقال البخاري: قال ابن عباس: وريشا: المال انتهى.
وقرأ نافع، وغيره: «ولباس» بالنصب.
وقرأ حمزة، وغيره بالرفع. وقوله: { ذلك من آيت الله } إشارة إلى جميع ما أنزل الله من اللباس والريش. وحكى النقاش: أن الإشارة إلى لباس التقوى؛ أي: هو في العبد آية؛ أي: علامة وأمارة من الله تعالى أنه قد رضي عنه، ورحمه.
وقال ابن عباس: لباس التقوى هو السمت الحسن في الوجه. وقاله عثمان بن عفان على المنبر.
وقال ابن عباس أيضا: هو العمل الصالح.
وقال عروة بن الزبير: هو خشية الله وقيل: هو لباس الصوف، وكل ما فيه تواضع لله عز وجل.
وقال الحسن: هو الورع.
وقال معبد الجهني: هو الحياء.
وقال ابن عباس أيضا: لباس التقوى العفة.
قال * ع * وهذه كلها مثل، وهي من لباس التقوى، و { لعلهم } ترج بحسبهم، ومبلغهم من المعرفة.
[7.27]
وقوله عز وجل: { يبني آدم لا يفتننكم الشيطن كما أخرج أبويكم من الجنة } الآية: خطاب لجميع العالم، والمقصود بها في ذلك الوقت من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا.
قيل: كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس، وهم قريش، ومن والاها، وهذا هو الصحيح، ثم نودي ب «مكة» في سنة تسع: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان والفتنة في هذه الآية الاستهواء، والغلبة على النفس، وأضاف الإخراج في هذه الآية إلى إبليس تجوزا لما كان هو السبب في ذلك.
قال أبو حيان: { كما أخرج } «كما» في موضع نصب، أي: فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم انتهى.
وقوله سبحانه: { إنه يراكم... } الآية زيادة في التحذير، وإعلام بأن الله عز وجل قد مكن إبليس من بني آدم في هذا القدر، وبحسب ذلك يجب أن يكون التحرز بطاعة الله عز وجل وقبيل الشيطان يريد نوعه، وصنفه، وذريته، والشيطان موجود، وهو جسم.
قال النووي: وروينا في كتاب ابن السني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم أن يقول الرجل المسلم إذا أراد أن يطرح ثيابه: بسم الله الذي لا إله إلا هو "
انتهى.
وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنف أن يقولوا: بسم الله ".
رواه الترمذي، وقال: إسناده ليس بالقوي.
قال النووي : قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويستحب العمل في الفضائل، والترغيب، والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعا وأما الأحكام كالحلال، والحرام، والبيع، والنكاح، والطلاق، وغير ذلك فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح، أو الحسن إلا أن يكون في احتياط في شيء من ذلك، كما إذا ورد حديث ضعيف بكراهة بعض البيوع، أو الأنكحة، فإن المستحب أن يتنزه عنه، ولكن لا يجب انتهى.
ونحوه لأبي عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم»: ثم أخبر عز وجل أنه صير الشياطين أولياء، أي: صحابة، ومتداخلين للكفرة الذين لا إيمان لهم.
[7.28-30]
وقوله: وإذا فعلوا وما بعده داخل في صفة الذين لا يؤمنون، والفاحشة في هذه الآية، وإن كان اللفظ عاما هي كشف العورة عند الطواف، فقد روي عن الزهري أنه قال: إن في ذلك نزلت هذه الآية. وقاله ابن عباس ومجاهد.
وقوله عز وجل: { قل أمر ربي بالقسط } تضمن معنى اقسطوا، ولذلك عطف عليه قوله: { وأقيموا } حملا على المعنى، والقسط العدل واختلف في قوله سبحانه: { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } فقال مجاهد، والسدي: أراد إلى الكعبة، والمقصد على هذا شرع القبلة والتزامها.
وقيل: أراد الأمر بإحضار النية لله في كل صلاة، والقصد نحوه، كما تقول: وجهت وجهي لله قاله الربيع.
وقيل: المراد إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض، أي: حيث ما كنتم فهو مسجد لكم تلزمكم عند الصلاة إقامة وجوهكم فيه لله عز وجل. وقوله سبحانه: { كما بدأكم تعودون } قال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد: المعنى: كما أوجدكم، واخترعكم، كذلك يعيدكم بعد الموت والوقف على هذا التأويل تعودون و«فريقا» نصب ب «هدى» والثاني منصوب بفعل تقديره: وعذب فريقا.
وقال جابر بن عبد الله وغيره، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد الإعلام بأن من سبقت له من الله الحسنى، وكتب سعيدا كان في الآخرة سعيدا، ومن كتب عليه أنه من أهل الشقاء، كان في الآخرة شقيا، ولا يتبدل من الأمور التي أحكمها ودبرها، وأنفذها شيء، فالوقف في هذا التأويل في قوله: { تعودون } غير حسن { وفريقا } على هذا التأويل نصب على الحال، والثاني عطف على الأول.
{ ويحسبون أنهم مهتدون } معناه: يظنون.
قال الطبري: وهذه الآية دليل على خطإ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب.
[7.31]
وقوله سبحانه: { يبني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } الآية: هذا خطاب عام لجميع العالم كما تقدم، وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها، والزينة الثياب الساترة. قاله مجاهد وغيره. و { عند كل مسجد } أي: عند كل موضع سجود، فهي إشارة إلى الصلوات، وستر العورة فيها.
* ت *: ومن المستحسن هنا ذكر شيء مما جاء في اللباس، فمن أحسن الأحاديث في ذلك، وأصحها ما رواه مالك في «الموطأ» عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ما أسفل من ذلك، ففي النار "
قال ذلك ثلاث مرات:
" لا ينظر الله عز وجل إلى من جر إزاره بطرا ".
وحدث أبو عمر في «التمهيد» بسنده عن ابن عمر قال: فيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص يعني ما تحت الكعبين من القميص في النار، كما قال في الإزار، وقد روى أبو خيثمة زهير بن معاوية قال: سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: أدركتهم وقمصهم إلى نصف الساق أو قريب من ذلك، وكم أحدهم لا يجاوز يده انتهى. وروى أبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت: كانت يد كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ، وأما أحب اللباس فما رواه أبو داود عن أم سلمة؛ قالت: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص. انتهى.
وجاء في المسبل وعيد شديد؛ وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل أسبل إزاره:
" إن هذا كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره "
رواه أبو داود. انتهى.
وقوله سبحانه: { وكلوا واشربوا } إباحة لما التزموه من تحريم اللحم، والودك في أيام المواسم. قاله ابن زيد وغيره، ويدخل في ذلك البحيرة والسائبة، ونحو ذلك نص على ذلك قتادة.
وقوله سبحانه: { ولا تسرفوا } معناه: ولا تفرطوا. قال أهل التأويل: يريد تسرفوا بأن تحرموا ما لم يحرم الله عز وجل واللفظة تقتضي النهي عن السرف مطلقا، ومن تلبس بفعل مباح، فإن مشى فيه على القصد، وأوسط الأمور، فحسن، وإن أفرط جعل أيضا من المسرفين.
وقال ابن عباس في هذه الآية: أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة.
قال ابن العربي: قوله تعالى: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } الإسراف تعدي الحد، فنهاهم سبحانه عن تعدي الحلال إلى الحرام.
وقيل: لا يزيد على قدر الحاجة، وقد اختلف فيه على قولين؛ فقيل حرام.
وقيل: مكروه، وهو الأصح.
فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان، والأزمان، والإنسان، والطعمان. انتهى من «أحكام القرآن».
[7.32]
وقوله سبحانه: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } أي: قل لهم على جهة التوبيخ. وزينة الله هي ما حسنته الشريعة، وقررته، وزينة الدنيا كل ما اقتضته الشهوة، وطلب العلو في الأرض كالمال والبنين.
و { الطيبات } قال الجمهور: يريد المحللات.
وقال الشافعي وغيره: هي المستلذات أي: من الحلال، وإنما قاد الشافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوزغ ونحوها، فإنه يقول: هي من الخبائث.
* ت *: وقال مكي: المعنى قل من حرم زينة الله، أي: اللباس الذي يزين الإنسان بأن يستر عورته، ومن حرم الطيبات من الرزق المباحة.
وقيل عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرمه من السوائب والبحائر. انتهى.
وقوله سبحانه: { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } قال ابن جبير: المعنى: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ينتفعون بها في الدنيا، ولا يتبعهم إثمها يوم القيامة.
وقال ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغيرهم: المعنى هو أن يخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الطيبات الموجودات هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا، وإن كانت أيضا لغيرهم معهم، وهي يوم القيامة خالصة لهم، أي: لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة.
وقرأ نافع وحده «خالصة» بالرفع، والباقون بالنصب.
وقوله سبحانه: { كذلك نفصل الآيت لقوم يعلمون } أي: كما فصلنا هذه الأشياء المتقدمة الذكر { نفصل الآيت } أي: نبين الأمارات، والعلامات، والهدايات لقوم لهم علم ينتفعون به.
[7.33]
وقوله عز وجل: { قل إنما حرم ربي الفوحش ما ظهر منها وما بطن... } الآية: لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم أتبعه بذكر ما حرم الله عز وجل.
والفواحش في اللغة ما فحش وشنع، وأصله من القبح في النظر، وهي هنا إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه، فكل ما حرمه الشرع، فهو فاحش، والإثم لفظ عام في جميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم. هذا قول الجمهور.
وقال بعض الناس: هي الخمر وهذا قول مردود؛ لأن هذه السورة مكية، وإنما حرمت الخمر ب «المدينة» بعد أحد { والبغي } التعدي، وتجاوز الحد.
{ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه.
[7.34-36]
وقوله سبحانه: { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } المعنى: ولكل أمة أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا كفروا، وخالفوا أمر ربهم، فأنتم أيتها الأمة كذلك. قاله الطبري وغيره.
وقوله: { ساعة } لفظ عين به الجزء القليل من الزمان، والمراد جميع أجزائه، والمعنى: لا يستأخرون ساعة، ولا أقل منها، ولا أكثر.
وقوله عز وجل: { يبني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آيتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآيتنا واستكبروا عنها أولئك أصحب النار هم فيها خلدون } الخطاب في هذه الآية لجميع العالم، و«إن» هي الشرطية دخلت عليها «ما» مؤكدة، وكان هذا الخطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها هو متمكن لهم، ومتحصل منه لحاضري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه، { ويأتينكم } مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب، لتقوى الإشارة بصحة النبوءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا على مراعاة وقت نزول الآية.
وأسند الطبري إلى أبي سيار السلمي قال:
" إن الله سبحانه خاطب آدم وذريته، فقال: { يبني آدم إما يأتينكم رسل منكم... } الآية: قال: ثم نظر سبحانه إلى الرسل، فقال: { يأيها الرسل كلوا من الطيبت واعملوا صلحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة وحدة وأنا ربكم فاتقون... } [المؤمنون: 51، 52] "
الحديث.
قال * ع *: ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل.
وقيل: المراد بالرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذكره النقاش { ويقصون } أي: يسردون، ويوردون، «والآيات» لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة، وللعلامات التي تقترن بالأنبياء، ونفي الخوف والحزن يعم جميع أنواع مكاره النفس وأنكادها.
[7.37]
قوله سبحانه: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآيته... } الآية: هذه الآية وعيد واستفهام على جهة التقرير، أي: لا أحد أظلم منه، والكتاب هو اللوح المحفوظ في قول الحسن وغيره.
وقيل: ما تكتبه الحفظة، ونصيبهم من ذلك هو الكفر والمعاصي. قاله مجاهد، وغيره.
وقيل: هو القرآن، وحظهم فيه سواد الوجوه يوم القيامة.
وقال الربيع بن أنس، وغيره: المعنى بالنصيب ما سبق لهم في أم الكتاب من رزق، وعمر، وخير وشر في الدنيا، ورجحه الطبري.
واحتج له بقوله تعالى بعد ذلك: { حتى إذا جاءتهم رسلنا } أي: عند انقضاء ذلك، فكان معنى الآية على هذا التأويل: أولئك يتمتعون، ويتصرفون في الدنيا بقدر ما كتب لهم حتى إذا جاءتهم رسلنا لموتهم؛ وهذا تأويل جماعة، وعلى هذا يترتب ترجيح الطبري.
وقالت فرقة: { رسلنا } يريد بهم ملائكة العذاب يوم القيامة، و { يتوفونهم } معناه عندهم يستوفونهم عددا في السوق إلى جهنم.
وقوله سبحانه حكاية عن الرسل { أين ما كنتم تدعون } استفهام تقرير، وتوبيخ، وتوقيف على خزي، { وتدعون } معناه: تعبدون، وتؤملون.
وقولهم: { ضلوا عنا } معناه: هلكوا، وتلفوا، وفقدوا.
ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله سبحانه: { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كفرين }.
[7.38-39]
قوله سبحانه: { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } هذه حكاية ما يقول الله سبحانه لهم يوم القيامة، بواسطة ملائكة العذاب، نسأل الله العافية. وعبر عن يقول ب «قال» لتحقق وقوع ذلك، وصدق القصة، وهذا كثير، و { خلت } حكاية عن حال الدنيا، أي: ادخلوا في النار في جملة الأمم السابقة لكم في الدنيا الكافرة.
* ت *: وكذا قدره أبو حيان في جملة «أمم»، قال: وقيل: «في» بمعنى «مع» أي: مع أمم، وتقدم له في «سورة البقرة» أن «في» تجيء للمصاحبة، كقوله تعالى: { ادخلوا في أمم قد خلت } انتهى.
وقدم ذكر الجن؛ لأنهم أعرق/ في الكفر، وإبليس أصل الضلال والإغواء، وهذه الآية نص في أن كفرة الجن في النار، والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة؛ لأنهم عقلاء، مكلفون، مبعوث إليهم، آمنوا وصدقوا، وقد بوب البخاري رحمه الله بابا في ذكر الجن، وثوابهم، وعقابهم.
وذكر عبد الجليل: أن مؤمني الجن يكونون ترابا كالبهائم، وذكر في ذلك حديثا مجهولا، وما أراه يصح. والله أعلم. والإخوة في هذه الآية إخوة الملة.
قال * ص *: في «النار» متعلق ب «خلت»، أو بمحذوف، وهو صفة ل «أمم» أي: في أمم سابقة، في الزمان كائنة، من الجن والإنس كائنة في النار، ويحتمل أن يتعلق ب «ادخلوا» على أن «في» الأولى بمعنى «مع»، والثانية للظرفية، وإذا اختلف مدلول الحرفين، جاز تعلقهما بمحل واحد. انتهى.
{ اداركوا } معناه: تلاحقوا، أصله: تداركوا أدغم، فجلبت ألف الوصل.
وقال البخاري: { اداركوا } اجتمعوا. انتهى. وقوله سبحانه: { قالت أخراهم لأولهم } معناه: قالت الأمم الأخيرة التي وجدت ضلالات متقررة، وسننا كاذبة مستعملة للأولى التي شرعت ذلك، وافترت على الله، وسلكت سبيل الضلال ابتداء { ربنا هؤلاء أضلونا } ، أي: طرقوا لنا طرق الضلال، { قال لكل ضعف } أي: عذاب مشدد على الأول والآخر { ولكن لا تعلمون } أي المقادير، وصور التضعيف.
قوله سبحانه: { وقالت أولهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } أي: قد استوت حالنا وحالكم { فذوقوا العذاب } باجترامكم، وهو من كلام الأمة المتقدمة للمتأخرة.
وقيل: قوله: { فذوقوا } هو من كلام الله عز وجل لجميعهم.
[7.40-42]
وقوله سبحانه: { إن الذين كذبوا بآيتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبوب السماء ولا يدخلون الجنة } الآية، هذه الآية عامة في جميع الكفرة قديمهم وحديثهم.
قرأ نافع وغيره: «تفتح» بتشديد التاء الثانية، وقرأ أبو عمرو: «تفتح» بالتاء أيضا وسكون الفاء، وتخفيف الثانية، وقرأ حمزة «يفتح» بالياء من أسفل، وتخفيف التاء، ومعنى الآية: لا يرتفع لهم عمل، ولا روح، ولا دعاء، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين. قاله ابن عباس، وغيره.
ثم نفى سبحانه عنهم دخول الجنة، وعلق كونه بكون محال، وهو أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة حيث يدخل الخيط، والجمل كما عهد، والسم كما عهد، وقرأ جمهور المسلمين «الجمل» واحد الجمال، وقرأ ابن عباس «الجمل» بضم الجيم وتشديد الميم، وهو حبل السفينة والسم: الثقب من الإبرة وغيرها، و { كذلك } أي: وعلى هذه الصفة، وبمثل هذا الحتم، وغيره نجزي الكفرة وأهل الجرائم على الله.
{ لهم من جهنم مهاد } أي: فراش، ومسكن، ومضجع يتمهدونه، وهي لهم غواش جمع غاشية، وهي ما يغشى الإنسان أي: يغطيه، ويستره من جهة فوق.
وقوله سبحانه: { لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون } هذه آية وعد مخبرة أن جميع المؤمنين هم أصحاب الجنة، ولهم الخلد فيها، ثم اعترض فيها القول بعقب الصفة التي شرطها في المؤمنين باعتراض يخفف الشرط، ويرجى في رحمة الله، ويعلم أن دينه يسر، وهذه الآية نص في أن الشريعة لا يتقرر من تكاليفها شيء لا يطاق، وقد تقدم ذلك في «سورة البقرة».
«والوسع» معناه: الطاقة، وهو القدر الذي يتسع له البشر.
[7.43]
وقوله سبحانه: { ونزعنا ما في صدورهم من غل } هذا إخبار من الله عز وجل أنه ينقي قلوب ساكني الجنة من الغل، والحقد، وذلك أن صاحب الغل معذب به، ولا عذاب في الجنة.
وورد في الحديث:
" الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين ".
والغل الحقد والإحنة الخفية في النفس. { وقالوا الحمد لله الذي هدنا لهذا } الإشارة ب «هذا» يتجه أن تكون إلى الإيمان، والأعمال الصالحات المؤدية إلى الجنة، ويحتمل أن تكون إلى الجنة نفسها، أي: أرشدنا إلى طرقها.
وقرأ ابن عمر وحده: «ما كنا لنهتدي» بسقوط الواو، وكذلك هي في مصاحف أهل «الشام»، ووجهها أن الكلام متصل، مرتبط بما قبله.
ولما رأوا تصديق ما جاءت به الأنبياء عن الله سبحانه، وعاينوا إنجاز المواعيد قالوا: { لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا } أي: قيل لهم بصياح، وهذا النداء من قبل الله، «وأن» مفسرة لمعنى النداء، بمعنى: أي.
وقوله: { بما كنتم تعملون } لا على طريق وجوب ذلك على الله تعالى لكن بقرينة رحمته، وتغمده، والأعمال أمارة من الله سبحانه وطريق إلى قوة الرجاء، ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمته، والقسم فيها على قدر العمل. «وأورثتم» مشيرة إلى الأقسام.
[7.44-46]
وقوله سبحانه: { ونادى أصحب الجنة أصحب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا... } الآية.
هذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تقريع، وتوبيخ، وزيادة في الكرب، وهو بأن يشرفوا عليهم، ويخلق الإدراك في الأسماع والإبصار.
وقوله سبحانه: { فأذن مؤذن بينهم } أي: أعلم معلم، والظالمون هنا هم الكافرون.
* ت *: حكي عن غير واحد أن طاوس دخل على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق لله، واحذر يوم الأذان، فقال: وما يوم الأذان؟ فقال قوله تعالى: { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظلمين } فصعق هشام، فقال طاوس: هذا ذل الوصف، فكيف ذل المعاينة انتهى.
{ ويبغونها عوجا } أي: يطلبونها، أو يطلبون لها، والضمير في { يبغونها } عائد على السبيل.
وقوله سبحانه: { وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيمهم }.
{ وبينهما }: أي: بين الجنة والنار، ويحتمل بين الجمعين، والحجاب هو السور الذي ذكره الله عز وجل في قوله:
فضرب بينهم بسور له باب
[الحديد: 13].
قال ابن عباس، وقال مجاهد: الأعراف حجاب بين الجنة والنار.
وقال ابن عباس أيضا: هو تل بين الجنة والنار.
وذكر الزهراوي حديثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن أحدا جبل يحبنا ونحبه، وإنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار، يحتبس عليه أقوام، يعرفون كلا بسيماهم، هم إن شاء الله من أهل الجنة ".
والأعراف جمع عرف، وهو المرتفع من الأرض، ومنه عرف الفرس، وعرف الديك لعلوهما.
وقال بعض الناس: سمي الأعراف أعرافا؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.
قال * ع *: وهذه عجمة، وإنما المراد على أعراف ذلك الحجاب، أي أعاليه.
وقوله: { رجال } قال الجمهور: إنهم رجال من البشر، ثم اختلفوا في تعيينهم، فقال شرحبيل بن سعد: هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم.
وذكر الطبري في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تعادل عقوقهم، واستشهادهم.
وقال ابن عباس، وغيره: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، ووقع في «مسند خيثمة بن سليمان» في آخر الجزء الخامس عشر عن جابر بن عبد الله؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار. قيل: يا رسول الله؛ فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ".
وقيل غير هذا من التأويلات.
قال ع: واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السور، أو على مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء الله تعالى رجالا من أهل الجنة يتأخر دخولهم، ويقع لهم ما وصف من الاعتبار.
و { يعرفون كلا بسيمهم } ، أي: بعلاماتهم من بياض الوجوه، وحسنها في أهل الجنة، وسوادها وقبحها في أهل النار إلى غير ذلك في حيز هؤلاء، وحيز هؤلاء.
وقوله: { لم يدخلوها وهم يطمعون } المراد به: أهل الأعراف فقط، وهو تأويل ابن مسعود، والسدي، وقتادة، والحسن وقال: والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم.
قال * ع *: وهذا هو الأظهر الأليق مما قيل في هذه الآية، ولا نظر لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم.
[7.47-49]
وقوله سبحانه: { وإذا صرفت أبصرهم } أي: أبصار أصحاب الأعراف، فهم يسلمون على أصحاب الجنة، وإذا نظروا إلى النار، وأهلها، قالوا: { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظلمين } قاله ابن عباس، وجماعة من العلماء.
وقوله سبحانه: { ونادى أصحب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيمهم } يريد من أهل النار.
{ ما أغنى عنكم جمعكم } «ما» استفهام بمعنى التقرير، والتوبيخ، و«ما» الثانية مصدرية، و«جمعكم» لفظ يعم المال والأجناد والخول.
وقوله سبحانه: { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة } أهل الأعراف هم القائلون: «أهؤلاء» إشارة إلى أهل الجنة، والذين خوطبوا هم أهل النار، والمعنى: أهؤلاء الضعفاء في الدنيا الذين حلفتم أن الله لا يعبؤ بهم، قيل لهم: ادخلوا الجنة.
وقال النقاش: أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم، فنادتهم الملائكة: أهؤلاء، ثم نادت أصحاب الأعراف: ادخلوا الجنة.
وقرأ عكرمة: «دخلوا الجنة» على الإخبار بفعل ماض.
[7.50-53]
وقوله سبحانه: { ونادى أصحب النار أصحب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء... } الآية: لفظة النداء تتضمن أن أهل النار وقع لهم علم بأن أهل الجنة يسمعون نداءهم، وجائز أن يكون ذلك، وهم يرونهم بإدراك يجعله الله لهم على بعد السفل من العلو، وجائز أن يكون ذلك، وبينهم السور والحجاب المتقدم الذكر.
وروي أن ذلك النداء هو عند اطلاع أهل الجنة عليهم.
وقوله سبحانه: { أو مما رزقكم الله } إشارة إلى الطعام. قاله السدي.
فيقول لهم أهل الجنة: إن الله حرم طعام الجنة وشرابها على الكافرين، وإجابة أهل الجنة بهذا الحكم هو عن أمر الله تعالى.
ومعنى قوله تعالى: { الذين اتخذوا دينهم لهوا } أي بالإعراض والاستهزاء. بمن يدعوهم إلى الإسلام.
{ وغرتهم الحيوة الدنيا } أي: خدعتهم بزخرفها، واعتقادهم أنها الغاية القصوى.
وقوله: { فاليوم ننسهم } هو من إخبار الله عز وجل عما يفعل بهم والنسيان هنا بمعنى الترك، أي: نتركهم في العذاب، كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم. قاله ابن عباس وجماعة.
و«ما كانوا» عطف على «ما» من قوله: «كما نسوا»، ويحتمل أن تقدر «ما» الثانية زائدة، ويكون قوله: «وكانوا» عطفا على قوله: «نسوا».
وقوله سبحانه: { ولقد جئنهم بكتب } الضمير في «جئناهم» لمن تقدم ذكره، و«الكتاب» اسم جنس، واللام في «لقد» لام قسم.
وقال يحيى بن سلام: بل الكلام تم في { يجحدون } ، وهذا الضمير لمكذبي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو ابتداء كلام آخر، والمراد بالكتاب القرآن، و { على علم } معناه: على بصيرة.
وقوله سبحانه: { هل ينظرون } أي ينتظرون { إلا تأويله } ، أي مآله وعاقبته يوم القيامة. قاله ابن عباس وغيره.
وقال السدي: مآله في الدنيا وقعة بدر وغيرها، ويوم القيامة أيضا، ثم أخبر تعالى أن مآل حال هذا الدين يوم يأتي يقع معه ندمهم، ويقولون تأسفا على ما فاتهم من الإيمان: { قد جاءت رسل ربنا بالحق } ، فالتأويل على هذا من آل يؤول، { ونسوه } يحتمل أن يكون بمعنى الترك، وباقي الآية بين.
* ت *: وهذا التقرير يرجح تأويل ابن سلام المتقدم.
[7.54-55]
وقوله سبحانه: { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام... } الآية خطاب عام يقتضي التوحيد، والحجة عليه بدلائله، وجاء في التفسير، والأحاديث أن الله سبحانه ابتدأ الخلق يوم الأحد، وكملت المخلوقات يوم الجمعة، وهذا كله والساعة اليسيرة في قدرة الله سبحانه سواء.
قال * م *: { في ستة أيام } «ستة» أصلها سدسة، فأبدلوا من السين تاء، ثم أدغموا الدال في التاء، وتصغيره سديس وسديسة. انتهى.
وقوله سبحانه: { استوى على العرش } معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين: الملك، والسلطان، وخص العرش بالذكر تشريفا له؛ إذ هو أعظم المخلوقات.
وقوله سبحانه: { ألا له الخلق والأمر } «ألا»: استفتاح كلام. وأخذ المفسرون «الخلق» بمعنى المخلوقات، أي: هي كلها ملكه، واختراعه، وأخذوا الأمر مصدرا من أمر يأمر.
قال * ع *: ويحتمل أن تؤخذ لفظة «الخلق» على المصدر من: خلق يخلق خلقا، أي: له هذه الصفة؛ إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم، ويؤخذ الأمر على أنه واحد الأمور، فيكون بمنزلة قوله:
وإليه يرجع الأمر كله
[هود: 123]
وإلى الله ترجع الأمور
[البقرة: 210].
وكيف ما تأولت الآية، فالجميع لله سبحانه.
و { تبرك } معناه: عظم، وتعالى، وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا الله سبحانه.
و { تبرك } لا يتصرف في كلام العرب، فلا يقال منه: يتبارك، و { العلمين } جمع علم.
قوله عز وجل: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } هذا أمر بالدعاء ، وتعبد به، ثم قرن سبحانه بالأمر به صفات تحسن معه. وقوله: { تضرعا } معناه بخشوع، واستكانة، والتضرع لفظة تقتضي الجهر، لأن التضرع إنما يكون بإشارات جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب، و { وخفية } يريد في النفس خاصة، وقد أثنى الله سبحانه على ذلك في قوله سبحانه:
إذ نادى ربه نداء خفيا
[مريم: 3]، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" خير الذكر الخفي "
والشريعة مقررة أن السر فيما لم يفرض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر.
* ت *: ونحو هذا لابن العربي لما تكلم على هذه الآية، قال: الأصل في الأعمال الفرضية الجهر، والأصل في الأعمال النفلية السر، وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرياء، والتظاهر بذلك في الدنيا، والتفاخر على الأصحاب بالأعمال، وقلوب الخلق جبلت بالميل إلى أهل الطاعة. انتهى من «الأحكام».
وقوله سبحانه: { إنه لا يحب المعتدين } يريد في الدعاء، وإن كان اللفظ عاما، والاعتداء في الدعاء على وجوه منها: الجهر الكثير، والصياح، وفي «الصحيح» عنه صلى الله عليه وسلم:
" أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ".
ومنها: أن يدعو في محال، ونحو هذا من التشطط؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول، أو عمل، وأعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول، أو عمل ".
وقال البخاري: { إنه لا يحب المعتدين } أي: في الدعاء وغيره. انتهى.
* ت *: قال الخطابي: وليس معنى الاعتداء الإكثار، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله يحب الملحين في الدعاء "
، وقال:
" إذا دعا أحدكم فليستكثر، فإنما هو يسأل ربه "
انتهى.
وروى أبو داود في «سننه» عن عبد الله بن مغفل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهر والدعاء "
انتهى.
[7.56]
وقوله سبحانه: { ولا تفسدوا فى الأرض... } الآية ألفاظها عامة تتضمن كل فساد قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر، والقصد بالنهي هو [على] العموم، وتخصيص شيء دون شيء، في هذا تحكم إلا أن يقال على جهة المثال.
وقوله سبحانه: { وادعوه خوفا وطمعا } أمر بأن يكون الإنسان في حالة تقرب، وتحرز، وتأميل لله عز وجل حتى يكون الخوف والرجاء كالجناحين للطير يحملانه في طريق استقامة، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان.
وقد قال كثير من العلماء: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء.
وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير، وهذا كله طريق احتياط، ومنه تمنى الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة، وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف.
ثم آنس سبحانه بقوله: { إن رحمت الله قريب من المحسنين }.
[7.57-58]
وقوله سبحانه: { وهو الذي يرسل الريح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا... } الآية: هذه آية اعتبار، واستدلال. وقرأ عاصم الرياح بالجمع، «بشرا» بالباء المضمومة والشين الساكنة، وروي عنه «بشرا» بضم الباء والشين، ومن جمع الريح في هذه الآية، فهو أسعد؛ وذلك أن الرياح حيث وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرحمة، كقوله:
ومن آيته أن يرسل الريح مبشرت
[الروم:46] وأكثر ذكر الريح مفردة إنما هو بقرينة عذاب، كقوله سبحانه:
وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم
[الذاريات:41] وقد تقدم إيضاح هذا في «سورة البقرة».
ومن قرأ في هذه الآية «الريح» بالإفراد، فإنما يريد به اسم الجنس، وأيضا فتقييدها ب «بشرا» يزيل الاشتراك.
والإرسال في الريح هو بمعنى الإجراء، والإطلاق، وبشرا، أي: تبشر السحاب، وأما «بشرا» بضم الباء والشين، فجمع بشير، كنذير ونذور، والرحمة في هذه الآية المطر، و { بين يدي } ، أي: أمام رحمته وقدامها، و { أقلت } معناه: رفعته من الأرض، واستقلت به، و { ثقالا } معناه من الماء، والعرب تصف السحاب بالثقل، والريح تسوق السحاب من ورائه فهو سوق حقيقة، والضمير في { سقنه } عائد على السحاب، ووصف البلد بالموت استعارة بسبب شعثه وجدوبته.
والضمير في قوله { فأنزلنا به } يحتمل أن يعود على السحاب، أي منه، ويحتمل أن يعود على البلد، ويحتمل أن يعود على الريح.
وقوله تبارك وتعالى: { كذلك نخرج الموتى } يحتمل مقصدين:
أحدهما: أن يراد كهذه القدرة العظيمة هي القدرة على إحياء الموتى، وهذا مثال لها.
الثاني: أن يراد أن هكذا نصنع بالأموات من نزول المطر عليهم، حتى يحيوا به، حسب ما وردت به الآثار، فيكون الكلام خبرا لا مثالا.
وقوله سبحانه: { والبلد الطيب يخرج نباته... } آية متممة للمعنى الأول في الآية قبلها، معرفة بعادة الله سبحانه في إنبات الأرضين، فمن أراد أن يجعلها مثالا لقلب المؤمن، وقلب الكافر، كما هو محكي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، فذلك مترتب، لكن ألفاظ الآية لا تقتضي أن المثل قصد به ذلك، والطيب: هو الجيد التراب الكريم الأرض وخص بإذن ربه مدحا وتشريفا، وهذا كما تقول لمن تغض منه: أنت كما شاء الله، فهي عبارة تعطي مبالغة في مدح أو ذم. والخبيث هو السباخ ونحوها من رديء الأرض.
والنكد العسير القليل. { كذلك نصرف الآيت } أي هكذا نبين الأمور، و { يشكرون } معناه: يؤمنون ويثنون بآلآء الله سبحانه.
[7.59-64]
قوله عز وجل: { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلل مبين * قال يقوم ليس بي ضللة ولكني رسول من رب العلمين * أبلغكم رسلت ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون }.
قال الطبري: أقسم الله تعالى أنه أرسل نوحا، وكذا قال أبو حيان: «لقد» اللام جواب قسم محذوف. انتهى.
و«غيره» بالرفع بدل من قوله: { من إله }؛ لأنه في موضع رفع، ويجوز أن يكون نعتا على الموضع؛ لأن التقدير؛ ما لكم إله غيره، والملأ الجماعة من الأشراف.
قيل: إنهم مأخوذون من أنهم يملؤون النفس والعين، ويحتمل من أنه إذا تمالؤوا على أمر تم.
وقولهم: { إنا لنراك } يحتمل من رؤية البصر، ويحتمل من رؤية القلب، وهو أظهر.
و { في ضلل } أي في تلف وجهالة بما تسلك.
وقوله: لهم جواب عن هذا:
{ ليس بي ضللة } مبالغة في حسن الأدب، والإعراض عن الجفاء منهم، وتناول رفيق، وسعة صدر حسب ما تقتضيه خلق النبوءة.
وقوله: { ولكني رسول } تعرض لمن يريد النظر، والبحث، والتأمل في المعجزة.
وقوله عليه السلام: { وأعلم من الله ما لا تعلمون } لفظ مضمنه الوعيد، لا سيما وهم لم يسمعوا قط بأمة عذبت.
وقوله: { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون * فكذبوه فأنجينه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآيتنا إنهم كانوا قوما عمين }.
الاستفهام هنا على جهة التقرير والتوبيخ، وقوله: { على رجل منكم } قيل: «على» بمعنى «مع».
وقيل: هو على حذف مضاف، تقديره: على لسان رجل، ويحتمل أن يكون معناه منزل على رجل منكم؛ إذا كل ما يأتي من الله سبحانه فله حكم النزول، و { لعلكم } ترج بحسب حال نوح ومعتقده.
وقوله سبحانه: { فأنجينه والذين معه في الفلك... } الآية.
وفي التفسير: إن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رجلا.
وقيل: ثمانون رجلا وثمانون امرأة وقيل: عشرة وقيل: ثمانية. قاله قتادة.
وقيل: سبعة. والله أعلم.
وفي كثير من كتب الحديث؛ الترمذي وغيره أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام وقوله: { عمين } جمع عم، ويريد عمي البصائر، وأتى في حديث الشفاعة وغيره أن نوحا أول الرسل.
[7.65-70]
وقوله سبحانه: { وإلى عاد أخاهم هودا قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكذبين * قال يقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العلمين * أبلغكم رسلت ربي وأنا لكم ناصح أمين } عاد اسم الحي، وهم عرب فيما يذكر، و«أخاهم» نصب ب «أرسلنا» وهو معطوف على نوح، وهذه أيضا نذارة من هود عليه السلام.
وقوله: { أفلا تتقون } استعطاف إلى التقوى، والإيمان.
وقوله: { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلآء الله لعلكم تفلحون * قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصدقين }.
قوله: { وزادكم في الخلق } أي في الخلقة، والبسطة الكمال في الطول والعرض.
وقيل: زادكم على أهل عصركم.
وقال الطبري: زادكم على قوم نوح. وقاله قتادة.
قال * ع *: واللفظ يقتضي أن الزيادة على جميع العالم، وهو الذي يقتضيه ما يذكر عنهم.
وروي أن طول الرجل منهم كان مائة ذراع، وطول أقصرهم ستون ونحوها. والآلاء جميع «إلى» على مثل «معى»، وهي النعمة والمنة.
قال الطبري: وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إسحاق من ولد عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح، وكانت مساكنهم «الشحر» من أرض «اليمن» وما والى «حضرموت» إلى «عمان».
قال السدي: وكانوا بالأحقاف، وهي الرمال، وكانت بلادهم أخصب بلاد، فردها الله صحارى.
وقال علي بن أبي أبي طالب رضي الله عنه: إن قبر هود عليه السلام هنالك في كثيب أحمر تخالطه مدرة ذات أراك وسدر، وكانوا قد فشوا في جميع الأرض، وملكوا كثيرا بقوتهم وعددهم، وظلموا الناس وكانوا ثلاثة عشر قبيلة، وكانوا أصحاب أوثان، فبعث الله إليهم هودا من أفضلهم وأوسطهم نسبا، فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه وإلى ترك الظلم.
قال ابن إسحاق: ولم يأمرهم فيما يذكر بغير ذلك، فكذبوه وعتوا، واستمروا على ذلك إلى أن أراد الله إنفاذ أمره أمسك عنهم المطر ثلاث سنين، فشقوا بذلك، وكان الناس في ذلك الزمان إذا دهمهم أمر، فزعوا إلى المسجد الحرام ب «مكة» فدعوا الله فيه تعظيما له مؤمنهم وكافرهم، وأهل «مكة» يومئذ العماليق، وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بكر، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وفدا إلى «مكة» يستسقون الله لهم، فبعثوا قيل بن عنز، ولقيم بن هزال، وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد، وكان هذا مؤمنا يكتم إيمانه، وجلهمة بن الخبيري في سبعين رجلا من قومهم، فلما قدموا «مكة» نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر «مكة» خارج الحرم، فأنزلهم ، وأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان قينتا معاوية، ولما رأى معاوية إقامتهم، وقد بعثهم عاد للغوث أشفق على عاد، وكان ابن أختهم أمه: كلهدة ابنة الخبيرى أخت جلهمة، وقال: هلك أخوالي، وشق عليه أن يأمر أضيافه بالانصراف عنه، فشكا ذلك إلى قينتيه، فقالتا: اصنع شعرا نغني به، عسى أن ننبههم، فقال: [الوافر]
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
لعل الله يصبحنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا
قد امسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو
به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير
فقد أمست نساؤهم عيامى
وإن الوحش تأتيهم جهارا
ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم
ولا لقوا التحية والسلاما
فغنت به الجرادتان، فلما سمعه القوم قال بعضهم: يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حل بهم، فادخلوا هذا الحرم، وادعوا لعل الله يغيثهم فخرجوا لذلك، فقال لهم مرثد بن سعد: إنكم والله ما تسقون بدعائكم، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم سقيتم، وأظهر إيمانه يومئذ، فخالفه الوفد، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: احبسا عنا مرثدا، ولا يدخل معنا الحرم، فإنه قد اتبع هودا، ومضوا إلى الحرم، فاستسقى قيل بن عنز، وقال: يا إلاهنا إن كان هود صادقا، فاسقنا، فإنا قد هلكنا، فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شئت، فقال قيل: قد اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء، فنودي
قد اخترت رمادا رمددا
لا تبقي من عاد أحدا
لا والدا ولا ولدا
إلا جعلتهم همدا
وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له: المغيث، فلما رأوها، قالوا هذا عارض ممطرنا، حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم يقال لها: مهدر، فصاحت وصعقت، فلما أفاقت قيل لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم سبع ليال، وثمانية أيام حسوما، والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك، فاعتزل هود، ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه من ريح إلا ما يلتد به.
قال * ع *: وهذا قصص وقع في «تفسير الطبري» مطولا، وفيه اختلاف، فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز، وفي خبرهم: أن الريح كانت تدمغهم بالحجارة، وترفع الظعينة عليها المرأة حتى تلقيها في البحر.
وفي خبرهم: أن أقوياءهم كان أحدهم يسد بنفسه مهب الريح حتى تغلبه فتلقيه في البحر، فيقوم آخر مكانه حتى هلك الجميع. وقال زيد بن أسلم: بلغني أن ضبعا ربت أولادها في حجاج عين رجل منهم.
وفي خبرهم: أن الله سبحانه لما أهلكهم بعث طيرا، فنقلت جيفهم حتى طرحتها في البحر، فذلك قوله سبحانه:
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم
[الأحقاف:25] وفي بعض ما روي من شأنهم أن الريح لم تبعث قط إلا بمكيال إلا يومئذ، فإنها عتت على الخزنة، فغلبتهم، فذلك قوله سحبانه:
فأهلكوا بريح صرصر عاتية
[الحاقة:6] وروي أن هودا لما هلكت عاد نزل بمن آمن معه إلى «مكة» فكانوا بها حتى ماتوا، فالله أعلم أي ذلك كان.
وقولهم: { أجئتنا لنعبد الله وحده... } الآية: ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم، ويفردون العبادة لله مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع، وهذا هو الأظهر فيهم، وفي عباد الأوثان كلهم، ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت غباوته.
وقولهم: { فأتنا بما تعدنا }: تصميم على التكذيب، واستعجال للعقوبة.
[7.71-72]
وقوله سبحانه: { قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين * فأنجيناه والذين معه برحمة منا... } الآية: أعلمهم بأن القضاء قد نفذ، وحل عليهم الرجس، وهو السخط والعذاب.
وقوله: { أتجادلونني في أسماء سميتموها } أي: في مسميات سميتموها آلهة، و { قطعنا دابر } استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك، والدابر: الذي يدبر القوم، ويأتي خلفهم، فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك، فلم يبق أحد.
وقوله: { كذبوا بآياتنا } دال على المعجزة، وإن لم تتعين.
* ت *: ومن معجزاته قوله:
فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون
[هود:55] على ما سيأتي إن شاء الله في موضعه.
[7.73]
وقوله سبحانه: { وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } قرأ الجمهور: و«إلى ثمود» بغير صرف؛ على إرادة القبيلة، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: «وإلى ثمود» بالصرف؛ على إرادة الحي والقراءتان فصيحتان، مستعملتان، وقد قال تعالى:
ألا إن ثمودا كفروا ربهم
[هود:68]، و { أخاهم } عطف على «نوح»، والمعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم، وهي أخوة نسب، وهم قوم عرب، فهود وصالح عربيان، وكذلك إسماعيل وشعيب؛ كذا قال الناس، وفي أمر إسماعيل نظر.
* ت *: النظر الذي أشار إليه لا يخفى عليك؛ وذلك أن إسماعيل والده إبراهيم عليه السلام أعجمي، وتعلم إسماعيل العربية من العرب الذين نزلوا عليه بمكة؛ حسب ما ذكره أهل السيرة فهذا وجه النظر الذي أشار إليه، وفي نظره رحمه الله نظر يمنعني من البحث معه ما أنا له قاصد من الإيجاز والاختصار، دون البسط والانتشار، نعم خرج أبو بكر الآجري من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" وأربعة من العرب: هود، وشعيب، وصالح ونبيك، يا أبا ذر "
انتهى، ولم يذكر إسماعيل، فهذا الحديث قد يعضد ما قاله * ع *: وصالح عليه السلام هو صالح بن عبيد بن عابر بن إرم بن سام بن نوح؛ كذا ذكر مكي.
قال وهب: بعثه الله حين راهق الحلم، ولما هلك قومه، ارتحل بمن معه إلى مكة، فأقاموا بها حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر، أي: كما ارتحل هود بمن معه إلى مكة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقوله: { قد جاءتكم بينة من ربكم } أي: آية أو حجة أو موعظة بينة من ربكم، قال بعض الناس: إن صالحا جاء بالناقة من تلقاء نفسه.
وقال الجمهور: بل كانت مقترحة، وهذا أليق بما ورد في الآثار من أمرهم، روي أن قومه طلبوا منه آية تضطرهم إلى الإيمان، وقالوا: يا صالح، إن كنت صادقا، فادع لنا ربك يخرج لنا من هذه الهضبة، وفي بعض الروايات من هذه الصخرة - لصخرة بالحجر - ناقة عشراء، فدعا الله، فتمخضت تلك الهضبة، وانشقت عن ناقة عظيمة، وروي أنها كانت حاملا، فولدت سقبها المشهور.
وروي أنه خرج معها فصيلها من الصخرة.
وقيل لها: { ناقة الله }؛ تشريفا لها، وتخصيصا، وهي إضافة خلق إلى خالق، وجعل الله لها شربا يوما، ولهم شرب يوم، وكانت آية في شربها وحلبها.
قال المفسرون: كانت خلقا عظيما تأتي إلى الماء بين جبلين، فيزحمانها من العظم، وقاسمت ثمود في الماء يوما بيوم، فكانت الناقة ترد يومها، فتستوفي ماء بئرهم شربا، ويحلبونها ما شاؤوا من لبن، ثم تمكث يوما، وترد بعد ذلك غبا، فاستمر ذلك ما شاء الله حتى ملتها ثمود، وقالوا: ما نصنع باللبن؛ الماء أحب إلينا منه، وكان سبب الملل فيما روي: أنها كانت تصيف في بطن الوادي، وادي الحجر وتشتو في ظاهره، فكانت مواشيهم تفر منها، فتمالؤوا على ملل الناقة، وروي أن صالحا أوحى الله إليه أن قومك سيعقرون الناقة، وينزل بهم العذاب عند ذلك، فأخبرهم بذلك، فقالوا: عياذا بالله أن نفعل ذلك، فقال: إن لم تفعلوا أنتم أوشك أن يولد فيكم من يفعله، وقال لهم صفة عاقرها: أحمر، أشقر، أزرق، فولد قدار على الصفة المذكورة، فكان الذي عقرها بالسيف، وقيل: بالسهم في ضرعها، وهرب فصيلها عند ذلك؛ حتى صعد على جبل يقال له القارة، فرغا ثلاثا، فقال: يا صالح، هذا ميعاد ثلاثة أيام للعذاب، وأمرهم قبل رغاء الفصيل أن يطلبوه عسى أن يصلوا إليه، فيندفع عنهم العذاب به، فراموا الصعود إليه في الجبل فارتفع الجبل في السماء؛ حتى ما تناله الطير؛ وحينئذ رغا الفصيل، وروي أن صالحا عليه السلام قال لهم، حين رغا الفصيل: ستصفر وجوهكم في اليوم الأول، وتحمر في الثاني، وتسود في الثالث، فلما ظهرت العلامات التي قال لهم، أيقنوا بالهلاك ، واستعدوا، ولطخوا أبدانهم بالمر، وحفروا القبور، وتحنطوا وتكفنوا في الأنطاع، فأخذتهم الصيحة، وخرج صالح ومن آمن معه؛ حتى نزل رملة فلسطين، وقد أكثر الناس في هذا القصص، وهذا القدر كاف، ومن أراد استيفاء هذا القصص، فليطالع الطبري.
قال * ع *: وبلاد ثمود هي بين الشام والمدينة، وهي التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في غزوة تبوك فقال:
" لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ثم اعتجر بعمامة "
، وأسرع السير، حتى جاز الوادي صلى الله عليه وسلم.
* ت *: ولفظ البخاري: ثم قنع رأسه، وأسرع السير... الحديث.
[7.74-79]
وقوله سبحانه: { واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد وبوأكم في الأرض... } { بوأكم }: معناه مكنكم، وهي مستعملة في المكان وظروفه، و«القصور»: جمع قصر، وهي الديار التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصة؛ بخلاف بيوت العمود، وقصرت على الناس قصرا تاما، و«النحت»: النجر والقشر في الشيء الصلب؛ كالحجر والعود، ونحوه، وكانوا ينحتون الجبال لطول أعمارهم، و(تعثوا) معناه تفسدوا.
قال أبو حيان: و { مفسدين }: حال موكدة. انتهى.
و { الذين استكبروا } هم الأشراف والعظماء الكفرة، و { الذين استضعفوا }: هم العامة والأغفال في الدنيا، وهم أتباع الرسل، وقولهم: { أتعلمون }: استفهام؛ على معنى الاستهزاء والاستخفاف، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصرامة في دين الله، فحملت الأنفة الأشراف على مناقضة المؤمنين في مقالتهم، واستمروا على كفرهم.
وقوله سبحانه: { فعقروا الناقة } يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة كان على تمالؤ منهم واتفاق، وكذلك روي أن قدارا لم يعقرها حتى كان يستشير، و { عتوا }: معناه: خشنوا وصلبوا، ولم يذعنوا للأمر والشرع، وصمموا على تكذيبه، واستعجلوا النقمة بقولهم: { ائتنا بما تعدنا } ، فحل بهم العذاب، و { الرجفة }: ما تؤثره الصيحة أو الطامة التي يرجف بها الإنسان، وهو أن يتحرك ويضطرب، ويرتعد؛ ومنه: « فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده» وروي أن صيحة ثمود كان فيها من كل صوت مهول، وكانت مفرطة شقت قلوبهم، فجثموا على صدورهم، والجاثم اللاطىء بالأرض على صدره، ف { جاثمين }: معناه: باركين قد صعق بهم، وهو تشبيه بجثوم الطير، وجثوم الرماد، وقال بعض المفسرين: معناه: حميما محترقين؛ كالرماد الجاثم، وذهب صاحب هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعق محرقة، وروي أن الصيحة أصابت كل من كان منهم في شرق الأرض وغربها إلا رجلا كان في الحرم، فمنعه الحرم ثم هلك بعد خروجه من الحرم؛ ففي «مصنف أبي داود»، قيل: يا رسول الله؛ من ذلك الرجل؟ قال: أبو رغال، وذكر الطبري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الخبر يرد ما في السير من أن أبا رغال هو دليل الفيل، وقوله: { فتولى عنهم } ، أي: تولى عنهم وقت عقر الناقة، وذلك قبل نزول العذاب؛ وكذلك روي أنه عليه السلام خرج من بين أظهرهم قبل نزول العذاب، وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم، ويحتمل أن يكون خطابه لهم وهم موتى؛ على جهة التفجع عليهم، وذكر حالهم أو غير ذلك؛ كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر. قال الطبري؛ وقيل: إنه لم تهلك أمة، ونبيها معها، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة، فأقام بها حتى مات، ولفظ التولي يقتضي اليأس من خيرهم، واليقين في إهلاكهم، وقوله: { ولكن لا تحبون النصحين }: عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي السديد؛ إذ كلام الناصح صعب مضاد لشهوة الذي ينصح، ولذلك تقول العرب: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.
[7.80-84]
وقوله سبحانه: { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين }.
لوط عليه عليه السلام بعثه الله سبحانه إلى أمة تسمى «سدوم» وروي أنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام ونصبه: إما ب «أرسلنا» المتقدم في الأنبياء، وإما بفعل محذوف، تقديره: واذكر لوطا، و { الفاحشة }: إتيان الذكور في الأدبار، وروي أنه لم تكن هذه المعصية في أمة قبلهم، وحكم هذه الفاحشة؛ عند مالك وغيره: الرجم، أحصن أم لم يحصن، وحرق أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلا عمل عمل قوم لوط، وقرأ نافع وغيره: «أنكم»؛ على الخبر؛ كأنه فسر الفاحشة، والإسراف: الزيادة الفاسدة، ولم تكن مراجعة قومه باحتجاج منهم، ولا بمدافعة عقلية، وإنما كانت بكفر وخذلان، و { يتطهرون }: معناه: يتنزهون عن حالنا وعادتنا.
قال قتادة: عابوهم بغير عيب، وذموهم بغير ذم واستثنى الله سبحانه امرأة لوط عليه السلام من الناجين، وأخبر أنها هلكت، والغابر: هو الباقي؛ هذا هو المشهور في اللغة، وقد يجيء الغابر بمعنى الماضي، وكذلك حكى أهل اللغة «غبر» بمعنى بقي، وبمعنى «مضى»، وقوله: { وأمطرنا عليهم مطرا... } الآية، أي: بحجارة، وروي أن الله تعالى بعث جبريل، فاقتلعها بجناحه، وهي ست مدن.
وقيل خمس، وقيل: أربع، فرفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا صراخ الديكة، ونباح الكلاب، ثم عكسها، ورد أعلاها أسفلها، وأرسلها إلى الأرض، وتبعتهم الحجارة مع هذا، فأهلكت من كان منهم، من كان في سفر، أو خارجا من البقع المرفوعة، وقالت امرأة لوط، حين سمعت الوجبة: واقوماه، والتفتت، فأصابتها صخرة فقتلتها.
[7.85-93]
وقوله سبحانه: { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها... } الآية: قيل في { مدين } إنه اسم بلد وقطر، وقيل: اسم قبيلة، وقيل: هم من ولد مدين بن إبراهيم الخليل، وهذا بعيد، وروي أن لوطا هو جد شعيب لأمه.
وقال مكي: كان زوج بنت لوط، و { أخاهم }: منصوب ب «أرسلنا» في أول القصص، و«البينة»: إشارة إلى معجزته، { ولا تبخسوا } معناه ولا تظلموا؛ ومنه قولهم: تحسبها حمقاء، وهي باخس، أي: ظالمة خادعة، وقال في «سورة هود»: البخس: النقص.
* ت *: ويحتمل والله أعلم أن البخس هو ما اعتاده الناس من ذم السلع؛ ليتوصلوا بذلك إلى رخصها، فتأمله، والله أعلم بما أراد سبحانه.
قال أبو حيان: ولا تبخسوا: متعد إلى مفعولين، تقول: بخست زيدا حقه، أي: نقصته إياه. انتهى.
و { أشياءهم }: يريد أمتعتهم وأموالهم، { ولا تفسدوا }: لفظ عام في دقيق الفساد وجليله؛ وكذلك الإصلاح عام، { ذلكم خير لكم } ، أي: عند الله { إن كنتم مؤمنين } ، أي: بشرط الإيمان والتوحيد، وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان، { ولا تقعدوا بكل صراط... } الآية: قال السدي: هذا نهي عن العشارين والمتغلبين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل، و«الصراط»: الطريق، وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا؛ لأنه من قبيل بخسهم ونقصهم الكيل والوزن، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: هو نهي عن السلب وقطع الطرق، وكان ذلك من فعلهم، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما تقدم من الآية يؤيد هذين القولين، وقال ابن عباس وغيره: قوله: { ولا تقعدوا } نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب، فيتوعدون من أراد المجيء إليه، ويصدونه، وما بعد هذا من الألفاظ يشبه هذا من القول، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على اسم الله، وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب، قال الداوودي: وعن مجاهد { تبغونها عوجا }: يلتمسون لها الزيغ. انتهى.
ثم عدد عليهم نعم الله تعالى، وأنه كثرهم بعد قلة عدد.
وقيل: أغناهم بعد فقر، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم، وقوله: { وإن كان طائفة منكم ءامنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا... } الاية: قوله: { فاصبروا } تهديد للطائفة الكافرة، وقولهم: { أو لتعودن في ملتنا } معناه: أو لتصيرن، و«عاد» في كلام العرب على وجهين:
أحدهما: عاد الشيء إلى حال قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذا الوجه لا تتعدى، فإن عديت، فبحرف؛ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ألا ليت أيام الشباب جديد
وعمرا تولى يا بثين يعود
ومنه قوله تعالى:
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
[الأنعام:28].
والوجه الثاني: أن تكون بمعنى «صار»، وعاملة عملها، ولا تتضمن أن الحال قد كانت متقدمة؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ومنه قول الآخر
وعاد رأسي كالثغامة...
ومنه قوله تعالى:
حتى عاد كالعرجون القديم
[يس:39]، على أن هذه محتملة بقوله في الآية: { أو لتعودن } ، وشعيب عليه السلام لم يك قط كافرا، فيقتضي أنها بمعنى «صار»، وأما في جهة المؤمنين به بعد كفرهم، فيترتب المعنى الآخر، ويخرج عنه شعيب، وقوله: { أولو كنا كرهين } توقيف منه لهم على شنعة المعصية، وطلب أن يقروا بألسنتهم بإكراه المؤمنين على الإخراج ظلما وغشما.
قال * ص *: { قد افترينا }: هو بمعنى المستقبل؛ لأنه سد مسد جواب الشرط، وهو: { إن عدنا } أو هو جوابه، على قول. انتهى.
وقوله: { إلا أن يشاء الله ربنا } يحتمل أن يريد إلا أن يسبق علينا في ذلك من الله سابق سوء، وينفذ منه قضاء لا يرد.
قال * ع *: والمؤمنون هم المجوزون لذلك، وأما شعيب، فقد عصمته النبوة، وهذا أظهر مما يحتمل القول، ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما يفعله الكفار من القربات.
وقيل: إن هذا الاستثناء إنما هو تسنن وتأدب، وقوله: { وسع ربنا كل شيء علما }: معناه: وسع علم ربنا كل شيء؛ كما تقول: تصبب زيد عرقا أي: تصبب عرق زيد، ووسع بمعنى «أحاط»، وقوله: { افتح } معناه: احكم، وقوله: { على الله توكلنا }: استسلام لله سبحانه، وتمسك بلطفه؛ وذلك يؤيد التأويل الأول في قوله: { إلا أن يشاء الله ربنا } وقوله سبحانه: { وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا... } الآية: أي: قال الملأ لتباعهم ومقلديهم، و { الرجفة }: الزلزلة الشديدة التي ينال الإنسان معها اهتزاز وارتعاد واضطراب، فيحتمل أن فرقة من قوم شعيب هلكت بالرجفة، وفرقة بالظلة، ويحتمل أن الظلة والرجفة كانتا في حين واحد.
* ت *: والرجفة هي الصيحة يرجف بسببها الفؤاد؛ وكذلك هو مصرح بها في قصة قوم شعيب في قوله سبحانه:
وأخذت الذين ظلموا الصيحة...
الآية[هود:94] وقوله سبحانه: { كأن لم يغنوا فيها } الضمير في قوله «فيها» عائد على دارهم، ويغنوا: معناه: يقيمون بنعمة وخفض عيش، وهذا اللفظ فيه قوة الإخبار عن هلاكهم، ونزول النقمة بهم، والتنبيه على العبرة والاتعاظ بهم، ونحو هذا قول الشاعر: [الطويل]
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
قال * ع *: فغنيت في المكان، إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرضي، وقوله: { يقوم لقد أبلغتكم رسلت ربي ونصحت لكم }: كلام يقتضي حزنا وإشفاقا؛ لما رأى هلاك قومه، إذ كان أمله فيهم غير ذلك، ولما وجد في نفسه ذلك، طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم، فجعل يعدد معاصيهم وإعراضهم، ثم قال لنفسه لما نظر وفكر: { فكيف ءاسى على قوم كفرين } ، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم لأهل قليب بدر، وأسى معناه: أحزن.
قال مكي: وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة إلى أن ماتوا بها.
[7.94-96]
وقوله سبحانه: { ومآ أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون } أخبر سبحانه أنه ما بعث نبيا في قرية، وهي المدينة إلا أخذ أهلها المكذبين له { بالبأساء }؛ وهي المصائب في المال، وعوارض الزمن { والضراء } وهي المصائب في البدن؛ كالأمراض ونحوها، { لعلهم يضرعون } ، أي: ينقادون إلى الإيمان، وهكذا قولهم: الحمى أضرعتني لك، { ثم بدلنا مكان السيئة } ، وهي البأساء والضراء { الحسنة } ، وهي السراء والنعمة { حتى عفوا }: معناه: حتى كثروا، يقال: عفا النبات والريش؛ إذا كثر نباته؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى "
ولما بدل الله حالهم بالخير؛ لطفا بهم فنموا، رأوا أن إصابة الضراء والسراء إنما هي بالاتفاق، وليست بقصد؛ كما يخبر به النبي، واعتقدوا أن ما أصابهم من ذلك إنما هو كالاتفاق الذي كان لآبائهم، فجعلوه مثالا، أي: قد أصاب هذا آباءنا، فلا ينبغي لنا أن ننكره، ثم أخبر سبحانه؛ أنه أخذ هذه الطوائف التي هذا معتقدها، وقوله: { بغتة } أي: فجأة وأخذة أسف، وبطشا؛ للشقاء السابق لهم في قديم علمه سبحانه.
وقوله تعالى: { ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السماء والأرض } ، أي: من بركات المطر والنبات، وتسخير الرياح والشمس والقمر في مصالح العباد؛ وهذا بحسب ما يدركه نظر البشر، ولله سبحانه خدام غير ذلك لا يحصى عددهم، وما في علم الله أكثر.
[7.97-100]
وقوله سبحانه: { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيتا وهم نائمون... } الآية تتضمن وعيدا للكافرين المعاصرين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لما أخبر عما فعل في الأمم الخالية، قال: وهل يأمن هؤلاء أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك، وهذا استفهام على جهة التوقيف، والبأس: العذاب، و { مكر الله } هي إضافة مخلوق إلى خالق، والمراد فعل يعاقب به مكرة الكفرة، والعرب تسمي العقوبة باسم الذنب.
وقوله سبحانه: { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها... } الآية: هذه ألف تقرير دخلت على واو العطف، و«يهدي»: معناه: يبين، فيحتمل أن يكون المبين الله سبحانه، ويحتمل أن يكون المبين قوله: { أن لو نشاء } ، أي علمهم بذلك، وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد: يهدي: معناه: يتبين، وهذه أيضا آية وعيد، أي: ألم يظهر لوارثي الأرض بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم، وما حل بهم أنا نقدر لو شئنا أصبناهم بذنوبهم؛ كما فعلنا بمن تقدم، وفي العبارة وعظ بحال من سلف من المهلكين.
[7.101-108]
وقوله سبحانه: { تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينت فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكفرين } «تلك» ابتداء، و«القرى» قال قوم: هو نعت، والخبر «نقص»، وعندي: أن «أهل القرى» هي خبر الابتداء، وفي ذلك معنى التعظيم لها، ولمهلكها؛ وهذا كما قيل في قوله تعالى:
ذلك الكتب
[البقرة:2] وكما قال عليه السلام:
" أولئك الملأ "
وكقول ابن أبي الصلت: [البسيط]
تلك المكارم..........
.......................
وهذا كثير.
ثم ابتدأ سبحانه الخبر عن جميعهم بقوله: { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينت فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } ، هذا الكلام يحتمل وجوها من التأويل:
أحدها: أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم، فكذبوه لأول أمره، ثم استبانت حجته، وظهرت الآيات الدالة على صدقه، مع استمرار دعوته.، فلجوا هم في كفرهم، ولم يؤمنوا بما سبق به تكذيبهم.
والثاني: من الوجوه: أن يريد: فما كان آخرهم في الزمن ليؤمن بما كذب به أولهم في الزمن، بل مشى بعضهم على سنن بعض في الكفر؛ أشار إلى هذا التأويل النقاش.
والثالث: أن هؤلاء لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا، لم يكن منهم إيمان؛ قاله مجاهد، وقرنه بقوله:
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
[الأنعام:28].
والرابع: أنه يحتمل: فما كانوا ليؤمنوا بما سبق في علم الله سبحانه؛ أنهم مكذبون به؛ وذكر هذا التأويل المفسرون.
وقوله سبحانه: { وما وجدنا لأكثرهم من عهد... } الآية: أخبر سبحانه أنه لم يجد لأكثرهم ثبوتا على العهد الذي أخذه سبحانه على ذرية آدم وقت استخراجهم من ظهره؛ قاله أبو العالية عن أبي بن كعب، ويحتمل أن يكون المعنى: وما وجدنا لأكثرهم التزام عهد، وقبول وصاة مما جاءتهم به الرسل عن الله، ولا شكروا نعم الله عز وجل.
قال * ص *: { لأكثرهم }: يحتمل أن يعود على «الناس» أو على { أهل القرى } أو «الأمم الماضية». انتهى.
وقوله سبحانه: { ثم بعثنا من بعدهم موسى بآيتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها... } الآيات؛ في هذه الآية: عام في التسع وغيرها، والضمير في «من بعدهم» عائد على الأنبياء المتقدم ذكرهم، وعلى أممهم.
وقوله سبحانه: { فانظر كيف كان عقبة المفسدين }: فيه وعيد، وتحذير للكفرة المعاصرين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه: { وقال موسى يفرعون إني رسول من رب العلمين * حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } ، قرأ نافع وحده: «علي» بإضافة «على» إليه، وقرأ الباقون: «على» بسكون الياء.
قال الفارسي: معنى هذه القراءة أن «على» وضعت موضع الباء؛ كأنه قال: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، وقال قوم: «حقيق» صفة ل«رسول»، تم عندها الكلام، و«علي»: خبر مقدم و«ألا أقول»: ابتداء، وإعراب «أن»، على قراءة من سكن الياء خفض، وعلى قراءة من فتحها مشددة: رفع، وفي قراءة عبد الله: «حقيق أن لا أقول»، وهذه المخاطبة إذا تأملت غاية في التلطف، ونهاية في القول اللين الذي أمر به عليه السلام، وقوله: { قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرءيل * قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصدقين } «البينة»؛ هنا إشارة إلى جميع آياته، وهي على المعجزة منها أدل، وهذا من موسى عليه السلام عرض نبوته، ومن فرعون استدعاء خرق العادة الدال على الصدق، وظاهر هذه الآية وغيرها أن موسى عليه السلام لم تنبن شريعته إلا على بني إسرائيل فقط، ولم يدع فرعون وقومه إلا إلى إرسال بني إسرائيل، وذكره:
لعله يتذكر أو يخشى
[طه:44]. وقوله: { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } ، روي أن موسى قلق به، وبمجاورته فرعون، فقال لأعوانه: خذوه، فألقى موسى العصا، فصارت ثعبانا، وهمت بفرعون، فهرب منها.
وقال السدي: إنه أحدث، وقال: يا موسى كفه عني، فكفه، وقال نحوه سعيد بن جبير، ويقال: إن الثعبان وضع أسفل لحييه في الأرض وأعلاهما في أعلى شرفات القصر. والثعبان: الحية الذكر وهو أهول وأجرأ؛ قاله الضحاك، وقال قتادة: صارت حية أشعر ذكرا، وقال ابن عباس: غرزت ذنبها في الأرض، ورفعت صدرها إلى فرعون، وقوله: { مبين } معناه: لا تخييل فيه، بل هو بين؛ إنه ثعبان حقيقة، { ونزع يده }: معناه: من جيبه، أو من كمه؛ حسب الخلاف في ذلك.
وقوله: { فإذا هي بيضاء للنظرين } ، قال مجاهد: كاللبن أو أشد بياضا، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس تأتلق، وكان موسى عليه السلام آدم أحمر إلى السواد، ثم كان يرد يده، فترجع إلى لون بدنه.
قال * ع *: فهاتان الآيتان عرضهما عليه السلام للمعارضة، ودعا إلى الله بهما، وخرق العادة بهما.
* ت *: وظاهر الآية كما قال، وليس في الآية ما يدل على أنه أراد بإلقاء العصا الانتصار والتخويف؛ كما يعطيه ما تقدم ذكره من القصص.
[7.109-116]
وقوله عز وجل: { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لسحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } لا محالة أنهم خافوا أمر موسى، وجالت ظنونهم كل مجال، وقوله: { فماذا تأمرون } الظاهر أنه من كلام الملإ بعضهم لبعض، وقيل: إنه من كلام فرعون لهم، وروى كردم عن نافع: { تأمرون } بكسر النون وكذلك في «الشعراء» [الشعراء:35].
و«ما»: استفهام، و«ذا»: بمعنى الذي، فهما ابتداء وخبر، وفي «تأمرون»: ضمير عائد على الذي، تقديره: تأمرون به، ويجوز أن تجعل «ماذا» بمنزلة اسم واحد في موضع نصب ب «تأمرون» ولا يضمر فيه؛ على هذا، وقوله: { قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حشرين * يأتوك بكل سحر عليم } أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون، ويدع النظر في أمرهما، ويجمع السحرة، وحكى النقاش؛ أنه لم يكن يجالس فرعون ولد غية، وإنما كانوا أشرافا؛ ولذلك أشاروا بالإرجاء، ولم يشيروا بالقتل، وقالوا: إن قتلته، دخلت على الناس شبهة، ولكن اغلبه بالحجة.
وقوله سبحانه: { وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغلبين * قال نعم وإنكم لمن المقربين }: «الأجر» هنا: الأجرة.
واختلف الناس في عدد السحرة على أقوال كثيرة ليس لها سند يوقف عنده، والحاصل من ذلك أنهم جمع عظيم، وقوله تعالى: { قالوا يموسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس } ، وخير السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر، وهذا فعل المدل الواثق بنفسه، والظاهر أن التقدم في التخييلات والمخاريق أنجح؛ لأن بديهتها تمضي بالنفوس، فليظهر الله أمر نبوة موسى، قوى نفسه ويقينه، ووثق بالحق، فأعطاهم التقدم، فنشطوا وسروا حتى أظهر الله الحق، وأبطل سعيهم، وقوله سبحانه: { سحروا أعين الناس }: نص في أن لهم فعلا ما زائدا على ما يحدثونه من التزويق، { واسترهبوهم } بمعنى: أرهبوهم، أي: فزعوهم، ووصف الله سبحانه سحرهم ب «العظيم»، ومعنى ذلك من كثرته، وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستين بعيرا موقورة بالحبال، والعصي، فلما ألقوها، تحركت، وملأت الوادي، يركب بعضها بعضا فاستهول الناس ذلك، واسترهبهم، قال الزجاج: قيل: إنهم جعلوا فيهم الزئبق، فكانت لا تستقر.
[7.117-119]
وقوله سبحانه: { وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون }: وروي أن موسى عليه السلام لما كان يوم الجمع، خرج متكئا عى عصاه، ويده في يد أخيه، وقد صف له السحرة في عدد عظيم، حسبما ذكر، فلما ألقوا واسترهبوا، أوحي الله إليه؛ أن ألق، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فعظم حتى كان كالجبل.
وروي أن السحرة، لما ألقوا، وألقى موسى، جعلوا يرقون، وجعلت حبالهم تعظم وجعلت عصا موسى تعظم حتى سدت الأفق، وابتلعت الكل، وروي أن الثعبان استوفى تلك الحبال والعصي أكلا، وأعدمها الله عز وجل، ومد موسى يده إلى فمه، فعاد عصا كما كان، فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر، فخروا سجدا مؤمنين بالله ورسوله، و { تلقف } معناه: تبتلع وتزدرد، وقرأ ابن جبير: «تلقم» بالميم.
وقوله سبحانه: { فوقع الحق... } الآية: أي: نزل ووجد، وقال أبو حيان: فوقع، أي: فظهر، و«الحق»: يريد به سطوع البرهان، وظهور الإعجاز، { ما كانوا يعملون } لفظ يعم سحر السحرة، وسعي فرعون، وشيعته، والضمير في قوله: «فغلبوا»: عائد على جميعهم أيضا، وفي قوله: { وانقلبوا صغرين } ، إن قدرنا انقلاب الجمع قبل إيمان السحرة، فهم في الضمير، وإن قدرناه بعد إيمانهم، فليسوا في الضمير، ولا لحقهم صغار؛ لأنهم آمنوا واستشهدوا رضي الله عنهم.
[7.120-127]
وقوله سبحانه: { وألقي السحرة سجدين * قالوا ءامنا برب العلمين * رب موسى وهرون * قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون * لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين } ، لما رأى السحرة من عظيم القدرة ماتيقنوا به نبوة موسى، آمنوا بقلوبهم، وانضاف إلى ذلك الاستهوال والاستعظام والفزع من قدرة الله عز وجل، فخروا لله سبحانه متطارحين قائلين بألسنتهم: { آمنا برب العلمين * رب موسى وهرون }.
قال * ع *: وهارون أخو موسى أسن منه بثلاث سنين، وقول فرعون: { آمنتم به قبل أن آذن لكم }: دليل على وهنه، وضعف أمره؛ لأنه إنما جعل ذنبهم عدم إذنه، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على اسم الله سبحانه، ويحتمل أن يعود على موسى عليه السلام، وعنفهم فرعون على الإيمان قبل إذنه، ثم ألزمهم أن هذا كان عن اتفاق منهم، وروي في ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، أن موسى اجتمع مع رئيس السحرة، واسمه شمعون، فقال له موسى: أرأيت إن غلبتكم؛ أتؤمنون بي، فقال: نعم، فعلم بذلك فرعون؛ فلهذا قال: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة، ثم توعدهم.
وقوله سبحانه: { قالوا إنا إلى ربنا منقلبون * وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيت ربنا لما جاءتنا.. } الآية: هذا استسلام من مؤمني السحرة، واتكال على الله سبحانه، وثقة بما عنده، وقرأ الجمهور: «تنقم» بكسر القاف ، ومعناه: وما تعد علينا ذنبا تؤاخذنا به إلا أن آمنا، قال ابن عباس وغيره فيهم: أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء، قال ابن عباس: لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل، وقول ملإ فرعون: { أتذر موسى وقومه... } الآية: مقالة تتضمن إغراء فرعون وتحريضه، وقولهم: { ويذرك وآلهتك } ، روي أن فرعون كان في زمنه للناس آلهة من بقر، وأصنام، وغير ذلك، وكان فرعون قد شرع ذلك، وجعل نفسه الإله الأعلى فقوله على هذا
أنا ربكم الأعلى
[النازعات:24] إنما يريد: بالنسبة إلى تلك المعبودات.
وقيل: إن فرعون كان يعبد حجرا يعلقه في صدره. كأنه ياقوتة أو نحوها، وعن الحسن نحوه، وقوله: { سنقتل أبناءهم } ، المعنى: سنستمر على ما كنا عليه من تعذيبهم، وقوله: { وإنا فوقهم } ، يريد: في المنزلة، والتمكن من الدنيا، و { قهرون }: يقتضي تحقير أمرهم، أي: هم أقل من أن يهتم بهم. قلت: وهذا من عدو الله تجلد، وإلا فقد قال فيما أخبر الله سبحانه به عنه:
إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حذرون
[الشعراء:54،55،56]
[7.128-132]
وقوله سبحانه: { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا... } الآية: لما قال فرعون { سنقتل أبناءهم } ، وتوعدهم، قال موسى لبني إسرائيل، يثبتهم، ويعدهم عن الله تعالى: { استعينوا بالله } ، والأرض هنا: أرض الدنيا، وهو الأظهر.
وقيل: المراد هنا أرض الجنة، وأما في الثانية، فأرض الدنيا لا غير، والصبر في هذه الآية: يعم الانتظار الذي هو عبادة، والصبر في المناجزات، والبأس، وقولهم : { أوذينا من قبل أن تأتينا } ، يعنون به الذبح الذي كان في المدة التي كان فرعون يتخوف فيها أن يولد المولود الذي يخرب ملكه، { ومن بعد ما جئتنا } ، يعنون به وعيد فرعون، وسائر ما كان خلال تلك المدة، من الإخافة لهم.
وقال ابن عباس والسدي: إنما قالت بنو إسرائيل هذه المقالة، حين اتبعهم فرعون، واضطرهم إلى البحر.
قال * ع *: وبالجملة فهو كلام يجري مع المعهود من بني إسرائيل؛ من اضطرابهم على أنبيائهم، وقلة يقينهم، واستعطاف موسى لهم بقوله: { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } ، ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض، يدل على أنه يستدعي نفوسا نافرة؛ ويقوي هذا الظن في جهة بني إسرائيل سلوكهم هذا السبيل في غير ما قصة، وقوله: { فينظر كيف تعملون } تنبيه وحض على الاستقامة، ولقد استخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان، وقد فتحوا بيت المقدس مع يوشع.
وقوله سبحانه: { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } ، أي: بالجدوب والقحوط، وهذه سيرة الله في الأمم، وقوله: { ونقص من الثمرات } ، أي: حتى روي أن النخلة من نخلهم لا تحمل إلا ثمرة واحدة، وقال نحوه رجاء بن حيوة وفعل الله تعالى بهم هذا؛ لينيبوا ويزدجروا عما هم عليه من الكفر؛ إذ أحوال الشدة ترق معها القلوب، وترغب فيما عند الله سبحانه.
وقوله عز وجل: { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه... } الآية: كان القصد في إصابتهم بالقحط والنقص في الثمرات أن ينيبوا ويرجعوا، فإذا هم قد ضلوا، وجعلوها تشاؤما بموسى، فكانوا إذا اتفق لهم اتفاق حسن في غلات ونحوها، قالوا: هذه لنا، وبسببنا، وإذا نالهم ضر، قالوا: هذا بسبب موسى وشؤمه؛ قاله مجاهد وغيره، وقرأ الجمهور «يطيروا» بالياء وشد الطاء والياء الأخيرة ، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره: «تطيروا» بالتاء وتخفيف الطاء ، وقرأ مجاهد: ««تشاءموا بموسى» بالتاء من فوق وبلفظ الشؤم.
وقوله سبحانه: { ألآ إنما طائرهم عند الله } معناه: حظهم ونصيبهم؛ قاله ابن عباس، وهو مأخوذ من زجر الطير فسمي ما عند الله من القدر للإنسان طائرا؛ لما كان الإنسان يعتقد أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر، فهي لفظة مستعارة، ومهما أصلها عند الخليل؛ ماما، فأبدلت الألف الأولى هاء، وقال سيبويه: هي «مه ما»؛ خلطتا، وهي حرف واحد لمعنى واحد.
وقال غيره: معناها: «مه»، أي: كف، و«ما»: جزاء، ذكره الزجاج، وهذه الآية تتضمن طغيانهم، وعتوهم، وقطعهم على أنفسهم بالكفر البحت.
[7.133-137]
وقوله سبحانه: { فأرسلنا عليهم الطوفان... } الآية: الطوفان: مصدر من قولك: طاف يطوف، فهو عام في كل شيء يطوف إلا أن استعمال العرب له كثير في الماء والمطر الشديد، قال ابن عباس وغيره: الطوفان في هذه الآية: هو المطر الشديد، أصابهم وتوالى عليهم حتى هدم بيوتهم وضيق عليهم، وقيل: طم فيض النيل عليهم، وروي في كيفيته قصص كثيرة، وقالت عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الطوفان المراد في هذه الآية هو الموت ".
قلت: ولو صح هذا النقل، لم يبق مجملا وروي أن الله عز وجل لما والى عليهم المطر، غرقت أرضهم، وامتنعوا من الزراعة قالوا: يا موسى ادع لنا ربك في كشف هذا الغرق، ونحن نؤمن، فدعا، فكشفه الله عنهم، فأنبتت الأرض إنباتا حسنا، فنكثوا، وقالوا: ما نود أنا لم تمطر، وما هذا إلا إحسان من الله إلينا، فبعث الله عليهم حينئذ الجراد، فأكل جميع ما أنبتت الأرض، فروى ابن وهب، عن مالك؛ أنه أكل حتى أبوابهم، وأكل الحديد والمسامير، وضيق عليهم غاية التضييق، وترك الله من نباتهم ما يقوم به الرمق، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك في كشف الجراد، ونحن نؤمن، فدعا الله فكشفه، ورجعوا إلى كفرهم، فبعث الله عليه القمل، وهي الدبى صغار الجراد، الذي يثب ولا يطير؛ قاله ابن عباس وغيره، وقرأ الحسن: «القمل» بفتح القاف، وسكون الميم فهي على هذا القمل المعروف، وروي أن موسى مشى بعصاه إلى كثيب أهيل، فضربه، فانتشر كله قملا في مصر، ثم إنهم قالوا: ادع في كشف هذا، فدعا فرجعوا إلى طغيانهم، وكفرهم، فبعث الله عليهم الضفادع، فكانت تدخل في فرشهم، وبين ثيابهم، وإذا هم الرجل أن يتكلم، وثب ضفدع في فمه.
قال ابن جبير: كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع.
وقال ابن عباس: لما أرسلت الضفادع عليهم، وكانت برية، سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف أنفسها في القدور، وهي تغلي، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء، فقالوا: يا موسى، ادع في كشف هذا فدعا، فكشف، فرجعوا إلى كفرهم، فبعث الله عليهم الدم، فرجع ماؤهم الذي يستقونه، ويحصل عندهم دما، فروي أنه كان يستقي القبطي والإسرائيلي بإناء واحد، فإذا خرج الماء، كان الذي يلي القبطي دما، والذي يلي الإسرائيلي ماء إلى نحو هذا، وشبهه، من العذاب بالدم المنقلب عن الماء، هذا قول جماعة من المتأولين.
وقال زيد بن أسلم: إنما سلط عليهم الرعاف، فهذا معنى قوله: { والدم } ، وقوله: { آيات مفصلات } التفصيل: أصله في الأجرام: إزالة الاتصال، فهو تفريق شيئين، فإذا استعمل في المعاني، فيراد به أنه فرق بينها، وأزيل اشتباكها وإشكالها، فيجيء من ذلك بيانها.
وقالت فرقة: { مفصلات } يراد بها: مفرقات في الزمن.
قال الفخر: قال المفسرون: كان العذاب يبقى عليهم من السبت إلى السبت، وبين العذاب والعذاب شهر، وهذا معنى قوله: { آيات مفصلات } ، على هذا التأويل، أي: فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم، وينظر؛ أيقبلون الحجة والدليل، أم يستمرون على الخلاف والتقليد. انتهى.
وقوله عز وجل: { ولما وقع عليهم الرجز قالوا يموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك... } الآية: «الرجز»: العذاب، والظاهر من الآية أن المراد بالرجز هنا العذاب المتقدم الذكر من الطوفان والجراد وغيره.
وقال قوم: [إن] الرجز هنا طاعون أنزل الله بهم، والله أعلم، وهذا يحتاج إلى سند، وقولهم: { بما عهد عندك } لفظ يعم جميع الوسائل بين الله وبين موسى من طاعة من موسى ونعمة من الله تبارك وتعالى، ويحتمل أن يكون ذلك منهم على جهة القسم على موسى، وقولهم: { لئن كشفت } أي: بدعائك، { لنؤمنن } { ولنرسلن } قسم وجوابه، وهذا عهد من فرعون وملئه، وروي أنه لما انكشف العذاب، قال فرعون لموسى: اذهب ببني إسرائيل حيث شئت، فخالفه بعض ملئه، فرجع ونكث، و«إذا» هنا للمفاجأة، والأجل: يراد به غاية كل واحد منهم بما يخصه من الهلاك والموت؛ كما تقول: أخرت كذا إلى وقت، وأنت لا تريد وقتا بعينه، فاللفظ متضمن توعدا ما، { وكانوا عنها غفلين } أي: غافلين عما تضمنته الآيات من النجاة والهدى.
وقوله تعالى: { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشرق الأرض ومغربها... } الآية: { الذين كانوا يستضعفون } كناية عن بني إسرائيل، و { مشرق الأرض ومغربها }. قال الحسن وغيره: هي الشام. وقالت فرقة: يريد الأرض كلها؛ وهذا يتجه إما على المجاز؛ لأنه ملكهم بلادا كثيرة، وإما على الحقيقة في أنه ملك ذريتهم، وهم سليمان بن داود، ويترجح التأويل الأول بوصف الأرض بأنها التي بارك فيها سبحانه.
وقوله سبحانه: { وتمت كلمت ربك الحسنى } ، أي: ما سبق لهم في علمه وكلامه في الأزل من النجاة من عدوهم، والظهور عليه؛ قاله مجاهد، و { يعرشون } قال ابن عباس ومجاهد: معناه: يبنون.
قال * ع *: رأيت للحسن البصري رحمه الله؛ أنه احتج بقوله سبحانه: { وتمت كلمت ربك... } إلى آخر الآية؛ على أنه ينبغي ألا يخرج عن ملوك السوء، وإنما ينبغي أن يصبر عليهم؛ فإن الله سبحانه يدمرهم، ورأيت لغيره؛ أنه إذا قابل الناس البلأ بمثله، وكلهم الله إليه، وإذا قابلوه بالصبر، وانتظار الفرج، أتى الله بالفرج، وروي هذا أيضا عن الحسن.
[7.138-141]
وقوله سبحانه: { وجاوزنا ببني إسرءيل البحر }: أي: بحر القلزم، { فأتوا على قوم } ، قيل: هم الكنعانيون.
وقيل: هم من لخم وجذام، والقوم فى كلام العرب: هم الرجال خاصة { يعكفون } ، العكوف: الملازمة { على أصنام لهم } ، قيل كانت بقرا.
وقال ابن جريج: كانت تماثيل بقر من حجارة وعيدان ونحوها، وذلك كان أول فتنة العجل، وقولهم: { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } ، يظهر منه استحسانهم لما رأوه من تلك الآلهة؛ بجهلهم؛ فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى، وفي جملة ما يتقرب به إلى الله، وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى: اجعل لنا صنما نفرده بالعبادة، ونكفر بربك؛ وعلى هذا الذي قلت يقع التشابه الذي نصه النبي صلى الله عليه وسلم في
" قول أبي واقد الليثي اجعل لنا، يا رسول الله، ذات أنواط؛ كما لهم ذات أنواط، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: الله أكبر! قلتم والله كما قالت بنو إسرائيل؛ { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة }: لتتبعن سنن من قبلكم.... "
الحديث، ولم يقصد أبو واقد بمقالته فسادا، وقال بعض الناس؛ كان ذلك من بني إسرائيل كفرا، ولفظة «الإله» تقتضي ذلك، وهذا محتمل، وما ذكرته أولا أصح، والله أعلم.
قلت: وقولهم:
هذا إلهكم وإله موسى
[طه:88]، وجواب موسى هنا يقوي الاحتمال الثاني، نعم: الذي يجب أن يعتقد أن مثل هذه المقالات إنما صدرت من أشرارهم وقريبي العهد بالكفر، قال الشيخ الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي ثم السهيلي ذكر النقاش في قوله تعالى: { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم }؛ أنهم كانوا من لخم، وكانو يعبدون أصناما على صور البقر، وأن السامري كان أصله منهم، ولذلك نزع إلى عبادة العجل. انتهى، والله أعلم، وهذا هو معنى ما تقدم من كلام * ع *، وقوله: { إن هؤلاء متبر ما هم فيه } ، أي: مهلك، مدمر، رديء العاقبة، والتبار: الهلاك، وإنا متبر، أي: مكسور، وكسارته تبر؛ ومنه: تبر الذهب؛ لأنه كسارة، وقوله: { ما هم فيه } يعم جميع أحوالهم و { باطل }: معناه: فاسد ذاهب مضحمل، و { أبغيكم } معناه: أطلب.
ثم عدد عليهم سبحانه في هذه الآية النعم التي يجب من أجلها ألا يكفروا به، ولا يرغبوا في عبادة غيره، فقال: { وإذ أنجينكم من آل فرعون... } الآية: و { يسومونكم } معنا: يحملونكم، ويكلفونكم، ومساومة البيع تنظر إلى هذا؛ فإن كل واحد من المتساومين يكلف صاحبه إرادته، ثم فسر سوء العذاب بقوله: { يقتلون أبناءكم... } الآية.
[7.142-145]
وقوله سبحانه: { ووعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممناها بعشر... } الآية: قال ابن عباس وغيره: الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة، وأن العشرة هي عشر ذي الحجة، وروي أن الثلاثين إنما وعد بأن يصومها، وأن مدة المناجاة هي العشر، وحيث ورد أن المواعدة أربعون ليلة، فذلك إخبار بجملة الأمر، وهو في هذه الآية إخبار بتفصيله، والمعنى في قوله: { وكلمه ربه }: أنه خلق له إدراكا سمع به الكلام القائم بالذات القديم الذي هو صفة ذات، وكلام الله سبحانه لا يشبه كلام المخلوقين، وليس في جهة من الجهات، وكما هو موجود لا كالموجودات، ومعلوم لا كالمعلومات؛ كذلك كلامه لا يشبه الكلام الذي فيه علامات الحدوث، وجواب «لما» في قوله: { قال } ، والمعنى أنه لما كلمه الله عز وجل، وخصه بهذه المرتبة، طمحت همته إلى رتبة الرؤية، وتشوق إلى ذلك، فسأل ربه الرؤية، ورؤية الله عز وجل عند أهل السنة جائزة عقلا؛ لأنه من حيث هو موجود تصح رؤيته؛ قالوا: لأن الرؤية للشيء لا تتعلق بصفة من صفاته أكثر من الوجود، فموسى عليه السلام لم يسأل ربه محالا، وإنما سأله جائزا، وقوله سبحانه: { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل... } الآية: ليس بجواب من سأل محالا، و«لن» تنفي الفعل المستقبل، ولو بقينا مع هذا النفي بمجرده، لقضينا أنه لا يراه موسى أبدا، ولا في الآخرة، لكن ورد من جهة أخرى بالحديث المتواتر؛ أن أهل الإيمان يرون الله يوم القيامة، فموسى عليه السلام أحرى برؤيته، قلت: وأيضا قال تعالى:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
[القيامة:22،23] فهو نص في الرؤية بينه صلى الله عليه وسلم؛ ففي «الترمذي» عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية "
، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
[القيامة:22،23]، قال أبو عيسى: وقد روي هذا الحديث من غير وجه مرفوعا، وموقوفا. انتهى.
قال مجاهد وغيره: إن الله عز وجل قال له: يا موسى، لن تراني، ولكن سأتجلى للجبل، وهو أقوى منك، وأشد؛ فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي، فستمكنك أنت رؤيتي.
قال * ع *: فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالا، قلت: وقول * ع *: ولو بقينا مع هذا النفي بمجرده، لقضينا أنه لا يراه موسى أبدا ولا في الآخرة، قول مرجوح لم يتفطن له رحمه الله، والحق الذي لا شك فيه أن «لن» لا تقتضي النفي المؤبد.
قال بدر الدين أبو عبد الله بن مالك في شرح التسهيل: «ولن» كغيرها من حروف النفي في جواز كون استقبال المنفي بها منقطعا عند حد وغير منقطع، وذكر الزمخشري في أنموذجه؛ أن «لن» لتأبيد النفي، وحامله على ذلك اعتقاده أن الله تعالى لا يرى، وهو اعتقاد باطل؛ لصحة ثبوت الرؤية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ واستدل على عدم اختصاصها بالتأبيد بمجيء استقبال المنفي بها مغيا إلى غاية ينتهي بانتهائها، كما في قوله تعالى:
قالوا لن نبرح عليه عكفين حتى يرجع إلينا موسى
[طه:91]، وهو واضح. انتهى، ونحوه لابن هشام، ولفظه: ولا تفيد «لن» توكيد المنفي؛ خلافا للزمخشري في «كشافه»، ولا تأبيده، خلافا له في «أنموذجه»، وكلاهما دعوى بلا دليل؛ قيل: ولو كانت للتأبيد، لم يقيد منفيها ب «اليوم» في
فلن أكلم اليوم إنسيا
[مريم:26] ولكان ذكره «الأبد» في
ولن يتمنوه أبدا
[البقرة:95] تكرارا، والأصل عدمه. انتهى من «المغني».
وقوله سبحانه: { فلما تجلى ربه للجبل }: التجلي: هو الظهور من غير تشبيه ولا تكييف، وقوله: { جعله دكا } ، المعنى: جعله أرضا دكا، يقال: ناقة دكاء، أي: لا سنام لها، { وخر موسى صعقا } ، أي: مغشيا عليه، قاله جماعة من المفسرين.
قال * ص *: { وخر } معناه سقط، وقوله: { سبحنك } ، أي: تنزيها لك؛ كذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: { تبت إليك } ، معناه: من أن أسألك الرؤية في الدنيا، وأنت لا تبيحها فيها.
قال * ع *: ويحتمل عندي أنه لفظ قاله عليه السلام؛ لشدة هول المطلع، ولم يعن التوبة من شيء معين، ولكنه لفظ لائق بذلك المقام، والذي يتحرز منه أهل السنة أن تكون توبة من سؤال المحال؛ كما زعمت المعتزلة، وقوله: { وأنا أول المؤمنين } ، أي: من قومه؛ قاله ابن عباس وغيره، أو من أهل زمانه؛ إن كان الكفر قد طبق الأرض، أو أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا؛ قاله أبو العالية.
وقوله سبحانه: { فخذ ما آتيتك وكن من الشكرين } فيه تأديب، وتقنيع، وحمل على جادة السلامة، ومثال لكل أحد في حاله، فإن جميع النعم من عند الله سبحانه بمقدار، وكل الأمور بمرأى منه ومسمع، { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } ، أي: من كل شيء ينفع في معنى الشرع، وقوله: { وتفصيلا لكل شيء } مثله، وقوله: { بقوة } ، أي: بجد وصبر عليها؛ قاله ابن عباس، وقوله: { بأحسنها } يحتمل معنيين.
أحدهما: التفضيل؛ كما إذا عرض مثلا مباحان؛ كالعفو والقصاص، فيأخذون بالأحسن منهما.
والمعنى الثاني: يأخذون بحسن وصف الشريعة بجملتها؛ كما تقول: الله أكبر، دون مقايسة.
وقوله سبحانه: { سأوريكم دار الفسقين } ، الرؤية هنا: رؤية عين؛ هذا هو الأظهر إلا أن المعنى يتضمن الوعد للمؤمنين، والوعيد للفاسقين، ودار الفاسقين: قيل: هي مصر، والمراد آل فرعون، وقيل: الشام، والمراد العمالقة وقيل: جهنم، والمراد الكفرة بموسى، وقيل غير هذا مما يفتقر إلى صحة إسناد.
[7.146-147]
وقوله تعالى: { سأصرف عن آيتي الذين يتكبرون في الأرض... } الآية: المعنى: سأمنع وأصد، قال سفيان بن عيينة: الآيات هنا كل كتاب منزل.
* ع *: والمعنى عن فهمها وتصديقها، وقال ابن جريج: الآيات: العلامات المنصوبة الدالة على الوحدانية، والمعنى: عن النظر فيها، والتفكر والاستدلال بها، واللفظ يعم الوجهين، والمتكبرون في الأرض بغير الحق: هم الكفار، قلت: ويدخل في هذا المعنى من تشبه بهم من عصاة المؤمنين، والمعنى في هذه الآية: سأجعل الصرف عن الآيات؛ عقوبة للمتكبرين على تكبرهم، وقوله: { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } حتم من الله على الطائفة التي قدر عليهم ألا يؤمنوا، وقوله: { ذلك }: إشارة إلى الصرف المتقدم.
وقوله سبحانه: { والذين كذبوا بآيتنا ولقاء الأخرة... } الآية: هذه الآية مؤكدة للتي قبلها، وفيها تهديد.
[7.148-151]
وقوله سبحانه: { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار }: الخوار: صوت البقر، وقرأت فرقة: «له جؤار» - بالجيم -، أي: صياح، ثم بين سبحانه سوء فطرهم، وقرر فساد اعتقادهم بقوله: { ألم يروا أنه لا يكلمهم... } الآية: وقوله: { وكانوا ظلمين }: إخبار عن جميع أحوالهم؛ ماضيا، وحالا، ومستقبلا، وقد مر في «البقرة» قصة العجل؛ فأغنى عن إعادته.
قال أبو عبيدة: يقال لمن ندم على أمر، وعجز عنه: سقط في يده، وقول بني إسرائيل: { لئن لم يرحمنا ربنا } ، إنما كان بعد رجوع موسى، وتغيره عليهم، ورؤيتهم أنهم قد خرجوا من الدين، ووقعوا في الكفر.
وقوله سبحانه: { ولما رجع موسى إلى قومه غضبن أسفا } ، يريد: رجع من المناجاة، والأسف، قد يكون بمعنى الغضب الشديد، وأكثر ما يكون بمعنى الحزن، والمعنيان مترتبان هنا.
وعبارة * ص *: { غضبن }: صفة مبالغة، والغضب غليان القلب؛ بسبب ما يؤلم و { أسفا }: من أسف، فهو أسف، كفرق فهو فرق، يدل على ثبوت الوصف، ولو ذهب به مذهب الزمان، لقيل: آسف؛ على وزن فاعل، والأسف: الحزن. انتهى.
وقوله تعالى: { أعجلتم } ، معناه: أسابقتم قضاء ربكم، واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدر به، قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كان سبب إلقائه الألواح - غضبه على قومه في عبادتهم العجل، وغضبه على أخيه في إهمال أمرهم.
قال ابن عباس: لما ألقاها، تكسرت، فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء، وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة، وهو الذي أخذ بعد ذلك، قال ابن عباس: كانت الألواح من زمرد، وقيل: من ياقوت، وقيل: من زبرجد، وقيل: من خشب، والله أعلم.
وقوله: { ابن أم } استعطاف برحم الأم؛ إذ هو ألصق القرابات، وقوله: { كادوا } ، معناه: قاربوا، ولم يفعلوا، وقوله: { ولا تجعلني مع القوم الظلمين } ، يريد: عبدة العجل.
[7.152-155]
وقوله سبحانه: { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحيوة الدنيا } ، وقد وقع ذلك النيل بهم في عهد موسى عليه السلام، فالغضب والذلة هو أمرهم بقتل أنفسهم، وقال بعض المفسرين: الذلة: الجزية، ووجه هذا القول أن الغضب والذلة بقيت في عقب هؤلاء، وقال ابن جريج: الإشارة إلى من مات من عبدة العجل قبل التوبة بقتل الأنفس، وإلى من فر، فلم يكن حاضرا وقت القتل، والغضب من الله عز وجل، إن أخذ بمعنى الإرادة، فهو صفة ذات ، وإن أخذ بمعنى العقوبة وإحلال النقمة، فهو صفة فعل، وقوله: { وكذلك نجزي المفترين } ، المراد أولا أولئك الذين افتروا على الله سبحانه في عبادة العجل، وتكون قوة اللفظ تعم كل مفتر إلى يوم القيامة، وقد قال سفيان بن عيينة وأبو قلابة وغيرهما: كل صاحب بدعة أو فرية، ذليل؛ واستدلوا بالآية.
وقوله سبحانه: { والذين عملوا السيئات... } الآية تضمنت وعدا بأن الله سبحانه يغفر للتائبين؛ وقرأ معاوية بن قرة «ولما سكن عن موسى الغضب».
قال أبو حيان: واللام في { لربهم يرهبون } مقوية لوصول الفعل، وهو { يرهبون } إلى مفعوله المتقدم.
وقال الكوفيون: زائدة.
وقال الأخفش: لام المفعول له، أي: لأجل ربهم. انتهى.
قلت: قال ابن هشام في «المغني» ولام التقوية هي المزيدة لتقوية عامل ضعف؛ إما لتأخير؛ نحو: { لربهم يرهبون } ، و
إن كنتم للرءيا تعبرون
[يوسف:43] أو لكونه فرعا في العمل؛ نحو:
مصدقا لما معهم
[البقرة:91]
فعال لما يريد
[البروج:16]، وقد اجتمع التأخير والفرعية في:
وكنا لحكمهم شهدين
[الأنبياء:78]. انتهى.
وقوله: { واختار موسى قومه... } الآية: قال الفخر: قال جماعة النحويين: معناه: واختار موسى من قومه، فحذف «من»، يقال: اخترت من الرجال زيدا، واخترت الرجال زيدا. انتهى.
قال * ع *: معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام اختار من قومه هذه العدة؛ ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء، فيكون منه ومنهم اعتذار إلى الله سبحانه من خطإ بني إسرائيل في عبادة العجل، وقد تقدم في «سورة البقرة» [البقرة:51] قصصهم، قالت فرقة من العلماء: إن موسى عليه السلام لما أعلمه الله سبحانه بعبادة بني إسرائيل العجل، وبصفته، قال موسى: أي رب، ومن اختاره؟ قال: أنا، قال موسى: فأنت، يا رب، أضللتهم، { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء } أي: إن الأمور بيدك تفعل ما تريد.
[7.156-157]
وقوله سبحانه: { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة... } الآية: { اكتب }: معناه: أثبت واقض، والكتب: مستعمل في كل ما يخلد، و { حسنة }: لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عاقبة وطاعة لله سبحانه، وغير ذلك، وحسنة الآخرة: الجنة، لا حسنة دونها، ولا مرمى وراءها، و { هدنا } - بضم الهاء -: معناه: تبنا.
وقوله سبحانه: { قال عذابي أصيب به من أشاء } ، يحتمل أن يريد ب «العذاب» الرجفة التي نزلت بالقوم، ثم أخبر سبحانه عن رحمته، ويحتمل؛ وهو الأظهر: أن الكلام قصد به الخبر عن عذابه، وعن رحمته، وتصريف ذلك في خليقته؛ كما يشاء سبحانه، ويندرج في عموم العذاب أصحاب الرجفة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، وطاوس، وعمرو بن فائد: «من أساء» من الإساءة، ولا تعلق فيه للمعتزلة، وأطنب القراء في التحفظ من هذه القراءة، وحملهم على ذلك شحهم على الدين.
وقوله سبحانه: { ورحمتي وسعت كل شيء } ، قال بعض العلماء: هو عموم في الرحمة، وخصوص في قوله: { كل شيء } ، والمراد: من قد سبق في علم الله أن يرحمهم، وقوله سبحانه: { فسأكتبها } ، أي: أقدرها وأقضيها.
وقال نوف البكالي: إن موسى عليه السلام قال: يا رب، جعلت وفادتي لأمة محمد عليه السلام، وقوله: { ويؤتون الزكوة }: الظاهر: أنها الزكاة المختصة بالمال، وروي عن ابن عباس؛ أن المعنى: يؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم.
وقوله سبحانه: { الذين يتبعون الرسول النبى الأمي... } الآية: هذه ألفاظ أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في قوله: { فسأكتبها للذين يتقون } ، وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس وغيره. قلت: وهذه الآية الكريمة معلمة بشرف هذه الأمة على العموم في كل من آمن بالله تعالى، وأقر برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ثم هم يتفاوتون بعد في الشرف؛ بحسب تفاوتهم في حقيقة الاتباعية للنبي صلى الله عليه وسلم، قال الغزالي رحمه الله في «الإحياء»: وإنما أمته صلى الله عليه وسلم من اتبعه، وما اتبعه إلا من أعرض عن الدنيا، وأقبل على الآخرة، فإنه عليه السلام ما دعا إلا إلى الله، واليوم الآخر، وما صرف إلا عن الدنيا والحظوظ العاجلة، فبقدر ما تعرض عن الدنيا، وتقبل على الآخرة، تسلك سبيله الذي سلكه صلى الله عليه وسلم، وبقدر ما سلكت سبيله، فقد اتبعته، وبقدر ما اتبعته، صرت من أمته ، وبقدر ما أقبلت على الدنيا، عدلت عن سبيله، ورغبت عن متابعته، والتحقت بالذين قال الله تعالى فيهم:
فأما من طغى * وءاثر الحيوة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى
[النازعات:37،38،39]. انتهى، فإن أردت اتباع النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، واقتفاء أثره، فابحث عن سيرته وخلقه في كتب الحديث والتفسير.
قال ابن القطان في تصنيفه الذي صنفه في «الآيات والمعجزات»: والقول الوجيز في زهده وعبادته وتواضعه وسائر حلاه ومعاليه صلى الله عليه وسلم: أنه ملك من أقصى اليمن إلى صحراء عمان إلى أقصى الحجاز، ثم توفي عليه السلام، وعليه دين، ودرعه مرهونة في طعام لأهله، ولم يترك دينارا ولا درهما، ولا شيد قصرا، ولا غرس نخلا، ولا شقق نهرا، وكان يأكل على الأرض ويجلس على الأرض، ويلبس العباءة، ويجالس المساكين، ويمشي في الأسواق، ويتوسد يده، ويلعق أصابعه، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويصلح خصه، ويمهن لأهله، ولا يأكل متكئا، ويقول: «أنا عبد آكل كما يأكل العبد»، ويقتص من نفسه، ولا يرى ضاحكا ملء فيه ولو دعي إلى ذراع، لأجاب، ولو أهدي إليه كراع لقبل، لا يأكل وحده، ولا يضرب عبده، ولا يمنع رفده ولا ضرب قط بيده إلا في سبيل الله، وقام لله حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدا شكورا»، وكان يسمع لجوفه أزيز؛ كأزيز المرجل من البكاء؛ إذا قام بالليل صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأتباعه صلاة دائمة إلى يوم القيامة. انتهى.
وقال الفخر: قوله تعالى: { الذين يتبعون الرسول... } الآية، قال بعضهم: الإشارة بذلك إلى من تقدم ذكره من بني إسرائيل، والمعنى: يتبعونه باعتقاد نبوته؛ من حيث وجدوا صفته في التوراة، وسيجدونه مكتوبا في الإنجيل.
وقال بعضهم: بل المراد من لحق من بني إسرائيل أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا تكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوا النبي الأمي.
قال الفخر: وهذا القول أقرب. انتهى. وقوله: { يجدونه } ، أي: يجدون صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونعته؛ ففي «البخاري» وغيره، عن عبد الله بن عمرو؛ أن في التوراة من صفة النبي صلى الله عليه وسلم «يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو، ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء؛ بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فنقيم به قلوبا غلفا، وأذانا صما، وأعينا عميا»، وفي «البخاري»: «فيفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا»، ونص كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إلا أنه قال: «قلوبا غلوفا، وآذانا صموما».
وقوله سبحانه: { يأمرهم بالمعروف... } الآية: يحتمل أن يكون ابتداء كلام وصف به النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون متعلقا ب «يجدونه» في موضع الحال على تجوز، أي: يجدونه في التوراة آمرا؛ بشرط وجوده، والمعروف: ما عرف بالشرع، وكل معروف من جهة المروءة، فهو معروف بالشرع، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
" «بعثت لأتمم محاسن الأخلاق» "
و { المنكر }: مقابله، و { الطيبات }؛ عند مالك: هي المحللات، و { الخبئث } هي المحرمات، وكذلك قال ابن عباس، والإصر الثقل، وبه فسر هنا قتادة وغيره، والإصر أيضا: العهد، وبه فسر ابن عباس وغيره، وقد جمعت هذه الآية المعنيين؛ فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم العهد بأن يقوموا بأعمال ثقال، فوضع عنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن جبير: الإصر: شدة العبادة، وقرأ ابن عامر: «آصارهم» بالجمع فمن وحد «الإصر»؛ فإنما هو اسم جنس عنده، يراد به الجمع، { والأغلل التي كانت عليهم } عبارة مستعارة أيضا لتلك الأثقال، كقطع الجلد من أثر البول، وأن لا دية، ولا بد من قتل القاتل، إلى غير ذلك، هذا قول جمهور المفسرين، وقال ابن زيد: إنما المراد هنا ب { الأغلل } قول الله عز وجل في اليهود:
غلت أيديهم
[المائدة:64]، فمن آمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، زالت عنه الدعوة، وتغليلها، ومعنى { عزروه }: أي: وقروه، فالتعزير والنصر: مشاهدة خاصة للصحابة، واتباع النور: يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة، والنور: كناية عن جملة الشرع، وشبه الشرع والهدى بالنور، إذ القلوب تستضيء به؛ كما يستضيء البصر بالنور.
[7.158-160]
وقوله سبحانه: { قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } هذا أمر من الله سبحانه لنبيه بإشهار الدعوة العامة، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم من بين سائر الرسل؛ فإنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، وإلى الجن، وكل نبي إنما بعث إلى فرقة دون العموم.
وقوله سبحانه: { فآمنوا بالله ورسوله... } الآية: حض على اتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: { الذي يؤمن بالله وكلمته } ، أي: يصدق بالله وكلماته، والكلمات هنا: الآيات المنزلة من عند الله؛ كالتوراة والإنجيل، وقوله: و { اتبعوه } لفظ عام يدخل تحته جميع إلزامات الشريعة، جعلنا الله من متبعيه على ما يلزم بمنه ورحمته.
قلت: فإن أردت الفوز أيها الأخ، فعليك باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم شريعته، وتعظيم جميع أسبابه.
قال عياض: ومن إعظامه صلى الله عليه وسلم وإكباره إعظام جميع أسبابه وإكرام مشاهده وأمكنته، ومعاهده، وما لمسه عليه السلام أو عرف به، حدثت أن أبا الفضل الجوهري، لما ورد المدينة زائرا، وقرب من بيوتها، ترجل، ومشى باكيا منشدا: [الطويل]
ولما رأينا رسم من لم يدع لنا
فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة
لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وحكي عن بعض المريدين؛ أنه لما أشرف على مدينة الرسول عليه السلام، أنشأ يقول: [الكامل]
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري
قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا المطي بنا بلغن محمدا
فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطىء الحصى
فلها علينا حرمة وذمام
وحكي عن بعض المشايخ؛ أنه حج ماشيا، فقيل له في ذلك، فقال: العبد الآبق يأتي إلى بيت مولاه راكبا؟ لو قدرت أن أمشي على رأسي، ما مشيت على قدمي.
قال عياض: وجدير لمواطن عمرت بالوحي، والتنزيل؛ وتردد فيها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح؛ وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر؛ وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر، مدارس وآيات؛ ومساجد وصلوات؛ ومشاهد الفضائل والخيرات؛ ومعاهد البراهين والمعجزات - أن تعظم عرصاتها؛ وتتنسم نفحاتها؛ وتقبل ربوعها وجدراتها: [الكامل]
يا دار خير المرسلين ومن به
هدي الأنام وخص بالآيات
عندي لأجلك لوعة وصبابة
وتشوق متوقد الجمرات
الأبيات. انتهى من «الشفا».
وقوله سبحانه: { ومن قوم موسى أمة يهدون } ، أي: يرشدون أنفسهم، وهذا الكلام يحتمل أن يريد به وصف المؤمنين منهم، على عهد موسى، وما والاه من الزمن، فأخبر سبحانه، أنه كان في بني إسرائيل على عتوهم وخلافهم من اهتدى واتقى وعدل، ويحتمل أن يريد الجماعة التي آمنت بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم، وقوله: { أسباطا }: بدل من { اثنتى } ، والتمييز الذي بين العدد محذوف تقديره: اثنتي عشرة فرقة أو قطعة أسباطا.
وقوله سبحانه: { وأوحينا إلى موسى إذ استسقه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام... } الآية: { انبجست }: بمعنى انفجرت، وقد تقدم الكلام على هذه المعاني في «البقرة».
[7.161-162]
وقوله سبحانه: { وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السمآء بما كانوا يظلمون }: القرية هي بيت المقدس.
وقيل: أريحاء، «وبدل»: معناه غير اللفظ.
[7.163-166]
وقوله سبحانه: { وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر... } الآية: قال بعض المتأولين: إن اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان، ولا معاندة لما أمروا به، فنزلت هذه الآية موبخة لهم، فسؤالهم إنما هو على جهة التوبيخ، والقرية هنا: أيلة، قاله ابن عباس وغيره، وقيل: مدين، و«حاضرة البحر»، أي: البحر فيها حاضر، ويحتمل أن يريد معنى «الحاضرة»؛ على جهة التعظيم لها، أي: هي الحاضرة في مدن البحر، و { يعدون }: معناه: يخالفون الشرع؛ من عدا يعدو، و { شرعا } ، أي: مقبلة إليهم مصطفة، كما تقول: شرعت الرماح إذا مدت مصطفة، وعبارة البخاري { شرعا } أي: شوارع انتهى.
والعامل في قوله: { ويوم لا يسبتون } قوله: { لا تأتيهم } ، وهو ظرف مقدم، ومعنى قوله { كذلك } الإشارة إلى أمر الحوت، وفتنتهم به، هذا على من وقف على { تأتيهم } ، ومن وقف على { كذلك } ، فالإشارة إلى كثرة الحيتان شرعا، أي: فما أتى منها يوم لا يسبتون، فهو قليل، و { نبلوهم } ، أي: نمتحنهم بفسقهم وعصيانهم، وقد تقدم في «البقرة» قصصهم.
وقوله سبحانه: { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا }.
قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق: فرقة عصت، وفرقة نهت، وجاهرت وتكلمت واعتزلت، وفرقة اعتزلت، ولم تعص ولم تنه، وأن هذه الفرقة لما رأت مجاهرة الناهية، وطغيان العاصية وعتوها، قالت للناهية: { لم تعظون قوما } ، يريدون: العاصية { الله مهلكهم أو معذبهم } ، فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله، أي: إقامة عذر، ومعنى { مهلكهم } ، أي: في الدنيا، { أو معذبهم } ، [أي]: في الآخرة، والضمير في قوله: { نسوا } للمنهيين، وهو ترك سمي نسيانا مبالغة، و«ما» في قوله: { ما ذكروا به } بمعنى الذي، و { السوء } لفظ عام في جميع المعاصي إلا أن الذي يختص هنا بحسب قصص الآية هو صيد الحوت، و { الذين ظلموا }: هم العاصون، وقوله: { بعذاب بئيس } معناه: مؤلم موجع شديد، واختلف في الفرقة التي لم تعص ولم تنه، فقيل: نجت مع الناجين، وقيل: هلكت مع العاصين.
وقوله: { بما كانوا يفسقون } ، أي: لأجل ذلك، وعقوبة عليه، والعتو الاستعصاء وقلة الطواعية.
وقوله سبحانه: { قلنا لهم كونوا } ، يحتمل أن يكون قولا بلفظ من ملك أسمعهم؛ فكان أذهب في الإعراب والهول والإصغار، ويحتمل أن يكون عبارة عن القدرة المكونة لهم قردة، و { خسئين }: معناه مبعدين ف«خاسئين» خبر بعد خبر، فهذا اختيار أبي الفتح، وضعف الصفة، فروي أن الشباب منهم مسخوا قردة، والرجال الكبار مسخوا خنازير.
[7.167-168]
وقوله سبحانه: { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيمة من يسومهم سوء العذاب } معنى هذه الآية: وإذ علم الله ليبعثن، وتقتضي قوة الكلام؛ أن ذلك العلم منه سبحانه مقترن بإنفاذ وإمضاء؛ كما تقول في أمر عزمت عليه: علم الله لأفعلن.
وقال الطبري وغيره: { تأذن } معناه: أعلم، وقال مجاهد: { تأذن } معناه: أمر وقالت فرقة: معنى { تأذن }: تألى، والضمير في { عليهم } ، لبني إسرائيل، وقوله: { من يسومهم } قال ابن عباس: هي إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، يسومون اليهود سوء العذاب.
قال * ع *: والصحيح أن هذا حالهم في كل قطر، ومع كل ملة، و { يسومهم }: معناه: يكلفهم ويحملهم، و { سوء العذاب }: الظاهر منه: أنه الجزية، والإذلال، وقد حتم الله عليهم هذا، وحط ملكهم، فليس في الأرض راية ليهودي، ثم حسن في آخر الآية التنبيه على سرعة العقاب، والتخويف لجميع الناس، ثم رجى سبحانه بقوله: { وإنه لغفور رحيم }؛ لطفا منه بعباده جل وعلا، { وقطعنهم في الأرض } ، معناه: فرقناهم في الأرض.
قال الطبري عن جماعة من المفسرين: ليس في الأرض بقعة إلا وفيها معشر من اليهود، والظاهر في المشار إليهم بهذه الآية؛ أنهم الذين بعد سليمان وقت زوال ملكهم، والظاهر أنهم قبل مدة عيسى عليه السلام؛ لأنهم لم يكن فيهم صالح بعد كفرهم بعيسى صلى الله عليه وسلم و { بلونهم } ، معناه: امتحناهم { بالحسنات } ، أي: بالصحة والرخاء، ونحو هذا مما هو بحسب رأي ابن آدم ونظره، و { السيئات }: مقابلات، هذه { لعلهم يرجعون } إلى الطاعة.
[7.169-170]
وقوله سبحانه: { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتب... } الآية: خلف معناه: حدث خلفهم وبعدهم، و { خلف } - بإسكان اللام - يستعمل في الأشهر: في الذم.
وقوله سبحانه: { يأخذون عرض هذا الأدنى } إشارة إلى الرشاوالمكاسب الخبيثة، والعرض: ما يعرض ويعن، ولا يثبت، والأدنى: إشارة إلى عيش الدنيا، وقولهم: { سيغفر لنا } ذم لهم باغترارهم، وقولهم { سيغفر لنا } ، مع علمهم بما في كتاب الله، من الوعيد على المعاصي، وإصرارهم، وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فهؤلاء عجزة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله "
، فهؤلاء قطعوا بالمغفرة وهم مصرون ، وإنما يقول: { سيغفر لنا } من أقلع وندم.
وقوله سبحانه: { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتب... } الآية: تشديد في لزوم قول الحق على الله في الشرع والأحكام، وقوله: { ودرسوا ما فيه } معطوف على قوله: { ألم يؤخذ }؛ لأنه بمعنى المضي، والتقدير: أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب، ودرسوا ما فيه، وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: «وادارسوا ما فيه».
ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله: { والدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } ، وقرأ أبو عمرو: «أفلا يعقلون» - بالياء - من أسفل.
وقوله سبحانه: { والذين يمسكون بالكتب } عطف على قوله: { للذين يتقون } ، وقرأ عاصم وحده؛ في رواية أبي بكر «يمسكون» - بسكون الميم، وتخفيف السين، وقرأ الأعمش: «والذين استمسكوا».
[7.171-174]
وقوله عز وجل: { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة } ، { نتقنا }: معناه: اقتلعنا ورفعنا، وقد تقدم قصص الآية في «البقرة»، وقوله سبحانه: { واذكروا ما فيه } ، أي: تدبروه واحفظوا أوامره ونواهيه، فما وفوا.
وقوله سبحانه: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا... } الآية، قوله: { من ظهورهم } قال النحاة: هو بدل اشتمال من قوله: { من بني آدم } ، وتواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق:
" أن الله عز وجل استخرج من ظهر آدم عليه السلام نسم بنيه، ففي بعض الروايات كالذر، وفي بعضها: كالخردل ".
وقال محمد بن كعب: إنها الأرواح جعلت لها مثالات، وروي عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أخذوا من ظهر آدم؛ كما يؤخذ بالمشط من الرأس، وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، وأن لا إله غيره، فأقروا بذلك، والتزموه؛ وأعلمهم أنه سيبعث الرسل إليهم مذكرة وداعية، فشهد بعضهم على بعض، وشهد الله عليهم وملائكته "
قال الضحاك بن مزاحم: من مات صغيرا، فهو على العهد الأول، ومن بلغ، فقد أخذه العهد الثاني، يعني الذي في هذه الحياة المعقولة الآن.
وقوله { شهدنا } يحتمل أن يكون من قول بعض النسم لبعض، فلا يحسن الوقف على قوله: { بلى } ، ويحتمل أن يكون قوله: { شهدنا } من قول الملائكة، فيحسن الوقف على قوله: { بلى }.
قال السدي: المعنى: قال الله وملائكته: شهدنا ورواه عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: { أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غفلين... } الآية: المعنى: لئلا تقولوا، أو مخافة أن تقولوا، والمعنى في هذه الآية: أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد، ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته، لكانت لهم حجتان:
إحداهما: أن يقولوا كنا عن هذا غافلين.
والأخرى: كنا تباعا لأسلافنا، فكيف نهلك، والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا، فوقع شهادة بعضهم على بعض، وشهادة الملائكة عليهم، لتنقطع لهم هذة الحجة.
[7.175-177]
وقوله سبحانه: { واتل عليهم نبأ الذي آتينه آيتنا }.
قال ابن عباس: هو رجل من الكنعانيين الجبارين، اسمه بلعم بن باعوراء، وقيل: بلعام بن باعر.
وقيل: غير هذا، وكان في جملة الجبارين الذي غزاهم موسى عليه السلام، فلما قرب منهم موسى، لجؤوا إلى بلعام، وكان صالحا مستجاب الدعوة، وقيل: كان عنده علم من صحف إبراهيم ونحوها.
وقيل: كان يعلم اسم الله الأعظم، قاله ابن عباس أيضا، وهذا الخلاف هو في المراد بقوله: { آتينه آيتنا } ، فقال له قومه: ادع الله على موسى وعسكره، فقال لهم: وكيف أدعو على نبي مرسل، فما زالوا به حتى فتنوه، فخرج حتى أشرف على جبل يرى منه عسكر موسى، وكان قد قال لقومه: لا أفعل حتى أستأمر ربي، ففعل، فنهي عن ذلك، فقال لهم: قد نهيت، فما زالوا به حتى قال: سأستأمر ثانية، ففعل، فسكت عنه، فأخبرهم، فقالوا له: إن الله لم يدع نهيك إلا وقد أراد ذلك، فخرج، فلما أشرف على العسكر، جعل يدعو على موسى، فتحول لسانه بالدعاء لموسى، والدعاء على قومه، فقالوا له: ما تقول؟ فقال: إني لا أملك هذا، وعلم أنه قد أخطأ، فروي أنه قد خرج لسانه على صدره، فقال لقومه: إني قد هلكت ، ولكن لم يبق لكم إلا الحيلة، فأخرجوا النساء إلى عسكر موسى على جهة التجر وغيره، ومروهن ألا تمتنع امرأة من رجل، فإنهم إذا زنوا هلكوا، ففعلوا، فخرج النساء، فزنى بهن رجال [من] بني إسرائيل، وجاء فنحاص بن العيزار بن هارون، فانتظم برمحه امرأة ورجلا من بني إسرائيل، ورفعهما على الرمح، فوقع في بني إسرائيل الطاعون، فمات منهم في ساعة [واحدة] سبعون ألفا، ثم ذكر المعتمر عن أبيه: أن موسى عليه السلام قتل بعد ذلك الرجل المنسلخ من آيات الله.
قال المهدوي: روي أنه دعا على موسى ألا يدخل مدينة الجبارين؛ فأجيب، ودعا عليه موسى أن ينسى اسم الله الأعظم؛ فأجيب، وفي هذه القصة روايات كثيرة تحتاج إلى صحة إسناد، و { انسلخ }: عبارة عن البراءة منها، والانفصال والبعد، كالمنسلخ من الثياب والجلد، و«أتبعه الشيطان»، أي: صيره تابعا؛ كذا قال الطبري: أما لضلالة رسمها له، وإما لنفسه، و { من الغاوين } ، أي: { من الضالين } ، { ولو شئنا لرفعناه بها } ، قال ابن عباس وجماعة: معنى «لرفعناه» لشرفنا ذكره، ورفعنا منزلته لدينا؛ بهذه الآيات التي آتيناه، ولكنه أخلد إلى الأرض، أي: تقاعس إلى الحضيض الأسفل الأخس من شهوات الدنيا ولذاتها؛ وذلك أن الأرض وما ارتكن فيها: هي الدنيا وكل ما عليها فان، ومن أخلد إلى الفاني، فقد حرم حظ الآخرة الباقية.
* ت *: قال الهروي: قوله: { أخلد إلى الأرض }: معناه: سكن إلى لذاتها، واتبع هواه، يقال: أخلد إلى كذا، أي: ركن إليه واطمأن به.
انتهى.
قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله في «العاقبة»: واعلم رحمك الله؛ أن لسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابا، ولها طرق وأبواب، أعظمها: الإكباب على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، وقد سمعت بقصة بلعام بن باعوراء، وما كان آتاه الله تعالى من آياته؛ وأطلعه عليه من بيناته؛ وما أراه من عجائب ملكوته، أخلد إلى الأرض، واتبع هواه؛ فسلبه الله سبحانه جميع ما كان أعطاه؛ وتركه مع من استماله وأغواه. انتهى.
وقوله: { فمثله كمثل الكلب } ، شبه به في أنه كان ضالا قبل أن يؤتى الآيات، ثم أوتيها، فكان أيضا ضالا لم تنفعه، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في كل حال؛ هذا قول الجمهور.
وقال السدي وغيره: إن هذا الرجل عوقب في الدنيا، فإنه كان يلهث كما يلهث الكلب، فشبه به صورة وهيئة، وذكر الطبري، عن ابن عباس؛ أن معنى: { إن تحمل عليه }: إن تطرده.
وقوله: { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآيتنا } ، أي: هذا المثل، يا محمد، مثل هؤلاء الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة، ثم جئتهم بها، فبقوا على ضلالتهم، ولم ينتفعوا بذلك، فمثلهم كمثل الكلب.
وقوله: { فاقصص القصص } ، أي: اسرد عليهم ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم؛ { لعلهم يتفكرون } في ذلك؛ فيؤمنوا.
[7.178-180]
وقوله سبحانه: { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخسرون } ، القول فيه: أن ذلك كله من عند الله: الهداية منه وبخلقه واختراعه؛ وكذلك الإضلال، وفي الآية تعجيب من حال المذكورين.
وقوله سبحانه: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } ، هذا خبر من الله تعالى أنه خلق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثير، وفي ضمنه وعيد للكفار، «وذرأ»: معناه: خلق وأوجد، مع بث ونشر.
وقوله سبحانه: { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعم بل هم أضل... } الآية: لما كانت هذه الطائفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله، لم ينفعهم النظر بالقلب، ولا بالعين، ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ، استوجبوا الوصف بأنهم لا يفقهون، ولا يبصرون، ولا يسمعون، والفقه: الفهم، { أولئك كالأنعم } في أن الأنعام لا تفقه الأشياء، ولا تعقل المقاييس، ثم حكم سبحانه عليهم بأنهم أضل؛ لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها، وهؤلاء معدون للفهم والنظر، ثم بين سبحانه بقوله: { أولئك هم الغفلون } الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام، وهو الغفلة والتقصير.
قال الفخر: أما قوله تعالى: { أولئك كالأنعم بل هم أضل } ، فتقريره: أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة؛ الغاذية، والنامية، والمولدة، ومتشاركة أيضا في منافع الحواس الخمس؛ الباطنة والظاهرة، وفي أحوال التخيل، والتفكر، والتذكر، وإنما حصل الامتياز بين الإنسان، وسائر الحيوانات؛ في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق، فلما أعرض الكفار عن أحوال العقل والفكر، ومعرفة الحق، كانوا كالأنعام، بل هم أضل؛ لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل، وقد قال حكيم الشعراء: [البسيط]
الروح من عند رب العرش مبدؤه
وتربة الأرض أصل الجسم والبدن
قد ألف الملك الجبار بينهما
ليصلحا لقبول الأمر والمحن
فالروح في غربة والجسم في وطن
فلتعرفن ذمام النازح الوطن
انتهى.
وقوله سبحانه: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها... } الآية: السبب في هذه الآية على ما روي، أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، فيذكر الله تعالى في قراءته، ومرة يذكر الرحمن، ونحو ذلك، فقال: محمد يزعم أن إلإله واحد، وهو إنما يعبد آلهة كثيرة، فنزلت هذه الآية، ومن أسماء الله تعالى ما ورد في القرآن، ومنها ما ورد في الحديث وتواتر، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه.
وقوله سبحانه: { وذروا الذين يلحدون في أسمئه } ، قال ابن زيد: معناه: اتركوهم، فالآية على هذا منسوخة، وقيل: معناه: الوعيد؛ كقوله سبحانه:
ذرني ومن خلقت وحيدا
[المدثر:11] و
ذرهم يأكلوا ويتمتعوا
[الحجر:3] يقال: ألحد ولحد بمعنى جار، ومال، وانحرف، و«ألحد»: أشهر؛ ومنه لحد القبر، ومعنى الإلحاد في أسماء الله عز وجل: أن يسموا اللات نظير اسم الله تعالى؛ قاله ابن عباس، والعزى نظير العزيز؛ قاله مجاهد، ويسمون الله أبا، ويسمون أوثانهم أربابا.
وقوله سبحانه: { سيجزون ما كانوا يعملون }: وعيد محض.
[7.181-183]
وقوله سبحانه: { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون * والذين كذبوا بآيتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } ، الآية تتضمن الإخبار عن قوم أهل إيمان واستقامة وهداية، وظاهرها، يقتضي كل مؤمن كان من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، وروي عن كثير من المفسرين: أنها في أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وروي في ذلك حديث أن: النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" هذه الآية لكم ".
وقوله سبحانه: { والذين كذبوا بآيتنا } الآية وعيد، والإشارة إلى الكفار، و { سنستدرجهم } معناه: سنسوقهم شيئا بعد شيء ودرجة بعد درجة؛ بالنعم عليهم والإمهال لهم؛ حتى يغتروا ويظنوا أنهم لا ينالهم عقاب، وقوله: { من حيث لا يعلمون } ، أي: من حيث لا يعلمون أنه استدراج لهم، وهذه عقوبة لهم من الله سبحانه على التكذيب لما حتم عليهم بالعذاب، أملى لهم ليزدادوا إثما.
وقوله: { وأملي }: معناه: أؤخر ملاوة من الدهر، أي: مدة و { متين }: معناه: قوي.
[7.184-186]
وقوله سبحانه: { أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة... } الآية: تقرير يقارنه توبيخ للكفار، والوقف على قوله: { أو لم يتفكروا } ، ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكروه، فقال: { ما بصاحبهم من جنة } أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى: أو لم يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة، ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في أمره صلى الله عليه وسلم وأنه ليس به جنة كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر.
وقال الفخر: قوله تعالى: { أو لم يتفكروا } أمر بالفكر والتأمل والتدبر، وفي اللفظ محذوف، والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة، والجنة: حالة من الجنون، كالجلسة، ودخول «من» في قوله: { من جنة } ينفي أنواع الجنون. انتهى.
وقوله سبحانه: { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض... } الاية: النظر هنا بالقلب عبرة وفكرا، و { ملكوت }: بناء عظمة ومبالغة.
وقوله: { وما خلق الله من شيء }: لفظ يعم جميع ما ينظر فيه، ويستدل به من الصنعة الدالة على الصانع، ومن نفس الإنسان وحواسه ومواضع رزقه، والشيء: واقع على الموجودات، { وأن عسى }: عطف على قوله: { في ملكوت } ، والمعنى: توقيفهم على أن لم يقع لهم نظر في شيء من هذا، ولا في أنهم قربت آجالهم، فماتوا ففات أوان التدارك، ووجب عليهم المحذور، ثم وقفهم «بأي حديث» أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم؛ إذا لم يقع بأمر فيه نجاتهم، ودخولهم الجنة؛ ونحو هذا المعنى قول الشاعر: [الطويل]
...................
وعن أي نفس دون نفسي أقاتل
والضمير في { بعده } يراد به القرآن.
وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وقصته وأمره أجمع، وقيل: هو عائد على الأجل، أي: بعد الأجل، إذ لا عمل بعد الموت.
وقوله سبحانه: { من يضلل الله فلا هادي له... } الآية: هذا شرط وجواب، مضمنه اليأس منهم، والمقت لهم؛ لأن المراد أن هذا قد نزل بهم، والطغيان: الإفراط في الشيء، وكأنه مستعمل في غير الصلاح، والعمه: الحيرة.
[7.187-188]
وقوله سبحانه: { يسئلونك عن الساعة } ، قال قتادة: السائلون: هم قريش.
وقال ابن عباس: هم أحبار اليهود.
* ت *: وفي «السيرة» لابن هشام: أن السائلين من أحبار اليهود: حمل بن أبي قشير، وسموءل بن زيد. انتهى.
والساعة: القيامة موت كل من كان حيا حينئذ، وبعث الجميع، و { أيان }: معناه متى، وهي مبنية على الفتح، قال الشاعر: [الرجز]
أيان تقضي حاجتي أيانا
أما ترى لفعلها أبانا
و { مرسها } معناه: مثبتها ومنتهاها؛ مأخوذ من: أرسى يرسي، ف «مرساها»: رفع بالابتداء، والخبر «أيان»، وعبارة البخاري: { أيان مرسها }: متى خروجها. انتهى، و { يجليها }: معناه يظهرها.
وقوله سبحانه: { ثقلت في السموات والأرض... } ، قيل: معناه: ثقل أن تعلم ويوقف على حقيقة وقتها، وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه: ثقلت هيئتها والفزع على أهل السموات والأرض، { لا تأتيكم إلا بغتة } ، أي: فجأة.
وقوله سبحانه: { يسئلونك كأنك حفي عنها } ، قال ابن عباس وغيره: المعنى يسألونك كأنك حفي، أي: متحف ومهتبل بهم، وهذا ينحو إلى ما قالت قريش: يا محمد، إنا قرابتك، فأخبرنا بوقت الساعة.
وقال ابن زيد وغيره: معناه: كأنك حفي في المسألة عنها، والاشتغال بها، حتى حصلت علمها.
وقرأ ابن عباس فيما ذكر أبو حاتم: «كأنك حفي بها».
وقوله سبحانه: { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } قال الطبري: معناه: لا يعلمون أن هذا الأمر لا يعلمه إلا الله، بل يظن أكثرهم أنه مما يعلمه البشر.
وقوله سبحانه: { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله... } الآية: هذا أمر بأن يبالغ في الاستسلام، ويتجرد من المشاركة في قدرة الله، وغيبه، وأن يصف نفسه لهؤلاء السائلين؛ بأنه لا يملك من منافع نفسه ومضارها إلا ما سنى الله وشاء ويسر، وهذا الاستثناء منقطع، وأخبر أنه لو كان يعلم الغيب، لعمل بحسب ما يأتي، واستعد لكل شيء استعداد من يعلم قدر ما يستعد له، وهذا لفظ عام في كل شيء.
وقوله: { وما مسني السوء } يحتمل وجهين، وبكليهما قيل.
أحدهما: أن «ما» معطوفة على قوله: { لاستكثرت } أي: ولما مسني السوء.
والثاني: أن يكون الكلام مقطوعا تم في قوله: { لاستكثرت من الخير } وابتدأ يخبر بنفي السوء عنه، وهو الجنون الذي رموه به.
قال مؤرج السدوسي: { السوء } الجنون؛ بلغة هذيل.
* ت *: وأما على التأويل الأول، فلا يريد ب «السوء» الجنون، ويترجح الثاني بنحو قوله سبحانه:
ما بصحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم...
[سبأ:46]، و { لقوم يؤمنون }: يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يريد: لقوم يطلب منهم الإيمان، وهؤلاء الناس أجمع.
والثاني: أن يخبر أنه نذير، ويتم الكلام، ثم يبتدىء يخبر أنه بشير للمؤمنين به، ففي هذا وعد لمن حصل إيمانه.
[7.189-193]
وقوله: جلت عظمته: { هو الذي خلقكم من نفس وحدة... } الآية.
قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة: آدم عليه السلام، وبقوله: { وجعل منها زوجها } حواء، وقوله: { منها } هو ما تقدم ذكره من أن آدم نام، فاستخرجت قصرى أضلاعه، وخلقت منها حواء.
وقوله: { ليسكن إليها } ، أي: ليأنس، ويطمئن، وكان هذا كله في الجنة.
ثم ابتدأ بحالة أخرى، وهي في الدنيا بعد هبوطهما، فقال: { فلما تغشاها } ، أي: غشيها، وهي كناية عن الجماع، والحمل الحفيف: هو المني الذي تحمله المرأة في رحمها. وقوله: { فمرت به } أي: استمرت به، وقرأ ابن عباس: «فاستمرت به»، وقرأ ابن مسعود: «فاستمرت بحملها» وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاص: «فمارت به»، أي جاءت به، وذهبت، وتصرفت؛ كما تقول: مارت الريح مورا، و { أثقلت }: دخلت في الثقل، كما تقول: أصبح وأمسى، والضمير في قوله { دعوا } ، على هذا التأويل: عائد على آدم وحواء، وروي في قصص ذلك؛ أن الشيطان أشار على حواء، أن تسمي هذا المولود «عبد الحارث»، وهو اسم إبليس، وقال لها: إن لم تفعلي قتلته، فزعموا أنهما أطاعاه؛ حرصا على حياة المولود، فهذا هو الشرك الذي جعلا لله، في التسمية فقط.
وقال الطبري والسدي في قوله: { فتعلى الله عما يشركون } كلام منفصل من خبر آدم وحواء، يراد به مشركو العرب.
* ت *: وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس، ولم أقف بعد على صحة ما روي في هذه القصص، ولو صح، لوجب تأويله، نعم؛ روى الترمذي عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما حملت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال لها: سميه عبد الحارث، فسمته عبد الحارث، فعاش ذلك، وكان ذلك من وحي الشيطان، وأمره، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، انفرد به عمر بن إبراهيم، عن قتادة، وعمر شيخ بصري. انتهى.
وهذا الحديث ليس فيه أنهما أطاعاه، وعلى كل حال: الواجب التوقف، والتنزيه لمن اجتباه الله، وحسن التأويل ما أمكن، وقد قال ابن العربي في توهين هذا القول وتزييفه: وهذا القول ونحوه مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره، وفي الإسرائيليات التي ليس لها ثبات، ولا يعول عليها من له قلب، فإن آدم وحواء - وإن كانا غرهما بالله الغرور - فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وما كانا بعد ذلك ليقبلا له نصحا، ولا يسمعا له قولا، والقول الأشبه بالحق: أن المراد بهذا جنس الآدميين. انتهى من «الأحكام».
قال * ع *: وقوله { صلحا }: قال الحسن: معناه: غلاما، وقال ابن عباس؛ وهو الأظهر: بشرا سويا سليما.
وقال قوم: إنما الغرض من هذه الآية تعديد النعمة في الأزواج، وفي تسهيل النسل والولادة، ثم ذكر سوء فعل المشركين الموجب للعقاب، فقال مخاطبا لجميع الناس: { هو الذي خلقكم من نفس وحدة وجعل منها زوجها } يريد: آدم وحواء، أي: استمرت حالكم واحدا واحدا كذلك، فهذه نعمة يختص كل واحد بجزء منها، ثم جاء قوله: { فلما تغشاها... } إلى آخر الآية، وصفا لحال الناس واحدا واحدا، أي: هكذا يفعلون، فإذا آتاهم الله ولدا صالحا سليما كما أرادوه، صرفوه عن الفطرة إلى الشرك، فهذا فعل المشركين.
قال ابن العربي في «أحكامه» وهذا القول هو الأشبه بالحق وأقرب للصدق، وهو ظاهر الآية، وعمومها الذي يشمل جميع متناولاتها، ويسلم فيها الأنبياء عن النقص الذي لا يليق بجهال البشر، فكيف بساداتهم، وأنبيائهم؟! انتهى، وهو كلام حسن؛ وبالله التوفيق.
وقرأ نافع، وعاصم؛ في رواية أبي بكر: «شركا» - بكسر الشين، وسكون الراء -؛ على المصدر، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «شركاء» على الجمع، وهي بينة؛ على هذا التأويل الأخير، وقلقة على قول من قال: إن الآية الأولى في آدم وحواء، وفي مصحف أبي بن كعب: «فلما آتاهما صالحا أشركا فيه».
وقوله: { أيشركون ما لا يخلق شيئا... } الآية: الآية: ذهب بعض من قال بالقول الأول إلى أن هذه الآية في آدم وحواء على ما تقدم، وفيه قلق وتعسف من التأويل في المعنى وإنما تنسق هذه الآيات، ويروق نظمها، ويتناصر معناها على التأويل الأخير، فإنهم قالوا: إن الآية في مشركي الكفار الذي يشركون الأصنام في العبادة، وإياها يراد في قوله: { ما لا يخلق } ، وعبر عن الأصنام ب { هم }؛ كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها؛ وبحسب أسمائها، { ويخلقون }: معناه: ينحتون ويصنعون، يعني: الأصنام، ويحتمل أن يكون المعنى، وهؤلاء المشركون يخلقون؛ أي: فكان حقهم أن يعبدوا خالقهم، لا من لا يخلق شيئا، وقرأ أبو عبد الرحمن: «عما تشركون» بالتاء من فوق «أتشركون».
وقوله سبحانه: { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صمتون } ، من قال: إن الآيات في آدم عليه السلام، قال: هذه مخاطبة مستأنفة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته في أمر الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ومن قال بالقول الآخر، قال: إن هذه مخاطبة للمؤمنين والكفار؛ على قراءة من قرأ: «أيشركون» - بالياء من تحت -، وللكفار فقط على قراءة من قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيف، أي: هذا حال الأصنام معكم؛ إن دعوتموهم، لم يجيبوكم.
[7.194-198]
وقوله سبحانه: { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صدقين... } الآية مخاطبة للكفار في تحقير شأن أصنامهم، وقوله: { فادعوهم } أي: فاختبروا، فإن لم يستجيبوا، فهم كما وصفنا.
وقوله سبحانه: { ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم آذان يسمعون... } الآية. الغرض من هذه الآية { ألهم } حواس الحي وأوصافه، فإذا قالوا: «لا»، حكموا بأنها جمادات من غير شك، لا خير عندها.
قال الزهراوي: المعنى: أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة؛ فكيف تعبدونهم،، ثم أمر سبحانه نبيه عليه السلام أن يعجزهم بقوله: { قل ادعوا شركآءكم } ، أي: استنجدوهم واستنفروهم إلى إضراري وكيدي، ولا تؤخروني، المعنى: فإن كانوا آلهة، فسيظهر فعلكم، ولما أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضرره، وأراهم أن الله سبحانه هو القادر على كل شيء لا تلك، عقب ذلك بالإستناد إلى الله سبحانه، والتوكل عليه، والإعلام بأنه وليه وناصره، فقال: { إن وليي الله الذي نزل الكتب وهو يتولى الصلحين }.
وقوله: { والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون }؛ إنما تكرر القول في هذا، وترددت الآيات فيه؛ لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكنا من نفوس العرب في ذلك الزمان، ومستوليا على عقولها، فأوعب القول في ذلك؛ لطفا منه سبحانه بهم.
وقوله: { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا... } الآية: قالت فرقة: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته في أمر الكفار، والهاء والميم في قوله: «تدعوهم» للكفار، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، ولا يبصرون؛ إذ لم يتحصل لهم عن النظر والاستماع فائدة؛ قاله مجاهد والسدي.
وقال الطبري: المراد بالضمير المذكور: الأصنام، ووصفهم بالنظر كناية عن المحاذاة والمقابلة؛ ولما فيها من تخييل النظر؛ كما تقول: دار فلان تنظر إلى دار فلان.
[7.199-200]
وقوله سبحانه: { خذ العفو وأمر بالعرف... } الآية: وصية من الله سبحانه لنبيه عليه السلام تعم جميع أمته، وأخذ بجميع مكارم الأخلاق.
قال الجمهور: معنى: { خذ العفو } اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفوا، دون تكلف، فالعفو هنا: الفضل والصفو، قال مكي؛ قوله تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف ... } الآية.
قال بعض أهل المعاني، في هذه الآية بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أوتيت جوامع الكلم»؛ فهذه الآية قد جمعت معان كثيرة، وفوائد عظيمة، وجمعت كل خلق حسن؛ لأن في أخذ العفو صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وطاعته، وصلة الرحم، وصون الجوارح عن المحرمات، وسمي هذا ونحوه عرفا؛ لأن كل نفس تعرفه، وتركن إليه، وفي الإعراض عن الجاهلين: الصبر، والحلم، وتنزيه النفس عن مخاطبة السفيه، ومنازعة اللجوج، وغير ذلك من الأفعال المرضية. انتهى من «الهداية».
وقوله: { وأمر بالعرف }: معناه: بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة؛ ومن ذلك: « أن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك... » الحديث، فالعرف بمعنى المعروف.
وقوله عز وجل: { وإما ينزغنك من الشيطن نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم } ، هذه الآية وصية من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم أمته رجلا رجلا، والنزغ: حركة فيها فساد قلما تستعمل إلا في فعل الشيطان؛ لأن حركته مسرعة مفسدة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح؛ لا ينزغ الشيطان في يده "
، فالمعنى في هذه الآية: فإما تلمن بك لمة من الشيطان، فاستعذ بالله، وعبارة البخاري: ينزغنك: يستخفنك. انتهى.
ونزغ الشيطان عام في الغضب، وتحسين المعاصي، واكتساب الغوائل، وغير ذلك وفي «جامع الترمذي» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن للملك لمة، وللشيطان لمة.... "
الحديث.
قال * ع *: عن هاتين اللمتين: هي الخواطر من الخير والشر، فالآخذ بالواجب يلقى لمة الملك بالامتثال والاستدامة، ولمة الشيطان بالرفض والاستعاذة، واستعاذ: معناه: طلب أن يعاذ، وعاذ: معناه: لاذ، وانضوى، واستجار.
قال الفخر: قال ابن زيد:
" لما نزل قوله تعالى: { وأعرض عن الجهلين } قال النبي صلى الله عليه وسلم: « كيف يا رب، والغضب؟ فنزل قوله: { وإما ينزغنك من الشيطن نزغ } » "
، وقوله: { إنه سميع عليم } يدل على أن الاستعاذة لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك؛ فإن سميع، واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك؛ فإني عليم بما في ضميرك، وفي الحقيقة: القول اللساني دون المعارف العقلية، عديم الفائدة والأثر. انتهى.
[7.201-202]
وقوله سبحانه: { إن الذين اتقوا إذا مسهم طئف من الشيطن تذكروا... } الآية خرجت مخرج المدح للمتقين، والتقوى ههنا عامة في اتقاء الشرك والمعاصي، وقرأ ابن كثير وغيره: «طيف».
قال أبو علي الطائف كالخاطر، والطيف كالخطرة، وقوله: { تذكروا }: إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها، وإلى ما لله عز وجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرض الشيطان فيها، وقرأ ابن الزبير: «من الشيطان تأملوا فإذا هم»، وفي مصحف أبي بن كعب «إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا»، وقوله: { مبصرون }: من البصيرة، أي: فإذا هم قد تبينوا الحق، ومالوا إليه، والضمير في { إخونهم } ، عائد على الشياطين، وفي { يمدونهم } عائد على الكفار، وهم المراد ب «الإخوان»، هذا قول الجمهور.
قال * ع *: وقرأ جميع السبعة غير نافع: «يمدونهم»؛ من مددت، وقرأ نافع: «يمدونهم»، من أمددت.
قال الجمهور: هما بمعنى واحد، إلا أن المستعمل في المحبوب «أمد»، والمستعمل في المكروه «مد»، فقراءة الجماعة جارية على المنهاج المستعمل، وقراءة نافع هي مقيدة بقوله: { في الغي }؛ كما يجوز أن تقيد البشارة، فتقول: بشرته بشر ومد الشياطين للكفرة، أي: ومن نحا نحوهم: هو بالتزيين لهم، والإغواء المتتابع، وقوله: { ثم لا يقصرون }؛ من أقصر، والضمير عائد على الجميع، أي: هؤلاء لا يقصرون عن الإغواء، وهؤلاء لا يقصرون في الطاعة للشياطين.
[7.203-204]
وقوله سبحانه: { وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها } ، سببها فيما روي أن الوحي كان يتأخر أحيانا، فكان الكفار يقولون: هلا اجتبيتها، أي: اخترتها، فأمره الله عز وجل؛ أن يجيب بالتسليم لله، وأن الأمر في الوحي إليه ينزله متى شاء، ثم أشار بقوله: { هذا بصائر } إلى القرآن، أي: علامات هدى، وأنوار تستضيء القلوب به.
وقوله سبحانه: { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } ، ذكر الطبري وغيره؛ أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا بمكة يتكلمون في المكتوبة بحوائجهم، فنزلت الآية أمرا لهم بالاستماع والإنصات في الصلاة، وأما قول من قال: إنها في الخطبة، فضعيف، لأن الآية مكية، والخطبة لم تكن إلا بعد الهجرة، وألفاظ الآية على الجملة تتضمن تعظيم القرآن وتوقيره، وذلك واجب في كل حالة، والإنصات: السكوت.
قال الزجاج: ويجوز أن يكون: { فاستمعوا له وأنصتوا } ، أي: اعملوا بما فيه، ولا تجاوزوه.
قال ابن العربي في «أحكامه»: روى الترمذي، وأبو داود، عن عبادة بن الصامت، قال:
" صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: « إني لأراكم تقرؤون وراء إمامكم، قلنا: يا رسول الله، أي والله، فقال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» "
وقد روى الناس في قراءة المأمومين خلف الإمام بفاتحة الكتاب أحاديث كثيرة، وأعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطني، وقد جمع البخاري في ذلك جزءا، وكان رأيه قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وهي إحدى روايات مالك، وهو اختيار الشافعي. انتهى، وقد تقدم أول الكتاب ما اختاره ابن العربي.
[7.205-206]
وقوله سبحانه: { واذكر ربك في نفسك... } الآية: مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعم جميع أمته، وهو أمر من الله تعالى بذكره وتسبيحه وتقديسه، والثناء عليه بمحامده، والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس، ولا يراعى إلا بحركه اللسان، ويدل على ذلك من هذه الآية قوله: { ودون الجهر من القول } ، وهذه مرتبة السر، والمخافتة.
وقال الفخر: المراد بقوله تعالى: { واذكر ربك في نفسك } ، كونه عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه، مستحضرا لصفات الجلال والعظمة، وذلك أن الذكر باللسان، إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب، كان عديم الفائدة، ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أن الرجل، إذا قال: بعت واشتريت مع أنه لا يعرف معاني هذه الألفاظ، ولا يفهم منها شيئا، فإنه لا ينعقد البيع والشراء، فكذلك هنا، قال المتكلمون: وهذه الآية تدل على إثبات كلام النفس.
وقوله تعالى: { ولا تكن من الغفلين } ، يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائما، وألا يغفل الإنسان لحظة عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية، وتحقيق القول في هذا أن بين الروح والبدن علاقة عجيبة؛ لأن كل أثر يحصل في البدن يصعد منه نتائج إلى الروح؛ ألا ترى أن الإنسان إذا تخيل الشيء الحامض، ضرس منه، وإذا تخيل حالة مكروهة، أو غضب، سخن بدنه. انتهى. و { تضرعا }: معناه: تذللا وخضوعا، البخاري: { وخيفة } ، أي: خوفا انتهى.
وقوله: { بالغدو والأصال }: معناه: دأبا، وفي كل يوم، وفي أطراف النهار، { ولا تكن من الغفلين } تنبيه منه عز وجل، ولما قال سبحانه: { ولا تكن من الغفلين }: جعل بعد ذلك مثالا من اجتهاد الملائكة؛ ليبعث على الجد في طاعة الله سبحانه.
* ت *: قال صاحب «الكلم الفارقية»: غفلة ساعة عن ربك مكدرة لمرآة قلبك؛ فكيف بغفلة جميع عمرك. انتهى.
قال ابن عطاء الله رحمه الله: لا تترك الذكر، لعدم حضورك مع الله فيه؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة، إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور، إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز. انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { ولا تكن من الغفلين }: أي: فيما أمرت به، وكلفته، وهذا خطاب له عليه السلام، والمراد به جميع أمته. انتهى.
وقوله: { الذين } ، يريد به الملائكة.
وقوله: { عند } ، إنما يريد به المنزلة، والتشريف، والقرب في المكانة، لا في المكان، فهم بذلك عنده، ثم وصف سبحانه حالهم؛ من تواضعهم، وإدمانهم العبادة، والتسبيح والسجود»، وفي الحديث:
" أطت السماء، وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم، أو راكع، أو ساجد "
وهذا موضع سجدة.
قال عبد الرحمن بن محمد عفا الله عنه: كمل ما انتخبناه في تفسير السورة، والحمد الله على ما به أنعم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
[8 - سورة الأنفال]
[8.1]
قوله عز وجل: { يسئلونك عن الأنفال... } الآية، النفل والنافلة، في كلام العرب: الزيادة على الواجب، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال، وقالت فرقة: إنما سألوه الأنفال نفسها؛ محتجين بقراءة سعد بن أبي وقاص وغيره: «يسئلونك الأنفال» وعن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا - أهل بدر - نزلت، حين اختلفنا، وساءت أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وقسمه عليه السلام - بين المسلمين على بواء - يريد: على سواء - فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وصلاح ذات البين.
قال * ع *: ويجيء من مجموع الآثار المذكورة هنا؛ أن نفوس أهل بدر تنافرت، ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر؛ من إرادة الأثرة، لا سيما من أبلى، فأنزل الله عز وجل الآية، فرضي المسلمون، وسلموا، فأصلح ذات بينهم، ورد عليهم غنائمهم.
قال بعض أهل التأويل؛ عكرمة، ومجاهد: كان هذا الحكم من الله سبحانه لرفع الشغب ثم نسخ بقوله:
واعلموا أنما غنمتم من شيء
[الأنفال:41]. وهذا أولى الأقوال وأصحها.
وقوله سبحانه: { وأصلحوا ذات بينكم }: تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف، ومالت النفوس إلى التشاح، و { ذات } في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته، والذي يفهم من { بينكم } هو معنى يعم جميع الوصل، والالتحامات، والمودات، وذات ذلك هو المأمور بإصلاحها، أي: نفسه وعينه، وباقي الآية بين.
[8.2-4]
وقوله سبحانه: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم... } الآية، { إنما } لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد؛ حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، بحسب القرينة، فقوله هنا: { إنما المؤمنون } ظاهرها أنها للمبالغة والتأكيد فقط، أي الكاملون.
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري الساحلي المالقي في كتابه الذي ألفه في «السلوك»: واعلم أن الإنسان مطلوب بطهارة نفسه، وتزكيتها، وطرق التزكية وإن كثرت، فطريق الذكر أسرع نفعا، وأقرب مراما، وعليه درج أكثر مشائخ التربية، ثم قال: والذكر ضد النسيان، والمطلوب منه عمارة الباطن بالله تعالى في كل زمان، ومع كل حال؛ لأن الذكر يدل على المذكور لا محالة، فذكره ديدنا يوجب المحبة له، والمعرفة به، والذكر وإن اختلف ألفاظه ومعانيه، فلكل معنى [من] معانيه اختصاص بنوع من التحلية والتخلية، والتزكية، ثم قال: والذكر على قسمين: ذكر العامة، وذكر الخاصة. أما ذكر العامة، وهو ذكر الأجور، فهو أن يذكر العبد مولاه بما شاء من ذكره لا يقصد غير الأجور والثواب، وأما ذكر الخاصة، فهو ذكر الحضور، وهو أن يذكر العبد مولاه بأذكار معلومة، على صفة مخصوصة؛ لينال بذلك المعرفة بالله سبحانه بطهارة نفسه من كل خلق ذميم، وتحليتها بكل خلق كريم. انتهى.
و { وجلت }: معناه: فزعت، ورقت، وخافت، وبهذه المعاني فسرتها العلماء.
و { تليت } معناه: سردت، وقرئت، والآيات هنا: القرآن المتلو.
ومن كلام صاحب «الكلم الفارقية»: إن تيقظت يقظة قلبية، وانتبهت انتباهة حقيقية لم تر في وقتك سعة لغير ذكر ربك، واستشعار عظمته، ومهابته، والإقبال على طاعته، ما في وقت العاقل فضلة في غير ما خلق له من عبادة خالقه، والاهتمام بمصالح آخرته، والاستعداد لمعاده، أعرف العبيد بجلال مولاه أخلاهم عما سواه، وأكثرهم لهجا بذكره، وتعظيما لأمره، وأحسنهم تأملا لآثار صنعته، وبدائع حكمته، وأشدهم شوقا إلى لقائه، ومشاهدته انتهى.
وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج، عن نفس التصديق: منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكما من أحكام الله عز وجل في القرآن، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه، فآمن به، زاد إيمانا إلى سائر ما قد آمن به؛ إذ لكل حكم تصديق خاص، وهذا يترتب فيمن بلغه ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة، وترتب زيادة الإيمان بزيادة الدلائل، ولهذا قال مالك: الإيمان يزيد ولا ينقص، ويترتب بزيادة الأعمال البرة على قول من يرى أن لفظة الإيمان واقعة على التصديق والطاعات، وهؤلاء يقولون: يزيد وينقص.
وقوله سبحانه: { وعلى ربهم يتوكلون } عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا اعتبرت، وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به، ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز، وينتظر بعدما وعد به من نصر، أو رزق، أو غيره، وهذه أوصاف جميلة وصف الله بها فضلاء المؤمنين، فجعلها غاية للأمة يستبق إليها الأفاضل، ثم أتبع ذلك وعدهم ووسمهم بإقامة الصلاة، ومدحهم بها حضا على ذلك.
وقوله: { ومما رزقنهم ينفقون }. قال جماعة من المفسرين: هي الزكاة وإنما حملهم على ذلك اقتران الكلام بإقامة الصلاة، وإلا فهو لفظ عام في الزكاة، ونوافل الخير، وصلات المستحقين، ولفظ ابن عباس في هذا المعنى محتمل.
وقوله سبحانه: { لهم درجت } ظاهره، وهو قول الجمهور أن المراد مراتب الجنة، ومنازلها، ودرجاتها على قدر أعمالهم، { ورزق كريم } يريد مآكل الجنة، ومشاربها، و { كريم } صفة تقتضي رفع المذام، كقوله: ثوب كريم.
[8.5-6]
وقوله سبحانه: { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق... } الآية: اختلف في معنى هذه الآية، فقال الفراء: التقدير امض لأمرك في الغنائم، وإن كرهوا كما أخرجك ربك.
قال * ع *: وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال: هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال، كأنهم سألوا عن النفل، وتشاجروا، فأخرج الله ذلك عنهم، فكانت فيه الخيرة، كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجه الله من بيته، فكانت في ذلك الخيرة، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله: { يجدلونك } كلاما مستأنفا يراد به الكفار، أي: يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها، كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان، وهذا الذي ذكرت من أن { يجدلونك } في الكفار منصوص.
وقال مجاهد وغيره: المعنى في الآية: كما أخرج ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم، كذلك يجادلونك في قتال كفار «مكة»، ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم، وقائل هذه المقالة يقول: إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول: إن المجادلين هم المشركون، وهذان القولان يتم بها المعنى، ويحسن رصف اللفظ.
وقيل غير هذا.
وقوله: { من بيتك } يريد من «المدينة» «يثرب» قاله الجمهور.
[8.7-10]
وقوله سبحانه: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم... } الآية: في هذه الآية قصص حسن، محل استيعابه «كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم» لابن هشام، واختصاره:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه، وقيل: أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب، قد أقبل من «الشام» بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها قال لأصحابه: إن عير قريش قد عنت لكم، فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها. قال: فانبعث معه من خف، وثقل قوم، وكرهوا الخروح، وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر، ولا ينظر من غاب ظهره، فسار في ثلاث مائة وثلاثة عشر، أو نحو ذلك من أصحابه بين مهاجري وأنصاري، وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا، فلم يكثر استعدادهم، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي، ويحذر، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى «مكة» يستنفر أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل «مكة» في ألف رجل، أو نحو ذلك، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم أوحى الله إليه وحيا غير متلو يعده إحدى الطائفتين، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فسروا، وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أخذ طريق الساحل، وأبعد وفات، ولم يبق إلا لقاء أهل «مكة»، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف، وقالوا: هذه عيرنا قد نجت، فلننصرف فحرش أبو جهل ولج، حتى كان أمر الواقعة. وقال بعض المؤمنين: نحن لم نخرج لقتال، ولم نستعد له، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وهو بواد يسمى «دقران» وقال: أشيروا علي أيها الناس، فقام أبو بكر، فتكلم، وأحسن، وحرض الناس على لقاء العدو، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة، فقام عمر بمثل ذلك، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة، فتكلم المقداد بن الأسود الكندي، فقال: لا نقول لك يا رسول الله كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: إنا معكما مقاتلون، والله لو أردت بنا برك الغماد يعني مدينة «الحبشة» لقاتلنا معك من دونها، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه، ودعا له بخير، ثم قال: أشيروا علي أيها الناس، فكلمه سعد بن معاذ، وقيل: سعد بن عبادة، ويحتمل هما معا؛ فقال: يا رسول الله، كأنك إيانا تريد معشر الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجل، فقال: إنا قد آمنا بك، واتبعناك، وبايعناك، فامض لأمر الله، فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « امضوا على بركة الله، فكأني أنظر إلى مصارع القوم » فالتقوا وكانت وقعة بدر ".
* ت *: وفي «صحيح البخاري» من حديث عائشة، في خروج أبي بكر من «مكة» فلقيه ابن الدغنة عند برك الغماد الحديث، وليست بمدينة «الحبشة» من غير شك. فالله أعلم، ولعلهما موضعان. انتهى.
و { الشوكة } عبارة عن السلاح والحدة.
وقوله سبحانه: { ويريد الله أن يحق الحق بكلمته ويقطع دابر الكافرين } المعنى: ويريد الله أن يظهر الإسلام، ويعلي دعوة الشرع بكلماته التي سبقت في الأزل، والدابر الذي يدبر القوم، أي يأتي آخرهم، وإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهلاك عليه.
وقوله سبحانه: { ليحق الحق } أي: ليظهر الحق الذي هو دين الإسلام، و { ويبطل البطل } ، أي الكفر، و { تستغيثون } معناه: تطلبون الغوث، و { ممدكم } أي: مكثركم، ومقويكم من: أمددت، و { مردفين } معناه: متبعين.
وقرأ سائر السبعة غير نافع: «مردفين» - بكسر الدال -، ونافع بفتحها، وروي عن ابن عباس: خلف كل ملك ملك، وهذا معنى التتابع، يقال: ردف وأردف؛ إذا اتبع، وجاء بعد الشيء، ويحتمل أن يراد مردفين للمؤمنين، ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضا، وأنشد الطبري شاهدا على أن أردف بمعنى جاء تابعا قول الشاعر: [الوافر]
إذا الجوزاء أردفت الثريا
ظننت بآل فاطمة الظنونا
والثريا تطلع قبل الجوزاء.
وروي في «الصحيح»: الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر.
واختلف في غيره؛ قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر؛ أنه حدث عن ابن عباس، أنه قال: حدثني رجل من بني غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون، فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينما نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي، فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة عن أبي سعيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرا، قال بعد أن ذهب بصره: لو كنت اليوم ببدر، ومعى بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى. انتهى من «سيرة ابن هشام».
وقوله سبحانه: { وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم } الضمير في «جعله» عائد على الوعد، وهذا عندي أمكن الأقوال من جهة المعنى.
وقيل: عائد على المدد، والإمداد.
وقيل: عائد على الإرداف.
وقيل: عائد على الألف، وقوله: { وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } توقيف على أن الأمر كله لله وأن تكسب المرء لا يغني، إذا لم يساعده القدر، وإن كان مطلوبا بالجد، كما ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين.
[8.11-13]
وقوله سبحانه: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه }. القصد تعديد نعمه سبحانه على المؤمنين في يوم بدر، والتقدير: اذكروا إذ فعلنا بكم كذا، وإذ فعلنا كذا، والعامل في «إذا» «اذكروا» وقرأ نافع: «يغشيكم» - بضم الياء، وسكون الغين - وقرأ حمزة وغيره: { يغشيكم } - بفتح الغين وشد الشين المكسورة، وقرأ ابن كثير وغيره: «يغشاكم» - بفتح الياء وألف بعد الشين - «النعاس» بالرفع، ومعنى { يغشيكم }: يغطيكم، والنعاس أخف النوم، وهو الذي يصيب الإنسان، وهو واقف أو ماش، وينص على ذلك قصص هذه الآية؛ أنهم إنما كان بهم خفق بالرؤوس، وقوله: { أمنة } مصدر من أمن يأمن أمنا وأمنة وأمانا، والهاء فيه لتأنيث المصدر، كما هي في المساءة والحماقة والمشقة.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: النعاس عند حضور القتال علامة أمن، وهو من الله، وهو في الصلاة من الشيطان.
قال * ع *: وهذا إنما طريقه الوحي، فهو لا محالة يسنده وقوله سبحانه: { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به }. وذلك أن قوما من المؤمنين لحقتهم جنابات في سفرهم، وعدموا الماء قريب بدر، فصلوا كذلك، فوسوس الشيطان في نفوس بعضهم مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقلتهم، وأيضا فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة، من رمل دهس تسوخ فيها الأرجل، فكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر، فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية، فاغتسلوا، وطهرهم الله تعالى فذهب رجز الشيطان، وتدمث الطريق، وتلبدت تلك الرمال، فسهل الله عليهم السير، وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى ماء بدر، وأصاب المشركين من ذلك المطر ما صعب عليهم طريقهم، فسر المؤمنون، وتبينوا من فعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم، فطابت نفوسهم، واجتمعت، وتشجعت، فذلك الربط على قلوبهم، وتثبيت أقدامهم على الرملة اللينة.
والضمير في «به» على هذا الاحتمال عائد على الماء، ويحتمل عوده على ربط القلوب، ويكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب، ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس، ولم يترتب كذلك في الآية، إذ القصد فيها تعديد النعم فقط.
وقوله سبحانه: { فثبتوا الذين آمنوا } وتثبيتهم يكون بقتالهم، وبحضورهم، وبأقوالهم المؤنسة، ويحتمل أن يكون التثبيت بما يلقيه الملك في القلب بلمته من توهم الظفر، واحتقار الكفار، وبخواطر تشجعه.
قال * ع *: ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } وعلى هذا التأويل يجيء قوله: { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } مخاطبة للملائكة، ويحتمل أن يكون مخاطبة للمؤمنين. وقوله سبحانه: { فاضربوا فوق الأعنق } قال عكرمة: هي على بابها، وأراد الرؤوس، وهذا أنبل الأقوال.
قال * ع *: ويحتمل عندي أن يريد وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق دون عظم الرأس في المفصل، كما وصف دريد بن الصمة، فيجيء على هذا فوق الأعناق متمكنا.
والبنان: قالت فرقة: هي المفاصل؛ حيث كانت من الأعضاء.
وقال فرقة: البنان الأصابع، وهذا هو الصحيح؛ لأنه إذا قطع البنان لم ينتفع صاحبه بشيء من أعضائه واستأسر.
و { شاقوا }: معناه خالفوا ونابذوا، وقطعوا، وهو مأخوذ من الشق، وهو القطع والفصل بين شيئين، وعبر المفسرون عن قوله: { شاقوا } أي: صاروا في شق غير شقه.
قال * ع *: وهذا وإن كان معناه صحيحا، فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه، وقوله: { فإن الله شديد العقاب } جواب، للشرط تضمن وعيدا وتهديدا.
[8.14-16]
وقوله سبحانه: { ذلكم فذوقوه } المخاطبة للكفار، أي ذلكم الضرب والقتل، وما أوقع الله بهم يوم بدر، فكأنه قال: الأمر ذلكم فذوقوه، وكذا قرره سيبويه.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون «ذلكم» في موضع نصب، كقوله: زيدا فاضربه، وقوله سبحانه: { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا... } الآية: { زحفا } يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص، أي: يزحف بعضهم إلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الألية، ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويدا زاحفا، إذ في مشيته من التماهل والتباطؤ ما في مشي الزاحف، وفي هذا المعنى شواهد من كلام العرب، ونهى الله سبحانه في هذه الآية عن تولي الأدبار، وهذا مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، والفرار هنالك كبيرة موبقة بظاهر القرآن، والحديث، وإجماع الأكثر من الأمة.
وقوله: { ومن يولهم يومئذ دبره... } الآية. قال جمهور الأمة: الإشارة ب { يومئذ } إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله: { إذا لقيتم } وحكم الآية باق إلى يوم القيامة، بشرط الضعف الذي بينه الله سبحانه.
* ت *: قال ابن رشد: وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا، فإن بلغ حرم الفرار، وإن زاد المشركون على الضعف « لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة »، فإن أكثر أهل العلم خصصوا بهذا الحديث عموم الآية.
وعن مالك مثله. انتهى.
وفهم * ع *: الحديث على التعجب، ذكره عند قوله:
ويوم حنين
[التوبة:25]، وما قاله ابن رشد هو الصواب. والله أعلم.
و { متحرفا لقتال } يراد به الذي يرى: أن فعله ذلك أنكى للعدو، ونصبه على الحال، وكذلك نصب { متحيزا } ، وأما الاستثناء، فهو من المولين الذين تضمنهم «من».
والفئة هنا الجماعة الحاضرة للحرب، هذا قول الجمهور.
[8.17-19]
وقوله سبحانه: { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } هذه الآية ترد على من يزعم أن أفعال العباد خلق لهم، ومذهب أهل السنة أنها خلق للرب سبحانه كسب للعبد؛ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يومئذ ثلاث قبضات من حصى وتراب، فرمى بها في وجوه القوم، فانهزموا عند آخر رمية، ويروى أنه قال يوم بدر: « شاهت الوجوه » وهذه الفعلة أيضا كانت يوم «حنين» بلا خلاف.
و { ليبلي المؤمنين } أي: ليصيبهم ببلاء حسن، وظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة، والظفر، والغزة.
{ إن الله سميع } لاستغاثتكم، { عليم } بوجوه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو.
وقوله سبحانه: { ذلكم } إشارة إلى ما تقدم من قتل الله لهم، ورميه إياهم، وموضع { ذلكم } من الإعراب رفع.
قال سيبويه: التقدير: الأمر ذلكم، و { موهن } معناه مضعف مبطل.
وقوله سبحانه: { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح... } الآية:، قال أكثر المتأولين: هذه الآية مخاطبة لكفار «مكة»؛ روي أن قريشا لما عزموا على الخروج إلى حماية العير، تعلقوا بأستار الكعبة، واستفتحوا، وروي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر: اللهم انصر أحب الفئتين إليك، وأظهر خير الدينين عندك، اللهم أقطعنا للرحم فأحنه الغداة، ونحو هذا فقال الله لهم: إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم، أي: كما ترونه عليكم لا لكم، وفي هذا توبيخ لهم، وإن تنتهوا عن كفركم وغيكم فهو خير لكم، وإن تعودوا للاستفتاح نعد بمثل وقعة بدر، وباقي الآية بين.
[8.20-23]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله... } الآية:. قيل: إنها نزلت بسبب اختلافهم في النفل، ومجادلتهم في الحق، وكراهيتهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم، و { تولوا } أصله: تتولوا.
وقوله: { أنتم تسمعون } يريد دعاءه لكم بالقرآن والمواعظ.
وقوله: { كالذين قالوا } يريد الكفار؛ إما من قريش لقولهم:
سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا
[الأنفال:31] وأما الكفار على الإطلاق.
وقوله سبحانه: { إن شر الدواب عند الله الصم البكم } مقصد الآية بيان أن هذه الصنيفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله سبحانه وأنها في أخس المنازل لديه، وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم، وقوله: { الصم البكم } عبارة عما في قلوبهم، وعدم انشراح صدورهم، وإدراك عقولهم.
وقوله: { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } أي سماع هدى، وتفهم، { ولو أسمعهم } أي: ولو فهمهم { لتولوا } بحكم القضاء السابق فيهم، ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى.
[8.24-26]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول... } الآية: { استجيبوا } بمعنى: أجيبوا وقوله: { لما يحييكم } قال مجاهد والجمهور: المعنى للطاعة، وما يتضمنه القرآن، وهذا إحياء مستعار؛ لأنه من موت الكفر والجهل، والطاعة تؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة.
وقوله سبحانه: { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } يحتمل وجوها:
منها: أنه لما أمرهم سبحانه بالاستجابة في الطاعة، حضهم على المبادرة والاستعجال، وأعلمهم أنه يحول بين المرء وقلبه بالموت والقبض، أي: فبادروا الطاعات، ويلتئم مع هذا التأويل قوله: { وأنه إليه تحشرون } ، أي: فبادروا الطاعات، وتزودوها ليوم الحشر.
ومنها: أن يقصد إعلامهم أن قدرة الله وعلمه وإحاطته حائلة بين المرء وقلبه، فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر؛ حكي هذا التأويل عن قتادة ويحتمل أن يريد تخويفهم؛ إن لم يمتثلوا الطاعات، ويستجيبوا لله وللرسول؛ أن يحل بهم ما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله:
ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون
[الأنفال:23]؛ لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا لم ينتفعوا يقتضي أنه كان قد حال بينهم وبين قلوبهم.
ومنها: أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو، فيجعله جراءة وقوة، وبضد ذلك للكفار، أي: فإن الله تعالى هو مقلب القلوب؛ كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل غير هذا.
قال مكي، وقال الطبري: هذا خبر من الله عز وجل؛ أنه أملك بقلوب العباد منهم لها، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئا من إيمان ولا كفر، ولا يعي شيئا، ولا يفهم شيئا إلا بإذنه ومشيته سبحانه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول في دعائه:
" « يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك » "
انتهى من «الهداية».
وروى مالك بن أنس والنسائي،
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبي بن كعب وهو في الصلاة، فلم يجبه، وأسرع في بقية صلاته، فلما فرغ جاء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يقل الله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم }؟ قال أبي: لا جرم، يا رسول الله، لا تدعوني أبدا إلا أجبتك...» "
الحديث بطوله، واختلاف ألفاظه، وفي «البخاري ومسلم»؛ أن ذلك وقع مع أبي سعيد بن المعلى، وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق.
وقوله: عز وجل: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } في الآية تأويلات، أسبقها إلى النفس، أن الله سبحانه حذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط، بل تصيب الكل من ظالم وبريء، وهذا تأويل الزبير بن العوام، والحسن البصري، وكذلك تأويل ابن عباس؛ فإنه قال: أمر الله المؤمنين في هذه الآية ألا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم العذاب و { خاصة }: نعت لمصدر محذوف، تقديره إصابة خاصة، فهي نصب على الحال، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره: «لتصيبن» - باللام - على جواب قسم، والمعنى على هذا: وعيد للظلمة فقط.
وقوله سبحانه: { واذكروا إذ أنتم قليل... } الآية: هذه الآية تتضمن تعديد نعم الله على المؤمنين، و«إذ»: ظرف لمعمول، «واذكروا»: تقديره: واذكروا حالكم الكائنة، أو الثابتة إذ أنتم قليل، ولا يجوز أن تكون «إذ» ظرفا للذكر.
وإنما يعمل الذكر في «إذ» لو قدرناها مفعولة، واختلف في الحال المشار إليها بهذه الآية.
فقالت فرقة؛ وهي الأكثر: هي حال المؤمنين بمكة في وقت بداءة الإسلام، والناس الذين يخاف تخطفهم كفار مكة، والمأوى: المدينة، والتأييد بالنصر: وقعة بدر وما انجر معها في وقتها، والطيبات: الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالت فرقة: الحال المشار إليها هي حالهم في غزوة بدر، والناس الذين يخاف تخطفهم، على هذا: عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخوف من بعضهم، والمأوى على هذا، والتأييد بالنصر: هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو، والطيبات: الغنيمة.
[8.27-29]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها، والخيانة: التنقص للشيء باختفاء، وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر ما، مالا كان أو سرا أو غير ذلك، والخيانة لله عز وجل: هي في تنقص أو أمره في سر.
وقوله: { وتخونوا أمنتكم }.
قال الطبري: يحتمل أن يكون داخلا في النهي؛ كأنه قال: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تخونوا الله والرسول؛ فذلك خيانة لأماناتكم.
وقوله: { فتنة } ، يريد: محنة واختبارا وامتحانا؛ ليرى كيف العمل في جميع ذلك.
وقوله: { وأن الله عنده أجر عظيم } ، يريد: فوز الآخرة، فلا تدعوا حظكم منه؛ للحيطة على أموالكم وأبنائكم؛ فإن المذخور للآخرة أعظم أجرا.
قوله سبحانه: { يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله... } الآية: وعد للمؤمنين بشرط التقوى والطاعة لله سبحانه، و { يجعل لكم فرقانا }: معناه: فرقا بين حقكم، وباطل من ينازعكم؛ بالنصر والتأييد، وعبر قتادة، وبعض المفسرين عن «الفرقان» ههنا بالنجاة، وقال مجاهد والسدي: معناه: مخرجا، ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه، وقد يوجد للعرب استعمال «الفرقان»، كما ذكر المفسرون؛ وعلى ذلك شواهد؛ منها قول الشاعر: [الطويل]
وكيف أرجي الخلد والموت طالبي
ومالي من كأس المنية فرقان
* ت *: قال ابن رشد: وأحسن ما قيل في هذا المعنى قوله تعالى: { يجعل لكم فرقانا }؛ أي: فضلا بين الحق والباطل؛ حتى يعرفوا ذلك بقلوبهم، ويهتدوا إليه. انتهى من «البيان».
[8.30-31]
وقوله سبحانه: { وإذ يمكر بك الذين كفروا... } الآية: تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة، وجميل صنع الله تعالى في جميع ذلك، والمكر: المخاتلة والتداهي؛ تقول: فلان يمكر بفلان؛ إذا كان يستدرجه، وهذا المكر الذي ذكر الله تعالى في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين: إشارة إلى اجتماع قريش في «دار الندوة» بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في «سيره» الحديث بطوله، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب، ففي القصة:
" أن أبا جهل قال: الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قويا جلديا، فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفا، ويأتون محمدا في مضجعه، فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا تقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها، فيأخذون العقل، ونستريح منه، فقال النجدي: صدق الفتى؛ هذا الرأي: لا رأي غيره، فافترقوا على ذلك، فأخبر الله تعالى بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وأذن له في الخروج إلى المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته، وقال لعلي بن أبي طالب: « التف في بردي الحضرمي، واضطجع في مضجعي؛ فإنه لا يضرك شيء، ففعل»، فجاء فتيان قريش، فجعلوا يرصدون الشخص، وينتظرون قيامه، فيثورون به، فلما قام رأوا عليا، فقالوا له: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري، "
وفي «السير»؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم، وهم في طريقه، فطمس الله أعينهم عنه، وجعل على رأس كل واحد منهم ترابا، ومضى لوجهه، فجاءهم رجل، فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا، قال: إني رأيته الآن جائيا من ناحيتكم، وهو لا محالة، وضع التراب على رؤوسكم، فمد كل واحد يده إلى رأسه، فإذا عليه التراب، وجاؤوا إلى مضجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوا عليا، فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول، وهو بالغار، ومعنى: { ليثبتوك }: ليسجنوك؛ قاله عطاء وغيره وقال ابن عباس وغيره: ليوثقوك.
وقوله سبحانه: { وإذا تتلى عليهم آيتنا } ، يعني: القرآن، { قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } ، وقولهم: { إن هذا إلا أسطير الأولين } ، أي: قصصهم المكتوبة المسطورة، وأساطير : جمع «أسطورة»، ويحتمل حمع: «أسطار»، وتواترت الروايات عن ابن جريج وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث؛ وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة، فكان قد سمع من قصص الرهبان وأخبار رستم وإسفنديار، فلما سمع القرآن، ورأى فيه أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلت مثل هذا،
" وكان النضر من مردة قريش النائلين من النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت فيه آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل، وأمكن الله منه يوم بدر، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له «الأثيل»، وكان أسره المقداد، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه، قال المقداد: أسيري، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم« إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم»، ثم أعاد الأمر بقتله، فأعاد المقداد مقالته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اللهم، أغن المقداد من فضلك »، فقال المقداد: هذا الذي أردت، فضربت عنق النضر ".
[8.32-34]
وقوله عز وجل: { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك... } الآية: روي عن مجاهد وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث المذكور، وفيه نزلت هذه الآية.
قال * ع *: وترتب أن يقول النضر مقالة، وينسبها القرآن إلى جميعهم؛ لأن النضر كان فيهم موسوما بالنبل والفهم، مسكونا إلى قوله، فكان إذا قال قولا قاله منهم كثير، واتبعوه عليه؛ حسب ما يفعله الناس أبدا بعلمائهم وفقهائهم.
* ت *: وخرج البخاري بسنده، عن أنس بن مالك، قال: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } ، إلى: { عن المسجد الحرام } ا ه، والمشار إليه ب { هذا } هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد، فعميت بصائرهم عن الهدى، وصمموا على أن هذا ليس بحق، نعوذ بالله من جهد البلاء، وسوء القضاء، وحكى ابن فورك: أن هذه المقالة خرجت منهم مخرج العناد، وهذا بعيد في التأويل، ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل، وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحق»؛ على أنه خبر «كان»، ويكون «هو» فضلا، فهو حينئذ اسم، و«أمطر» إنما تستعمل غالبا في المكروه، و«مطر» في الرحمة؛ قاله أبو عبيدة.
وقوله سبحانه: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم... } الآية: قالت فرقة: نزلت هذه الآية كلها بمكة، وقالت فرقة: نزلت كلها بعد وقعة بدر؛ حكاية عما مضى.
وقال ابن أبزى: نزل قوله: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } بمكة إثر قولهم: { أو ائتنا بعذاب أليم } ، ونزل قوله: { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } ، عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل قوله: { وما لهم ألا يعذبهم الله... } إلى آخر الآية، بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم.
* ت *: وهذا التأويل بين، وعليه اعتمد عياض في «الشفا» قال: وفي الآية تأويل آخر، ثم ذكر حديث الترمذي، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنزل الله تعالى علي أمانين لأمتي: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } ، فإذا مضيت، تركت فيهم الاستغفار "
انتهى.
قال * ع *: وأجمع المتأولون على أن معنى قوله: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها، أي: فما كان الله ليعذب هذه الأمة، وأنت فيهم، بل كرامتك لديه أعظم.
وقوله عز وجل: { وما لهم ألا يعذبهم الله } توعد بعذاب الدنيا، والضمير في قوله: { أولياؤه }: عائد على الله سبحانه، أو على المسجد الحرام، كل ذلك جيد، وروي الأخير عن الحسن.
وقال الطبري: عن الحسن بن أبي الحسن أن قوله سبحانه: { وما لهم ألا يعذبهم الله } ناسخ لقوله: { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون }.
قال * ع *: وفيه نظر؛ لأنه خبر لا يدخله نسخ.
[8.35-36]
وقوله سبحانه: { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } المكاء: الصفير؛ قاله ابن عباس والجمهور، والتصدية: عبر عنها أكثر الناس؛ بأنها التصفيق، وذهب أكثر المفسرين إلى أن المكاء والتصدية إنما أحدثهما الكفار عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتقطع عليه وعلى المؤمنين قراءتهم وصلاتهم، وتخلط عليهم، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت، أمكن أن يعترض منهم معترض بأن يقول: وكيف لا نكون أولياءه، ونحن نسكنه، ونصلي عنده؛ فقطع سبحانه هذا الاعتراض بأن قال: وما كان صلاتهم عند البيت إلا المكاء والتصدية.
قال * ع *: والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان؛ أن المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع؛ وعلى هذا يستقيم تغييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، وإنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيهما وقت النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه هو وأمته عن القراءة والصلاة.
وقوله سبحانه: { فذوقوا العذاب... } الآية: إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف؛ قاله الحسن وغيره؛ فيلزم أن هذه الآية الآخرة نزلت بعد بدر، ولا بد.
قال * ع *: والأشبه أن الكل نزل بعد بدر؛ حكاية عما مضى.
وقوله سبحانه: { إن الذين كفروا ينفقون أمولهم ليصدوا عن سبيل الله... } الآية: لما قتل من قتل ببدر، اجتمع أبناؤهم وقراباتهم، فقالوا لمن خلص ماله في العير: إن محمدا قد نال منا ما ترون، ولكن أعينونا بهذا المال الذي كانت سبب الوقعة، فلعلنا أن ننال منه ثأرا، يريدون نفقته في غزوة أحد.
وقوله سبحانه: { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } ، الحسرة: التلهف على فائت، وهذا من أخبار القرآن بالغيوب قبل أن تكون، فكان كما أخبر، ثم أخبر سبحانه عن الكافرين، وأنهم يجمعون إلى جهنم، والحشر: الجمع.
[8.37-40]
وقوله سبحانه: { ليميز الله الخبيث من الطيب } ، وقرأ حمزة والكسائي: «ليميز الله» - بضم الياء، وفتح الميم، وشد الياء -، قال ابن عباس وغيره: المعني ب { الخبيث }: الكفار، وب { الطيب } المؤمنون، وقال ابن سلام والزجاج: { الخبيث }: ما أنفقه المشركون في الصد عن سبيل الله، و { الطيب }: هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله.
قال * ع *: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله سبحانه يخرج يوم القيامة من الأموال ما كان صدقة أو قربة، ثم يأمر بسائر ذلك، فيلقى في النار: وعلى التأويلين: فقوله سبحانه: { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا } إنما هي عبارة عن جمع ذلك، وضمه، وتأليف أشتاته، وتكاثفه بالاجتماع، ويركمه؛ في كلام العرب: يكثفه؛ ومنه
سحاب مركوم
[الطور:44] وعبارة البخاري: فيركمه: فيجمعه. انتهى.
وقوله سبحانه: { إن ينتهوا } ، يعني: عن الكفر، { يغفر لهم ما قد سلف }؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، و { إن يعودوا } ، يريد به: إلى القتال، ولا يصح أن يتأول: وإن يعودوا إلى الكفر؛ لأنهم لم ينفصلوا عنه.
وقوله: { فقد مضت سنت الأولين }: عبارة تجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله؛ حين صد في وجه نبيه بمن هلك في يوم بدر بسيف الإسلام.
وقوله سبحانه: { وقتلوهم حتى لا تكون فتنة } قال ابن عباس، وابن عمر، وغيرهما: الفتنة: الشرك.
قال * ع *: وهذا هو الظاهر، ويفسر هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "
الحديث.
وقال ابن إسحاق: معناها: حتى لا يفتن أحد عن دينه؛ كما كانت قريش تفعل بمكة بمن أسلم.
وقوله: { ويكون الدين كله لله } ، أي: لا يشرك معه صنم، ولا وثن، ولا يعبد غيره سبحانه، ثم قال تعالى: { فإن انتهوا } ، عن الكفر، { فإن الله بما يعملون بصير } بعملهم، مجاز عليه، عنده ثوابه، وجميل المقارضة عليه.
وقوله سبحانه: { وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير }: معادل لقوله: { فإن انتهوا } ، المعنى: وإن تولوا، ولم ينتهوا، فاعلموا أن الله تعالى ينصركم عليهم، وهذا وعد محض بالنصر والظفر، و { المولى }؛ هاهنا الموالى والمعين، والمولى في اللغة على معان، هذا هو الذي يليق بهذا الموضع منها، والمولى: الذي هو السيد المقترن بالعبد يعم المؤمنين والمشركين.
[8.41-44]
وقوله عز وجل: { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه... } الآية: الغنيمة؛ في اللغة: ما يناله الرجل بسعي؛ ومنه صلى الله عليه وسلم:
" الصيام في الشتاء هي الغنيمة الباردة "
، وقوله: { من شيء }: ظاهرة العموم، ومعناه الخصوص، فأما الناض والمتاع والأطفال والنساء وما لا يؤكل [لحمه] من الحيوان ويصح تملكه، فالإمام يأخذ خمسه، ويقسم الباقي في الجيش، وأما الأرض، فقال فيها مالك: يقسمها الإمام؛ إن رأى ذلك صوابا؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، أو لا يقسمها، بل يتركها لنوائب المسلمين؛ إن أداه اجتهاده إلى ذلك؛ كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأرض مصر وبسواد الكوفة، وأما الرجال، ومن شارف البلوغ من الصبيان، فالإمام؛ عند مالك وجمهور العلماء، مخير فيهم على خمسة أوجه:
منها: القتل، وهو مستحسن في أهل الشجاعة والنكاية.
ومنها: الفداء، وهو مستحسن في ذي المنصب الذي ليس بشجاع ولا يخاف منه رأي ومكيدة؛ لانتفاع المسلمين بالمال الذي يؤخذ منه.
ومنها: المن، وهو مستحسن فيمن يرجى أن يحنو على أسرى المسلمين، ونحو ذلك من القرائن.
ومنها: الاسترقاق.
ومنها: ضرب الجزية، والترك، في الذمة.
وأما الطعام، والغنم، ونحوها مما يؤكل، فهو مباح في بلد العدو أكله، وما فضل منه كان في المغنم.
ومحل استيعاب فروع هذا الفصل كتب الفقه.
وقوله سبحانه: { وما أنزلنا على عبدنا } ، أي: من النصر والظهور الذي أنزله الله سبحانه يوم بدر، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى قرآن نزل يوم بدر، أو في قصة يوم بدر، ويوم الفرقان: معناه: يوم الفرق بين الحق والباطل؛ بإعزاز الإسلام وإذلال الشرك، والجمعان: يريد: جمع المسلمين وجمع الكفار، وهو يوم بدر، ولا خلاف في ذلك.
وقوله سبحانه: { والله على كل شيء قدير } ، يعضد أن قوله: { وما أنزلنا على عبدنا } ، يراد به النصر والظفر، أي: الآيات والعظائم من غلبة القليل للكثير، وذلك بقدرة الله عز وجل الذي هو على كل شيء قدير.
وقوله سبحانه: { إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم } ، العدوة: شفير الوادي، وحرفه الذي يتعذر المشي فيه بمنزلة رجا البئر؛ لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه؛ أن يتجاوز الوادي، أي: منعته؛ ومنه قول الشاعر: [الوافر]
عدتني عن زيارتك العوادي
وحالت دونها حرب زبون
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: { بالعدوة } - بكسر العين -، وقوله: { الدنيا } ، و { القصوى } ، إنما هو بالإضافة إلى المدينة، وبين المدينة ووادي بدر موضع الوقعة مرحلتان، والدنيا: من الدنو، والقصوى: من القصو، وهو البعد، { والركب } ، بإجماع من المفسرين: عير أبي سفيان، وقوله: { أسفل } ، في موضع خفض، تقديره: في مكان أسفل كذا.
قال سيبويه: وكان الركب، ومدبر أمره أبو سفيان بن حرب، قد نكب عن بدر حين نذر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ سيف البحر، فهو أسفل؛ بالإضافة إلى أعلى الوادي.
وقوله سبحانه: { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعد } ، المقصد من الآية: تبيين نعمة الله سبحانه في شأن قصة بدر، وتيسيره سبحانه ما يسر من ذلك، والمعنى: لو تواعدتم، لاختلفتم في الميعاد بسبب العوارض التي تعرض للناس، إلا مع تيسير الله الذي تمم ذلك، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله تعالى دون تعب كثير: لو بنينا على هذا، وسعينا فيه، لم يتم هكذا، { ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا } ، أي: لينفذ ويظهر أمرا قد قدره في الأزل مفعولا لكم؛ بشرط وجودكم في وقت وجودكم، وهذا كله معلوم عنده عز وجل لم يتجدد له به علم، وقوله عز وجل: { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } ، قال الطبري: المعنى: ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم؛ ببيان من الله وإعذار بالرسالة، ويحيا أيضا ويعيش من عاش؛ عن بيان منه أيضا وإعذار؛ لا حجة لأحد عليه سبحانه.
* ت *: قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» في قوله عز وجل: { ليهلك من هلك عن بينة... } الآية: البينة: ما بان به الحق. انتهى.
وقال ابن إسحاق وغيره: معنى «ليهلك»، أي: ليكفر، و«يحيا» أي: ليؤمن؛ فالحياة والهلاك على هذا التأويل: مستعارتان.
وقوله سبحانه: { إذ يريكهم الله في منامك قليلا... } الآية: وتظاهرت الروايات؛ أن هذه الآية نزلت في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى فيها عدد الكفار قليلا، فأخبر بذلك أصحابه، فقويت نفوسهم، وحرصوا على اللقاء؛ قاله مجاهد وغيره، والظاهر أنه رآهم صلى الله عليه وسلم في نومه قليلا قدرهم وبأسهم، ويحتمل أنه رآهم قليلا عددهم، فكان تأويل رؤياه انهزامهم، والفشل: الخور عن الأمر، و { لتنازعتم } ، أي: لتخالفتم في الأمر، يريد: في اللقاء والحرب. و { سلم }: لفظ يعم كل متخوف.
وقوله سبحانه: { وإذ يريكموهم إذ التقيتم... } الآية:، وهذه الرؤية هي في اليقظة بإجماع، وهي الرؤية التي كانت حين التقوا، ووقعت العين على العين، والمعنى: أن الله تعالى؛ لما أراده من إنفاذ قضاءه في نصرة الإسلام وإظهار دينه، قلل كل طائفة في عيون الأخرى، فوقع الخلل في التخمين والحزر الذي يستعمله الناس في هذا؛ لتجسر كل طائفة على الأخرى، وتتسبب أسباب الحرب، والأمر المفعول المذكور في الآيتين هو القصة بأجمعها.
وقوله: { وإلى الله ترجع الأمور }: تنبيه على أن الحول بأجمعه لله، وأن كل أمر، فله وإليه.
[8.45-47]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنزعوا... } الآية: هذا أمر من الله سبحانه بما فيه داعية النصر، وسبب العز، وهي وصية منه سبحانه بحسب التقييد الذي في آية الضعف، والفئة الجماعة، أصلها: «فئوة»، وهي من: «فأوت»، أي: جمعت، ثم أمر سبحانه بإكثار ذكره هناك؛ إذ هو عصمة المستنجد، ووزر المستعين.
قال قتادة: افترض الله ذكره عند اشغل ما يكون؛ عند الضراب والسيوف.
قال * ع *: وهذا ذكر خفي؛ لأن رفع الصوت في موطن القتال رديء مكروه؛ إذا كان ألغاطا، فأما إن كان من الجميع عند الحملة، فحسن فات في عضد العدو؛ قال قيس بن عباد: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند ثلاث؛ عند قراءة القرآن، وعند الجنازة، وعند القتال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اطلبوا إجابة الدعاء عند القتال، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث "
وكان ابن عباس يكره التلثم عند القتال.
قال النووي : وسئل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، عن القدر الذي يصير به المرء من الذاكرين الله كثيرا، فقال: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة؛ صباحا ومساء، وفي الأوقات والأحوال المختلفة؛ ليلا ونهارا - وهي مبينة في كتب «عمل اليوم والليلة» - كان من الذاكرين الله كثيرا؛ والله سبحانه أعلم. انتهى من «الحلية».
* ت *: وأحسن من هذا جوابه صلى الله عليه وسلم حيث قال:
" سبق المفردون قالوا: «وما المفردون، يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» "
، رواه مسلم، والترمذي، وعنده: «قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال: المستهترون في ذكر الله؛ يضع عنهم الذكر أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خفافا » قال صاحب «سلاح المؤمنين»: المستهترون في ذكر الله، - هو بفتح التاءين المثناتين يعني: الذي أولعوا به؛ يقال: استهتر فلان بكذا، أي: أولع به، والله أعلم. انتهى.
فقد بين صلى الله عليه وسلم هنا صفة الذاكرين الله كثيرا، وقد نقلنا في غير هذا المحل بيان صفة الذاكرين الله كثيرا، بنحو هذا من طريق ابن المبارك، وإذا كان العبد مستهترا بذكر مولاه، أنس به، وأحبه، وأحب لقاءه؛ فلم يبال بلقاء العدو، وإن هي إلا إحدى الحسنيين: إما النصر؛ وهو الأغلب لمن هذه صفته، أو الشهادة؛ وذلك مناه، ومطلبه. انتهى.
و { تفلحون }: تنالون بغيتكم، وتنالون آمالكم، والجمهور على أن الريح هنا مستعارة.
قال مجاهد: الريح: النصر والقوة، وذهب ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد، وقوله سبحانه: { واصبروا... } إلى آخر الآية: تتميم في الوصية وعدة مؤنسة، وقوله سبحانه: { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديرهم... } الآية: الإشارة إلى كفار قريش، والبطر: الأشر وغمط النعمة، وروي أن أبا سفيان، لما أحرز عيره، بعث إلى قريش، وقال: إن الله قد سلم عيركم، فارجعوا، فأتى رأي الجماعة على ذلك، وخالف أبو جهل، وقال: والله، لا نفعل حتى نأتي بدرا - وكانت بدر سوقا من أسواق العرب لها يوم موسم فننحر عليها الإبل، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، ويهابنا الناس، فهذا معنى قوله تعالى: { ورئاء الناس }.
[8.48]
وقوله سبحانه: { وإذ زين لهم الشيطن أعملهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } ، الضمير في { لهم } عائد على الكفار، و { الشيطن }: إبليس نفسه، والذي عليه الجمهور، وتظاهرت به الروايات أن إبليس جاء كفار قريش، ففي «السير» لابن هشام: أنه جاءهم بمكة، وفي غيرها: أنه جاءهم، وهم في طريقهم إلى بدر، وقد لحقهم خوف من بني بكر وكنانة؛ لحروب كانت بينهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو سيد من ساداتهم، فقال لهم: { إني جار لكم } ، ولن تخافوا من قومي، وهم لكم أعوان على مقصدكم، ولن يغلبكم أحد، فروي أنه لما التقى الجمعان، كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما رأى الملائكة، نكص، فقال له الحارث: أتفر يا سراقة؟! فلم يلو عليه، ويروى أنه قال له ما تضمنته الآية، وروي أن عمير بن وهب، أو الحارث بن هشام قال له: أين يا سراق؟ فلم يلو مثل عدو الله، فذهب، ووقعت الهزيمة، فتحدثوا أن سراقة فر بالناس، فبلغ ذلك سراقة بن مالك، فأتى مكة، فقال لهم: والله، ما علمت بشيء من أمركم حتى بلغتني هزيمتكم، ولا رأيتكم، ولا كنت معكم.
* ت *: قال ابن إسحاق: ذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة لا ينكرونه حتى إذا كان يوم بدر، والتقى الجمعان، نكص عدو الله على عقبيه، فأوردهم ثم أسلمهم. انتهى من «السيرة» لابن هشام.
وقوله: { إني جار لكم } أي: أنتم في ذمتي وحمائي، و«تراءت»: تفاعلت من الرؤية، أي: رأى هؤلاء هؤلاء.
قوله: { نكص على عقبيه } ، أي: رجع من حيث جاء، وأصل النكوص؛ في اللغة: الرجوع القهقرى.
وقوله: { إني أرى ما لا ترون } ، يريد: الملائكة، وهو الخبيث، إنما شرط أن لا غالب لهم من الناس، فلما رأى الملائكة، وخرق العادة، خاف وفر.
وقوله: { إني أخاف الله } ، قال الزجاج وغيره: خاف مما رأى من الأمر، وهوله؛ أنه يومه الذي أنظر إليه؛ ويقوي هذا أنه رأى خرق العادة، ونزول الملائكة للحرب.
[8.49-51]
وقوله سبحانه: { إذ يقول المنفقون والذين في قلوبهم مرض... } الآية: قال المفسرون: إن هؤلاء الموصوفين بالنفاق، إنما هم من أهل عسكر الكفار ممن كان الإسلام داخل قلوبهم، خرجوا مع المشركين إلى بدر، منهم مكره وغير مكره، فلما أشرفوا على المسلمين، ورأوا قلتهم، ارتابوا، وقالوا مشيرين إلى المسلمين: غر هؤلاء دينهم.
قال * ع *: ولم يذكر أحد ممن شهد بدرا بنفاق إلا ما ظهر بعد ذلك من معتب ابن قشير؛ فإنه القائل يوم أحد:
لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا
[آل عمران:154] وقد يحتمل أن يكون منافقو المدينة، لما وصلهم خروج قريش في قوة عظيمة، قالوا هذه المقالة، ثم أخبر الله سبحانه بأن من توكل عليه، وفوض أمره إليه، فإن عزته سبحانه وحكمته كفيلة بنصره، وقوله سبحانه: { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملئكة يضربون وجوههم وأدبرهم... } الآية هذه الآية تتضمن التعجيب مما حل بالكفار يوم بدر؛ قاله مجاهد وغيره، وفي ذلك وعيد لمن بقي منهم، وقوله: و { أدبرهم } ، قال جل المفسرين: يريد أستاههم، ولكن الله كريم كنى، وقال ابن عباس، والحسن: أراد ظهورهم وما أدبر منهم وباقي الآية بين.
[8.52-54]
وقوله سبحانه: { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيت الله فأخذهم الله بذنوبهم... } الآية: الدأب: العادة في كلام العرب، وهو مأخوذ من دأب على العمل، إذا لازمه.
وقوله سبحانه: { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم... } الآية: معنى هذه الآية إخبار من الله سبحانه، إذا أنعم على قوم نعمة، فإنه بلطفه ورحمته لا يبدأ بتغييرها وتنكيدها، حتى يجيء ذلك منهم؛ بأن يغيروا حالهم التي تراد، أو تحسن منهم، فإذا فعلوا ذلك، غير الله نعمته عندهم بنقمته منهم، ومثال هذه نعمة الله على قريش بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا به، فغير الله تلك النعمة، بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار، وأحل بهم عقوبته.
وقوله تعالى: { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيت ربهم فأهلكنهم بذنوبهم } ، هذا التكرير هو لمعنى ليس للأول؛ إذ الأول دأب في أن هلكوا لما كفروا، وهذا الثاني دأب في أنه لم يغير نعمتهم؛ حتى غيروا ما بأنفسهم، والإشارة بقوله: { والذين من قبلهم } ، إلى قوم شعيب وصالح وهود ونوح وغيرهم.
[8.55-59]
وقوله سبحانه: { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون } ، أجمع المتأولون؛ أن الآية نزلت في بني قريظة، وهي بعد تعم كل من اتصف بهذه الصفة إلى يوم القيامة، وقوله: { في كل مرة }: يقتضي أن الغدر قد تكرر منهم.
وحديث قريظة هو أنهم عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ على ألا يحاربوه، ولا يعينوا عليه عدوا من غيرهم، فلما اجتمعت الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، غلب على ظن بني قريظة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مغلوب ومستأصل، وخدع حيي بن أخطب النضري كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة، وعهدهم، فغدروا ووالوا قريشا، وأمدوهم بالسلاح والأدراع، فلما انجلت تلك الحال عن النبي صلى الله عليه وسلم، أمره الله تعالى بالخروج إليهم وحربهم، فاستنزلوا، وضربت أعناقهم بحكم سعد، واستيعاب قصتهم في «السير» وإنما اقتضبت منها ما يخص تفسير الآية.
وقوله سبحانه: { فإما تثقفنهم في الحرب... } معنى { تثقفنهم } تأسرهم، وتحصلهم في ثقافك، أو تلقاهم بحال تقدر عليهم فيها، وتغلبهم، ومعنى: { فشرد } أي: طرد، وأبعد، وخوف. والشريد: المبعد عن وطن ونحوه، ومعنى الآية: فإن أسرت هؤلاء الناقضين في حربك لهم، فافعل بهم من النقمة ما يكون تشريدا لمن يأتي خلفهم في مثل طريقتهم، وعبارة البخاري: «فشرد» فرق. انتهى.
والضمير في { لعلهم } عائد على الفرقة المشردة، وقال ابن عباس: المعنى: نكل بهم من خلفهم.
وقالت فرقة: معناه: سمع بهم، والمعنى متقارب، ومعنى: { خلفهم } أي: بعدهم، و { يذكرون } ، أي: يتعظون.
وقوله سبحانه: { وإما تخافن من قوم خيانة... } الآية: قال أكثر المفسرين: إن الآية في بني قريظة، والذي يظهر من ألفاظ الآية أن أمر بني قريظة قد انقضى عند قوله: { فشرد بهم من خلفهم } ، ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بما يصنعه في المستقبل، مع من يخاف منه خيانة إلى آخر الدهر، وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته، وقوله: { فانبذ إليهم } ، أي: ألق إليهم عهدهم، وقوله: { على سواء } ، قيل: معناه: حتى يكون الأمر في بيانه والعلم به، على سواء منك ومنهم؛ فتكونون في استشعار الحرب سواء، وذكر الفراء؛ أن المعنى: فانبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر، أي: بين لهم على قدر ما ظهر منهم، لا تفرط، ولا تفجأ بحرب، بل افعل بهم مثل ما فعلوا بك، يعني: موازنة ومقايسة، وقرأ نافع وغيره: «ولا تحسبن» - بالتاء - مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، و { سبقوا }: معناه: فاتوا بأنفسهم وأنجوها، { إنهم لا يعجزون } أي: لا يفلتون، ولا يعجزون طالبهم، وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في بدر وغيره فالمعنى: لا تظنهم ناجين، بل هم مدركون، وقرأ حمزة وغيره: «ولا يحسبن» - بالياء من تحت، وبفتح السين.
[8.60]
وقوله سبحانه: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين، وفي «صحيح مسلم»: « ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي » ولما كانت الخيل هي أصل الحرب، وأوزارها، والتي عقد الخير في نواصيها، خصها الله تعالى بالذكر، تشريفا لها، ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحرب وأنكاه في العدو وأقربه تناولا للأرواح، خصها صلى الله عليه وسلم بالذكر والتنبيه عليها.
* ت *: وفي «صحيح مسلم»، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من تعلم الرمي، وتركه، فليس منا، أو قد عصى "
، وفي «سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي»، عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة أنفس الجنة؛ صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله، فارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل شيء يلهو به الرجل، باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته "
انتهى.
ورباط الخيل: مصدر من ربط، ولا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ، ويجوز أن يكون مصدرا من رابط، وإذا ربط كل واحد من المؤمنين فرسا لأجل صاحبه، فقد حصل بينهم رباط، وذلك الذي حض عليه في الآية، وقد قال عليه السلام:
" من ارتبط فرسا في سبيل الله، فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها "
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
* ت *: وقد ذكرنا بعض ما ورد في فضل الرباط في آخر «آل عمران»؛ قال صاحب «التذكرة»: وعن عثمان بن عفان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من رابط ليلة في سبيل الله، كانت له كألف ليلة؛ صيامها وقيامها "
، وعن أبي بن كعب، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان - أعظم أجرا من عبادة مائة سنة؛ صيامها وقيامها، ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين من شهر رمضان - أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال: من عبادة ألفي سنة؛ صيامها وقيامها - فإن رده الله إلى أهله سالما، لم تكتب عليه سيئة ألف سنة، ويكتب له من الحسنات، ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة "
، قال القرطبي في «تذكرته»: فدل هذا الحديث على أن رباط يوم في رمضان يحصل له هذا الثواب الدائم، وإن لم يمت مرابطا. خرج هذا الحديث، والذي قبله ابن ماجه. انتهى من «التذكرة».
و { ترهبون }: معناه: تخوفون وتفزعون، والرهبة: الخوف: وقوله: { وآخرين من دونهم } ، فيه أقوال: قيل: هم المنافقون، وقيل: فارس، وقيل: غير هذا.
قال * ع *: ويحسن أن يقدر قوله: { لا تعلمونهم } ، بمعنى: لا تعلمونهم فازعين راهبين.
وقال * ص *: لا تعلمونهم بمعنى: لا تعرفونهم، فيتعدى لواحد، ومن عداه إلى اثنين، قدره: محاربين، واستبعد؛ لعدم تقدم ذكره، فهو ممنوع عند بعضهم، وعزيز جدا عند بعضهم انتهى.
[8.61-63]
وقوله سبحانه: { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } جنح الرجل إلى الأمر؛ إذا مال إليه، وعاد الضمير في «لها» مؤنثا؛ إذ «السلم» بمعنى المسالمة والهدنة، وذهب جماعة من المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة، والضمير في «جنحوا» هو للذين نبذ إليهم على سواء.
وقوله سبحانه: { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله... } الآية: الضمير في قوله: «وإن يريدوا» عائد على الكفار الذين قال فيهم: { وإن جنحوا } ، أي: { وإن يريدوا أن يخدعوك } ، بأن يظهروا السلم، ويبطنوا الغدر والخيانة، { فإن حسبك الله } ، أي: كافيك ومعطيك نصره، و { أيدك }: معناه: قواك { وبالمؤمنين } ، يريد الأنصار، بذلك تظاهرت أقوال المفسرين.
وقوله: { وألف بين قلوبهم... } الآية: إشارة إلى العدواة التي كانت بين الأوس والخزرج.
قال * ع *: ولو ذهب ذاهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار، وجعل التأليف ما كان بين جميعهم من التحاب، لساغ ذلك، وقال ابن مسعود: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله.
وقال مجاهد: إذا تراءى المتحابان في الله، وتصافحا، تحاتت خطاياهما، فقال له عبدة بن أبي لبابة: إن هذا ليسير، فقال له: لا تقل ذلك، فإن الله تعالى يقول: { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } ، قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني.
قال * ع *: وهذا كله تمثيل حسن بالآية، لا أن الآية نزلت في ذلك، وقد روى سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" المؤمن مألفة لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ".
قال * ع *: والتشابه سبب الألفة، فمن كان من أهل الخير، ألف أشباهه وألفوه.
* ت *: وفي «صحيح البخاري»:
" الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف "
انتهى، وروى مالك في «الموطإ»، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ".
قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد»: وروينا عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" يا عبد الله بن مسعود، أتدري، أي عرى الإيمان أوثق؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: الولاية في الله: الحب والبغض فيه "
، ورواه البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، وعن عبد الله في قوله تعالى : { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } ، قال: نزلت في المتحابين في الله قال أبو عمر: وأما قوله: اليوم أظلهم في ظلي، فإنه أراد - والله أعلم في ظل عرشه، وقد يكون الظل كناية عن الرحمة؛ كما قال:
إن المتقين في ظلل وعيون
[المرسلات:41]، يعني: بذلك ما هم فيه من الرحمة والنعيم. انتهى.
[8.64-66]
وقوله سبحانه: { يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } ، قال النقاش: نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر، وحكي عن ابن عباس: أنها نزلت في الأوس والخزرج.
وقيل: إنها نزلت حين أسلم عمر وكمل المسلمون أربعين. قاله ابن عمر، وأنس؛ فهي على هذا مكية: و«حسبك»؛ في كلام العرب، و«شرعك»: بمعنى كافيك ويكفيك، والمحسب: الكافي، قالت فرقة: معنى الآية: يكفيك الله، ويكفيك من اتبعك، ف «من» في موضع رفع.
وقال الشعبي وابن زيد: معنى الآية: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، ف«من» في موضع نصب عطفا على موضع الكاف؛ لأن موضعها نصب على المعنى ب «يكفيك» التي سدت «حسبك» مسدها.
قال * ص *: ورد بأن الكاف ليس موضعها نصب لأن إضافة حسب إليها إضافة صحيحة انتهى.
وقوله سبحانه: { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال... } الآية: { حرض المؤمنين } ، أي: حثهم وحضهم، وقوله سبحانه: { إن يكن منكم... } إلى آخر الآية، لفظ خبر، مضمنه وعد بشرط؛ لأن قوله: { إن يكن منكم عشرون صبرون } ، بمنزلة أن يقال: إن يصبر منكم عشرون يغلبوا، وفي ضمنه الأمر بالصبر، قال الفخر: وحسن هذا التكليف لما كان مسبوقا بقوله: { حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } ، فلما وعد الله المؤمنين بالكفاية والنصر، كان هذا التكليف سهلا؛ لأن من تكلف الله بنصره، فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذاءته انتهى، وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة؛ بأن ثبوت الواحد للعشرة، كان فرضا على المؤمنين، ثم لما شق ذلك عليهم، حط الله الفرض إلى ثبوت الواحد للاثنين، وهذا هو نسخ الأثقل بالأخف، وقوله: { لا يفقهون }: معناه: لا يفهمون مراشدهم، ولا مقصد قتالهم، لا يريدون به إلا الغلبة الدنيوية، فهم يخافون الموت؛ إذا صبر لهم، ومن يقاتل؛ ليغلب، أو يستشهد، فيصير إلى الجنة، أثبت قدما لا محالة.
وقوله: { والله مع الصبرين }: لفظ خبر في ضمنه وعد وحض على الصبر، ويلحظ منه وعيد لمن لم يصبر؛ بأنه يغلب.
[8.67-69]
وقوله سبحانه: { ما كان لنبي أن يكون له أسرى... } الآية: قال * ع *: هذه آية تتضمن عندي معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه عليه السلام والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان؛ ولذلك استمر الخطاب لهم ب { تريدون } والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد صلى الله عليه وسلم قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية؛ مشيرا إلى دخوله عليه السلام في العتب؛ حين لم ينه عن ذلك حين رآه من العريش، وأنكره سعد بن معاذ، ولكنه صلى الله عليه وسلم شغله بغت الأمر، وظهور النصر؛ عن النهي ومر كثير من المفسرين؛ على أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأخذ الفدية، حين استشارهم في شأن الأسرى، والتأويل الأول أحسن، والإثخان: هو المبالغة في القتل والجراحة، ثم أمر مخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: { تريدون عرض الدنيا } ، أي: مالها الذي يعز ويعرض، والمراد: ما أخذ من الأسرى من الأموال، { والله يريد الأخرة } ، أي: عمل الآخرة، وذكر الطبري وغيره؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس:
" إن شئتم، أخذتم فداء الأسرى، ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم، وإن شئتم، قتلوا وسلمتم، فقالوا: نأخذ المال، ويستشهد منا "
، وذكر عبد بن حميد بسنده؛ أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا؛ وعلى هذا، فالأمر في هذا التخيير من عند الله، فإنه إعلام بغيب، وإذا خيروا رضي الله عنهم، فكيف يقع التوبيخ بعد بقوله تعالى: { لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم }؛ فهذا يدلك على صحة ما قدمناه، أن العتب لهم إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة؛ رغبة في أخذ المال، وهو الذي أقول به، وذكر المفسرون أيضا في هذه الآيات تحليل المغانم، ولا أقول ذلك؛ لأن تحليل المغانم قد تقدم قبل بدر في السرية التي قتل فيها ابن الحضرمي، وإنما المبتدع في بدر استبقاء الرجال؛ لأجل المال، والذي من الله به فيها: إلحاق فدية الكافر بالمغانم التي تقدم تحليلها، وقوله سبحانه: { لولا كتب من الله سبق... } الآية:، قال ابن عباس، وأبو هريرة، والحسن، وغيرهم: الكتاب: هو ما كان الله قضاه في الأزل من إحلال الغنائم والفداء لهذه الأمة، وقال مجاهد وغيره: الكتاب السابق: مغفرة الله لأهل بدر، وقيل: الكتاب السابق: هو ألا يعذب الله أحدا بذنب إلا بعد النهي عنه، حكاه الطبري.
قال ابن العربي في «أحكام القرآن»: وهذه الأقوال كلها صحيحة ممكنة، لكن أقواها ما سبق من إحلال الغنيمة، وقد كانوا غنموا أول غنيمة في الإسلام حين أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش. انتهى، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لو نزل في هذا الأمر عذاب، لنجا منه عمر بن الخطاب»، وفي حديث آخر: «وسعد بن معاذ»؛ وذلك أن رأيهما كان أن تقتل الأسرى، وقوله سبحانه: { فكلوا مما غنمتم... } الآية: نص على إباحة المال الذي أخذ من الأسرى، وإلحاق له بالغنيمة التي كان تقدم تحليها.
[8.70-71]
وقوله سبحانه: { يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم } ، روي أن الأسرى ببدر أعلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن لهم ميلا إلى الإسلام، وأنهم إن رجعوا إلى قومهم، سعوا في جلبهم إلى الإسلام، قال ابن عباس: الأسرى في هذه الآية: عباس وأصحابه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد إنك لرسول الله، ولننصحن لك على قومنا، فنزلت هذه الآية، ومعنى الكلام: إن كان هذا عن جد منكم، وعلم الله من أنفسكم الخير والإسلام، فإنه سيجبر عليكم أفضل مما أعطيتم فدية، ويغفر لكم جميع ما اجترمتموه، وروي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: في وفي أصحابي نزلت هذه الآية، وقال حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال البحرين ما قدر أن يقول: هذا خير مما أخذ مني، وأنا بعد أرجو أن يغفر الله لي، وروي عنه؛ أنه قال: ما أود أن هذه الآية لم تنزل، ولي الدنيا بأجمعها؛ وذلك أن الله تعالى قد أتاني خيرا مما أخذ مني، وأنا أرجو أن يغفر لي، وقوله: { فقد خانوا الله من قبل } أي: بالكفر، { فأمكن منهم } أي: بأن جعلهم أسرى، { والله عليم } فيما يبطنونه، { حكيم } فيما يجازيهم به.
[8.72]
وقوله سبحانه: { إن الذين آمنوا وهاجروا وجهدوا بأمولهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } ، مقصد هذه الآية وما بعدها: تبيين منازل المهاجرين والأنصار، والمؤمنين الذين لم يهاجروا، وذكر المهاجرين بعد الحديبية، فقدم أولا ذكر المهاجرين، وهم أصل الإسلام، وتأمل تقديم عمر لهم في الاستشارة، وهاجر: معناه: هجر أهله وقرابته، وهجروه، { والذين ءاووا ونصروا }: هم الأنصار، فحكم سبحانه على هاتين الطائفتين؛ بأن بعضهم أولياء بعض، فقال كثير من المفسرين: هذه الموالاة: هي المؤازرة، والمعاونة، واتصال الأيدي، وعليه فسر الطبري الآية، وهذا الذي قالوه لازم من دلالة لفظ الآية، وقال ابن عباس وغيره: هذه الموالاة هي في المواريث؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري إذا مات، ولم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ورثه أخوه الأنصاري، وكان المسلم الذي لم يهاجر لا ولاية بينه، وبين قريبه المهاجري، ولا يرثه، ثم نسخ ذلك بقوله سبحانه:
وأولوا الأرحام...
الآية [الأنفال:75]؛ وعلى التأويلين، ففي الآية حض على الهجرة، قال أبو عبيدة: الولاية - بالكسر - من وليت الأمر إليه، فهي في السلطان، وبالفتح هي من المولى؛ يقال: مولى بين الولاية - بفتح الواو -.
وقوله سبحانه: { وإن استنصروكم } ، يعني: إن استدعى هؤلاء - المؤمنون الذين لم يهاجروا نصركم - { فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق }؛ فلا تنصروهم عليهم؛ لأن ذلك غدر ونقض للميثاق.
[8.73-75]
وقوله سبحانه: { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض }؛ وذلك يجمع الموارثة والمعاونة والنصرة، وهذه العبارة تحريض وإقامة لنفوس المؤمنين؛ كما تقول لمن تريد تحريضه: عدوك مجتهد أي: فاجتهد أنت، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية، عن قتادة؛ أنه قال: أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر، وذلك في صدر الإسلام، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم
" أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تتراءى نارهما "
الحديث على اختلاف ألفاظه، وقول قتادة، إنما هو فيمن كان يقيم متربصا يقول: من غلب، كنت معه؛ وكذلك ذكر في كتاب «الطبري»، وغيره، والضمير في قوله: { إلا تفعلوه } ، قيل: هو عائد على المؤازرة والمعاونة، ويحتمل على الميثاق المذكور، ويحتمل على النصر للمسلمين المستنصرين، ويحتمل على الموارثة والتزامها، ويجوز أن يعود مجملا على جميع ما ذكر، والفتنة: المحنة بالحرب وما انجر معها؛ من الغارات، والجلاء، والأسر، والفساد الكبير: ظهور الشرك.
وقوله سبحانه: { والذين آمنوا وهاجروا وجهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا } ، تضمنت الآية تخصيص المهاجرين والأنصار، وتشريفهم بهذا الوصف العظيم.
* ت *: وهي مع ذلك عند التأمل يلوح منها تأويل قتادة المتقدم، فتأمله، والرزق الكريم: هو طعام الجنة؛ كذا ذكر الطبري وغيره.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وإذا كان الإيمان في القلب حقا، ظهر ذلك في استقامة الأعمال؛ بامتثال الأمر واجتناب المنهي عنه، وإذا كان مجازا، قصرت الجوارح في الأعمال؛ إذ لم تبلغ قوته إليها. انتهى.
{ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجهدوا معكم }: قوله: «من بعد»، يريد به من بعد الحديبية؛ وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك، وكان يقال لها الهجرة الثانية، { وجهدوا معكم }: لفظ يقتضي أنهم تبع لا صدر.
وقوله سبحانه: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله } ، قال من تقدم ذكره: هذه في المواريث ، وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره.
وقالت فرقة، منها مالك: إن الآية ليست في المواريث، وهذا فرار من توريث الخال والعمة ونحو ذلك.
وقالت فرقة: هي في المواريث، إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة، وقوله: { فى كتب الله }: معناه: القرآن، أي: ذلك مثبت في كتاب الله.
وقيل: في اللوح المحفوظ.
كمل تفسير السورة، والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
[9 - سورة التوبة]
[9.1-2]
قوله عز وجل: { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } ، التقدير: هذه الآية براءة، ويصح أن يرتفع «براءة»؛ بالابتداء، والخبر في قوله: { إلى الذين }. و { براءة } معناه: تخلص وتبر من العهود التي بينكم، وبين الكفار البادئين بالنقض.
قال ابن العربي في «أحكامه»: تقول: برأت من الشيء أبرأ براءة، فأنا منه بريء؛ إذا أنزلته عن نفسك، وقطعت سبب ما بينك وبينه. انتهى.
ومعنى السياحة في الأرض: الذهاب فيها مسرحين آمنين؛ كالسيح من الماء، وهو الجاري المنبسط؛ قال الضحاك، وغيره من العلماء: كان من العرب من لا عهد بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم جملة، وكان منهم من بينه وبينهم عهد، وتحسس منهم نقض، وكان منهم من بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا، فقوله: { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } هو أجل ضربه الله لمن كان بينه وبينهم عهد، وتحسس منهم نقضه، وأول هذا الأجل يوم الأذان، وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر، وقوله سبحانه:
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين
[التوبة:5] حكم مباين للأول، حكم به في المشركين الذي لا عهد لهم ألبتة، فجاء أجل تأمينهم خمسين يوما، أولها يوم الأذان، وآخرها انقضاء المحرم.
وقوله: { إلى الذين عاهدتم } ، يريد به الذين لهم عهد، ولم ينقضوا، ولا تحسس منهم نقض، وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة، كان بقي من عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر.
وقوله عز وجل: { واعلموا أنكم غير معجزي الله } ، أي: لا تفلتون الله، ولا تعجزونه هربا.
[9.3-4]
وقوله: { وأذان من الله ورسوله... } الآية: أي: إعلام، و { يوم الحج الأكبر } قال عمر وغيره : هو يوم عرفة، وقال أبو هريرة وجماعة: هو يوم النحر، وتظاهرت الروايات؛ أن عليا أذن بهذه الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالاستماع، فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر من يعينه في الأذان بها؛ كأبي هريرة وغيره، وتتبعوا بها أيضا أسواق العرب، كذي المجاز وغيره؛ وهذا هو سبب الخلاف، فقالت طائفة: يوم الحج الأكبر: عرفة؛ حيث وقع أول الأذان.
وقالت أخرى: هو يوم النحر؛ حيث وقع إكمال الأذان.
وقال سفيان بن عيينة: المراد باليوم أيام الحج كلها؛ كما تقول: يوم صفين، ويوم الجمل؛ ويتجه أن يوصف ب «الأكبر»؛ على جهة المدح، لا بالإضافة إلى أصغر معين، بل يكون المعنى: الأكبر من سائر الأيام، فتأمله.
واختصار ما تحتاج إليه هذه الآية؛ على ما ذكر مجاهد وغيره من صورة تلك الحال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح مكة سنة ثمان، فاستعمل عليها عتاب بن أسيد، وقضى أمر حنين والطائف، وانصرف إلى المدينة، فأقام بها حتى خرج إلى تبوك، ثم انصرف من تبوك في رمضان سنة تسع، فأراد الحج، ثم نظر في أن المشركين يحجون في تلك السنة، ويطوفون عراة، فقال: لا أريد أن أرى ذلك، فأمر أبا بكر على الحج بالناس، وأنفذه، ثم أتبعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقته العضباء، وأمره أن يؤذن في الناس بأربعين آية: صدر سورة «براءة»، وقيل: ثلاثين، وقيل: عشرين، وفي بعض الروايات: عشر آيات، وفي بعضها: تسع آيات، وأمره أن يؤذن الناس بأربعة أشياء، وهي: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وفي بعض الروايات: ولا يدخل الجنة كافر، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد، فهو إلى مدته، وفي بعض الروايات: ومن كان بينه وبين رسول الله عهد، فأجله أربعة أشهر يسيح فيها، فإذا انقضت، فإن الله بريء من المشركين ورسوله.
قال * ع *: وأقول: إنهم كانوا ينادون بهذا كله، فأربعة أشهر؛ للذين لهم عهد وتحسس منهم نقضه، والإبقاء إلى المدة لمن لم يخبر منه نقض، وذكر الطبري أن العرب قالت يومئذ: نحن نبرأ من عهدك، ثم لام بعضهم بعضا، وقالوا: ما تصنعون، وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا كلهم، ولم يسح أحد.
قال * ع *: وحينئذ دخل الناس في دين الله أفواجا.
وقوله سبحانه: { أن الله بريء من المشركين ورسوله } أي: ورسوله بريء منهم.
وقوله: { فإن تبتم } ، أي: عن الكفر.
وقوله سبحانه: { إلا الذين عهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } ، هذا هو الاستثناء الذي تقدم ذكره، وقرأ عكرمة وغيره: «ينقضوكم» - بالضاد المعجمة -، و { يظهروا }: معناه: يعاونوا، والظهير: المعين.
وقوله: { إن الله يحب المتقين }: تنبيه على أن الوفاء بالعهد من التقوى.
[9.5-7]
قوله سبحانه: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم }: الانسلاخ: خروج الشيء عن الشيء المتلبس به؛ كانسلاخ الشاة عن الجلد، فشبه انصرام الأشهر بذلك.
وقوله سبحانه: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم... } الآية: قال ابن زيد: هذه الآية، وقوله سبحانه:
فإما منا بعد وإما فداء
[محمد:4]: هما محكمتان؛ أي: ليست إحداهما بناسخة للأخرى.
قال * ع *: هذا هو الصواب.
وقوله: { وخذوهم } معناه: الأسر.
وقوله: { كل مرصد }: معناه: مواضع الغرة؛ حيث يرصدون ونصب «كل» على الظرف أو بإسقاط الخافض، التقدير: في كل مرصدة.
وقوله: { فإن تابوا } ، أي: عن الكفر.
وقوله سبحانه: { وإن أحد من المشركين استجارك } ، أي: جلب منك عهدا وجوارا يأمن به، { حتى يسمع كلام الله } ، يعني القرآن، والمعنى: يفهم أحكامه، قال الحسن: وهذه آية محكمة؛ وذلك سنة إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: { إلا الذين عهدتم عند المسجد الحرام... } الآية: قال ابن إسحاق: هي قبائل بني بكر؛ كانوا دخلوا وقت الحديبية في العهد، فأمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض منهم.
[9.8-11]
وقوله سبحانه: { كيف وإن يظهروا عليكم... } الآية: في الكلام حذف، تقديره: كيف يكون لهم عهد ونحوه، وفي «كيف» هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى، و { لا يرقبوا } معناه: لا يراعوا، ولا يحفظوا، وقرأ الجمهور: «إلا»، وهو الله عز وجل؛ قاله مجاهد، وأبو مجلز، وهو اسمه بالسريانية، وعرب، ويجوز أن يراد به العهد، والعرب تقول للعهد والحلف والجوار ونحو هذه المعاني: «إلا»، والذمة أيضا: بمعنى الحلف والجوار ونحوه.
[9.12-13]
وقوله سبحانه: { وإن نكثوا أيمنهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم... } الآية، ويليق هنا ذكر شيء من حكم طعن الذمي في الدين، والمشهور من مذهب مالك: أنه إذا فعل شيئا من ذلك؛ مثل تكذيب الشريعة، وسب النبي صلى الله عليه وسلم قتل.
وقوله سبحانه: { فقتلوا أئمة الكفر } ، أي: رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه، وأصوب ما يقال في هذه الآية: أنه لا يعنى بها معين وإنما وقع الأمر بقتال أئمة الناكثين للعهود من الكفرة إلى يوم القيامة، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن تكون الإشارة إليهم أولا، ثم كل من دفع في صدر الشريعة إلى يوم القيامة فهو بمنزلتهم.
وقرأ الجمهور: «لا أيمان لهم » (جمع يمين)، أي: لا أيمان لهم يوفى بها وتبر، وهذا المعنى يشبه الآية، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة: « لا إيمان لهم»، وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لا تصديق لهم، قال أبو علي: وهذا غير قوي؛ لأنه تكرير، وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم، والوجه في كسر الألف أنه مصدر من آمنته إيمانا؛ ومنه قوله تعالى:
وآمنهم من خوف
[قريش:4] فالمعنى: أنهم لا يؤمنون كما يؤمن أهل الذمة الكتابيون؛ إذ المشركون ليس لهم إلا الإسلام أو السيف، قال أبو حاتم: فسر الحسن قراءته: لا إسلام لهم.
قال * ع *: والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه، لأنه بيان المهم الذي يوجب قتلهم.
وقوله عز وجل: { ألا تقتلون قوما نكثوا أيمنهم وهموا بإخراج الرسول... } الآية: «ألا»: عرض وتحضيض، قال الحسن: والمراد ب { إخراج الرسول }: إخراجه من المدينة، وهذا مستقيم؛ كغزوة أحد والأحزاب.
وقال السدي: المراد من مكة.
وقوله سبحانه: { وهم بدءوكم أول مرة } ، قيل: يراد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبالمؤمنين.
وقال مجاهد: يراد به ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم، على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا بدء النقض.
وقال الطبري: يعني فعلهم يوم بدر.
قال الفخر: قال ابن إسحاق والسدي والكلبي: نزلت هذه الآية في كفار مكة؛ نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة. انتهى.
وقوله سبحانه: { أتخشونهم }: استفهام على معنى التقرير والتوبيخ، { فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } ، أي: كاملي الإيمان.
[9.14-15]
وقوله سبحانه: { قتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } ، قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة، ثم حض على القتال مقترنا بذنوبهم؛ لتنبعث الحمية مع ذلك، ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترنا بوعد وكيد يتضمن النصر عليهم، والظفر بهم.
وقوله سبحانه: { يعذبهم الله بأيديكم } ، معناه: بالقتل والأسر، و { ويخزهم } ، معناه: يذلهم على ذنوبهم، يقال: خزي الرجل يخزى خزيا، إذا ذل من حيث وقع في عار، وأخزاه غيره، وخزي يخزي خزاية إذا استحى، وأما قوله تعالى: { ويشف صدور قوم مؤمنين } ، فيحتمل أن يريد جماعة المؤمنين، لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم صدور المؤمنين، ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين، وروي أنهم خزاعة؛ قاله مجاهد والسدي، ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد، ونالتهم الحرب، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير؛ ويقتضي ذلك قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى الله عليه وسلم: [الرجز]
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
وفي آخر الرجز:
وقتلونا ركعا وسجدا
وقرأ جمهور الناس: و«يتوب» - بالرفع -، على القطع مما قبله، والمعنى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يتوب على بعض هؤلاء الكفرة الذين أمر بقتالهم.
وعبارة * ص *: و«يتوب»، الجمهور بالرفع على الاستئناف، وليس بداخل في جواب الأمر؛ لأن توبته سبحانه على من يشاء ليست جزاء على قتال الكفار. انتهى.
[9.16-18]
وقوله عز وجل: { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جهدوا منكم... } الآية: خطاب للمؤمنين؛ كقوله:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...
الآية [آل عمران:142] ومعنى الآية: أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان، والمراد بقوله: { ولما يعلم الله } ، أي: لم يعلم الله ذلك موجودا؛ كما علمه أزلا بشرط الوجود، وليس يحدث له علم تبارك وتعالى عن ذلك، و { وليجة }: معناه: بطانة ودخيلة، وهو مأخوذ من الولوج، فالمعنى: أمرا باطنا مما ينكر، وفي الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج، قال الفخر: قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه، فهو وليجة، وأصله من الولوج، قال الواحدي يقال: هو وليجة، للواحد والجمع. انتهى.
وقوله سبحانه: { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } ، إلى قوله: { إنما يعمر مسجد الله من آمن بالله... } الآية، لفظ هذه الآية الخبر، وفي ضمنها أمر المؤمنين بعمارة المساجد، وروي أبو سعيد الخدري؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان ".
* ت *: زاد ابن الخطيب في روايته: « فإن الله تعالى يقول: { إنما يعمر مسجد الله من آمن بالله واليوم الأخر }. انتهى من ترجمة محمد بن عبد الله، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن الله ضمن لمن كانت المساجد بيته الأمن، والأمان، والجواز على الصراط يوم القيامة "
خرجه علي بن عبد العزيز البغوي في «المسند المنتخب» له، وروى البغوي أيضا في هذا «المسند»، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إذا أوطن الرجل المساجد بالصلاة، والذكر، تبشبش الله له كما يتبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم "
انتهى من «الكوكب الدري»، قيل: ومعنى «يتبشبش»: أي يفرح به.
وقوله سبحانه: { ولم يخش إلا الله } ، يريد: خشية التعظيم والعبادة، وهذه مرتبة العدل من الناس، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره، ويخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه.
[9.19-22]
وقوله سبحانه: { أجعلتم سقاية الحاج } { سقاية الحاج }: كانت في بني هاشم، وكان العباس يتولاها، قال الحسن: ولما نزلت هذه الآية، قال العباس: ما أراني إلا أترك السقاية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيموا عليها فهي خير لكم » { وعمارة المسجد الحرام }: قيل: هي حفظه ممن يظلم فيه، أو يقول هجرا، وكان ذلك إلى العباس، وقيل: هي السدانة وخدمة البيت خاصة، وكان ذلك في بني عبد الدار، وكان يتولاها عثمان بن طلحة، وابن عمه شيبة، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم لهما ثاني يوم الفتح، وقال: «خذاها خالدة تالدة لا ينازعكموها إلا ظالم».
واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية، فقال مجاهد: أمروا بالهجرة، فقال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال عثمان بن طلحة: أنا حاجب الكعبة، وقال محمد بن كعب: إن العباس وعليا وعثمان بن طلحة تفاخروا فنزلت الآية، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: { الذين آمنوا وهاجروا وجهدوا فى سبيل الله بأمولهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله... } الآية: لما حكم سبحانه في الآية المتقدمة بأن الصنفين لا يستوون، بين ذلك في هذه الآية الأخيرة، وأوضحه، فعدد الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس، وحكم على أن أهل هذه الخصال أعظم درجة عند الله من جميع الخلق، ثم حكم لهم بالفوز برحمته ورضوانه، والفوز: بلوغ البغية، إما في نيل رغيبة، أو نجاة من هلكة، وينظر إلى معنى هذه الآية الحديث:
" دعوا لي أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "
؛ ولأن أصحاب هذه الخصال على سيوفهم انبنى الإسلام، وتمهد الشرع.
وقوله سبحانه: { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضون } ، هذا وعد كريم من رب رحيم، وفي الحديث الصحيح:
" إذا استقر أهل الجنة في الجنة، يقول الله عز وجل لهم: هل رضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى، يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أفضل من ذلك! رضواني أرضى عليكم؛ فلا أسخط عليكم أبدا... "
الحديث.
[9.23-24]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان } ، ظاهر هذه المخاطبة: أنها لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة، وروت فرقة أنها نزلت في الحض على الهجرة، ورفض بلاد الكفر.
قوله سبحانه: { قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم... } الآية: هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه الآية والتي قبلها إنما مقصودهما الحض على الهجرة، وفي ضمن قوله: { فتربصوا }: وعيد بين.
وقوله: { بأمره } ، قال الحسن : الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله تعالى.
وقال مجاهد: الإشارة إلى فتح مكة، وذكر الأبناء في هذه الآية دون التي قبلها، لما جلبت ذكرهم المحبة، والأبناء: صدر في المحبة وليسوا كذلك، في أن تتبع آراؤهم؛ كما في الآية المتقدمة، واقترفتموها: معناه: اكتسبتموها، ومساكن: جمع مسكن - بفتح الكاف:، مفعل من السكنى، وما كان من هذا معتل الفاء، فإنما يأتي على مفعل (بكسر العين)؛ كموعد وموطن.
[9.25-27]
وقوله سبحانه: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين... } ، هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعدد الله تعالى نعمه عليهم، والمواطن المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة وخيبر وغيرها، وحنين واد بين مكة والطائف.
وقوله: { إذ أعجبتكم كثرتكم } ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين رأى جملته اثني عشر ألفا: «لن تغلب اليوم من قلة»، وروي أن رجلا من أصحابه قالها فأراد الله تعالى إظهار العجز؛ فظهر حين فر الناس.
* ت *: العجب جائز في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم منه صلى الله عليه وسلم، والصواب في فهم الحديث، أنه خرج مخرج الإخبار، لا على وجه العجب؛ وعلى هذا فهمه ابن رشد وغيره، وأنه إذا بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا حرم الفرار، وإن زاد عدد المشركين على الضعف؛ وعليه عول في الفتوى، وقوله تعالى: { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } ، معناه: برحبها؛ كأنه قال: على ما هي عليه في نفسها رحبة واسعة، لشدة الحال وصعوبتها؛ ف «ماء»: مصدرية.
وقوله سبحانه: { ثم وليتم مدبرين } ، أي: فرارا عن النبي صلى الله عليه وسلم واختصار هذه القصة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، وكان في عشرة ألفا من أصحابه، وانضاف إليهم ألفان من الطلقاء، فصار في اثني عشر ألاف، سمع بذلك كفار العرب، فشق عليهم، فجمعت له هوازن وألفافها، وعليهم مالك بن عوف النصري، وثقيف، وعليهم عبد ياليل بن عمرو وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا بحنين ، فلما تصاف الناس، حمل المشركون من محاني الوادي، وانهزم المسلمون، قال قتادة: وكان يقال: إن الطلقاء من أهل مكة فروا، وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء قد اكتنفه العباس عمه، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وبين يديه أيمن بن أم أيمن، وثم قتل رحمه الله والنبي صلى الله عليه وسلم يقول
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
فلما رأى نبي صلى الله عليه وسلم شدة الحال، نزل عن بغلته إلى الأرض؛ قاله البراء بن عازب، واستنصر الله عز وجل، فأخذ قبضة من تراب وحصى، فرمى بها في وجوه الكفار، وقال: « شاهت الوجوه»، ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار، وأمر العباس أن ينادي: « أين أصحاب الشجرة؟ أين أصحاب سورة البقرة؟ » فرجع الناس عنقا واحدا للحرب، وتصافحوا بالسيوف والطعن والضرب، وهناك قال عليه السلام: « الآن حمي الوطيس» وهزم الله المشركين، وأعلى كلمة الإسلام إلى يوم الدين، قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناء المنهزمين عن آبائهم، قالوا: لم يبق منا أحد إلا دخل عينيه من ذلك التراب واستيعاب هذه القصة في كتب «السير».
و { مدبرين }: نصب على الحال المؤكدة؛ كقوله:
وهو الحق مصدقا
[البقرة:91]، والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الإدبار.
وقوله سبحانه: { ثم أنزل الله سكينته... } الآية: السكينة: النصر الذي سكنت إليه ومعه النفوس، والجنود: الملائكة، والرعب؛ قال أبو حاجز يزيد بن عامر: كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب، { وعذب الذين كفروا } ، أي: بالقتل والأسر،
" وروى أبو داود، عن سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان عشية، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فارس، فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم، وشياههم، اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: « تلك غنيمة المسلمين غدا، إن شاء الله....» "
الحديث. انتهى، فكانوا كذلك غنيمة بحمد الله، كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
[9.28-29]
وقوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } ، قال ابن عباس وغيره: معنى الشرك هو الذي نجسهم؛ كنجاسة الخمر، ونص الله سبحانه في هذه الآية على المشركين، وعلى المسجد الحرام، فقاس مالك رحمه الله وغيره جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم؛ على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد، وقوة قوله سبحانه: { فلا يقربوا } يقتضي أمر المسلمين بمنعهم.
وقوله: { بعد عامهم هذا } ، يريد: بعد عام تسع من الهجرة، وهو عام حج أبو بكر بالناس.
وقوله سبحانه: { وإن خفتم عيلة } ، أي: فقرا، { فسوف يغنيكم الله من فضله } ، وكان المسلمون، لما منع المشركون من الموسم، وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر، وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله سبحانه بأن يغنيهم من فضله، فكان الأمر كما وعد الله سبحانه، فأسلمت العرب، فتمادى حجهم وتجرهم، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم.
وقوله سبحانه: { قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر... } الآية: هذه الآية تضمنت قتال أهل الكتاب، قال مجاهد: وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو الروم، ومشى نحو تبوك، ونفى سبحانه عن أهل الكتاب الإيمان بالله واليوم الآخر؛ حيث تركوا شرع الإسلام؛ وأيضا فكانت اعتقاداتهم غير مستقيمة، لأنهم تشعبوا، وقالوا عزير ابن الله، والله ثالث ثلاثة، وغير ذلك؛ ولهم أيضا في البعث آراء فاسدة؛ كشراء منازل الجنة من الرهبان؛ إلى غير ذلك من الهذيان، { ولا يدينون دين الحق } ، أي: لا يطيعون، ولا يمتثلون؛ ومنه قول عائشة: « ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين »، والدين هنا: الشريعة، قال ابن القاسم وأشهب وسحنون: وتؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها، وأما عبدة الأوثان والنيران وغير ذلك، فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم، وهو قول مالك في «المدونة».
وقال الشافعي وأبو ثور: لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط، وأما قدرها في مذهب مالك وغيره، فأربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الفضة، وهذا في العنوة، وأما الصلح، فهو ما صالحوا عليه، قليل أو كثير.
وقوله: { عن يد } يحتمل وجوها:
منها: أن يريد عن قوة منكم عليهم، وقهر، واليد في كلام العرب: القوة.
ومنها: أن يريد سوق الذمي لها بيده، لا أن يبعثها مع رسول؛ ليكون في ذلك إذلال لهم.
ومنها: أن يريد نقدها ناجزا، تقول: بعته يدا بيد، أي: لا يؤخروا بها.
ومنها: أن يريد عن استسلام، يقال: ألقى فلان بيده، إذا عجز واستسلم.
[9.30-33]
وقوله سبحانه: { وقالت اليهود عزير ابن الله }: الذي كثر في كتب أهل العلم؛ أن فرقة من اليهود قالت هذه المقالة وروي أنه قالها نفر يسير منهم فنحاص وغيره، قال النقاش: ولم يبق الآن يهودي يقولها، بل انقرضوا.
قال * ع *: فإذا قالها ولو واحد من رؤسائهم، توجهت شنعة المقالة على جماعتهم، وحكى الطبري وغيره؛ أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وجلاء، وقيل: مرض، وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك، ونسوها، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء، فلما طالت المدة، فقدت التوراة جملة، فحفظها الله عزيرا؛ كرامة منه له، فقال لبني إسرائيل: إن الله قد حفظني التوراة، فجعلوا يدرسونها من عنده، ثم إن التوراة المدفونة وجدت، فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس، فضلوا عند ذلك، وقالوا: إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله، نعوذ بالله من الضلال.
وقوله: { بأفوههم } ، أي: بمجرد الدعوى من غير حجة ولا برهان، و { يضهئون } ، قراءة الجماعة، ومعناه: يحاكون ويماثلون، والإشارة بقوله: { الذين كفروا من قبل }: إما لمشركي العرب؛ إذ قالوا: الملائكة بنات الله؛ قاله الضحاك، وإما لأمم سالفة قبلها، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى، ويكون { يضهئون } لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الضمير في { يضهئون } للنصارى فقط، كانت الإشارة ب { الذين كفروا من قبل } إلى اليهود ؛ وعلى هذا فسر الطبري، وحكاه غيره عن قتادة.
وقوله: { قتلهم الله }: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، وعن ابن عباس؛ أن المعنى: لعنهم الله. قال الداوودي: وعن ابن عباس قاتلهم الله: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن: قتل، فهو لعن. انتهى. و { أنى يؤفكون } ، أي: يصرفون عن الخير.
وقوله سبحانه: { اتخذوا أحبارهم ورهبنهم... } الآية: هذه الآية يفسرها ما حكاه الطبري؛ أن عدي بن حاتم قال:
" جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك، فسمعته يقرأ: { اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله } ، فقلت: يا رسول الله، وكيف ذلك، ونحن لم نعبدهم؟ فقال: أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا؟ قلت: نعم، قال: فذلك ".
ومعنى: { سبحنه } تنزيها له، و { نور الله }؛ في هذه الآية: هداه الصادر عن القرآن والشرع.
وقوله: { بأفوههم }؛ عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها.
وقوله: { بالهدى }: يعم القرآن وجميع الشرع.
وقوله: { ليظهره على الدين كله } ، وقد فعل ذلك سبحانه، فالضمير في { ليظهره }: عائد على الدين، وقيل: على الرسول، وهذا وإن كان صحيحا، فالتأويل الأول أبرع منه، وأليق بنظام الآية.
[9.34-35]
وقوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالبطل } ، المراد بهذه الآية: بيان نقائص المذكورين، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك، واللام في { ليأكلون }: لام التوكيد، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال، كالذي ذكره سليمان في كتاب «السير»، عن الراهب الذي استخرج كنزه.
وقوله سبحانه: { ويصدون عن سبيل الله } ، أي: عن شريعة الإسلام والإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: { والذين } ابتداء، وخبره { فبشرهم } والذي يظهر من ألفاظ الآية: أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين للمال بالباطل، ذكر بعد ذلك بقول عام نقص الكانزين المانعين حق المال، وقرأ طلحة بن مصرف: «الذين يكنزون » بغير واو،؛ وعلى هذه القراءة يجري قول معاوية: أن الآية في أهل الكتاب، وخالفه أبو ذر، فقال: بل هي فينا.
و { يكنزون }: معناه: يجمعون ويحفظون في الأوعية، وليس من شرط الكنز: الدفن، والتوعد في الكنز، إنما وقع على منع الحقوق منه، وعلى هذا كثير من العلماء، وقال علي رضي الله عنه: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما زاد عليها فهو كنز، وإن أديت زكاته.
وقال أبو ذر وجماعة معه: ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه، فهو كنز، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال، لا في منع زكاته فقط.
* ت *: وحدث أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن علي بن أبي طالب، وابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء قدر ما يسعهم، فإن منعوهم حتى يجوعوا ويعروا ويجهدوا، حاسبهم الله حسابا شديدا، وعذبهم عذابا نكرا "
انتهى.
وقوله سبحانه: { فتكوى بها جباههم... } الآية: قال ابن مسعود: والله، لا يمس دينار دينارا، بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار، وبكل درهم قال الفخر: قال أبو بكر الوراق: وخصت هذه المواضع بالذكر؛ لأن صاحب المال، إذا رأى الفقير، قبض جبينه، وإذا جلس إلى جنبه، تباعد عنه، وولاه ظهره. انتهى.
[9.36]
وقوله سبحانه: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتب الله } ، هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب عليه في جاهليتها من تحريم شهور الحل، وتحليل شهور الحرمة، وإذا نص ما كانت العرب تفعله، تبين معنى الآيات، فالذي تظاهرت به الروايات، ويتخلص من مجموع ما ذكره الناس: أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها، فكانوا إذا توالت عليهم حرمة الأشهر الحرم، صعب عليهم، وأملقوا وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب، وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس، وهو حذيفة بن عبد فقيم، فنسي الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك بنوه، وذكر الطبري وغيره؛ أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة، وكانت صورة فعلهم: أن العرب كانت إذا فرغت من حجها، جاء إليه من شاء منهم مجتمعين، فقالوا: أنسانا شهرا، أي: أخر عنا حرمة المحرم، فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم، فيغيرون فيه، ثم يلتزمون حرمة صفر؛ ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة قال مجاهد: ويسمون ذلك الصفر المحرم، ثم يسمون ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأول، وهكذا في سائر الشهور، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها: المحرم المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، وفي هذا قال الله عز وجل: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } ، أي: ليست ثلاثة عشر، ثم كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة، فذلك قوله عليه السلام:
" إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض؛ السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ".
وقوله في { كتب الله } ، أي: فيما كتبه، وأثبته في اللوح المحفوظ، أو غيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه، وليست بمعنى قضاءه وتقديره؛ لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض.
وقوله سبحانه: { منها أربعة حرم }: نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها، قال قتادة: «اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلا، ومن الشهور المحرم ورمضان، ومن البقع المساجد، ومن الأيام الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الكلام ذكره، فينبغي أن يعظم ما عظم الله».
وقوله سبحانه: { ذلك الدين القيم } ، قالت فرقة: معناه: الحساب المستقيم، وقال ابن عباس، فيما حكى المهدوي: معناه: القضاء المستقيم.
قال * ع *: والأصوب عندي أن يكون { الدين } ههنا على أشهر وجوهه، أي: ذلك الشرع والطاعة.
وقوله: { فلا تظلموا فيهن } ، أي: في الاثني عشر شهرا، أي: لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمان كله، وقال قتادة: المراد الأربعة الأشهر، وخصصت تشريفا لها.
قال سعيد بن المسيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرم القتال في الأشهر الحرم؛ بما أنزل الله في ذلك؛ حتى نزلت «براءة».
وقوله تعالى: { وقاتلوا المشركين } ، معناه: فيهن فأحرى في غيرهن، وقوله: { كافة } ، معناه: جميعا.
[9.37-39]
وقوله سبحانه: { إنما النسيء } ، يعني: فعل العرب في تأخيرهم الحرمة، { زيادة في الكفر } ، أي: جار مع كفرهم بالله، وخلافهم للحق، فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه؛ ومما وجد في أشعارهم قول جذل الطعان: [الوافر]
وقد علمت معد أن قومي
كرام الناس إن لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد
شهور الحل نجعلها حراما
وقوله سبحانه: { يحلونه عاما ويحرمونه عاما } ، معناه: عاما من الأعوام، وليس يريد أن تلك كانت مداولة.
وقوله سبحانه: { ليواطئوا عدة ما حرم الله } ، معناه: ليوافقوا، والمواطأة: الموافقة.
وقوله سبحانه: { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } ، هذه الآية بلا خلاف أنها نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، غزا فيها الروم في عشرين ألفا بين راكب وراجل، والنفر: هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان، وقوله: «أثاقلتم» أصله تثاقلتم، وكذلك قرأ الأعمش وهو نحو قوله:
أخلد إلى الأرض
[الأعراف:176] وقوله: { أرضيتم } تقرير، والمعنى: أرضيتم نزر الدنيا، على حظير الآخرة، وحظها الأسعد.
قال ابن هشام ف «من» من قوله: { من الأخرة } للبدل. انتهى. ثم أخبر سبحانه، أن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر الفاني بدل الكثير الباقي.
* ت *: وفي «صحيح مسلم» و«الترمذي»، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بماذا ترجع "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
وقوله سبحانه: { إلا تنفروا يعذبكم }: شرط وجواب، ولفظ «العذاب» عام يدخل تخته أنواع عذاب الدنيا والآخرة.
وقوله: { ويستبدل قوما غيركم }: توعد بأن يبدل لرسوله عليه السلام قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم، والضمير في قوله: { ولا تضروه شيئا } عائد على الله عز وجل، ويحتمل أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم هو أليق.
[9.40-41]
وقوله سبحانه: { إلا تنصروه فقد نصره الله } هذا أيضا شرط وجواب، ومعنى الآية: إنكم إن تركتم نصره، فالله متكفل به؛ إذ قد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو، ولن يترك نصره الآن.
وقوله: { إذ أخرجه الذين كفروا } ، أسند الإخراج إليهم؛ تذنيبا لهم، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله: من طردت كل مطرد، لم يقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما علم في كتب «السيرة»،
" الإشارة إلى خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وفي صحبته أبو بكر، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر إذن الله سبحانه في الهجرة من مكة، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اصبر، لعل الله أن يسهل الصحبة» فلما أذن الله لنبيه في الخروج، تجهز من دار أبي بكر، وخرجا، فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال، وخرج المشركون في إثرهم؛ حتى انتهوا إلى الغار، فطمس الله عليهم الأثر، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم إلى قدمه، لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « ما ظنك باثنين الله ثالثهما » "
هكذا في الحديث الصحيح، ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار.
ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة.
وقوله: { ثاني اثنين } ، معناه: أحد اثنين، وقوله: { إن الله معنا } ، يريد: بالنصر والنجاة واللطف.
وقوله سبحانه: { وكلمة الله هي العليا } ، قيل: يريد: لا إله إلا الله، وقيل: الشرع بأسره.
وقوله سبحانه: { انفروا خفافا وثقالا } معنى الخفة والثقل ههنا: مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة، ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه، كالعمي ونحوهم، فخارج عن هذا.
وقال أبو طلحة: ما أسمع الله عذر أحد، وخرج إلى الشام، فجاهد حتى مات.
وقال أبو أيوب: ما أجدني أبدا إلا خفيفا أو ثقيلا.
وقوله سبحانه: { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون }: تنبيه وهز للنفوس.
[9.42-45]
وقوله سبحانه: { لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك } ، هذه الآية في المنافقين المتخلفين في غزوة تبوك، وكشف ضمائرهم، وأما الآيات التي قبلها، فعامة فيهم وفي غيرهم، والمعنى: لو كان هذه الغزو لعرض، أي: لمال وغنيمة تنال قريبا؛ بسفر قاصد يسير، لبادروا لا لوجه الله، { ولكن بعدت عليهم الشقة } وهي المسافة الطويلة.
وقوله: { وسيحلفون بالله } ، يريد: المنافقين، وهذا إخبار بغيب.
وقوله عز وجل: { عفا الله عنك لم أذنت لهم } ، هذه الآية هي في صنف مبالغ في النفاق، استأذنوا دون اعتذار، منهم: الجد بن قيس ورفاعة بن التأبوت ومن اتبعهم؛ قال مجاهد: وذلك أن بعضهم قال: نستأذنه، فإن أذن في القعود قعدنا، وإلا قعدنا، وقدم له العفو قبل العتاب: إكراما له صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة: بل قوله سبحانه { عفا الله عنك }: استفتاح كلام كما تقول: أصلحك الله، وأعزك الله، ولم يكن منه عليه السلام ذنب يعفى عنه؛ لأن صورة الاستنفار وقبول الأعذار مصروفة إلى اجتهاده.
وقوله: { حتى يتبين لك الذين صدقوا } ، يريد: في استئذانك، وأنك لو لم تأذن لهم، خرجوا معك.
وقوله: { وتعلم الكذبين } ، أي: بمخالفتك، لو لم تأذن؛ لأنهم عزموا على العصيان، أذنت لهم أو لم تأذن، وقال الطبري: معناه: حتى تعلم الصادقين؛ في أن لهم عذرا، والكاذبين، في أن لا عذر لهم، والأول أصوب، والله أعلم، وأما قوله سبحانه: في سورة:
فإذا استئذنوك لبعض شأنهم...
[النور:62] الآية، ففي غزوة الخندق نزلت: { وارتابت قلوبهم } ، أي: شكت و { يترددون } ، أي: يتحيرون؛ إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا، وأنه غير صحيح أحيانا، فهم مذبذبون.
[9.46-49]
وقوله سبحانه: { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } ، أي: لو أرادوا الخروج بنياتهم، لنظروا في ذلك واستعدوا له.
وقوله: { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم }.
* ص *: و { ولكن }: أصلها أن تقع بين نقيضين أو ضدين، أو خلافين، على خلاف فيه. انتهى. و { انبعاثهم }: نفوذهم لهذه الغزوة، والتثبيط: التكسيل وكسر العزم.
وقوله سبحانه: { وقيل اقعدوا } ، يحتمل أن يكون حكاية عن الله، أي: قال الله في سابق قضائه: اقعدوا مع القاعدين، ويحتمل أن يكون حكاية عنهم، أي: كانت هذه مقالة بعضهم لبعض، ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم في القعود، أي: لما كره الله خروجهم، يسر أن قلت لهم: اقعدوا مع القاعدين، والقعود؛ هنا: عبارة عن التخلف، وكراهية الله انبعاثهم: رفق بالمؤمنين.
وقوله سبحانه: { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } الخبال: الفساد في الأشياء المؤتلفة؛ كالمودات، وبعض الأجرام، { لأوضعوا } معناه: لأسرعوا السير، و { خللكم } معناه: فيما بينكم.
قال * ص *: { خللكم } جمع خلل، وهو الفرجة بين الشيئين، وانتصب على الظرف ب { لأوضعوا } ، و { يبغونكم }: حال، أي: باغين. انتهى. والإيضاع: سرعة السير، ووقعت { لأوضعوا } بألف بعد «لا» في المصحف، وكذلك وقعت في قوله:
أو لأذبحنه
[النمل:21] { يبغونكم الفتنة } ، أي: يطلبون لكم الفتنة، { وفيكم سمعون لهم } ، قال مجاهد وغيره: معناه: جواسيس يسمعون الأخبار، وينقلونها إليهم، وقال الجمهور: معناه: وفيكم مطيعون سامعون لهم.
وقوله سبحانه: { لقد ابتغوا الفتنة من قبل } ، في هذه الآية تحقير لشأنهم، ومعنى قوله: { من قبل }: ما كان من حالهم في أحد وغيرها، ومعنى قوله: { وقلبوا لك الأمور }: دبروها ظهرا لبطن، وسعوا بكل حيلة { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } ، نزلت في الجد بن قيس، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" اغزوا تبوك، تغنموا بنات الأصفر "
فقال الجد: ائذن لنا ولا تفتنا بالنساء، وقال ابن عباس: إن الجد قال: ولكني أعينك بمالي.
وقوله سبحانه: { ألا في الفتنة سقطوا } ، أي: في الذي أظهروا الفرار منه.
[9.50-52]
وقوله سبحانه: { إن تصبك حسنة... } الآية: الحسنة هنا بحسب الغزوة: هي الغنيمة والظفر، والمصيبة: الهزيمة والخيبة، واللفظ عام بعد ذلك في كل محبوب ومكروه، ومعنى قوله: { قد أخذنا أمرنا من قبل } ، أي: قد أخذنا بالحزم في تخلفنا ونظرنا لأنفسنا، ثم أمر تعالى نبيه، فقال: قل لهم يا محمد: { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } ، وهو إما ظفرا وسرورا عاجلا، وإما أن نستشهد فندخل الجنة، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } ، أي: قل للمنافقين، و { الحسنيين }: الظفر، والشهادة.
وقوله: { أو بأيدينا } ، يريد: القتل.
[9.53-54]
وقوله سبحانه: { قل أنفقوا طوعا أو كرها } الآية: سببها أن الجد بن قيس حين قال: ائذن لي ولا تفتني، قال: إني أعينك بمالي، فنزلت هذه الآية فيه، وهي عامة بعده.
وقوله عز وجل: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله }. وفي «صحيح مسلم» عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في الطعمة يطعمها "
ونحو ذلك، وهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر، وأما أن ينتفع بها في الآخرة فلا، و { كسالى }: جمع كسلان.
[9.55-57]
وقوله سبحانه: { فلا تعجبك أمولهم ولا أولدهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا... } الآية: حقر في الآية شأن المنافقين، وعلل إعطاء الله لهم الأموال والأولاد؛ بإرادته تعذيبهم بها في الحياة الدنيا، وفي الآخرة.
قال ابن زيد وغيره: تعذيبهم بها في الدنيا هو بمصائبها ورزاياها، هي لهم عذاب؛ إذ لا يؤجرون عليها، ومن ذلك قهر الشرع لهم على أداء الزكاة والحقوق والواجبات.
قال الفخر: أما كون كثرة الأموال والأولاد سببا للعذاب في الدنيا، فحاصل من وجوه: منها: أن كلما كان حب الإنسان للشيء أشد وأقوى، كان حزنه وتألم قلبه على فراقه أعظم وأصعب، ثم عند الموت يعظم حزنه، وتشتد حسرته، لمفارقته المحبوب، فالمشغوف بحب المال والولد لا يزال في تعب، فيحتاج في اكتساب الأموال وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأصعب في حفظها وصونها؛ لأن حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه، ثم إنه لا ينتفع، إلا بالقليل من تلك الأموال، فالتعب كثير، والنفع قليل، ثم قال: واعلم أن الدنيا حلوة خضرة، والحواس الخمس مائلة إليها، فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها، وانصرف الإنسان بكليته إليها، فيصير ذلك سببا لحرمانه من ذكر الله، ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر، وكلما كان المال والجاه أكثر، كانت تلك القسوة أقوى، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
إن الإنسن ليطغى * أن رءاه استغنى
[العلق:6،7] فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله تعالى وحب الآخرة من القلب، وفي حصول الدنيا وشهواتها في القلب وعند الموت؛ كأن الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن، ومن مجالسة الأقرباء والأحبة إلى موضع الغربة والكربة، فيعظم تألمه، ويقوى حزنه، ثم عند الحشر: حلالها حساب، وحرامها عقاب، فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة. انتهى.
ثم أخبر سبحانه؛ أنهم ليسوا من المؤمنين، وإنما هم يفزعون منهم، والفرق: الخوف.
وقوله سبحانه: { لو يجدون ملجأ }: الملجأ من لجأ يلجأ، إذا أوى واعتصم، وقرأ الجمهور: «أو مغارات» - بفتح الميم -، وهي الغيران في أعراض الجبال، { أو مدخلا } ، معناه: السرب والنفق في الأرض، وهو تفسير ابن عباس في هذه الألفاظ، وقرأ جمهور الناس: «يجمحون»: ومعناه يسرعون.
قال الفخر: قوله: { وهم يجمحون } أي: يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء، ومن هذا يقال: جمع الفرس، وفرس جموح، وهو الذي إذا حمل، لم يرده اللجام، انتهى.
[9.58-59]
وقوله عز وجل: { ومنهم من يلمزك... } الآية: أي: ومن المنافقين من يلمزك، أي: يعيبك ويأخذ منك في الغيبة؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة
وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه
ومنه قوله سبحانه:
ويل لكل همزة لمزة
[الهمزة:1] وقوله سبحانه: { ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ورسوله... } الآية: المعنى: لو أن هؤلاء المنافقين رضوا قسمة الله الرزق لهم، وما أعطاهم على يد رسوله، وأقروا بالرغبة إلى الله، لكان خيرا لهم، وحذف الجواب، لدلالة ظاهر الكلام عليه، وذلك من فصيح الكلام وإيجازه.
[9.60]
وقوله سبحانه: { إنما الصدقت للفقراء... } الآية: { إنما } في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف الصدقات على الثمانية الأصناف، وإنما أختلف في صورة القسمة، ومذهب مالك وغيره؛ أن ذلك على قدر الاجتهاد، وبحسب الحاجة، وأما الفقير والمسكين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وغيرهم: المساكين: الذين يسعون ويسألون، والفقراء: الذين يتصاونون، وهذا القول أحسن ما قيل في هذا، وتحريره أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل نفسه، ولا يذل وجهه؛ وذلك إما لتعفف مفرط، وإما لبلغة تكون له، كالحلوبة وما أشبهها، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال، فهذه هي المسكنة؛ ويقوي هذا أن الله سبحانه قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة، وقرنها بالذلة مع غناهم، وإذا تأملت ما قلناه، بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين.
* ت *: وقد أكثر الناس في الفرق بين الفقير والمسكين، وأولى ما يعول عليه ما ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى مالك، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي ليس له غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس "
، انتهى. وأول أبو عمر في «التمهيد» هذا الحديث، فقال: كأنه أراد - والله أعلم - ليس المسكين على تمام المسكنة، وعلى الحقيقة إلا الذي لا يسأل الناس. انتهى.
وأما العاملون: فهم جباتها يستنيبهم الإمام في السعي على الناس، وجمع صدقاتهم، قال الجمهور: لهم قدر تعبهم ومؤنتهم، وأما { المؤلفة قلوبهم } ، فكانوا مسلمين وكافرين مستترين مظهرين للإسلام؛ حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم، واستئلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة، أو تدفع عنه مضرة، والصحيح بقاء حكمهم؛ إن احتيج إليهم، وأما { الرقاب } ، فمذهب مالك وغيره هو ابتداء عتق مؤمن، وأما الغارم: فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه، كذا قال العلماء، وأما { في سبيل الله } ، فهو الغازي، وإن كان مليا ببلده، وأما { ابن السبيل } ، فهو المسافر، وإن كان غنيا ببلده، وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل.
ومن ادعى الفقر صدق إلا لريبة؛ فيكلف حينئذ البينة، وأما إن ادعى أنه غارم أو ابن السبيل أو غاز، ونحو ذلك مما لا يعلم إلا منه، فلا يعطى إلا ببينة، وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فضلة، فتنقل إلى غيرهم.
قال ابن حبيب: وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها في المواضع التي جبيت فيها، ولا يحمل منها شيء إلى الإمام، وفي الحديث:
" تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم "
وقوله سبحانه: { فريضة من الله }: أي: موجبة محدودة.
[9.61-62]
وقول سبحانه: { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين }: أي: ومن المنافقين، و { يؤذون }: لفظ يعم أنواع إذاءتهم له صلى الله عليه وسلم، وخص بعد ذلك من قولهم: { هو أذن } ، وروي أن قائل هذه المقالة نبتل بن الحارث، وكان من مردة المنافقين، وفيه قال صلى الله عليه وسلم:
" «من سره أن ينظر إلى الشيطان، فلينظر إلى نبتل بن الحارث»، وكان ثائر الرأس، منتفش الشعر، أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوها "
قال الحسن البصري ومجاهد: قولهم: { هو أذن }: أي: يسمع معاذيرنا ويقبلها، أي: فنحن لا نبالي من الوقوع فيه، وهذا تنقص بقلة الحزم، وقال ابن عباس وغيره: إنهم أرادوا بقولهم: { هو أذن }: أي: يسمع كل ما ينقل إليه عنا، ويصغي إليه ويقبله، فهذا تشك منه عليه السلام، ومعنى { أذن }: سماع، وهذا من باب تسمية الشيء بالشيء، إذا كان منه بسبب؛ كما يقال للرؤية: عين؛ وكما يقال للمسنة من الإبل التي قد بزل نابها: ناب.
وقيل: معنى الكلام: ذو أذن، أي: ذو سماع، وقيل: إنه مشتق من قولهم: أذن إلى شيء؛ إذا استمع؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
> صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقرأ نافع: «أذن» - بسكون الذال فيهما -، وقرأ الباقون بضمها فيهما، وكلهم قرأ بالإضافة إلى «خير» إلا ما روي عن عاصم، وقرأ الحسن وغيره: «قل أذن خير» - بتنوين «أذن»، ورفع «خير» -، وهذا جار على تأويله المتقدم، والمعنى: من يقبل معاذيركم خير لكم، ورويت هذه القراءة عن عاصم، ومعنى «أذن خير» على الإضافة: أي سماع خير وحق، و { يؤمن بالله }: معناه: يصدق بالله، { ويؤمن للمؤمنين }: قيل: معناه: ويصدق المؤمنين، واللام زائدة، وقيل: يقال: آمنت لك، بمعنى: صدقتك؛ ومنه:
وما أنت بمؤمن لنا
[يوسف:17].
قال * ع *: وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء، فالمعنى: ويصدق للمؤمنين بما يخبرونه به، وكذلك قوله: { وما أنت بمؤمن لنا } بما نقوله.
* ت *: ولما كانت أخبار المنافقين تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة بإخبار الله له، وتارة بإخبار المؤمنين، وهم عدول، ناسب اتصال قوله سبحانه: { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين }؛ بما قبله، ويكون التصديق هنا خاصا بهذه القضية، وإن كان ظاهر اللفظ عاما؛ إذ من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مصدقا بالله، وقرأ جميع السبعة إلا حمزة و«رحمة» - بالرفع -؛ عطفا على «أذن»، وقرأ حمزة وحده: و«رحمة» - بالخفض -؛ عطفا على «خير»، وخصص الرحمة للذين آمنوا؛ إذ هم الذين فازوا ونجوا بالرسول عليه السلام، { يحلفون بالله لكم }: يعني: المنافقين.
وقوله: { والله ورسوله أحق أن يرضوه }: التقدير عند سيبويه: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه، فحذف الخبر من الجملة الأولى، لدلالة الثانية عليه.
وقيل: الضمير في «يرضوه» عائد على المذكور؛ كما قال رؤبة: [الرجز]
فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
أي: كأن المذكور.
[9.63-64]
وقوله: { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله... } الآية: { يحادد }: معناه: يخالف ويشاق.
وقوله سبحانه: { يحذر المنفقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم }: { يحذر }: خبر عن حال قلوبهم.
وقال الزجاج وغيره: «يحذر»: الأمر، وإن كان لفظه لفظ الخبر؛ كأنه قال: «ليحذر».
وقوله سبحانه: { قل استهزءوا }: لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد، ثم أخبر سبحانه؛ أنه مخرج لهم ما يحذرونه إلى حين الوجود، وقد فعل ذلك تبارك وتعالى في «سورة براءة»، فهي تسمى «الفاضحة»؛ لأنها فضحت المنافقين.
[9.65-66]
وقوله سبحانه: { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب... } الآية: نزلت على ما ذكر جماعة من المفسرين في وديعة بن ثابت؛ وذلك أنه مع قوم من المنافقين كانوا يسيرون في غزوة تبوك، فقال بعضهم: هذا يريد أن يفتح قصور الشام ، ويأخذ حصون بني الأصفر، هيهات هيهات! فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال لهم: قلتم كذا وكذا، فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر؛ أنه قال: رأيت قائل هذه المقالة «وديعة» متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها، والحجارة تنكبه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقوله: { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } ، ثم حكم سبحانه عليهم بالكفر، فقال لهم: { لا تعتذروا قد كفرتم } الآية.
وقوله سبحانه: { إن نعف عن طائفة منكم } ، يريد؛ فيما ذكره المفسرون، رجلا واحدا، قيل: اسمه مخشي بن حمير، قاله ابن إسحاق، وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة، وقد كان تاب، وتسمى عبد الرحمن، فدعا الله أن يستشهد، ويجهل أمره، فكان كذلك، ولم يوجد جسده، وكان مخشي مع المنافقين الذين قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فقيل: كان منافقا، ثم تاب توبة صحيحة، وقيل: كان مسلما مخلصا إلا أنه سمع المنافقين، فضحك لهم، ولم ينكر عليهم، فعفا الله عنه في كلا الوجهين، ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الذين قالوا ما تقدم.
[9.67-68]
وقوله سبحانه: { المنفقون والمنفقت بعضهم من بعض }: يريد: في الحكم والمنزلة في الكفر، ولما تقدم قبل:
وما هم منكم
[التوبة:56] حسن هذه الإخبار، و { ويقبضون أيديهم }: أي: عن الصدقة، وفعل الخير، { نسوا الله }: أي: تركوه؛ حين تركوا اتباع نبيه وشرعه، { فنسيهم }: أي: فتركهم حين لم يهدهم، والكفار؛ في الآية: المعلنون، وقوله: { هي حسبهم }: أي: كافيتهم.
[9.69-72]
وقوله تعالى: { كالذين من قبلكم }: أي: أنتم، أيها المنافقون، كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة، فعصوا؛ فأهلكوا؛ فأنتم أولى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم، والخلاق: الحظ من القدر والدين وجميع حال المرء، فخلاق المرء: الشيء الذي هو به خليق، والمعنى: عجلوا حظهم في دنياهم، وتركوا الآخرة، فاتبعتموهم أنتم، { أولئك حبطت أعملهم في الدنيا والأخرة }: المعنى: وأنتم أيضا كذلك، ويحتمل أن يريد ب { أولئك }: المنافقين.
وقوله سبحانه: { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود... } الآية: المعنى ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السالفة التي عصت الله؛ بتكذيب رسله، فأهلكها، و { قوم إبراهيم }: نمرود وأصحابه وأتباع دولته، { وأصحب مدين } قوم شعيب، { والمؤتفكت }: أهل القرى الأربعة أو السبعة التي بعث إليهم لوط عليه السلام، ومعنى { والمؤتفكت }: المنصرفات والمنقلبات أفكت فأتفكت لأنها جعل عاليها سافلها، ولفظ البخاري: { والمؤتفكت }: ائتفكت: انقلبت بهم الأرض. انتهى.
والضمير في { أتتهم رسلهم }: عائد على هذه الأمم المذكورة، ثم عقب سبحانه بذكر المؤمنين، وما من به عليهم من حسن الأعمال؛ ترغيبا وتنشيطا؛ لمبادرة ما به أمر؛ لطفا منه بعباده سبحانه، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
وقوله سبحانه: { ويقيمون الصلوة }: قال ابن عباس: هي الصلوات الخمس.
قال * ع *: وبحسب هذا تكون الزكاة هي المفروضة، والمدح عندي بالنوافل أبلغ؛ إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرض، والسين في قوله: { سيرحمهم }: مدخلة في الوعد مهلة؛ لتكون النفوس تنعم برجائه سبحانه، وفضله سبحانه زعيم بالإنجاز، وذكر الطبري في قوله تعالى: { ومسكن طيبة } ، عن الحسن أنه سأل عنها عمران بن حصين وأبا هريرة، فقالا: على الخبير سقطت! سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « قصر في الجنة من اللؤلؤ، فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زمرذة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا » ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ، ويقرب منها، فاختصرتها طلب الإيجاز.
* ت *: وتمام الحديث من «الإحياء»، وكتاب الآجري المعروف ب «كتاب النصيحة»، عن الحسن عن عمران بن حصين وأبي هريرة، قالا: « على كل سرير سبعون فراشا من كل لون، على كل فراش زوجة من الحور العين، وفي كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطى المؤمن في كل غداة من القوة ما يأتي على ذلك أجمع»، وأما قوله سبحانه: { ورضون من الله أكبر } ، ففي الحديث الصحيح؛
" أن الله عز وجل يقول لعباده إذا استقروا في الجنة: هل رضيتم؟! فيقولون: وكيف لا نرضى، يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أفضل من هذا كله، رضواني، أرضى عنكم؛ فلا أسخط عليكم أبدا.... "
الحديث، وقوله: { أكبر }: يريد: أكبر من جميع ما تقدم، ومعنى الآية والحديث متفق، وقال الحسن بن أبي الحسن: وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة، قال الإمام الفخر: وإنما كان الرضوان أكبر؛ لأنه عند العارفين نعيم روحاني، وهو أشرف من النعيم الجسماني. انتهى. انظره في أوائل «آل عمران».
قال * ع *: ويظهر أن يكون قوله تعالى: { ورضون من الله أكبر } إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم، والذين يرون كما يرى النجم الغابر في الأفق، وجميع من في الجنة راض، والمنازل مختلفة، وفضل الله متسع، و { الفوز }: النجاة والخلاص، ومن أدخل الجنة فقد فاز، والمقربون هم في الفوز العظيم، والعبارة عندي ب «سرور وكمال» أجود من العبارة عنها ب «لذة»، واللذة أيضا مستعملة في هذا.
[9.73-74]
وقوله سبحانه: { يأيها النبى جهد الكفر }: أي: بالسيف و { المنفقين } ، أي: باللسان والتعنيف والاكفهرار في الوجه، وبإقامة الحدود عليهم.
قال الحسن: وأكثر ما كانت الحدود يومئذ تصيب المنافقين، ومذهب الطبري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم، وأما قوله: { واغلظ عليهم } ، فلفظة عامة في الأفعال والأقوال، ومعنى الغلظ: خشن الجانب، فهو ضد قوله تعالى:
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين
[الشعراء:215]، وقوله عز وجل: { يحلفون بالله ما قالوا... } الآية، نزلت في الجلاس بن سويد، وقوله: لئن كان ما يقول محمد حقا، لنحن شر من الحمر، فسمعها منه ربيبه أو رجل آخر، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الجلاس، فحلف بالله؛ ما قال هذه الكلمة، فنزلت الآية، فكلمة الكفر: هي مقالته هذه؛ لأن مضمنها قوي في التكذيب، قال مجاهد: وقوله: { وهموا بما لم ينالوا }: يعني: أن الجلاس قد كان هم بقتل صاحبه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، وقوله في غزوة المريسيع: ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك، و
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
[المنافقون:8]، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فوقفه، فحلف أنه لم يقل ذلك، فنزلت الآية مكذبة له.
* ت *: وزاد ابن العربي في «أحكامه» قولا ثالثا؛ أن الآية نزلت في جماعة المنافقين؛ قاله الحسن، وهو الصحيح؛ لعموم القول ووجود المعنى فيه، وفيهم، انتهى.
وحدث أبو بكر بن الخطيب بسنده، قال: سئل سفيان بن عيينة عن الهم: أيؤاخذ به صاحبه؟ قال: نعم، إذا كان عزما؛ ألم تسمع إلى قوله تعالى: { وهموا بما لم ينالوا... } الآية، إلى قوله: { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } ، فجعل عليهم فيه التوبة، قال سفيان: الهم يسود القلب انتهى.
قال * ع *: وعلى تأويل قتادة، فالإشارة ب { كلمة الكفر } إلى تمثيل ابن أبي «سمن كلبك يأكلك».
قال قتادة: والإشارة ب { هموا } إلى قوله:
لئن رجعنا إلى المدينة
[المنافقون:8].
وقال الحسن: هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى الله عليه وسلم بما لم ينالوا، وقال تعالى: { بعد إسلمهم } ، ولم يقل: «بعد إيمانهم»؛ لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم.
وقوله سبحانه: { وما نقموا إلا أن أغناهم الله... } الآية: كأن الكلام، وما نقموا إلا ما حقه أن يشكر، وذكر رسول الله في إغنائهم من حيث كثرت أموالهم من الغنائم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سبب في ذلك، وعلى هذا الحد
" قال عليه السلام للأنصار في غزوة حنين: « كنتم عالة، فأغناكم الله » "
، قال العراقي: { نقموا }: أي: أنكروا.
وقال * ص *: { إلا أن أغناهم الله }: إن وصلتها: مفعول { نقموا }: أي: ما كرهوا إلا إغناء الله إياهم، وقيل: هو مفعول من أجله، والمفعول به محذوف، أي: ما كرهوا الإيمان إلا للإغناء. انتهى.
ثم فتح لهم سبحانه باب التوبة؛ رفقا بهم ولطفا، فروي أن الجلاس تاب من النفاق، وقال: إن الله قد ترك لي باب التوبة، فاعترف وأخلص، وحسنت توبته.
[9.75-79]
وقوله سبحانه: { ومنهم من عهد الله لئن ءاتنا من فضله لنصدقن... } الآية:
" هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، قال الحسن: وفي معتب بن قشير معه، واختصار ما ذكره الطبري وغيره من أمره: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعل لي مالا، فإني لو كنت ذا مال، لقضيت حقوقه، وفعلت فيه الخير، فراده النبي صلى الله عليه وسلم وقال: « قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه » فعاود، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا تريد أن تكون مثل رسول الله، ولو دعوت الله أن يسير الجبال معي ذهبا، لسارت » فأعاد عليه حتى دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فاتخذ غنما، فنمت كما ينمو الدود؛ حتى ضاقت به المدينة، فتنحى عنها، وكثرت غنمه، حتى كان لا يصلي إلا الجمعة، ثم كثرت حتى تنحى بعيدا، فترك الصلاة، ونجم نفاقه، ونزل خلال ذلك فرض الزكاة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم مصدقين بكتابه في أخذ زكاة الغنم، فلما بلغوا ثعلبة، وقرأ الكتاب، قال: هذه أخت الجزية، ثم قال لهم: دعوني حى أرى رأيي، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه، قال:« ويح ثعلبة »ثلاثا، ونزلت الآية فيه، فحضر القصة قريب لثعلبة، فخرج إليه، فقال: أدرك أمرك، فقد نزل فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرغب أن يؤدي زكاته، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: « إن الله أمرني ألا آخذ زكاتك » "
، فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ورد ثعلبة على أبي بكر، ثم على عمر، ثم على عثمان، يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة، فكلهم رد ذلك وأباه؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فبقي ثعلبة كذلك حتى هلك في مدة عثمان.
وفي قوله تعالى: { فأعقبهم }: نص في العقوبة على الذنب بما هو أشد منه.
وقوله: { إلى يوم يلقونه }: يقتضي موافاتهم على النفاق، قال ابن العربي: في ضمير { يلقونه } قولان:
أحدهما: أنه عائد على الله تعالى.
والثاني: أنه عائد على النفاق مجازا؛ على تقدير الجزاء؛ كأنه قال: فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقون جزاءه. انتهى من «الأحكام».
و { يلمزون }: معناه: ينالون بألسنتهم، وأكثر الروايات في سبب نرول الآية أن عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف، وأمسك مثلها.
وقيل: هو عمر بن الخطاب تصدق بنصف ماله، وقيل: عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق، فقال المنافقون: ما هذا إلا رياء، فنزلت الآية في هذا كله، وأما المتصدق بقليل، فهو أبو عقيل تصدق بصاع من تمر، فقال بعضهم: إن الله غني عن صاع أبي عقيل، وخرجه البخاري، وقيل: إن الذي لمز في القليل هو أبو خيثمة؛ قاله كعب بن مالك.
{ فيسخرون منهم }: معناه: يستهزئون ويستخفون وروى مسلم عن جرير بن عبد الله، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما رأى بهم من الفاقة، فذخل ثم خرج، فأمر بلالا، فأذن وأقام، فصلى ثم خطب، فقال: { يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس وحدة } إلى آخر الآية:
إن الله كان عليكم رقيبا
[النساء:1] والآية التي في سورة الحشر:
اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد
[الحشر:18] تصدق رجل؛ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره؛ حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب؛ حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ".
انتهى.
[9.80-81]
وقوله سبحانه: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم }: المعنى: أن الله خير نبيه في هذا، فكأنه قال له: إن شئت فاستغفر لهم، وإن شئت لا تستغفر، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم، وإن استغفر سبعين مرة، وهذا هو الصحيح في تأويل الآية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:
" إن الله قد خيرني فاخترت، ولو علمت أني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت... "
الحديث، وظاهر لفظ الحديث رفض إلزام دليل الخطاب، وظاهر صلاته صلى الله عليه وسلم على ابن أبي أن كفره لم يكن يقينا عنده، ومحال أن يصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عز وجل، وعلى هذا كان ستر المنافقين، وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية، صح أن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى في «سورة المنافقين: [6]»:
سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم
* ت *: والظاهر أن الآيتين بمعنى، فلا نسخ، فتأمله، ولولا الإطالة لأوضحت ذلك.
قال * ع *: وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الأعداد، فلأنه عدد كثيرا ما يجيء غاية ومقنعا في الكثرة.
وقوله: { ذلك } إشارة إلى امتناع الغفران.
وقوله عز وجل: { فرح المخلفون بمقعدهم خلف رسول الله... } الآية: هذه آية تتضمن وصف حالهم، على جهة التوبيخ، وفي ضمنها وعيد، وقوله: { المخلفون }: لفظ يقتضي تحقيرهم، وأنهم الذين أبعدهم الله من رضاه و«مقعد»: بمعنى القعود، و«خلاف»: معناه: «بعد»؛ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
تأهب لأخرى مثلها فكأن قد
يريد: بعد الذي مضى.
وقال الطبري: هو مصدر: خالف يخالف، وقولهم: { لا تنفروا في الحر }: كان هذا القول منهم؛ لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر وطيب الثمار.
[9.82-84]
وقوله سبحانه: { فليضحكوا قليلا }؛ إشارة إلى مدة العمر في الدنيا.
وقوله: { وليبكوا كثيرا }؛ إشارة إلى تأبيد الخلود في النار، فجاء بلفظ الأمر، ومعناه الخبر عن حالهم، وتقدير الكلام: ليبكوا كثيرا؛ إذ هم معذبون، جزاء بما كانوا يكسبون، وخرج ابن ماجه بسنده، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" يرسل البكاء على أهل النار، فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى تصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت "
، وخرجه ابن المبارك أيضا عن أنس، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" يأيها الناس، ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار تسيل دموعهم في وجوههم، كأنها جداول حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدماء، فتقرح العيون، فلو أن سفنا أجريت فيها، لجرت "
، انتهى من «التذكرة».
وقوله سبحانه: { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم... } الآية: يشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { وماتوا وهم فسقون }: نص في موافاتهم على ذلك؛ ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عينهم لحذيفة بن اليمان، وكان الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة، تأخروا هم عنها، وروي عن حذيفة؛ أنه قال يوما: بقي من المنافقين كذا وكذا.
وقوله: { أول } هو بالإضافة إلى وقت الاستئذان، و«الخالفون»: جمع من تخلف من نساء، وصبيان، وأهل عذر، وتظاهرت الروايات أنه صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن أبي ابن سلول، وأن قوله: { ولا تصل على أحد منهم } نزلت بعد ذلك، وقد خرج ذلك البخاري من رواية عمر بن الخطاب. انتهى.
[9.85-89]
وقوله سبحانه: { ولا تعجبك أمولهم وأولدهم }: تقدم تفسير مثل هذه الآية، والطول في هذه الآية المال؛ قاله ابن عباس وغيره، والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن قيس ونظرائه، و«القاعدون»: الزمنى وأهل العذر في الجملة، و { الخوالف }: النساء جمع خالفة؛ هذا قول جمهور المفسرين.
وقال أبو جعفر النحاس: يقال للرجل الذي لا خير فيه: خالفة، فهذا جمعه بحسب اللفظ، والمراد أخسة الناس وأخلافهم؛ ونحوه عن النضر بن شميل، وقالت فرقة: الخوالف: جمع خالف؛ كفارس وفوارس.
{ وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون }: أي: لا يفهمون، و { الخيرات }: جمع خيرة، وهو المستحسن من كل شيء.
وقوله سبحانه: { أعد الله لهم جنت تجري من تحتها الأنهر خلدين فيها ذلك الفوز العظيم }: { أعد }: معناه يسر وهيأ، وباقي الآية بين.
[9.90-92]
وقوله سبحانه: { وجاء المعذرون من الأعراب... } الآية: قال ابن عباس وغيره: هؤلاء كانوا مؤمنين، وكانت أعذارهم صادقة، وأصل اللفظة: «المعتذرون»، فقلبت التاء ذالا وأدغمت، وقال قتادة، وفرقة معه: بل الذين جاؤوا كفرة، وقولهم وعذرهم كذب.
قال * ص *: والمعنى: تكلفوا العذر، ولا عذر لهم، و { كذبوا الله ورسوله } ، أي: في إيمانهم. انتهى.
وقوله: { سيصيب الذين كفروا منهم... } الآية قوله: { منهم } يؤيد أن المعذرين كانوا مؤمنين، فتأمله، قال ابن إسحاق: المعذرون: نفر من بني غفار؛ وهذا يقتضي أنهم مؤمنون.
وقوله جلت عظمته: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى... } الآية: يقول: ليس على أهل الأعذار من ضعف بدن أو مرض أو عدم نفقة إثم؛ والحرج: الإثم.
وقوله: { إذا نصحوا }: يريد: بنياتهم وأقوالهم سرا وجهرا، { ما على المحسنين من سبيل }: أي: من لائمة تناط بهم، ثم أكد الرجاء بقوله سبحانه: { والله غفور رحيم } ، وقرأ ابن عباس: « والله لأهل الإساءة غفور رحيم»، وهذا على جهة التفسير أشبه منه على جهة التلاوة؛ لخلافه المصحف، واختلف فيمن المراد بقوله: { الذين لا يجدون ما ينفقون }: فقالت فرقة: نزلت في بني مقرن: ستة إخوة، وليس في الصحابة ستة إخوة غيرهم، وقيل: كانوا سبعة.
وقيل: نزلت في عائذ بن عمرو المزني؛ قاله قتادة، وقيل: في عبد الله بن معقل المزني. قاله ابن عباس.
وقوله عز وجل: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } هذه الآية نزلت في البكائين، واختلف في تعيينهم، فقيل: في أبي موسى الأشعري ورهطه، وقيل: في بني مقرن؛ وعلى هذا جمهور المفسرين، وقيل: نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، فهم البكاؤون، وقال مجاهد: البكاؤون هم بنو مقرن من مزينة، ومعنى قوله: { لتحملهم }: أي: على ظهر يركب، ويحمل عليه الأثاث.
* ت *: وقصة أبي موسى الأشعري ورهطه مذكورة في الصحيح، قال ابن العربي في «أحكامه»: القول بأن الآية نزلت في أبي موسى وأصحابه هو الصحيح، انتهى.
[9.93-94]
وقوله سبحانه: { إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء... } الآية: هذه الآية نزلت في المنافقين المتقدم ذكرهم: عبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب، وغيرهم.
وقوله: { إذا رجعتم }: يريد: من غزوة تبوك، ومعنى: { لن نؤمن لكم }: لن نصدقكم، والإشارة بقوله: { قد نبأنا الله من أخباركم } إلى قوله:
ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خللكم
[التوبة:47]، ونحوه من الآيات.
وقوله سبحانه: { وسيرى الله عملكم }: توعد، والمعنى: فيقع الجزاء عليه، قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي: اعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، واعمل للآخرة بقدر بقائك فيها، واستحيي من الله تعالى بقدر قربه منك، وأطعه بقدر حاجتك إليه، وخفه بقدر قدرته عليك، واعصه بقدر صبرك على النار. انتهى. من «سراج الملوك».
وقوله: { ثم تردون }: يريد البعث من القبور.
[9.95-97]
وقوله عز وجل: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم... } الآية: قيل: إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك.
وقوله: { إنهم رجس }: أي: نتن وقذر، وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية، ثم عطف بمحطة الآخرة، فقال: { ومأواهم جهنم } ، أي: مسكنهم.
وقوله: { فإن ترضوا... } إلى آخر الآية: شرط يتضمن النهي عن الرضا عنهم، وحكم هذه الآية يستمر في كل مغموص عليه ببدعة ونحوها.
وقوله سبحانه: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا }: هذه الآية نزلت في منافقين كانوا في البوادي، ولا محالة أن خوفهم هناك كان أقل من خوف منافقي المدينة، فألسنتهم لذلك مطلقة، ونفاقهم أنجم و { أجدر }: معناه أحرى.
وقال * ص *: معناه أحق، والحدود هنا: السنن والأحكام.
[9.98]
وقوله سبحانه: { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما... } الآية نص في المنافقين منهم، و«الدوائر»: المصائب، ويحتمل أن تشتق من دوران الزمان، والمعنى: ينتظر بكم ما تأتي به الأيام، وتدور به، ثم قال على جهة الدعاء: { عليهم دائرة السوء } ، وكل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأن الله لا يدعو على مخلوقاته، وهي في قبضته؛ ومن هذا
ويل لكل همزة لمزة
[الهمزة:1]،
ويل للمطففين
[المطففين:1]، فهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى.
* ت *: وهذه قاعدة جيدة، وما وقع له رحمه الله مما ظاهره مخالف لهذه القاعدة، وجب تأويله بما ذكره هنا، وقد وقع له ذلك بعد هذا في قوله:
صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون
[التوبة:127]، قال: يحتمل أن يكون دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبرا، أي: استوجبوا ذلك، وقد أوضح ذلك عند قوله تعالى:
قتل أصحب الأخدود
[البروج:4]، فانظره هناك.
[9.99-100]
وقوله سبحانه: { ومن الأعراب من يؤمن بالله } قال قتادة: هذه ثنية الله تعالى من الأعراب، وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن؛ وقاله مجاهد { ويتخذ }؛ في الآيتين بمعنى: يجعله قصده، والمعنى: ينوي بنفقته ما ذكره الله عنهم، و { صلوت الرسول }: دعاؤه، ففي دعائه خير الدنيا والآخرة، والضمير في قوله: { إنها }: يحتمل عوده على النفقة، ويحتمل عوده على الصلوات، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { والسبقون الأولون من المهجرين والأنصر... } الآية: قال أبو موسى الأشعري وغيره: السابقون الأولون من صلى القبلتين، وقال عطاء: هم من شهد بدرا.
وقال الشعبي: من أدرك بيعة الرضوان، { والذين اتبعوهم بإحسان }: يريد: سائر الصحابة، ويدخل في هذا اللفظ: التابعون وسائر الأمة، لكن بشريطة الإحسان، وقرأ عمر بن الخطاب وجماعة: و«الأنصار» - بالرفع -؛ عطفا على «والسابقون»، وقرأ ابن كثير: «من تحتها الأنهار»، وقرأ الباقون: «تحتها»، بإسقاط «من».
[9.101]
وقوله سبحانه: { وممن حولكم من الأعراب منفقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق }: الإشارة ب «من حولكم» إلى جهينة، ومزينة، وأسلم، وغفار، وعصية، ولحيان، وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة، فأخبر الله سبحانه عن منافقيهم، وتقدير الآية: ومن أهل المدينة قوم أو منافقون، هذا أحسن ما حمل اللفظ، { مردوا }: قال أبو عبيدة معناه: مرنوا عليه، ولجوا فيه، وقيل غير هذا مما هو قريب منه.
وقال ابن زيد: قاموا عليه، لم يتوبوا؛ كما تاب الآخرون، والظاهر من اللفظة أن التمرد في الشيء أو المرود عليه إنما هو اللجاج والاشتهار به، والعتو على الزاجر، وركوب الرأس في ذلك، وهو مستعمل في الشر لا في الخير؛ ومنه: شيطان مريد ومارد، وقال ابن العربي في «أحكامه»: { المدينة مردوا على النفاق }: أي: استمروا عليه ، وتحققوا به. انتهى، ذكره بعد قوله تعالى:
الذين اتخذوا مسجدا ضرارا
[التوبة:107].
ثم نفى عز وجل علم نبيه لهم على التعيين.
وقوله سبحانه: { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم }: لفظ الآية يقتضي ثلاث مواطن من العذاب، ولا خلاف بين المتأولين أن العذاب العظيم الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة، وأكثر الناس أن العذاب المتوسط هو عذاب القبر، واختلف في عذاب المرة الأولى: فقال ابن عباس: عذابهم بإقامة حدود الشرع عليهم، مع كراهيتهم فيه.
وقال أبو إسحاق: عذابهم: هو همهم بظهور الإسلام، وعلو كلمته. وقال ابن عباس أيضا - وهو الأشهر عنه -: عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق. وقيل غير هذا.
وقوله عز وجل:
[9.102]
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الآية. قال ابن عباس، وأبو عثمان: هذه الآية في الأعراب، وهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة. قال أبو عثمان: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة منها. وقال مجاهد: بل نزلت هذه الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة لما أشار لهم إلى حلقه، ثم ندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وقالت فرقة عظيمة: بل نزلت هذه الآية في شأن المخلفين عن غزوة تبوك.
* ت *: وخرج «البخاري» بسنده عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أتاني الليلة آتيان، فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء. وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فتجاوز الله عنهم "
انتهى.
[9.103-104]
وقوله تعالى: { خذ من أمولهم صدقة.... } الآية: روي أن الجماعة التائبة لما تيب عليها، قالوا: يا رسول الله؛ إنا نريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر من الله»، فتركهم حتى نزلت هذه الآية، فهم المراد بها، فروي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلث أموالهم، مراعاة لقوله تعالى: { من أمولهم } ، فهذا هو الذي تظاهرت به أقوال المتأولين، وقالت جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة، وقوله تعالى: { تطهرهم وتزكيهم بها }: أحسن ما يحتمل أن تكون هذه الأفعال مسندة إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: { وصل عليهم }: معناه: ادع لهم، فإن في دعائك لهم سكونا لأنفسهم وطمأنينة ووقارا، فهي عبارة عن صلاح المعتقد، والضمير في قوله: { ألم يعلموا } قال ابن زيد: يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين، ويحتمل أن يراد به الذين تابوا، وقوله: { ويأخذ الصدقت } قال الزجاج: معناه: ويقبل الصدقات، وقد جاءت أحاديث صحاح في معنى الآية؛ منها حديث أبي هريرة:
" إن الصدقة قد تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل "
، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد.
وقوله: { عن عباده }: هي بمعنى «من».
[9.105-110]
وقوله سبحانه: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى علم الغيب والشهدة... } الآية، هذه الآية صيغتها صيغة أمر مضمنها الوعيد.
وقال الطبري: المراد بها الذين اعتذروا من المتخلفين وتابوا.
قال * ع *: والظاهر أن المراد بها الذين اعتذروا، ولم يتوبوا وهم المتوعدون، وهم الذين في ضمير { ألم يعلموا } ، ومعنى: { فسيرى الله عملكم } ، أي: موجودا معرضا للجزاء عليه بخير أو بشر.
وقال ابن العربي في «أحكامه»: قوله سبحانه: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } هذه الآية نزلت بعد ذكر المؤمنين، ومعناها: الأمر، أي: اعملوا بما يرضي الله سبحانه، وأما الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى:
قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله
[التوبة:94]؛ فإنها نزلت بعد ذكر المنافقين، ومعناها: التهديد؛ وذلك لأن النفاق موضع ترهيب، والإيمان موضع ترغيب، فقوبل أهل كل محل من الخطاب بما يليق بهم. انتهى.
وقوله سبحانه: { وآخرون مرجون لأمر الله }: عطف على قوله أولا: { وآخرون اعترفوا }: ومعنى الإرجاء: التأخير، والمراد بهذه الآية فيما قال ابن عباس وجماعة: الثلاثة الذين خلفوا، وهم كعب بن مالك، وصاحباه؛ على ما سيأتي إن شاء الله، وقيل: إنما نزلت في غيرهم من المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار، وعلى هذا: يكون { الذين اتخذوا } بإسقاط واو العطف بدلا من { آخرون } ، أو خبر مبتدأ، تقديره: هم الذين، وقرأ عاصم وعوام القراء، والناس في كل قطر إلا ب «المدينة»: { والذين اتخذوا } ، وقرأ أهل المدينة، نافع وغيره الذين اتخذوا - بإسقاط الواو؛ على أنه مبتدأ، والخبر: { لا يزال بنيانهم } وأما الجماعة المرادة ب { الذين اتخذوا مسجدا } ، فهم منافقو بني غنم بن عوف، وبني سالم بن عوف، وأسند الطبري، عن ابن إسحاق،
" عن الزهري وغيره، أنه قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، حتى نزل بذي أوان - بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - وكان أصحاب مسجد الضرار، قد أتوه صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله؛ إنا قد بنينا مسجدا؛ لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: « إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم، فصلينا لكم فيه »، فلما قفل، ونزل بذي أوان، نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشن ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، فقال: « انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه، وحرقاه » "
فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه، وذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي، وكان بانوه اثني عشر رجلا، منهم ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، ونبتل بن الحارث وغيرهم، وروي أنه لما بنى صلى الله عليه وسلم مسجدا في بني عمرو بن عوف وقت الهجرة، وهو مسجد «قباء» وتشرف القوم بذلك، حسدهم حينئذ رجال من بني عمهم من بني غنم بن عوف، وبني سالم بن عوف، وكان فيهم نفاق، وكان موضع مسجد «قباء» مربطا لحمار امرأة من الأنصار، اسمها: لية، فكان المنافقون يقولون: والله لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية، ونحو هذا من الأقوال، وكان أبو عامر المعروف بالراهب منهم، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، وكان سيدا من نظراء عبد الله بن أبي ابن سلول، فلما جاء الله بالإسلام، نافق، ولم يزل مجاهرا بذلك، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، ثم خرج في جماعة من المنافقين، فحزب على النبي صلى الله عليه وسلم الأحزاب، فلما ردهم الله بغيظهم، أقام أبو عامر ب «مكة» مظهرا لعداوته، فلما فتح الله «مكة»، هرب إلى «الطائف»، فلما أسلم أهل الطائف، خرج هاربا إلى الشام، يريد قيصر مستنصرا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى المنافقين من قومه أن ابنوا مسجدا، مقاومة لمسجد «قباء»، وتحقيرا له، فإني سآتي بجيش من الروم، أخرج به محمدا، وأصحابه من «المدينة»، فبنوه وقالوا: سيأتي أبو عامر ويصلي فيه، فذلك قوله: { وإرصادا لمن حارب الله ورسوله } يعني: أبا عامر، وقولهم: سيأتي أبو عامر، وقوله: { ضرارا } أي: داعية للتضارر من جماعتين.
وقوله: { وتفريقا بين المؤمنين }: يريد: تفريقا بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد «قباء»، فإن من جاور مسجدهم كانوا يصرفونه إليه، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان، وقيل: أراد بقوله: { بين المؤمنين } جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي: أن مسجد الضرار، لما هدم وأحرق، اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات، وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت: { لا تقم فيه أبدا } كان لا يمر بالطريق التي هو فيها.
وقوله: { لمسجد }: قيل: إن اللام لام قسم، وقيل: هي لام ابتداء، كما تقول: لزيد أحسن الناس فعلا وهي مقتضية تأكيدا، وذهب ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين إلى أن المراد ب «مسجد أسس على التقوى»: مسجد «قباء» وروي عن ابن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت؛ أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويليق القول الأول بالقصة إلا أن القول الثاني مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر مع الحديث، قال ابن العربي في «أحكامه»: وقد روى ابن وهب وأشهب، عن مالك؛ أن المراد ب «مسجد أسس على التقوى»: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال الله تبارك وتعالى:
وتركوك قائما
[الجمعة:11] وكذلك روى عنه ابن القاسم، وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد «قباء»، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« هو مسجدي هذا ». قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، وخرجه مسلم انتهى.
ومعنى: { أن تقوم فيه }: أي: بصلاتك وعبادتك.
وقوله: { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } اختلف في الضمير أيضا، هل يعود على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو على مسجد «قباء»؟ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" « يا معشر الأنصار، إني رأيت الله أثنى عليكم بالطهور، فماذا تفعلون؟ » قالوا: يا رسول الله، إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء، ففعلنا نحن ذلك، فلما جاء الإسلام، لم ندعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« فلا تدعوه إذن ".
والبنيان الذي أسس على شفا جرف: هو مسجد الضرار؛ بإجماع، و«الشفا»: الحاشية والشفير، و { هار }: معناه متهدم بال، وهو من: هار يهور؛ البخاري: هار هائر تهورت البئر، إذا تهدمت وانهارت مثله. انتهى.
وتأسيس البناء على تقوى؛ إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله تعالى، وإظهار شرعه؛ كما صنع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مسجد «قباء»، والتأسيس على شفا جرف هار إنما هو بفساد النية وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، فهذه تشبيهات صحيحة بارعة.
وقوله سبحانه: { فانهار به في نار جهنم }: الظاهر منه أنه خارج مخرج المثل، وقيل: بل ذلك حقيقة، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم؛ قاله قتادة وابن جريج، وروي عن جابر بن عبد الله وغيره؛ أنه قال: رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي في بعض الكتب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه حين انهار بلغ الأرض السابعة، ففزع لذلك صلى الله عليه وسلم، وروي أنهم لم يصلوا فيه أكثر من ثلاثة أيام، وهذا كله بإسناد لين، والله أعلم، وأسند الطبري عن خلف بن ياسين، أنه قال: رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن، فرأيت فيه مكانا يخرج منه الدخان وذلك في زمن أبي جعفر المنصور، وروي شبيه بهذا أو نحوه عن ابن جريج: أسنده الطبري.
قال ابن العربي في «أحكامه» وفي قوله تعالى: { فانهار به في نار جهنم } ، مع قوله:
فأمه هاوية
[القارعة:9] إشارة إلى أن النار تحت؛ كما أن الجنة فوق. انتهى.
والريبة: الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد، ومعنى الريبة، في هذه الآية: أمر يعم الغيظ والحنق، ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الارتياب في الإسلام، فمقصد الكلام: لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم، يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء، وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا.
وبالجملة إن الريبة هنا تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق.
وقوله: «ألا أن تقطع قلوبهم» - بضم التاء - يعني: بالموت، قاله ابن عباس وغيره وفي مصحف أبي: «حتى الممات»، وفيه: «حتى تقطع».
[9.111-112]
وقوله عز وجل: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأمولهم بأن لهم الجنة... } الآية: هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة، وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين؛ وذلك أنهم اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقالوا: اشترط لك، ولربك، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة فاشترط نبي الله حمايته مما يحمون منه أنفسهم، واشترط لربه التزام الشريعة، وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة، فقالوا: ما لنا على ذلك، يا نبي الله؟ فقال: الجنة، فقالوا: نعم، ربح البيع، لا تقيل ولا تقال»، وفي بعض الروايات: «ولا نستقيل» فنزلت الآية في ذلك.
وهكذا نقله ابن العربي في «أحكامه»، عن عبد الله بن رواحة، ثم ذكر من طريق الشعبي، عن أبي أمامة أسعد بن زرارة نحو كلام ابن رواحة.
قال ابن العربي: وهذا وإن كان سنده مقطوعا، فإن معناه ثابت من طرق. انتهى.
ثم الآية بعد ذلك عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، قال بعض العلماء: ما من مسلم إلا ولله في عنقه هذه البيعة، وفى بها أو لم يف، وفي الحديث:
" إن فوق كل بر برا حتى يبذل العبد دمه، فإذا فعل، فلا بر فوق ذلك "
وأسند الطبري عن كثير من أهل العلم؛ أنهم قالوا: ثامن الله تعالى في هذه الآية عباده، فأغلى لهم؛ وقاله ابن عباس وغيره، وهذا تأويل الجمهور.
وقال ابن عيينة: معنى الآية: اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعته، وأموالهم ألا ينفقوها إلا في سبيله، فالآية على هذا: أعم من القتل في سبيل الله.
وقوله: { يقتلون في سبيل الله } على تأويل ابن عيينة: مقطوع، ومستأنف، وأما على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين، فهو في موضع الحال.
وقوله سبحانه: { وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن }: قال المفسرون: يظهر من قوله: { في التوراة والإنجيل والقرآن } أن كل أمة أمرت بالجهاد، ووعدت عليه.
قال * ع *: ويحتمل أن ميعاد أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تقدم ذكره في هذه الكتب، والله أعلم.
قال * ص *: وقوله: { فاستبشروا }: ليس للطلب، بل بمعنى: أبشروا؛ كاستوقد، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه المسمى ب «بهجة المجالس»: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من وعده الله على عمل ثوابا، فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقابا، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له "
وعن ابن عباس مثله. انتهى. وباقي الآية بين.
قال الفخر: واعلم أن هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات.
فأولها: قوله سبحانه: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأمولهم } ، فكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والحيلة من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد.
والثاني: أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد.
وثالثها: قوله: { وعدا } ، ووعد الله حق.
ورابعها: قوله: { عليه } ، وكلمة على للوجوب.
وخامسها: قوله: { حقا } ، وهو تأكيد للتحقيق.
وسادسها: قوله: { في التوراة والإنجيل والقرآن } ، وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية، وجميع الأنبياء والمرسلين على هذه المبايعة.
وسابعها: قوله: { ومن أوفى بعهده من الله } ، وهو غاية التأكيد.
وثامنها: قوله: { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } ، وهو أيضا مبالغة في التأكيد.
وتاسعها: قوله: { وذلك هو الفوز }.
وعاشرها: قوله: { العظيم }.
فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق. انتهى.
وقوله عز وجل: { التئبون العبدون } ، إلى قوله: { وبشر المؤمنين } ، هذه الأوصاف هي من صفات المؤمنين الذين ذكر الله أنه اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، ومعنى الآية، على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع: أنها أوصاف الكملة من المؤمنين، ذكرها سبحانه، ليستبق إليها أهل التوحيد؛ حتى يكونوا في أعلى رتبة، والآية الأولى مستقلة بنفسها، يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله، لتكون كلمة الله هي العليا، وإن لم يتصف بهذه الصفات التي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها، وقالت فرقة: بل هذه الصفات جاءت على جهة الشرط، والآيتان مرتبطتان، فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف، وهذا تحريج وتضييق، والأول أصوب، والله أعلم.
والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد، وقد روي أن الله عز وجل يحمل على الشهيد مظالم العباد، ويجازيهم عنه، ختم الله لنا بالحسنى.
و { السئحون }: معناه: الصائمون، وروي عن عائشة، أنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام؛ أسنده الطبري، وروي أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الفخر: ولما كان أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض، سمي الصائم سائحا؛ لاستمراره على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من المفطرات.
قال الفخر: عندي فيه وجه آخر، وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع، وسد على نفسه باب الشهوات، انفتحت له أبواب الحكمة وتجلت له أنوار عالم الجلال؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" من أخلص لله أربعين صباحا، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام، ومن درجة إلى درجة "
انتهى.
قال * ع *: وقال بعض الناس، وهو في كتاب النقاش: { السئحون }: هم الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته وهذا قول حسن، وهو من أفضل العبادات، و { الراكعون السجدون }: هم المصلون الصلوات؛ كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو أدخل في الاسم، وأعرق في الاتصاف.
وقوله: { والحفظون لحدود الله } لفظ عام تحته التزام الشريعة.
* ت *: قال البخاري: قال ابن عباس: الحدود: الطاعة.
قال ابن العربي في «أحكامه»، وقوله: { والحفظون لحدود الله } خاتمة البيان، وعموم الاشتمال لكل أمر ونهي. انتهى.
وقوله سبحانه: { وبشر المؤمنين }: قيل: هو لفظ عام، أمر صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته جميعا بالخير من الله، وقيل: بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز، أي: لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم، أمر صلى الله عليه وسلم، أن يبشر سائر المؤمنين ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من النار، والحمد لله رب العالمين.
[9.113-116]
وقوله سبحانه: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين... } الآية:
" جمهور المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه حين احتضر، فوعظه، وقال: « أي عم؛ قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله »، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقالا له: يا أبا طالب؛ أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: يا محمد، والله، لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي، لأقررت بها عينك، ثم قال: هو على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك؛ إذ لم يسمع منه صلى الله عليه وسلم ما قال العباس، فنزلت { إنك لا تهدي من أحببت } [القصص:56] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله، لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» "
، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية، فترك نبي الله الاستغفار لأبي طالب، وروي أن المؤمنين لما رأوا نبي الله يستغفر لأبي طالب، جعلوا يستغفرون لموتاهم، فلذلك دخلوا في النهي، والآية على هذا ناسخة لفعله صلى الله عليه وسلم؛ إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر، وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: إنما نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا؛ كما استغفر إبراهيم عليه السلام، فنزلت الآية في ذلك، وقوله سبحانه: { وما كان استغفار إبرهيم لأبيه... } الآية: المعنى: لا حجة أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم عليه السلام، فإن ذلك لم يكن إلا عن موعدة، واختلف في ذلك، فقيل: عن موعدة من إبراهيم، وذلك قوله:
سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا
[مريم:47] وقيل: عن موعدة من أبيه له في أنه سيؤمن، فقوي طمعه، فحمله ذلك على الاستغفار له؛ حتى نهي عنه، وموعدة من الوعد، وأما تبينه أنه عدو لله، قيل: ذلك بموت آزر على الكفر، وقيل: ذلك بأنه نهي عنه، وهو حي، وقوله سبحانه: { إن إبرهيم لأواه حليم } ثناء من الله تعالى على إبراهيم، و«الأواه» معناه الخائف الذي يكثر التأوه من خوف الله عز وجل، والتأوه: التوجع الذي يكثر حتى ينطق الإنسان معه ب «أوه»؛ ومن هذا المعنى قول المثقب العبدي: [الوافر]
إذا ما قمت أرحلها بليل
تأوه أهة الرجل الحزين
ويروى: آهة.
وروي أن إبراهيم عليه السلام كان يسمع وجيب قلبه من الخشية، كما تسمع أجنحة النسور، وللمفسرين في «الأواه» عبارات كلها ترجع إلى ما ذكرته.
* ت *: روى ابن المبارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا عبد الحميد بن بهرام، قال: حدثنا شهر بن حوشب، قال: حدثني عبد الله بن شداد، قال:
" قال رجل: يا رسول الله، ما الأواه؟ قال: «الأواه الخاشع الدعاء المتضرع؛ قال الله سبحانه: { إن إبرهيم لأواه حليم } » "
انتهى.
و { حليم } معناه: صابر، محتمل، عظيم العقل، والحلم: العقل. وقوله سبحانه: { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم... } الآية: معناه التأنيس للمؤمنين، وقيل: إن بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين، فنزلت الآية مؤنسة، أي: ما كان الله بعد أن هدى إلى الإسلام، وأنقذ من النار ليحبط ذلك، ويضل أهله؛ لمواقعتهم ذنبا لم يتقدم من الله عنه نهي، فأما إذا بين لهم ما يتقون من الأمور، ويتجنبون من الأشياء، فحينئذ من واقع شيئا من ذلك بعد النهي، استوجب العقوبة، وباقي الآية بين.
[9.117-118]
وقوله سبحانه: { لقد تاب الله على النبي والمهجرين والأنصر... } الآية: التوبة من الله تعالى هو رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها، فقد تكون في الأكثر رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها، وهذه توبته سبحانه في هذه الآية على نبيه عليه السلام، وأما توبته على المهاجرين والأنصار، فمعرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق الذي كاد يزيغ، فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا؛ وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: في هذه الآية ذكر الله سبحانه توبة من لم يذنب لئلا يستوحش من أذنب؛ لأنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا، ثم قال: { وعلى الثلثة الذين خلفوا } ، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب، انتهى من «لطائف المنن».
و { ساعة العسرة } يريد: وقت العسرة، والعسرة الشدة، وضيق الحال، والعدم، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:
" من جهز جيش العسرة، فله الجنة "
، فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل، وألف دينار، وجاء أيضا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر، وهذه غزوة تبوك.
* ت *: وعن ابن عباس؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله؛ إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله، فقال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى مالت السماء، فأظلت، ثم سكبت فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر، رواه الحاكم في «مستدركه على الصحيحين»، وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني: مسلما والبخاري انتهى في «السلاح»، ووصل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية ونحوها، وانصرف، والزيغ المذكور هو ما همت به طائفة من الانصراف؛ لما لقوا من المشقة والعسرة. قاله الحسن.
وقيل: زيغها إنما كان بظنون لها ساءت في معنى عزم النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة، لما رأته من شدة الحال وقوة العدو والمقصود، ثم أخبر عز وجل؛ أنه تاب أيضا على هذا الفريق، وراجع به، وأنس بإعلامه للأمة بأنه رؤوف رحيم، والثلاثة الذين خلفوا هم كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم، وهو في السير؛ فلذلك اختصرنا سوقه، وهم الذين تقدم فيهم:
وآخرون مرجون لأمر الله
[التوبة:106]، ومعنى { خلفوا } أخروا، وترك النظر في أمرهم، قال كعب: وليس بتخلفنا عن الغزو، وهو بين من لفظ الآية.
وقوله: { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } ، { ظنوا }؛ هنا بمعنى: أيقنوا، قال الشيخ ابن أبي جمرة رحمه الله: قال بعض أهل التوفيق: « إذا نزلت بي نازلة ما من أي نوع كانت، فألهمت فيها اللجأ، فلا أبالي بها، واللجأ على وجوه؛ منها: الاشتغال بالذكر والتعبد وتفويض الأمر له عز وجل، لقوله تعالى على لسان نبيه:
" من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين "
، ومنها: الصدقة، ومنها: الدعاء، فكيف بالمجموع. انتهى.
وقوله سبحانه: { ثم تاب عليهم ليتوبوا } لما كان هذا القول في تعديد النعم، بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز وجل؛ ليكون ذلك منها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره، ولو كان هذا القول في تعديد ذنب، لكان الابتداء بالجهة التي هي على المذنب، كما قال عز وجل:
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم
[الصف:5] ليكون ذلك أشد تقريرا للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه.
وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا في الكتب المذكورة، فانظره، وإنما عظم ذنبهم، واستحقوا عليه ذلك، لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه، وتقدمهم فيه؛ إذ هم أسوة وحجة للمنافقين، والطاعنين، إذ كان كعب من أهل العقبة، وصاحباه من أهل بدر، وفي هذا ما يقتضي أن الرجل العالم والمقتدى به أقل عذرا في السقوط من سواه، وكتب الأوزاعي رحمه الله إلى أبي جعفر المنصور في آخر رسالة: واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظما، ولا طاعته إلا وجوبا، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا، والسلام.
[9.119-121]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصدقين } هذا الأمر بالكون مع الصادقين حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق، وذهب بهم عن منازل المنافقين، وكان ابن مسعود يتأول الآية في صدق الحديث، وإليه نحا كعب بن مالك.
وقوله سبحانه: { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله... } الآية؛ هذه الآية معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها، على التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وقوة الكلام تعطي الأمر بصحبته أين ما توجه غازيا وبذل النفوس دونه، و«المخمصة» مفعلة من خموص البطن، وهو ضموره واستعير ذلك لحالة الجوع، إذ الخموص ملازم له، ومن ذلك قول الأعشى: [الطويل
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وقوله: { ولا ينالون من عدو نيلا }: لفظ عام لقليل ما يصنعه المؤمنون بالكفرة - من أخذ مال، أو إيراد هوان - وكثيره و { نيلا }: مصدر نال ينال؛ وفي الحديث:
" ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدا إلا ازدادوا من الله قربا ".
* ت *: وروى أبو داود في «سننه»، عن أبي مالك الأشعري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من فصل في سبيل الله، فمات، أو قتل، فهو شهيد، أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد، وإن له الجنة "
، انتهى.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله عز وجل: { ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم }: يعني إلا كتب لهم ثوابه، وكذلك قال في المجاهد: «إن أرواث دوابه وأبوالها حسنات له» وكذلك أعطى سبحانه لأهل العذر من الأجر ما أعطى للقوي العامل بفضله، ففي الصحيح، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الغزوة بعينها: «إن بالمدينة قوما ما سلكتم واديا ولا قطعتم شعبا إلا وهم معكم حبسهم العذر» انتهى.
[9.122]
وقوله سبحانه: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة... } الآية: قالت فرقة: إن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع، لما سمعوا قول الله عز وجل:
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب...
[التوبة:120]، أهمهم ذلك، فنفروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ خشية أن يكونوا عصاة في التخلف عن الغزو، فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك.
وقالت فرقة: سبب هذه الآية أن المنافقين، لما نزلت الآيات في المتخلفين، قالوا: هلك أهل البوادي، فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي.
قال * ع *: فيجيء قوله: { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب }: عموم في اللفظ، والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر، وتجيء هذه الآية مبينة لذلك.
وقالت فرقة: هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال، وقال ابن عباس ما معناه: أن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، وقالت فرقة: يشبه أن يكون التفقه في الغزو وفي السرايا، لما يرون من نصرة الله لدينه، وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين، وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته.
* ع *: والجمهور على أن التفقه إنما هو بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته، وقيل غير هذا.
* ت * وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
" لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفزوا "
، وقد استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في غزوة تبوك، وأعلن بها حسب ما هو مصرح به في حديث كعب بن مالك في «الصحاح»، فكان العتب متوجها على من تأخر عنه بعد العلم، فيظهر والله أعلم، أن الآية الأولى باق حكمها؛ كما قال ابن عباس، وتكون الثانية ليست في معنى الغزو، بل في شأن التفقه في الدين على الإطلاق وهذا هو الذي يفهم من استدلالهم بالآية على فضل العلم، وقد قالت فرقة: إن هذه الآية ليست في معنى الغزو، وإنما سببها قبائل من العرب أصابتهم مجاعة، فنفزوا إلى المدينة لمعنى المعاش، فكادوا يفسدونها، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان، وإنما أضرعه الجوع، فنزلت الآية في ذلك، والإنذار في الآية عام للكفر والمعاصي، والحذر منها أيضا؛ كذلك قال ابن المبارك في «رقائقه» أخبرنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: إذا أراد الله تبارك وتعالى بعبد خيرا، جعل فيه ثلاث خصال: فقها في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصره بعيوبه. انتهى.
[9.123-127]
وقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } قيل: إن هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة، فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام.
قال * ع *: وهذا ضعيف فإن هذه السورة من آخر ما نزل.
وقالت فرقة: معنى الآية أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يليه من الكفرة.
وقوله سبحانه: { وليجدوا فيكم غلظة }: أي: خشونة وبأسا، ثم وعد سبحانه في آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا، وبها يلقى العدو، وقد قال بعض الصحابة: إنما تقاتلون الناس بأعمالكم، ووعد سبحانه أنه مع المتقين، ومن كان الله معه، فلن يغلب.
وقوله تعالى: { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمنا... } الآية: هذه الآية نزلت في شأن المنافقين، وقولهم: { أيكم زادته هذه إيمنا } يحتمل أن يكون لمنافقين مثلهم، أو لقوم من قراباتهم؛ على جهة الاستخفاف والتحقير لشأن السورة، ثم ابتدأ عز وجل الرد عليهم بقوله: { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } وذلك أنه إذا نزلت سورة، حدث للمؤمنين بها تصديق خاص، لم يكن قبل، فتصديقهم بما تضمنته السورة من أخبار وأمر ونهي أمر زائد على الذي كان عندهم قبل، وهذا وجه من زيادة الإيمان.
ووجه آخر؛ أن السورة ربما تضمنت دليلا أو تنبيها على دليل، فيكون المؤمن قد عرف الله بعدة أدلة، فإذا نزلت السورة، زادت في أدلته، ووجه آخر من وجوه الزيادة أن الإنسان ربما عرضه شك يسير، أو لاحت له شبهة مشغبة، فإذا نزلت السورة، ارتفعت تلك الشبهة، وقوي إيمانه وارتقى اعتقاده عن معارضة الشبهات، { الذين في قلوبهم مرض }: هم المنافقون، و«الرجس»؛ في اللغة: يجيء بمعنى القذر، ويجيء بمعنى العذاب، وحال هؤلاء المنافقين هي قذر، وهي عذاب عاجل، كفيل بآجل، وإذا تجدد كفرهم بسورة، فقد زاد كفرهم، فذلك زيادة رجس إلى رجسهم.
وقوله سبحانه: { أولا يرون } يعني: المنافقين، وقرأ حمزة: «أولا ترون» - بالتاء من فوق -؛ على معنى: أولا ترون أيها المؤمنون؛ { أنهم يفتنون } ، أي: يختبرون، وقرأ مجاهد: «مرضة أو مرضتين»، والذي يظهر مما قبل الآية، ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم؛ إذ يعلمون أن ذلك من عند الله، وبهذا تقوم الحجة عليهم، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين.
وقوله سبحانه: { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم }: المعنى: وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرار المنافقين، { نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد }: أي: هل معكم من ينقل عنكم، هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم، { ثم انصرفوا } عن طريق الاهتداء؛ وذلك أنهم وقت كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم، يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو أريد بهم خير، لكان ذلك الوقت مظنة الاهتداء، وقد تقدم بيان قوله: { صرف الله قلوبهم }.
[9.128-129]
وقوله عز وجل: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم... } الآية مخاطبة للعرب في قول الجمهور، وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم؛ إذ جاءهم بلسانهم، وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة، وشرفوا به غابر الدهر.
وقوله: { من أنفسكم }: يقتضي مدحا لنسبه صلى الله عليه وسلم، وأنه من صميم العرب، وشرفها، وقرأ عبد الله بن قسيط المكي: «من أنفسكم» - بفتح الفاء -؛ من النفاسة، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: { ما عنتم }: معناه عنتكم؛ ف «ما» مصدرية، والعنت: المشقة، وهي هنا لفظة عامة، أي: عزيز عليه ما شق عليكم: من قتل وإسار وامتحان؛ بحسب الحق واعتقادكم أيضا معه، { حريص ليكم } أي: على إيمانكم وهداكم.
وقوله: { بالمؤمنين رءوف } أي: مبالغ في الشفقة عليهم، قال أبو عبيدة: الرأفة أرق الرحمة.
ثم خاطب بحانه نبيه بقوله: { فإن تولوا } ، أي: أعرضوا، { فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم }: هذه الآية من آخر ما نزل، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[10 - سورة يونس]
[10.1-2]
قوله عز وجل: { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } المراد ب { الكتب }: القرآن، و { الحكيم }: بمعنى محكم، ويمكن أن يكون: «حكيم» بمعنى ذي حكمة، فهو على النسب.
وقوله عز وجل: { أكان للناس عجبا... } الآية: قال ابن عباس وغيره: سبب هذه الآية استبعاد قريش أن يبعث الله بشرا رسولا، والقدم هنا ما قدم، واختلف في المراد بها ههنا، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم: هي الأعمال الصالحات من العبادات. وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس أيضا وغيره: هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ، وهذا أليق الأقوال بالآية؛ ومن هذه اللفظة قول حسان رضي الله عنه: [الطويل]
لنا القدم العليا إليك وخلفنا
لأولنا في طاعة الله تابع
ومن هذه اللفظة قوله صلى الله عليه وسلم: « حتى يضع الجبار فيها قدمه » أي ما قدم لها، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى، و«الصدق» هنا بمعنى الصلاح، وقال البخاري: قال زيد بن أسلم: { قدم صدق } محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقولهم: { إن هذا لسحر مبين }: إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم، وحال بين القريب وقريبه؛ فأشبه ذلك ما يفعله الساحر في ظنهم القاصر؛ فسموه سحرا.
[10.3-4]
وقوله سبحانه: { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام... } الآية: هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عز وجل وتوحيده، وذكر بعض الناس أن الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة، وفي القدرة أن يقول لها: كن؛ فتكون، إنما هي ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور، قال * ع *: وهذا مما لا يوصل إلى تعليله، وعلى هذا هي الأجنة في البطون، وخلق الثمار، وغير ذلك، والله عز وجل قد جعل لكل شيء قدرا، وهو أعلم بوجه الحكمة في ذلك.
وقوله سبحانه: { يدبر الأمر } يصح أن يريد بالأمر اسم الجنس من الأمور، ويصح أن يريد الأمر الذي هو مصدر أمر يأمر، وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ؛ لأنه قد أحاط بكل شيء علما، قال مجاهد: { يدبر الأمر }: معناه: يقضيه وحده.
وقوله سبحانه: { ما من شفيع إلا من بعد إذنه }؛ رد على العرب في اعتقادها؛ أن الأصنام تشفع لها عند الله.
{ ذلكم الله } أي: الذي هذه صفاته فاعبدوه، ثم قررهم على هذه الآيات والعبر، فقال: { أفلا تذكرون }.
وقوله: { إليه مرجعكم جميعا... } الاية إنباء بالبعث.
وقوله: { يبدأ الخلق } يريد: النشأة الأولى، والإعادة: هي البعث من القبور.
{ ليجزي }: هي لام كي، والمعنى: أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال.
وقوله: { بالقسط }: أي: بالعدل.
وقوله: { الذين كفروا }: ابتداء، والحميم الحار المسخن، وحميم النار فيما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا أدناه الكافر من فيه، تساقطت فروة رأسه» وهو كما وصفه سبحانه:
يشوي الوجوه
[الكهف:29].
[10.5-9]
وقوله سبحانه: { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا... } الآية: هذا استمرار على وصف آياته سبحانه، والتنبيه على صنعته الدالة على وحدانيته، وعظيم قدرته.
وقوله: { قدره منازل }: يحتمل أن يعود الضمير على «القمر» وحده؛ لأنه المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب، ويحتمل أن يريد الشمس والقمر معا، لكنه اجتزأ بذكر أحدهما؛ كما قال:
والله ورسوله أحق أن يرضوه
[التوبة:62].
وقوله: { لتعلموا عدد السنين والحساب } أي: رفقا بكم، ورفعا للالتباس في معايشكم وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ.
وقوله: { لقوم يعلمون }: إنما خصهم، لأن نفع هذا فيهم ظهر.
وقوله سبحانه: { إن في اختلف اليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض... } الآية: آية اعتبار وتنبيه، والآيات: العلامات، وخصص القوم المتقين؛ تشريفا لهم؛ إذ الاعتبار فيهم يقع، ونسبتهم إلى هذه الأشياء المنظور فيها أفضل من نسبة من لم يهتد ولا اتقى.
وقوله سبحانه: { إن الذين لا يرجون لقاءنا... } الآية: قال أبو عبيدة وغيره: { يرجون } ، في هذه الآية: بمعنى يخافون؛ واحتجوا ببيت أبي ذؤيب: [الطويل]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وحالفها في بيت نوب عوامل
وقال ابن سيده والفراء: لفظة الرجاء، إذا جاءت منفية، فإنها تكون بمعنى الخوف، فعلى هذا التأويل معنى الآية: إن الذين لا يخافون لقاءنا، وقال بعض أهل العلم: الرجاء، في هذه الآية: على بابه؛ وذلك أن الكافر المكذب بالبعث لا يحسن ظنا بأنه يلقى الله، ولا له في الآخرة أمل؛ إذ لو كان له فيها أمل؛ لقارنه لا محالة خوف، وهذه الحال من الخوف المقارن هي القائدة إلى النجاة.
قال * ع *: والذي أقول به: إن الرجاء في كل موضع هو على بابه، وأن بيت الهذلي معناه: لم يرج فقد لسعها، قال ابن زيد: هذه الآية في الكفار.
وقوله سبحانه: { ورضوا بالحيوة الدنيا }: يريد: كانت منتهى غرضهم، وقال قتادة في تفسير هذه الآية: إذا شئت رأيت هذا الموصوف صاحب دنيا، لها يغضب، ولها يرضى، ولها يفرح، ولها يهتم ويحزن، فكأن قتادة صورها في العصاة، ولا يترتب ذلك إلا مع تأول الرجاء على بابه؛ لأن المؤمن العاصي مستوحش من آخرته ، فأما على التأويل الأول، فمن لا يخاف الله، فهو كافر.
وقوله: { واطمأنوا بها }: تكميل في معنى القناعة بها، والرفض لغيرها.
وقوله: { والذين هم عن آيتنا غفلون }: يحتمل أن يكون ابتداء إشارة إلى فرقة أخرى، ثم عقب سبحانه بذكر الفرقة الناجية، فقال: { إن الذين آمنوا وعملوا الصلحت يهديهم ربهم... } الآية، الهداية في هذه الآية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يريد أنه يديمهم ويثبتهم.
الثاني: أن يريد أنه يرشدهم إلى طريق الجنان في الآخرة.
وقوله: { إيمنهم } يحتمل أن يريد: بسبب إيمانهم، ويحتمل أن يكون الإيمان هو نفس الهدى، أي، يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم. قال مجاهد: يكون لهم إيمانهم نورا يمشون به، ويتركب هذا التأويل، على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن العبد المؤمن، إذا قام من قبره للحشر تمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح فيقوده إلى الجنة، وبعكس هذا في الكافر "
، ونحو هذا مما أسنده الطبري وغيره.
[10.10]
وقوله سبحانه: { دعوهم }: أي: دعاؤهم فيها و { سبحنك اللهم }: تقديس وتسبيح وتنزيه لجلاله سبحانه عن كل ما لا يليق به، وقال علي بن أبي طالب في ذلك: هي كلمات رضيها الله تعالى لنفسه،
" وقال طلحة بن عبيد الله: " قلت: يا رسول الله؛ ما معنى سبحان الله؟ فقال: معناها: «تنزيها لله من السوء» "
، وحكي عن بعض المفسرين أنهم رووا أن هذه الكلمة إنما يقولها المؤمن عند ما يشتهي الطعام، فإنه إذا رأى طائرا أو غير ذلك، قال: { سبحنك اللهم } ، فنزلت تلك الإرادة بين يديه فوق ما اشتهى. رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة، وعبارة الداوودي عن ابن جريج: « دعواهم فيها»: قال: إذا مر بهم الطائر يشتهونه، كان دعواهم به { سبحنك اللهم } ، فيأكلون منه ما يشتهون، ثم يطير، وإذا جاءتهم الملائكة بما يشتهون، سلموا عليهم، فذلك قوله: { وتحيتهم فيها سلام } ، وإذا أكلوا حاجتهم، قالوا: { الحمد لله رب العلمين } ، فذلك قوله: { وآخر دعوهم أن الحمد لله رب العالمين }.
وقوله سبحانه: { وتحيتهم فيها سلام }: يريد تسليم بعضهم على بعض، والتحية: مأخوذة من تمني الحياة للإنسان والدعاء بها، يقال: حياه ويحييه؛ ومنه قول زهير بن جناب: [الكامل]
من كل ما نال الفتى
قد نلته إلا التحيه
يريد: دعاء الناس للملوك بالحياة، وقال بعض العلماء: { وتحيتهم } يريد: تسليم الله تعالى عليهم، والسلام: مأخوذ من السلامة، { وآخر دعوهم }: أي: خاتمة دعائهم وكلامهم في كل موطن حمد الله وشكره، على ما أسبغ عليهم من نعمه، وقال ابن العربي في «أحكامه». في تفسير هذه الآية قولان:
الأول: أن الملك يأتيهم بما يشتهون، فيقول: سلام عليكم، أي: سلمتم، فيردون عليه، فإذا أكلوا، قالوا: { الحمد لله رب العلمين }.
الثاني: أن معنى «تحيتهم»: أي: تحية بعضهم بعضا، فقد ثبت في الخبر: « أن الله تعالى خلق آدم، ثم قال له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم، فجاءهم، فقال لهم: سلام عليكم، فقالوا له: وعليك السلام ورحمة الله، فقال له: هذه تحيتك، وتحية ذريتك من بعدك إلى يوم القيامة»، وبين في القرآن ههنا أنها تحيتهم في الجنة، فهي تحية موضوعة من أول الخلقة إلى غير نهاية، وقد روى ابن القاسم، عن مالك في قوله تعالى: { وتحيتهم فيها سلام } أي: هذا السلام الذي بين أظهركم، وهذا أظهر الأقوال، والله أعلم. انتهى.
وقرأ الجمهور: «أن الحمد لله»، وهي عند سيبويه «أن» المخففة من الثقيلة؛ قال أبو الفتح: فهي بمنزلة قول الأعشى: [البسيط]
في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كل من يحفى وينتعل
[10.11-14]
وقوله سبحانه: { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم... } الآية: هذه الآية نزلت، في دعاء الرجل على نفسه أو ولده، أو ماله، فأخبر سبحانه أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريد فعله معهم في إجابته إلى الخير، لأهلكهم، وحذف بعد ذلك جملة يتضمنها الظاهر، تقديرها: فلا يفعل ذلك، ولكن يذر { الذين لا يرجون لقاءنا... } الآية، وقيل: إن هذه الآية نزلت في قولهم:
إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
[الأنفال :32]، وقيل: نزلت في قولهم:
فأتنا بما تعدنا
[هود:32]، وما جرى مجراه، والعمه: الخبط في ضلال.
وقوله سبحانه: { وإذا مس الإنسن الضر دعانا لجنبه... } الآية: هذه الآية أيضا عتاب على سوء الخلق من بعض الناس، ومضمنه النهي عن مثل هذا، والأمر بالتسليم إلى الله والضراعة إليه في كل حال، والعلم بأن الخير والشر منه، لا رب غيره، وقوله: { لجنبه } ، في موضع الحال؛ كأنه قال: مضطجعا، والضر عام لجميع الأمراض والرزايا.
وقوله: { مر } يقتضي أن نزولها في الكفار، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص.
وقوله سبحانه: { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم... } الآية: آية وعيد للكفار، وضرب أمثال لهم، و { خلئف }: جمع خليفة.
وقوله: { لننظر }: معناه: لنبين في الوجود ما علمناه أزلا، لكن جرى القول على طريق الإيجاز والفصاحة والمجاز، وقال عمر رضي الله عنه: إن الله تعالى إنما جعلنا خلفاء؛ لينظر كيف عملنا؛ فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية.
[10.15-18]
وقوله سبحانه: { وإذا تتلى عليهم آيتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا } يعني: بعض كفار قريش: { ائت بقرآن غير هذا أو بدله } ، ثم أمر سبحانه نبيه أن يرد عليهم بالحق الواضح، فقال: { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم } ولا أعلمكم به، و { أدركم } بمعنى: أعلمكم، تقول: دريت بالأمر، وأدريت به غيري، ثم قال: { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } يعني: الأربعين سنة قبل بعثته عليه السلام، أي: فلم تجربوني في كذب، ولا تكلمت في شيء من هذا { أفلا تعقلون }؛ أن من كان على هذه الصفة لا يصح منه كذب بعد أن ولى عمره، وتقاصر أمله، واشتدت حنكته وخوفه لربه.
وقوله: { فمن أظلم }: استفهام وتقرير، أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، أو ممن كذب بآياته؛ بعد بيانها، والضمير في { يعبدون } لكفار قريش، وقولهم: { هؤلاء شفعؤنا عند الله }: هذا قول النبلاء منهم، ثم أمر سبحانه نبيه أن يقررهم ويوبخهم بقوله: { أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض } ، وذكر السموات؛ لأن من العرب من يعبد الملائكة والشعرى، وبحسب هذا حسن أن يقول: { هؤلاء شفعؤنا } ، وقيل: ذلك على تجوز في الأصنام التي لا تعقل.
[10.19-21]
وقوله سبحانه: { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } قالت فرقة: المراد آدم كان أمة وحده، ثم اختلف الناس بعده، وقالت فرقة: المراد آدم وبنوه من لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخر، ويحتمل أن يريد: كان الناس صنفا واحدا بالفطرة معدا للاهتداء، وقد تقدم الكلام على هذا في قوله سبحانه:
كان الناس أمة وحدة
[البقرة:213].
وقوله سبحانه: { ولولا كلمة سبقت من ربك } يريد: قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال المؤقتة، ويحتمل أن يريد: الكلمة في أمر القيامة، وأن العقاب والثواب إنما يكون حينئذ.
وقوله: { فقل إنما الغيب لله } أي: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.
وقوله: { فانتظروا }: وعيد.
وقوله سبحانه: { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم... } الآية: هذه الآية في الكفار، وهي بعد تتناول من العصاة من لا يؤدي شكر الله عند زوال المكروه عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير، والرحمة هنا بعد الضراء؛ كالمطر بعد القحط، والأمن بعد الخوف ونحو هذا مما لا ينحصر، والمكر: الاستهزاء والطعن عليها من الكفار واطراح الشكر والخوف من العصاة.
وقال أبو علي: { أسرع } من «سرع» لا من «أسرع يسرع»، إذ لو كان من «أسرع»، لكان شاذا.
قال * ع * وفي الحديث في نار جهنم: « لهي أسود من القار » وما حفظ للنبي صلى الله عليه وسلم، فليس بشاذ. * ص *: ورد بأن «أسود» من «فعل» لا من «افعل»: تقول: سود فهو أسود، وإنما امتنع من «سود» ونحوه عند البصريين؛ لأنه لون. انتهى.
[10.22-25]
وقوله سبحانه: { هو الذي يسيركم في البر والبحر... } الآية: تعديد نعم منه سبحانه على عباده.
وقوله سبحانه: { دعوا الله مخلصين له الدين }: أي: نسوا الأصنام والشركاء، وأفردوا الدعاء لله سبحانه، وذكر الطبري في ذلك، عن بعض العلماء حكاية قول العجم: «هيا شرا هيا»، ومعناه: يا حي يا قيوم»، و { يبغون }: معناه: يفسدون.
وقوله: { متاع الحيوة الدنيا } متاع: خبر مبتدأ محذوف، تقديره هو متاع، أو ذلك متاع، ومعنى الآية: إنما بغيكم وإفسادكم مضر لكم، وهو في حالة الدنيا، ثم تلقون عقابه في الآخرة، قال سفيان بن عيينة: إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا: أي تعجل لكم عقوبته؛ وعلى هذا قالوا: البغي يصرع أهله.
قال * ع *: وقالوا: الباغي مصروع: قال تعالى:
ثم بغي عليه لينصرنه الله
[الحج:60]، وقال النبي عليه السلام:
" ما ذنب أسرع عقوبة من بغي ".
وقوله سبحانه: { إنما مثل الحيوة الدنيا } أي: تفاخر الحياة الدنيا وزينتها بالمال والبنين، إذ مصير ذلك إلى الفناء؛ كمطر نزل من السماء، { فاختلط به نبات الأرض } ، أي: اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، ولفظ البخاري: قال ابن عباس: { فاختلط به نبات الأرض }: فنبت بالماء من كل لون انتهى. و { أخذت الأرض } لفظة كثرت في مثل هذا، كقوله:
خذوا زينتكم
[الأعراف:31] والزخرف: التزيين بالألوان، وقرأ ابن مسعود وغيره: «وتزينت» وهذه أصل قراءة الجمهور.
وقوله: { وظن أهلها }: على بابها، وهذا الكلام فيه تشبيه جملة أمر الحياة الدنيا بهذه الجملة الموصوفة أحوالها، و { حتى } غاية، وهي حرف ابتداء؛ لدخولها على «إذا»، ومعناهما متصل إلى قوله: { قادرون عليها } ، ومن بعد ذلك بدأ الجواب، والأمر الآتي: واحد الأمور؛ كالريح، والصر والسموم، ونحو ذلك، وتقسيمه { ليلا أو نهارا } ، تنبيه على الخوف وارتفاع الأمن في كل وقت، و { حصيدا } ، بمعنى محصودا، أي: تالفا مستهلكا، { كأن لم تغن }: أي: لم تنضر، ولم تنعم، ولم تعمر بغضارتها، ومعنى الآية: التحذير من الاغترار بالدنيا؛ إذ هي معرضة للتلف؛ كنبات هذه الأرض وخص المتفكرين بالذكر؛ تشريفا للمنزلة؛ وليقع التسابق إلى هذه الرتبة.
{ والله يدعوا إلى دار السلم... } الآية: نص أن الدعاء إلى الشرع عام في كل بشر، والهداية التي هي الإرشاد مختصة بمن قدر إيمانه، و { السلم }؛ هنا: قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، والمعنى: يدعو إلى داره التي هي الجنة، وقيل: { السلم } بمعنى السلامة.
[10.26-31]
وقوله سبحانه: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة }: قال الجمهور: { الحسنى }: الجنة، وال { زيادة }: النظر إلى وجه الله عز وجل؛ وفي «صحيح مسلم» من حديث صهيب:
" فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل "
، وفي رواية: ثم تلا هذه الآية: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وأخرج هذه الزيادة النسائي عن صهيب، وأخرجها عن صهيب أيضا أبو داود الطيالسي انتهى. من «التذكرة».
وقوله سبحانه: { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة... } الآية. و { يرهق } معناه: يغشى مع غلبة وتضييق، وال { قتر }: الغبار المسود.
وقوله سبحانه: { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } قالت فرقة: التقدير لهم جزاء سيئة بمثلها، وقالت فرقة: التقدير جزاء سيئة مثلها، والباء زائدة، وتعم السيئات ههنا الكفر والمعاصي، وال { عاصم }: المنجي والمجير، و { أغشيت }: كسيت، و«القطع»: جمع قطعة، وقرأ ابن كثير والكسائي: «قطعا من الليل» - بسكون الطاء -، وهو الجزء من الليل، والمراد: الجزء من سواده، وباقي الآية بين.
و { مكانكم }: اسم فعل الأمر، ومعناه: قفوا واسكنوا، * ت *: قال * ص *: وقدر ب «اثبتوا» وأما من قدره ب «الزموا مكانكم»، فمردود، لأن «الزموا» متعد، و { مكانكم }: لا يتعدى، فلا يقدر به، وإلا لكان متعديا، واسم الفعل على حسب الفعل إن متعديا فمتعد، وإن لازما فلازم، ثم اعتذر بأنه يمكن أن يكون تقديره ب «الزموا» تقدير معنى، لا تقدير إعراب، فلا اعتراض، انتهى.
قال * ع *: فأخبر سبحانه عن حالة تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون بالإقامة في موقف الخزي مع أصنامهم، ثم ينطق الله شركاءهم بالتبري منهم.
وقوله: { فزيلنا بينهم }: معناه: فرقنا في الحجة، والمذهب روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الكفار، إذا رأوا العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، قيل لهم: اتبعوا ما كنتم تعبدون، فيقولون: كنا نعبد هؤلاء، فتقول الأصنام: والله، ما كنا نسمع، ولا نعقل، وما كنتم إيانا تعبدون، فيقولون: والله، لإياكم كنا نعبد، فتقول الآلهة: { فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم... } الآية، وظاهر الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى؛ بدليل القول لهم: { مكانكم أنتم وشركاؤكم } ، ودون فرعون ومن عبد من الجن؛ بدليل قولهم: { إن كنا عن عبادتكم لغفلين } ، و«إن» هذه عند سيبويه المخففة من الثقيلة موجبة، ولزمتها اللام، فرقا بينها وبين «إن» النافية، وعند الفراء: «إن» نافية بمعنى «ما»، واللام بمعنى «إلا»، وقرأ نافع وغيره: «تبلوا» - بالباء الموحدة -؛ بمعنى: تختبر، وقرأ حمزة والكسائي: «تتلوا» - بتاءين -؛ بمعنى تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها * ت *: قال * ص *: كقوله: [الرجز]
إن المريب يتبع المريبا
كما رأيت الذيب يتلو الذيبا
أي: يتبعه. انتهى. ويصح أن يكون بمعنى تقرأ كتبها التي تدفع إليها.
وقوله: { ومن يدبر الأمر... } الآية: تدبير الأمر عام في جميع الأشياء، وذلك استقامة الأمور كلها على إرادته عز وجل، وليس تدبيره سبحانه بفكر وروية وتغييرات - تعالى عن ذلك - بل علمه سبحانه محيط كامل دائم.
{ فسيقولون الله }: أي: لا مندوحة لهم عن ذلك، ولا تمكنهم المباهتة بسواه، فإذا أقروا بذلك، { فقل أفلا تتقون } في افترائكم، وجعلكم الأصنام آلهة.
[10.32-33]
وقوله: { فذلكم الله ربكم... } الآية: يقول: فهذا الذي هذه صفاته ربكم الحق، أي: المستوجب للعبادة والألوهية، وإذا كان كذلك، فتشريك غيره ضلال وغير حق.
قال * ع *: وعبارة القرآن في سوق هذه المعاني تفوت كل تفسير براعة وإيجازا ووضوحا، وحكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها من مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد؛ لأن الكلام فيها إنما في تقرير وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهجا
[المائدة:48].
وقوله: { فأنى تصرفون }: تقرير؛ كما قال:
فأين تذهبون
[التكوير:26] ثم قال: { كذلك حقت } أي: كما كانت صفات الله كما وصف، وعبادته واجبة كما تقرر، وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم، { كذلك حقت كلمت ربك... } الآية، وقرأ أبو عمرو وغيره: «كلمة»؛ على الإفراد الذي يراد به الجمع؛ كما يقال للقصيدة «كلمة» فعبر عن وعيد الله تعالى ب «كلمة».
[10.34-36]
وقوله سبحانه: { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده... } الآية توقيف على قصور الأصنام وعجزها، وتنبيه على قدرة الله عز وجل، و { تؤفكون }: معناه: تصرفون وتحرمون، وأرض مأفوكة؛ إذا لم يصبها مطر، فهي بمعنى الخيبة.
وقوله تعالى: { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق }: أي: يبين طرق الصواب، ثم وصف الأصنام بأنها لا تهدي إلا أن تهدى.
وقوله: { إلا أن يهدى }: فيه تجوز، لأنا نجدها لا تهدى وإن هديت، وقال بعضهم: هي عبارة عن أنها لا تنتقل إلا أن تنقل، ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها، وقرأ نافع وأبو عمرو: «يهدي» - بسكون الهاء، وتشديد الدال -، وقرأ ابن كثير وابن عامر: يهدي - بفتح الياء والهاء، وتشديد الدال - وهذه رواية ورش عن نافع، وقرأ حمزة والكسائي: «يهدي» - بفتح الياء، وسكون الهاء - ومعنى هذه القراءة: «أمن لا يهدي أحدا إلا أن يهدى ذلك الأحد، ووقف القراء: { فما لكم } ، ثم يبدأ: { كيف تحكمون }.
وقوله سبحانه: { وما يتبع أكثرهم إلا ظنا... } الآية: أخبر الله سبحانه عن فساد طريقتهم، وضعف نظرهم، وأنه ظن، ثم بين منزلة الظن من المعارف، وبعده عن الحق.
[10.37-40]
وقوله سبحانه: { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه }: هذا رد لقول من يقول: إن محمدا يفتري القرآن، و { الذي بين يديه }: التوراة والإنجيل، وهم يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب، ولا هي في بلده، ولا في قومه، و { وتفصيل الكتب } هو تبيينه.
وقوله: { أم يقولون افتراه... } الاية: «أم» هذه ليست بالمعادلة لهمزة الاستفهام، في قوله: أزيد قام أم عمرو؟ ومذهب سيبويه: أنها بمنزلة «بل» ثم عجزهم سبحانه بقوله: { قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم... } الآية: والتحدي في هذه الآية عند الجمهور وقع بجهتي الإعجاز اللتين في القرآن:
إحداهما: النظم والرصف والإيجاز والجزالة، كل ذلك في التعريف.
والأخرى: المعاني من الغيب لما مضى، ولما يستقبل.
وحين تحداهم ب «عشر مفتريات» إنما تحداهم بالنظم وحده، ثم قال * ع *: هذا قول جماعة المتكلمين، ثم اختار أن الإعجاز في الآيتين إنما وقع في النظم لا في الإخبار بالغيوب.
* ت *: والصواب ما تقدم للجمهور، وإليه رجع في «سورة هود» وأوجه إعجاز القرآن أكثر من هذا وانظر «الشفا».
وقوله: { من استطعتم }: إحالة على شركائهم.
وقوله سبحانه: { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه... } الآية: المعنى: ليس الأمر كما قالوا من أنه مفترى، { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } ، أي: تفسيره، وبيانه، ويحتمل أن يريد بما لم يأتهم تأويله، أي: ما يؤول إليه أمره؛ كما هو في قوله:
هل ينظرون إلا تأويله
[الأعراف:53] وعلى هذا، فالآية تتضمن وعيدا، و { الذين من قبلهم }: من سلف من أمم الأنبياء.
وقوله سبحانه: { ومنهم من يؤمن به... } الآية: أي: ومن قريش من يؤمن بهذا الرسول، ولهذا الكلام معنيان:
قالت فرقة: معناه: من هؤلاء القوم من سيؤمن في المستقبل، ومنهم من حتم الله عليه أنه لا يؤمن به أبدا.
وقالت فرقة: معناه: ومنهم من يؤمن بهذا الرسول إلا أنه يكتم إيمانه حفظا لرئاسته، أو خوفا من قومه، كالفتية الذين قتلوا مع الكفار ببدر.
قال * ع *: وفائدة الآية على هذا التأويل: التفريق لكلمة الكفار، وإضعاف نفوسهم، وفي قوله: { وربك أعلم بالمفسدين } تهديد ووعيد.
[10.41-45]
وقوله سبحانه: { وإن كذبوك فقل لى عملي ولكم عملكم } الآية فيها منابذة ومتاركة، قال كثير من المفسرين، منهم ابن زيد: هذه الآية منسوخة بالقتال، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { ويوم يحشرهم... } الآية: وعيد بالحشر وخزيهم فيه، وتعارفهم على جهة التلاؤم والخزي من بعضهم لبعض، حيث لا ينفع ذلك.
وقوله سبحانه: { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله... } إلى آخرها: حكم من الله عز وجل على المكذبين بالخسران، وفي اللفظ إغلاظ، وقيل: إن هذا الكلام من كلام المحشورين، على جهة التوبيخ لأنفسهم.
* ت *: والأول أبين.
[10.46-47]
وقوله: { وإما نرينك... } الآية: «إما» شرط، وجوابه: { فإلينا } ، والرؤية في { نرينك } بصرية، ومعنى هذه الآية: الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى، أي: إن أريناك عقوبتهم، أو لم نركها، فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب، ثم مع ذلك، فالله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم، و«ثم» لترتيب الأخبار لا لترتيب القصص في أنفسها، و«إما» هي «إن»، زيدت عليها «ما»، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة، ولو كانت «إن» وحدها، لم يجز.
* ص *: واعترض بأن مذهب سيبويه جواز دخولها، وإن لم تكن «ما» انتهى.
وقوله سبحانه: { ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط }: قال مجاهد وغيره: المعنى: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم، صير قوم للجنة، وقوم للنار، فذلك القضاء بينهم بالقسط.
[10.48-53]
وقوله سبحانه: { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صدقين * قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون... } الآية: الضمير في { يقولون } لكفار قريش، وسؤالهم عن الوعد تحرير منهم - بزعمهم - للحجة أي: هذا العذاب الذي توعدنا به، حدد لنا وقته؛ لنعلم الصدق في ذلك من الكذب، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول على جهة الرد عليهم: { قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله } ، ولكن { لكل أمة أجل } انفرد الله بعلم حده ووقته، وباقي الآية بين.
وقوله: { ماذا يستعجل منه المجرمون }: أي: فما تستعجلون منه، وأنتم لا قبل لكم به، والضمير في «منه» يحتمل أن يعود على الله عز وجل، ويحتمل أن يعود على العذاب.
وقوله: { أثم إذا ما وقع آمنتم به } المعنى: إذا وقع العذاب وعاينتموه، آمنتم حينئذ، وذلك غير نافعكم، بل جوابكم: الآن وقد كنتم تستعجلونه مكذبين به، { ويستنبئونك }: معناه: يستخبرونك، وهي على هذا تتعدى إلى مفعولين؛ أحدهما: الكاف، والآخر: الجملة، وقيل: هي بمعنى يستعلمونك؛ فعلى هذا تحتاج إلى ثلاثة مفاعيل.
* ص *: ورد بأن الاستنباء لا يحفظ تعديه إلى ثلاثة، ولا استعلم الذي هو بمعناه. انتهى.
و { أحق هو } قيل: الإشارة إلى الشرع والقرآن، وقيل: إلى الوعيد؛ وهو أظهر.
وقوله: { إي وربي }: أي: بمعنى «نعم»، وهي لفظة تتقدم القسم، ويجيء بعدها حرف القسم، وقد لا يجيء؛ تقول: إي وربي، وإي ربي، و { معجزين }: معناه مفلتين.
[10.54-56]
وقوله سبحانه: { ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة ... } الآية، و { أسروا }: لفظة تجيء بمعنى «أخفوا»، وهي حينئذ من السر، وتجيء بمعنى «أظهروا»، وهي حينئذ من أسارير الوجه.
* ص *: قال أبو البقاء: وهو مستأنف، وهو حكاية ما يكون في الآخرة.
وقوله تعالى: { ألا إن لله ما في السموات والأرض... } الآية، «ألا» استفتاح وتنبيه، وباقي الآية بين.
[10.57-59]
وقوله سبحانه: { يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم... } الآية: هذه آية خوطب بها جميع العالم، وال { موعظة }: القرآن؛ لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر، ويرقق القلوب، ويعد ويوعد، وهذه صفة «الكتاب العزيز»، وقوله: { من ربكم } يريد: لم يختلقها محمد ولا غيره، و { ما في الصدور }: يريد به الجهل ونحوه، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين فقط، وهذا تفسير صحيح المعنى، إذا تؤمل، بان وجهه.
وقوله سبحانه: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } ، قال ابن عباس وغيره: الفضل: الإسلام، والرحمة: القرآن، وقال أبو سعيد الخدري: الفضل: القرآن، والرحمة: أن جعلهم من أهله.
وقال زيد بن أسلم والضحاك: الفضل: القرآن، والرحمة: الإسلام.
قال * ع *: ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند شيء منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي يقتضيه اللفظ، ويلزم منه أن الفضل: هو هداية الله تعالى إلى دينه، والتوفيق إلى اتباع شرعه، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به، ومعنى الآية: قل، يا محمد، لجميع الناس: بفضل الله ورحمته فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها، فإن قيل: كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية، وقد ورد ذمه في قوله:
لفرح فخور
[هود:10] وفي قوله:
لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين
[القصص:76].
قيل: إن الفرح إذا ورد مقيدا في خير، فليس بمذموم، وكذلك هو في هذه الآية، وإذا ورد مقيدا في شر، أو مطلقا لحقه ذم، إذ ليس من أفعال الآخرة، بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنه على دينه، وخوفه لربه.
وقوله: { مما يجمعون }: يريد: مال الدنيا وحطامها الفاني المردي في الآخرة.
وقوله سبحانه: { قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا... } الآية.
قال * ص *: { أرءيتم }: مضمن معنى: أخبروني، و«ما» موصولة.
قال * ع *: هذه المخاطبة لكفار العرب الذين جعلوا البحائر والسوائب وغير ذلك، وقوله: { أنزل }: لفظة فيها تجوز.
[10.60-61]
وقوله: { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيمة } آية وعيد - لما تحقق عليهم بتقسيم الآية التي قبلها؛ أنهم مفترون على الله - عظم في هذه الآية جرم الافتراء، أي: ظنهم في غاية الرداءة؛ بحسب سوء أفعالهم، ثم ثنى بذكر الفضل على الناس في الإمهال لهم مع الافتراء والعصيان؛ إذ الإمهال لهم داعية إلى التوبة والإنابة، ثم الآية تعم جميع فضل الله سبحانه، وجميع تقصير الخلق.
وقوله سبحانه: { وما تكون في شأن... } الآية: مقصد هذه الآية وصف إحاطة الله عز وجل بكل شيء، لا رب غيره، ومعنى اللفظ: وما تكون يا محمد، والمراد هو وغيره في شأن من جميع الشؤون، { وما تتلوا منه }: الضمير عائد على شأن أي: فيه وبسببه «من قرآن»، ويحتمل أن يعود الضمير على جميع القرآن.
وقال * ص *: ضمير «منه» عائد على «شأن» و { من قرآن }: تفسير للضمير. انتهى. وهو حسن، ثم عم سبحانه بقوله: { ولا تعملون من عمل } ، وفي قوله سبحانه: { إلا كنا عليكم شهودا } تحذير وتنبيه.
* ت * وهذه الآية عظيمة الموقع لأهل المراقبة تثير من قلوبهم أسرارا، ويغترفون من بحر فيضها أنوارا، و { تفيضون } معناه: تأخذون وتنهضون بجد، { وما يعزب }: معناه: وما يغيب { عن ربك من مثقال ذرة } والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ، ويحتمل ما كتبته الحفظة.
[10.62-64]
وقوله سبحانه: { ألآ إن أولياء الله... } الآية: «ألا» استفتاح وتنبيه، و { أولياء الله }: هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة، وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى الله، فهو داخل في أولياء الله، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي،
" وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه سئل، من أولياء الله؟ فقال: «الذين إذا رأيتهم ذكرت الله» ".
قال: * ع *: وهذا وصف لازم للمتقين ؛ لأنهم يخشعون ويخشعون، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال:
" أولياء الله قوم تحابوا في الله، واجتمعوا في ذاته، لم تجمعهم قرابة ولا مال يتعاطونه "
وروى الدارقطني في «سننه» عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" خيار عباد الله الذين إذا رؤوا، ذكر الله، وشر عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب "
انتهى من «الكوكب الدري».
وقوله: { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } يعني: في الآخرة، ويحتمل في الدنيا لا يخافون أحدا من أهل الدنيا، ولا من أعراضها، ولا يحزنون على ما فاتهم منها، والأول أظهر، والعموم في ذلك صحيح: لا يخافون في الآخرة جملة، ولا في الدنيا الخوف الدنيوي.
وذكر الطبري عن جماعة من العلماء مثل ما في الحديث في الأولياء؛ أنهم هم الذين إذا رآهم أحد، ذكر الله، وروي فيهم حديث؛
" أن أولياء الله هم قوم يتحابون في الله ويجعل لهم يوم القيامة منابر من نور، وتنير وجوههم، فهم في عرصات القيامة لا يخافون ولا يحزنون "
وروى عمر بن الخطاب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء؛ لمكانتهم من الله، قالوا: ومن هم، يا رسول الله؟ قال: قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام، ولا أموال... "
الحديث، ثم قرأ: { ألآ إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.
* ت * وقد خرج هذا الحديث أبو داود والنسائي، قال أبو داود في هذا الحديث: فوالله، إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، ذكره بإسناد آخر. انتهى.
ورواه أيضا ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي مالك الأشعري؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس، فقال:
" يأيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله عز وجل »، فقال أعرابي: انعتهم لنا، يا نبي الله، فقال:«هم ناس من أبناء الناس، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله ، وتصافوا فيه، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة، وهم لا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ".
انتهى.
وقوله تعالى: { لهم البشرى... } الآية: أما بشرى الآخرة، فهي بالجنة؛ بلا خلاف قولا واحدا، وذلك هو الفضل الكبير، وأما بشرى الدنيا، فتظاهرت الأحاديث من طرق، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها
" الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له "
، وقال قتادة والضحاك: البشرى في الدنيا: هي ما يبشر به المؤمن عند موته، وهو حي عند المعاينة، ويصح أن تكون بشرى الدنيا ما في القرآن من الآيات المبشرات؛ ويقوى ذلك بقوله: { لا تبديل لكلمات الله } ، ويؤول قوله صلى الله عليه وسلم:« هي الرؤيا » أنه أعطى مثالا يعم جميع الناس.
وقوله سبحانه: { لا تبديل لكلمات الله }: يريد: لا خلف لمواعيده، ولا رد في أمره، وقد أخذ ذلك ابن عمر على نحو غير هذا، وجعل التبديل المنفي في الألفاظ، وذلك أنه روي أن الحجاج خطب، فقال: ألا إن عبد الله بن الزبير قد بدل كتاب الله، فقال له عبد الله بن عمر: إنك لا تطيق ذلك أنت، ولا ابن الزبير؛ لا تبديل لكلمات الله، وقد روي هذا النظر عن ابن عباس في غير مقاولة الحجاج، ذكره البخاري.
[10.65-66]
وقوله تعالى: { ولا يحزنك قولهم }: أي: قول قريش، فهذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولفظة القول تعم جحودهم واستزاءهم وخداعهم وغير ذلك، ثم ابتدأ تعالى، فقال { إن العزة لله جميعا } أي: لا يقدرون لك على شيء، ولا يؤذونك، إلا بما شاء الله، ففي الآية وعيد لهم، ثم استفتح بقوله: { ألآ إن لله من في السموات ومن في الأرض } أي: بالملك والإحاطة.
وقوله تعالى: { وما يتبع }: يصح أن تكون «ما» استفهاما، ويصح أن تكون نافية.
* ت *: ورجح هذا الثاني.
وقوله: { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } «إن»: نافية، و { يخرصون }: معناه: يحدسون ويخمنون.
[10.67-69]
وقوله عز وجل: { هو الذي جعل لكم اليل لتسكنوا فيه... } الآية: في هذه الألفاظ إيجاز وإحالة على ذهن السامع؛ لأن العبرة في أن الليل مظلم يسكن فيه، والنهار مبصر يتصرف فيه، فذكر طرفا من هذا وطرفا من الجهة الثانية، ودل المذكوران على المتروكين.
وقوله: { يسمعون } يريد: يوعون، والضمير في { قالوا } لكفار العرب، ثم الآية بعد تعم كل من قال نحو هذا القول؛ كالنصارى، و { سبحنه } معناه: «تنزيها له، وبراءة من ذلك»؛ فسره بهذا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { إن عندكم من سلطان بهذا } «إن» نافية، والسلطان: الحجة، وكذلك معناه حيث تكرر في القرآن، ثم وبخهم تعالى بقوله: { أتقولون على الله ما لا تعلمون }.
وقوله سبحانه: { إن الذين يفترون... } الآية: توعد لهم بأنهم لا يظفرون ببغية، ولا يبقون في نعمة، إذ هذه حال من يصير إلى العذاب، وإن نعم في دنياه يسيرا.
[10.70-72]
وقوله تعالى: { متع } مرفوع على خبر ابتداء؛ أي: ذلك متاع.
قال * ص *: { متع } جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: كيف لا يفلحون، وهم في الدنيا مفلحون بأنواع التلذذات؟! فقيل: ذلك متاع، فهو خبر مبتدإ محذوف. انتهى، وهذا الذي قدره.
* ص *: يفهم من كلام * ع *.
وقول نوح عليه السلام: { يقوم إن كان كبر عليكم مقامي... } الآية: المقام: وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه، والمقام - بضم الميم -: إقامته ساكنا في موضع أو بلد، ولم يقرأ هنا بضم الميم فيما علمت، وتذكيره: وعظه وزجره، وقوله: { فأجمعوا }: من أجمع الرجل على الشيء، إذا عزم عليه؛ ومنه الحديث: ما لم يجمع مكثا، و { أمركم }: يريد به: قدرتكم وحيلكم، ونصب «الشركاء» بفعل مضمر؛ كأنه قال: وادعوا شركاءكم؛ فهو من باب: [الرجز]
علفتها تبنا وماء باردا
حتى شتت همالة عيناها
وفي مصحف أبي: «فأجمعوا أمركم، وادعوا شركاءكم» قال الفارسي: وقد ينتصب «الشركاء» ب«واو مع»؛ كما قالوا: جاء البرد والطيالسة.
وقوله: { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة }: أي: ملتبسا مشكلا؛ ومنه قوله عليه السلام في الهلال: « فإن غم عليكم».
وقوله: { ثم اقضوا إلي ولا تنظرون }: أي: أنفذوا قضاءكم نحوي، ولا تؤخروني ، والنظرة: التأخير.
[10.73-75]
وقوله سبحانه: { فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف }: مضى شرح هذه المعاني.
وقوله سبحانه: { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين }: مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم يشاركه في معناها جميع الخلق.
وقوله سبحانه: { ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم }: الضمير في { من بعده } عائد على نوح عليه السلام.
وقوله تعالى: { فجاءوهم بالبينت فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين * ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملإيه * بآيتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين }: معنى هذه الآية ضرب المثل لحاضري نبينا محمد عليه السلام؛ ليعتبروا بمن سلف، و { البينت } المعجزات، والضمائر في { ما كانوا ليؤمنوا } وفي { كذبوا } تعود الثلاثة على قوم الرسل، وقيل: الضمير في كذبوا يعود على «قوم نوح» وقد تقدم تفسير نظيرها «في الأعراف».
[10.76-82]
وقوله سبحانه: { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين } الآية: يريد ب { الحق } آيتي العصا واليد.
وقوله: { أسحر هذا }: قالت فرقة: هو حكاية عن موسى عنهم، ثم أخبرهم موسى عن الله؛ أن الساحرين لا يفلحون، ثم اختلفوا في معنى قول قوم فرعون، فقال بعضهم: قالها منهم كل مستفهم جاهل بالأمر، فهو يسأل عنه، وهذا ضعيف، وقال بعضهم: بل قالوا ذلك على معنى التعظيم للسحر الذي رأوه، وقالت فرقة: ليس ذلك حكاية عن موسى عنهم، وإنما هو من كلام موسى، وتقدير الكلام: أتقولون للحق لما جاءكم سحر، ثم ابتدأ يوقفهم بقوله: { أسحر هذا } على جهة التوبيخ.
وقولهم: { لتلفتنا }: أي: لتصرفنا وتلوينا وتردنا عن دين آبائنا، يقال: لفت الرجل عنق الآخر؛ إذا ألواه، ومنه قولهم: التفت؛ فإنه افتعل من لفت عنقه إذا ألواه، و { الكبرياء }: مصدر من الكبر، والمراد به في هذا الموضع الملك؛ قاله أكثر المتأولين؛ لأنه أعظم تكبر الدنيا، وقرأ أبو عمرو وحده: «به آلسحر» - بهمزة استفام ممدودة -، وفي قراءة أبي: «ما أتيتم به سحر»، والتعريف هنا في السحر أرتب؛ لأنه تقدم منكرا في قولهم: { إن هذا لسحر } ، فجاء هنا بلام العهد .
قال * ص *: قال الفراء: إنما قال: «السحر» ب «أل»، لأن النكرة إذا أعيدت، أعيدت ب «أل»، وتبعه ابن عطية، ورد بأن شرط ما ذكراه اتحاد مدلول النكرة المعادة؛ كقوله تعالى:
كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول
[المزمل:15،16] وهنا السحر المنكر هو ما أتى به موسى، والمعروف ما أتوا به هم، فاختلف مدلولهما، والاستفهام هنا: على سبيل التحقير. انتهى. وهو حسن.
وقوله: { إن الله سيبطله }: إيجاب عن عدة من الله تعالى.
وقوله: { إن الله لا يصلح عمل المفسدين }: يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله عز وجل، ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السلام، وكذلك قوله: { ويحق الله الحق... } الآية، محتمل للوجهين، وكون ذلك كله من كلام موسى أقرب، وهو الذي ذكر الطبري، وأما قوله: { بكلمته }: فمعناه بكلماته السابقة الأزلية في الوعد بذلك.
[10.83-86]
وقوله عز وجل: { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإيهم } اختلف المتأولون في عود الضمير الذي في { قومه } ، فقالت فرقة: هو عائد على موسى، وذلك في أول مبعثه، وملأ الذرية، هم أشراف بني إسرائيل.
قال * ص *: وهذا هو الظاهر، وقالت فرقة: الضمير في { قومه } عائد على { فرعون } ، وضمير { ملإيهم } عائد على الذرية.
قال * ع *: ومما يضعف عود الضمير على موسى: أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوما تقدمت فيهم النبوات، ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به، فدل على أن الذرية من قوم فرعون.
وقوله سبحانه: { وقال موسى يقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا... } الآية: هذا ابتداء حكاية قول موسى لجماعة بني إسرائيل؛ مؤنسا لهم، ونادبا إلى التوكل على الله عز وجل الذي بيده النصر قال المحاسبي: قلت لأبي جعفر محمد بن موسى: إن الله عز وجل يقول:
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
[المائدة:23] فما السبيل إلى هذا التوكل الذي ندب الله إليه، وكيف دخول الناس فيه؟ قال: إن الناس متفاوتون في التوكل، وتوكلهم على قدر إيمانهم وقوة علومهم، قلت: فما معنى إيمانهم ؟ قال: تصديقهم بمواعيد الله عز وجل، وثقتهم بضمان الله تبارك وتعالى، قلت: من أين فضلت الخاصة منهم على العامة، والتوكل في عقد الإيمان مع كل من آمن بالله عز وجل؟ قال: إن الذي فضلت به الخاصة على العامة دوام سكون القلب عن الاضطراب والهدو عن الحركة، فعندها، يا فتى، استراحوا من عذاب الحرص، وفكوا من أسر الطمع، وأعتقوا من عبودية الدنيا، وأبنائها، وحظوا بالروح في الدارين جميعا، فطوبى لهم وحسن مآب، قلت: فما الذي يولد هذا؟ قال: حالتان:
دوام لزوم المعرفة، والاعتماد على الله عز وجل، وترك الحيل.
والثانية: الممارسة حتى يألفها إلفا، ويختارها اختيارا، فيصير التوكل والهدو والسكون والرضا والصبر له شعارا ودثارا. انتهى من «كتاب القصد إلى الله سبحانه».
وقولهم: { ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظلمين }: المعنى: لا تنزل بنا بلاء بأيديهم أو بغير ذلك مدة محاربتنا لهم؛ فيفتنون لذلك، ويعتقدون صلاح دينهم، وفساد ديننا؛ قاله مجاهد وغيره، فهذا الدعاء على هذا التأويل يتضمن دفع فصلين:
أحدهما: القتل والبلاء الذي توقعه المؤمنون.
والآخر: ظهور الشرك باعتقاد أهله أنهم أهل الحق.
ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم: « بئس الميت أبو أمامة» لأن اليهود والمشركين يقولون: لو كان نبيا لم يمت صاحبه.
ورجح * ع * في «سورة الممتحنة: 5» قول ابن عباس: إن معنى: { لا تجعلنا فتنة للذين كفروا }: لا تسلطهم علينا؛ فيفتنونا؛ انظره هناك.
[10.87-91]
وقوله سبحانه: { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا } روي: أن فرعون أخاف بني إسرائيل، وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة، ونحو هذا، فأوحى الله إلى موسى وهارون، أن تبوءا أي: اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بمصر بيوتا، قال مجاهد: مصر؛ في هذه الآية: الإسكندرية، ومصر ما بين أسوان والإسكندرية.
وقوله سبحانه: { واجعلوا بيوتكم قبلة }: قيل: معناه: مساجد، قاله ابن عباس وجماعة، قالوا: خافوا، فأمروا بالصلاة في بيوتهم، وقيل: معناه موجهة إلى القبلة؛ قاله ابن عباس، ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
" خير بيوتكم ما استقبل به القبلة ".
وقوله: { وأقيموا الصلاة }: خطاب لبني إسرائيل، وهذا قبل نزول التوراة؛ لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر.
وقوله: { وبشر المؤمنين }: أمر لموسى عليه السلام، وقال الطبري ومكي: هو أمر لنبينا محمد عليه السلام، وهذا غير متمكن.
وقوله سبحانه: { وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينة... } الآية: هذا غضب من موسى على القبط، ودعاء عليهم، لما عتوا وعاندوا، وقدم للدعاء تقرير نعم الله عليهم وكفرهم بها، و { ءاتيت } معناه: أعطيت، واللام في { ليضلوا } لام كي، ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة، المعنى: آتيتهم ذلك، فصار أمرهم إلى كذا، وقرأ حمزة وغيره: «ليضلوا» (بضم الياء)؛ على معنى: ليضلوا غيرهم.
وقوله: { ربنا اطمس على أمولهم }: هو من طموس الأثر والعين؛ وطمس الوجوه منه، وتكرير قوله: { ربنا } استغاثة؛ كما يقول الداعي: يا الله، يا الله، روي أنهم حين دعا موسى بهذه الدعوة، رجع سكرهم حجارة، ودراهمهم ودنانيرهم وحبوب أطعمتهم، رجعت حجارة؛ قاله قتادة وغيره، وقال مجاهد وغيره: معناه: أهلكها ودمرها.
وقوله: { واشدد على قلوبهم }: بمعنى: اطبع واختم عليهم بالكفر؛ قاله مجاهد والضحاك.
وقوله: { فلا يؤمنوا }: مذهب الأخفش وغيره: أن الفعل منصوب؛ عطفا على قوله: { ليضلوا } ، وقيل: منصوب في جواب الأمر، وقال الفراء والكسائي: هو مجزوم على الدعاء، وجعل رؤية العذاب نهاية وغاية؛ وذلك لعلمه من الله أن المؤمن عند رؤية العذاب لا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت، ولا يخرجه من كفره، ثم أجاب الله دعوتهما، قال ابن عباس: العذاب هنا: الغرق، وروي أن هارون كان يؤمن على دعاء موسى؛ فلذلك نسب الدعوة إليهما؛ قاله محمد بن كعب القرظي، قال البخاري: { وعدوا }: من العدوان. انتهى.
وقول فرعون: { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل... } الآية: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن جبريل عليه السلام قال: ما أبغضت أحدا قط بغضي لفرعون، ولقد سمعته يقول: { ءامنت... } الآية، فأخذت من حال البحر، فملأت فمه؛ مخافة أن تلحقه رحمة الله "
، وفي بعض الطرق: « مخافة أن يقول لا إله إلا الله، فتلحقه الرحمة
». قال * ع *: فانظر إلى كلام فرعون، ففيه مجهلة وتلعثم، ولا عذر لأحد في جهل هذا، وإنما العذر فيما لا سبيل إلى علمه، كقول علي رضي الله عنه: أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، والحال: الطين، والآثار بهذا كثيرة مختلفة الألفاظ، والمعنى واحد.
وقوله سبحانه: { آلآن وقد عصيت قبل } ، وهذا على جهة التوبيخ له، والإعلان بالنقمة منه، وهذا الكلام يحتمل أن يكون من ملك موصل عن الله، أو كيف شاء الله، ويحتمل أن يكون هذا الكلام معنى حاله وصورة خزيه، وهذه الآية نص في رد توبة المعاين.
[10.92-93]
وقوله سبحانه: { فاليوم ننجيك ببدنك... } الآية: يقوي أنه صورة حاله؛ لأن هذه الألفاظ إنما يظهر أنها قيلت بعد غرقه، وسبب هذه المقالة؛ على ما روي: أن بني إسرائيل بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه، لعظمه في نفوسهم، وكذب بعضهم أن يكون فرعون يموت، فنجي على نجوة من الأرض، حتى رآه جميعهم ميتا؛ كأنه ثور أحمر، وتحققوا غرقه.
والجمهور على تشديد { ننجيك }؛ فقالت فرقة: معناه: من النجاة، أي: من غمرات البحر والماء، وقال جماعة: معناه: نلقيك على نجوة من الأرض، وهي: ما ارتفع منها، وقرأ يعقوب بسكون النون وتخفيف الجيم، وقوله: { ببدنك } قالت فرقة: معناه: بشخصك، وقالت فرقة: معناه: بدرعك، وقرأ الجمهور: «خلفك» أي: من أتى بعدك، وقرىء شاذا: «لمن خلفك» - بفتح اللام -، والمعنى: ليجعلك الله آية له في عباده، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { ولقد بوأنا بني إسرءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم }: المعنى: ولقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار، وأحللناهم من الأماكن أحسن محل، و { مبوأ صدق }: أي: يصدق فيه ظن قاصده وساكنه، ويعني بهذه الآية إحلالهم بلاد الشام وبيت المقدس؛ قاله قتادة وابن زيد، وقيل: بلاد الشام ومصر، والأول أصح، وقوله سبحانه: { فما اختلفوا } أي: في نبوة نبينا محمد عليه السلام، وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين كلهم، وهو تأويل يحتاج إلى سند، والتأويل الثاني الذي يحتمله اللفظ: أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله، فلما جاءهم العلم والأوامر، وغرق فرعون، اختلفوا، فالآية ذامة لهم.
* ت *: فر رحمه الله من التخصيص، فوقع فيه، فلو عمم اختلافهم على أنبيائهم موسى وغيره، وعلى نبينا، لكان أحسن، وما ذهب إليه المتأولون من التخصيص أحسن لقرينة قوله: { فإن كنت في شك } ، فالربط بين الآيتين واضح، والله أعلم.
[10.94-97]
وقوله عز وجل: { فإن كنت في شك... } الآية: الصواب في معنى الآية: أنها مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض.
* ت *: وروينا عن أبي داود سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" المراء في القرآن كفر "
، قال عياض في «الشفا»: تأول بمعنى «الشك»، وبمعنى «الجدال». انتهى.
{ الذين يقرءون الكتب من قبلك }: من أسلم من أهل الكتاب، كابن سلام وغيره، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية: « أنا لا أشك ولا أسأل»، ثم جزم سبحانه الخبر بقوله: { لقد جاءك الحق من ربك } ، واللام في «لقد» لام قسم.
وقوله: { مما أنزلنا إليك } يريد به: من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في أمره إلا من بعد مجيئه عليه السلام؛ هذا قول أهل التأويل قاطبة.
قال * ع *: وهذا هو الذي يشبه أن ترجى إزالة الشك فيه من قبل أهل الكتاب، ويحتمل اللفظ أن يريد ب { ما أنزلنا } جميع الشرع.
* ت *: وهذا التأويل عندي أبين إذا لخص، وإن كان قد استبعده * ع *: ويكون المراد ب { ما أنزلنا }: ما ذكره سبحانه من قصصهم، وذكر صفته عليه السلام، وذكر أنبيائهم وصفتهم وسيرهم وسائر أخبارهم الموافقة لما في كتبهم المنزلة على أنبيائهم؛ كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف، وتكون هذه الآية تنظر إلى قوله سبحانه:
ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه...
[يوسف:111]، فتأمله، والله أعلم.
وأما قوله: هذا قول أهل التأويل قاطبة ، فليس كذلك، وقد تكلم صاحب «الشفا» على الآية، فأحسن، ولفظه: واختلف في معنى الآية، فقيل: المراد: قل يا محمد للشاك: { إن كنت في شك... } الآية، قالوا: وفي السورة نفسها ما دل على هذا التأويل، وهو قوله تعالى:
قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني...
الآية [يونس:104]، ثم قال عياض: وقيل: إن هذا الشك: الذي أمر غير النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الذين يقرؤون الكتاب عنه، إنما هو في ما قصه الله تعالى من أخبار الأمم، لا فيما دعا إليه من التوحيد والشريعة. انتهى.
وقوله سبحانه: { فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيت الله... } الآية: مما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد سواه.
قال * ع *: ولهذا فائدة ليست في مخاطبة الناس به، وذلك شدة التخويف؛ لأنه إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من مثل هذا، فغيره من الناس أولى أن يحذر ويتقى على نفسه.
وقوله سبحانه: { إن الذين حقت عليهم كلمت ربك }: أي: حق عليهم في الأزل وخلقهم لعذابه { لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية } إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإيمان؛ كما صنع فرعون وأشباهه، وذلك وقت المعاينة.
[10.98-100]
وقوله سبحانه: { فلولا كانت قرية آمنت... } الآية: وفي مصحف أبي وابن مسعود: «فهلا»، والمعنى فيهما واحد، وأصل «لولا» التحضيض، أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره، ومعنى الآية: فهلا آمن أهل قرية، وهم على مهل لم يتلبس العذاب بهم، فيكون الإيمان نافعا لهم في هذا الحال، ثم استثنى قوم يونس، فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وهو بحسب المعنى متصل لأن تقديره: ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس، وروي في قصة قوم يونس: أن القوم لما كفروا، أي: تمادوا على كفرهم، أوحى الله تعالى إليه؛ أن أنذرهم بالعذاب لثالثة، ففعل، فقالوا: هو رجل لا يكذب، فارقبوه فإن أقام بين أظهركم، فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم، فهو نزول العذاب لا شك فيه، فلما كان الليل، تزود يونس، وخرج عنهم، فأصبحوا فلم يجدوه، فتابوا ودعوا الله، وآمنوا، ولبسوا المسوح، وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وكان العذاب فيما روي عن ابن عباس: على ثلثي ميل منهم، وروي: على ميل، وقال ابن جبير: غشيهم العذاب؛ كما يغشى الثوب القبر، فرفع الله عنهم العذاب، فلما مضت الثالثة، وعلم يونس أن العذاب لم ينزل بهم، قال: كيف أنصرف، وقد وجدوني في كذب، فذهب مغاضبا؛ كما ذكر الله سبحانه في غير هذه الآية، وذهب الطبري إلى أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين، وليس كذلك، والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبس العذاب أو الموت بشخص الإنسان، كقصة فرعون، وأما قوم يونس فلم يصلوا هذا الحد.
* ت *: وما قاله الطبري عندي أبين، { ومتعناهم إلى حين }: يريد: إلى آجالهم المقدرة في الأزل، وروي أن قوم يونس كانوا ب«نينوى» من أرض الموصل.
وقوله سبحانه: { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }: المعنى: أفأنت تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم، والله عز وجل قد شاء غير ذلك، و { الرجس } هنا بمعنى العذاب.
[10.101-103]
وقوله سبحانه: { قل انظروا ماذا في السموات والأرض... } الآية: هذه الآية أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع من آيات السموات وأفلاكها وكواكبها وسحابها ونحو ذلك، والأرض ونباتها ومعادنها وغير ذلك، المعنى: انظروا في ذلك بالواجب، فهو ينهيكم إلى المعرفة بالله وبوحدانيته، ثم أخبر سبحانه أن الآيات والنذر - وهم الأنبياء - لا تغني إلا بمشيئته؛ ف «ما»؛ على هذا: نافية، ويجوز أن تكون استفهاما في ضمنه نفي وقوع الغنى، وفي الآية على هذا: توبيخ لحاضري النبي صلى الله عليه وسلم.
قال * ص *: و { النذر }: جمع نذير، إما مصدر بمعنى الإنذارات، وإما بمعنى منذر. انتهى.
وقوله سبحانه: { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم... } الآية: وعيد إذا لجوا في الكفر، حل بهم العذاب.
وقوله سبحانه: { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا }: أي: عادة الله سلفت بإنجاء رسله ومتبعيهم عند نزول العذاب بالكفرة { كذلك حقا علينا ننج المؤمنين }.
قال * ص *: أي: مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ننجي من آمن بك. انتهى، وخط المصحف في هذه اللفظة «ننج» بجيم مطلقة دون ياء، وكلهم «قرأ ننج» - مشددة الجيم - إلا الكسائي وحفصا عن عاصم؛ فإنهما قرآ بسكون النون وتخفيف الجيم.
[10.104-107]
وقوله سبحانه: { قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني... } الآية، مخاطبة عامة للناس أجمعين إلى يوم القيامة.
وقوله: { وأن أقم وجهك للدين... } الآية: الوجه في هذه الآية بمعنى المنحى والمقصد، أي: اجعل طريقك واعتمالك للدين والشرع.
وقوله تعالى: { ولا تكونن من المشركين * ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك... } الآية، قد تقدم أن ما كان من هذا النوع، فالخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره.
وقوله سبحانه: { وإن يمسسك الله بضر فلا كشف له إلا هو... } الآية: مقصود هذه الآية أن الحول والقوة لله، وال { ضر } لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان.
وقوله: { وإن يردك بخير } لفظ تام العموم.
[10.108-109]
وقوله سبحانه: { قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه }: هذه مخاطبة لجميع الكفار ومستمرة مدى الدهر، و { الحق }: هو القرآن والشرع الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { وما أنا عليكم بوكيل }: منسوخة بالقتال.
وقوله سبحانه: { واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحكمين }. قوله: { حتى يحكم الله }: وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يغلبهم، كما وقع، وهذا الصبر منسوخ أيضا بالقتال، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
[11 - سورة هود]
[11.1-4]
قوله عز وجل: { الر كتاب أحكمت آيته } أي: أتقنت وأجيدت، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل، ثم فصل بتقطيعه، وتبيين أحكامه وأوامره على محمد نبيه عليه السلام في أزمنة مختلفة؛ ف «ثم» على بابها، فالإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب بأجمعه محكم ومفصل، والإحكام الذي هو ضد النسخ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك.
قال * ص *: { ثم فصلت }: «ثم» لترتيب الأخبار؛ لا لترتيب الوقوع في الزمان، و { لدن } بمعنى: «عند». انتهى.
قال الداوودي: وعن الحسن: { أحكمت ءايته }: قال: أحكمت بالأمر والنهي، ثم فصلت بالوعد والوعيد، وعنه: فصلت بالثواب والعقاب. انتهى. وقدم ال { نذير }؛ لأن التحذير من النار هو الأهم. { وأن استغفروا ربكم } ، أي: اطلبوا مغفرته؛ وذلك بطلب دخولكم في الإسلام، { ثم توبوا } من الكفر { يمتعكم متاعا حسنا } ، ووصف المتاع بالحسن؛ لطيب عيش المؤمن برجائه في ثواب ربه، وفرحه بالتقرب إليه بأداء مفترضاته، والسرور بمواعيده سبحانه، والكافر ليس في شيء من هذا، { ويؤت كل ذي فضل } ، أي: كل ذي إحسان { فضله } ، فيحتمل أن يعود الضمير من «فضله» على «ذي فضل» أي: ثواب فضله، ويحتمل أن يعود على الله عز وجل، أي: يؤتى الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين، ونحو هذا المعنى ما وعد به سبحانه من تضعيف الحسنات، { وإن تولوا فإني أخاف عليكم } ، أي: فقل: إني أخاف عليكم عذاب يوم كبير، وهو يوم القيامة.
[11.5-8]
وقوله سبحانه: { ألا إنهم يثنون صدورهم... } الآية: قيل: إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم؛ كالمتستر، وردوا إليه ظهورهم، وغشوا وجوههم بثيابهم، تباعدا منهم، وكراهية للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه، أو عن الله عز وجل، وقيل: هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه، فمعنى الآية: ألا إنهم يسرون العداوة، ويتكتمون بها، لتخفى في ظنهم عن الله وهو سبحانه حين تغشيهم بثيابهم، وإبلاغهم في التستر، يعلم ما يسرون، و { يستغشون }: معناه يجعلونها أغشية وأغطية.
قال * ص *: قرأ الجمهور: «يثنون» - بفتح الياء -؛ مضارع ثنى الشيء ثنيا: طواه. انتهى، وقرأ ابن عباس وجماعة: «تثنوني صدورهم» - بالرفع -؛ على وزن «تفعوعل»، وهي تحتمل المعنيين المتقدمين، وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة. أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويستغشون ثيابهم؛ كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء.
وقوله عز وجل: { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها... } الآية، المراد جميع الحيوان المحتاج إلى رزق، والمستقر: صلب الأب، و«المستودع»: بطن الأم، وقيل غير هذا، وقد تقدم.
وقوله: { في كتب }: إشارة إلى اللوح المحفوظ.
قال * ص *: { ليبلوكم } اللام متعلقة ب«خلق» وقيل: بفعل محذوف، أي: أعلم بذلك ليبلوكم، انتهى.
{ ولئن قلت }: اللام في «لئن»: مؤذنة بأن اللام في { ليقولن } لام قسم، لا جواب شرط، وقولهم: { إن هذا إلا سحر مبين } تناقض منهم؛ لأنهم مقرون بأن الله خلق السموات والأرض، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر من ذلك، وهو البعث من القبور، وإذ خلق السموات والأرض، أكبر من خلق الناس.
{ ولئن أخرنا عنهم العذاب } ، أي: المتوعد به { إلى أمة معدودة } ، أي مدة معدودة { ليقولن ما يحبسه } ، أي: ما هذا الحابس لهذا العذاب؛ على جهة التكذيب، { وحاق }: معناه: حل وأحاط. البخاري: حاق: نزل.
[11.9-13]
{ ولئن أذقنا الإنسن منا رحمة... } الآية: «الرحمة» هنا: تعم جميع ما ينتفع به من مطعوم وملبوس وجاه وغير ذلك، و { الإنسن } هنا اسم جنس، والمعنى: إن هذا الخلق في سجية الإنسان، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح، و { كفور } هنا: من كفر النعمة، وال { نعماء }: تشمل الصحة والمال، وال { ضراء }: من الضر، وهو أيضا شامل؛ ولفظة { ذهب السيئات عني }: يقتضي بطرا وجهلا أن ذلك بإنعام من الله تعالى، و { السيئات } هنا: كل ما يسوء في الدنيا، وال { فرح }؛ هنا: مطلق؛ فلذلك ذم، إذ الفرح انهمال النفس، ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحا إلا إذا قيد بأنه في خير.
وقوله: { إلا الذين صبروا }: استثناء متصل؛ على ما قدمنا من أن الإنسان عام يراد به الجنس؛ وهو الصواب، ومن قال: إنه مخصوص بالكافر قال: ههنا الاستثناء منقطع، وهو قول ضعيف من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ؛ لأن صفة الكفر لا تطلق على جميع الناس؛ كما تقتضي لفظة الإنسان واستثنى الله تعالى من الماشين على سجية الإنسان هؤلاء الذين حملتهم الأديان على الصبر على المكاره، والمثابرة على عبادة الله، وليس شيء من ذلك في سجية البشر، وإنما حمل على ذلك خوف الله وحب الدار الآخرة، والصبر على العمل الصالح لا ينفع إلا مع هداية وإيمان، ثم وعد تعالى أهل هذه الصفة بالمغفرة للذنوب والتفضل بالأجر والنعيم.
وقوله سبحانه: { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز }: سبب هذه الآية: أن كفار قريش قالوا: يا محمد، لو تركت سب آلهتنا، وتسفيه آبائنا، لجالسناك واتبعناك، وقالوا له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال، فخاطب الله تعالى نبيه عليه السلام على هذه الصورة من المخاطبة، ووقفه بها توقيفا رادا على أقوالهم ومبطلا لها، وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك، فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره به، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان.
قال * ص، وع *: وعبر ب { ضآئق } وإن كان أقل استعمالا من «ضيق» لمناسبة { تارك }؛ ولأن { ضآئق } وصف عارض؛ بخلاف «ضيق»؛ فإنه يدل على الثبوت، والصالح هنا الأول بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، والضمير في «به» عائد على البعض، ويحتمل أن يعود على «ما» و { أن يقولوا } أي: كراهة أن يقولوا، أو لئلا يقولوا، ثم آنسه تعالى بقوله: { إنما أنت نذير } ، أي: هذا القدر هو الذي فوض إليك، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء، وكفر من شاء { أم يقولون افتراه }: «أم» بمعنى: «بل»، والافتراء أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر.
وقوله سبحانه: { قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صدقين } تقدم تفسير نظيرها، وقال بعض الناس: هذه الآية متقدمة على التي في يونس؛ إذ لا يصح أن يعجزوا في واحدة، ثم يكلفوا عشرا.
قال * ع *: وقائل هذا القول لم يلحظ ما ذكرناه من الفرق بين التكليفين، في كمال المماثلة مرة كما هو في «سورة يونس»، ووقوفها على النظم مرة كما هو هنا، وقوله: { إن كنتم صدقين }: يريد في أن القرآن مفترى.
[11.14-21]
وقوله سبحانه: { فإلم يستجيبوا لكم } ، لهذه الآية تأويلان:
أحدهما: أن تكون المخاطبة من النبي صلى الله عليه وسلم للكفار، أي: ويكون ضمير { يستجيبوا }؛ على هذا التأويل عائدا على معبوداتهم.
والثاني: أن تكون المخاطبة من الله تعالى للمؤمنين، ويكون قوله؛ على هذا { فاعلموا } بمعنى: دوموا على علمكم قال مجاهد: قوله تعالى: { فهل أنتم مسلمون }: هو لأصحاب محمد عليه السلام.
وقوله سبحانه: { من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها... } الآية: قالت قتادة وغيره: هي في الكفرة، وقال مجاهد: هي في الكفرة وأهل الرياء من المؤمنين.
وإليه ذهب معاوية، والتأويل الأول أرجح؛ بحسب تقدم ذكر الكفار، وقال ابن العربي في «أحكامه»: بل الآية عامة في كل من ينوي غير الله بعمله، كان معه إيمان أو لم يكن، وفي هذه الآية بيان لقوله صلى الله عليه وسلم:
" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى "
، وذلك أن العبد لا يعطى إلا على وجه قصده، وبحكم ما ينعقد في ضميره، وهذا أمر متفق عليه.
وقوله: { نوف إليهم أعمالهم فيها }: قيل: ذلك في صحة أبدانهم وإدرار أرزاقهم، وقيل: إن هذه الآية مطلقة، وكذلك التي في «حم عسق »:
من كان يريد حرث الأخرة نزد له في حرثه
[الشورى:20] الآية إلى آخرها، قيدتهما وفسرتهما الآية التي في «سورة سبحان»، وهي قوله تعالى:
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد...
الآية [الإسراء:18]، فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد، والله يحكم ما يريد، ثم ذكر ابن العربي الحديث الصحيح في النفر الثلاثة الذين كانت أعمالهم رياء، وهم رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، وقول الله لكل واحد منهم: «ماذا عملت؟» ثم قال في آخر الحديث: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي، وقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار، ثم قرأ قوله تعالى: { أولئك الذين ليس لهم في الأخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها } ، أي: في الدنيا وهذا نص في مراد الآية، والله أعلم. انتهى.
و { حبط }: معناه: بطل وسقط، وهي مستعملة في فساد الأعمال.
قال * ص *: قوله: { ما صنعوا }: «ما» بمعنى: «الذي»، أو مصدرية، و«فيها»: متعلق ب «حبط»، والضمير في «فيها» عائد على الآخرة، أي: ظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة، أو متعلق ب «صنعوا»؛ فيكون عائدا على الدنيا. انتهى.
و«ال { باطل }: كل ما تقتضي ذاته ألا تنال به غاية في ثواب ونحوه، وقوله سبحانه: { أفمن كان على بينة من ربه }: في الآية تأويلات.
قال * ع *: والراجح عندي من الأقوال في هذه الآية: أن يكون «أفمن» للمؤمنين، أو لهم وللنبي صلى الله عليه وسلم معهم، وال { بينة }: القرآن وما تضمن، وال { شاهد }: الإنجيل، يريد: أو إعجاز القرآن في قول، والضمير في «يتلوه» للبينة، وفي «منه» للرب، والضمير في «قبله» للبينة أيضا، وغير هذا مما ذكر محتمل، فإن قيل: إذا كان الضمير في «قبله» عائدا على القرآن، فلم لم يذكر الإنجيل، وهو قبله، وبينه وبين كتاب موسى؟، فالجواب: أنه خص التوراة بالذكر؛ لأنه مجمع عليه، والإنجيل ليس كذلك؛ لأن اليهود تخالف فيه، فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الجميع أولى، وهذا يجري مع قول الجن:
إنا سمعنا كتبا أنزل من بعد موسى
[الأحقاف:30] والأحزاب؛ ههنا يراد بهم جميع الأمم، وروى سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا من اليهود والنصارى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار "
، قال سعيد: فقلت: أين مصداق هذا في كتاب الله؟ حتى وجدته في هذه الآية، وكنت إذا سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت مصداقه في كتاب الله عز وجل، وقرأ الجمهور: «في مرية» - بكسر الميم -، وهو الشك، والضمير في «منه» عائد على كون الكفرة موعدهم النار، وسائر الآية بين.
وقوله تعالى: { ويقول الأشهاد }: قالت فرقة: يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة، وقالت فرقة: الأشهاد: بمعنى المشاهدين، ويريد جميع الخلائق، وفي ذلك إشادة بهم وتشهير لخزيهم، وروي في نحو هذا حديث: « أنه لا يخزى أحد يوم القيامة إلا ويعلم ذلك جميع من شهد المحشر »، وباقي الآية بين مما تقدم في غيرها.
قال * ص *: وقوله: { ألا لعنة الله على الظلمين } يحتمل أن يكون داخلا في مفعول القول، وإليه نحا بعضهم. انتهى.
وقوله سبحانه: { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون }: يحتمل وجوها:
أحدها: أنه وصف سبحانه هؤلاء الكفار بهذه الصفة في الدنيا؛ على معنى أنهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به، ولا يبصرون كذلك.
والثاني: أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يستطيعون أن يحملوا نفوسهم على السمع منه، والنظر إليه.
«وما»؛ في هذين الوجهين: نافية.
الثالث: أن يكون التقدير: يضاعف لهم العذاب بما كانوا، أي: بسبب ما كانوا؛ ف «ما» مصدرية، وباقي الآية بين.
[11.22-24]
وقوله سبحانه: { لا جرم أنهم في الأخرة هم الأخسرون * إن الذين آمنوا وعملوا الصلحات وأخبتوا إلى ربهم... } الآية: { لا جرم } تقدم بيانها، { وأخبتوا }: قال قتادة: معناه: خشعوا، وقيل: معناه أنابوا؛ قاله ابن عباس، وقيل: اطمأنوا؛ قاله مجاهد وقيل: خافوا؛ قاله ابن عباس أيضا، وهذه أقوال بعضها قريب من بعض.
وقوله سبحانه: { مثل الفريقين... } الآية، «الفريقان» الكافرون والمؤمنون، شبه الكافر بالأعمى والأصم، وشبه المؤمن بالبصير والسميع، فهو تمثيل بمثالين.
[11.25-27]
وقوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم* فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا... } الآية: فيها تمثيل لقريش وكفار العرب، وإعلام بأن محمدا عليه السلام ليس ببدع من الرسل، و«الأراذل» جمع الجمع، فقيل: جمع أرذل، وقيل: جمع أرذال، وهم سفلة الناس، ومن لا خلاق له ولا يبالي ما يقول، ولا ما يقال له، وقرأ الجمهور: «بادي الرأي» - بباء دون همز -؛ من بدا يبدو، فيحتمل أن يتعلق «بادي الرأي» ب «نراك »، أي: وما نراك بأول نظر وأقل فكرة، وذلك هو بادي الرأي إلا ومتبعوك أراذلنا، ويحتمل أن يتعلق بقوله: «اتبعك»، أي: وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل، ثم يحتمل على هذا قوله: { بادي الرأي } معنيين:
أحدهما: أن يريدوا: اتبعك في ظاهر أمرهم، وعسى أن بواطنهم ليست معك.
والثاني: أن يريدوا: اتبعوك بأول نظر، وبالرأي البادي، دون تثبت.
ويحتمل أن يكون قولهم: { بادي الرأي } وصفا منهم لنوح، أي: تدعي عظيما وأنت مكشوف الرأي، لا حصافة لك، ونصبه على الحال، أو على الصفة ل «بشر».
[11.28-34]
وقوله سبحانه: { قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده... } الآية: كأنه قال: أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى، وأنتم له كارهون، وعبارة نوح عليه السلام كانت بلغته دالة على المعنى القائم بنفسه، وهو هذا المفهوم من هذه العبارة العربية، فبهذا استقام أن يقال: قال كذا وكذا؛ إذ القوم ما أفاد المعنى القائم في النفس، وقوله: { على بينة } أي: على أمر بين جلي، وقرأ الجمهور: «فعميت» ولذلك وجهان من المعنى:
أحدهما: خفيت.
والثاني: أن يكون المعنى: فعميتم أنتم عنها.
وقوله: { أنلزمكموها }: يريد: إلزام جبر؛ كالقتال ونحوه، وأما إلزام الإيجاب، فهو حاصل.
وقوله: { وما أنا بطارد الذين آمنوا }: يقتضي أن قومه طلبوا طرد الضعفاء الذين بادروا إلى الإيمان به نظير ما اقترحت قريش، و { تزدري }: أصله: تزتري؛ تفتعل من زرى يزري، ومعنى: { تزدري }: تحتقر، و«الخير»؛ هنا: يظهر فيه أنه خير الآخرة، اللهم إلا أن يكون ازدراؤهم من جهة الفقر، فيكون الخير المال؛ وقد قال بعض المفسرين: حيث ما ذكر الله الخير في القرآن، فهو المال.
قال * ع *: وفي هذا الكلام تحامل، والذي يشبه أن يقال: إنه حيث ما ذكر الخير، فإن المال يدخل فيه.
* ت *: وهذا أيضا غير ملخص، والصواب: أن الخير أعم من ذلك كله، وانظر قوله تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
[الزلزلة:7] فإنه يشمل المال وغيره، ونحوه:
وافعلوا الخير لعلكم تفلحون
[الحج:77]، وانظر قوله عليه السلام :
" اللهم لا خير إلا خير الآخرة "
، وقوله تعالى:
إن علمتم فيهم خيرا
[النور:33]، فههنا لا مدخل للمال إلا على تجوز، وقد يكون الخير المراد به المال فقط؛ وذلك بحسب القرائن، كقوله تعالى:
إن ترك خيرا...
الآية [البقرة:180].
وقوله: { الله أعلم بما في أنفسهم }: تسليم لله تعالى، وقال بعض المتأولين: هي رد على قولهم: اتبعك أراذلنا في ظاهر أمرهم؛ حسب ما تقدم في بعض التأويلات، ثم قال: { إني إذا } لو فعلت ذلك، { لمن الظلمين } ، وقولهم: { قد جادلتنا }: معناه: قد طال منك هذا الجدال، والمراد بقولهم: { بما تعدنا } العذاب والهلاك، { وما أنتم بمعجزين } ، أي: بمفلتين.
[11.35-40]
وقوله سبحانه: { أم يقولون افتراه... } الآية: قال الطبري وغيره: هذه الآية اعترضت في قصة نوح، وهي في شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش.
قال * ع *: ولو صح هذا بسند، لوجب الوقوف عنده، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام، وتتسق الآية، ويكون الضمير في «افتراه» عائدا علي ما توعدهم به، أو على جميع ما أخبرهم به، و " أم " بمعنى «بل».
وقوله سبحانه: { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن... } الآية، قيل لنوح هذا بعد أن طال عليه كفر القرن بعد القرن به، وكان يأتيه الرجل بابنه، فيقول: يا بني، لا تصدق هذا الشيخ، فهكذا عهده أبي وجدي كذابا مجنونا، رواه عبيد بن عمير وغيره، فروي أنه لما أوحي إليه ذلك، دعا، فقال:
رب لا تذر على الأرض من الكفرين ديارا
[نوح:26]، و { تبتئس } من البؤس، ومعناه: لا تحزن.
وقوله: { بأعيننا }: يمكن أن يريد بمرأى منا، فيكون عبارة عن الإدراك والرعاية والحفظ، ويكون جمع الأعين، للعظمة لا للتكثير؛ كما قال عز من قائل:
فنعم القدرون
[المرسلات:23]، والعقيدة أنه تعالى منزه عن الحواس، والتشبيه، والتكييف، لا رب غيره، ويحتمل قوله: { بأعيننا } أي: بملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون الجمع على هذا التأويل: للتكثير.
وقوله: { ووحينا } معناه: وتعليمنا له صورة العمل بالوحي، وروي في ذلك: « أن نوحا عليه السلام لما جهل كيفية صنع السفينة، أوحى الله إليه، أن اصنعها على مثال جؤجؤ الطائر » إلى غير ذلك مما علمه نوح من عملها. وقوله: { ولا تخطبني في الذين ظلموا... } الآية، قال ابن جريج في هذه الآية: تقدم الله إلى نوح ألا يشفع فيهم.
وقوله: { ويصنع الفلك }: التقدير: فشرع يصنع، فحكيت حال الاستقبال، وال { ملأ } هنا: الجماعة.
وقوله: { سخروا منه... } الآية: السخر: الاستجهال مع استهزاء، وإنما سخروا منه في أن صنعها في برية.
وقوله: { فإنا نسخر منكم } قال الطبري: يريد في الآخرة.
قال * ع *: ويحتمل الكلام - وهو الأرجح - أن يريد: إنا نسخر منكم الآن، والعذاب المخزي: هو الغرق، وال { مقيم }: هو عذاب الآخرة، وال«الأمر»: واحد الأمور، ويحتمل أن يكون مصدر «أمر»، فمعناه: أمرنا للماء بالفوران، { وفار } معناه: انبعث بقوة، واختلف الناس في التنور، والذي عليه الأكثر، منهم ابن عباس وغيره: أنه هو تنور الخبز الذي يوقد فيه، وقالوا: كانت هذه أمارة، جعلها الله لنوح، أي: إذا فار التنور، فاركب في السفينة.
وقوله سبحانه: { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن... } الآية، الزوج: يقال في مشهور كلام العرب: للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج هذا، وهما زوجان، والزوج أيضا في كلام العرب: النوع، وقوله: { وأهلك }: عطف على ما عمل فيه { احمل } والأهل، هنا: القرابة، وبشرط من آمن منهم، خصصوا تشريفا، ثم ذكر { من آمن } ، وليس من الأهل، واختلف في الذي سبق عليه القول بالعذاب، فقيل: ابنه يام، أو كنعان، وقيل: امرأته والعة - بالعين المهملة -، وقيل: هو عموم فيمن لم يؤمن من أهل نوح، ثم قال سبحانه إخبارا عن حالهم: { وما آمن معه إلا قليل }.
[11.41-43]
وقوله تعالى: { وقال اركبوا فيها }: أي: وقال نوح لمن معه: اركبوا فيها، وقوله: { بسم الله } يصح أن يكون في موضع الحال في ضمير «اركبوا»، أي: اركبوا متبركين باسم الله، أو قائلين: باسم الله، ويجوز أن يكون: { بسم * الله مجريها ومرسها } جملة ثانية من مبتدإ وخبر، لا تعلق لها بالأولى كأنه أمرهم أولا بالركوب، ثم أخبر أن مجراها ومرساها باسم الله. قال الضحاك: كان نوح إذا أراد جري السفينة، جرت، وإذا أراد وقوفها، قال: باسم الله، فتقف، وقرأ الجمهور بضم الميم من «مجراها ومرساها» على معنى إجرائها وإرسائها، وقر الأخوان حمزة والكسائي وحفص بفتح ميم «مجريها» وكسر الراء، وكلهم ضم الميم في «مرساها».
* ت *: قوله: «وكسر الراء»: يريد إمالتها، وفي كلامه تسامح، ولفظ البخاري: مجراها: مسيرها، ومرساها: موقفها، وهو مصدر: أجريت وأرسيت. انتهى.
قال النووي: وروينا في «كتاب ابن السني» بسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" أمان لأمتي من الغرق، إذا ركبوا أن يقولوا: { بسم الله مجريها ومرسها إن ربي لغفور رحيم } { وما قدروا الله حق قدره.. } الآية [الأنعام:91] "
، هكذا هو في النسخ: «إذا ركبوا»، ولم يقل: «في السفينة» انتهى.
وقوله: { وكان فى معزل } أي: في ناحية، أي: في بعد عن السفينة، أو عن الدين، واللفظ يعمهما.
وقوله: { ولا تكن مع الكفرين }: يحتمل أن يكون نهيا محضا مع علمه بأنه كافر، ويحتمل أن يكون خفي عليه كفره؛ والأول أبين.
وقوله: { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم }: الظاهر أن { لا عاصم } اسم فاعل على بابه، وقوله: { إلا من رحم }: يريد: إلا الله الراحم، ف «من» كناية عن الله، المعنى: لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا.
[11.44-48]
وقوله سبحانه: { وقيل يأرض ابلعي ماءك... } الآية: البلع: تجرع الشيء؛ وازدراده، والإقلاع عن الشيء: تركه، و { غيض } معناه: نقص، وأكثر ما يجيء فيما هو بمعنى الجفوف، وقوله: { وقضي الأمر }: إشارة إلى جميع القصة: بعث الماء، وإهلاك الأمم، وإنجاء أهل السفينة.
قال * ع *: وتظاهرت الروايات وكتب التفسير بأن الغرق نال جميع أهل الأرض، وعم الماء جميعها؛ قاله ابن عباس وغيره، وذلك بين من أمر نوح بحمل الأزواج من كل الحيوان، ولولا خوف فنائها من جميع الأرض، ما كان ذلك، وروي أن نوحا عليه السلام ركب في السفينة من عين الوردة بالشام أول يوم من رجب، واستوت [السفينة] على الجودي في ذي الحجة، وأقامت عليه شهرا، وقيل له: { اهبط } في يوم عاشوراء، فصامه هو ومن معه، وروي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال؛ أن السفينة ترسي على واحد منها، فتطاولت كلها، وبقي الجودي، وهو جبل بالموصل في ناحية الجزيرة، لم يتطاول؛ تواضعا لله؛ فاستوت السفينة بأمر الله عليه، وقال الزجاج: الجودي: هو بناحية «آمد»، وقال قوم: هو عند باقردي، وأكثر الناس في قصص هذه الآية، والله أعلم بما صح من ذلك.
وقوله: { وقيل بعدا }: يحتمل أن يكون من قول الله عز وجل؛ عطفا على قوله: { وقيل } الأول، ويحتمل أن يكون من قول نوح والمؤمنين، والأول أظهر.
وقوله: { إن ابني من أهلي... } الآية: احتجاج من نوح عليه السلام أن الله أمره بحمل أهله، وابنه من أهله، فينبغي أن يحمل، فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل، وهذه الآية تقتضي أن نوحا عليه السلام ظن أن ابنه مؤمن.
وقوله: { إنه ليس من أهلك } أي: الذين عمهم الوعد؛ لأنه ليس على دينك، وإن كان ابنك بالولادة.
وقوله: { عمل غير صلح }: جعله وصفا له بالمصدر؛ على جهة المبالغة في وصفه بذلك؛ كما قالت الخنساء تصف ناقة ذهب عنها ولدها: [البسيط]
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
فإنما هي إقبال وإدبار
أي: ذات إقبال وإدبار؛ ويبين هذا قراءة الكسائي «إنه عمل غير صالح» فعلا ماضيا، ونصب «غير» على المفعول ل «عمل»، وقول من قال: «إن الولد كان لغية» خطأ محض، وهذا قول ابن عباس والجمهور؛ قالوا: وأما قوله تعالى:
فخانتاهما
[التحريم:10] فإن الواحدة كانت تقول للناس: هو مجنون، والأخرى كانت تنبه على الأضياف، وأما خيانة غير هذا، فلا؛ ويعضده المعنى، لشرف النبوة، وجوز المهدوي أن يعود الضمير في «إنه» على السؤال، أي: إن سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير صالح؛ قاله النخعي وغيره. انتهى. والأول أبين؛ وعليه الجمهور، وبه صدر المهدوي، ومعنى قوله: { فلا تسألن ما ليس لك به علم } أي: إذا وعدتك، فاعلم يقينا؛ أنه لا خلف في الوعد ، فإذا رأيت ولدك لم يحمل، فكان الواجب عليك أن تقف، وتعلم أن ذلك بحق واجب عند الله.
قال * ع *: ولكن نوحا عليه السلام حملته شفقة الأبوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة، وعلى هذا القدر وقع عتابه؛ ولذلك جاء بتلطف وترفيع في قوله سبحانه: { إني أعظك أن تكون من الجهلين } ، ويحتمل قوله: { فلا تسألن ما ليس لك به علم } أي: لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي، وهذا والأول في المعنى واحد.
وقوله: { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم }: إنابة منه عليه السلام، وتسليم لأمر ربه، والسؤال الذي وقع النهي عنه، إنما هو سؤال العزم الذي معه محاجة وطلبة ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه، وأما السؤال؛ على جهة الاسترشاد والتعلم، فغير داخل في هذا، ثم قيل له: { اهبط بسلم } ، وذلك عند نزوله من السفينة، وال { سلم }؛ هنا: السلامة والأمن، وال { بركت } الخير والنمو في كل الجهات، وهذه العدة، تعم جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، قاله محمد بن كعب القرظي، ثم قطع قوله: { وأمم } على وجه الابتداء، وهؤلاء هم الكفار إلى يوم القيامة.
[11.49-51]
وقوله سبحانه: { تلك } إشارة إلى القصة، وباقي الآية بين.
وقوله عز وجل: { وإلى عاد أخاهم هودا... } الآية: عطف على قوله:
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه
[هود:25].
[11.52-59]
وقوله: { ويقوم استغفروا ربكم... } الآية: الاستغفار: طلب المغفرة، فقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد.
وقوله: { ثم توبوا إليه } ، أي: بالإيمان من كفركم، والتوبة: عقد في ترك متوب منه، يتقدمها علم بفساد المتوب منه، وصلاح ما يرجع إليه، ويقترن بها ندم على فارط المتوب منه، لا ينفك منه، وهو من شروطها و { مدرارا } بناء تكثير، وهو من در يدر، وقد تقدمت قصة «عاد».
وقوله سبحانه: { ويزدكم قوة إلى قوتكم } ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد، ويحتمل أن خص القوة بالذكر، إذا كانوا أقوى العوالم، فوعدوا بالزيادة فيما بهروا فيه، ثم نهاهم عن التولي عن الحق، وقولهم: { عن قولك } ، أي: لا يكون قولك سبب تركنا، وقال * ص *: { عن قولك }: حال من الضمير في «تاركي»، أي: صادرين عن قولك، وقيل: «عن»: للتعليل، كقوله:
إلا عن موعدة
[التوبة:114] وقولهم: { إن نقول... } الآية: معناه: ما نقول إلا أن بعض آلهتنا التي ضللت عبدتها أصابك بجنون، يقال: عر يعر، واعترى يعتري؛ إذا ألم بالشيء.
وقوله: { فكيدوني جميعا }: أي: أنتم وأصنامكم، ويذكر أن هذه كانت له عليه السلام معجزة، وذلك أنه حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكفرهم، فلم يقدروا على نيله بسوء، و { تنظرون }: معناه: تؤخروني، أي: عاجلوني بما قدرتم عليه.
وقوله: { إن ربي على صرط مستقيم } يريد: إن أفعال الله عز وجل في غاية الإحكام، وقوله الصدق ووعده الحق، و { عنيد }: من عند إذا عتا.
[11.60-66]
وقوله سبحانه: { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة... } الآية: حكم عليهم سبحانه بهذا؛ لموافاتهم على الكفر، ولا يلعن معين حي: لا من كافر، ولا من فاسق، ولا من بهيمة، كل ذلك مكروه بالأحاديث.
* ت *: وتعبيره بالكراهة، لعله يريد التحريم، { ويوم }: ظرف، ومعناه: إن اللعنة عليهم في الدنيا، وفي يوم القيامة، ثم ذكر العلة الموجبة لذلك، وهي كفرهم بربهم، وباقي الآية بين.
وقوله عز وجل: { وإلى ثمود أخاهم صلحا... } الآية: التقدير: وأرسلنا إلى ثمود و { أنشأكم من الأرض }: أي: اخترعكم، وأوجدكم، وذلك باختراع آدم عليه.
وقال * ص *: { من الأرض }: لابتداء الغاية باعتبار الأصل المتولد منه النبات المتولد منه الغذاء المتولد منه المني ودم الطمث المتولد عنه الإنسان. انتهى.
وقد نقل * ع *: في غير هذا الموضع نحو هذا، ثم أشار إلى مرجوحيته، وأنه داع إلى القول بالتولد، قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { واستعمركم فيها }: أي: خلقكم لعمارتها، ولا يصح أن يقال: هو طلب من الله لعمارتها؛ كما زعم بعض الشافعية.
* ت *: والمفهوم من الآية أنها سيقت مساق الامتنان عليهم. انتهى. وقولهم: { يصلح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا } ، قال جمهور المفسرين: معناه: مسودا نؤمل فيك أن تكون سيدا سادا مسد الأكابر، وقولهم: { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } ، معنى: { مريب }: ملبس متهم، وقوله: { أرءيتم }: أي: أتدبرتم، فالرؤية قلبية، و { آتاني منه رحمة } ، يريد: النبوة وما انضاف إليها.
وقال * ص *: قد تقرر في { أرءيتم }؛ أنها بمعنى أخبروني. انتهى.
وال { تخسير } هو من الخسارة، وليس التخسير في هذه الآية إلا لهم، وفي حيزهم، وهذا كما تقول لمن توصيه: أنا أريد بك خيرا، وأنت تريد بي شرا.
وقال * ص *: { غير تخسير }: من خسر، وهو هنا للنسبية ك «فسقته وفجرته»؛ إذا نسبته إليهما.
* ت *: ونقل الثعلبي عن الحسين بن الفضل، قال: لم يكن صالح في خسارة، حين قال: { فما تزيدونني غير تخسير } ، وإنما المعنى: ما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إياكم للخسارة، وهو من قول العرب: فسقته وفجرته؛ إذا نسبته إلى الفسوق والفجور. انتهى. وهو حسن. وباقي الآية بين قد تقدم الكلام في قصصها.
[11.67-74]
{ وأخذ الذين ظلموا الصيحة }: قال أبو البقاء: في حذف التاء من «أخذ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه فصل بين الفعل والفاعل.
والثاني: أن التأنيث غير حقيقي.
والثالث: أن الصيحة بمعنى الصياح، فحمل على المعنى، انتهى.
وقد أشار * ع *: إلى الثلاثة، واختار الأخير.
وقوله سبحانه: { ولقد جاءت رسلنا إبرهيم بالبشرى }: الرسل: الملائكة، قال المهدوي: { بالبشرى } يعني: بالولد، وقيل: البشرى بهلاك قوم لوط انتهى.
{ قالوا سلاما }: أي: سلمنا عليك سلاما، وقرأ حمزة والكسائي: «قالوا سلاما قال سلم»، فيحتمل أن يريد ب «السلم» السلام، ويحتمل أن يريد ب «السلم» ضد الحرب، و { حنيذ }: بمعنى: محنوذ، ومعناه: بعجل مشوي نضج، يقطر ماؤه، وهذا القطر يفصل الحنيذ من جملة المشويات، وهيئة المحنوذ في اللغة:الذي يغطى بحجارة أو رمل محمى أو حائل بينه وبين النار يغطى به، والمعرض: من الشواء الذي يصفف على الجمر، والمضهب: الشواء الذي بينه وبين النار حائل، ويكون الشواء عليه، لا مدفونا به، والتحنيذ في تضمير الخيل: هو أن يغطى الفرس بجل على جل؛ ليتصبب عرقه، و { نكرهم } على ما ذكر كثير من الناس، معناه: أنكرهم { وأوجس منهم خيفة }؛ من أجل امتناعهم من الأكل؛ إذ عرف من جاء بشر ألا يأكل طعام المنزول به، قال ابن العربي في «أحكامه»: ذهب الليث بن سعد إلى أن الضيافة واجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، وما وراء ذلك صدقة "
، وفي رواية:
" ثلاثة أيام، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه "
وهذا حديث صحيح، خرجه الأئمة، واللفظ للترمذي، وذهب علماء الفقه إلى: أن الضيافة لا تجب، وحملوا الحديث على الندب.
قال ابن العربي: والذي أقول به أن الضيافة فرض على الكفاية، ومن الناس من قال: إنها واجبة في القرى حيث لا مأوى ولا طعام؛ بخلاف الحواضر؛ لتيسر ذلك فيها.
قال ابن العربي: ولا شك أن الضيف كريم، والضيافة كرامة، فإن كان عديما، فهي فريضة انتهى، و { أوجس } معناه: أحس والتوجيس: ما يعتري النفس عند الحذر، وأوائل الفزع.
وقوله سبحانه: { فضحكت } قال الجمهور: هو الضحك المعروف، وذكر الطبري أن إبراهيم عليه السلام لما قدم العجل، قالوا له: إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن، فقال لهم: ثمنه: أن تذكروا الله تعالى عليه في أوله، وتحمدوه في آخره، فقال جبريل لأصحابه: بحق اتخذ الله هذا خليلا، ثم بشر الملائكة سارة بإسحاق، وبأن إسحاق سيلد يعقوب، ويسمى ولد الولد وراء، وهو قريب من معنى «وراء» في الظرف، إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده.
وقال * ص *: «وراء»؛ هنا: استعمل غير ظرف، لدخول «من» عليه، أي: ومن بعد إسحاق. انتهى.
وقولها: { يويلتي }: الألف بدل من ياء الإضافة، أصلها: يا ويلتي، ومعنى: «يا ويلتا» في هذا الموضع: العبارة عما دهم النفس من العجب في ولادة عجوز، و { من أمر الله }: واحد الأمور.
وقوله سبحانه: { رحمت الله وبركته عليكم أهل البيت }: يحتمل أن يكون دعاء، وأن يكون خبرا.
* ص *: ونصب { أهل البيت } على النداء أو على الاختصاص، أو على المدح، انتهى. وهذه الآية تعطي أن زوجة الرجل من أهل بيته.
* ت *: وهي هنا من أهل البيت على كل حال، لأنها من قرابته، وابنة عمه، و«البيت»، في هذه الآية، وفي «سورة الأحزاب» بيت السكنى.
وقوله: { فلما ذهب عن إبرهيم الروع وجاءته البشرى يجدلنا }: أي: أخذ يجادلنا «في قوم لوط».
[11.75-76]
وقوله تعالى: { إن إبرهيم لحليم أواه منيب } وصف عليه السلام بالحلم، لأنه لم يغضب قط لنفسه إلا أن يغضب لله، وأمره بالإعراض عن المجادلة يقتضي أنها إنما كانت في الكفرة، حرصا على إسلامهم، و { أمر ربك } واحد الأمور، أي: نفذ فيهم قضاؤه سبحانه، وهذه الآية مقتضية أن الدعاء إنما هو أن يوفق الله الداعي إلى طلب المقدور، فأما الدعاء في طلب غير المقدور، فغير مجد ولا نافع.
* ت *: والكلام في هذه المسألة متسع رحب، ومن أحسن ما قيل فيها قول الغزالي في «الإحياء»: فإن قلت: فما فائدة الدعاء، والقضاء لا يرد؟ فالجواب: أن من القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، واستجلاب الرحمة؛ كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات، انتهى. وقد أطال في المسألة، ولولا الإطالة لأتيت بنبذ يثلج لها الصدر، وخرج الترمذي في «جامعه» عن أبي خزامة، واسمه رفاعة، عن أبيه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: «هي من قدر الله»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وفي بعض نسخه: حسن صحيح، انتهى. فليس وراء هذا الكلام من السيد المعصوم مرمى لأحد، وتأمل جواب الفاروق لأبي عبيدة، حين هم بالرجوع من أجل الدخول على أرض بها الطاعون، وهي الشام.
[11.77-83]
وقوله سبحانه: { ولما جاءت رسلنا لوطا }: الرسل هنا: الملائكة أضياف إبراهيم.
قال المهدوي: والرسل هنا: جبريل وميكائيل وإسرافيل، ذكره جماعة من المفسرين. انتهى، والله أعلم بتعيينهم، فإن صح في ذلك حديث، صير إليه، وإلا فالواجب الوقف، و { سيء بهم } أي: أصابه سوء، و«الذرع»: مصدر مأخوذ من الذراع، ولما كان الذراع موضع قوة الإنسان، قيل في الأمر الذي لا طاقة له به: ضاق بهذا الأمر ذراع فلان، وذرع فلان، أي: حيلته بذراعه، وتوسعوا في هذا حتى قلبوه، فقالوا: فلان رحب الذراع، إذا وصفوه باتساع القدرة، و { عصيب }: بناء اسم فاعل، معناه: يعصب الناس بالشر، فهو من العصابة، ثم كثر وصفهم لليوم بعصيب؛ ومنه: [الوافر]
.......................
وقد سلكوك في يوم عصيب
وبالجملة ف «عصيب»: في موضع شديد وصعب الوطأة، و { يهرعون } معناه: يسرعون، { ومن قبل كانوا يعملون السيئات }: أي: كانت عادتهم إتيان الفاحشة في الرجال.
وقوله: { هؤلاء بناتي هن أطهر لكم }: يعني: بالتزويج، وقولهم: { وإنك لتعلم ما نريد }: إشارة إلى الأضياف، فلما رأى لوط استمرارهم في غيهم، قال: على جهة التفجع والاستكانة: { لو أن لي بكم قوة }.
قال * ع *: «لو أن»: جوابها محذوف، أي: لفعلت كذا وكذا، ويروى أن الملائكة وجدت عليه؛ حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد فالعجب منه لما استكان ".
قال * ع *: وإنما خشي لوط عليه السلام أن يمهل الله أولئك العصابة حتى يعصوه في الأضياف، كما أمهلهم فيما قبل ذلك، ثم إن جبريل عليه السلام ضرب القوم بجناحه، فطمس أعينهم، ثم أمروا لوطا بالسرى، وأعلموه بأن العذاب نازل بالقوم، فقال لهم لوط: فعذبوهم الساعة، فقالوا له: { إن موعدهم الصبح } ، أي: بهذا أمر الله، ثم آنسوه في قلقه بقولهم: { أليس الصبح بقريب } ، و«القطع»: القطعة من الليل.
قال * ص *: { إلا امرأتك }: ابن كثير وأبو عمرو بالرفع، والباقون بالنصب، فقيل: كلاهما استثناء من { أحد } ، وقيل: النصب على الاستثناء من { أهلك } انتهى.
وقوله سبحانه: { وأمطرنا عليها حجارة من سجيل } ذهبت فرقة، منهم ابن عباس إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ، كانت من طين قد تحجر، وأن سجيلا معناها: ماء وطين، وهذا القول هو الذي عليه الجمهور، وقالت فرقة: «من سجيل»: معناه: من جهنم؛ لأنه يقال: سجيل وسجين، حفظ فيها بدل النون لاما، وقيل غير هذا و { منضود }: معناه: بعضه فوق بعض، متتابع، و { مسومة }: أي : معلمة بعلامة.
وقوله تعالى: { وما هي }: إشارة إلى الحجارة، والظالمون: قيل: يعني قريشا، وقيل: يريد عموم كل من اتصف بالظلم، وهذا هو الأصح، وقيل: يعني بهذا الإعلام بأن هذه البلاد قريبة من مكة، وما تقدم أبين.
[11.84-85]
وقوله عز وجل: { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير... } الآية: قوله: { بخير }: قال ابن عباس: معناه: في رخص من الأسعار، وقيل: قوله: { بخير }: عام في جميع نعم الله تعالى، و { تعثوا }: معناه تسعون في فساد، يقال: عثا يعثو، وعثى يعثي؛ إذا فسد.
[11.86-94]
وقوله: { بقيت الله خير لكم }: قال ابن عباس: معناه: الذي يبقي الله لكم من أموالكم بعد توفيتكم الكيل والوزن خير لكم مما تستكثرون به على غير وجهه، وهذا تفسير يليق بلفظ الآية، وقال مجاهد: معناه: طاعة الله، وهذا لا يعطيه لفظ الآية.
قال * ص *: وقرأ الحسن: «تقية الله»، أي: تقواه.
قال * ع *: وإنما المعنى عندي: إبقاء الله عليكم إن أطعتم، وقولهم: { أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنآ }: قالت فرقة: أرادوا الصلوات المعروفة، وروي أن شعيبا عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة، وقيل: أرادوا: أدعواتك، وذلك أن من حصل في رتبة من خير أو شر، ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع، فمعنى هذا: لما كنت مصليا، تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا، فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك، فقيل: أمرته؛ كما قال تعالى:
إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت:45].
قال * ص *: { أو أن نفعل }: معطوف على { ما يعبد } ، و«أو» للتنويع، انتهى. وظاهر حالهم الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره، وروي أن الإشارة إلى قرضهم الدينار والدرهم، وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس؛ قاله محمد بن كعب القرظي، وتؤول أيضا بمعنى تبديل السكك التي قصد بها أكل أموال الناس، قال ابن العربي: قال ابن المسيب: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض؛ وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية، وفسرها به، ومثله عن يحيى بن سعيد من رواية مالك، قال ابن العربي: وإذا كان قطع الدنانير والدراهم وقرضها من الفساد، عوقب من فعل ذلك، وقرض الدراهم غير كسرها؛ فإن الكسر: فساد الوصف، والقرض: تنقيص للقدر، وهو أشد من كسرها، فهو كالسرقة. انتهى من «الأحكام» مختصرا، وبعضه بالمعنى، وقولهم: { إنك لأنت الحليم الرشيد }: قيل: إنهم قالوه؛ على جهة الحقيقة، أي: أنت حليم رشيد، فلا ينبغي لك أن تنهانا عن هذه الأحوال، وقيل: إنما قالوا هذا؛ على جهة الاستهزاء.
وقوله: { ورزقني منه رزقا حسنا }: أي: سالما من الفساد الذي أدخلتم في أموالكم، وجواب الشرط الذي في قوله: { إن كنت على بينة من ربي } محذوف، تقديره: أأضل كما ضللتم، أو أترك تبليغ رسالة ربي، ونحو هذا.
وقوله: { لا يجرمنكم }: معناه: لا يكسبنكم، و { شقاقي }: معناه: مشاقتي، وعداوتي و«أن»: مفعولة ب { يجرمنكم }.
قال * ص، وع *: { وما قوم لوط منكم ببعيد }: أي: بزمان بعيد، أو بمكان.
قال * ص *: { ودود } بناء مبالغة من ود الشيء، إذا أحبه، وآثره.
* ع *: ومعناه: أن أفعاله سبحانه ولطفه بعباده لما كانت في غاية الإحسان إليهم، كانت كفعل من يتودد ويود المصنوع له، وقولهم: { ما نفقه }: كقول قريش:
قلوبنا في أكنة
[فصلت:5]، والظاهر من قولهم: { إنا لنراك فينا ضعيفا }: أنهم أرادوا ضعف الانتصار والقدرة، وأن رهطه الكفرة يراعون فيه، والرهط: جماعة الرجل، وقولهم: { لرجمنك } أي: بالحجارة؛ قاله ابن زيد، وقيل: بالسب باللسان، وقولهم: { بعزيز }: أي: بذي منعة وعزة، ومنزلة، و«الظهري»: الشيء الذي يكون وراء الظهر، وذلك يكون في الكلام على وجهين: إما بمعنى الاطراح؛ كما تقول: جعلت كلامي وراء ظهرك، ودبر أذنك، وعلى هذا المعنى حمل الجمهور الآية، أي: اتخذتم أمر الله وشرعه وراء ظهوركم، أي: غير مراعى، وإما بأن يستند إليه ويلجأ؛ كما قال عليه السلام: « وألجأت ظهري إليك »؛ وعلى هذا المعنى حمل الآية قوم: أي: وأنتم تتخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم.
وقوله: { اعملوا على مكانتكم } معناه: على حالاتكم، وفيه تهديد.
وقوله: { سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب }: والصحيح: أن الوقف في قوله: { إني عمل }.
وقوله سبحانه: { وأخذت الذين ظلموا الصيحة... } الآية: { الصيحة }: هي صيحة جبريل عليه السلام.
[11.95-99]
وقوله سبحانه: { كأن لم يغنوا فيها... } الآية: { يغنوا }: معناه: يقيمون بنعمة وخفض عيش؛ ومنه المغاني، وهي المنازل المعمورة بالأهل، وضمير «فيها» عائد على الديار.
وقوله: { بعدا }: مصدر دعا به؛ كقولك: سحقا للكافرين، وفارقت هذه قولهم:
سلم عليكم
[النحل:32]؛ لأن { بعدا } إخبار عن شيء قد وجب وتحصل، وتلك إنما هي دعاء مرتجى، ومعنى البعد في قراءة: «بعدت» - بكسر العين -: الهلاك، وهي قراءة الجمهور؛ ومنه قول خرنق بنت هفان: [الكامل]
لا يبعدن قومي الذين هم
سم العداة وآفة الجزر
ومنه قول مالك بن الربيع: [الطويل]
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا
وأما من قرأ: «بعدت»، وهو السلمي وأبو حيوة فهو من البعد الذي هو ضد القرب، ولا يدعى به إلا على مبغوض.
قال * ص *: وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب، فيقولون فيهما: بعد يبعد، وبعد يبعد. انتهى.
وقوله سبحانه: { فاتبعوا أمر فرعون }: أي: وخالفوا أمر موسى، { وما أمر فرعون برشيد } ، أي: بمرشد إلى خير.
وقال * ع *: { برشيد }: أي: بمصيب في مذهبه { يقدم قومه }: أي: يقدمهم إلى النار، و { الورد } ، في هذه الآية: هو ورود دخول.
قال * ص *: وال { الورد }: فاعل «بئس»، و { المورود }: المخصوص بالذم، وفي الأول حذف، أي: مكان الورد، ليطابق المخصوص بالذم.
وجوز * ع *: وأبو البقاء أن يكون «المورود» صفة لمكان الورد، والمخصوص محذوف، أي: بئس مكان الورد المورود النار، و«الورد»: يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الورود، أو بمعنى الواردة من الإبل، وقيل: الورد: بمعنى الجمع للوارد، والمورود: صفة لهم، والمخصوص بالذم ضمير محذوف، أي: بئس القوم المورود بهم هم، انتهى.
{ وأتبعوا في هذه لعنة }: يريد: دار الدنيا.
وقوله: { بئس الرفد المرفود } أي: بئس العطاء المعطى لهم، وهو العذاب، والرفد في كلام العرب: العطية.
[11.100-106]
وقوله سبحانه: { ذلك من أنباء القرى... } الآية { ذلك }: إشارة إلى ما تقدم من ذكر العقوبات النازلة بالأمم المذكورة، { منها قائم وحصيد }: أي: منها قائم الجدرات، ومتهدم دائر، والآية بجملتها متضمنة التخويف وضرب المثل للحاضرين من أهل مكة وغيرهم، وال { تتبيب }: الخسران؛ ومنه:
تبت يدا أبي لهب
[المسد:1].
وقوله: { وكذلك }: الإشارة إلى ما ذكر من الأخذات في الأمم، وهذه اية وعيد يعم قرى المؤمنين والكافرين، فإن «ظالمة»: أعم من «كافرة»، وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة، وأما الظلمة، فمعاجلون في الغالب، وقد يملي لبعضهم، وفي الحديث، من رواية أبي موسى؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه، لم يفلته»، ثم قرأ: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظلمة... } الآية، وهذه قراءة الجماعة، وهي تعطي بقاء الوعيد، واستمراره في الزمان؛ { إن في ذلك لأية }: أي: لعبرة وعلامة اهتداء، { لمن خاف عذاب الأخرة } ، ثم عظم الله أمر الآخرة، فقال: { ذلك يوم مجموع له الناس } ، وهو يوم الحشر، { وذلك يوم مشهود } يشهده الأولون والآخرون؛ من الملائكة، والإنس، والجن والحيوان؛ في قول الجمهور، { وما نؤخره إلا لأجل معدود } لا يتقدم عنه ولا يتأخر.
قال * ص *: والظاهر أن ضمير فاعل: «يأت»: يعود على ما عاد عليه ضمير «نؤخره»، والناصب ل «يوم» «لا تكلم»، والمعنى: لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم إلا بإذنه سبحانه. انتهى.
وقوله تعالى: { فمنهم }: عائد على الجمع الذي يتضمنه قوله: { نفس } ، إذ هو اسم جنس يراد به الجمع { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق } وهي أصوات المكروبين والمحزونين والمعذبين، ونحو ذلك، قال قتادة: الزفير: أول صوت الحمار، والشهيق: آخره، فصياح أهل النار كذلك، وقال أبو العالية: «الزفير»: من الصدر، و«الشهيق»: من الحلق، والظاهر ما قال أبو العالية.
[11.107-112]
وقوله سبحانه: { خلدين فيها ما دامت السموات والأرض }: يروى عن ابن عباس: أن الله خلق السموات والأرض من نور العرش، ثم يردهما إلى هنالك في الآخرة، فلهما ثم بقاء دائم، وقيل: معنى: { ما دامت السموات والأرض }: العبارة عن التأبيد بما تعهده العرب، وذلك أن من فصيح كلامها، إذا أرادت أن تخبر عن تأبيد شيء أن تقول: لا أفعل كذا وكذا أمد الدهر، وما ناح الحمام، وما دامت السموات والأرض، وقيل غير هذا.
قال * ص *: وقيل: المراد سموات الآخرة، وأرضها؛ يدل عليه قوله:
يوم تبدل الأرض غير الأرض
[إبراهيم:48] انتهى. وأما قوله: { إلا ما شاء ربك }: في الاستثناء ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه متصل، أي: إلا ما شاء ربك من إخراج الموحدين؛ وعلى هذا يكون قوله: { فأما الذين شقوا... } عاما في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من { خلدين } ، وهذا قول قتادة وجماعة.
الثاني: أن هذا الاستثناء ليس بمتصل ولا منقطع، وإنما هو على طريق الاستثناء الذي ندب إليه الشرع في كل كلام؛ فهو على نحو قوله:
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله
[الفتح:27] }.
الثالث: أن «إلا» في هذه الآية بمعنى «سوى»، والاستثناء منقطع، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع ب «سوى» وسيبويه يقدره ب «لكن»، أي: سوى ما شاء الله زائدا على ذلك؛ ويؤيد هذا التأويل قوله بعد: { عطاء غير مجذوذ } ، وقيل: سوى ما أعد الله لهم من أنواع العذاب، وأشد من ذلك كله سخطه سبحانه عليهم، وقيل: الاستثناء في الآيتين من الكون في النار والجنة، وهو زمان الموقف، وقيل: الاستثناء؛ في الآية الأولى: من طول المدة، وذلك على ما روي أن جهنم تخرب، ويعدم أهلها، وتخفق أبوابها، فهم على هذا يخلدون حتى يصير أمرهم إلى هذا.
قال * ع *: وهذا قول محتمل، والذي روي ونقل عن ابن مسعود وغيره أن ما يخلى من النار إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهذا الذي يسمى جهنم، وسمي الكل به تجوزا.
* ت *: وهذا هو الصواب - إن شاء الله - وهو تأويل صاحب «العاقبة»؛ أن الذي يخرب ما يخص عصاة المؤمنين، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية، وهو قوله في «الأنعام»:
خلدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم
[الأنعام:128] }.
قال * ع *: والأقوال المترتبة في الاستثناء الأول مرتبة في الاستثناء الثاني في الذين سعدوا إلا تأويل من قال: هو استثناء المدة التي تخرب فيها جهنم؛ فإنه لا يترتب هنا، وال { مجذوذ }: المقطوع، والإشارة بقوله: { مما يعبد هؤلاء } إلى كفار العرب، { وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص } معناه: من العقوبة، وقال الداودي عن ابن عباس: { وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص }: قال: ما قدر لهم من خير وشر انتهى.
وقوله: { ولقد آتينا موسى الكتب فاختلف فيه }: أي: اختلف الناس عليه، فلا يعظم عليك، يا محمد، أمر من كذبك.
وقال * ص *: «فيه»: الظاهر عوده على الكتاب، ويجوز أن يعود على موسى، وقيل: «في» بمعنى «على»، أي: عليه، انتهى.
وال { كلمة }؛ هنا عبارة عن الحكم والقضاء { لقضي بينهم }: أي: لفصل بين المؤمن والكافر؛ بنعيم هذا وعذاب هذا، ووصف الشك بالريب؛ تقوية لمعنى الشك، فهذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها أمة موسى، ويحتمل أن يراد بها معاصرو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يعمهم اللفظ أحسن، ويؤيده قوله: { وإن كلا } ، وقرأ نافع وابن كثير: «وإن كلا لما» وقرأ أبو عمرو، والكسائي بتشديد «إن»، وقرأ حمزة وحفص بتشديد «إن»، وتشديد «لما»، فالقراءتان المتقدمتان بمعنى ف «إن» فيهما على بابها، و«كلا»، اسمها، وعرفها أن تدخل على خبرها لام، وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضا على خبر «إن»، فلما اجتمع لامان، فصل بينهما ب «ما»؛ هذا قول أبي علي، والخبر في قوله: { ليوفينهم } ، وهذه الآية وعيد، ومعنى الآية: أن كل الخلق موفى في عمله.
وقوله عز وجل: { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك }: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهو أمر لسائر الأمة، وروي أن بعض العلماء رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: يا رسول الله، بلغنا عنك أنك قلت: « شيبتني هود وأخواتها »، فما الذي شيبك من هود؟ فقال له قوله عز وجل: { فاستقم كما أمرت }.
قال * ع *: والتأويل المشهور في قوله عليه السلام : «شيبتني هود وأخواتها» أنه إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السالفة، فكأن حذره على هذه مثل ذلك شيبه عليه السلام.
[11.113-115]
وقوله تعالى: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا... } الآية: الركون: السكون إلى الشيء، والرضا به، قال أبو العالية: الركون: الرضا. قال ابن زيد: الركون: الادهان.
قال * ع *: فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة، و { الذين ظلموا } هنا: هم الكفرة، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي.
وقوله سبحانه: { وأقم الصلوة طرفي النهار... } الآية: لا خلاف أن { الصلوة } في هذه الآية يراد بها الصلوات المفروضة، واختلف في طرفي النهار وزلف الليل، فقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: الظهر والعصر، والزلف: المغرب والعشاء؛ قاله مجاهد وغيره،
" وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في المغرب والعشاء:«هما زلفتا الليل» "
وقيل: الطرف الأول: الصبح، والثاني: العصر؛ قاله الحسن وقتادة، والزلف: المغرب والعشاء، وليست الظهر في هذه الآية على هذا القول، بل هي في غيرها.
قال * ع *: والأول أحسن الأقوال عندي، ورجح الطبري القول بأن الطرفين الصبح والمغرب، وهو قول ابن عباس وغيره، وإنه لظاهر، إلا أن عموم الصلوات الخمس بالآية أولى، والزلف: الساعات القريب بعضها من بعض.
وقوله تعالى: { إن الحسنت يذهبن السيئت } ، ذهب جمهور المتأولين من صحابة وتابعين إلى أن الحسنات يراد بها الصلوات الخمس، وإلى هذه الآية ذهب عثمان رضي الله عنه في وضوئه على المقاعد، وهو تأويل مالك، وقال مجاهد: { الحسنت }: قول الرجل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
قال * ع *: وهذا كله إنما هو على جهة المثال في الحسنات، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي معظم الأعمال، والذي يظهر أن لفظ الآية عام في الحسنات، خاص في السيئات؛ بقوله عليه السلام: « ما اجتنبت الكبائر »، وروي
" أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار، وهو أبو اليسر بن عمرو، وقيل: اسمه عباد، خلا بامرأة، فقبلها، وتلذذ بها فيما دون الجماع، ثم جاء إلى عمر، فشكا إليه، فقال له: قد ستر الله عليك، فاستر على نفسك، فقلق الرجل، فجاء أبا بكر، فشكا إليه، فقال له مثل مقالة عمر، فقلق الرجل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى معه، ثم أخبره، وقال: اقض في ما شئت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لعلها زوجة غاز في سبيل الله؟! » قال: نعم، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: « ما أدري »، فنزلت "
هذه الآية، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليه، فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله: أهذا له خاصة؟ فقال: « بل للناس عامة
».
قال ابن العربي في «أحكامه»: وهذا الحديث صحيح، رواه الأئمة كلهم، انتهى.
قال * ع *: وروي: أن الآية قد كانت نزلت قبل ذلك، واستعملها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الرجل، وروي أن عمر قال ما حكي عن معاذ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الجمعة إلى الجمعة، والصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها؛ إن اجتنبت الكبائر ".
وقوله: { ذلك ذكرى }: إشارة إلى الصلوات، أي: هي سبب الذكرى، وهي العظة، ويحتمل أن تكون إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات.
ويحتمل أن تكون إشارة إلى جميع ما تقدم من الأوامر والنواهي والقصص في هذه السورة، وهو تفسير الطبري.
[11.116-119]
{ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية... } الآية، { لولا }: هي التي للتحضيض، لكن، يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد، وهذا نحو قوله سبحانه:
يحسرة على العباد
[يس:30]، والقرون من قبلنا قوم نوح وعاد وثمود، ومن تقدم ذكره.
وقوله: { أولوا بقية }: أي: أولو بقية من عقل وتمييز ودين، { ينهون عن الفساد } وإنما قيل: { بقية }؛ لأن الشرائع والدول ونحوها، قوتها في أولها، ثم لا تزال تضعف، فمن ثبت في وقت الضعف، فهو بقية الصدر الأول.
و { الفساد في الأرض }: هو الكفر وما اقترن به من المعاصي، وهذه الآية فيها تنبيه لهذه الأمة وحض على تغيير المنكر، ثم استثنى عز وجل القوم الذين نجاهم مع أنبيائهم، وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم، و { قليلا } استثناء منقطع، أي: لكن قليلا ممن أنجينا منهم، نهوا عن الفساد، و«المترف»: المنعم الذي شغلته ترفته عن الحق حتى هلك؛ { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم } منه سبحانه وتعالى عن ذلك، { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة }: أي مؤمنة لا يقع منهم كفر؛ قاله قتادة، ولكنه عز وجل لم يشأ ذلك، فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل، هذا تأويل الجمهور، { إلا من رحم ربك } ، أي: بأن هداه إلى الإيمان؛ وقوله تعالى: { ولذلك خلقهم }: قال الحسن: أي: وللاختلاف خلقهم.
قال * ع *: وذلك أن الله تعالى خلق خلقا للسعادة، وخلقا للشقاوة، ثم يسر كلا لما خلق له، وهذا نص في الحديث الصحيح، وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو أمارة الشقاوة، وبه علق العقاب، فيصح أن يحمل قول الحسن هنا: وللاختلاف خلقهم، أي: لثمرة الاختلاف، وما يكون عنه من شقاوة أو سعادة، وقال أشهب: سألت مالكا عن هذه الآية، فقال: خلقهم؛ ليكون فريق في الجنة، وفريق في السعير، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: { وتمت كلمة ربك } أي: نفذ قضاؤه، وحق أمره، واللام في { لأملأن }: لام قسم.
[11.120-123]
وقوله سبحانه: { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } ، و«كلا» مفعول مقدم ب «نقص»، و«ما» بدل من قوله: «وكلا»، و { نثبت به فؤادك } أي: نؤنسك فيما تلقاه، ونجعل لك الإسوة.
{ وجاءك في هذه الحق } قال الحسن: { هذه } إشارة إلى دار الدنيا، وقال ابن عباس: { هذه } ، إشارة إلى السورة، وهو قول الجمهور.
قال * ع *: ووجه تخصيص هذه السورة بوصفها بحق، والقرآن كله حق أن ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة، والتنبيه للناظر، أي: جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب الأمم الماضية، وهذا كما يقال عند الشدائد: جاء الحق، وإن كان الحق يأتي في غير الشدائد، ثم وصف سبحانه أن ما تضمنته السورة هو موعظة وذكرى للمؤمنين.
وقوله سبحانه: { وقل للذين لا يؤمنون... } الآية: آية وعيد.
وقوله تعالى: { ولله غيب السموات والأرض... } الآية: أية تعظيم وانفراد بما لا حظ لمخلوق فيه، ثم أمر سبحانه العبد بعبادته، والتوكل عليه، وفيهما زوال همه وصلاحه، ووصوله إلى رضوان الله تعالى، فقال: { فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغفل عما تعملون } ، اللهم، اجعلنا ممن توكل عليك، ووفقته لعبادتك كما ترضى، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما، والحمد لله على جزيل ما به أنعم.
[12 - سورة يوسف]
[12.1-3]
وقوله عز وجل: { الر تلك آيت الكتب المبين } { الكتب }؛ هنا القرآن، ووصفه ب { المبين } من جهة بيان أحكامه وحلاله وحرامه ومواعظه وهداه ونوره، ومن جهة بيان اللسان العربي وجودته، والضمير في { أنزلنه }: للكتاب، و { قرآنا } حال، و { عربيا }: صفة له، وقيل: { قرآنا }: توطئة للحال، و { عربيا } حال.
وقوله سبحانه: { نحن نقص عليك أحسن القصص... } الآية: روى ابن مسعود، أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ملوا ملة، فقالوا: لو قصصت علينا، يا رسول الله! فنزلت هذه الآية، ثم ملوا ملة أخرى، فقالوا: لو حدثتنا، يا رسول الله، فنزلت:
الله نزل أحسن الحديث كتبا متشبها
[الزمر:23] { والقصص }: الإخبار بما جرى من الأمور.
وقوله: { بما أوحينا إليك }: أي: بوحينا إليك هذا، و { القرآن }: نعت ل «هذا» ويجوز فيه البدل، والضمير في «قبله»: للقصص العام؛ لما في جميع القرآن منه، و { من الغفلين } ، أي: عن معرفة هذا القصص، وعبارة المهدوي: قال قتادة: أي: نقص عليك من الكتب الماضية، وأخبار الأمم السالفة أحسن القصص؛ بوحينا إليك هذا القرآن، { وإن كنت من قبله لمن الغفلين } عن أخبار الأمم، انتهى.
[12.4-6]
وقوله سبحانه: { إذ قال يوسف لأبيه يأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين }: قيل: إنه رأى كواكب حقيقة، والشمس والقمر، فتأولها يعقوب إخوته وأبويه، وهذا هو قول الجمهور، وقيل: الإخوة والأب والخالة؛ لأن أمه كانت ميتة، وروي أن رؤيا يوسف خرجت بعد أربعين سنة، وقيل: بعد ثمانين سنة.
وقوله: { قال يبني لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } من هنا ومن فعل إخوة يوسف بيوسف: يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت، وما وقع في «كتاب الطبري» لابن زيد؛ أنهم كانوا أنبياء يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي، وعن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، والتآمر في قتله.
{ وكذلك يجتبيك ربك }: أي: يختارك ويصطفيك.
{ ويعلمك من تأويل الأحاديث } قال مجاهد وغيره: هي عبارة الرؤيا وقال الحسن: هي عواقب الأمور وقيل: هي عامة لذلك وغيره من المغيبات.
{ ويتم نعمته عليك... } الآية: يريد بالنبوة وما انضاف إليها من سائر النعم، ويروى: أن يعقوب علم هذا من دعوة إسحاق له حين تشبه ب «عيصو»، وباقي الآية بين.
[12.7-10]
وقوله سبحانه: { لقد كان في يوسف وإخوته آيت للسائلين }؛ إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذا القصص، إذ هي مقر العبر والاتعاظ؛ وقولهم: { وأخوه }: يريدون به «يامين»، وهو أصغر من يوسف، ويقال له: «بنيامين» قيل: وهو شقيقه، { أحب إلى أبينا منا }: أي: لصغرهما وموت أمهما، وهذا من حب الصغير هي فطرة البشر، وقولهم: { ونحن عصبة }: أي: جماعة تضر وتنفع، وتحمي وتخذل، أي: لنا كانت تنبغي المحبة والمراعاة، والعصبة في اللغة: الجماعة، وقولهم: { لفي ضلل مبين } ، أي: لفي انتلاف وخطإ في محبة يوسف وأخيه، وهذا هو معنى الضلال، وإنما يصغر قدره، ويعظم بحسب الشيء الذي فيه يقع الانتلاف، و { مبين }: معناه: ظاهر للمتأمل، وقولهم: { أو اطرحوه أرضا }: أي: بأرض بعيدة؛ ف «أرضا» مفعول ثان بإسقاط حرف الجر، والضمير في «بعده» عائد على يوسف، أو قتله، أو طرحه، { وصالحين }: قال مقاتل وغيره: إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم، والقائل منهم: «لا تقتلوه» هو: «روبيل» أسنهم؛ قاله قتادة وابن إسحاق، وقيل: هو شمعون؛ قاله مجاهد، وهذا عطف منه على أخيه لا محالة؛ لما أراد الله من إنفاذ قضائه، و«الغيابة»: ما غاب عنك، و { الجب } البئر التي لم تطو؛ لأنها جبت من الأرض فقط، قال المهدوي: والجب؛ في اللغة: البئر المقطوعة التي لم تطو، انتهى. وال { سيارة }: جمع سيار ، وروي أن جماعة من الأعراب التقطت يوسف عليه السلام.
[12.11-15]
وقوله سبحانه: { قالوا يأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لنصحون... } الآية المتقدمة تقتضي أن أباهم قد كان علم منهم إرادتهم السوء في جهة يوسف، وهذه الآية تقتضي أنهم علموا هم منه بعلمه ذلك، وقرأ أبو عامر وابن عمرو: «نرتع ونلعب» - بالنون فيهما وإسكان العين والباء -، و«نرتع»؛ على هذا: من الرتوع، وهي الإقامة في الخصب والمرعى في أكل وشرب، وقرأ ابن كثير: «نرتع ونلعب» - بالنون فيهما وكسر العين وإسكان الباء -، وقد روي عنه «ويلعب» - بالياء - و«نرتع» - على هذا: من رعاية الإبل. وقال مجاهد: من المراعاة، أي: يرعى بعضنا بعضا، ويحرسه، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «يرتع ويلعب» بإسناد ذلك كله إلى يوسف، وقرأ نافع «يرتع ويلعب»، ف «يرتع»؛ على هذا: من رعاية الإبل، قال أبو علي: وقراءة ابن كثير «نرتع» - بالنون - و«يلعب» - بالياء -: منزعها حسن؛ لإسناد النظر في المال، والرعاية إليهم، واللعب إلى يوسف لصباه، ولعبهم هذا داخل في اللعب المباح والمندوب كاللعب بالخيل والرمي؛ وعللوا طلبه والخروج به بما يمكن أن يستهوي يوسف لصباه من الرتوع واللعب والنشاط، وإنما خاف يعقوب عليه السلام الذئب دون سواه، وخصصه؛ لأنه كان الحيوان العادي المنبث في القطر، ولصغر يوسف، و { أجمعوا }: معناه: عزموا.
وقوله سبحانه: { وأوحينا إليه } يحتمل أن يكون الوحي إلى يوسف حينئذ برسول، ويحتمل أن يكون بإلهام أو بنوم، وكل ذلك قد قيل، وقرأ الجمهور: «لتنبئنهم» بالتاء من فوق.
وقوله: { وهم لا يشعرون }: قال ابن جريج: معناه: لا يشعرون وقت التنبئة؛ أنك يوسف، وقال قتادة: لا يشعرون بوحينا إليك.
[12.16-18]
وقوله: { وجاءو أباهم عشاء يبكون }: أي: وقت العشاء، وقرأ الحسن: «عشى»؛ على مثال «دجى»، جمع «عاش»، ومعنى ذلك: أصابهم عشى من البكاء أو شبه العشى، إذ كذلك هي عين الباكي؛ لأنه يتعاشى، ومثل شريح امرأة بكت، وهي مبطلة ببكاء هؤلاء؛ وقرأ الآية، و { نستبق }: معناه: على الأقدام، وقيل: بالرمي، أي: ننتضل، وهو نوع من المسابقة؛ قاله الزجاج، وقولهم : { وما أنت بمؤمن لنا }: أي بمصدق لنا، { ولو كنا صدقين } ، أي: ولو كنا موصوفين بالصدق، ويحتمل أن يكون قولهم: { ولو كنا صدقين }: بمعنى: وإن كنا صادقين في معتقدنا.
وقوله سبحانه: { وجاءو على قميصه بدم كذب }: روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا، فذبحوه، ولطخوا به قميص يوسف، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه وبكى ثم تأمله، فلم ير خرقا، ولا أثر ناب؛ فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: كان الذئب حليما يأكل يوسف، ولا يخرق قميصه؛ قص هذا القصص ابن عباس وغيره، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم بصحة القميص، واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل؛ كالقسامة بها في قول مالك إلى غير ذلك. قال الشعبي: كان في القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم، وشهادته في قده، ورد بصر يعقوب به، ووصف الدم بالكذب الذي هو مصدر على جهة المبالغة، ثم قال لهم يعقوب: { بل سولت لكم } ، أي: رضيت وجعلت سؤلا ومرادا { أمرا } ، أي: صنعا قبيحا بيوسف.
وقوله: { فصبر جميل }: إما على حذف المبتدأ، أي: فشأني صبر جميل، وإما على حذف الخبر، تقديره: فصبر جميل أمثل، وجميل الصبر: ألا تقع شكوى إلى بشر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من بث، لم يصبر صبرا جميلا ".
وقوله: { والله المستعان على ما تصفون }: تسليم لأمر الله تعالى، وتوكل عليه.
[12.19-22]
وقوله سبحانه: { وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم }: قيل: إن السيارة جاءت في اليوم الثاني من طرحه، و«السيارة»: بتاء مبالغة للذين يرددون السير في الطرق.
قال * ص *: و«السيارة»: جمع سيار، وهو الكثير السير في الأرض. انتهى. و«الوارد»: هو الذي يأتي الماء يستقي منه لجماعته، وهو يقع على الواحد وعلى الجماعة. وروي أن مدلي الدلو كان يسمى مالك بن دعر، ويروى أن هذا الجب كان بالأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، ويقال: أدلى دلوه؛ إذا ألقاه ليستقي الماء، وفي الكلام حذف، تقديره: فتعلق يوسف بالحبل، فلما بصر به المدلي، قال: { يبشراي } ، وروي أن يوسف كان يومئذ ابن سبع سنين؛ ويرجح هذا لفظة { غلام }؛ فإنها لما بين الحولين إلى البلوغ، فإن قيلت فيما فوق ذلك، فعلى استصحاب حال، وتجوز، وقرأ نافع وغيره: «يا بشراي» بإضافة البشرى إلى المتكلم، وبفتح الياء على ندائها؛ كأنه يقول: احضري، فهذا وقتك، وقرأ حمزة والكسائي: «يا بشرى»، ويميلان ولا يضيفان، وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل، واختلف في تأويل هذه القراءة، فقال السدي: كان في أصحاب هذا الوارد رجل اسمه «بشرى»؛ فناداه، وأعلمه بالغلام، وقيل: هو على نداء البشرى؛ كما قدمنا.
وقوله سبحانه: { وأسروه بضعة } قال مجاهد: وذلك أن الوراد خشوا من تجار الرفقة، إن قالوا وجدناه؛ أن يشاركوهم في الغلام الموجود، يعني: أو يمنعوهم من تملكه، إن كانوا أخيارا، فأسروا بينهم أن يقولوا: أبضعه معنا بعض أهل المصر، و«بضاعة»: حال، والبضاعة: القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح؛ مأخوذة من قولهم: «بضعة»؛ أي: قطعة، وقيل: الضمير في «أسروه» يعود على إخوة يوسف.
وقوله سبحانه: { وشروه بثمن بخس }: «شروه»؛ هنا: بمعنى باعوه، قال الداودي: وعن أبي عبيدة: { وشروه } أي: باعوه، فإذا ابتعت أنت، قلت: اشتريت انتهى، وقال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { وشروه بثمن بخس }: يقال: اشتريت بمعنى بعت، وشريت بمعنى اشتريت؛ لغة انتهى، وعلى هذا، فلا مانع من حمل اللفظ على ظاهره، ويكون «شروه» بمعنى: «اشتروه».
قال * ع *: روي أن إخوة يوسف لما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم، فقالوا: هذا عبد قد أبق منا، ونحن نبيعه منكم، فقارهم يوسف على هذه المقالة؛ خوفا منهم، ولينفذ الله أمره، وال { بخس }: مصدر وصف به الثمن، وهو بمعنى النقص.
وقوله: { درهم معدودة }: عبارة عن قلة الثمن؛ لأنها دراهم، لم تبلغ أن توزن لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهما.
وقوله سبحانه: { وكانوا فيه من الزهدين }: وصف يترتب في إخوة يوسف، وفي الوراد، ولكنه في إخوة يوسف أرتب؛ إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبه من القلب ورفضه من اليد، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف، وأما الوراد، فإن تمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز، قال ابن العربي في «أحكامه»: { وكانوا فيه من الزهدين }: أي: إخوته والواردة، أما إخوته؛ فلأن مقصودهم زوال عينه، وأما الواردة، فلأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم.
انتهى.
وقوله سبحانه: { وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا }: روي أن مبتاع يوسف ورد به مصر البلد المعروف؛ ولذلك لا ينصرف، فعرضه في السوق، وكان أجمل الناس، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمنا عظيما، فقيل: وزنه من ذهب، ومن فضة، ومن حرير، فاشتراه العزيز، وهو كان حاجب الملك وخازنة، واسم الملك الريان بن الوليد، وقيل: مصعب بن الريان، وهو أحد الفراعنة، واسم العزيز المذكور: «قطيفين»؛ قاله ابن عباس، وقيل: «أظفير»، وقيل: «قنطور»، واسم امرأته: «راعيل»، قاله ابن إسحاق، وقيل: «زليخا»، قال البخاري: و { مثواه }: مقامه.
وقوله: { أو نتخذه ولدا } أي: نتبناه، وكان فيما يقال: لا ولد له، ثم قال تعالى: { وكذلك } ، أي: وكما وصفنا { مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه } فعلنا ذلك، و { الأحاديث }: الرؤيا في النوم؛ قاله مجاهد، وقيل: أحاديث الأنبياء والأمم، والضمير في «أمره» يحتمل أن يعود على يوسف؛ قاله الطبري، ويحتمل أن يعود على الله عز وجل؛ قاله ابن جبير، فيكون إخبارا منبها على قدرة الله عز وجل ليس في شأن يوسف خاصة، بل عاما في كل أمر، و«الأشد»: استكمال القوة وتناهي بنية الإنسان، وهما أشدان: أولهما، البلوغ، والثاني: الذي يستعمله العرب.
وقوله سبحانه: و { آتيناه حكما وعلما }: يحتمل أن يريد بالحكم: الحكمة والنبوة، وهذا على الأشد الأعلى، ويحتمل أن يريد بالحكم: السلطان في الدنيا وحكما بين الناس، وتدخل النبوة وتأويل الأحاديث وغير ذلك في قوله: { وعلما } ، وقال ابن العربي: { آتيناه حكما وعلما }: الحكم: هو العمل بالعلم. انتهى.
وقوله سبحانه: { وكذلك نجزي المحسنين }: عبارة فيها وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: فلا يهولنك فعل الكفرة وعتوهم عليك، فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع.
[12.23-24]
وقوله سبحانه: { ورودته التي هو في بيتها عن نفسه }: المراودة: الملاطفة في السوق إلى غرض، و { التي هو في بيتها } هي زليخا امرأة العزيز، وقوله: { عن نفسه }: كناية عن غرض المواقعة، وظاهر هذه النازلة أنها كانت قبل أن ينبأ عليه السلام، وقولها: { هيت لك }: معناه: الدعاء، أي: تعال وأقبل على هذا الأمر، قال الحسن: معناها: هلم، قال البخاري: قال عكرمة: { هيت لك } بالحورانية: هلم.
وقال ابن جبير: تعاله، انتهى.
وقرأ هشام عن ابن عامر: «هئت لك» - بكسر الهاء والهمز وضم التاء -، ورويت عن أبي عمرو، وهذا يحتمل أن يكون من هاء الرجل يهيء، إذا حسن هيئته، ويحتمل أن يكون بمعنى: تهيأت، و { معاذ }: نصب على المصدر، ومعنى الكلام: أعوذ بالله، ثم قال: { إنه ربي أحسن مثواي } ، فيحتمل أن يعود الضمير في «إنه» على الله عز وجل، ويحتمل أن يريد العزيز سيده، أي: فلا يصلح لي أن أخونه، وقد أكرم مثواي، وائتمنني، قال مجاهد وغيره: «ربي» معناه سيدي وإذا حفظ الآدمي لإحسانه فهو عمل زاك، وأحرى أن يحفظ ربه، والضمير في قوله: { إنه لا يفلح } مراد به الأمر والشأن فقط، وحكى بعض المفسرين أن يوسف عليه السلام لما قال: معاذ الله، ثم دافع الأمر باحتجاج وملاينة، امتحنه الله تعالى بالهم بما هم به، ولو قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ودافع بعنف وتغيير، لم يهم بشيء من المكروه.
وقوله سبحانه: { وهم بها }: اختلف في هم يوسف.
قال * ع *: والذي أقول به في هذه الآية: أن كون يوسف عليه السلام نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية، فإذا كان ذلك، فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته، وأن يستصحب الخاطر الرديء؛ على ما في ذلك من الخطيئة، وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت، فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو الخاطر، ولا يصح عندي شيء مما ذكر من حل تكة، ونحو ذلك؛ لأن العصمة مع النبوة، وللهم بالشيء مرتبتان، فالخاطر المجرد دون استصحاب يجوز عليه، ومع استصحاب لا يجوز عليه؛ إذ الإجماع منعقد أن الهم بالمعصية واستصحاب التلذذ بها غير جائز، ولا داخل في التجاوز.
* ت *: قال عياض: والصحيح إن شاء الله تنزيههم أيضا قبل النبوة من كل عيب، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب، ثم قال عياض بعد هذا: وأما قول الله سبحانه: { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } ، فعلى طريق كثير من الفقهاء والمحدثين؛ أن هم النفس لا يؤاخذ به، وليس بسيئة، لقوله عليه السلام عن ربه:
" إذا هم عبدي بسيئة، فلم يعملها كتبت له حسنة "
؛ فلا معصية في همه إذن، وأما على مذهب المحققين من الفقهاء والمتكلمين، فإن الهم إذا وطنت عليه النفس سيئة، وأما ما لم توطن عليه النفس من همومها وخواطرها، فهو المعفو عنه، وهذا هو الحق، فيكون إن شاء الله هم يوسف من هذا، ويكون قوله:
وما أبرئ نفسي...
[يوسف:53]: أي: من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع. انتهى.
واختلف في البرهان الذي رآه يوسف، فقيل: ناداه جبريل: يا يوسف، تكون في ديوان الأنبياء، وتفعل فعل السفهاء، وقيل: رأى يعقوب عاضا على إبهامه، وقيل غير هذا، وقيل: بل كان البرهان فكرته في عذاب الله ووعيده على المعصية، والبرهان في كلام العرب: الشيء الذي يعطي القطع واليقين، كان مما يعلم ضرورة أو بخبر قطعي أو بقياس نظري «وأن» في قوله: { لولا أن رأى } في موضع رفع، تقديره: لولا رؤيته برهان ربه، لفعل، وذهب قوم إلى أن الكلام تم في قوله: { ولقد همت به } ، وأن جواب «لولا» في قوله: { وهم بها } ، وأن المعنى: لولا أن رأى البرهان لهم، أي: فلم يهم عليه السلام، وهذا قول يرده لسان العرب، وأقوال السلف * ت *: وقد ساق عياض هذا القول مساق الاحتجاج به متصلا بما نقلناه عنه آنفا، ولفظه: فكيف، وقد حكى أبو حاتم عن أبي عبيدة، أن يوسف لم يهم، وأن الكلام فيه تقديم وتأخير، أي: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، وقد قال الله تعالى عن المرأة:
ولقد راودته عن نفسه فاستعصم
[يوسف:32]، وقال تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } ، وقال: { معاذ الله... } الآية. انتهى. وكذا نقله الداودي ولفظه: وقد قال سعيد بن الحداد: في الكلام تقديم وتأخير، ومعناه: أنه لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فلما رأى البرهان لم يهم، انتهى. قال ابن العربي في «أحكامه»: وقد أخبر الله سبحانه عن حال يوسف من حين بلوغه بأنه آتاه حكما وعلما، والحكم: هو العمل بالعلم، وكلام الله صادق، وخبره صحيح، ووصفه حق، فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنا، وتحريم خيانة السيد في أهله، فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أناب إلى المراودة، بل أدبر عنها، وفر منها؛ حكمة خص بها، وعمل بما علمه الله تعالى، وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس والغفلة من العلماء في نسبتهم إلى الصديق ما لا يليق، وأقل ما اقتحموا من ذلك هتك السراويل، والهم بالفتك فيما رأوه من تأويل، وحاشاه من ذلك، فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثا؛ يقولون: فعل فعل، والله تعالى إنما قال هم بها، قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله تعالى:
ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما...
[يوسف:22] أن الله عز وجل أعطاه العلم والحكمة؛ بأن غلب الشهوة؛ ليكون ذلك سببا للعصمة، انتهى.
والكاف من قوله تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء }: متعلقة بمضمر، تقديره: جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك؛ لنصرف، ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمتنا له كذلك، وقرأ ابن كثير وغيره: «المخلصين» - بكسر اللام - في سائر القرآن، ونافع وغيره بفتحها.
[12.25-29]
وقوله تعالى: { واستبقا الباب... } الآية: معناه: سابق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فقبضت في أعلى قميصه، فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص، قال البخاري: { وألفيا }: أي: وجدا؛
ألفوا آبآءهم
[الصافات:69] وجدوهم. انتهى، و«القد»: القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا، والقط: يستعمل فيما كان عرضا، و { ألفيا }: وجدا، والسيد: الزوج؛ قاله زيد بن ثابت ومجاهد.
وقوله سبحانه: { قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا... } الآية: قال نوف الشامي: كان يوسف عليه السلام لم يبن على كشف القصة، فلما بغت عليه، غضب، فقال الحق، فأخبر أنها هي راودته عن نفسه، فروي أن الشاهد كان ابن عمها، قال: انظروا إلى القميص، وقال ابن عباس: كان رجلا من خاصة الملك؛ وقاله مجاهد وغيره، والضمير في «رأى» هو للعزيز، وهو القائل: { إنه من كيدكن }؛ قاله الطبري، وقيل: بل الشاهد، قال ذلك، ونزع بهذه الآية من يرى الحكم بالإمارة من العلماء؛ فإنها معتمدهم، و«يوسف» في قوله: { يوسف أعرض عن هذا }: منادى، قال ابن عباس: ناداه الشاهد، وهو الرجل الذي كان مع العزيز، و { أعرض عن هذا }: معناه: عن الكلام به، أي: اكتمه، ولا تتحدث به، ثم رجع إليها، فقال: { واستغفري لذنبك } ، أي: استغفري زوجك وسيدك، وقال: { من الخاطئين } ، ولم يقل «من الخاطئات»؛ لأن الخاطئين أعم.
[12.30-34]
وقوله سبحانه: { وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز ترود فتها عن نفسه }: { نسوة }: جمع قلة، وجمع التكثير نساء، ويروى أن هؤلاء النسوة كن أربعا: امرأة خبازة، وامرأة ساقية، وامرأة بوابة، وامرأة سجانة، والعزيز: الملك، والفتى: الغلام، وعرفه في المملوك، ولكنه قد قيل في غير المملوك؛ ومنه:
وإذ قال موسى لفته
[الكهف:60]، وأصل الفتى، في اللغة: الشاب، ولكن لما كان جل الخدمة شبابا، استعير لهم اسم الفتى، و { شغفها }: معناه بلغ حتى صار من قلبها موضع الشغاف، وهو؛ على أكثر القول: غلاف من أغشية القلب.
وقيل: الشغاف: سويداء القلب.
وقيل: الشغاف: داء يصل إلى القلب.
{ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن }؛ ليحضرن.
{ وأعتدت لهن متكأ }: أي: أعدت ويسرت ما يتكأ عليه من فرش ووسائد وغير ذلك، وقرأ ابن عباس وغيره: «متكا» - بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف -، واختلف في معناها، فقيل: هو الأترنج، وقيل: هو اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين، وقولها: { اخرج عليهن }: أمر ليوسف، وأطاعها بحسب الملك.
وقوله: { أكبرنه }: معناه: أعظمنه واستهولن جماله، هذا قول الجمهور.
{ وقطعن أيديهن }: أي: كثرن الحز فيها بالسكاكين، وقرأ أبو عمرو وحده: «حاشى لله»، وقرأ سائر السبعة: { حاش لله } ، فمعنى «حاش لله»: أي: حاشى يوسف؛ لطاعته لله، أو لمكانه من الله أن يرمى بما رميته به، أو يدعى إلى مثله، لأن تلك أفعال البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك، هكذا رتب بعضهم معنى هذا الكلام على القراءتين، وقرأ الحسن وغيره: «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» - بكسر اللام من «ملك»؛ وعلى هذه القراءة، فالكلام فصيح: لما استعظمن حسن صورته، قلن ما هذا مما يصلح أن يكون عبدا بشرا، إن هذا إلا مما يصلح أن يكون ملكا كريما.
* ت *: وفي «صحيح مسلم» من حديث الإسراء:
" ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، ففتح لنا، فإذا بيوسف صلى الله عليه وسلم، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب بي، ودعا لي بخير "
انتهى.
وقولها: { فذلكن الذي لمتنني فيه }: المعنى: فهذا الذي لمتنني فيه، وقطعتن أيديكن بسببه: هو الذي جعلني ضالة في هواه، ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة، واستأمنت إليهن في ذلك؛ إذ علمت أنهن قد عذرنها.
و { استعصم } معناه طلب العصمة، وتمسك بها، وعصاني، ثم جعلت تتوعده، وهو يسمع بقولها.
{ ولئن لم يفعل ما ءامره... } إلى آخر الآية.
* ت *: واعترض * ص *: بأن تفسير «استعصم» ب «اعتصم» أولى من جعله للطلب، إذ لا يلزم من طلب الشيء حصوله. انتهى، واللام في «ليسجنن»: لام قسم، واللام الأولى هي المؤذنة بالمجيء بالقسم، و«الصاغرون»: الأذلاء، وقول يوسف عليه السلام: { رب السجن أحب إلي } إلى قوله: { من الجهلين } ، كلام يتضمن التشكي إلى الله تعالى من حاله معهن، و { أصب }: مأخوذ من الصبوة، وهي أفعال الصبا، ومن ذلك قول دريد بن الصمة: [الطويل]
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه
فلما علاه قال للباطل ابعد
قال * ص *: «أصب» معناه: أمل، وهو جواب الشرط، والصبابة: إفراط الشوق. انتهى.
{ فاستجاب له ربه } أي: أجابه إلى إرادته، وصرف عنه كيدهن؛ في أن حال بينه وبين المعصية.
[12.35]
وقوله سبحانه: { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيت ليسجننه حتى حين }: { بدا } معناه: ظهر، ولما أبى يوسف عليه السلام من المعصية، ويئست منه امرأة العزيز، طالبته بأن قالت لزوجها: إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس، وهو يعتذر إليهم، ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فإما أذنت لي، فخرجت إلى الناس، فاعتذرت وكذبته، وإما حبسته كما أنا محبوسة، فحينئذ بدا لهم سجنه.
* ع *: و { ليسجننه }: جملة دخلت عليها لام قسم، و { الأيت }: ذكر فيها أهل التفسير؛ أنها قد القميص، وخمش الوجه، وحز النساء أيديهن، وكلام الصبي؛ على ما روي.
قال * ع *: ومقصد الكلام إنما هو أنهم رأوا سجنه بعد ظهور الآيات المبرئة له من التهمة، فهكذا يبين ظلمهم له وال { حين }؛ في كلام العرب، وفي هذه الآية الوقت من الزمان غير محدود يقع للقليل والكثير، وذلك بين من موارده في القرآن.
[12.36-38]
وقوله سبحانه: { ودخل معه السجن فتيان... } الآية: المعنى: فسجنوه، فدخل معه السجن، غلامان سجنا أيضا، وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان؛ أحدهما: خبازه، واسمه مجلث، والآخر: ساقيه، واسمه نبو، وروي أن الملك اتهمهما بأن الخباز منهما أراد سمه، ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما، قاله السدي، فلما دخل يوسف السجن، استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسأل لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان، ولزماه، وأحبه صاحب السجن، والقيم عليه، وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إني أعبر الرؤيا، وأجيد، فروي عن ابن مسعود: أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه. وروي عن مجاهد: أنهما رأيا ذلك حقيقة، قال أحدهما: إني أراني أعصر خمرا: قيل فيه: إنه سمى العنب خمرا، بالمآل، وقيل: هي لغة أزد عمان؛ يسمون العنب خمرا، وفي قراءة أبي وابن مسعود: «أعصر عنبا».
وقوله: { إنا نراك من المحسنين }: قال الجمهور: يريدان في العلم، وقال الضحاك وقتادة: المعنى: من المحسنين في جريه مع أهل السجن وإجماله معهم.
وقوله عز وجل: { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما }: روي عن السدي وابن إسحاق: أن يوسف عليه السلام لما علم شدة تعبير منامة الرائي الخبز، وأنها تؤذن بقتله، ذهب إلى غير ذلك من الحديث عسى ألا يطالباه بالتعبير، فقال لهما؛ معلما بعظيم علمه للتعبير: إنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما رزقتماه إلا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام، أي: بما يؤول إليه أمره في اليقظة قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به، فروي أنهما قالا: ومن أين لك ما تدعيه من العلم، وأنت لست بكاهن ولا منجم؟! فقال لهما: ذلك مما علمني ربي، ثم نهض ينحي لهما على الكفر ويقبحه، ويحسن الإيمان بالله، فروي أنه قصد بذلك وجهين؛ أحدهما: تنسيتهما أمر تعبير ما سألا عنه؛ إذ في ذلك النذارة بقتل أحدهما، والآخر: الطماعية في إيمانهما؛ ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان، وتسلم له آخرته، وقال ابن جريج: أراد يوسف عليه السلام لا يأتيكما طعام في اليقظة.
قال * ع *: فعلى هذا إنما أعلمهم بأنه يعلم مغيبات لا تعلق لها برؤيا، وقصد بذلك أحد الوجهين المتقدمين، وهذا على ما روي أنه نبىء في السجن فإخباره كإخبار عيسى عليه السلام.
وقوله: { تركت } ، مع أنه لم يتشبث بها جائز صحيح؛ وذلك أنه أخبر عن تجنبه من أول بالترك، وساق لفظ الترك استجلابا لهما عسى أن يتركا الترك الحقيقي الذي هو بعد الأخذ في الشيء، والقوم المتروك ملتهم: الملك وأتباعه.
وقوله: { واتبعت... } الآية: تماد من يوسف عليه السلام في دعائهما إلى الملة الحنيفية.
وقوله: { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } ، «من»: هي الزائدة المؤكدة التي تكون مع الجحود.
وقوله: { لا يشكرون }: يريد: الشكر التام الذي فيه الإيمان بالله عز وجل.
[12.39-42]
وقوله: { يصاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار }: وصفه لهما ب { يصاحبي السجن } من حيث سكناه؛ كما قال: { أصحب الجنة } و { أصحب النار } ونحو ذلك، ويحتمل أن يريد صحبتهما له في السجن، كأنه قال: يا صاحباي في السجن، وعرضه عليهما بطلان أمر الأوثان بأن وصفها بالتفرق، ووصف الله تعالى بالوحدة والقهر تلطف حسن، وأخذ بيسير الحجة قبل كثيرها الذي ربما نفرت منه طباع الجاهل وعاندته، وهكذا الوجه في محاجة الجاهل: أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها، لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك أبدا حتى يصل إلى الحق، وإن أخذ الجاهل بجميع المذهب الذي يساق إليه دفعة أباه للحين وعانده، ولقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا ويؤملهم.
وقوله: { ما تعبدون من دونه إلا أسماء }: أي: مسميات، ويحتمل - وهو الراجح المختار - أن يريد: ما تعبدون من دونه ألوهية، ولا لكم تعلق بإله إلا بحسب أن سميتم أصنامكم آلهة، فليست عبادتكم لله إلا بالاسم فقط لا بالحقيقة، وأما الحقيقة: فهي وسائر الحجارة والخشب سواء، وإنما تعلقت عبادتكم بحسب الاسم الذي وضعت، فذلك هو مبعودكم، ومفعول «سميتم» الثاني محذوف، تقديره: آلهة؛ هذا على أن الأسماء يراد بها ذوات الأصنام، وأما على المعنى المختار من أن عبادتهم إنما هي لمعان تعطيها الأسماء، وليست موجودة في الأصنام، فقوله: { سميتموها } بمنزلة وضعتموها، { إن الحكم إلا لله }: أي ليس لأصنامكم، و { القيم }: معناه المستقيم، و { أكثر الناس لا يعلمون }؛ لجهالتهم وكفرهم، ثم نادى: { يصاحبي السجن } ثانية؛ لتجتمع أنفسهما، لسماع الجواب، فروي أنه قال لنبو: أما أنت، فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك، وقال لمجلث: أما أنت، فتصلب، وذلك كله بعد ثلاث، فروي أنهما قالا له: ما رأينا شيئا، وإنما تحالمنا لنجربك، وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب، وقيل: كانا رأيا، ثم أنكرا، ثم أخبرهما يوسف عن غيب علمه من الله تعالى، أن الأمر قد قضي ووافق القدر.
وقوله: { وقال للذي ظن أنه ناج منهما... } الآية: الظن؛ هنا: بمعنى اليقين؛ لأن ما تقدم من قوله: { قضي الأمر } يلزم ذلك، وقال قتادة: الظن هنا على بابه؛ لأن عبارة الرؤيا ظن.
قال * ع *: وقول يوسف عليه السلام: { قضي الأمر }: دال على وحي، ولا يترتب قول قتادة إلا بأن يكون معنى قوله: { قضي الأمر }: أي: قضي كلامي، وقلت ما عندي، وتم، والله أعلم بما يكون بعد، وفي الآية تأويل آخر: وهو أن يكون «ظن» مسندا إلى الذي قيل له: إنه يسقي ربه خمرا؛ لأنه داخله السرور بما بشر به، وغلب على ظنه ومعتقده أنه ناج.
[12.43-45]
وقوله سبحانه: { وقال الملك إني أرى سبع بقرت سمان يأكلهن سبع عجاف }: روي أنه قال: رأيتها خارجة من نهر، وخرجت وراءها سبع عجاف، فأكلت تلك السمان، وحصلت في بطونها، ورأى السنابل أيضا؛ كما ذكر، و«ال { عجاف }: التي بلغت غاية الهزال، ثم قال لحاضريه: { يأيها الملأ أفتوني في رءيي إن كنتم للرءيا تعبرون } ، وعبارة الرؤية: مأخوذة من عبر النهر، وهو تجاوزه من شط إلى شط، فكأن عابر الرؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها.
قال * ص *: وإنما لم يضف «سبع» إلى عجاف؛ لأن اسم العدد لا يضاف إلى الصفة إلا في الشعر، انتهى.
وقوله سبحانه: { قالوا أضغث أحلام... } الآية: «الضغث»؛ في كلام العرب: أقل من الحزمة، وأكثر من القبضة من النبات والعشب ونحوه، وربما كان ذلك من جنس واحد، وربما كان من أخلاط النبات، والمعنى: أن هذا الذي رأيت أيها الملك اختلاط من الأحلام بسبب النوم، ولسنا من أهل العلم بما هو مختلط ورديء، وال { أحلام }: جمع حلم، وهو ما يخيل إلى الإنسان في منامه، والأحلام والرؤيا مما أثبتته الشريعة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الرؤيا من الله، وهي من المبشرة والحلم المحزن من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليتفل عن يساره ثلاث مرات، وليقل: أعوذ بالله من شر ما رأيت، فإنها لا تضره "
وما كان عن حديث النفس في اليقظة، فإنه لا يلتفت إليه، ولما سمع الساقي الذي نجا هذه المقالة من الملك، ومراجعة أصحابه، تذكر يوسف، وعلمه بالتأويل، فقال مقالته في هذه الآية، { وادكر }: أصله: «اذتكر» من الذكر، فقلبت التاء دالا، وأدغم الأول في الثاني، وقرأ جمهور الناس: «بعد أمة»، وهي المدة من الدهر، وقرأ ابن عباس وجماعة: «بعد أمة»، وهو النسيان، وقرأ مجاهد وشبل: «بعد أمة» - بسكون الميم -، وهو مصدر من «أمه»؛ إذا نسي، وبقوله: { ادكر } يقوي قول من قال: إن الضمير في «أنساه » عائد على الساقي، والأمر محتمل، وقرأ الجمهور: «أنا أنبئكم»، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «أنا آتيكم»، وكذلك في مصحف أبي.
وقوله: { فأرسلون }: استئذان في المضي.
[12.46-49]
وقوله: { يوسف أيها الصديق أفتنا }: المعنى: فجاء الرسول، وهو الساقي، إلى يوسف، فقال له: يوسف أيها الصديق، وسماه صديقا من حيث كان جرب صدقه في غير ما شيء، وهو بناء مبالغة من الصدق، ثم قال له: { أفتنا في سبع بقرت } ، أي: فيمن رأى في المنام سبع بقرات.
وقوله: { لعلهم يعلمون } ، أي: تأويل هذه الرؤيا، فيزول هم الملك لذلك، وهم الناس، وقيل: { لعلهم يعلمون } مكانتك من العلم، وكنه فضلك؛ فيكون ذلك سببا لتخلصك و { دأبا }: معناه: ملازمة لعادتكم في الزراعة.
وقوله: { فما حصدتم فذروه في سنبله }: إشارة برأي نافع؛ بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، والمعنى: اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل فيجتمع الطعام هكذا، ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم، وروي أن يوسف عليه السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك، وأعجبه أمره، قال له الملك: قد أسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة، فكان هذا أول ما ولي يوسف، و { تحصنون } معناه: تحرزون وتخزنون؛ قاله ابن عباس، وهو مأخوذ من الحصن، وهو الحرز والملجأ؛ ومنه: تحصن النساء؛ لأنه بمعنى التحرز.
وقوله: { يغاث الناس }: جائز أن يكون من الغيث، وهو قول ابن عباس، وجمهور المفسرين، أي: يمطرون، وجائز أن يكون من أغاثهم الله: إذا فرج عنهم؛ ومنه الغوث، وهو الفرج، { وفيه يعصرون }: قال جمهور المفسرين: هي من عصر النباتات، كالزيتون، والعنب، والقصب، والسمسم، والفجل، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة.
[12.50-53]
وقوله سبحانه: { وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول... } الآية: لما رأى الملك وحاضروه نبل التعبير وحسن الرأي، وتضمن الغيب في أمر العام الثامن، مع ما وصف به من الصدق عظم يوسف في نفس الملك، وقال: { ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك }: يعني: الملك، { فسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ، وقصده عليه السلام بيان براءته، وتحقق منزلته من العفة والخير، فرسم القصة بطرف منها، إذا وقع النظر عليه، بان الأمر كله، ونكب عن ذكر امرأة العزيز؛ حسن عشرة ورعاية لذمام ملك العزيز له، وفي «صحيح البخاري»، عن عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" ولو لبثت في السجن لبث يوسف لأجبت الداعي "
المعنى: لو كنت أنا، لبادرت بالخروج، ثم حاولت بيان عذري بعد ذلك؛ وذلك أن هذه القصص والنوازل، إنما هي معرضة ليقتدي الناس بها إلى يوم القيامة، فأراد صلى الله عليه وسلم حمل الناس على الأحزم من الأمور؛ وذلك أن التارك لمثل هذه الفرصة ربما نتج له بسبب التأخير خلاف مقصوده، وإن كان يوسف قد أمن ذلك؛ بعلمه من الله، فغيره من الناس لا يأمن ذلك، فالحالة التي ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إليها حالة حزم ومدح؛ ليقتدى به، وما فعله يوسف عليه السلام حالة صبر وتجلد، قال ابن العربي في «أحكامه»: وانظر إلى عظيم حلم يوسف عليه السلام ووفور أدبه، كيف قال: { ما بال النسوة التي قطعن أيديهن } ، فذكر النساء جملة؛ لتدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم؛ بالتلويح دون التصريح. انتهى. وهذه كانت أخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقابل أحدا بمكروه، وإنما يقول: « ما بال أقوام يفعلون كذا »، من غير تعيين، وبالجملة فكل خصلة حميدة مذكورة في القرآن اتصف بها الأنبياء والأصفياء، فقد اتصف بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان خلقه القرآن، كما روته عائشة في الصحيح، وكما ذكر الله سبحانه:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[الأنعام:90] انتهى.
وقوله: { إن ربي بكيدهن عليم } ، فيه وعيد، وقوله: { ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه }: المعنى: فجمع الملك النسوة، وامرأة العزيز معهن، وقال لهن: { ما خطبكن... } الآية: أي: أي شيء كانت قصتكن، فجاوب النساء بجواب جيد، تظهر منه براءة أنفسهن، وأعطين يوسف بعض براءة، فقلن: { حاش لله ما علمنا عليه من سوء } ، فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن، حضرتها نية وتحقيق، فقالت: { الآن حصحص الحق } ، أي: تبين الحق بعد خفائه؛ قاله الخليل وغيره، قال البخاري: حاش وحاشى: تنزيه واستثناء، وحصحص: وضح. انتهى.
ثم أقرت على نفسها بالمراودة، والتزمت الذنب، وأبرأت يوسف البراءة التامة.
وقوله: { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } إلى قوله: { إن ربي غفور رحيم }: اختلف فيه أهل التأويل، هل هو من قول يوسف أو من قول امرأة العزيز.
[12.54-57]
وقوله سبحانه: { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي }: المعنى: أن الملك، لما تبينت له براءة يوسف وتحقق في القصة أمانته، وفهم أيضا صبره وعلو همته، عظمت عنده منزلته، وتيقن حسن خلاله، فقال: { ائتوني به أستخلصه لنفسي } ، فلما جاءه وكلمه قال: { إنك اليوم لدينا مكين أمين }: قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله: { إنك اليوم لدينا مكين أمين }: أي: متمكن مما أردت، أمين على ما ائتمنت عليه من شيء؛ أما أمانته فلظهور براءته، وأما مكانته، فلثبوت عفته: ونزاهته انتهى، ولما فهم يوسف عليه السلام من الملك أنه عزم على تصريفه والاستعانة بنظره، قال: { اجعلني على خزائن الأرض } ، لما في ذلك من مصالح العباد.
قال * ع *: وطلبة يوسف للعمل إنما هي حسبة منه عليه السلام في رغبته في أن يقع العدل، وجائز أيضا للمرء أن يثني على نفسه بالحق، إذا جهل أمره، و { خزائن }: لفظ عام لجميع ما تختزنه المملكة من طعام ومال وغيره.
وقوله سبحانه: { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض }: الإشارة ب «ذلك» إلى جميع ما تقدم من جميل صنع الله به، فروي أن العزيز مات في تلك الليالي، وقال ابن إسحاق: بل عزله الملك، ثم مات أظفير، فولاه الملك مكانه، وزوجه زوجته، فلما دخلت عليه عروسا، قال لها: أليس هذا خيرا مما كنت أردت، فدخل يوسف بها، فوجدها بكرا، وولدت له ولدين، وروي أيضا؛ أن الملك عزل العزيز، وولى يوسف موضعه، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع، قال مجاهد: وأسلم الملك آخر أمره، ودرس أمر العزيز، وذهبت دنياه، ومات، وافتقرت زوجته، وشاخت، فلما كان في بعض الأيام، لقيت يوسف في طريق، والجنود حوله ووراءه، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب:
هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين
[يوسف:108] فصاحت به، وقالت: سبحان الله من أعز العبيد بالطاعة، وأذل الأرباب بالمعصية، فعرفها، وقالت له: تعطف علي وارزقني شيئا، فدعا لها، وكلمها، وأشفق لحالها ودعا الله تعالى فرد عليها جمالها، وتزوجها، وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته، ويطول الكلام بسوقه، وباقي الآية بين واضح للمستبصرين، ونور وشفاء لقلوب العارفين.
وقوله: «ليوسف»: أبو البقاء: اللام زائدة، أي: مكنا يوسف، ويجوز ألا تكون زائدة، فالمفعول محذوف، أي: مكنا ليوسف الأمور. انتهى.
[12.58-67]
وقوله عز وجل: { وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } ، قال السدي وغيره: سبب مجيئهم أن المجاعة اتصلت ببلادهم، وكان الناس يمتارون من عند يوسف، وهو في رتبة العزيز المتقدم، وكان لا يعطي الوارد أكثر من حمل بعير يسوي بين الناس، فلما ورد إخوته، عرفهم، ولم يعرفوه لبعد العهد وتغير سنه، ولم يقع لهم بسبب ملكه ولسانه القبطي ظن عليه، وروي في بعض القصص، أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم، فباحثهم بأن قال لهم بترجمان: «أظنكم جواسيس»، فاحتاجوا حينئذ إلى التعريف بأنفسهم، فقالوا: نحن أبناء رجل صديق، وكنا اثني عشر ذهب منا واحد في البرية، وبقي أصغرنا عند أبينا، وجئنا نحن للميرة، وسقنا بعير الباقي منا، وكنا عشرة، ولهم أحد عشر بعيرا، فقال لهم يوسف: ولم تخلف أحدكم؟ قالوا: لمحبة أبينا فيه، قال: فأتوا بهذا الأخ؛ حتى أعلم حقيقة قولكم، وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم؛ إن كنتم صادقين، وروي في القصص أنهم وردوا مصر واستأذنوا على العزيز، وانتسبوا في الاستئذان، فعرفهم، وأمر بإنزالهم وأدخلهم في ثاني يوم على هيئة عظيمة لملكه، وروي أنه كان متلثما أبدا سترا لجماله، وأنه كان يأخذ الصواع، فينقره، ويفهم من طنينه صدق الحديث من كذبه، فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا، قال لهم يوسف : صدقتم، فلما قالوا: وكان لنا أخ أكله الذئب، أطن يوسف الصواع، وقال: كذبتم، ثم تغير لهم، وقال: أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي؛ ليظهر صدقهم في ذلك؛ في قصص طويل، جاءت الإشارة إليه في القرآن، «والجهاز» ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع.
وقوله: { بأخ لكم } * ص *: نكره، ليريهم أنه لا يعرفه، وفرق بين غلام لك، وبين غلامك، ففي الأول أنت جاهل به، وفي الثاني أنت عالم، لأن التعريف به يفيد نوع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب، انتهى.
وقول يوسف: { ألا ترون أني أوفي الكيل... } الآية: يرغبهم في نفسه آخرا ويؤنسهم ويستميلهم، و { المنزلين }: يعني: المضيفين، ثم توعدهم بقوله: { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } ، أي: في المستأنف، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كان يوسف يلقي حصاة في إناء فضة مخوص بالذهب فيطن، فيقول لهم: إن هذا الإناء يخبرني أن لكم أبا شيخا "
، وروي أن ذلك الإناء به كان يكيل الطعام، إظهارا لعزته بحسب غلائه، وروي أن يوسف استوفى في تلك السنين أموال الناس، ثم أملاكهم، وظاهر كل ما فعله يوسف معهم أنه بوحي وأمر، وإلا فكان بر يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تعالى أعلمه بما يصنع؛ ليكمل أجر يعقوب ومحنته، وتتفسر الرؤيا الأولى.
وقوله: { لعلهم يعرفونها }: يريد: لعلهم يعرفون لها يدا وتكرمة يرون حقها؛ فيرغبون في الرجوع إلينا، وأما ميز البضاعة، فلا يقال فيه: «لعل» وقيل: قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن، فيرجعوا لدفع الثمن، وهذا ضعيف من وجوه، وسرورهم بالبضاعة، وقولهم: { هذه بضعتنا ردت إلينا } يكشف أن يوسف لم يقصد هذا، وإنما قصد أن يستميلهم، ويصلهم، ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم وجبرهم في تلك الشدة كان واجبا عليه، وقيل: علم عدم البضاعة والدراهم عند أبيه؛ فرد البضاعة إليهم؛ لئلا يمنعهم العدم من الرجوع إليه، وقيل: جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك، ليبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة، والظاهر من القصة أنه إنما أراد الاستئلاف وصلة الرحم، وأصل «نكتل»: «نكتئل»، وقولهم: { منع منا الكيل }: ظاهره أنهم أشاروا إلى قوله: { فلا كيل لكم عندي } ، فهو خوف في المستأنف، وقيل: أشاروا إلى بعير يامين، والأول أرجح، ثم تضمنوا له حفظه وحيطته، وقول يعقوب عليه السلام: { هل آمنكم عليه... } الآية: «هل» توقيف وتقرير ولم يصرح بمنعهم من حمله؛ لما رأى في ذلك من المصلحة، لكنه أعلمهم بقلة طمأنينته إليهم، ولكن ظاهر أمرهم أنهم قد أنابوا إلى الله سبحانه، وانتقلت حالهم، فلم يخف على يامين، كخوفه على يوسف، وقرأ نافع وغيره: «خير حفظا»، وقرأ حمزة وغيره: «خير حافظا»، ونصب ذلك في القراءتين؛ على التمييز والمعنى: أن حفظ الله خير من حفظكم، فاستسلم يعقوب عليه السلام لله، وتوكل عليه، وقولهم: { ما نبغي }: يحتمل أن تكون «ما» استفهاما؛ قاله قتادة: و { نبغي }: من البغية، أي: ماذا نطلب بعد هذه التكرمة؛ هذا مالنا رد إلينا مع ميرتنا، قال الزجاج: ويحتمل أن تكون «ما» نافية، أي: ما بقي لنا ما نطلب، ويحتمل أن تكون أيضا نافية، و { نبغي } من البغي، أي: ما تعدينا فكذبنا على هذا الملك، ولا في وصف إجماله وإكرامه، هذه البضاعة ردت إلينا، وقرأ أبو حيوة: «ما تبغي»؛ على مخاطبة يعقوب، وهي بمعنى ما تريد، وما تطلب وقولهم: { ونزداد كيل بعير } يريدون بعير أخيهم؛ إذ كان يوسف إنما حمل لهم عشرة أبعرة، ولم يحمل الحادي عشر؛ لغيب صاحبه، وقولهم: { ذلك كيل يسير }: قيل: معناه: يسير على يوسف أن يعطيه.
وقال السدي: { يسير } ، أي: سريع لا نحبس فيه ولا نمطل.
وقوله تعالى: { فلما آتوه موثقهم } الآية: أي لما عاهدوه، أشهد الله بينه وبينهم بقوله: { الله على ما نقول وكيل } ، و«الوكيل»: القيم الحافظ الضامن.
وقوله: { إلا أن يحاط بكم }: لفظ عام لجميع وجوه الغلبة، وانظر أن يعقوب عليه السلام قد توثق في هذه القصة، وأشهد الله تعالى، ووصى بنيه، وأخبر بعد ذلك بتوكله، فهذا توكل مع سبب، وهو توكل جميع المؤمنين إلا من شذ في رفض السعي بالكلية، وقنع بالماء وبقل البرية، فتلك غاية التوكل، وعليها بعض الأنبياء عليهم السلام، والشارعون منهم مثبتون سنن التسبب الجائز، قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة رضي الله عنه: وقد اشتمل القرآن على أحكام عديدة، فمنها: التعلق بالله تعالى، وترك الأسباب، ومنها: عمل الأسباب في الظاهر، وخلو الباطن من التعلق بها، وهو أجلها وأزكاها؛ لأن ذلك جمع بين الحكمة وحقيقة التوحيد، وذلك لا يكون إلا للأفذاذ الذين من الله عليهم بالتوفيق؛ ولذلك مدح الله تعالى يعقوب عليه الصلاة والسلام في كتابه، فقال:
وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون
[يوسف:68] لأنه عمل الأسباب، واجتهد في توفيتها، وهو مقتضى الحكمة، ثم رد الأمر كله لله تعالى، واستسلم إليه، وهو حقيقة التوحيد، فقال: { وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله... } الآية:، فأثنى الله تعالى عليه من أجل جمعه بين هاتين الحالتين العظيمتين.
وقوله: { لا تدخلوا من باب واحد }: قيل: خشي عليهم العين، لكونهم أحد عشر لرجل واحد، وكانوا أهل جمال وبسطة؛ قاله ابن عباس وغيره.
[12.68-69]
وقوله سبحانه: { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } ، روي أنه لما ودعوا أباهم، قال لهم: بلغوا ملك مصر سلامي، وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك، ويشكر صنيعك معنا، وفي كتاب أبي منصور المهراني أنه خاطبه بكتاب قرىء على يوسف، فبكى.
وقوله سبحانه: { ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها }: بمثابة قولهم: لم يكن في ذلك دفع قدر الله، بل كان أربا ليعقوب قضاه، فالاستثناء ليس من الأول، والحاجة هي أن يكون طيب النفس بدخولهم من أبواب متفرقة؛ خوف العين، ونظير هذا الفعل
" أن النبي صلى الله عليه وسلم سد كوة في قبر بحجر، وقال: " إن هذا لا يغني شيئا، ولكنه تطييب لنفس الحي "
، ثم أثنى الله عز وجل على يعقوب؛ بأنه لقن ما علمه الله من هذا المعنى، وأن أكثر الناس ليس كذلك، وقال قتادة: معناه: لعامل بما علمناه، وقال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالما.
قال * ع *: وهذا لا يعطيه اللفظ، أما أنه صحيح في نفسه يرجحه المعنى وما تقتضيه منزلة يعقوب عليه السلام.
وقوله: { إني أنا أخوك } قال ابن إسحاق وغيره: أخبره بأنه أخوه حقيقة، واستكتمه، وقال له: لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم، وكان يامين شقيق يوسف.
وقوله: { فلا تبتئس بما كانوا يعملون }: يحتمل أن يشير إلى ما عمله الإخوة، ويحتمل الإشارة إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية، ونحو ذلك، و { تبتئس }: من البؤس، أي: لا تحزن، ولا تهتم، وهكذا عبر المفسرون.
[12.70-72]
وقوله سبحانه: { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون }: هذا من الكيد الذي يسره الله ليوسف عليه السلام، وذلك أنه كان في دين يعقوب؛ أن يستبعد السارق، وكان في دين مصر؛ أن يضرب، ويضعف عليه الغرم، فعلم يوسف أن إخوته لثقتهم ببراءة ساحتهم سيدعون في السرقة إلى حكمهم، فتحيل لذلك، واستسهل الأمر على ما فيه من رمي أبرياء وإدخال الهم على يعقوب وعليهم؛ لما علم في ذلك من الصلاح في الآجل، وبوحي لا محالة، وإرادة من الله محنتهم بذلك، و { السقاية }: الإناء الذي به يشرب الملك؛ وبه كان يكيل الطعام للناس؛ هكذا نص جمهور المفسرين ابن عباس وغيره، وروي أنه كان من فضة، وهذا قول الجمهور، وكان هذا الجعل بغير علم من «يامين»؛ قاله السدي وهو الظاهر، «فلما فصلت العير» بأوقارها، وخرجت من مصر فيما روي أمر بهم فحبسوا، وأذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون، ومخاطبة العير مجاز، والمراد أربابها.
* ت *: قال الهروي: قوله تعالى: { أيتها العير }: «العير»: الإبل والحمير التي يحمل عليها الأحمال، وأراد أصحاب العير؛ وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:
" يا خيل الله، اركبي "
أراد: يا أصحاب خيل الله اركبي، وأنث «أيا»؛ لأنه للعير، وهي جماعة، انتهى. فلما سمع إخوة يوسف هذه المقالة، أقبلوا عليهم، وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة، وقالوا: ماذا تفقدون، ليقع التفتيش، فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا إكمال الدعوى؛ عسى أن يكون فيها ما تبطل به، فلا يحتاج إلى خصام، قالوا: نفقد صواع الملك، وهو المكيال، وهو السقاية، قال أبو عبيدة: يؤنث الصواع؛ من حيث سمي سقاية، ويذكر من حيث هو صاع.
* ت *: ولفظ أبي عبيدة الهروي قال الأخفش: الصاع: يذكر ويؤنث، قال الله تعالى: { ثم استخرجها من وعاء أخيه } فأنث، وقال: { لمن جاء به حمل بعير } فذكر لأنه عنى به الصواع. انتهى.
وقوله: { ولمن جاء به حمل بعير }: أي: لمن دل على سارقه، وجبر الصواع، وهذا جعل.
وقوله: { وأنا به زعيم }: حمالة، قال مجاهد: «الزعيم»: هو المؤذن الذي قال أيتها العير و«الزعيم»: الضامن في كلام العرب.
[12.73-76]
وقوله تعالى: { قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض }: روي أن إخوة يوسف كانوا ردوا البضاعة الموجودة في الرحال، وتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن؛ فلذلك قالوا: { لقد علمتم }؛ أي: لقد علمتم منا التحري، وروي أنهم كانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح وتعفف، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم، لئلا تنال زروع الناس؛ فلذلك قالوا: { لقد علمتم } ، والتاء في «تالله» بدل من الواو، ولا تدخل التاء في القسم إلا في هذا الاسم.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قال الطبري: قوله تعالى: { قالوا جزآؤه من وجد في رحله } على حذف مضاف، تقديره: جزاؤه استعباد و استرقاق من وجد في رحله. انتهى.
وقولهم: { كذلك نجزي الظلمين }: أي: هذه سنتنا وديننا في أهل السرقة؛ أن يتملك السارق؛ كما تملك هو الشيء المسروق.
وقوله سبحانه: { فبدأ بأوعيتهم... } الآية: بدؤه أيضا من أوعيتهم تمكين للحيلة، وإبعاد لظهور أنها حيلة، وأضاف الله سبحانه الكيد إلى ضميره؛ لما خرج القدر الذي أباح به ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتقاد الناس كيد، وقال السدي والضحاك: { كدنا }: معناه: صنعنا، و { دين الملك }: فسره ابن عباس بسلطانه، وفسره قتادة بالقضاء والحكم، وهذا متقارب، قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } ، إذ كان الملك لا يرى استرقاق السارق، وإنما كان دينه أن يأخذ المجني عليه من السارق مثلي السرقة. { إلا أن يشاء الله }: التزام الإخوة لدين يعقوب بالاسترقاق، فقضى عليهم به، انتهى.
قال * ع *: والاستثناء في هذه الآية حكاية حال التقدير، إلا أن يشاء الله ما وقع من هذه الحيلة، وروى أبو عمر بن عبد البر بسنده، عن مالك، عن زيد بن أسلم؛ أنه قال في قوله عز وجل: { نرفع درجت من نشاء }: قال: بالعلم، انتهى من «كتاب العلم».
وقوله سبحانه: { وفوق كل ذي علم عليم } ، المعنى: أن البشر في العلم درجات، فكل عالم فلا بد من أعلم منه، فإما من البشر، وإما الله عز وجل، فهذا تأويل الحسن وقتادة وابن عباس وروي أيضا عن ابن عباس: إنما العليم الله، وهو فوق كل ذي علم.
قال ابن عطاء في «التنوير»: اعلم أن العلم حيث ما تكرر في الكتاب العزيز، أو في السنة، فإنما المراد به العلم النافع الذي تقارنه الخشية، وتكتنفه المخافة. انتهى.
قال الشيخ العارف أبو القاسم عبد الرحمن بن يوسف اللجائي رحمه الله: إذا كملت للعبد ثلاث خصال، وصدق فيها، تفجر العلم من قلبه على لسانه، وهي الزهد، والإخلاص، والتقوى، قال: ولا مطمع في هذا العلم المذكور إلا بعد معالجة القلب من علله التي تشينه، كالكبر، والحسد، والغضب، والرياء، والسمعة، والمحمدة والجاه، والشرف، وعلو المنزلة، والطمع، والحرص، والقسوة، والمداهنة، والحقد، والعداوة، وكل ما عددناه من العلل، وما لم نعده راجع إلى أصل واحد، وهو حب الدنيا، لأن حبها عنه يتفرع كل شر، وعنه يتشعب كل قبيح، فإذا زالت هذه العلل ظهر الصدق، والإخلاص، والتواضع، والحلم، والورع، والقناعة، والزهد، والصبر، والرضا، والأنس، والمحبة، والشوق، والتوكل، والخشية، والحزن، وقصر الأمل، ومزاج النية بالعمل، فينبع العلم، وينتفي الجهل، ويضيء القلب بنور إلاهي، ويتلألأ الإيمان، وتوضح المعرفة، ويتسع اليقين، ويتقوى الإلهام، وتبدو الفراسات، ويصفى السر، وتتجلى الأسرار، وتوجد الفوائد.
قال رحمه الله: وليس بين العبد والترقي من سفل إلى علو إلا حب الدنيا؛ فإن الترقي يتعذر من أجل حبها؛ لأنها جاذبة إلى العالم الظلماني، وطباع النفوس لذلك مائلة، فإن أردت أن تقتفي أثر الذاهبين إلى الله تعالى، فاستخف بدنياك، وانظرها بعين الزوال، وأنزل نفسك عند أخذ القوت منها منزلة المضطر إلى الميتة، والسلام. انتهى.
وروي أن المفتش كان إذا فرغ من رحل رجل، فلم يجد فيه شيئا، استغفر الله عز وجل من فعله ذلك، وظاهر كلام قتادة وغيره؛ أن المستغفر هو يوسف حتى انتهى إلى رحل بنيامين، فقال: ما أظن هذا الفتى رضي بهذا، ولا أخذ شيئا، فقال له إخوته: والله، لا تبرح حتى تفتشه، فهو أطيب لنفسك ونفوسنا، ففتش حينئذ، فأخرج السقاية، وروي أن أخوة يوسف لما رأوا ذلك، عنفوا بنيامين، وقالوا له: كيف سرقت هذه السقاية؟ فقال لهم: والله، ما فعلت، فقالوا له: فمن وضعها في رحلك؟ قال: الذي وضع البضاعة في رحالكم، والضمير في قوله: { استخرجها }: عائد على السقاية، ويحتمل على السرقة.
[12.77-79]
وقوله سبحانه: { قالوا إن يسرق }: أي قالوا إخوة يوسف: إن كان هذا قد سرق، فغير بدع من ابني راحيل؛ لأن أخاه يوسف قد كان سرق، فهذا من الإخوة إنحاء على ابني راحيل يوسف ويامين، وهذه الأقوال منهم عليهم السلام إنما كانت بحسب الظاهر، وموجب الحكم في النازلتين، فلم يعنوا في غيبة ليوسف، وإنما قصدوا الإخبار بأمر جرى؛ ليزول بعض المعرة عنهم، ويختص بها هذان الشقيقان، وأما ما روي في سرقة يوسف، فالجمهور على أن عمته كانت ربته، فلما شب، أراد يعقوب أخذه منها، فولعت به، وأشفقت من فراقه، فأخذت منطقة إسحاق، وكانت متوارثة عندهم، فنطقته بها من تحت ثيابه، ثم صاحت، وقالت: إني قد فقدت المنطقة، ويوسف قد خرج بها، ففتشت، فوجدت عنده، فاسترقته، حسب ما كان في شرعهم، وبقي عندها حتى ماتت، فصار عند أبيه.
وقوله: { فأسرها يوسف }: يعني: أسر الحزة التي حدثت في نفسه من قول الإخوة.
وقوله: { أنتم شر مكانا... } الآية: الظاهر منه أنه قالها إفصاحا ؛ كأنه أسر لهم كراهية مقالتهم، ثم نجههم بقوله: { أنتم شر مكانا }: أي: لسوء أفعالكم، والله أعلم؛ أن كان ما وصفتموه حقا، وفي اللفظ إشارة إلى تكذيبهم؛ ومما يقوي هذا عندي أنهم تركوا الشفاعة بأنفسهم، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيهم عليه السلام، وقالت فرقة: لم يقل هذا الكلام إلا في نفسه، وإنه تفسير للذي أسر في نفسه، فكأن المراد: قال في نفسه: أنتم شر مكانا، وذكر الطبري هنا قصصا اختصاره أنه لما استخرجت السقاية من رحل يامين، قال إخوته: يا بني راحيل، لا يزال البلاء ينالنا من جهتكم، فقال يامين: بل بنو راحيل ينالهم البلاء منكم، ذهبتم بأخي، فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم، فقالوا: لا تذكر الدراهم، لئلا نؤخذ بها، ثم دخلوا على يوسف، فأخذ الصواع، فنقره، فطن، فقال: إنه يخبر أنكم ذهبتم بأخ لكم، فبعتموه، فسجد يامين، وقال: أيها العزيز، سل صواعك هذا يخبرك بالحق، في قصص يطول آثرنا اختصاره.
وروي أن روبيل غضب، وقف شعره، حتى خرج من ثيابه، فأمر يوسف بنيا له، فمسه فسكن غضبه، فقال روبيل: لقد مسني أحد من ولد يعقوب، ثم إنهم تشاوروا في محاربة يوسف، وكانوا أهل قوة، لا يدانون في ذلك، فلما أحس يوسف بذلك، قام إلى روبيل، فلببه وصرعه، فرأوا من قوته ما استعظموه، وقالوا: { يأيها العزيز... } الآية، وخاطبوه باسم العزيز، إذ كان في تلك الخطة بعزل الأول أو موته، على ما روي في ذلك، وقولهم: { فخذ أحدنا مكانه } يحتمل أن يكون ذلك منهم مجازا، ويحتمل أن يكون حقيقة على طريق الحمالة؛ حتى يصل يامين إلى أبيه، ويعرف يعقوب جلية الأمر، فمنع يوسف من ذلك، وقال: { معاذ الله... } الآية.
[12.80-84]
وقوله سبحانه: { فلما استيئسوا منه... } الآية يقال: يئس واستيأس بمعنى واحد، قال البخاري: { خلصوا نجيا }: اعتزلوا، والجمع أنجية، وللاثنين والجمع نجي وأنجية انتهى.
وقال الهروي: { خلصوا نجيا }: أي تميزوا عن الناس متناجين انتهى.
و { كبيرهم }: قال مجاهد هو شمعون، كان كبيرهم رأيا وعلما، وإن كان روبيل أسنهم، وقال قتادة: هو روبيل، لأنه أسنهم، وهذا أظهر ورجحه الطبري، وذكرهم أخوهم ميثاق أبيهم:
لتأتنني به إلا أن يحاط بكم
[يوسف:66].
وقوله: { فلن أبرح الأرض }: قال: * ص *: «برح» التامة بمعنى ذهب وظهر؛ ومنه: برح الخفاء، أي: ظهر، والمتوجه هنا: معنى «ذهب»، لكنه لا ينصب الظرف المكاني المختص إلا بواسطة، فاحتيج إلى تضمينه معنى «فارق»، والأرض مفعول به، ولا يجوز أن تكون «أبرح»: ناقصة انتهى.
وقوله: { ارجعوا إلى أبيكم }: الأمر بالرجوع قيل: هو من قول كبيرهم، وقيل: من قول يوسف، والأول أظهر، وذكر الطبري أن يوسف قال لهم: إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام، وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك ألا تموت حتى ترى ولدك يوسف، ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله، وقرأ الجمهور: «سرق»، وروي عن الكسائي وغيره: «سرق» - ببنائه للمفعول -.
{ وما شهدنآ إلا بما علمنا }: أي: باعتبار الظاهر، والعلم في الغيب إلى الله، ليس ذلك في حفظنا، هذا تأويل ابن إسحاق، ثم استشهدوا بالقرية التي كانوا فيها، وهي مصر؛ قاله ابن عباس، والمراد أهلها، قال البخاري: { سولت }: أي: زينت، وقول يعقوب: { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } يعنى بيوسف ويامين وروبيل الذي لم يبرح الأرض، ورجاؤه هذا من جهات، منها: حسن ظنه بالله سبحانه في كل حال، ومنها: رؤيا يوسف المتقدمة؛ فإنه كان ينتظرها، ومنها: ما أخبروه عن ملك مصر؛ أنه يدعو له برؤية ابنه.
وقوله سبحانه: { وتولى عنهم }: أي: زال بوجهه عنهم ملتجئا إلى الله: { وقال يأسفى على يوسف }.
قال الحسن: خصت هذه الأمة بالاسترجاع؛ ألا ترى إلى قول يعقوب: { يأسفى }.
قال * ع *: والمراد يا أسفي، لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفا؛ نحو: يا غلاما، ويا أبتا، ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع، ويا أسفى لهذه الأمة، وليعقوب عليه السلام، وروي أن يعقوب عليه السلام حزن حزن سبعين ثكلى، وأعطي أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله قط، رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، { فهو كظيم } بمعنى: كاظم، كما قال:
والكظمين الغيظ
[آل عمران :134] ووصف يعقوب بذلك، لأنه لم يشك إلى أحد، وإنما كان يكمد في نفسه، ويمسك همه في صدره، فكان يكظمه، أي: يرده إلى قلبه.
* ت * وهذا ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب... "
الحديث، ذكر هذا صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم، قال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى: { وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } ، قال: كظم على الحزن، فلم يقل إلا خيرا انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه»: وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في ابنه إبراهيم:
" إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون "
، وقال أيضا في الصحيح صلى الله عليه وسلم:
" إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم "
انتهى. خرجه البخاري وغيره.
[12.85-88]
وقوله تعالى: { قالوا تالله تفتؤا } الآية: المعنى: تالله لا تفتأ فتحذف «لا» في هذا الموضع من القسم؛ لدلالة الكلام عليها؛ فمن ذلك قول امرىء القيس: [الطويل]
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ومنه قول الآخر: [البسيط]
تالله يبقى على الأيام ذو حيد
.........................
أراد: لا أبرح، ولا يبقى، و«فتىء»: بمنزلة زال وبرح في المعنى والعمل؛ تقول: والله، لا فتئت قاعدا؛ كما تقول: لا زلت ولا برحت، وعبارة الداوودي: وعن ابن عباس: تفتأ؛ أي: لا تزال تذكر يوسف، { حتى تكون حرضا }. انتهى، والحرض: الذي قد نهاه الهرم أو الحب أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء والبدن والحس، يقال: رجل حارض، أي: ذو هم وحزن؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني
حتى بليت وحتى شفني السقم
والحرض بالجملة الذي فسد ودنا موته، قال مجاهد: الحرض: ما دون الموت؛ وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما من مؤمن يمرض حتى يحرضه المرض إلا غفر له "
انتهى من «رقائق ابن المبارك».
ثم أجابهم يعقوب عليه السلام بقوله: { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله }: أي: إني لست ممن يجزع ويضجر، وإنما أشكو إلى الله، والبث: ما في صدر الإنسان مما هو معتزم أن يبثه وينشره.
وقال أبو عبيدة وغيره: البث: أشد الحزن قال الداوودي عن ابن جبير، قال: من بث، فلم يصبر، ثم قرأ: { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله }. انتهى.
وقوله: { ولا تايئسوا من روح الله... } الآية: «الروح»: الرحمة، ثم جعل اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين؛ إذ فيه إما التكذيب بالربوبية، وإما الجهل بصفات الله تعالى، وال { بضعة }: القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، ولزمها عرف الفقه فيما لا حظ لحاملها من الربح، وال { مزجاة }: معناها: المدفوعة المتحيل لها، وبالجملة؛ فمن يسوق شيئا، ويتلطف في تسييره، فقد أزجاه، فإذا كانت الدراهم مدفوعة نازلة القدر، تحتاج أن يعتذر معها، ويشفع لها، فهي مزجاة، فقيل: كان ذلك لأنها كانت زيوفا، قاله ابن عباس.
وقيل: كانت بضاعتهم عروضا، وقولهم: { وتصدق علينا }: معناه ما بين الدراهم الجياد وبين هذه المزجاة، قاله السدي وغيره وقال الداوودي عن ابن جريج: { وتصدق علينا }: قال: اردد علينا أخانا، انتهى، وهو حسن.
[12.89-92]
وقوله تعالى: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جهلون } ، روي أن يوسف عليه السلام لما قال له إخوته:
مسنا وأهلنا الضر
[يوسف:88]، واستعطفوه رق ورحمهم، قال ابن إسحاق: وارفض دمعه باكيا، فشرع في كشف أمره إليهم، فروي أنه حسر قناعه، وقال لهم: { هل علمتم... } الآية، و { ما فعلتم بيوسف وأخيه }: أي: التفريق بينهما في الصغر وما نالهما بسببكم من المحن؛ { إذ أنتم جهلون } ، نسبهم إما إلى جهل المعصية، وإما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة، فلما خاطبهم هذه المخاطبة، تنبهوا، ووقع لهم من الظن القوي وقرائن الحال؛ أنه يوسف فقالوا: { أءنك لأنت يوسف }؛ مستفهمين، فأجابهم يوسف كاشفا عن أمره، { قال أنا يوسف وهذا أخي } وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { قالوا تالله لقد ءاثرك الله علينا وإن كنا لخطئين }: هذا منهم استنزال ليوسف ، وإقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه، و { ءاثرك }: لفظ يعم جميع التفضيل.
وقوله: { لا تثريب عليكم } عفو جميل، وقال عكرمة: أوحى الله إلى يوسف بعفوك عن إخوتك، رفعت لك ذكرك، و«التثريب»: اللوم والعقوبة وما جرى معهما من سوء معتقد ونحوه، وعبر بعض الناس عن التثريب بالتعيير، ووقف بعض القرأة { عليكم } ، وابتدأ: { اليوم يغفر الله لكم }؛ ووقف أكثرهم: { اليوم } وابتدأ: { يغفر الله لكم } على جهة الدعاء وهو تأويل ابن إسحاق والطبري، وهو الصحيح الراجح في المعنى؛ لأن الوقف الآخر فيه حكم على مغفرة الله، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي.
[12.93-96]
وقوله: { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي }: قال النقاش: روي أن هذا القميص كان من ثياب الجنة، كساه الله إبراهيم، ثم توارثه بنوه.
قال * ع *: هذا يحتاج إلى سند والظاهر أنه قميص يوسف كسائر القمص، وقول يوسف: { يأت بصيرا } فيه دليل على أن هذا كله بوحي وإعلام من الله تعالى، وروي أن يعقوب وجد ريح يوسف وبينه وبين القميص مسيرة ثمانية أيام؛ قاله ابن عباس، وقال: هاجت ريح، فحملت عرفه، وقول يعقوب: { إني لأجد ريح يوسف }: مخاطبة لحاضريه، فروي أنهم كانوا حفدته، وقيل: كانوا بعض بنيه، وقيل: كانوا قرابته و { تفندون } معناه: تردون رأيي، وتدفعون في صدره، وهذا هو التفنيد لغة، قال منذر بن سعيد: يقال: شيخ مفند، أي: قد فسد رأيه والذي يشبه أن تفنيدهم ليعقوب؛ إنما كان لأنهم كانوا يعتقدون أن هواه قد غلبه في جانب يوسف.
وقال * [ص] *: معنى { تفندون }: تسفهون، انتهى، وقولهم: { إنك لفي ضللك القديم }: يريدون: لفي انتلافك في محبة يوسف، وليس بالضلال الذي هو في العرف ضد الرشاد؛ لأن ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به.
وقوله سبحانه: { فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا }: روي عن ابن عباس؛ أن البشير كان يهوذا؛ لأنه كان جاء بقميص الدم و { بصيرا }: معناه: مبصرا، وروي أنه قال للبشير: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام؛ قال: الحمد لله؛ الآن كملت النعمة.
[12.97-100]
وقوله تعالى: { قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا... } الآية: روي أن يوسف عليه السلام لما غفر لإخوته، وتحققوا أن أباهم يغفر لهم، قال بعضهم لبعض: ما يغني عنا هذا إن لم يغفر الله لنا، فطلبوا حينئذ من يعقوب عليه السلام أن يطلب لهم المغفرة من الله تعالى، واعترفوا بالخطإ، فقال لهم يعقوب: { سوف أستغفر لكم ربي }.
* [ت] *: وعن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه:
" إذا كان ليلة الجمعة، فإن استطعت أن تقوم في ثلث الليل الآخر، فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب، وقد قال أخي يعقوب لبنيه: { سوف أستغفر لكم ربي } ، يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة... "
وذكر الحديث، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم، ورواه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين»، وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني البخاري ومسلما انتهى من «السلاح».
وقوله سبحانه: { ءاوى إليه أبويه } قال ابن إسحاق، والحسن: أراد بالأبوين: أباه وأمه، وقيل: أراد؛ أباه وخالته.
قال * ع *: والأول أظهر؛ بحسب اللفظ، إلا أن يثبت بسند أن أمه قد كانت ماتت.
وقوله تعالى: { إن شاء الله } هذا الاستثناء هو الذي ندب القرآن إليه؛ أن يقوله الإنسان في جميع ما ينفذه في المستقبل، و { العرش }: سرير الملك، و { خروا له سجدا }: أي: سجود تحية، فقيل: كان كالسجود المعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض.
وقيل: بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان، وأجمع المفسرون؛ أنه كان سجود تحية لا سجود عبادة، وقال الحسن: الضمير في «له» لله عز وجل، ورد هذا القول على الحسن.
وقوله عز وجل: { وقال يأبت هذا تأويل رؤيي من قبل قد جعلها ربي حقا }: المعنى: قال يوسف ليعقوب، هذا السجود الذي كان منكم هو ما آلت إليه رؤياي قديما في الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر، { قد جعلها ربي حقا } ثم أخذ عليه السلام يعدد نعم الله عليه، وقال: وقد أخرجني من السجن، وترك ذكر إخراجه من الجب؛ لأن في ذكره تجديد فعل إخوته وخزيهم، وتحريك تلك الغوائل، وتخبيث النفوس، ووجه آخر أنه خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك، فالنعمة هنا أوضح، { إن ربي لطيف لما يشاء } ، أي: من الأمور أن يفعله؛ { إنه هو العليم الحكيم }.
قال * ع *: ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى العز إلا الوحي من الله تعالى؛ لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه، وأراد من صورة جمعهم، لا إله إلا هو.
وقال النقاش: كان ذلك الوحي في الجب، وهو قوله سبحانه:
وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون
[يوسف:15]، وهذا محتمل.
[12.101-104]
وقوله: { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث... } الآية: ذكر كثير من المفسرين أن يوسف عليه السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده، تشوق إلى لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين، ورأى أن الدنيا قليلة فتمنى الموت في قوله: { توفني مسلما وألحقني بالصلحين }.
وقال ابن عباس: لم يتمن الموت نبي غير يوسف، وذكر المهدوي تأويلا آخر، وهو الأقوى عندي: أنه ليس في الآية تمني موت، وإنما تمنى عليه السلام الموافاة على الإسلام لا الموت، وكذا قال القرطبي في «التذكرة»؛ أن معنى الآية: إذا جاء أجلي، توفني مسلما، قال: وهذا القول هو المختار عند أهل التأويل، والله أعلم، انتهى، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به "
؛ إنما يريد ضرر الدنيا؛ كالفقر، والمرض ونحو ذلك، ويبقى تمني الموت؛ مخافة فساد الدين مباحا، وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض أدعيته:
" وإذا أردت بالناس فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون ".
وقوله: { أنت وليي }: أي القائم بأمري، الكفيل بنصرتي ورحمتي.
وقوله عز وجل: { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك }: { ذلك }: إشارة إلى ما تقدم من قصة يوسف، وهذه الآية تعريض لقريش، وتنبيه على آية صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ضمن ذلك الطعن على مكذبيه، والضمير في { لديهم }: عائد على إخوة يوسف، و { أجمعوا }: معناه: عزموا، و«الأمر»، هنا: هو إلقاء يوسف في الجب، وحكى الطبري عن أبي عمران الجوني؛ أنه قال: والله ما قص الله نبأهم؛ ليعيرهم؛ إنهم الأنبياء من أهل الجنة، ولكن الله قص علينا نبأهم؛ لئلا يقنط عبده.
وقوله سبحانه: { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين... } الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { وما تسألهم عليه من أجر... } الآية توبيخ للكفرة، وإقامة للحجة عليهم، ثم ابتدأ الإخبار عن كتابه العزيز؛ أنه ذكر وموعظة لجميع العالم، نفعنا الله به، ووفر حظنا منه.
[12.105-107]
وقوله سبحانه: { وكأين من آية في السموات والأرض }: يعني بال { آية }؛ هنا: المخلوقات المنصوبة للاعتبار الدالة على توحيد خالقها سبحانه، وفي مصحف عبد الله: «يمشون عليها».
وقوله سبحانه: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }: قال ابن عباس: هي في أهل الكتاب، وقال مجاهد وغيره: هي في العرب، وقيل: نزلت بسبب قول قريش في الطواف، والتلبية: «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك»، وروي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع أحدهم يقول: لبيك لا شريك لك، يقول له: قط قط "
،أي: قف هنا، ولا تزد: إلا شريكا هو لك، وال { غاشية }: ما يغشى ويغطي ويغم، و { بغتة }: أي: فجأة، وهذه الآية من قوله: { وكأين من آية } ، وإن كانت في الكفار، فإن العصاة يأخذون من ألفاظها بحظ ويكون الإيمان حقيقة، والشرك لغويا، كالرياء، فقد قال عليه السلام:
" الرياء الشرك الأصغر ".
[12.108-111]
وقوله سبحانه: { قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله... } الآية: إشارة إلى دعوة الإسلام والشريعة بأسرها، قال ابن زيد: المعنى هذا أمري وسنتي ومنهاجي وال { بصيرة }: اسم لمعتقد الإنسان في الأمر من الحق واليقين.
وقوله: { أنا ومن اتبعني }: يحتمل أن يكون «أنا» تأكيدا للضمير المستكن في «أدعوا» و«من» معطوف عليه؛ وذلك بأن تكون الأمة كلها أمرت بالمعروف داعية إلى الله الكفرة والعصاة.
قال * ص *: ويجوز أن يكون «أنا» مبتدأ، و«على بصيرة» خبر مقدم، و«من» معطوف عليه انتهى ، { وسبحن الله } تنزيه لله، أي: وقل: سبحان الله متبريا من الشرك.
وقوله سبحانه: { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم... } الآية: تتضمن الرد على من استغرب إرسال الرسل من البشر، و { القرى }: المدن. قال الحسن: لم يبعث الله رسولا قط من أهل البادية.
قال * ع *: والتبدي مكروه إلا في الفتنة، وحين يفر بالدين، ولا يعترض هذا ببدو يعقوب؛ لأن ذلك البدو لم يكن في أهل عمود، بل هو بتقر، وفي منازل وربوع؛ وأيضا إنما جعله بدوا بالإضافة إلى مصر؛ كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى الحواضر، ثم أحال سبحانه على الاعتبار في الأمم السالفة، ثم حض سبحانه على الآخرة، والاستعداد لها بقوله: { ولدار الأخرة خير... } الآية.
قال * ص *: { ولدار الأخرة }: خرجه الكوفيون على أنه من إضافة الموصوف لصفته، وأصله: «وللدار الآخرة»، والبصريون على أنه من حذف الموصوف، وإقامة صفته مقامه، وأصله: «ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة». انتهى.
ويتضمن قوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم }؛ أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى، دعوا أممهم، فلم يؤمنوا بهم، حتى نزلت بهم المثلات، فصاروا في حيز من يعتبر بعاقبته، فلهذا المضمن حسن أن تدخل «حتى» في قوله: { حتى إذا استيئس الرسل }.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: «وظنوا أنهم قد كذبوا» - بتشديد الذال -، وقرأ الباقون: «كذبوا» - بضم الكاف، وكسر الذال المخففة، فأما الأولى، فمعناها أن الرسل ظنوا أن أممهم قد كذبتهم، و«الظن»؛ هنا: يحتمل أن يكون بمعنى اليقين، ويحتمل أن يكون الظن على بابه، ومعنى القراءة الثانية؛ على المشهور من قول ابن عباس وابن جبير: أي: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوة، أو فيما توعدوهم به من العذاب، لما طال الإمهال، واتصلت العافية، جاءهم نصرنا، وأسند الطبري أن مسلم بن يسار، قال لسعيد بن جبير: يا أبا عبد الله، آية بلغت مني كل مبلغ: «حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا»؛ فهذا هو الموت أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا - مخففة -، فقال له ابن جبير: يا أبا عبد الرحمن، إنما يئس الرسل من قومهم؛ أن يجيبوهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم، فقام مسلم إلى سعيد، فاعتنقه، وقال: فرجت عني، فرج الله عنك.
قال * ع *: فرضي الله عنهم، كيف كان خلقهم في العلم، وقال بهذا التأويل جماعة، وهو الصواب، وأما تأويل من قال: إن المعنى: وظنوا أنهم قد كذبهم من أخبرهم عن الله، فغير صحيح، ولا يجوز هذا على الرسل، وأين العصمة والعلم.
* ت *: قال عياض: فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا }؛ على قراءة التخفيف؟ قلنا: المعنى في ذلك ما قالته عائشة رضي الله عنها معاذ الله، أن تظن الرسل ذلك بربها، وإنما معنى ذلك أن الرسل، لما استيأسوا، ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم، كذبوهم؛ وعلى هذا أكثر المفسرين، وقيل: الضمير في «ظنوا» عائد على الأتباع والأمم، لا على الأنبياء والرسل؛ وهو قول ابن عباس والنخعي وابن جبير وجماعة، وبهذا المعنى قرأ مجاهد: «كذبوا» بالفتح، فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء، فكيف بالأنبياء، انتهى من «الشفا».
وقوله سبحانه: { جاءهم نصرنا }: أي: بتعذيب أممهم الكافرة.
{ فنجي من نشاء }: أي: من أتباع الرسل.
{ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين }: أي: الكافرين، و«البأس»: العذاب.
وقوله سبحانه: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألبب }: أي: في قصص يوسف وإخوته وسائر الرسل الذين ذكروا على الجملة، ولما كان ذلك كله في القرآن، قال عنه: { ما كان حديثا يفترى } ، و { الذي بين يديه } التوراة والإنجيل، وباقي الآية بين واضح.
* ت *: كنت في وقت أنظر في «السيرة» لابن هشام، وأتأمل في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، فإذا هاتف يقول: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألبب ما كان حديثا يفترى } ، وقد كان حصل في القلب عبرة في أمره صلى الله عليه وسلم وأفاضل أصحابه، رضي الله عنهم أجمعين، وسلك بنا مناهجهم المرضية، والحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
[13 - سورة الرعد]
[13.1-2]
قوله عز وجل: { المر تلك آيت الكتب والذي أنزل إليك من ربك الحق }: قال ابن عباس: هذه الحروف هي من قوله: «أنا الله أعلم وأرى».
وقوله سبحانه: { الله الذي رفع السموات بغير عمد... } الاية: قال جمهور الناس: لا عمد للسموات ألبتة، وهذا هو الحق و«العمد»: اسم جمع.
قوله سبحانه: { ثم استوى على العرش }: «ثم»؛ هنا: لعطف الجمل، لا للترتيب؛ لأن الاستواء على العرش قبل رفع السموات، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض "
وقد تقدم القول في هذا، وفي معنى الاستواء.
* ت *: والمعتقد في هذا: أنه سبحانه مستو على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، كان الله ولا شيء معه، كان سبحانه قبل أن يخلق المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقوله سبحانه: { وسخر الشمس والقمر }: تنبيه على القدرة، وفي ضمن الشمس والقمر الكواكب، ولذلك قال: { كل يجري } أي: كل ما هو في معنى الشمس والقمر، و«الأجل المسمى»: هو انقضاء الدنيا، وفساد هذه البنية.
{ يدبر الأمر }: معناه: يبرمه وينفذه، وعبر بالتدبير، تقريبا للأفهام، وقال مجاهد: { يدبر الأمر }: معناه يقضيه وحده.
و { لعلكم بلقاء ربكم توقنون }: أي: توقنون بالبعث.
[13.3-4]
وقوله سبحانه: { وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي }: لما فرغت آيات السماء، ذكرت آيات الأرض، وال { رواسي }: الجبال الثابتة.
وقوله سبحانه: { جعل فيها زوجين اثنين }: «الزوج»؛ في هذه الآية: الصنف والنوع، وليس بالزوج المعروف في المتلازمين الفردين من الحيوان وغيره؛ ومنه قوله سبحانه:
سبحن الذي خلق الأزوج كلها مما تنبت الأرض
[يس:36]، ومنه:
وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج
[ق:7]، وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة، فموجود منها نوعان، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين، فغير ضار في معنى الآية، و { قطع }: جمع قطعة، وهي الأجزاء، وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض؛ لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب، وقرأ الجمهور: «وجنات» - بالرفع -؛ عطفا على «قطع»، وقرأ نافع وغيره: «وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان } - بالخفض في الكل -؛ عطفا على «أعناب»، وقرأ ابن كثير وغيره: «وزرع» - بالرفع في الكل -؛ عطفا على «قطع»، و { صنوان }: جمع صنو، وهو الفرع يكون مع الآخر في أصل واحد، قال البراء بن عازب: «الصنوان»: المجتمع، وغير الصنوان: المفترق فردا فردا وفي «الصحيح»: «العم صنو الأب»، وإنما نص على الصنوان في هذه الآية؛ لأنها بمثابة التجاور في القطع تظهر فيها غرابة اختلاف الأكل، و { الأكل } - بضم الهمزة -: اسم ما يؤكل، والأكل المصدر، وحكى الطبري عن ابن عباس وغيره: { قطع متجورت }: أي: واحدة سبخة، وأخرى عذبة، ونحو هذا من القول، وقال قتادة: المعنى: قرى متجاورات.
قال * ع *: وهذا وجه من العبرة، كأنه قال: وفي الأرض قطع مختلفات بتخصيص الله لها بمعان فهي تسقى بماء واحد، ولكن تختلف فيما تخرجه، والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور؛ أنها من تربة واحدة، ونوع واحد، وموضع العبرة في هذا أبين، وعلى المعنى الأول قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم: الأرض واحدة، وينزل عليها ماء واحد من السماء، فتخرج هذه زهرة وثمرة، وتخرج هذه سبخة وملحا وخبثا، وكذلك الناس خلقوا من آدم، فنزلت عليهم من السماء تذكرة، فرقت قلوب وخشعت، وقست قلوب ولهت.
قال الحسن: فوالله، ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى:
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظلمين إلا خسارا
[الاسراء:82].
[13.5-7]
وقوله سبحانه: { وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفي خلق جديد } ، المعنى: وإن تعجب، يا محمد، من جهالتهم وإعراضهم عن الحق، فهم أهل لذلك، وعجب غريب قولهم: أنعود بعد كوننا ترابا، خلقا جديدا؛ { أولئك الذين كفروا بربهم }؛ لتصميمهم على الجحود وإنكارهم للبعث، { وأولئك الأغلل في أعناقهم }: أي: في الآخرة، ويحتمل أن يكون خبرا عن كونهم مغللين عن الإيمان؛ كقوله تعالى:
إنا جعلنا في أعنقهم أغللا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون
[يس:8].
وقوله سبحانه: { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة... } الآية: تبيين لخطئهم كطلبهم سقوط كسف من السماء، وقولهم:
فأمطر علينا حجارة من السماء
[الأنفال:32] ونحو هذا مع نزول ذلك بأناس كثير، وقرأ الجمهور: { المثلاث } - بفتح الميم وضم الثاء -، وقرأ مجاهد «المثلاث» - بفتح الميم والثاء - أي: الأخذة الفذة بالعقوبة، ثم رجى سبحانه بقوله: { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } ، ثم خوف بقوله: { وإن ربك لشديد العقاب }: قال ابن المسيب: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لولا عفو الله ومغفرته ما تهنأ أحد عيشا، ولولا عقابه لاتكل كل أحد "
، وقال ابن عباس: ليس في القرآن أرجى من هذه الآية: { والمثلاث }: هي العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلا يتمثل به؛ ومنه التمثيل بالقتلى؛ ومنه: المثلة بالعبيد.
ويقولون: { لولا أنزل عليه آية من ربه }: هذه من اقتراحاتهم، والآية هنا يراد بها الأشياء التي سمتها قريش؛ كالملك، والكنز، وغير ذلك، ثم أخبر تعالى بأنه منذر وهاد، قال عكرمة، وأبو الضحى: المراد ب «الهادي» محمد صلى الله عليه وسلم؛ ف «هاد» عطف على «منذر»؛ كأنه قال: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم، و«هاد»؛ على هذا التأويل: بمعنى داع إلى طريق الهدى، وقال مجاهد وابن زيد: المعنى: إنما أنت منذر، ولكل أمة سلفت هاد، أي: نبي يدعوهم، أي: فليس أمرك يا محمد ببدع، ولا منكر، وهذا يشبه غرض الآية، وقالت فرقة: «الهادي» في هذه الآية: الله عز وجل، والألفاظ تقلق بهذا المعنى، ويعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع، والقولان الأولان أرجح ما تؤول في الآية.
[13.8-11]
وقوله سبحانه: { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد }: هذه الآيات أمثال منبهات على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث، { وما تغيض الأرحام }: معناه: ما تنقص، ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان، وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم وهو نقص الدم على الحمل، وقال الضحاك: غيض الرحم: أن تسقط المرأة الولد، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة، ونحوه لقتادة.
وقوله: { وكل شيء عنده بمقدار }: عام في كل ما يدخله التقدير، و { الغيب }: ما غاب عن الإدراكات، و { الشهدة }: ما شوهد من الأمور.
وقوله: { الكبير }: صفة تعظيم، و { المتعال }: من العلو.
وقوله سبحانه: { سواء منكم من أسر القول... } الآية: أي: لا يخفى على الله شيء، وال { سارب }؛ في اللغة: المتصرف كيف شاء.
وقوله سبحانه: { له معقبت من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله }: المعنى: جعل الله للعبد معقبات يحفظونه في كل حال من كل ما جرى القدر باندفاعه، فإذا جاء المقدور الواقع، أسلم المرء إليه، وال { معقبت }؛ على هذا التأويل: الحفظة على العباد أعمالهم، والحفظة لهم أيضا؛ قاله الحسن، وروى فيه عن عثمان بن عفان حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى التأويلات في الآية، وعبارة البخاري: { معقبت }: ملائكة حفظة يعقب الأول منها الآخر. انتهى.
وقالت فرقة: الضمير في «له» عائد على اسم الله المتقدم ذكره، أي: لله معقبات يحفظون عبده، والضمير في قوله: { يديه } وما بعده عن الضمائر عائد على العبد، ثم ذكر سبحانه أنه لا يغير هذه الحالة من الحفظ للعبد؛ حتى يغير العبد ما بنفسه، وال { معقبت }: الجماعات التي يعقب بعضها بعضا، وهي الملائكة، وينظر هذا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار... "
الحديث، وفي قراءة أبي بن كعب: «من بين يديه ورقيب من خلفه»، وقرأ ابن عباس: «ورقباء من خلفه يحفظونه بأمر الله»، وقوله: { يحفظونه }: أي: يحرسونه ويذبون عنه، ويحفظون أيضا أعماله، ثم أخبر تعالى؛ أنه إذا أراد بقوم سوءا، فلا مرد له، ولا حفظ منه.
[13.12-14]
وقوله سبحانه: { هو الذي يريكم البرق... } الآية: قد تقدم في أول البقرة تفسيره، والظاهر أن الخوف إنما هو من صواعق البرق، والطمع في الماء الذي يكون معه، وهو قول الحسن، و { السحاب }: جمع سحابة؛ ولذلك جمع الصفة، وال { الثقال }: معناه: بحمل الماء، قاله قتادة ومجاهد، والعرب تصفها بذلك، وروى أبو هريرة
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد، قال: «سبحان من يسبح الرعد بحمده» "
، وقال ابن أبي زكرياء: من قال إذا سمع الرعد: سبحان الله، وبحمده، لم تصبه صاعقة.
* ت *: وعن عبد الله بن عمر، قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق، قال: «اللهم، لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» "
، رواه الترمذي والنسائي والحاكم في «المستدرك»، ولفظهم واحد انتهى من «السلاح»، قال الداوودي: وعن ابن عباس، قال: من سمع الرعد، فقال: « سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، وهو على كل شيء قدير»، فإن أصابته صاعقة، فعلي ديته، انتهى.
وقوله سبحانه: { ويرسل الصوعق... } الآية: قال ابن جريج: كان سبب نزولها قصة أربد، وعامر بن الطفيل، سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأمر بعده لعامر بن الطفيل، ويدخلا في دينه، فأبى عليه السلام ثم تآمرا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر لأربد: أنا أشغله لك بالحديث، واضربه أنت بالسيف، فجعل عامر يحدثه، وأربد لا يصنع شيئا، فلما انصرفا، قال له عامر: والله، يا أربد، لا خفتك أبدا، ولقد كنت أخافك قبل هذا، فقال له أربد: والله، لقد أردت إخراج السيف، فما قدرت على ذلك، ولقد كنت أراك بيني وبينه، أفأضربك، فمضيا للحشد على النبي صلى الله عليه وسلم، فأصابت أربد صاعقة، فقتلته، و { المحال }: القوة والإهلاك.
* ت *: وفي «صحيح البخاري»: { المحال }: العقوبة.
وقوله عز وجل: { له دعوة الحق }: الضمير في «له» عائد على اسم الله عز وجل.
قال ابن عباس: و { دعوة الحق }: «لا إله إلا الله»، يريد: وما كان من الشريعة في معناها.
وقوله: { والذين }: يراد به ما عبد من دون الله، والضمير في { يدعون } لكفار قريش وغيرهم ، ومعنى الكلام: والذين يدعونهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم { لا يستجيبون لهم بشيء إلا } ، ثم مثل سبحانه مثالا لإجابتهم بالذي يبسط كفيه نحو الماء، ويشير إليه بالإقبال إلى فيه، فلا يبلغ فمه أبدا، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع.
وقوله: { هو }: يريد به الماء، وهو البالغ، والضمير في { بالغه } للفم، ويصح أن يكون هو يراد به الفم، وهو البالغ أيضا، والضمير في { بالغه } للماء؛ لأن الفم لا يبلغ الماء أبدا على تلك الحال، ثم أخبر سبحانه عن دعاء الكافرين؛ أنه في انتلاف وضلال لا يفيد.
[13.15-18]
وقوله تعالى: { ولله يسجد من في السموات والأرض... } الآية: تنبيه على قدرته وعظمته سبحانه، وتسخير الأشياء له، والطعن على الكفار التاركين للسجود، و { من }: تقع على الملائكة عموما، و«سجودهم»: طوع، وأما أهل الأرض، فالمؤمنون داخلون في { من } ، وسجودهم أيضا طوع، وأما سجود الكفرة، فهو الكره، وذلك على معنيين، فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة، فالمراد من الكفرة من أسلم، خوف سيف الإسلام؛ كما قاله قتادة، وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل، حسب ما هو في اللغة، فيدخل الكفار أجمعون في { من }؛ لأنه ليس من كافر إلا ويلحقه من التذلل والاستكانة لقدرة الله تعالى أنواع أكثر من أن تحصى بحسب رزاياه، واعتباراته.
وقوله سبحانه: { وظللهم بالغدو والأصال }: إخبار عن أن الظلال لها سجود لله تعالى؛ كقوله تعالى:
أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلله
[النحل:48]، وقال مجاهد: ظل الكافر يسجد طوعا، وهو كاره وروي أن الكافر إذا سجد لصنمه، فإن ظله يسجد لله حينئذ، وباقي الآية بين، ثم مثل الكفار والمؤمنين بقوله: { قل هل يستوي الأعمى والبصير } ، وشبه الكافر بالأعمى، والكفر بالظلمات، وشبه المؤمن بالبصير، والإيمان بالنور.
وقوله سبحانه: { قل الله خلق كل شيء }: لفظ عام يراد به الخصوص؛ كما تقدم ذكره في غير هذا الموضع.
وقوله سبحانه: { أنزل من السماء مآء }: يريد به المطر، { فسالت أودية بقدرها }: «الأودية»: ما بين الجبال من الانخفاض والخنادق، وقوله: { بقدرها }: يحتمل أن يريد بما قدر لها من الماء، ويحتمل أن يريد بقدر ما تحمله على قدر صغرها وكبرها.
* ت *: وقوله: { فاحتمل } بمعنى: حمل، كاقتدر وقدر. قاله * [ص] *.
و { الزبد } ما يحمله السيل من غثاء ونحوه، و«الرابي»: المنتفخ الذي قد ربا، ومنه الربوة.
وقوله سبحانه: { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متع زبد مثله }: المعنى: ومن الأشياء التي توقدون عليها ابتغاء الحلي، وهي الذهب والفضة، أو ابتغاء الاستمتاع بها في المرافق، وهي الحديد والرصاص والنحاس ونحوها من الأشياء التي توقدون عليها، فأخبر تعالى أن من هذه أيضا إذا أحمي عليها يكون لها زبد مماثل للزبد الذي يحمله السيل، ثم ضرب سبحانه ذلك مثلا للحق والباطل، أي: إن الماء الذي تشربه الأرض من السيل، فيقع النفع به هو كالحق، والزبد الذي يخمد وينفش ويذهب هو كالباطل، وكذلك ما يخلص من الذهب والفضة والحديد ونحوه هو كالحق، وما يذهب في الدخان هو كالباطل.
وقوله: { جفاء }: مصدر من قولهم: «أجفأت القدر» إذا غلت حتى خرج زبدها وذهب.
وقال * ص *: { جفاء }: حال، أي: مضمحلا متلاشيا، أبو البقاء: وهمزته منقلبة عن واو، وقيل: أصل. انتهى.
وقوله: { ما ينفع الناس }: يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار.
وقوله سبحانه: { للذين استجابوا لربهم الحسنى }: ابتداء كلام، و { الحسنى }: الجنة. { والذين لم يستجيبوا له }: هم الكفرة، و { سوء الحساب }: هو التقصي على المحاسب، وألا يقع في حسابه من التجاوز شيء؛ قاله شهر بن حوشب والنخعي وفرقد السبخي وغيرهم.
[13.19-25]
وقوله سبحانه: { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى... } المعنى: أسواء من هداه الله، فعلم صدق نبوتك، وآمن بك؛ كمن هو أعمى البصيرة باق على كفره؛ روي أن هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل، وهي بعد هذا مثال في جميع العالم، { إنما يتذكر أولوا الألبب }: «إنما»؛ في هذه الآية: حاصرة، أي: إنما يتذكر، فيؤمن ويراقب الله من له لب، ثم أخذ في وصفهم، فقال: { الذين يوفون بعهد الله... } الآية: قال الثعلبي: قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مسيرة إلى ثمانية أبواب الجنة، وقال أبو بكر الوراق: هذه ثمان جسور، فمن أراد القربة من الله عبرها. انتهى. وباقي الآية ألفاظها واضحة، وأنوارها لذوي البصائر لائحة.
{ ويدرءون }: يدفعون.
قال الغزالي: لما ذكر هذه الآية: والذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة، فليس من ذوي الألباب، ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب، انتهى.
و { جنت }: بدل من { عقبى } وتفسير لها، و { عدن }: هي مدينة الجنة ووسطها، ومعناها: جنات الإقامة؛ من عدن في المكان، إذا أقام فيه طويلا، ومنه المعادن، و { جنت عدن }: يقال: هي مسكن الأنبياء والشهداء والعلماء فقط؛ قاله عبد الله بن عمرو بن العاص، ويروى أن لها خمسة آلاف باب، وقوله: { ومن صلح }: أي: عمل صالحا، { والملئكة يدخلون عليهم من كل باب * سلم عليكم }: أي: يقولون: سلام عليكم، والمعنى: هذا بما صبرتم، وباقي الآية واضح.
وقوله سبحانه: { والذين ينقضون عهد الله... } الآية: هذه صفة حال مضادة للمتقدمة - نعوذ بالله من سخطه -.
[13.26-29]
وقوله تعالى: { الله يبسط الرزق لمن يشاء... } الآية: لما أخبر عمن تقدم وصفه بأن لهم اللعنة وسوء الدار، أنحى بعد ذلك على أغنيائهم، وحقر شأنهم وشأن أموالهم، المعنى: إن هذا كله بمشيئة الله يهب الكافر المال؛ ليهلكه به، ويقدر على المؤمن؛ ليعظم ذلك أجره وذخره.
وقوله: { ويقدر }: من التقدير المناقض للبسط والاتساع.
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء... } الآية: رد على مقترحي الآيات من كفار قريش؛ كما تقدم.
وقوله سبحانه: { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله }: «الذين»: بدل من «من» في قوله: { من أناب } ، وطمأنينة القلوب هي الاستكانة والسرور بذكر الله، والسكون به، كمالا به، ورضا بالثواب عليه، وجودة اليقين، ثم قال سبحانه: { ألا بذكر الله تطمئن القلوب }: أي: لا بالآيات المقترحة التي ربما كفر بعدها؛ فنزل العذاب، «والذين» الثاني: مبتدأ، وخبره { طوبى } لهم.
واختلف في معنى { طوبى } ، فقال ابن عباس: { طوبى }: اسم الجنة بالحبشية، وقيل: { طوبى }: اسم الجنة بالهندية، وقيل: { طوبى }: اسم شجرة في الجنة، وبهذا تواترت الأحاديث؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" طوبى اسم شجرة في الجنة يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها... "
الحديث.
قال * ص *: { طوبى }: «فعلى» من الطيب، والجمهور أنها مفرد مصدر؛ ك «سقيا وبشرى».
قال الضحاك: ومعناها: غبطة لهم، قال القرطبي: والصحيح أنها شجرة؛ للحديث المرفوع. انتهى.
* ت *: وروى الشيخ الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن الخطيب البغدادي في «تاريخه»، عن شيخه أبي نعيم الأصبهاني بسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم
" أن رجلا قال له: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك! قال: «طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني»، فقال له رجل: يا رسول الله، ما طوبى؟ قال: «شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» ".
انتهى من ترجمة «أحمد بن الحسن».
[13.30-32]
وقوله تعالى: { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلهآ أمم }: أي: كما أجرينا عادتنا، { كذلك أرسلناك... } الآية.
وقوله: { وهم يكفرون بالرحمن }: قال قتادة: نزلت في قريش: لما كتب في الكتاب: { بسم الله الرحمن الرحيم } في قصة الحديبية، فقال قائلهم: نحن لا نعرف الرحمن.
قال * ع *: وذلك منهم إباءة اسم فقط، وهروب عن هذه العبارة التي لم يعرفوها إلا من قبل النبي عليه السلام، وال { متاب }: المرجع؛ ك «المآب» لأن التوبة هي الرجوع.
وقوله سبحانه: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض... } الآية: قال ابن عباس وغيره: إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أزح عنا وسير جبلي مكة، فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا، وفلانا وفلانا، فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون، ولو كان ذلك كله.
وقوله تعالى: { أفلم ييأس الذين آمنوا... } الآية: «ييئس»: معناه: يعلم، وهي لغة هوازن، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة: «أفلم يتبين»، ثم أخبر سبحانه عن كفار قريش والعرب ؛ أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته، ثم قال: «أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم». [هذا تأويل ابن عباس وغيره.
وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى: أو تحل القارعة قريبا من دارهم]، و { وعد الله }؛ على قول ابن عباس وغيره: هو فتح مكة، وقال الحسن: الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة، وإن حال الكفرة هكذا هي إلى يوم القيامة، { وعد الله }: قيام الساعة، وال { قارعة }: الرزية التي تقرع قلب صاحبها.
وقوله سبحانه: { ولقد استهزئ برسل... } الآية: تأنيس وتسلية له عليه السلام، قال البخاري: { فأمليت }: أي: أطلت من المليي والملاوة؛ ومنه: مليا، ويقال للواسع الطويل من الأرض: ملى من الأرض. انتهى.
[13.33-35]
وقوله تعالى: { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }: أي: أهو أحق بالعبادة أم الجمادات.
وقوله: { قل سموهم }: أي: سموا من له صفات يستحق بها الألوهية، و { مكرهم }: يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل مناقضة الشرع، و { لهم عذاب في الحياة الدنيا }: أي: بالقتل والأسر والجدوب وغير ذلك، و { أشق }: من المشقة، أي: أصعب، والواقي الساتر على جهة الحماية من الوقاية.
وقوله سبحانه: { مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهر أكلها دائم وظلها }: قد تقدم تفسير نظيره، وقوله: { أكلها }: معناه: ما يؤكل فيها.
[13.36-38]
وقوله سبحانه: { والذين آتينهم الكتب يفرحون... } الآية: قال ابن زيد: المراد بالآية: من آمن من أهل الكتاب؛ كعبد الله بن سلام وغيره.
قال * ع *: والمعنى مدحهم، وباقي الآية بين.
[13.39-43]
وقوله سبحانه: { يمحوا الله ما يشاء ويثبت... }: المعنى أن الله سبحانه يمحو من الأمور ما يشاء، ويغيرها عن أحوالها مما سبق في علمه محوه وتغييره، ويثبتها في الحالة التي ينقلها إليها حسب ما سبق في علمه.
قال * ع *: وأصوب ما يفسر به { أم الكتب }: أنه كتاب الأمور المجزومة التي قد سبق القضاء فيها بما هو كائن، وسبق ألا تبدل ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتمحى وتثبت؛ قال نحوه قتادة، وقوله سبحانه: { وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم }: «إن»: شرط دخلت عليها «ما»، وقوله: { أو نتوفينك } ، «أو» عاطفة، وقوله: { فإنما }: جواب الشرط، ومعنى الآية: إن نبقك يا محمد، لترى بعض الذي نعدهم، أو نتوفينك قبل ذلك، فعلى كلا الوجهين، فإنما يلزمك البلاغ فقط، والضمير في قوله: { أولم يروا }: عائد على كفار قريش؛ كالذي في { نعدهم }.
وقوله: { نأتي }: معناه: بالقدرة والأمر. و { الأرض }: يريد بها اسم الجنس، وقيل: يريد أرض الكفار المذكورين، المعنى: أو لم يروا أنا نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك، فننقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمنهم أن نمكنك منهم أيضا؛ قاله ابن عباس، وهذا على أن الآية مدنية، ومن قال: إن الأرض اسم جنس، جعل انتقاص الأرض بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفار، وقيل: الانتقاص بموت البشر، ونقص الثمار والبركة، وقيل: بموت العلماء والأخيار؛ قاله ابن عباس أيضا، وكل ما ذكر يدخل في لفظ الآية، وجملة معنى هذه الآية: الموعظة وضرب المثل، وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب العلم بسنده عن عطاء بن أبي رباح في معنى { ننقصها من أطرافها } قال: بذهاب فقهائها، وخيار أهلها؛ وعن وكيع نحوه.
وقال الحسن: نقصانها: هو بظهور المسلمين على المشركين.
قال أبو عمر: وقول عطاء في تأويل الآية حسن جدا، تلقاه أهل العلم بالقبول، وقول الحسن أيضا حسن. انتهى.
وقوله سبحانه: { فلله المكر جميعا }: أي: العقوبات التي أحلها بهم، وسماها مكرا على عرف تسمية العقوبة باسم الذنب، وباقي الآية تحذير ووعيد.
{ ويقول الذين كفروا لست مرسلا }: المعنى: ويكذبك يا محمد هؤلاء الكفرة؛ ويقولون: لست مرسلا. { قل كفى بالله شهيدا }: أي: شاهدا بيني وبينكم، { ومن عنده علم الكتب }: قال قتادة: يريد من آمن منهم؛ كعبد الله بن سلام وغيره، كمل تفسير السورة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
[14 - سورة ابراهيم]
[14.1-3]
قوله عز وجل: { الر كتاب أنزلنه إليك لتخرج الناس من الظلمت إلى النور } قال القاضي ابن الطيب، وأبو المعالى وغيرهما: إن الإنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، لكن بالمعاني التي أفهمها الله تعالى جبريل عليه السلام من الكلام.
وقوله: { لتخرج الناس من الظلمت إلى النور }: في هذه اللفظة تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وعم الناس؛ إذ هو مبعوث إلى جميع الخلق، وقرأ نافع وابن عامر: «الله الذي له ما في السموات وما في الأرض» برفع اسم الله؛ على القطع والابتداء، وقرأ الباقون بخفض الهاء، { وويل }: معناه: وشدة وبلاء، وباقي الآية بين.
[14.4-6]
وقوله سبحانه: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم... } الآية، هذه الآية طعن ورد على المستغربين أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه لموسى: { وذكرهم بأيام الله }: أي: عظهم بالتهديد بنقم الله التي أحلها بالأمم الكافرة قبلهم، وبالتعديد لنعمه عليهم، وعبر عن النعم والنقم ب «الأيام»؛ إذ هي في أيام، وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكر بها، وفي الحديث الصحيح: «بينما موسى في قومه يذكرهم أيام الله...» الحديث، في قصة موسى مع الخضر.
قال عياض في «الإكمال»: { أيام الله }: نعماؤه وبلاؤه، انتهى. وقال الداوودي: وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
" { وذكرهم بأيام الله }: قال: بنعم الله "
وعن قتادة: { لأيت لكل صبار شكور }: قال: نعم، والله، العبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر. انتهى.
وقال ابن العربي في «أحكامه»: وفي { أيام الله } قولان: أحدهما: نعمه. والثاني: نقمه. انتهى.
[14.7-9]
وقوله: { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم... } الآية: «تأذن»: بمعنى آذن، أي: أعلم.
قال بعض العلماء: الزيادة على الشكر ليست في الدنيا، وإنما هي من نعم الآخرة، والدنيا أهون من ذلك.
قال * ع *: وجائز أن يزيد الله المؤمن على شكره من نعم الدنيا والآخرة، «والكفر»؛ هنا: يحتمل أن يكون على بابه، ويحتمل أن يكون كفر النعم، لا كفر الجحد، وفي الآية ترجية وتخويف، وحكى الطبري عن سفيان وعن الحسن؛ أنهما قالا: معنى الآية: لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي.
قال * ع *: وضعفه الطبري، وليس كما قال، بل هو قوي حسن، فتأمله.
* ت *: وتضعيف الطبري بين؛ من حيث التخصيص، والأصل التعميم.
وقوله: { ألم يأتكم }: هذا أيضا من التذكير بأيام الله، وقوله سبحانه: { فردوا أيديهم في أفواههم }: قيل: معناه: ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم؛ إشارة على الأنبياء بالسكوت، وقال الحسن: ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتا لهم، وهذا أشنع في الرد.
[14.10-14]
وقوله عز وجل: { قالت رسلهم أفي الله شك }: التقدير: أفي إلاهية الله شك أو: أفي وحدانية الله شك، و«ما»؛ في قوله { ما ءاذيتمونا } مصدرية، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى «الذي»، قال الداودي: عن أبي عبيدة { لمن خاف مقامي }: مجازه حيث أقيمه بين يدي للحساب انتهى. قال عبد الحق في «العاقبة» قال الربيع بن خيثم: من خاف الوعيد، قرب عليه البعيد، ومن طال أمله، ساء عمله. انتهى، وباقي الآية بين.
[14.15-16]
وقوله سبحانه: { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد }: { استفتحوا }: أي: طلبوا الحكم، و«الفتاح» الحاكم، والمعنى: أن الرسل استفتحوا، أي: سألوا الله تبارك وتعالى إنفاذ الحكم بنصرهم.
وقيل: بل استفتح الكفار على نحو قول قريش:
عجل لنا قطنا...
[ص:16] وعلى نحو قول أبي جهل يوم بدر: اللهم، أقطعنا للرحم، وأتيانا بما لا نعرف، فاحنه الغداة، وهذا قول ابن زيد، وقرأت فرقة: «واستفتحوا» - بكسر التاء -؛ على معنى الأمر للرسل، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن محيصن: { وخاب }: معناه: خسر ولم ينجح، وال { جبار }: المتعظم في نفسه، وال { عنيد }: الذي يعاند ولا يناقد.
وقوله: { من ورائه }: قال الطبري وغيره: من أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى:
وكان وراءهم ملك
[الكهف:79]، وليس الأمر كما ذكروا، بل الوراء هنا وهناك على بابه، أي: هو ما يأتي بعد في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء، إنما هو بالزمان، وما تقدم فهو أمام، وهو بين اليد؛ كما نقول في التوراة والإنجيل: إنهما بين يدي القرآن، والقرآن وراءهم، وعلى هذا فما تأخر في الزمان فهو وراء المتقدم، { ويسقى من ماء صديد }: «الصديد»: القيح والدم، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار؛ قاله مجاهد والضحاك.
[14.17-21]
وقوله: { يتجرعه ولا يكاد يسيغه }: عبارة عن صعوبة أمره عليهم، وروي أن الكافر يؤتى بالشربة من شراب أهل النار، فيتكرهها، فإذا أدنيت منه، شوت وجهه، وسقطت فيها فروة رأسه، فإذا شربها، قطعت أمعاءه، وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله عز وجل، { ويأتيه الموت من كل مكان } ، أي: من كل شعرة في بدنه؛ قاله إبراهيم التيمي، وقيل: من جميع جهاته الست، { وما هو بميت }: لا يراح بالموت، { ومن ورائه عذاب غليظ }: قال الفضيل بن عياض العذاب الغليظ: حبس الأنفاس في الأجساد، وفي الحديث:
" تخرج عنق من النار تكلم بلسان طلق ذلق لها عينان تبصر بهما، ولها لسان تكلم به، فتقول: إني أمرت بمن جعل مع الله إلها آخر، وبكل جبار عنيد، وبمن قتل نفسا بغير نفس، فتنطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام، فتنطوي عليهم، فتقذفهم في جهنم "
، خرجه البزار، انتهى من «الكوكب الدري».
وقوله: { في يوم عاصف } وصف اليوم بالعصوف، وهي من صفات الريح بالحقيقة؛ لما كانت في اليوم، كقول الشاعر: [الطويل]
.......................
ونمت وما ليل المطي بنائم
وباقي الآية بين.
{ وبرزوا لله جميعا }: معناه: صاروا في البراز، وهي الأرض المتسعة، { فقال الضعفاء } ، وهم الأتباع { للذين استكبروا } ، وهم القادة وأهل الرأي، وقولهم: { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } «المحيص»: المفر والملجأ مأخوذ من حاص يحيص؛ إذا نفر وفر؛ ومنه في حديث هرقل: « فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب » وروي عن ابن زيد، وعن محمد بن كعب؛ أن أهل النار يقولون: إنما نال أهل الجنة الرحمة بالصبر على طاعة الله، فتعالوا فلنصبر، فيصبرون خمسمائة سنة، فلا ينتفعون، فيقولون: هلم فلنجزع، فيضجون ويصيحون ويبكون خمسمائة سنة أخرى، فحينئذ يقولون هذه المقالة { سواء علينا... } الآية، وظاهر الآية أنهم إنما يقولونها في موقف العرض وقت البروز بين يدي الله عز وجل.
[14.22-23]
وقوله عز وجل: { وقال الشيطن لما قضي الأمر }: المراد هنا ب «الشيطان» إبليس الأقدم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عقبة بن عامر، أنه قال: يقوم يوم القيامة خطيبان؛ أحدهما: إبليس يقوم في الكفرة بهذه الألفاظ، والثاني: عيسى ابن مريم يقوم بقوله:
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به...
الآية [المائدة:117]، وروي في حديث؛ أن إبليس إنما يقوم بهذه الألفاظ في النار على أهلها عند قولهم:
ما لنا من محيص
[إبراهيم:21] في الآية المتقدمة؛ فعلى هذه الرواية، يكون معنى قوله: { قضي الأمر } ، أي: حصل أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، وهو تأويل الطبري.
وقوله: { وما كان لي عليكم من سلطن }: أي: من حجة بينة، و { إلا أن دعوتكم }؛ استثناء منقطع، ويحتمل أن يريد ب «السلطان» في هذه الآية: الغلبة والقدرة والملك، أي: ما اضطررتكم، ولا خوفتكم بقوة مني، بل عرضت عليكم شيئا فأتى رأيكم عليه.
وقوله: { فلا تلوموني }: يريد: بزعمه؛ إذ لا ذنب لي، { ولوموا أنفسكم } ، أي: في سوء نظركم في اتباعي، وقلة تثبتكم؛ { ما أنا بمصرخكم }: «المصرخ»: المغيث، والصارخ: المستغيث، وأما الصريخ، فهو مصدر بمنزلة البريح، وقوله: { إني كفرت بما أشركتمون }: «ما» مصدرية، وكأنه يقول: إني الآن كافر بإشراككم إياي مع الله قبل هذا الوقت، فهذا تبر منه، وقد قال تعالى:
ويوم القيمة يكفرون بشرككم
[فاطر:14]. وقوله عز وجل: { وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصلحات جنت تجري من تحتها الأنهر خلدين فيها بإذن ربهم }: «الإذن»؛ هنا: عبارة عن القضاء والإمضاء.
[14.24-26]
وقوله سبحانه: { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة }: { ألم تر }: بمعنى: ألم تعلم، قال ابن عباس وغيره: الكلمة الطيبة: هي لا إله إلا الله، مثلها الله سبحانه بالشجرة الطيبة، وهي النخلة في قول أكثر المتأولين، فكأن هذه الكلمة أصلها ثابت في قلوب المؤمنين، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية وأنواع الحسنات هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد، والحين: القطعة من الزمان غير محدودة؛ كقوله تعالى:
ولتعلمن نبأه بعد حين
[ص:88]، وقد تقتضي لفظة «الحين» بقرينتها تحديدا؛ كهذه الآية، و«الكلمة الخبيثة»: هي كلمة الكفر، وما قاربها من كلام السوء في الظلم ونحوه، و«الشجرة الخبيثة»: قال أكثر المفسرين: هي شجرة الحنظل؛ ورواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عندي على جهة المثل، «اجتثت»: أي: اقتلعت جثتها بنزع الأصول، وبقيت في غاية الوهن والضعف، فتقلبها أقل ريح، فالكافر يرى أن بيده شيئا، وهو لا يستقر ولا يغني عنه؛ كهذه الشجرة الذي يظن بها على بعد أو للجهل بها أنها شيء نافع، وهي خبيثة الجني غير باقية.
[14.27-30]
وقوله سبحانه: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الأخرة }: { القول الثابت في الحيوة الدنيا }: كلمة الإخلاص والنجاة من النار: «لا إله إلا الله»، والإقرار بالنبوة، وهذه الآية تعم العالم من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة. قال طاوس، وقتادة، وجمهور من العلماء: { الحيوة الدنيا } هي مدة حياة الإنسان، { وفي الأخرة } وقت سؤاله في قبره، وقال البراء بن عازب وجماعة: { في الحيوة الدنيا }: هي وقت سؤاله في قبره، ورواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ متأول، وفي الآخرة: هو يوم القيامة عند العرض، والأول أحسن، ورجحه الطبري.
* ت *: ولفظ البخاري عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" المسلم إذا سئل في القبر، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الأخرة } "
انتهى، وحديث البراء خرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، قال صاحب «التذكرة»: وقد روى هذا الحديث أبو هريرة وابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدري قال أبو سعيد الخدري: كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
" يأيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه، جاءه ملك بيده مطراق، فأقعده، فقال: ما تقول في هذا الرجل... "
الحديث، وفيه: فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الأخرة ويضل الله الظلمين ويفعل الله ما يشاء } انتهى .
قال أبو عمر بن عبد البر: وروينا من طرق؛
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: " كيف بك يا عمر، إذا جاءك منكر ونكير، إذا مت، وانطلق بك قومك، فقاسوا ثلاثة أذرع وشبرا في ذراع وشبر، ثم غسلوك، وكفنوك، وحنطوك، ثم احتملوك، فوضعوك فيه، ثم أهالوا عليك التراب، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر: منكر ونكير، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف يجران شعورهما معهما مرزبة، لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلبوها، فقال عمر: يا رسول الله، إن فرقنا فحق لنا أن نفرق أنبعث على ما نحن عليه؟ قال: نعم، إن شاء الله، قال: إذن أكفيكهما "
، انتهى، و«الظالمون»؛ في هذه الآية: الكافرون، { ويفعل الله ما يشاء } ، أي: بحق الملك؛ فلا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وجاءت أحاديث صحيحة في مساءلة العبد في قبره، وجماعة السنة تقول: إن الله سبحانه يخلق للعبد في قبره إدراكات وتحصيلا: إما بحياة؛ كالمتعارفة، وإما بحضور النفس، وإن لم تتلبس بالجسد كالعرف، كل هذا جائز في قدرة الله تبارك وتعالى غير أن في الأحاديث الصحيحة؛ « أنه يسمع خفق النعال »، ومنها: أنه يرى الضوء كأن الشمس دنت للغروب، وفيها أنه يراجع، وفيها: « فيعاد روحه إلى جسده »، وهذا كله يتضمن الحياة، فسبحان من له هذه القدرة العظيمة، وقوله سبحان: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا }: المراد ب { الذين بدلوا نعمت الله }: كفرة قريش، وقد خرجه البخاري وغيره مسندا عن ابن عباس انتهى، والتقدير: بدلوا شكر نعمة الله كفرا، ونعمة الله تعالى؛ في هذه الآية: هو محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، { وأحلوا قومهم } ، أي: من أطاعهم، وكأن الإشارة والتعنيف إنما هو للرؤوس والأعلام، و { البوار }: الهلاك، قال عطاء بن يسار: نزلت هذه الآية في قتلى بدر، و«الأنداد»: جمع ند، وهو المثيل، والمراد: الأصنام، واللام في قوله: { ليضلوا } - بضم الياء -: لام كي، وبفتحها: لام عاقبة وصيرورة، والقراءتان سبعيتان.
[14.31-34]
وقوله سبحانه: { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة... } الآية: «العباد»: جمع عبد، وعرفه في التكرمة بخلاف العبيد، و«السر»: صدقة التنقل، و«العلانية»: المفروضة؛ هذا هو مقتضى الأحاديث، وفسر ابن عباس هذه الآية بزكاة الأموال مجملا، وكذلك فسر الصلاة؛ بأنها الخمس وهذا عندي منه تقريب للمخاطب. و«الخلال»: مصدر من «خالل»، إذا واد وصافى؛ ومنه الخلة والخليل، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة.
وقوله سبحانه: { الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرت رزقا لكم }: هذه الآية تذكير بآلائه سبحانه، وتنبيه على قدرته التي فيها إحسان إلى البشر؛ لتقوم الحجة عليهم، وقوله: { بأمره }: مصدر أمر يأمر، وهذا راجع إلى الكلام القديم القائم بالذات، و { دائبين }: معناه: متماديين، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش إليه: « إن هذا الجمل شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه»، أي: تديمه في الخدمة والعمل، وظاهر الآية أن معناه: دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة، وعن ابن عباس أنه قال: معناه: دائبين في طاعة الله، وقوله سبحانه: { وآتاكم من كل ما سألتموه } المعنى: أن جنس الإنسان بجملته قد أوتي من كل ما شأنه أن يسأل وينتفع به، وقرأ ابن عباس وغيره: «من كل ما سألتموه» - بتنوين كل -، ورويت عن نافع، وقوله تعالى: { وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها } ، أي: لكثرتها وعظمها في الحواس والقوى، والإيجاد بعد العدم والهداية للإيمان وغير ذلك، وقال طلق بن حبيب: إن حق الله تعالى: أثقل من أن يقوم به العباد، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين، وأمسوا توابين.
* ت *: ومن «الكلم الفارقية»: أيها الحريص على نيل عاجل حظه ومراده؛ الغافل عن الاستعداد لمعاده تنبه لعظمة من وجودك بإيجاده؛ وبقاؤك بإرفاده؛ ودوامك بإمداده، وأنت طفل في حجر لطفه؛ ومهد عطفه؛ وحضانة حفظه، يغذك بلبان بره؛ ويقلبك بأيدي أياديه وفضله؛ وأنت غافل عن تعظيم أمره؛ جاهل بما أولاك من لطيف سره؛ وفضلك به على كثير من خلقه، واذكر عهد الإيجاد، ودوام الإمداد والإرفاد؛ وحالتي الإصدار والإيراد؛ وفاتحة المبدأ وخاتمة المعاد . انتهى.
وقوله سبحانه: { إن الإنسن }: يريد به النوع والجنس، المعنى: توجد فيه هذه الخلال، وهي الظلم والكفر، فإن كانت هذه الخلال من جاحد، فهي بصفة، وإن كانت من عاص فهي بصفة أخرى.
[14.35-39]
وقوله سبحانه: { وإذ قال إبرهيم رب اجعل هذا البلد آمنا } تقدم تفسيره.
وقوله: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام }: و { واجنبني }: معناه: امنعني، يقال: جنبه كذا، وأجنبه؛ إذا منعه من الأمر وحماه منه.
* ت *: وكذا قال * ص *: و«اجنبني»: معناه: امنعني، أصله من الجانب، وعبارة المهدوي: أي: اجعلني جانبا من عبادتها.
وقال الثعلبي: { واجنبني } ، أي: بعدني واجعلني منها على جانب بعيد. انتهى، وهذه الألفاظ كلها متقاربة المعاني، وأراد إبراهيم عليه السلام بني صلبه، وأما باقي نسله، فمنهم من عبد الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته، فكيف يخاف أن يعبد صنما، لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف، وطلب حسن الخاتمة، و { الأصنام }: هي المنحوتة على خلقة البشر، وما كان منحوتا على غير خلقة البشر، فهي أوثان، قاله الطبري عن مجاهد، ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيرا من الناس تجوزا، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعها سبحانه، وقيل: أراد ب { الأصنام } هنا: الدنانير والدراهم.
وقوله: { ومن عصاني }: ظاهره بالكفر؛ لمعادلة قوله: { فمن تبعني فإنه مني } ، وإذا كان ذلك كذلك، فقوله: { فإنك غفور رحيم }: معناه: بتوبتك على الكفرة؛ حتى يؤمنوا لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر، وحمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل، والنطق الحسن، وجميل الأدب صلى الله عليه وسلم، قال قتاد: اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه وسلم: والله ما كانوا طعانين ولا لعانين، وكذلك قول نبي الله عيسى عليه السلام:
وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
[المائدة:118]، وأسند الطبري عن عبد الله بن عمرو حديثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم، تلا هاتين الآيتين، ثم دعا لأمته فبشر فيهم، وكان إبراهيم التيمي يقول: من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام.
وقوله: و { من ذريتي }: يريد: إسماعيل عليه السلام، وذلك أن سارة لما غارت بهاجر بعد أن ولدت إسماعيل، تشوش قلب إبراهيم منهما، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر، والطفل، فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، فتركهما هناك، وركب منصرفا من يومه ذلك، وكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولى، دعا بمضمن هذه الآية، وأما كيفية بقاء هاجر، وما صنعت، وسائر خبر إسماعيل، ففي كتاب البخاري وغيره، وفي السير، ذكر ذلك كله مستوعبا.
* ت *: وفي «صحيح البخاري» من حديثه الطويل في قصة إبراهيم مع هاجر وولدها، لما حملهما إلى مكة، قال: وليس بمكة يومئذ أحد، وليس فيها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس، ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه، فقال:« رب { إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم } ، حتى بلغ: { يشكرون }.
.. »الحديث بطوله وفي الطريق: «قالت: ياإبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله عز وجل، قالت: رضيت. انتهى. وفي هذا الحديث من الفوائد لأرباب القلوب والمتوكلين وأهل الثقة بالله سبحانه ما يطول بنا سردها، فإليك استخراجها، ولما انقطعت هاجر وابنها إلى الله تعالى، آواهما الله، وأنبع لهما ماء زمزم المبارك الذي جعله غذاء، قال ابن العربي: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" ماء زمزم لما شرب له ".
قال ابن العربي: ولقد كنت مقيما بمكة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وكنت أشرب ماء زمزم كثيرا، وكلما شربت، نويت به العلم والإيمان، ونسيت أن أشربه للعمل، ففتح لي في العلم، ويا ليتني شربته لهما معا؛ حتى يفتح لي فيهما، ولم يقدر، فكان صغوي إلى العلم أكثر منه إلى العمل، انتهى من «الأحكام».
و«من»؛ في قوله: و { من ذريتي }؛ للتبعيض؛ لأن إسحاق كان بالشام، و«الوادي»: ما بين الجبلين، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء، وجمعه الضمير في قوله: { ليقيموا }: يدل على أن الله قد أعلمه أن ذلك الطفل سيعقب هناك، ويكون له نسل، واللام في { ليقيموا }: لام كي؛ هذا هو الظاهر، ويصح أن تكون لام الأمر؛ كأنه رغب إلى الله سبحانه أن يوفقهم لإقامة الصلاة، و«الأفئدة» القلوب جمع فؤاد، سمي بذلك، لاتقاده، مأخوذ من «فأد»، ومنه: «المفتأد»، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم.
وقوله: { من الناس }: تبعيض، ومراده المؤمنون، وباقي الآية بين.
[14.40-41]
وقوله: { رب اجعلني مقيم الصلوة }: دعاء إبراهيم عليه السلام في أمر كان مثابرا عليه، متمسكا به، ومتى دعا الإنسان في مثل هذا، فإنما المقصد إدامة ذلك الأمر، واستمراره قال السهيلي: قوله تعالى: { رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي } بحرف التبعيض، ولذلك أسلم بعض ذريته دون بعض، انتهى، وفاقا لما تقدم الآن.
وقوله: { ربنا اغفر لي ولوالدي }: اختلف في تأويل ذلك، فقالت فرقة: كان ذلك قبل يأسه من إيمان أبيه، وتبينه أنه عدو لله، فأراد أباه وأمه؛ لأنها كانت مؤمنة، وقيل: أراد آدم ونوحا عليهما السلام، وقرأ الزهري وغيره: «ولولدي»؛ على أنه دعاء لإسماعيل وإسحاق، وأنكرها عاصم الجحدري، وقال: «إن في مصحف أبي بن كعب ولأبوي».
[14.42-44]
وقوله عز وجل: { ولا تحسبن الله غفلا عما يعمل الظلمون إنما يؤخرهم... } الآية: هذه الآية بجملتها فيها وعيد للظالمين، وتسلية للمظلومين، والخطاب بقوله: { تحسبن } للنبي صلى الله عليه وسلم، و { تشخص فيه الأبصر } ، معناه: تحد النظر، لفرط الفزع ولفرط ذلك يشخص المختضر، و«المهطع» المسرع في مشيه؛ قاله ابن جبير وغيره، وذلك بذلة واستكانة، كإسراع الأسير ونحوه، وهذا أرجح الأقوال، وقال ابن عباس وغيره: الإهطاع شدة النظر من غير أن يطرف، وقال ابن زيد: «المهطع»: الذي لا يرفع رأسه، قال أبو عبيدة: قد يكون: الإهطاع للوجهين جميعا: الإسراع ، وإدامة النظر، و«المقنع»: هو الذي يرفع رأسه قدما بوجهه نحو الشيء، ومن ذلك قول الشاعر: [الوافر]
يباكرن العضاه بمقنعات
نواجذهن كالحدإ الوقيع
يصف الإبل عند رعيها أعالي الشجر، وقال الحسن في تفسير هذه الآية: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد، وذكر المبرد فيما حكى عنه مكي: أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى: خفض الرأس من الذلة.
قال * ع *: والأول أشهر.
وقوله سبحانه: { لا يرتد إليهم طرفهم }؛ أي: لا يطرفون من الحذر والجزع وشدة الحال.
وقوله: { وأفئدتهم هواء }: تشبيه محض، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فراغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة، فهي متخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء، وانخراقه، ويحتمل أن تكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم، وأنها تذهب وتجيء وتبلغ على ما روي حناجرهم، فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبدا في اضطراب.
وقوله سبحانه: { وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب }: المراد باليوم: يوم القيامة، ونصبه على أنه مفعول ب «أنذر»، ولا يجوز أن يكون ظرفا، لأن القيامة ليست بموطن إنذار، قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة: يجب التصديق بكل ما أخبر الله ورسوله به، ولا يتعرض إلى الكيفية في كل ما جاء من أمر الساعة وأحوال يوم القيامة، فإنه أمر لا تسعه العقول، وطلب الكيفية فيه ضعف في الإيمان، وإنما يجب الجزم بالتصديق بجميع ما أخبر الله به، انتهى.
قال الغزالي: فأعلم العلماء وأعرف الحكماء ينكشف له عقيب الموت من العجائب والآيات ما لم يخطر قط بباله، ولا اختلج به ضميره، فلو لم يكن للعاقل هم ولا غم، إلا التفكر في خطر تلك الأحوال، وما الذي ينكشف عنه الغطاء من شقاوة لازمة، أو سعادة دائمة لكان ذلك كافيا في استغراق جميع العمر، والعجب من غفلتنا، وهذه العظائم بين أيدينا. انتهى من «الإحياء».
وقوله: { أولم تكونوا... } الآية: معناه: يقال لهم، وقوله: { ما لكم من زوال }: هو المقسم عليه، وهذه الآية ناظرة إلى ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله:
وأقسموا بالله جهد أيمنهم لا يبعث الله من يموت
[النحل:38].
[14.45-47]
وقوله سبحانه: { وسكنتم... } الآية: المعنى: بقول الله عز وجل: وسكنتم أيها المعرضون عن آيات الله من جميع العالم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر من الأمم السالفة، فنزلت بهم المثلاث، فكان حقكم الاعتبار والاتعاظ. وقوله: { وعند الله مكرهم }: أي: جزاء مكرهم، وقرأ السبعة سوى الكسائي: «وإن كان مكرهم لتزول» - بكسر اللام من «لتزول» وفتح الأخيرة -؛ وهذا على أن تكون «إن» نافية بمعنى «ما»، ومعنى الآية تحقير مكرهم، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وإقدار الله بها التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها، هذا تأويل الحسن وجماعة المفسرين وتحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم، أي: وإن كان شديدا، وقرأ الكسائي: «وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال» - بفتح اللام الأولى من لتزول، وضم الأخيرة -، وهي قراءة ابن عباس وغيره، ومعنى الآية: تعظيم مكرهم وشدته، أي: أنه مما يشقى به، ويزيل الجبال عن مستقراتها، لقوته، ولكن الله تعالى أبطله ونصر أولياءه، وهذا أشد في العبرة، وقرأ علي وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبي: «وإن كاد مكرهم»، وذكر أبو حاتم أن في قراءة أبي: «ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال».
وقوله سبحان: { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله... } الآية: تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من أمته، ولم يكن النبي عليه السلام ممن يحسبن مثل هذا، ولكن خرجت العبارة هكذا، والمراد بما فيها من الزجر غيره؛ { إن الله عزيز }: لا يمتنع منه شيء، { ذو انتقام }: من الكفرة.
[14.48-52]
وقوله سبحانه: { يوم تبدل الأرض... } ، الآية: { يوم } ظرف للانتقام المذكور قبله، وروي في تبديل الأرض أخبار منها في الصحيح:
" يبدل الله هذه الأرض بأرض عفراء بيضاء كأنها قرصة نقي "
، وفي الصحيح:
" إن الله يبدلها خبزة يأكل المؤمن منها من تحت قدميه "
وروي أنها تبدل أرضا من فضة، وروي أنها أرض كالفضة من بياضها، وروي أنها تبدل من نار.
قال * ع *: وسمعت من أبي رحمه الله؛ أنه روي أن التبديل يقع في الأرض، ولكن يبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه، وفريق يكون على فضة، إن صح السند بها، وفريق الكفرة يكونون على نار، ونحو هذا مما كله واقع تحت قدرة الله عز وجل، وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عفراء لم يعص الله فيها، ولا سفك فيها دم، وليس فيها معلم لأحد، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش "
، وروي عنه أنه قال:
" الناس وقت التبديل على الصراط "
، وروي أنه قال:
" الناس حينئذ أضياف الله، فلا يعجزهم ما لديه "
وفي «صحيح مسلم» من حديث ثوبان
" في سؤال الحبر، وقوله: يا محمد، أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: « هم في الظلمة دون الجسر» "
الحديث بطوله، وخرجه مسلم وابن ماجه جميعا، قالا: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثم أسندا عن عائشة، قالت:
" سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: { يوم تبدل الأرض غير الأرض السموات } فأين يكون الناس؟ قال: على الصراط "
، وخرجه الترمذي من حديث عائشة، " قالت: يا رسول الله، { والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسموت مطويت بيمينه } [الزمر:67]، فأين يكون المؤمنون يومئذ؟ قال:« على الصراط يا عائشة»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى من «التذكرة».
{ وترى المجرمين }: أي الكفار، و { مقرنين }: أي: مربوطين في قرن، وهو الحبل الذي تشد به رؤوس الإبل والبقر، و { الأصفاد }: هي الأغلال، واحدها صفد، والسرابيل: القمص، وال { قطران }: هو الذي تهنأ به الإبل، وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه، وقرأ عمر بن الخطاب وعلي وأبو هريرة وابن عباس وغيرهم: «من قطر آن»، والقطر: القصدير، وقيل: النحاس، وروي عن عمر أنه قال: ليس بالقطران، ولكنه النحاس يسر بلونه، و«آن»: صفة، وهو الذائب الحار الذي تناهى حره؛ قال الحسن: قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت، فتناهى حره.
وقوله سبحانه : { ليجزي الله كل نفس ما كسبت... } الآية: جاء من لفظة الكسب بما يعم المسيء والمحسن؛ لينبه على أن المحسن أيضا يجازى بإحسانه خيرا.
وقوله سبحانه: { هذا بلغ للناس... } الآية: إشارة إلى القرآن والوعيد الذي تضمنه، والمعنى: هذا بلاغ للناس، وهو لينذروا به وليذكر أولو الألباب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
[15 - سورة الحجر]
[15.1-2]
قوله عز وجل: { الر تلك آيات الكتب وقرآن مبين }: قال مجاهد وقتادة: { الكتب }: في الآية: ما نزل من الكتب قبل القرآن، ويحتمل أن يراد ب { الكتب } القرآن: ثم تعطف الصفة عليه، و«ربما»: للتقليل، وقد تجيء شاذة للتكثير.
وقال قوم: إن هذه من ذلك، وأنكر الزجاج أن تجيء «رب» للتكثير، واختلف المتأولون في الوقت الذي يود فيه الكفار أن يكونوا مسلمين، فقالت فرقة: هو عند معاينة الموت، حكى ذلك الضحاك، وقالت فرقة: هو عند معاينة أهوال يوم القيامة، وقال ابن عباس وغيره: هو عند دخولهم النار، ومعرفتهم، بدخول المؤمنين الجنة، وروي فيه حديث من طريق أبي موسى.
[15.3-5]
وقوله سبحانه: { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا... } الآية: وعيد وتهديد، وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف، وروى ابن المبارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا الأوزاعي عن عروة بن رويم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" شرار أمتي الذين ولدوا في النعيم، وغذوا به، همتهم ألوان الطعام، وألوان الثياب، يتشدقون بالكلام "
انتهى.
وقوله: { فسوف يعلمون }: وعيد ثان، وحكى الطبري عن بعض العلماء؛ أنه قال: الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين.
وقوله: { ويلههم الأمل }: أي: يشغلهم أمهلم في الدنيا، والتزيد منها.
قال عبد الحق في «العاقبة»: اعلم رحمك الله أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر، وانتظار الموت مع الإكباب عليها غير متيسر، ثم قال: واعلم أن كثرة الاشتغال بالدنيا والميل بالكلية إليها، ولذة أمانيها تمنع مرارة ذكر الموت؛ أن ترد على القلب، وأن تلج فيه؛ لأن القلب إذا امتلأ بشيء، لم يكن لشيء آخر فيه مدخل، فإذا أراد صاحب هذا القلب سماع الحكمة، والانتفاع بالموعظة، لم يكن له بد من تفريقه، ليجد الذكر فيه منزلا، وتلفي الموعظة فيه محلا قابلا، قال ابن السماك رحمه الله: إن الموتى لم يبكوا من الموت؛ لكنهم بكوا من حسرة الفوت، فاتتهم والله، دار لم يتزودوا منها؛ ودخلوا دارا لم يتزودوا لها. انتهى. وإنما حصل لهم الفوت؛ بسبب استغراقهم في الدنيا، وطول الأمل الملهي عن المعاد، ألهمنا الله رشدنا بمنه.
وقوله سبحانه: { ومآ أهلكنا من قرية... } الآية: أي: فلا تستبطئن هلاكهم، فليس من قرية مهلكة إلا بأجل، وكتاب معلوم محدود.
[15.6-9]
{ وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر... } الآية: القائلون هذه المقالة هم كفار قريش، «ولو ما» بمعنى: لولا، فتكون تحضيضا؛ كما هي في هذه الآية، وفي البخاري: { لو ما تأتينا }: هلا تأتينا.
وقوله: { إلا بالحق }: قال مجاهد: المعنى: بالرسالة والعذاب، والظاهر أن معناه كما ينبغي ويحق من الوحي والمنافع التي أراها الله لعباده، لا على اقتراح كافر، ثم ذكر عادته سبحانه في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح، إلا ومعها العذاب في إثرها إن لم يؤمنوا، والنظرة: التأخير.
وقوله سبحانه: { إنا نحن نزلنا الذكر }: رد على المستخفين في قولهم: { يأيها الذي نزل عليه الذكر } ، وقوله: { وإنا له لحفظون }: قال مجاهد وغيره: الضمير في «له» عائد على القرآن، المعنى: وإنا له لحافظون من أن يبدل أو يغير.
[15.10-15]
وقوله سبحانه: { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } الآية: تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: أي: لا يضق صدرك، يا محمد، بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم: { يأيها الذي نزل عليه الذكر } ، وغير ذلك، و«الشيعة»: الفرقة التابعة لرأس ما.
* ت *: قال الفراء { في شيع الأولين } إنه من إضافة الموصوف إلى صفته ك
حق اليقين
[الواقعة:95]، و
جانب الغربي
[القصص:44]، وتأوله البصريون على حذف الموصوف، أي: شيع الأمم الأولين. انتهى من * ص *
وقوله سبحانه: { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين }: يحتمل أن يكون الضمير في { نسلكه } يعود على الذكر المحفوظ المتقدم، وهو القرآن ، ويكون الضمير في «به» عائدا عليه أيضا، ويحتمل أن يعود الضميران معا على الاستهزاء والشرك ونحوه، والباء في «به»: باء السبب، أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويحتمل أن يكون الضمير في { نسلكه } عائدا على الاستهزاء والشرك، والضمير في «به» عائدا على القرآن، والمعنى، في ذلك كله، ينظر بعضه إلى بعض، و { نسلكه }: معناه: ندخله و { المجرمين }؛ هنا: يراد بهم كفار قريش، ومعاصرو النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { لا يؤمنون به } عموم، معناه الخصوص فيمن حتم عليه، وقوله: { وقد خلت سنة الأولين }: أي: على هذه الوتيرة، { ولو فتحنا عليهم } ، أي: على قريش وكفرة العصر، والضمير في قوله: { فظلوا } عائد عليهم، وهو تأويل الحسن، و { يعرجون }: معناه يصعدون، ويحتمل أن يعود على الملائكة، أي: ولو رأوا الملائكة يصعدون ويتصرفون في باب مفتوح في السماء لما آمنوا، وهذا هو تأويل ابن عباس، وقرأ السبعة سوى ابن كثير: «سكرت» - بضم السين وشد الكاف -، وقرأ ابن كثير بتخفيف الكاف، تقول العرب: سكرت الريح تسكر سكورا، إذا ركدت، ولم تنفذ لما كانت بسبيله أولا، وسكر الرجل من الشراب، إذا تغيرت حاله وركد، ولم ينفذ لما كان بسبيله أن ينفذ فيه، وتقول العرب: سكرت البثق في مجاري الماء سكرا؛ إذا طمسته وصرفت الماء عنه، فلم ينفذ لوجهه.
قال * ع *: فهذه اللفظة «سكرت» - بشد الكاف - إن كانت من سكر الشراب، أو من سكور الريح، فهي فعل عدي بالتضعيف، وإن كانت من سكر مجاري الماء، فتضعيفها للمبالغة، لا للتعدي، لأن المخفف من فعله متعد، ومعنى هذه المقالة منهم: أي: غيرت أبصارنا عما كانت عليه، فهي لا تنفذ وتعطينا حقائق الأشياء: كما كانت تفعل.
[15.16-21]
وقوله سبحانه: { ولقد جعلنا في السماء بروجا }: «البروج»: المنازل، واحدها برج، وسمي بذلك لظهوره؛ ومنه تبرج المرأة: ظهورها وبدوها، و«حفظ السماء»: هو بالرجم بالشهب؛ على ما تضمنته الأحاديث الصحاح، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الشياطين تقرب من السماء أفواجا، قال: فينفرد المارد منها، فيعلو فيسمع، فيرمى بالشهاب، فيقول لأصحابه: إنه من الأمر كذا وكذا، فيزيد الشياطين في ذلك، ويلقون إلى الكهنة، فيزيدون مع الكلمة مائة ونحو هذا... "
الحديث: «وإلا»: بمعنى: «لكن»، ويظهر أن الاستثناء من الحفظ، وقال محمد بن يحيى عن أبيه: { إلا من استرق السمع } ، فإنها لم تحفظ منه.
وقوله: { موزون }: قال الجمهور: معناه: مقدر محرر بقصد وإرادة، فالوزن على هذا: مستعار.
وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة؛ كالذهب والفضة وغير ذلك مما يوزن، وال { معيش }: جمع معيشة، وقوله: { ومن لستم له برزقين }: يحتمل أن يكون عطفا على { معيش }؛ كأن الله تعالى عدد النعم في المعايش، وهي ما يؤكل ويلبس، ثم عدد النعم في الحيوان والعبيد وغير ذلك مما ينتفع به الناس، وليس عليهم رزقهم.
وقوله تعالى: { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه }.
قال ابن جريج: هو المطر خاصة.
قال * ع *: وينبغي أن يكون أعم من هذا في كثير من المخلوقات.
[15.22-25]
وقوله سبحانه: { وأرسلنا الرياح لواقح }: أي: ذات لقح؛ يقال: لقحت الناقة والشجر، فهي لاقحة، إذا حملت، فالوجه في الريح ملقحة، لا لاقحة، قال الداوودي: وعن ابن عمر: الرياح ثمان: أربع رحمة، وأربع عذاب؛ فالرحمة: المرسلات، والمبشرات، والناشرات، والذاريات، وأما العذاب: فالصرصر، والعقيم، والقاصف، والعاصف، وهما في البحر. انتهى.
وقوله جلت عظمته: { وإنا لنحن نحيي ونميت... } الآيات: هذه الآيات مع الآيات التي قبلها تضمنت العبرة والدلالة على قدرة الله تعالى، وما يوجب توحيده وعبادته، المعنى: وإنا لنحن نحيي من نشاء بإخراجه من العدم إلى وجود الحياة، ونميت بإزالة الحياة عمن كان حيا، { ونحن الورثون } ، أي: لا يبقى شيء سوانا، وكل شيء هالك إلا وجهه، لا رب غيره.
{ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستئخرين }: أي: من لدن آدم إلى يوم القيامة، قال ابن العربي في «أحكامه»: روى الترمذي وغيره في سبب نزول هذه الآية، عن ابن عباس؛ أنه قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: ولا، والله، ما رأيت مثلها قط، قال: فكان بعض المسلمين، إذا صلوا تقدموا، وبعضهم يستأخر، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم، فأنزل الله الآية، ثم قال ابن العربي: في شرح المراد بهذه الآية خمسة أقوال:
أحدهما: هذا.
القول الثاني: المتقدمين في الخلق إلى اليوم، والمتأخرين الذين لم يخلقوا بعد، بيان أن الله يعلم الموجود والمعدوم، قاله قتادة وجماعة.
الثالث: من مات، ومن بقي؛ قاله ابن عباس أيضا.
الرابع: المستقدمين: سائر الأمم، والمستأخرين أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قاله مجاهد.
الخامس: قال الحسن: معناه: المتقدمين في الطاعة، والمستأخرين في المعصية. انتهى.
قلت * ت *: والحديث المتقدم، إن صح، فلا بد من تأويله، فإن الصحابة ينزهون عن فعل ما ذكر فيه، فيؤول بأن ذلك صدر من بعض المنافقين، أو بعض الأعراب الذين قرب عهدهم بالإسلام، ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، وأما ابن عباس، فإنه كان يومئذ صغيرا بلا شك، هذا إن كانت الآية مدنية، فإن كانت مكية، فهو يومئذ في سن الطفولية، وبالجملة فالظاهر ضعف هذا الحديث من وجوه. انتهى، وباقي الآية بين.
[15.26-33]
{ ولقد خلقنا الإنسن }: يعني: آدم، قال ابن عباس: خلق من ثلاثة: من طين لازب، وهو اللازق الجيد، ومن صلصال، وهو الأرض الطيبة يقع عليها الماء، ثم ينحسر؛ فيتشقق وتصير مثل الخزف، ومن حمإ مسنون، وهو الطين فيه الحماة، وال { مسنون }: قال معمر: هو المنتن، وهو من أسن الماء؛ إذا تغير، ورد من جهة التصريف، وقيل غير هذا، وفي الحديث:
" إن الله تعالى عز وجل خلق آدم من جميع أنواع التراب: الطيب والخبيث، والأسود والأحمر "
وقوله: { والجآن }: يراد به: جنس الشياطين، وسئل وهب بن منبه عنهم، فقال هم أجناس.
قال * ع *: والمراد بهذه الخلقة إبليس أبو الجن، وقوله: { من قبل }؛ لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة، و { السموم }؛ في كلام العرب: إفراط الحر حتى يقتل: من نار، أو شمس، أو ريح، وأما إضافة «النار» إلى «السموم» في هذه الآية، فيحتمل أن تكون النار أنواعا، ويكون السموم أمرا يختص بنوع منها، فتصح الإضافة حينئذ، وإن لم يكن هذا، فيخرج هذا على قولهم: «مسجد الجامع، ودار الآخرة »؛ على حذف مضاف.
قوله عز وجل: { وإذ قال ربك للملآئكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون }:
أخبر الله سبحانه الملائكة بعجب عندهم، وذلك أنهم كانوا مخلوقين من نور، فهي مخلوقات لطاف، فأخبرهم سبحانه أنه يخلق جسما حيا ذا بشرة، وأنه يخلقه من صلصال، والبشرة هي وجه الجلد في الأشهر من القول، وقوله: { من روحي }: إضافة خلق وملك إلى خالق ومالك، وقول إبليس: { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال... } الآية: ليس إباءته نفس كفره عند الحذاق؛ لأن إباءته إنما هي معصية فقط، وإنما كفره بمقتضى قوله، وتعليله، إذ يقتضي أن الله خلق خلقا مفضولا، وكلف خلقا أفضل منه؛ أن يذل له، فكأنه قال: وهذا جور، وقد تقدم تفسير أكثر هذه المعاني.
[15.34-40]
وقوله عز وجل: { قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بمآ أغويتني لأزينن لهم في الأرض... } الآية: قوله: { بمآ أغويتني }: قال أبو عبيدة وغيره: أقسم بالإغواء.
قال * ع *: كأنه جعله بمنزلة قوله: رب بقدرتك علي، وقضائك، ويحتمل أن تكون باء السبب.
[15.41-44]
وقوله سبحانه: { هذا صرط علي مستقيم }: المعنى: هذا أمر إلي يصير؛ والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان، أي: إليه يصير النظر في أمرك، والآية تتضمن وعيدا، وظاهر قوله: { عبادي }: الخصوص في أهل الإيمان والتقوى، فيكون الاستثناء منقطعا، وإن أخذنا العباد عموما، كان الاستثناء متصلا، ويكون الأقل في القدر من حيث لا قدر للكفار؛ والنظر الأول أحسن، وإنما الغرض ألا يقع في الاستثناء الأكثر من الأقل، وإن كان الفقهاء قد جوزوه.
وقوله: { لموعدهم }: أي: موضع اجتماعهم، عافانا الله من عذابه بمنه، وعاملنا بمحض جوده وكرمه.
[15.45-50]
وقوله سبحانه: { إن المتقين في جنت وعيون * ادخلوها بسلام... } الآية: ال { سلم }؛ هنا: يحتمل أن يكون السلامة، ويحتمل أن يكون التحية، وال { غل }: الحقد، قال الداوودي:
" عن النبي صلى الله عليه وسلم: { ونزعنا ما في صدورهم... } الآية، قال: " إذا خلص المؤمنون من الصراط، حبسوا على صراط بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض بمظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، والله، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة من منزله في الدنيا "
انتهى.
وال { سرر }: جمع سرير، و { متقبلين }: الظاهر أن معناه: في الوجوه، إذ الأسرة متقابلة، فهي أحسن في الرتبة.
قال مجاهد: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، وقيل غير هذا مما لا يعطيه اللفظ، وال { نصب }: التعب، و { نبئ }: معناه: أعلم.
قال الغزالي رحمه الله في «منهاجه»: «ومن الآيات اللطيفة الجامعة بين الرجاء والخوف قوله تعالى: { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ، ثم قال في عقبه: { وأن عذابي هو العذاب الأليم }؛ لئلا يستولي عليك الرجاء بمرة، وقوله تعالى:
شديد العقاب
[غافر:3]، ثم قال في عقبه:
ذي الطول
[غافر:3]، لئلا يستولي عليك الخوف، وأعجب من ذلك قوله تعالى:
ويحذركم الله نفسه
[آل عمران:30]، ثم قال في عقبه:
والله رءوف بالعباد
[آل عمران:30]، وأعجب منه قوله تعالى:
من خشي الرحمن بالغيب
[ق:33]، فعلق الخشية باسم الرحمن، دون اسم الجبار أو المنتقم أو المتكبر ونحوه، ليكون تخويفا في تأمين، وتحريكا في تسكين كما تقول: «أما تخشى الوالدة الرحيمة، أما تخشى الوالد الشفيق»، والمراد من ذلك أن يكون الطريق عدلا، فلا تذهب إلى أمن وقنوط جعلنا الله وإياكم من المتدبرين لهذا الذكر الحكيم، العاملين بما فيه، إنه الجواد الكريم انتهى.
[15.51-56]
وقوله سبحانه: { ونبئهم عن ضيف إبراهيم... } الآية: هذا ابتداء قصص بعد انصرام الغرض الأول، و«الضيف»: مصدر وصف به، فهو للواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث؛ بلفظ واحد، وقوله: { إنا منكم وجلون } ، أي: فزعون، وإنما وجل منهم؛ لما قدم إليهم العجل الحنيذ، فلم يرهم يأكلون، وكانت عندهم العلامة المؤمنة أكل الطعام؛ وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل، والمنزول به.
وقوله: { أن مسني الكبر } ، أي: في حالة قد مسني فيها الكبر، وقول إبراهيم عليه السلام: { فبم تبشرون }: تقرير على جهة التعجب والاستبعاد، لكبرهما، أو على جهة الاحتقار وقلة المبالاة بالمسرات الدنيوية، لمضي العمر، واستيلاء الكبر، وقولهم: { بشرنك بالحق }: فيه شدة ما، أي: أبشر بما بشرت به، ولا تكن من القانطين، والقنوط: أتم اليأس.
[15.57-65]
وقوله سبحانه: { قال فما خطبكم أيها المرسلون }: لفظة الخطب إنما تستعمل في الأمور الشداد، وقولهم: { إلا آل لوط }: استثناء منقطع، و«الآل»: القوم الذي يؤول أمرهم إلى المضاف إليه؛ كذا قال سيبويه؛ وهذا نص وفي أن لفظة «آل» ليست لفظة «أهل»؛ كما قال النحاس، و { إلا امرأته }: استثناء متصل، والاستثناء بعد الاستثناء يرد المستثنى الثاني في حكم الأمر الأول، و { الغبرين }؛ هنا: أي: الباقين في العذاب، و«وغبر»: من الأضداد، يقال في الماضي وفي الباقي، وقول الرسل للوط: { بل جئنك بما كانوا فيه يمترون } ، أي: بما وعدك الله من تعذيبهم الذي كانوا يشكون فيه، و«القطع»: الجزء من الليل.
وقوله سبحانه: { واتبع أدبرهم } ، أي: كن خلفهم، وفي ساقتهم، حتى لا يبقى منهم أحد، { ولا يلتفت }: مأخوذ من الالتفات الذي هو نظر العين، قال مجاهد: المعنى: لا ينظر أحد وراءه، ونهوا عن النظر مخافة العلقة، وتعلق النفس بمن خلف، وقيل: لئلا تنفطر قلوبهم من معاينة ما جرى على القرية في رفعها وطرحها.
[15.66-77]
وقوله سبحانه: { وقضينآ إليه ذلك الأمر } ، أي: أمضيناه وحتمنا به، ثم أدخل في الكلام إليه من حيث أوحي ذلك إليه، وأعلمه الله به، وقوله: { يستبشرون } ، أي: بالأضياف طمعا منهم في الفاحشة، وقولهم: { أولم ننهك عن العلمين }: روي أنهم كانوا تقدموا إليه في ألا يضيف أحدا، والعمر والعمر - بفتح العين وضمها - واحد، وهما مدة الحياة، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح، وفي هذه الآية شرف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل أقسم بحياته، ولم يفعل ذلك مع بشر سواه؛ قاله ابن عباس .
* ت *: وقال: * ص *: اللام في { لعمرك } للابتداء، والكاف خطاب للوط عليه السلام، والتقدير: قالت الملائكة له: لعمرك، واقتصر على هذا.
وما ذكره * ع *: هو الذي عول عليه عياض وغيره.
وقال ابن العربي في «أحكامه»: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله في هذه الآية بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أدري ما أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر محمد عليه السلام، وما المانع أن يقسم الله بحياة لوط، ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكل ما يعطي الله للوط من فضل، ويؤتيه من شرف، فلنبينا محمد عليه السلام، ضعفاه؛ لأنه أكرم على الله منه، وإذا أقسم الله بحياة لوط، فحياة نبينا محمد عليه السلام أرفع، ولا يخرج من كلام إلى كلام آخر غيره، لم يجر له ذكر؛ لغير ضرورة. انتهى
* ت *: وما ذكره الجمهور أحسن؛ لأن الخطاب خطاب مواجهة؛ ولأنه تفسير صحابي، وهو مقدم على غيره.
و { يعمهون }: معناه: يترددون في حيرتهم، و { مشرقين }: معناه: قد دخلوا في الإشراق، وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره؛ قاله ابن زيد، وهذه الصيحة هي صيحة الوجبة، وليست كصيحة ثمود، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين، واستوفاهم الهلاك مشرقين، وباقي قصص الآية تقدم تفسير.
و«للمتوسمين»: قال مجاهد: المتفرسون، وقال أيضا: المعتبرون، وقيل غير هذا، وهذا كله تفسير بالمعنى، وأما تفسير اللفظة، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى، فيستدل به على المعنى، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسما، فمن رأى الوسم، استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي؛ لئلا ينزل به ما نزل بهم؛ ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر: [الطويل]
توسمته لما رأيت مهابة
عليه وقلت المرء من آل هاشم
والضمير في قوله: { وإنها لبسبيل مقيم }: يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة، أي: أنها في طريق ظاهر بين للمعتبر، وهذا تأويل مجاهد وغيره، ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة، ويقويه ما روي عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إن حجارة العذاب معلقة بين السماء والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي ".
[15.78-84]
وقوله سبحانه: { وإن كان أصحب الأيكة لظلمين * فانتقمنا منهم }: { الأيكة }: الغيضة والشجر الملتف المخضر، قال الشاعر: [الطويل]
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة
إذا اخضر منها جانب جف جانب
وكان هؤلاء قوما يسكنون غيضة، ويرتفقون بها في معايشهم، فبعث إليهم شعيب، فكفروا به، فسلط الله عليهم الحر، فدام عليهم سبعة أيام، ثم رأوا سحابة، فخرجوا، فاستظلوا بها، فأمطرت عليهم نارا، وحكى الطبري قال: بعث شعيب إلى أمتين، فكفرتا، فعذبتا بعذابين مختلفين: أهل مدين عذبوا بالصيحة، وأصحاب الأيكة بالظلة.
وقوله: { وإنهما لبإمام مبين }: الضمير في «وإنهما»: يحتمل أن يعود على مدينة قوم لوط، ومدينة أصحاب الأيكة، ويحتمل أن يعود على لوط وشعيب عليهما السلام، أي: أنهما على طريق من الله وشرع مبين، و«الإمام»، في كلام العرب: الشيء الذي يهتدى به، ويؤتم به؛ فقد يكون الطريق، وقد يكون الكتاب، وقد يكون الرجل المقتدى به، ونحو هذا، ومن رأى عود الضمير على المدينتين، قال: «الإمام»: الطريق، وقيل على ذلك الكتاب الذي سبق فيه إهلاكهما، و { أصحب الحجر }: هم ثمود، وقد تقدم قصصهم، و«الحجر»: مدينتهم، وهي ما بين المدينة وتبوك، وقال: { المرسلين }؛ من حيث يلزم من تكذيب رسول واحد تكذيب الجميع، إذ القول في المعتقدات واحد.
وقوله: { ينحتون من الجبال بيوتا آمنين }: «النحت»: النقر بالمعاول، و«آمنين»: قيل: معناه: من انهدامها، وقيل: من حوادث الدنيا، وقيل: من الموت؛ لاغترارهم بطول الأعمار، وأصح ما يظهر في ذلك؛ أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة، فكانوا لا يعملون بحسبها.
[15.85-87]
{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } ، أي: لم تخلق عبثا ولا سدى، { وإن الساعة لأتية } ، أي: فلا تهتم يا محمد بأعمال الكفرة؛ فإن الله لهم بالمرصاد، وقوله عز وجل؛ { ولقد آتينك سبعا من المثاني }: ذهب ابن مسعود وغيره إلى أن السبع المثاني هنا هي السبع الطوال: «البقرة»، و«آل عمران»، و«النساء» و«المائدة»، و«الأنعام»، و«المص»، و«الأنفال» مع «براءة»، وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن السبع هنا : آيات الفاتحة، وهو نص حديث أبي بن كعب وغيره.
* ت *: وهذا هو الصحيح، وقد تقدم بيان ذلك أول الكتاب.
[15.88-91]
وقوله سبحانه: { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم }: حكى الطبري عن سفيان بن عيينة؛ أنه قال: هذه الآية آمرة بالاستغناء بكتاب الله عن جميع زينة الدنيا.
قال * ع *: فكأنه قال: آتيناك عظيما خطيرا، فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعا من هؤلاء الكفرة؛ ومن هذا المعنى: قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أوتي القرآن، فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي، فقد عظم صغيرا وصغر عظيما ".
* ت *: وفي «صحيح مسلم» عن أبي سعيد قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب الناس، فقال:
" لا والله، ما أخشى عليكم، أيها الناس، إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا... "
الحديث، وفي رواية:
" أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا»، قالوا: وما زهرة الدنيا، يا رسول الله؟ قال: « بركات الأرض... "
الحديث، وفي رواية:
" إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح لكم من زهرة الدنيا وزينتها... "
الحديث، انتهى. والأحاديث في هذه الباب أكثر من أن يحصيها كتاب، قال الغزالي في «المنهاج»: وإذا أنعم الله عليك بنعمة الدين، فإياك أن تلتفت إلى الدنيا وحطامها، فإن ذلك منك لا يكون إلا بضرب من التهاون بما أولاك مولاك من نعم الدارين؛ أما تسمع قوله تعالى لسيد المرسلين: { ولقد آتينك سبعا من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم... } الآية، تقديره: إن من أوتي القرآن العظيم حق له ألا ينظر إلى الدنيا الحقيرة نظرة باستحلاء، فضلا عن أن يكون له فيها رغبة، فليلتزم الشكر على ذلك، فإنه الكرامة التي حرص عليها الخليل لأبيه، والمصطفى عليه السلام لعمه، فلم يفعل، وأما حطام الدنيا، فإن الله سبحانه يصبه على كل كافر وفرعون وملحد وزنديق وجاهل وفاسق؛ الذين هم أهون خلقه عليه، ويصرفه عن كل نبي وصفي وصديق وعالم وعابد؛ الذين هم أعز خلقه عليه؛ حتى إنهم لا يكادون يصيبون كسرة وخرقة، ويمن عليهم سبحانه بألا يلطخهم بقذرها، انتهى.
وقال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم }: المعنى: أعطيناك الآخرة، فلا تنظر إلى الدنيا، وقد أعطيناك العلم، فلا تتشاغل بالشهوات، وقد منحناك لذة القلب، فلا تنظر إلى لذة البدن، وقد أعطيناك القرآن، فاستغن به، فمن استغنى به، لا يطمح بنظره إلى زخارف الدنيا، وعنده معارف المولى، حيي بالباقي، وفني عن الفاني. انتهى.
وقوله سبحانه: { وقل إني أنا النذير المبين * كمآ أنزلنا على المقتسمين }.
قال * ع *: والذي أقول به في هذا: المعنى: وقل أنا نذير، كما قال قبلك رسلنا، ونزلنا عليهم كما أنزلنا عليك، واختلف في { المقتسمين } ، من هم؟ فقال ابن عباس، وابن جبير: «المقتسمون»: هم أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم، وجعلوا كتاب الله أعضاء، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض؛ وقال نحوه مجاهد، وقالت فرقة: «المقتسمون»: هم كفار قريش جعلوا القرآن سحرا وشعرا وكهانة، وجعلوه أعضاء بهذا التقسيم، وقالت فرقة: «عضين»: جمع عضة، وهي اسم للسحر خاصة بلغة قريش؛ وقاله عكرمة.
* ت *: وقال الواحدي: كما أنزلنا عذابا على المقتسمين الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان. انتهى من «مختصره».
[15.92-99]
وقوله سبحانه: { فوربك لنسئلنهم أجمعين... } الآية: ضمير عام، ووعيد محض، يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه، فالكافر يسأل عن التوحيد والرسالة، وعن كفره وقصده به، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه، وكل مكلف عما كلف القيام به؛ وفي هذا المعنى أحاديث، قال ابن عباس في هذه الآية يقال لهم: لم عملتم كذا وكذا، قال: وقوله تعالى:
فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جآن
[الرحمن:39] معناه: لا يقال له: ماذا أذنبت، لأن الله تعالى أعلم بذنبه منه، وقوله سبحانه: { فاصدع بما تؤمر }: «اصدع»: معناه: أنفذ، وصرح بما بعثت به.
وقوله: { وأعرض عن المشركين }: من آيات المهادنة التي نسختها آية السيف؛ قاله ابن عباس، ثم أعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه المستهزئين به من كفار مكة ببوائق أصابتهم من الله تعالى.
قال ابن إسحاق وغيره: وهم الذين قذفوا في قليب بدر؛ كأبي جهل وغيره. انتهى.
وقوله سبحانه: { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون }: آية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، و { اليقين }؛ هنا: الموت؛ قاله ابن عمر وجماعة، قال الداوودي: وعن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" ما أوحي إلي أن أجمع المال، وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين "
انتهى، وباقي الآية بين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
[16 - سورة النحل]
[16.1-4]
قوله سبحانه: { أتى أمر الله فلا تستعجلوه }: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال جبريل في سرد الوحي: { أتى أمر الله } ، وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، فلما قال: { فلا تستعجلوه } ، سكن، وقوله: { أمر الله }: قال فيه جمهور المفسرين: إنه يريد القيامة، وفيها وعيد للكفار، وقيل: المراد نصر محمد صلى الله عليه وسلم، فمن قال: إن الأمر القيامة، قال: إن قوله تعالى: { فلا تستعجلوه }: رد على المكذبين بالبعث، القائلين: متى هذا الوعد، واختلف المتأولون في قوله تعالى: { ينزل الملئكة بالروح } ، فقال مجاهد: الروح: النبوة، وقال ابن عباس: الروح الوحي، وقال قتادة: بالرحمة والوحي، وقال الربيع بن أنس: كل كلام الله روح، ومنه قوله تعالى:
أوحينا إليك روحا من أمرنا
[الشورى:52]، وقال الزجاج: الروح: ما تحيا به القلوب من هداية الله عز وجل، وهذا قول حسن، قال الداوودي، عن ابن عباس قال: الروح: خلق من خلق الله، وأمر من أمر الله على صور بني آدم، وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه روح؛ كالحفيظ عليه، لا يتكلم ولا يراه ملك، ولا شيء مما خلق الله، وعن مجاهد: الروح: خلق من خلق الله، لهم أيد وأرجل. انتهى، والله أعلم بحقيقة ذلك، وهذا أمر لا يقال بالرأي، فإن صح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجب الوقوف عنده انتهى، و«من» في قوله : { من يشآء } هي للأنبياء.
وقوله تعالى: { خلق الإنسن من نطفة }: يريد ب «الإنسان» الجنس، وقوله: { خصيم } يحتمل أن يريد به الكفرة الذين يجادلون في آيات الله؛ قاله الحسن البصري، ويحتمل أن يريد أعم من هذا، على أن الآية تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر.
[16.5-12]
وقوله سبحانه: { والأنعم خلقها لكم فيها دفء }: ال { دفء }: السخانة، وذهاب البرد بالأكسية ونحوها، وقيل: ال { دفء }: تناسل الإبل، وقال ابن عباس: هو نسل كل شيء، والمعنى الأول هو الصحيح، وال { منفع }: ألبانها وما تصرف منها، وحرثها والنضح عليها وغير ذلك.
وقوله: { جمال } ، أي: في المنظر، و { تريحون }: معناه: حين تردونها وقت الرواح إلى المنازل، و { تسرحون }: معناه: تخرجونها غدوة إلى السرح، و«الأثقال»: الأمتعة، وقيل: الأجسام؛ كقوله:
وأخرجت الأرض أثقالها
[الزلزلة:2] أي: أجساد بني آدم، وسميت الخيل خيلا؛ لاختيالها في مشيتها.
* ت *: ويجب على من ملكه الله شيئا من هذا الحيوان أن يرفق به، ويشكر الله تعالى على هذه النعمة التي خولها، وقد روى مالك في «الموطأ» عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن خالد بن معدان يرفعه، قال:
" إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدواب العجم، فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة، فانجوا عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل؛ فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق؛ فإنها طرق الدواب، ومأوى الحيات ".
قال أبو عمر في «التمهيد»: هذا الحديث يستند عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، فأما «الرفق»، فمحمود في كل شيء، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وقد روى مالك بسنده عن عائشة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" إن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله "
، وأمر المسافر في الخصب بأن يمشي رويدا، ويكثر النزول، لترعى دابته، فأما الأرض الجدبة، فالسنة للمسافر أن يسرع السير؛ ليخرج عنها، وبدابته شيء من الشحم والقوة، و«النقي» في كلام العرب: الشحم والودك. انتهى.
وروى أبو داود عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم "
انتهى.
وقوله سبحانه: { ويخلق ما لا تعلمون }: عبرة منصوبة على العموم، أي: إن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر، بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلمه.
وقوله سبحانه: { وعلى الله قصد السبيل... } الآية: هذه أيضا من أجل نعم الله تعالى، أي: على الله تقويم طريق الهدى، وتبيينه بنصب الأدلة، وبعث الرسل، وإلى هذا ذهب المتأولون، ويحتمل أن يكون المعنى: أن من سلك السبيل القاصد، فعلى الله، ورحمته وتنعيمه طريقه، وإلى ذلك مصيره، و«طريق قاصد»: معناه: بين مستقيم قريب، والألف واللام في { السبيل } ، للعهد، وهي سبيل الشرع.
وقوله: { ومنها جائر }: يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم، فالضمير في { منها } يعود على السبل التي يتضمنها معنى الآية.
وقوله سبحانه: { فيه تسيمون }: يقال: أسام الرجل ماشيته؛ إذا أرسلها ترعى.
[16.13-17]
وقوله سبحانه: { وما ذرأ لكم }: ذرأ: معناه: بث ونشر.
و { مختلفا ألوانه } أي أصنافه، ويحتمل أن يكون التنبيه على اختلاف الألوان من حمرة وصفرة وغير ذلك، والأول أبين.
وقوله سبحانه: { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }: البحر: الماء الكثير، ملحا كان أو عذبا.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها }: يعني به اللؤلؤ والمرجان، وهذا امتنان عام للرجال والنساء، فلا يحرم عليهم شيء من ذلك. انتهى. و { مواخر }: جمع ماخرة، والمخر؛ في اللغة: الصوت الذي يكون من هبوب الريح على شيء يشق أو يصحب في الجملة الماء؛ فيترتب منه أن يكون المخر من الريح، وأن يكون من السفينة ونحوها، وهو في هذه الآية من السفن، وقال بعض النحاة: المخز؛ في كلام العرب: الشق؛ يقال: مخر الماء الأرض، وهذا أيضا بين أن يقال فيه للفلك مواخر.
وقوله: { وسبلا لعلكم تهتدون }: يحتمل: تهتدون في مشيكم وتصرفكم في السبل، ويحتمل تهتدون بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها. { وعلمت وبالنجم هم يهتدون }: قال ابن عباس: العلامات: معالم الطرق بالنهار، والنجوم: هداية الليل، وهذا قول حسن؛ فإنه عموم بالمعنى، واللفظة عامة؛ وذلك أن كل ما دل على شيء وأعلم به، فهو علامة، و { النجم }؛ هنا: اسم جنس، وهذا هو الصواب.
[16.18-21]
وقوله سبحانه: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ... } الآية: وبحسب العجز عن عد نعم الله تعالى يلزم أن يكون الشاكر لها مقصرا عن بعضها؛ فلذلك قال عز وجل: { لغفور رحيم } ، أي: عن تقصيركم في الشكر عن جميعها؛ نحا هذا المنحى الطبري؛ ويرد عليه أن نعمة الله في قول العبد: «الحمد لله رب العالمين»، مع شرطها من النية والطاعة يوازي جميع النعم، ولكن أين قولها بشروطها، والمخاطبة بقوله: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ }. عامة لجميع الناس. { والذين يدعون من دون الله }؛ أي: تدعونهم آلهة، و { أموات }: يراد به الذين يدعون من دون الله، ورفع { أموات }؛ على أنه خبر مبتدإ مضمر، تقديره: هم أموات، وقوله: { غير أحياء }: أي: لم يقبلوا حياة قط، ولا اتصفوا بها، وقوله سبحانه: { وما يشعرون أيان يبعثون }: أي: وما يشعر الكفار متى يبعثون إلى التعذيب.
[16.22-25]
وقوله سبحانه: { إلهكم إله وحد فالذين لا يؤمنون بالأخرة قلوبهم منكرة } أي: منكرة اتحاد الإله.
* ت *: وهذا كما حكى عنهم سبحانه في قولهم:
أجعل الألهة إلها وحدا إن هذا لشيء عجاب
[ص:5].
وقوله: { لا جرم } عبرت فرقة من اللغويين عن معناها ب «لا بد ولا محالة»، وقالت فرقة: معناها: حق أن الله، ومذهب سيبويه أن «لا» نفي لما تقدم من الكلام، و«جرم»: معناه: وجب أو حق ونحوه، هذا مذهب الزجاج، ولكن مع مذهبهما، «لا» ملازمة ل «جرم» لا تنفك هذه من هذه.
وقوله سبحانه: { إنه لا يحب المستكبرين }: عام في الكافرين والمؤمنين يأخذ كل أحد منهم بقسطه، قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله موت النفوس حياتها، من أحب أن يحيا يموت ببذل أهل التوفيق نفوسهم وهوانها عليهم، نالوا ما نالوا، وبحب أهل الدنيا نفوسهم هانوا وطرأ عليهم الهوان هنا وهناك، وقد ورد في الحديث: «أنه ما من عبد إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك، فإن تعاظم، وارتفع، ضرب الملك في رأسه، وقال له: اتضع وضعك الله، وإن تواضع رفعه الملك، وقال له: ارتفع، رفعك الله»، من الله علينا بما به يقربنا إليه بمنه. انتهى.
وقوله سبحانه: { وإذا قيل لهم }: يعني: كفار قريش: { ماذا أنزل ربكم... } الآية، يقال: إن سببها النضر بن الحارث، واللام في قوله: { ليحملوا } يحتمل أن تكون لام العاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي، ويحتمل أن تكون لام الأمر؛ على معنى الحتم عليهم والصغار الموجب لهم.
وقوله سبحانه: { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم }: «من»: للتبعيض؛ وذلك أن هذا الرأس المضل يحمل وزر نفسه ووزرا من وزر كل من ضل بسببه، ولا ينقص من أوزار أولئك شيء، والأوزار هي الأثقال.
[16.26-29]
وقوله سبحانه: { قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنينهم... } الآية: قال ابن عباس وغيره من المفسرين: الإشارة ب { الذين من قبلهم } إلى نمروذ الذي بنى صرحا؛ ليصعد فيه إلى السماء بزعمه، فلما أفرط في علوه، وطوله في السماء فرسخين؛ على ما حكى النقاش، بعث الله عليه ريحا، فهدمته، وخر سقفه عليه، وعلى أتباعه، وقيل: إن جبريل هدمه بجناحه، وألقى أعلاه في البحر، وانجعف من أسفله، وقالت فرقة: المراد ب { الذين من قبلهم }: جميع من كفر من الأمم المتقدمة، ومكر، ونزلت به عقوبة، وقوله؛ على هذا: { فأتى الله بنينهم من القواعد... } إلى آخر الآية، تمثيل وتشبيه، أي: حالهم كحال من فعل به هذا.
وقوله: { يخزيهم }: لفظ يعم جميع المكاره التي تنزل بهم؛ وذلك كله راجع إلى إدخالهم النار، ودخولهم فيها.
و { تشقون }: معناه: تحاربون، أي: تكونون في شق، والحق في شق، و { الذين أوتوا العلم }: هم الملائكة فيما قال بعض المفسرين، وقال يحيى بن سلام: هم المؤمنون.
قال * ع *: والصواب أن يعم جميع من آتاه الله علم ذلك من ملائكة وأنبياء وغيرهم، وقد تقدم تفسير الخزي، وأنه الفضيحة المخجلة، وفي الحديث:
" إن العار والتخزية لتبلغ من العبد في المقام بين يدي الله تعالى ما أن يتمنى أن ينطلق به إلى النار وينجو من ذلك المقام "
أخرجه البغوي في «المسند المنتخب» له. انتهى من «الكوكب الدري».
وقوله سبحانه: { الذين تتوفهم الملئكة ظالمي أنفسهم }: { الذين }: نعت ل { الكفرين }؛ في قول أكثر المتأولين، و { الملئكة } يريد القابضين لأرواحهم، و { السلم }؛ هنا: الاستسلام، واللام في قوله: { فلبئس } لام تأكيد، وال { مثوى }: موضع الإقامة.
[16.30-32]
وقوله سبحانه: { وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم... } الآية: لما وصف سبحانه مقالة الكفار الذين قالوا:
أسطير الأولين...
[النحل:24] عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق، وقولهم: { خيرا } جواب بحسب السؤال، واختلف في قوله تعالى: { للذين أحسنوا... } إلى آخر الآية، هل هو ابتداء كلام أو هو تفسير ل «الخير» الذي أنزل الله في الوحي على نبينا خبرا أن من أحسن في الدنيا بالطاعة، فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة، وروى أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" أن الله لا يظلم المؤمن حسنة؛ يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة ".
وقوله سبحانه: { جنت عدن يدخلونها... } الآية: تقدم تفسير نظيرها، و { طيبين }: عبارة عن صالح حالهم، واستعدادهم للموت، و«الطيب»؛ الذي لا خبث معه، وقول الملائكة: { سلم عليكم }: بشارة من الله تعالى، وفي هذا المعنى أحاديث صحاح يطول ذكرها، وروى ابن المبارك في «رقائقه» عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن، جاءه ملك، فقال: السلام عليك، ولي الله، الله يقرىء عليك السلام، ثم نزع بهذه الآية: { الذين تتوفهم الملئكة طيبين يقولون سلم عليكم... } انتهى.
وقوله سبحانه: { بما كنتم تعملون }: علق سبحانه دخولهم الجنة بأعمالهم؛ من حيث جعل الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة، ولا معارضة بين الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا يدخل أحد الجنة بعمله! » قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: « ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة "
فإن الآية ترد بالتأويل إلى معنى الحديث.
قال * ع *: ومن الرحمة والتغمد أن يوفق الله العبد إلى أعمال برة، ومقصد الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل؛ كما ذهب إليه فريق من المعتزلة.
[16.33-35]
وقوله سبحانه: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملئكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم }: { ينظرون }: معناه: ينتظرون، «ونظر» متى كانت من رؤية العين، فإنما تعديها العرب ب «إلى» ومتى لم تتعد ب «إلى»، فهي بمعنى «انتظر»؛ ومنها:
انظرونا نقتبس من نوركم
[الحديد:13]، ومعنى الكلام: أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم.
وقوله: { أو يأتي أمر ربك }: وعيد يتضمن قيام الساعة، أو عذاب الدنيا، ثم ذكر تعالى أن هذا كان فعل الأمم قبلهم، فعوقبوا.
وقوله سبحانه: { فأصابهم سيئات ما عملوا }: أي: جزاء ذلك في الدنيا والآخرة، و { حاق }: معناه: نزل وأحاط.
وقوله سبحانه: { وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شيء... } الآية: تقدم تفسير نظيرها في «الأنعام»، وقولهم: { ولا حرمنا }: يريد: من البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك.
[16.36-40]
وقوله سبحانه: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله... } الآية: إلى قوله: { فإن الله لا يهدي من يضل } ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «لا يهدي» - بفتح الياء وكسر الدال -، وذلك على معنيين: أي: إن الله لا يهدي من قضى بإضلاله، والمعنى الثاني: أن العرب تقول: هدى الرجل، بمعنى اهتدى.
وقوله سبحانه: { وأقسموا بالله جهد أيمنهم لا يبعث الله من يموت }: الضمير في { أقسموا } لكفار قريش، ثم رد الله تعالى عليهم بقوله: { بلى } ، فأوجب بذلك البعث، و { أكثر الناس } في هذه الآية: الكفار المكذبون بالبعث.
وقوله سبحانه: { ليبين }: التقدير: بلى يبعثه؛ ليبين لهم الذي يختلفون فيه.
وقوله سبحانه: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه... } الآية: المقصد بهذه الآية إعلام منكري البعث بهوان أمره على الله تعالى، وقربه في قدرته، لا رب غيره.
[16.41-47]
وقوله سبحانه: { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا }: هؤلاء هم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح في سبب نزول الآية؛ لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية، والآية تتناول كل من هاجر أولا وآخرا، وقرأ جماعة خارج السبع: «لنثوينهم»، واختلف في معنى ال { حسنة } هنا، فقالت فرقة: الحسنة عدة ببقعة شريفة، وهي المدينة، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل أمر مستحسن يناله ابن آدم، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يعطي المال وقت القسمة الرجل من المهاجرين، ويقول له: خذ ما وعدك الله في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر، ثم يتلو هذه الآية، ويدخل في هذا القول النصر على العدو، وفتح البلاد، وكل أمل بلغه المهاجرون، والضمير في { يعلمون } عائد على كفار قريش.
وقوله: { الذين صبروا }: من صفة المهاجرين.
وقوله تعالى: { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم }: هذه الآية رد على كفار قريش الذين استبعدوا أن يبعث الله بشرا رسولا، ثم قال تعالى: { فاسئلوا } ، أي: قل لهم: { فاسئلوا } ، و { أهل الذكر }؛ هنا: أحبار اليهود والنصارى؛ قاله ابن عباس وغيره، وهو أظهر الأقوال، وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من البشر، وأخبارهم حجة على هؤلاء، وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسندون إليهم.
وقوله: { بالبينت }: متعلق بفعل مضمر، تقديره: أرسلناهم بالبينات، وقالت فرقة: الباء متعلقة ب { أرسلنا } في أول الآية، والتقدير على هذا: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا، ففي الآية تقديم وتأخير، و { الزبر }: الكتب المزبورة.
وقوله سبحانه: { لتبين للناس ما نزل إليهم... } الآية.
* ت *: وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، فبين عن الله، وأوضح، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فأعرب عن دين الله، وأفصح، ولنذكر الآن طرفا من حكمه، وفصيح كلامه بحذف أسانيده، قال عياض في «شفاه»: وأما كلامه صلى الله عليه وسلم المعتاد، وفصاحته المعلومة، وجوامع كلمه، وحكمه المأثورة، فمنها ما لا يوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة؛ كقوله:
" المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم "
وقوله:
" الناس كأسنان المشط "
و
" المرء مع من أحب "
و
" لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له "
و
" الناس معادن "
و
" ما هلك امرء عرف قدره "
و
" المستشار مؤتمن "
و
" هو بالخيار ما لم يتكلم "
و
" رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت عن شر فسلم "
وقوله:
" أسلم تسلم "
و
" أسلم يؤتك الله أجرك مرتين "
و
" إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون "
وقوله:
" لعله كان يتكلم بما لا يعنيه، ويبخل بما لا يغنيه "
وقوله:
" ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها "
ونهيه عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات، وقوله:
" اتق الله حيث كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن "
و
" خير الأمور أوساطها "
وقوله:
" أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما "
، وقوله:
" الظلم ظلمات يوم القيامة "
، وقوله في بعض دعائه:
" اللهم، إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء، اللهم، إني أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء "
، إلى غير ذلك من بيانه، وحسن كلامه مما روته الكافة عن الكافة مما لا يقاس به غيره، وحاز فيه سبقا لا يقدر قدره؛ كقوله:
" السعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه "
في أخواتها مما يدرك الناظر العجب في مضمنها، ويذهب به الفكر في أداني حكمها، وقال صلى الله عليه وسلم:
" بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد "
فجمع الله له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي، الذي لا يحيط بعلمه بشري. انتهى. وبالجملة فليس بعد بيان الله ورسوله بيان لمن عمر الله قلبه بالإيمان.
وقوله سبحانه: { أفأمن الذين مكروا السيئات... } الآية: تهديد لكفار مكة ونصب السيئات ب { مكروا } وعدي { مكروا } لأنه في معنى عملوا، قال البخاري: قال ابن عباس: { في تقلبهم } ، أي: في اختلافهم انتهى.
وقال المهدوي: قال قتادة: { في تقلبهم }: في أسفارهم الضحاك: { في تقلبهم }: بالليل انتهى.
وقوله: { على تخوف } ، أي على جهة التخوف، والتخوف التنقص، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خفي عليه معنى التخوف في هذه الآية، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك، فيروى أنه جاءه فتى من العرب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبي يتخوفني مالي، فقال عمر: الله أكبر! { أو يأخذهم على تخوف } ومنه قول النابغة: [الطويل]
تخوفهم حتى أذل سراتهم
بطعن ضرار بعد فتح الصفائح
وهذا التنقص يتجه به الوعيد على معنيين:
أحدهما: أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف، أي: أفذاذا يتنقصهم بذلك الشيء بعد الشيء، ويصيرهم إلى ما أعد لهم من العذاب، وفي هذه الرتبة الثالثة من الوعيد رأفة ورحمة وإمهال؛ ليتوب التائب، ويرجع الراجع، والثاني: ما قاله الضحاك: أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية، ويترك أخرى، ثم كذلك حتى يهلك الكل.
وقالت فرقة: «التخوف» هنا: من الخوف، أي: فيأخذهم بعد تخوف ينالهم يعذبهم به.
[16.48-53]
وقوله سبحانه: { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء... } الآية: قوله: { من شيء } لفظ عام في كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، وفاء الظل رجع، ولا يقال: الفيء إلا من بعد الزوال؛ في مشهور كلام العرب، لكن هذه الآية: الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره فكأن الآية جارية في بعض؛ على تجوز كلام العرب واقتضائه، والرؤية، هنا: رؤية القلب ولكن الاعتبار برؤية القلب هنا إنما تكون في مرئيات بالعين، و { عن اليمين والشمآئل }؛ هنا: فيه تجوز وآتساع، وذكر الطبري عن الضحاك، قال: إذا زالت الشمس، سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر؛ ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت. قال الداوودي: وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن في صلاة السحر » قال: « وليس شيء إلا يسبح لله تلك الساعة "
وقرأ: { يتفيأ ظلله... } الآية كلها. انتهى. و«الداخر»: المتصاغر المتواضع.
وقوله سبحانه: { يخافون ربهم }: عام لجميع الحيوان، و { من فوقهم }: يريد: فوقية القدر والعظمة والقهر.
وقوله سبحانه: { وله ما في السموات والأرض }: { السموات } هنا: كل ما ارتفع من الخلق من جهة فوق، فيدخل في ذلك العرش والكرسي وغيرهما، و { الدين }: الطاعة والملك، و«الواصب»: الدائم؛ قاله ابن عباس.
ثم ذكر سبحانه بنعمه، ثم ذكر بأوقات المرض، والتجاء العباد إليه سبحانه، و«الضر»، وإن كان يعم كل مكروه، فأكثر ما يجيء عن أرزاء البدن، و { تجئرون } معناه: ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع.
[16.54-56]
{ ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون }: ال { فريق } ، هنا: يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالا من شفاء المرضى، وجلب النفع، ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله، عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها.
وقوله سبحانه: { ليكفروا }: يجوز أن تكون اللام لام الصيرورة، ويجوز أن تكون لام أمر؛ على معنى التهديد.
وقوله: { بمآ آتينهم }: أي: بما أنعمنا عليهم.
وقوله سبحانه: { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقنهم }: أي: لما لا يعلمون له حجة، ولا برهانا، ويحتمل أن يريد بنفي العلم الأصنام، أي: لجمادات لا تعلم شيئا نصيبا، و«النصيب» المشار إليه هو ما كانت العرب سنته من الذبح لأصنامها، والقسم من الغلات وغيره.
[16.57-59]
وقوله سبحانه: { ويجعلون لله البنت سبحنه... } الآية: تعديد لقبائح الكفرة في قولهم: «الملائكة بنات الله»، تعالى الله عن قولهم، والمراد بقوله: { ولهم ما يشتهون } ، الذكران من الأولاد.
وقوله: { ظل وجهه مسودا }: عبارة عما يعلو وجه المغموم.
قال * ص *: «ظل»: تكون بمعنى «صار»، وبمعنى «أقام نهارا»؛ على الصفة المسندة إلى اسمها، وتحتمل هنا الوجهين. انتهى، و { كظيم }: بمعنى: كاظم، والمعنى: أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى، ومعنى { يتورى }: يتغيب من القوم، وقرأ الجحدري: «أيمسكها أم يدسها»، وقرأ الجمهور: «على هون»، وقرأ عاصم الجحدري: «على هوان»، ومعنى الآية: يدبر، أيمسك هذه الأنثى على هوان يتحمله، وهم يتجلد له، أم يئدها فيدفنها حية، وهو الدس في التراب.
[16.60-62]
وقوله سبحانه: { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء }: قالت فرقة: { مثل } ، في هذه الآية: بمعنى صفة، أي: لهؤلاء صفة السوء ولله المثل الأعلى.
قال * ع *: وهذا لا يضطر إليه؛ لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله: { مثل } على بابه، فلهم على الإطلاق مثل السوء في كل سوء، ولا غاية أخزى من عذاب النار، ولله سبحانه { المثل الأعلى } على الإطلاق أيضا، أي: الكمال المستغني.
وقوله سبحانه: { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة }: الضمير في «عليها» عائد على الأرض، وتمكن ذلك مع أنه لم يجر لها ذكر؛ لشهرتها وتمكن الإشارة إليها، وسمع أبو هريرة رجلا يقول: «إن الظالم لا يهلك إلا نفسه» فقال أبو هريرة: بلى، إن الله ليهلك الحبارى في وكرها هزلا بذنوب الظلمة. «والأجل المسمى»؛ في هذه الآية: هو بحسب شخص شخص.
وقوله: { ما يكرهون } يريد البنات.
وقوله سبحانه: { وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى }: قال مجاهد وقتادة { الحسنى }: الذكور من الأولاد، وقالت فرقة: يريد الجنة.
قال * ع *: ويؤيده قوله: { لا جرم أن لهم النار } ، وقرأ السبعة سوى نافع: «مفرطون» - بفتح الراء وخفتها - أي: مقدمون إلى النار، وقرأ نافع: «مفرطون» - بكسر الراء المخففة ، أي: متجاوزون الحد في معاصي الله.
[16.63-66]
وقوله سبحانه: { تالله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك... } الآية: هذه آية ضرب مثل لهم بمن سلف، في ضمنها وعيد لهم، وتأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: { فهو وليهم اليوم }: يحتمل أن يريد ب { اليوم } يوم الإخبار، ويحتمل أن يريد يوم القيامة، أي: وليهم في اليوم المشهور.
وقوله سبحانه: { إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه }: { لتبين }: في موضع المفعول من أجله، أي: إلا لأجل البيان، و { الذي اختلفوا فيه }: لفظ عام لأنواع كفر الكفرة، لكن الإشارة هنا إلى تشريكهم الأصنام في الإلهية.
ثم أخذ سبحانه ينص العبر المؤدية إلى بيان وحدانيته، وعظيم قدرته ، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، لا يخالف فيها عاقل.
وقوله: { مما في بطونه }: الضمير عائد على الجنس، وعلى المذكور، وهذا كثير.
وقوله سبحانه: { سآئغا للشاربين } «السائغ»: السهل في الشرب اللذيذ.
* ت *: وعن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أطعمه الله طعاما، فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا، فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه "
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ليس شيء يجزىء مكان الطعام والشراب غير اللبن "
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي، واللفظ له: هذا حديث حسن، انتهى من «السلاح».
[16.67-70]
وقوله سبحانه: { ومن ثمرت النخيل والأعنب تتخذون منه سكرا... } الآية: «السكر»: ما يسكر؛ هذا هو المشهور في اللغة، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، وأراد ب« السكر»: الخمر، وب «الرزق الحسن» جميع ما يشرب ويؤكل حلالا من هاتين الشجرتين، فالحسن؛ هنا: الحلال، وقال بهذا القول ابن جبير وجماعة وصحح ابن العربي هذا القول، ولفظه: والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر، فإن هذه الآية مكية باتفاق العلماء، وتحريم الخمر مدني انتهى من «أحكام القرآن»، وقال مجاهد وغيره: السكر المائع من هاتين الشجرتين، كالخل، والرب، والنبيذ، والرزق الحسن: العنب والتمر.
قال الطبري: والسكر أيضا في كلام العرب ما يطعم، ورجح الطبري هذا القول، ولا مدخل للخمر فيه، ولا نسخ في الآية.
وقوله تعالى: { وأوحى ربك إلى النحل... } الآية: الوحي؛ في كلام العرب: إلقاء المعنى من الموحى إلى الموحى إليه في خفاء، فمنه الوحي إلى الأنبياء برسالة الملك، ومنه وحي الرؤيا، ومنه وحي الإلهام، وهو الذي في آيتنا؛ باتفاق من المتأولين، والوحي أيضا بمعنى الأمر؛ كما قال تعالى:
بأن ربك أوحى لها
[الزلزلة:5]، وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع: إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش ابن آدم من الأجباح والحيطان، ونحوها، وعرش: معناه: هيأ، وال { سبل } الطرق ، وهي مسالكها في الطيران وغيره، و { ذللا }: يحتمل أن يكون حالا من «النحل»، أي: مطيعة منقادة، قاله قتادة. قال ابن زيد: فهم يخرجون بالنحل ينتجعون، وهي تتبعهم وقرأ:
أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعما...
[يس:71] الآية، ويحتمل أن يكون حالا من «السبل»، أي: مسهلة مستقيمة؛ قاله مجاهد، لا يتوعر عليها سبيل تسلكه.
ثم ذكر تعالى؛ على جهة تعديد النعمة، والتنبيه على العبرة - أمر العسل في قوله: { يخرج من بطونها شراب } ، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمراعي، أي والفصول.
* ت *: قال الهروي: قوله تعالى: { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه } ، وذلك أنه يستحيل في بطونها، ثم تمجه من أفواهها انتهى.
وقوله: { فيه شفآء للناس } الضمير للعسل؛ قاله الجمهور: قال ابن العربي في «أحكامه»؛ وقد روى الأئمة، واللفظ للبخاري، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وروى أبو سعيد الخدري:
" أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكى بطنه فقال: « اسقه عسلا»، ثم أتاه الثانية، فقال:« اسقه عسلا»، ثم أتاه فقال: فعلت فما زاده ذلك إلا استطلاقا، فقال عليه السلام: « صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا » فسقاه، فبرأ "
وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض، فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بماء سماء، فإن الله تعالى يقول:
ونزلنا من السماء ماء مبركا
[ق:9] وائتوني بعسل؛ فإن الله تعالى يقول: { فيه شفآء للناس } وائتوني بزيت؛ فإن الله تعالى يقول:
من شجرة مبركة
[النور:35] فجاءوه بذلك كله فخلطه جميعا، ثم شربه، فبرأ انتهى.
وقوله سبحانه: { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } ، وأرذل العمر الذي تفسد فيه الحواس، ويختل العقل، وخص ذلك بالرذيلة، وإن كانت حالة الطفولة كذلك من حيث كانت هذه لا رجاء معها، وقال بعض الناس: أول أرذل العمر خمس وسبعون سنة، روي ذلك عن علي رضي الله عنه.
قال * ع *: وهذا في الأغلب، وهذا لا ينحصر إلى مدة معينة، وإنما هو بحسب إنسان إنسان، ورب من يكون ابن خمسين سنة، وهو في أرذل عمره، ورب ابن تسعين ليس في أرذل عمره، واللام في { لكي } يشبه أن تكون لام الصيرورة، والمعنى: ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى ألا يعلم شيئا، وهذه عبارة عن قلة علمه، لا أنه لا يعلم شيئا البتة.
[16.71-74]
وقوله سبحانه: { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } إخبار يراد به العبرة وإنما هي قاعدة بني المثل عليها، والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا؛ حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في البشر، فكيف تنسبون أيها الكفرة إلى الله؛ أنه يسمح بأن يشرك في الألوهية الأوثان والأصنام وغيرها مما عبد من دونه، وهم خلقه وملكه، هذا تأويل الطبري، وحكاه عن ابن عباس قال المفسرون: هذه الآية كقوله تعالى:
ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمنكم من شركاء في ما رزقنكم فأنتم فيه سواء...
الآية [الروم:28] ثم وقفهم سبحانه على جحدهم بنعمته في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواضع النظر المؤدية إلى الإيمان.
وقوله سبحانه: { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا } هذه أيضا آية تعديد نعم، «والأزواج»؛ هنا: الزوجات، وقوله: { من أنفسكم }: يحتمل أن يريد خلقة حواء من نفس آدم، وهذا قول قتادة والأظهر عندي أن يريد بقوله { من أنفسكم } ، أي: من نوعكم كقوله:
لقد جاءكم رسول من أنفسكم
[التوبة:128] وال { حفدة }: قال ابن عباس: هم أولاد البنين وقال الحسن: هم بنوك وبنو بنيك،وقال مجاهد: ال { حفدة } الأنصار والأعوان وقيل غير هذا، ولا خلاف أن معنى «الحفد» الخدمة والبر والمشي مسرعا في الطاعة؛ ومنه في القنوت: «وإليك نسعى ونحفد»، والحفدان أيضا: خبب فوق المشي.
وقوله سبحانه: { فلا تضربوا لله الأمثال... } الآية: أي: لا تمثلوا لله الأمثال، وهو مأخوذ من قولك: هذا ضريب هذا، أي: مثيله، والضرب: النوع.
[16.75-78]
وقوله تعالى: { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا } الآية: الذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة، مملوك لا يقدر على شيء من المال، ولا أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده، مدبر، وبإزاء العبد في المثال رجل موسع عليه في المال، فهو يتصرف فيه بإرادته، واختلف الناس في الذي له المثل، فقال ابن عباس وقتادة: هو مثل الكافر والمؤمن، وقال مجاهد والضحاك: هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده، إنما هو مثال لله تعالى، والأصنام، فتلك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد، وهذا التأويل أصوب؛ لأن الآية تكون من معنى ما قبلها، ومدارها في تبيين أمر الله والرد على أمر الأصنام.
وقوله: { الحمد لله } أي: على ظهور الحجة.
وقوله سبحانه: { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم... } الآية: هذا مثل لله عز وجل والأصنام، فهي كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء، «والكل» الثقيل المؤونة، كما الأصنام تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها، ثم لا يأتي من جهتها خير أبدا، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى.
وقوله تعالى: { ومآ أمر الساعة... } الآية: المعنى، على ما قاله قتادة وغيره: ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها: كن، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر، لكانت من السرعة بحيث يشك، هل هي كلمح البصر أو هي أقرب، «ولمح البصر» هو وقوعه على المرئي.
[16.79-83]
وقوله سبحانه: { ألم يروا إلى الطير مسخرت في جو السمآء... } الاية: «الجو مسافة ما بين السماء والأرض، وقيل: هو ما يلي الأرض منها، والآية عبرة بينة المعنى، تفسيرها تكلف محت، و { يوم ظعنكم } معناه رحيلكم، والأصواف: للضأن والأوبار: للإبل، «والأشعار»: للمعز، ولم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان، فلذلك اقتصر على هذه، ويحتمل أن ترك ذكر القطن والكتان والحرير إعراض عن السرف، إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف، قال ابن العربي في «أحكامه» عند قوله تعالى:
لكم فيها دفء
[النحل:5]: في هذه الآية دليل على لباس الصوف، فهو أول ذلك وأولاه، لأنه شعار المتقين، ولباس الصالحين، وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين، وإليه نسب جماعة من الناس «الصوفية»؛ لأنه لباسهم في الغالب انتهى.
«والأثاث» متاع البيت، واحدها أثاثة؛ هذا قول أبي زيد الأنصاري وقال غيره: «الأثاث»: جميع أنواع المال، ولا واحد له من لفظه.
قال * ع *: والاشتقاق يقوي هذا المعنى الأعم؛ لأن حال الإنسان تكون بالمال أثيثة؛ كما تقول: شعر أثيث، ونبات أثيث، إذا كثر والتف، وال { سرابيل }: جميع ما يلبس على جميع البدن، وذكر وقاية الحر، إذ هو أمس بتلك البلاد، والبرد فيها معدوم في الأكثر، وأيضا: فذكر أحدهما يدل على الآخر، وعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من لبس ثوبا جديدا، فقال: «الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الذي خلق، فتصدق به - كان في كنف الله، وفي حفظ الله، وفي ستر الله حيا وميتا» "
رواه الترمذي، واللفظ له، وابن ماجه، والحاكم في «المستدرك»، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما اشترى عبد ثوبا بدينار أو نصف دينار، فحمد الله عليه إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له "
رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: هذا الحديث لا أعلم في إسناده أحدا ذكر بجرح. انتهى من «السلاح». والسرابيل التي تقي البأس: هي الدروع ونحوها، ومنه قول كعب بن زهير في المهاجرين: [البسيط]
شم العرانين أبطال لبوسهم
من نسج داود في الهيجا سرابيل
والبأس: مس الحديد في الحرب، وقرأ الجمهور «تسلمون» وقرأ ابن عباس: «تسلمون»؛ من السلامة، فتكون اللفظة مخصوصة في بأس الحرب.
[16.84-88]
وقوله سبحانه: { ويوم نبعث من كل أمة شهيدا } أي: شاهدا على كفرهم وإيمانهم، { ثم لا يؤذن } ، أي: لا يؤذن لهم في المعذرة، وهذا في موطن دون موطن، و { يستعتبون } بمعنى: يعتبون؛ تقول: أعتبت الرجل، إذا كفيته ما عتب فيه؛ كما تقول: أشكيته؛ إذا كفيته ما شكا.
وقال قوم: معناه: لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا.
وقال الطبري: معنى { يستعتبون } يعطون الرجوع إلى الدنيا فتقع منهم توبة وعمل.
* ت *: وهذا هو الراجح، وهو الذي تدل عليه الأحاديث، وظواهر الآيات في غير ما موضع.
وقوله سبحانه: { وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم } أي: إذا رأوهم بأبصارهم { قالوا ربنا هؤلآء شركآؤنا... } الآية، كأنهم أرادوا بهذه المقالة تذنيب المعبودين، وقوله سبحانه: { فألقوا إليهم القول... } الآية: الضمير في { ألقوا } للمعبودين؛ أنطقهم الله بتكذيب المشركين، وقد قال سبحانه في آية أخرى:
فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون
[يونس:28] انظر تفسيرها في سورة يونس وغيرها.
وقوله: { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } الضمير في { ألقوا } هنا عائد على «المشركين»، و { السلم } الاستسلام.
وقوله تعالى: { زدنهم عذابا فوق العذاب... } الآية: روي في ذلك عن ابن مسعود، أن الله سبحانه يسلط عليهم عقارب وحيات، لها أنياب، كالنخل الطوال، وقال عبيد بن عمير: حيات لها أنياب كالنخل ونحو هذا، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن لجهنم سواحل، فيها هذه الحيات وهذه العقارب، فيفر الكافرون إلى السواحل، فتلقاهم هذه الحيات والعقارب فيفرون منها إلى النار، فتتبعهم حتى تجد حر النار، فترجع. قال: وهي في أسراب.
[16.89-91]
وقوله سبحانه: { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا } يعني: رسولها، ويجوز أن يبعث الله شهودا من الصالحين مع الرسل، وقد قال بعض الصحابة: إذا رأيت أحدا على معصية، فانهه، فإن أطاعك، وإلا كنت شاهدا عليه يوم القيامة.
وقوله سبحانه: { وجئنا بك شهيدا على هؤلآء } الإشارة ب«هؤلاء» إلى هذه الأمة.
وقوله عز وجل: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان... } الآية: قال ابن مسعود رضي الله عنه: أجمع آية في كتاب الله هذه الآية، وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه، أنه قال: لما نزلت هذه الآية، قرأتها على أبي طالب، فعجب، وقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا فوالله، إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق.
قال * ع *: و { العدل } فعل كل مفروض، و { الإحسن } فعل كل مندوب إليه، { وإيتآئ ذي القربى }: لفظ يقتضي صلة الرحم، ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة، و { الفحشاء } الزنا؛ قاله ابن عباس ويتناول اللفظ سائر المعاصي التي شنعتها ظاهرة، { والمنكر } أعم منه؛ لأنه يعم جميع المعاصى والرذائل، والإذاءات على اختلاف أنواعها، { البغي } هو إنشاء ظلم الإنسان، والسعاية فيه، «وكفيلا» معناه: متكفلا بوفائكم، وباقي الآية بين.
[16.92-93]
وقوله سبحانه: { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها... } الآية: شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد ويبرم عقده، بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما، ثم تنقض قوى ذلك الغزل، فتحله بعد إبرامه، و { أنكثا } نصب على الحال، «والنكث» النقص، والعرب تقول انتكث الحبل، إذا انتقضت قواه، و«الدخل» الدغل بعينه، وهو الذرائع إلى الخدع والغدر، وذلك أن المحلوف له مطمئن، فيتمكن الحالف من ضرره بما يريد.
وقوله سبحانه: { أن تكون أمة هي أربى من أمة } المعنى: لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة والقوة، و { يبلوكم } أي: يختبركم، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على «الربا»، أي: أن الله ابتلى عباده بالربا، وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك؛ ليرى من يجاهد بنفسه، ممن يتبع هواها، وباقي الآية وعيد بيوم القيامة.
[16.94-97]
وقوله سبحانه: { ولا تتخذوا أيمنكم دخلا بينكم... } الآية: «الدخل»؛ كما تقدم: الغوائل والخدائع، وكرر مبالغة، قال الثعلبي: قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل انتهى.
وقوله: { فتزل قدم بعد ثبوتها } استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم.
وقوله سبحانه: { ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا... } الآية: هذه آية نهي عن الرشا، وأخذ الأموال، ثم أخبر تعالى أن ما عنده من نعيم الجنة، ومواهب الآخرة خير لمن اتقى وعلم واهتدى، ثم بين سبحانه الفرق بين حال الدنيا، وحال الآخرة، بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان، أو ينقضي عنها، ومنن الآخرة باقية دائمة، و { صبروا } معناه عن الشهوات وعلى مكاره الطاعات، وهذه إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المكروهة.
واختلف الناس في معنى «الحياة الطيبة» فقال ابن عباس: هو الرزق الحلال وقال الحسن وعلي بن أبي طالب: هي القناعة.
قال * ع *: والذي أقول به أن طيب الحياة اللازم للصالحين إنما هو بنشاط نفوسهم ونبلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، فبهذا تطيب حياتهم، وأنهم احتقروا الدنيا، فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال، وصحة أو قناعة، فذلك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرناه راتب.
وقوله سبحانه: { ولنجزينهم } الآية: وعد بنعيم الجنة.
قال أبو حيان: وروي عن نافع: «وليجزينهم» بالياء؛ التفاتا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفا على «فلنحيينه»، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية، وكلتاهما محذوفة، وليس من عطف جواب، لتغاير الإسناد. انتهى.
[16.98-100]
وقوله سبحانه: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله... } الآية: التقدير فإذا أخذت في قراءة القرآن، والاستعاذة ندب، وعن عطاء أن التعوذ واجب، ولفظ الاستعاذة هو على رتبة هذه الآية، والرجيم المرجوم باللعنة، وهو إبليس ثم أخبر تعالى أن إبليس ليس له ملكة ولا رياسة، هذا ظاهر السلطان عندي في هذه الآية، وذلك أن السلطان إن جعلناه الحجة، فليس لإبليس حجة في الدنيا على أحد لا على مؤمن ولا على كافر، إلا أن يتأول متأول: ليس له سلطان يوم القيامة، فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة؛ لأن إبليس له حجة على الكافرين؛ أنه دعاهم بغير دليل، فاستجابوا له من قبل أنفسهم، و { يتولونه }: معناه يجعلونه وليا، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على اسم الله عز وجل، والظاهر أنه يعود على اسم العدو الشيطان، بمعنى من أجله، وبسببه، فكأنه قال: والذين هم بسببه مشركون بالله، وهذا الإخبار بأن لا سلطان للشيطان على المؤمنين بعقب الأمر بالاستعاذة - يقتضي أن الاستعاذة تصرف كيده، كأنها متضمنة للتوكل على الله، والانقطاع إليه.
[16.101-104]
وقوله سبحانه: { وإذا بدلنآ آية مكان آية } يعني بهذا التبديل النسخ، { قالوا إنما أنت مفتر }: أي قال كفار مكة و { روح القدس }: هو جبريل؛ بلا خلاف.
وقوله سبحانه: { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } قال ابن عباس: كان بمكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له: «بلعام»، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام، ويرومه عليه، فقال بعض الكفار هذا يعلم محمدا، وقيل: اسم الغلام «جبر»، وقيل: يسار، وقيل: يعيش، والأعجمي هو الذي لا يتكلم بالعربية، وأما العجمي، فقد يتكلم بالعربية، ونسبته قائمة.
وقوله: { وهذا } إشارة إلى القرآن والتقدير: وهذا سرد لسان، أو نطق لسان.
[16.105-106]
وقوله سبحانه: { إنما يفتري الكذب }: بمعنى: إنما يكذب، وهذه مقاومة للذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:
إنما أنت مفتر
[النحل:101، ومن في قوله { من كفر } بدل من قوله: { الكذبون } ، فروي: أن قوله سبحانه: { وأولئك هم الكذبون } يراد به مقيس بن ضبابة وأشباهه ممن كان آمن، ثم ارتد باختياره من غير إكراه.
وقوله سبحانه: { إلا من أكره } ، أي: كبلال وعمار بن ياسر وأمه وخباب وصهيب وأشباههم؛ ممن كان يؤذى في الله سبحانه، فربما سامح بعضهم بما أراد الكفار من القول؛ لما أصابه من تعذيب الكفرة، فيروى: أن عمار بن ياسر فعل ذلك، فاستثناه الله في هذه الآية، وبقية الرخصة عامة في الأمر بعده،
" ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب، وما سامح به من القول، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « كيف تجد قلبك » قال: أجده مطمئنا بالإيمان، قال: « فأجبهم بلسانك؛ فإنه لا يضرك، وإن عادوا فعد» ".
وقوله سبحانه: { ولكن من شرح بالكفر صدرا } معناه: انبسط إلى الكفر باختياره.
* ت *: وقد ذكر * ع * هنا نبذا من مسائل الإكراه، تركت ذلك خشية التطويل، وإن محل بسطها كتب الفقه.
[16.107-109]
وقوله سبحانه: { ذلك بأنهم استحبوا الحيوة الدنيا على الآخرة... } الآية: { ذلك } إشارة إلى الغضب، والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية، والضمير في أنهم لمن شرح بالكفر صدرا.
[16.110-111]
وقوله سبحانه: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا... } الآية: قال ابن إسحاق: نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد.
قال * ع *: وذكر عمار في هذا عندي غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من تاب ممن شرح بالكفر صدرا، فتح الله له باب التوبة في آخر الآية، وقال عكرمة والحسن: نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه فكأنه يقول: من بعد ما فتنهم الشيطان، وهذه الآية مدنية بلا خلاف، وإن وجد، فهو ضعيف، وقرأ الجمهور: «من بعد ما فتنوا»؛ مبنيا للمفعول، وقرأ ابن عامر وحده: «من بعد ما فتنوا» - بفتح الفاء والتاء أي فتنوا أنفسهم، والضمير في { بعدها } عائد على الفتنة، أو على الفعلة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها، وإن لم يجر لها ذكر صريح.
وقوله: { يوم تأتي كل نفس }: المعنى لغفور رحيم «ونفس» الأولى: هي النفس المعروفة، والثانية هي بمعنى الذات.
* ت *: قال المهدوي: يجوز أن ينتصب { يوم }؛ على تقدير لغفور رحيم يوم، فلا يوقف على { رحيم }.
وقال * ص *: { يوم } تأتي ظرف منصوب ب { رحيم } أو مفعول به ب «اذكر» انتهى، وهذا الأخير أظهر، والله أعلم.
وقوله سبحانه: { وتوفى كل نفس ما عملت } ، أي: يجازى كل من أحسن بإحسانه، وكل من أساء بإساءته.
[16.112-115]
وقوله سبحانه: { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة... } الآية: قال ابن عباس: القرية؛ هنا مكة، والمراد الضمائر كلها في الآية أهل القرية، ويتوجه عندي في الآية أنها قصد بها قرية غير معينة جعلت مثلا لمكة، على معنى التحذير، لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة وهو الذي يفهم من كلام حفصة أم المؤمنين، و «أنعم» جمع نعمة.
وقوله سبحانه: { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } استعارات، أي: لما باشرهم ذلك، صار كاللباس، والضمير في { جاءهم } لأهل مكة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، و { العذاب }: الجوع وأمر بدر ونحو ذلك، إن كانت الآية مدنية، وإن كانت مكية، فهو الجوع فقط.
وقوله سبحانه: { فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا... } الآية: هذا ابتداء كلام آخر، أي: وأنتم أيها المؤمنون، لستم كهذه القرية فكلوا واشكروا الله على تباين حالكم، من حال الكفرة، وقوله: { حللا } حال، وقوله: { طيبا }: أي مستلذا؛ إذ فيه ظهور النعمة، ويحتمل أن يكون «الطيب» بمعنى الحلال، كرر مبالغة وتأكيدا.
[16.116-118]
وقوله سبحانه: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلل وهذا حرام... } الآية: هذه الآية مخاطبة للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب، قال ابن العربي في «أحكامه» ومعنى الآية: لا تصفوا الأعيان بأنها حلال أو حرام من قبل أنفسكم، إنما المحرم والمحلل هو الله سبحانه، قال ابن وهب: قال مالك لم يكن من فتيا الناس أن يقال لهم: هذا حلال، وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره هذا، ولم أكن لأصنع هذا، فكان الناس يطيعون ذلك، ويرضونه، ومعنى هذا: أن التحليل والتحريم إنما هو لله؛ كما تقدم بيانه، فليس لأحد أن يصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه، وما يؤدي إليه الاجتهاد أنه حرام يقول فيه: إني أكره كذا، وكذلك كان مالك يفعل، اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى انتهى.
وقوله: { متع قليل } إشارة إلى عيشهم في الدنيا، { ولهم عذاب أليم } بعد ذلك في الآخرة، وقوله: { ما قصصنا عليك من قبل } إشارة إلى ما في «سورة الأنعام» من ذي الظفر والشحوم.
[16.119-123]
وقوله سبحانه: { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهلة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } هذه آية تأنيس لجميع العالم فهي تتناول كل كافر وعاص تاب من سوء حاله، قالت فرقة: «الجهالة»؛ هنا: العمد، والجهالة؛ عندي في هذا الموضع: ليست ضد العلم، بل هي تعدي الطور وركوب الرأس. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" « أو أجهل أو يجهل علي» "
وقد تقدم بيان هذا، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بحظر المعصية التي يواقع.
وقوله سبحانه: { إن إبرهيم كان أمة قانتا لله... } الآية: لما كشف الله فعل اليهود وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم - أراد أن يبين بعدهم عن شرع إبراهيم عليه السلام، «والأمة»، في اللغة: لفظة مشتركة تقع للحين، وللجمع الكثير، وللرجل المنفرد بطريقة وحده، وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه السلام أمة، قال مجاهد: سمي إبراهيم أمة؛ لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما، وفي البخاري؛ أنه قال لسارة: «ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك»، وفي البخاري قال ابن مسعود: الأمة معلم الخير والقانت: المطيع الدائم على العبادة، والحنيف: المائل إلى الخير والصلاح.
وقوله سبحانه: { وآتينه في الدنيا حسنة } ، الآية «الحسنة»: لسان الصدق، وإمامته لجميع الخلق؛ هذا قول جميع المفسرين، وذلك أن كل أمة متشرعة، فهي مقرة أن إيمانها إيمان إبراهيم، وأنه قدوتها، وأنه كان على الصواب.
* ت *: وهذا كلام فيه بعض إجمال، وقد تقدم في غير هذا الموضع بيانه، فلا نطول بسرده.
وقوله سبحانه: { أن اتبع ملة إبرهيم... } الآية: ال { ملة }: الطريقة في عقائد الشرع.
[16.124-125]
وقوله سبحانه: { إنما جعل السبت... } الآية: أي: لم يكن من ملة إبراهيم، وإنما جعل الله فرضا عاقب به القوم المختلفين فيه؛ قاله ابن زيد؛ وذلك أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل أن يجعلوا من الجمعة يوما مختصا بالعبادة، وأمرهم أن يكون الجمعة، فقال جمهورهم: بل يكون يوم السبت؛ لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق مخلوقاته، وقال غيرهم: بل نقبل ما أمر به موسى، فراجعهم الجمهور، فتابعهم الآخرون، فألزمهم الله يوم السبت إلزاما قويا، عقوبة لهم، ثم لم يكن منهم ثبوت، بل عصوا فيه، وتعدوا فأهلكهم، وورد في الحديث الصحيح،
" أن اليهود والنصارى اختلفوا في اليوم الذي يختص من الجمعة، فأخذ هؤلاء السبت، وأخذ هؤلاء الأحد، فهدانا الله نحن إلى يوم الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: «فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه» "
فليس الاختلاف المذكور في الآية هو الاختلاف في هذا الحديث.
* ت *: يعنى أن الاختلاف المذكور في الآية هو بين اليهود فيما بينهم، والاختلاف المذكور في الحديث الصحيح هو فيما بين اليهود والنصارى.
وقوله سبحانه: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } هذه الآية نزلت بمكة، أمر عليه السلام أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف، وهكذا ينبغى أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة.
[16.126-128]
وقوله سبحانه: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به... } الآية: أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد، ووقع ذلك في «صحيح البخاري» وغيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بثلاثين » "
كتاب «النحاس» وغيره: « بسبعين منهم »، فقال الناس: إن ظفرنا، لنفعلن ولنفعلن، فنزلت هذه الآية، ثم عزم على النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر عن المجازاة بالتمثيل في القتلى، ويروى أنه عليه السلام قال لأصحابه:
" «أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون؟ فقالوا: نصبر يا رسول الله كما ندبنا!!!» "
وقوله: { وما صبرك إلا بالله } أي بمعونة الله وتأييده على ذلك.
وقوله سبحانه: { ولا تحزن عليهم } قيل: الضمير في قوله: { عليهم } يعود على الكفار، أي: لا تتأسف عليهم أن لم يسلموا، وقالت فرقة: بل يعود على القتلى حمزة وأصحابه الذين حزن عليهم صلى الله عليه وسلم والأول أصوب. { ولا تك في ضيق مما يمكرون } قرأ الجمهور: «في ضيق» - بفتح الضاد -، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، وهما لغتان.
{ إن الله مع الذين اتقوا }: أي بالنصر والمعونة، و { اتقوا } يريد المعاصي، و { محسنون } هم الذين يتزيدون فيما ندب إليه من فعل الخير وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1]
قوله عز وجل: { سبحن الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام }: جل العلماء على أن الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم، وأنه ركب البراق من مكة، ووصل إلى بيت المقدس، وصلى فيه، وقالت عائشة ومعاوية: إنما أسري بروحه، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولو كانت منامة، ما أمكن قريشا التشنيع، ولا فضل أبو بكر بالتصديق، ولا قالت له أم هانىء: لا تحدث الناس بهذا، فيكذبوك، إلى غير هذا من الدلائل، وأما قول عائشة فإنها كانت صغيرة، ولا حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك معاوية.
قال ابن العربي: قوله تعالى: { سبحن الذي أسرى بعبده ليلا } قال علماؤنا: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم هو أشرف منه، لسماه الله تعالى به في تلك الحالة العلية، وقد قال الأستاذ جمال الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن: لما رفعه الله إلى حضرته السنية وأرقاه فوق الكواكب العلوية؛ الزمه اسم العبودية، تواضعا وإجلالا للألوهية. انتهى من «الأحكام».
و { سبحن } مصدر معناه: تنزيها لله، وروى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله؟ قال: تنزيه الله من كل سوء، وكان الإسراء فيما قال مقاتل وقتادة: قبل الهجرة بعام، وقيل: بعام ونصف، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في «الصحيحين» لشريك بن أبي نمر، وهم في هذا المعنى؛ فإنه روى حديث الإسراء، فقال فيه: وذلك قبل أن يوحى إليه، ولا خلاف بين المحدثين؛ أن هذا وهم من شريك.
قال * ص *: { أسرى بعبده } بمعنى: سرى، وليست همزته للتعدية، بل ك«سقى وأسقى»، والباء للتعدية، و { ليلا } ظرف للتأكيد؛ لأن السرى لا يكون لغة إلا بليل، وقيل: يعنى به في جوف الليل، فلم يكن إدلاجا ولا ادلاجا انتهى.
و { المسجد الأقصى }: بيت المقدس، «والأقصى» البعيد، والبركة حوله من وجهين:
أحدهما: النبوة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر، وفي نواحيه.
والآخر: النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة.
وقوله سبحانه: { لنريه } يريد لنري محمدا بعينه آياتنا في السموات والملائكة والجنة والسدرة وغير ذلك من العجائب، مما رآه تلك الليلة، ولا خلاف أن في هذا الإسراء فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة.
وقوله سبحانه: { إنه هو السميع البصير } وعيد للمكذبين بأمر الإسراء، أي: هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم.
[17.2-4]
{ وآتينآ موسى الكتب } ، أي: التوراة.
وقوله: { ألا تتخذوا من دوني وكيلا... } الآية: التقدير: فعلنا ذلك؛ لئلا تتخذوا يا ذرية ف { ذرية }: منصوب على النداء، وهذه مخاطبة للعالم، ويتجه نصب (ذرية) على أنه مفعول ب «تتخذوا» ويكون المعنى ألا يتخذوا بشرا إلاها من دون الله، وقرأ أبو عمر وحده: «ألا يتخذوا» بالياء، على لفظ الغائب، «والوكيل»؛ هنا من التوكيل، أي: متوكلا عليه في الأمور، فهو ند لله بهذا الوجه، وقال مجاهد: { وكيلا }: «شريكا»، ووصف نوح بالشكر؛ لأنه كان يحمد الله في كل حال، وعلى كل نعمة من المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلى الله عليه وسلم قاله سلمان الفارسي وغيره، وقال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام: أن موسى عليه السلام قال: يا رب، ما الشكر الذي ينبغي لك؟ قال: يا موسى لا يزال لسانك رطبا من ذكري، انتهى، وقد رويناه مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم أعني قوله:
" لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ".
وقوله سبحانه: { وقضينا إلى بني إسرءيل... } الآية: قالت فرقة: { قضينا } معناه: في أم الكتاب.
قال * ع *: وإنما يلبس في هذا المكان تعدية { قضينا } ب «إلى»، وتلخيص المعنى عندي: أن هذا الأمر هو مما قضاه الله عز وجل في أم الكتاب على بني إسرائيل، وألزمهم إياه، ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى، فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعا في إيجاز، جعل { قضينا } دالة على النفوذ في أم الكتاب، وقرن بها «إلى» دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال: { قضينا إلى بني إسرءيل } ، معناه: أعلمناهم، وقال مرة: «قضينا عليهم»، و { الكتب } هنا؛ التوراة لأن القسم في قوله: { لتفسدن } غير متوجه مع أن نجعل { الكتب } هو اللوح المحفوظ.
وقال * ص *: و { قضينا }: مضمن معنى «أوحينا»؛ ولذلك تعدى ب «إلى» وأصله أن يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد؛ كقوله سبحانه:
فلما قضى موسى الأجل
[القصص:29] انتهى، وهو حسن موافق لكلام * ع *، وقوله «ولتعلن» أي: لتتجبرن، وتطلبون في الأرض العلو، ومقتضى الآيات أن الله سبحانه أعلم بني إسرائيل في التوراة، أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم من الظهور، ثم تقع منهم أيضا تلك المعاصي والقبائح، فيبعث الله تعالى عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم، وتقتلهم، وتجليهم جلاء، مبرحا، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله، قيل: كان بين المرتين مائتا سنة، وعشر سنين ملكا مؤيدا بأنبياء، وقيل: سبعون سنة.
[17.5-8]
وقوله سبحانه: { فإذا جآء وعد أولهما } الضمير في قوله: { أولهما } عائد على قوله { مرتين } ، وعبر عن الشر ب «الوعد»؛ لأنه قد صرح بذكر المعاقبة.
قال * ص *: { وعد أولهما } ، أي: موعود، وهو العقاب، لأن الوعد سبق بذلك، وقيل: هو على حذف مضاف، أي وعد عقاب أولاهما. انتهى، وهو معنى ما تقدم.
واختلف الناس في العبيد المبعوثين، وفي صورة الحال اختلافا شديدا متباعدا، عيونه أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه السلام، فغزاهم سنجاريب ملك بابل، قاله ابن إسحاق وابن جبير.
وقال ابن عباس: غزاهم جالوت من أهل الجزيرة، وقيل: غزاهم بخت نصر، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس، وهو خامل يسير في مطبخ الملك، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس، فلما انصرف الجيش، ذكر ذلك للملك الأعظم، فلما كان بعد مدة، جعله الملك رئيس جيش، وبعثه فخرب بيت المقدس، وقتلهم، وأجلاهم، ثم انصرف، فوجد الملك قد مات، فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك، وقالت فرقة: إنما غزاهم بخت نصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن زكرياء، وصورة قتله: أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته، فنهاه يحيى عنها، فعز ذلك على امرأته، فزينت بنتها، وجعلتها تسقي الملك الخمر، وقالت لها: إذا راودك عن نفسك، فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين، فإذا قال لك: تمني علي ما أردت، فقولي: رأس يحيى بن زكرياء، ففعلت الجارية ذلك، فردها الملك مرتين، وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأس في طست، ولسانه يتكلم، وهو يقول: لا تحل لك، وجرى دم يحيى، فلم ينقطع، فجعل الملك عليه التراب، حتى ساوى سور المدينة، والدم ينبعث، فلما غزاهم الملك الذي بعث عليهم بحسب الخلاف الذي فيه، قتل منهم على الدم سبعين ألفا حتى سكن، هذا مقتضى خبرهم، وفي بعض الروايات زيادة ونقص، وقرأ الناس: «فجاسوا»، وقرأ أبو السمال: بالحاء، وهما بمعنى الغلبة والدخول قهرا، وقال مؤرج: جاسوا خلال الأزقة.
* ت * قال * ص *: { جاسوا } مضارعه يجوس، ومصدره جوس وجوسان، ومعناه: التردد، و { خلال } ظرف، أي: وسط الديار انتهى.
وقوله سبحانه: { ثم رددنا لكم الكرة عليهم... } الآية عبارة عما قاله سبحانه لبني إسرائيل في التوراة، وجعل «رددنا» موضع «نرد»، لما كان وعد الله في غاية الثقة، وأنه واقع لا محالة، فعبر عن المستقبل بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجولة الأولى، كما وصفنا، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس، وملكوا فيه، وحسنت حالهم برهة من الدهر، وأعطاهم الله الأموال والأولاد وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس، فلما قال الله: إني سأفعل بكم هكذا، اعقب بوصيتهم في قوله: { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم.
.. } الآية، والمعنى: إنكم بعملكم تجازون، و { وعد الآخرة } معناه: من المرتين.
وقوله: { ليسوءوا } اللام لام أمر، وقيل: المعنى: بعثناهم، ليسوؤوا وليدخلوا، فهي لام كي كلها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد، و { المسجد } مسجد بيت المقدس، «وتبر» معناه: أفسد بغشم وركوب رأس.
وقوله: { ما علوا } ، أي: ما علوا عليه من الأقطار، وملكوه من البلاد، وقيل: «ما» ظرفية، والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد.
وقوله سبحانه: { عسى ربكم أن يرحمكم... } الآية: يقول الله عز وجل لبقية بني إسرائيل: عسى ربكم إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أن يرحمكم، وهذه العدة ليست برجوع دولة، وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد عليهما السلام، فلم يفعلوا، وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقاب الله عليهم بضرب الذلة عليهم، وقتلهم وإذلالهم بيد كل أمة، و«الحصير»: من الحصر بمعنى السجن، وبنحو هذا فسره مجاهد وغيره، وقال الحسن: «الحصير» في الآية: أراد به ما يفترش ويبسط؛ كالحصير المعروف عند الناس.
قال * ع *: وذلك الحصير أيضا هو مأخوذ من الحصر.
[17.9-10]
وقوله سبحانه: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم... } الآية: { يهدي } ، في هذه الآية بمعنى يرشد، ويتوجه فيها أن تكون بمعنى «يدعو» و «التي» يريد بها الحالة والطريقة، وقالت فرقة «التي هي أقوم»: لا إله إلا الله، والأول أعم، «والأجر الكبير» الجنة؛ وكذلك حيث وقع في كتاب الله فضل كبير، وأجر كبير، فهو الجنة، قال الباجي قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: إن استطعت أن تجعل القرآن إماما، فافعل، فهو الإمام الذي يهدي إلى الجنة. قال أبو سليمان الداراني: ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال، ولولا أني أدع التفكر فيها، ما جزتها، وقال: إنما يؤتى على أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة، أراد آخرها. قال الباجي. وروى ابن لبابة عن العتبي عن سحنون؛ أنه رأى عبد الرحمن بن القاسم في النوم، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: وجدت عنده ما أحببت! قال له: فأي أعمالك وجدت أفضل؟ قال: تلاوة القرآن، قال: قلت له: فالمسائل، فكان يشير بأصبعه؛ كأنه يلشيها، فكنت أسأله عن ابن وهب، فيقول لي: هو في عليين. انتهى من «سنن الصالحين».
[17.11-12]
وقوله سبحانه: { ويدع الإنسن بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسن عجولا }: سقطت الواو من { يدع } في خط المصحف.
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم في وقت الغضب والضجر، فأخبر سبحانه أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت، كما يدعون بالخير في وقت التثبت، فلو أجاب الله دعاءهم، أهلكهم، لكنه سبحانه يصفح ولا يجيب دعاء الضجر المستعجل، ثم عذر سبحانه بعض العذر في أن الإنسان له عجلة فطرية، { الإنسن } هنا: يراد به الجنس؛ قاله مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس وسليمان: الإشارة إلى آدم لما نفخ الروح في رأسه، عطس وأبصر، فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقيه، أعجبته نفسه، فذهب ليمشي مستعجلا لذلك، فلم يقدر، والمعنى؛ على هذا فأنتم ذووا عجلة موروثة من أبيكم، وقالت فرقة: معنى الآية: معاتبة الناس في دعائهم بالشر مكان ما يجب أن يدعوه بالخير.
* ت *: قول هذه الفرقة نقله * ع * غير ملخص، فأنا لخصته.
وقوله سبحانه: { وجعلنا اليل والنهار آيتين... } الآية هنا العلامة المنصوبة للنظر والعبرة.
وقوله سبحانه: { فمحونا آية اليل } قالت فيه فرقة: سبب تعقيب الفاء أن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين، فمحا بعد ذلك القمر، محاه جبريل بجناحه ثلاث مرات، فمن هنالك كلفه، وقالت فرقة: إن قوله: { فمحونا آية اليل } إنما يريد في أصل خلقته، { وجعلنا آية النهار مبصرة } ، أي: يبصر بها ومعها، ليبتغي الناس الرزق وفضل الله، وجعل سبحانه القمر مخالفا لحال الشمس؛ ليعلم به العدد من السنين والحساب للأشهر والأيام، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة القمر، لا من جهة الشمس، وحكى عياض في «المدارك» في ترجمة الغازي بن قيس قال: روي عن الغازي بن قيس؛ أنه كان يقول: ما من يوم يأتي إلا ويقول: أنا خلق جديد، وعلى ما يفعل في شهيد، فخذوا مني قبل أن أبيد، فإذا أمسى ذلك اليوم، خر لله ساجدا، وقال: الحمد لله الذي لم يجعلني اليوم العقيم. انتهى. «والتفصيل» البيان.
[17.13-15]
وقوله سبحانه: { وكل إنسن ألزمنه طئره } قال ابن عباس: { طئره } ما قدر له وعليه، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة، وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلا، وسمت ذلك كله تطيرا، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية بأوجز لفظ، وأبلغ إشارة، أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء، وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه، وذلك في قوله عز وجل: { وكل إنسن ألزمنه طئره في عنقه } ، فعبر عن الحظ والعمل؛ إذ هما متلازمان، بالطائر؛ قاله مجاهد وقتادة: بحسب معتقد العرب في التطير: { ونخرج له يوم القيمة كتبا يلقه منشورا }: هذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيئاته، { اقرأ كتبك } أي: يقال له: اقرأ كتابك، وأسند الطبري عن الحسن، أنه قال: يا بن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان؛ أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يحفظ سيئاتك، فأملل ما شئت وأقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا { اقرأ كتبك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } قد عدل والله فيك، من جعلك حسيب نفسك.
قال * ع * فعلى هذه الألفاظ التي ذكر الحسن يكون الطائر ما يتحصل مع ابن آدم من عمله في قبره، فتأمل لفظه، وهذا قول ابن عباس، وقال قتادة في قوله: اقرأ كتابك: إنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ.
[17.16-20]
وقوله سبحانه: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } قرأ الجمهور: «أمرنا»؛ على صيغة الماضي، وعن نافع وابن كثير، في بعض ما روي عنهما: «آمرنا» بمد الهمزة؛ بمعنى كثرنا، وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه: «أمرنا» بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النهدي، وأبي العالية وابن عباس، ورويت عن علي، قال الطبري القراءة الأولى معناها: أمرناهم بالطاعة، فعصوا وفسقوا فيها، وهو قول ابن عباس وابن جبير، والثانية: معناها: كثرناهم، والثالثة: هي من الإمارة، أي ملكناهم على الناس، قال الثعلبي: واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة الجمهور، قال أبو عبيد: وإنما اخترت هذه القراءة، لأن المعاني الثلاثة مجتمعة فيها، وهي معنى الأمر والإمارة والكثرة انتهى.
* ت *: وعبارة ابن العربي: { أمرنا مترفيها } يعني بالطاعة، ففسقوا بالمخالفة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن، «والمترف» الغني من المال المتنعم، والترفة: النعمة، وفي مصحف أبي بن كعب: «قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها».
وقوله سبحانه: { فحق عليها القول } ، أي: وعيد الله لها الذي قاله رسولهم، «والتدمير» الإهلاك مع طمس الآثار وهدم البناء.
{ وكم أهلكنا من القرون... } الآية: مثال لقريش ووعيد لهم، أي: لستم ببعيد مما حصلوا فيه إن كذبتم، واختلف في القرن، وقد روى محمد بن القاسم في ختنه عبد الله بن بسر، قال:
" وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه، وقال: «سيعيش هذا الغلام قرنا» قلت: كم القرن؟ قال: مائة سنة "
قال محمد بن القاسم: فما زلنا نعد له حتى كمل مائة سنة، ثم مات رحمه الله.
والباء في قوله: { بربك } زائدة، التقدير وكفى ربك، وهذه الباء إنما تجيء في الأغلب في مدح أو ذم، وقد يجيء «كفى» دون باء، كقول الشاعر: [الطويل]
....................................
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وكقول الآخر: [الطويل]
ويخبرني عن غائب المرء هديه
كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
وقوله سبحانه: { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد... } الآية: المعنى فإن الله يعجل لمن يريد من هؤلاء ما يشاء سبحانه؛ على قراءة النون، أو ما يشاء هذا المريد؛ على قراءة الياء، وقوله: { لمن نريد } شرط كاف على القراءتين، وقال ابن إسحاق الفزاري: المعني لمن نريد هلكته، و«المدحور» المهان المبعد المذلل المسخوط عليه.
وقوله سبحانه: { ومن أراد الآخرة } ، أي: إرادة يقين وإيمان بها، وبالله ورسالاته، ثم شرط سبحانه في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها، وهو ملازمة أعمال الخير على حكم الشرع، { فأولئك كان سعيهم مشكورا } ولا يشكر الله سعيا ولا عملا إلا أثاب عليه، وغفر بسببه؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش: « فشكر الله له فغفر له».
وقوله سبحانه: { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك } يحتمل أن يريد ب«العطاء» الطاعات لمريد الآخرة، والمعاصي لمريد العاجلة، وروي هذا التأويل عن ابن عباس، ويحتمل أن يريد بالعطاء رزق الدنيا، وهو تأويل الحسن بن أبي الحسن، وقتادة، المعنى أنه سبحانه يرزق في الدنيا من يريد العاجلة ومريد الآخرة، وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة، ويتناسب هذا المعنى مع قوله: { وما كان عطاء ربك محظورا } ، أي: ممنوعا، وقلما تصلح هذه العبارة لمن يمد بالمعاصي.
[17.21-22]
وقوله: { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } الآية تدل دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها الرزق، وباقي الآية معناه أوضح من أن يبين.
وقوله سبحانه: { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } هذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد لجميع الخلق، قاله الطبري وغيره، ولا مرية في ذم من نحت عودا أو حجرا، وأشركه في عبادة ربه.
قال * ص *: { فتقعد } ، أي: فتصير؛ بهذا فسره الفراء وغيره ا ه.
«والخذلان»؛ في هذا بإسلام الله لعبده، ألا يتكفل له بنصر، والمخذول الذي أسلمه ناصروه، والخاذل من الظباء التي تترك ولدها.
[17.23-28]
وقوله سبحانه: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إيه... } الآية: { قضى } ، في هذه الآية: هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم؛ وهكذا قال الناس، وأقول: إن المعنى وقضى ربك أمره، فالمقضي هنا هو الأمر، وفي مصحف ابن مسعود: «ووصى ربك»، وهي قراءة ابن عباس وغيره، والضمير في { تعبدوا } لجميع الخلق؛ وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور، ويحتمل أن يكون { قضى } على مشهورها في الكلام، ويكون الضمير في { تعبدوا } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة.
وقوله: { فلا تقل لهما أف } معنى اللفظة أنها اسم فعل؛ كأن الذي يريد أن يقول: أضجر أو أتقذر أو أكره، ونحو هذا، يعبر إيجازا بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعل المذكور، وإذا كان النهي عن التأفيف فما فوقه من باب أحرى، وهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور.
قال * ص *: وقرأ الجمهور { الذل } بضم الذال، وهو ضد العز، وقرأ ابن عباس وغيره بكسرها، وهو الانقياد ضد الصعوبة انتهى، وباقي الآية بين.
قال ابن الحاجب في «منتهى الوصول»، وهو المختصر الكبير: المفهوم ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق، وهو: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، فالأول: أن يكون حكم المفهوم موافقا للمنطوق في الحكم، ويسمى فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، كتحريم الضرب من قوله تعالى: { فلا تقل لهما أف } وكالجزاء بما فوق المثقال من قوله تعالى:
ومن يعمل مثقال ذرة
[الزلزلة:8]، وكتأدية ما دون القنطار من قوله تعالى:
ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك
[آل عمران:75] وعدم تأدية ما فوق الدينار من قوله تعالى:
بدينار لا يؤده إليك
[آل عمران:75] وهو من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، والأعلى على الأدنى، فلذلك كان الحكم في المسكوت أولى، وإنما يكون ذلك إذا عرف المقصود من الحكم، وأنه أشد مناسبة في المسكوت؛ كهذه الأمثلة، ومفهوم المخالفة: أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق به في الحكم ويسمى دليل الخطاب وهو أقسام: مفهوم الصفة؛ مثل:
" في الغنم السائمة الزكاة "
،ومفهوم الشرط، مثل:
وإن كن أولت حمل
[الطلاق:6] ومفهوم الغاية، مثل:
حتى تنكح زوجا غيره
[البقرة:230] ومفهوم إنما مثل:
" إنما الربا في النسيئة "
ومفهوم الاستثناء مثل: «لا إله إلا الله» ومفهوم العدد الخاص، مثل:
فاجلدوهم ثمانين جلدة
[النور:4]، ومفهوم حصر المبتدإ مثل: العالم زيد، وشرط مفهوم المخالفة عند قائله ألا يظهر أن المسكوت عنه أولى ولا مساويا؛ كمفهوم الموافقة، ولا خرج مخرج الأعم الأغلب، مثل:
وربائبكم التي في حجوركم
[النساء:23] فأما مفهوم الصفة، فقال به الشافعي، ونفاه الغزالي وغيره. انتهى.
وفسر الجمهور الأوابين بالرجاعين إلى الخير، وهي لفظة لزم عرفها أهل الصلاح.
* ت *: قال عبد الحق الأشبيلي: واعلم أن الميت كالحي فيما يعطاه ويهدى إليه، بل الميت أكثر وأكثر؛ لأن الحي قد يستقل ما يهدى إليه، ويستحقر ما يتحف به، والميت لا يستحقر شيئا من ذلك، ولو كان مقدار جناح بعوضة، أو وزن مثقال ذرة، لأنه يعلم قيمته، وقد كان يقدر عليه، فضيعه، وقد قال عليه السلام:
" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلات: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له "
فهذا دعاء الولد يصل إلى والده، وينتفع به، وكذلك أمره عليه السلام بالسلام على أهل القبور والدعاء لهم ما ذاك إلا لكون ذلك الدعاء لهم والسلام عليهم، يصل إليهم ويأتيهم، والله أعلم، وروي عنه عليه السلام؛ أنه قال:
" لكون الميت في قبره كالغريق ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه، فإذا لحقته، كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها "
والأخبار في هذا الباب كثيرة انتهى من «العاقبة».
* ت *: وروى مالك في «الموطإ» عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: كان يقال: إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده وأشار بيده نحو السماء. قال أبو عمرو: وقد رويناه بإسناده جيد، ثم أسند عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله ليرفع العبد الدرجة ، فيقول: أي رب، أنى لي هذه الدرجة؟ فيقال: باستغفار ولدك لك "
انتهى من «التمهيد»، وروينا في «سنن أبي داود»؛
" أن رجلا من بني سلمة قال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء، أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما "
انتهى.
وقوله سبحانه: { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل... } الآية: قال الجمهور: الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة، «والحق»، في هذه الآية، ما يتعين له؛ من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه؛ قال بنحو هذا الحسن وابن عباس وعكرمة وغيرهم، «والتبذير» إنفاق المال في فساد أو في سرف في مباح.
وقوله تعالى: { وإما تعرضن عنهم } ، أي: عمن تقدم ذكره من المساكين وابن السبيل، { فقل لهم قولا ميسورا } ، أي: فيه ترجية بفضل الله، وتأنيس بالميعاد الحسن، ودعاء في توسعة الله وعطائه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد نزول هذه الآية،
" إذا لم يكن عنده ما يعطي: يرزقنا الله وإياكم من فضله "
وال { رحمة } على هذا التأويل: الرزق المنتظر، وهذا قول ابن عباس وغيره، والميسور: من اليسر.
[17.29-30]
وقوله سبحانه: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } استعارة لليد المقبوضة عن الانفاق جملة، واستعير لليد التي تستنفذ جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل، وكل هذا في إنفاق الخير، وأما إنفاق الفساد، فقليله وكثيره حرام، أو الملامة هنا لاحقة ممن يطلب من المستحقين، فلا يجد ما يعطى، «والمحسور» الذي قد استنفدت قوته، تقول: حسرت البعير؛ إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة؛ ومنه البصر الحسير.
قال ابن العربي وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، وكثيرا ما جاء هذا المعنى في القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم، عبر به عنهم، على عادة العرب في ذلك. انتهى من «الأحكام»، «والحسير »: هو الكال.
{ إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } معنى { يقدر } يضيق.
وقوله سبحانه: { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } ، أي: يعلم مصلحة قوم في الفقر، ومصلحة آخرين في الغنى.
وقال بعض المفسرين: الآية إشارة إلى حال العرب التي كانت يصلحها الفقر، وكانت إذا شبعت، طغت.
* ت *: وهذا التأويل يعضده قوله تعالى:
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض
[الشورى:27] ولا خصوصية لذكر العرب إلا من حيث ضرب المثل.
[17.31-35]
وقوله سبحانه: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملق... } الآية: نهي عن الوأد الذي كانت العرب تفعله، «والإملاق». الفقر وعدم المال، وروى أبو داود عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من كانت له ابنة فلم يئدها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها - قال: يعني الذكور - أدخله الله الجنة "
انتهى. والحق الذي تقتل به النفس: قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
" لا يحل دم المسلم إلا إحدى ثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس "
أي: وما في هذا المعنى من حرابة أو زندقة ونحو ذلك.
{ ومن قتل مظلوما } أي: بغير الوجوه المذكورة، { فقد جعلنا لوليه سلطنا } ، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم؛ عند جماعة من العلماء، ولهن ذلك عند آخرين، «والسلطان»: الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدية أو العفو؛ قاله ابن عباس. قال البخاري: قال ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو حجة. انتهى، وقال قتادة: «السلطان» القود.
وقوله سبحانه: { فلا يسرف في القتل } المعنى: فلا يتعد الولي أمر الله بأن يقتل غير قاتل وليه، أو يقتل اثنين بواحد إلى غير ذلك من وجوه التعدي، وقرأ حمزة والكسائي، وابن عامر: «فلا تسرف» - بالتاء من فوق -، قال الطبري: على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده.
قال * ع *: ويصح أن يراد به الولي، أي: فلا تسرف أيها الولي، والضمير في «إنه» عائد على «الولي»، وقيل: على المقتول، وفي قراءة أبي بن كعب: «فلا تسرفوا في القتال إن ولي المقتول كان منصورا»، وباقي الآية تقدم بيانه، قال الحسن: { القسطاس } هو القبان، وهو القرسطون، وقيل: { القسطاس }: هو الميزان، صغيرا كان أو كبيرا.
قال * ع *: وسمعت أبي رحمه الله تعالى يقول: رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن، فقال في جملة كلامه: إن في هيئة اليد بالميزان عظة، وذلك أن الأصابع يجيء منها صورة المكتوبة ألف ولامان وهاء، فكأن الميزان يقول: الله، الله.
قال * ع *: وهذا وعظ جميل، «والتأويل»، في هذه الآية المآل؛ قاله قتادة، ويحتمل أن يكون التأويل مصدر تأول، أي: يتأول عليكم الخير في جميع أموركم، إذا أحسنتم الكيل والوزن.
وقال * ص *: { تأويلا } أي: عاقبة انتهى.
[17.36-38]
وقوله سبحانه: { ولا تقف } معناه لا تقل ولا تتبع، واللفظة تستعمل في القذف؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" نحن بنو النضر لا نقفوا أمنا، ولا ننتفى من أبينا "
، وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول: قفوت الأثر، وحكى الطبري عن فرقة؛ أنها قالت: قفا وقاف، مثل عثا وعاث، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانك من القول من ما لا علم لك به، وبالجملة: فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والمردية.
{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } عبر عن هذه الحواس ب { أولئك }. لأن لها إدراكا وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل.
* ت *: قال * ص *: وما توهمه ابن عطية { أولئك } تختص بمن يعقل ليس كذلك؛ إذ لا خلاف بين النحاة في جواز إطلاق «أولاء» و «أولئك» على من لا يعقل.
* ت *: وقد نقل * ع * الجواز عن الزجاج وفي ألفية ابن مالك: [الرجز]
وبأولى أشر لجمع مطلقا
..........................
فقال والده بدر الدين: أي سواء كان مذكرا أو مؤنثا، وأكثر ما يستعمل فيمن يعقل، وقد يجيء لغيره؛ كقوله: [الكامل]
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
والعيش بعد أولئك الأيام
وقد حكى * ع * البيت، وقال: الرواية فيه «الأقوام»، والله أعلم انتهى.
والضمير في { عنه } يعود على ما ليس للإنسان به علم، ويكون المعنى: إن الله تعالى يسأل سمع الإنسان وبصره وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزي، ويحتمل أن يعود على { كل } التي هي السمع والبصر والفؤاد، والمعنى: إن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده.
قال صاحب «الكلم الفارقية»: لا تدع جدول سمعك يجرى فيه أجاج الباطل؛ فيلهب باطنك بنار الحرص على العاجل، السمع قمع تغور فيه المعاني المسموعة إلى قرار وعاء القلب، فإن كانت شريفة لطيفة، شرفته ولطفته وهذبته وزكته، وإن كانت رذيلة دنية، رذلته وخبثته، وكذلك البصر منفذ من منافذ القلب، فالحواس الخمس كالجداول والرواضع ترضع من أثداء الأشياء التي تلابسها، وتأخذ ما فيها من معانيها وأوصافها، وتؤديها إلى القلب وتنهيها. انتهى.
وقوله سبحانه: { ولا تمش في الأرض مرحا } قرأ الجمهور { مرحا } بفتح الحاء مصدر: مرح يمرح؛ إذا تسيب مسرورا بدنياه، مقبلا على راحته، فنهي الإنسان أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، وقرأت فرقة: «مرحا» بكسر الراء، ثم قيل له: إنك أيها المرح المختال الفخور، لن تخرق الأرض، ولن تطاول الجبال بفخرك وكبرك، «وخرق الأرض» قطعها ومسحها واستيفاؤها بالمشي.
وقوله سبحانه: { كل ذلك كان سيئه } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: «سيئة» فالإشارة بذلك على هذه القراءة إلى ما تقدم ذكره مما نهي عنه كقوله:
أف
[الإسراء:23] وقذف الناس، والمرح، وغير ذلك، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «سيئه» على إضافة «سيىء» إلى الضمير، فتكون الإشارة؛ على هذه القراءة إلى جميع ما ذكر في هذه الآيات؛ من بر ومعصية، ثم اختص ذكر السيىء منه، بأنه مكروه عند الله تعالى.
[17.37-40]
وقوله سبحانه: { ذلك مما أوحى إليك ربك... } الآية: الإشارة ب { ذلك } إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة، و { الحكمة } قوانين المعاني المحكمة، والأفعال الفاضلة.
* ت *: فينبغي للعاقل أن يتأدب بآداب الشريعة، وأن يحسن العشرة مع عباد الله، قال الإمام فخر الدين ابن الخطيب في «شرح أسماء الله الحسنى» كان بعض المشايخ يقول: مجامع الخيرات محصورة في أمرين صدق مع الحق، وخلق مع الخلق انتهى، وذكر هشام بن عبد الله القرطبي في تاريخه المسمى ب «بهجة النفس»، قال: دخل عبد الملك بن مروان على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فلم يلبث أن نهض، فقال معاوية لعمرو: ما أكمل مروءة هذا الفتى! فقال له عمرو: إنه أخذ بأخلاق أربعة، وترك أخلاقا ثلاثة، أخذ بأحسن البشر إذا لقي، وبأحسن الاستماع إذا حدث، وبأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الرد إذا خولف، وترك مزاح من لا يوثق بعقله، وترك مخالطة لئام الناس، وترك من الحديث ما يعتذر منه انتهى.
وقوله سبحانه: { ولا تجعل مع الله إلها آخر... } الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره، «والمدحور» المهان المبعد.
وقوله سبحانه: { أفأصفكم... } الآية خطاب للعرب، وتشنيع عليهم فساد قولهم.
[17.41-44]
وقوله سبحانه: { ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا } ، أي صرفنا فيه الحكم والمواعظ.
وقوله سبحانه: { إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } قال سعيد بن جبير وغيره: معنى الكلام: لابتغوا إليه سبيلا في إفساد ملكه ومضاهاته في قدرته، وعلى هذا: فالآية بيان للتمانع، وجارية مع قوله تعالى:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
[الأنبياء:22].
قال * ع *: ونقتضب شيئا من الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مع الله تبارك وتعالى إله غيره؛ على ما قال أبو المعالي وغيره: أنا لو فرضناه، لفرضنا أن يريد أحدهما تسكين جسم والآخر تحريكه، ومستحيل أن تنفذ الإرادتان ومستحيل ألا تنفذا جميعا، فيكون الجسم لا متحركا، ولا ساكنا، فإن صحت إرادة أحدهما دون الآخر، فالذي لم تتم إرادته ليس بإله، فإن قيل: نفرضهما لا يختلفان، قلنا: اختلافهما جائز غير ممتنع عقلا، والجائز في حكم الواقع، ودليل آخر: أنه لو كان الاثنان، لم يمتنع أن يكونوا ثلاثة، وكذلك ويتسلسل إلى ما لا نهاية له، ودليل آخر: أن الجزء الذي لا يتجزأ من المخترعات لا تتعلق به إلا قدرة واحدة لا يصح فيها اشتراك، والآخر كذلك دأبا، فكل جزء إنما يخترعه واحد ، وهذه نبذة شرحها بحسب التقصي يطول.
وقوله سبحانه: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده... } الآية: اختلف في هذا «التسبيح»، هل هو حقيقة أو مجاز، * ت *: والصواب أنه حقيقة، ولولا خشية الإطالة، لأتينا من الدلائل على ذلك بما يثلج له الصدر.
[17.45-47]
وقوله سبحانه: { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة } يعني كفار مكة و { حجابا مستورا } يحتمل أن يريد به حماية نبيه منهم وقت قراءته وصلاته بالمسجد الحرام؛ كما هو معلوم مشهور ويحتمل أنه أراد أنه جعل بين فهم الكفرة وبين فهم ما يقرؤه صلى الله عليه وسلم حجابا، فالآية على هذا التأويل: في معنى التي بعدها.
وقال الواحدي: قوله تعالى: { وإذا قرأت القرآن... } الآية: نزلت في قوم كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قرأ القرآن فحجبه الله عن أعينهم عند قراءة القرآن، حتى يكونوا يمرون به ولا يرونه.
وقوله: { مستورا } معناه ساترا انتهى.
«والأكنة» جمع كنان، وهو ما غطى الشيء، «والوقر»: الثقل في الأذن، المانع من السمع، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفهم الله به.
وقوله سبحانه: { نحن أعلم بما يستمعون به... } الآية: هذا كما تقول: فلان يستمع بإعراض وتغافل واستخفاف، «وما» بمعنى «الذي»، قيل: المراد بقوله: { وإذ هم نجوى } اجتماعهم في دار الندوة، ثم انتشرت عنهم.
[17.48-51]
قوله سبحانه: { انظر كيف ضربوا لك الأمثال... } الآية: حكى الطبري أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه.
وقوله سبحانه: { فلا يستطيعون سبيلا } ، أي: إلى إفساد أمرك وإطفاء نورك، وقولهم: { أءذا كنا عظما ورفتا } الآية في إنكارهم البعث، وهذا منهم تعجب وإنكار واستبعاد و«الرفات» من الأشياء: ما مر عليه الزمان حتى بلغ غاية البلى، وقربه من حالة التراب.
وقال ابن عباس: { رفاتا } غبارا وقال مجاهد: ترابا، وقوله سبحانه: { قل كونوا حجارة أو حديدا... } الآية: المعنى: قل لهم، يا محمد، كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لا بد من بعثكم، ثم احتج عليهم سبحانه في الإعادة بالفطرة الأولى من حيث خلقهم واختراعهم من تراب.
وقوله سبحانه: { فسينغضون } معناه يرفعون ويخفضون، يريد على جهة التكذيب والاستهزاء. قال الزجاج: وهو تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه ومنه قول الشاعر: [الرجز]
أنغض نحوي رأسه وأقنعا
كأنما أبصر شيئا أطمعا
ويقال: أنغضت السن؛ إذا تحركت، قال الطبري وابن سلام: { عسى } من الله واجبة، فالمعنى: هو قريب، وفي ضمن اللفظ توعد.
[17.52]
وقوله سبحانه: { يوم يدعوكم }: بدل من قوله: { قريبا } ويظهرأن يكون المعنى «هو يوم» جوابا لقولهم: «متى هو»، ويريد يدعوكم من قبوركم بالنفخ في الصور لقيام الساعة.
وقوله: { فتستجيبون } ، أي: بالقيام، والعودة والنهوض نحو الدعوة.
وقوله: { بحمده } قال ابن جبير: إن جميع العالمين يقومون، وهم يحمدون الله ويمجدونه، لما يظهر لهم من قدرته * ص *: أبو البقاء { بحمده } أي: حامدين، وقيل: { بحمده } من قول الرسول، أي: وذلك بحمد الله على صدق خبري، ووقع في لفظ * ع * حين قرر هذا المعنى: «عسى أن الساعة قريبة» وهو تركيب لا يجوز؛ لا تقول: عسى أن زيدا قائم انتهى.
وقوله سبحانه: { وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } يحتمل معنيين:
أحدهما: أنهم لما رجعوا إلى حالة الحياة، وتصرف الأجساد، وقع لهم ظن أنهم لم ينفصلوا عن حال الدنيا إلا قليلا لمغيب علم مقدار الزمان عنهم؛ إذ من في الآخرة لا يقدر زمن الدنيا؛ إذ هم لا محالة أشد مفارقة لها من النائمين، وعلى هذا التأويل عول الطبري.
والآخر: أن يكون الظن بمعنى اليقين، فكأنه قال: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده، وتتيقنون أنكم إنما لبثتم قليلا من حيث هو منقض منحصر.
وحكى الطبري عن قتادة أنهم لما رأوا هول يوم القيامة، احتقروا الدنيا، فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلا.
[17.53-55]
وقوله سبحانه: { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } اختلف الناس في { التي هي أحسن }: فقالت فرقة: هي لا إله إلا الله؛ وعلى هذا، ف «العباد»: جميع الخلق، وقال الجمهور { التي هي أحسن }: هي المحاورة الحسنة، بحسب معنى معنى، قال الحسن يقول: يغفر الله لك، يرحمك الله وقوله: { لعبادي } خاص بالمؤمنين، قالت فرقة: أمر الله المؤمنين فيما بينهم بحسن الأدب، وخفض الجناح، وإلانة القول، واطراح نزعات الشيطان، ومعنى النزغ: حركات الشيطان بسرعة؛ ليوجب فسادا، وعداوة الشيطان البينة: هي من قصة آدم عليه السلام، فما بعد، وقالت فرقة: إنما أمر الله في هذه الآية المؤمنين بإلانة القول للمشركين بمكة أيام المهادنة، ثم نسخت بآية السيف.
وقوله سبحانه: { ربكم أعلم بكم }: يقوي هذا التأويل؛ إذ هو مخاطبة لكفار مكة؛ بدليل قوله: { وما أرسلنك عليهم وكيلا } فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين ألا يخاشنوا الكفار في الدين، ثم قال للكفار إنه أعلم بهم ورجاهم وخوفهم، ومعنى { يرحمكم } بالتوبة عليكم من الكفر؛ قاله ابن جريج وغيره.
وقوله سبحانه: { وآتينا داوود زبورا } قرأ الجمهور: «زبورا» بفتح الزاي، وهو فعول بمعنى مفعول، وهو قليل؛ لم يجىء إلا في قدوع وركوب وحلوب، وقرأ حمزة: بضم الزاي قال قتادة: زبور داود مواعظ ودعاء، وليس فيه حلال ولا حرام.
[17.56-58]
وقوله سبحانه: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } هذه الآية ليست في عبدة الأصنام، وإنما هي في عبدة من يعقل، كعيسى وأمه وعزير وغيرهم. قاله ابن عباس، فلا يملكون كشف الضر ولا تحويله، ثم أخبر تعالى، أن هؤلاء المعبودين يطلبون التقرب إلى الله والتزلف إليه، وأن هذه حقيقة حالهم.
وقوله سبحانه: { ويرجون رحمته... } الآية: قال عز الدين بن عبد السلام، في اختصاره ل «رعاية المحاسبي»: الخوف والرجاء: وسيلتان إلى فعل الواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، ولكن لا بد من الإكباب على استحضار ذلك واستدامته في أكثر الأوقات؛ حتى يصير الثواب والعقاب نصب عينيه، فيحثاه على فعل الطاعات، وترك المخالفات، ولن يحصل له ذلك إلا بتفريغ القلب من كل شيء سوى ما يفكر فيه، أو يعينه على الفكر، وقد مثل القلب المريض بالشهوات بالثوب المتسخ الذي لا تزول أدرانه إلا بتكرير غسله وحته وقرضه، انتهى. وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها... } الآية: أخبر سبحانه في هذه الآية أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء، هذا مع السلامة وأخذها جزءا جزءا، أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة.
وقوله: { في الكتب }: يريد في سابق القضاء، وما خطه القلم في اللوح المحفوظ، «والمسطور» المكتوب أسطارا.
[17.59]
وقوله سبحانه: { وما منعنا أن نرسل بالآيت... } الآية: هذه العبارة في { منعنا } هي على ظاهر ما تفهم العرب، فسمى سبحانه سبق قضائه بتكذيب من كذب وتعذيبه - منعا؛ وسبب هذه الآية أن قريشا اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، ونحو هذا من الاقتراحات، فأوحى الله إلى نبيه عليه السلام: إن شئت أفعل لهم ذلك، ثم إن لم يؤمنوا، عاجلتهم بالعقوبة، وإن شئت، استأنيت بهم؛ عسى أن أجتبي منهم مؤمنين، فقال عليه السلام: بل استأن بهم يا رب، فأخبر سبحانه في هذه الآية؛ أنه لم يمنعه جل وعلا من إرسال الآيات المقترحة إلا الاستئناء؛ إذ قد سلفت عادته سبحانه بمعاجلة الأمم الذين جاءتهم الآيات المقترحة، فلم يؤمنوا كثمود وغيرهم. قال الزجاج: أخبر تعالى أن موعد كفار هذه الأمة الساعة؛ بقوله سبحانه:
بل الساعة موعدهم
[القمر:46] فهذه الآية تنظر إلى ذلك، و { مبصرة } أي: ذات إبصار وهي عبارة عن بيان أمر الناقة، ووضوح إعجازها، وقوله: { فظلموا بها } ، أي: بعقرها، وبالكفر في أمرها، ثم أخبر تعالى أنه إنما يرسل بالآيات غير المقترحة؛ تخويفا للعباد، وهي آيات معها إمهال، فمن ذلك الكسوف والرعد والزلزلة وقوس قزح، وغير ذلك، وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام: فقسم عام في كل شيء، إذ حيث ما وضعت نظرك، وجدت آية، وهنا فكرة للعلماء، وقسم معتاد غالبا؛ كالكسوف ونحوه، وهنا فكرة الجهلة، وقسم خارق للعادة، وقد انقضى بانقضاء النبوة، وإنما يعتبر به، توهما لما سلف منه.
[17.60-65]
وقوله سبحانه: { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } هذه الآية إخبار للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه محفوظ من الكفرة آمن، أي: فلتبلغ رسالة ربك، ولا تتهيب أحدا من المخلوقين؛ قاله الطبري؛ ونحوه للحسن والسدي.
وقوله سبحانه: { وما جعلنا الرءيا التي أرينك... } الآية: الجمهور أن هذه الرؤيا رؤيا عين ويقظة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان صبيحة الإسراء، وأخبر بما رأى في تلك الليلة من العجائب، قال الكفار: إن هذا لعجب، واستبعدوا ذلك؛ فافتتن بهذا قوم من ضعفة المسلمين؛ فارتدوا؛ وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت هذه الآية؛ فعلى هذا يحسن أن يكون معنى قوله: { أحاط بالناس } في إضلالهم وهدايتهم، أي: فلا تهتم، يا محمد، بكفر من كفر، وقال ابن عباس: الرؤيا في هذه الآية هي رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة، فعجل في سنة الحديبية، فصد فافتتن المسلمون لذلك، يعني بعضهم، وليس بفتنة كفر.
وقوله: { والشجرة الملعونة في القرآن } معطوفة على قوله: { الرءيا } ، أي جعلنا الرؤيا والشجرة فتنة { والشجرة الملعونة }؛ في قول الجمهور: هي شجرة الزقوم، وذلك أن أمرها لما نزل في سورة «والصافات» قال أبو جهل وغيره: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر، والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد، ثم أحضر تمرا وزبدا، وقال لأصحابه، تزقموا، فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض الضعفاء، قال الطبري عن ابن عباس: أن الشجرة الملعونة، يريد المعلون أكلها؛ لأنها لم يجر لها ذكر.
قال * ع * ويصح أن يريد الملعونة هنا، فأكد الأمر بقوله: { في القرآن } ، وقالت فرقة: { الملعونة } ، أي: المبعدة المكروهة، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله، ولا شك أن ما ينبت في أصل الجحيم هو في نهاية البعد من رحمة الله سبحانه.
وقوله سبحانه: { ونخوفهم } يريد كفار مكة.
وقوله: { أرأيتك هذا الذي كرمت علي } الكاف في «أرأيتك» هي كاف خطاب ومبالغة في التنبه، لا موضع لها من الإعراب، فهي زائدة، ومعنى «أرأيت»: أتأملت ونحوه، كأن المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه بعد.
وقوله: { لأحتنكن } معناه لأميلن ولأجرن، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل أو غيره، فتقاد، والسنة تحتنك المال، أي: تجتره، وقال الطبري «لأحتنكن» معناه لأستأصلن، وعن ابن عباس: لأستولين، وقال ابن زيد: لأضلن.
قال * ع * وهذا بدل اللفظ، لا تفسير .
وقوله: { اذهب فمن تبعك منهم } ، وما بعده من الأوامر: هي صيغة «افعل» بمعنى التهديد، كقوله تعالى:
اعملوا ما شئتم
[فصلت:40] «الموفور»، المكمل، { واستفزز } معناه: استخف واخدع، وقوله: { بصوتك }: قيل: هو الغناء والمزامير والملاهي، لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي، فهي مضافة إلى الشيطان، قاله مجاهد، وقيل: بدعائك إياهم إلى طاعتك.
قال ابن عباس: صوته دعاء كل من دعا إلى معصية الله، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك.
وقوله: { وأجلب } ، أي: هول، و«الجلبة» الصوت الكثير المختلط الهائل.
وقوله: { بخيلك ورجلك } قيل: هذا مجاز واستعارة بمعنى اسع سعيك، وابلغ جهدك، وقيل: حقيقة وإن له خيلا ورجلا من الجن، قاله قتادة، وقيل: المراد فرسان الناس، ورجالتهم المتصرفون في الباطل، فإنهم كلهم أعوان لإبليس على غيرهم؛ قاله مجاهد.
{ وشاركهم في الأمول والأولد } عام لكل معصية يصنعها الناس بالمال، ولكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي، كالإيلاد بالزنا وكتسميتهم عبد شمس، وأبا الكويفر، وعبد الحارث، وكل اسم مكروه؛ ومن ذلك: وأد البنات؛ ومن ذلك: صبغهم في أديان الكفر، وغير هذا، وما أدخله النقاش من وطء الجن، وأنه يحبل المرأة من الإنس، فضعيف كله.
* ت *: أما ما ذكره من الحبل، فلا شك في ضعفه، وفساد قول ناقله، ولم أر في ذلك حديثا لا صحيحا ولا سقيما، ولو أمكن أن يكون الحبل من الجن، كما زعم ناقله، لكان ذلك شبهة يدرأ بها الحد عمن ظهر بها حبل من النساء اللواتي لا أزواج لهن؛ لاحتمال أن يكون حبلها من الجن؛ كما زعم هذا القائل، وهو باطل، وأما ما ذكره من الوطء، فقد قيل ذلك؛ وظواهر الأحاديث تدل عليه، وقد خرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، عن ابن عباس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك، لم يضره الشيطان أبدا "
فظاهر قوله عليه السلام: « اللهم، جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا » - يقتضي أن لهذا اللعين مشاركة ما في هذا الشأن، وقد سمعت من شيخنا أبي الحسن علي بن عثمان الزواوي المانجلاتي سيد علماء بجاية في وقته، قال: حدثني بعض الناس ممن يوثق به يخبر عن زوجته؛ أنها تجد هذا الأمر، قال المخبر: وأصغيت إلى ما أخبرت به الزوجة، فسمعت حس ذلك الشىء، والله أعلم.
[17.66-69]
وقوله سبحانه: { ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر }: إزجاء الفلك: سوقه بالريح اللينة والمجاذيف، و { لتبتغوا من فضله } لفظ يعم التجر وغيره، وهذه الآية المباركة توقيف على آلاء الله وفضله ورحمته بعباده، و { الضر } ، هنا لفظ يعم الغرق وغيره، وأهوال حالات البحر واضطرابه وتموجه، و { ضل } معناه تلف وفقد.
وقوله: { أعرضتم } ، أي: فلم تفكروا في جميل صنع الله بكم.
وقوله: { كفورا } أي: بالنعم و { الإنسن }؛ هنا: الجنس، «والحاصب»: العارض الرامي بالبرد والحجارة؛ ومنه الحاصب الذي أصاب قوم لوط، «والحصب» الرمي بالحصباء، «والقاصف»: الذي يكسر كل ما يلقى ويقصفه، «وتارة» معناه: مرة أخرى، «والتبيع» الذي يطلب ثأرا أو دينا؛ ومن هذه اللفظة قوله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع "
فالمعنى: لا تجدون من يتتبع فعلنا بكم، ويطلب نصرتكم وهذه الآيات أنوارها واضحة للمهتدين.
[17.70-73]
وقوله جلت عظمته { ولقد كرمنا بني آدم... } الآية: عدد الله سبحانه على بني آدم ما خصهم به من المزايا من بين سائر الحيوان، ومن أفضل ما أكرم به الآدمي العقل الذي به يعرف الله تعالى، ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه.
وقوله سبحانه: { على كثير ممن خلقنا } المراد ب«الكثير المفضول» الحيوان والجن، وأما الملائكة، فهم الخارجون عن الكثير المفضول، وليس في الآية ما يقتضي أن الملائكة أفضل من الإنس؛ كما زعمت فرقة؛ بل الأمر محتمل أن يكونوا أفضل من الإنس، ويحتمل التساوي.
وقوله سبحانه: { يوم ندعوا كل أناس بإممهم } يحتمل أن يريد باسم إمامهم، فيقول: يا أمة محمد، ويا أتباع فرعون، ونحو هذا، ويحتمل أن يريد: مع إمامهم أن تجيء كل أمة معها إمامها من هاد ومضل، واختلف في «الإمام»، فقال ابن عباس والحسن: كتابهم الذي فيه أعمالهم، وقال قتادة ومجاهد: نبيهم، وقال ابن زيد: كتابهم الذي نزل عليهم، وقالت فرقة: متبعهم من هاد أو مضل، ولفظة «الإمام» تعم هذا كله.
وقوله سبحانه: { فمن أوتي كتبه بيمينه }: حقيقة في أن في القيامة صحائف تتطاير، وتوضع في الأيمان لأهل الأيمان، وفي الشمائل لأهل الكفر والخذلان، وتوضع في أيمان المذنبين الذين ينفذ عليهم الوعيد، فيستفيدون منها أنهم غير مخلدين في النار.
وقوله سبحانه: { يقرءون كتبهم }: عبارة عن السرور بها، أي: يرددونها ويتأملونها.
وقوله سبحانه: { ولا يظلمون فتيلا } أي: ولا أقل، وقوله سبحانه: { ومن كان في هذه أعمى }: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الإشارة ب { هذه } إلى الدنيا، أي: من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره، والإيمان بأنبيائه، فهو في الآخرة أعمى؛ على معنى أنه حيران لا يتوجه لصواب ولا يلوح له نجح. قال مجاهد: فهو في الآخرة أعمى عن حجته، ويحتمل أن يكون صفة تفضيل، أي: أشد عمى وحيرة؛ لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخايل العذاب؛ ويقوي هذا التأويل قوله، عطفا عليه: { وأضل سبيلا } الذي هو «أفعل من كذا» والعمى في هذه الآية هو عمى القلب، وقول سيبويه: لا يقال أعمى من كذا، إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه، وأما في عمى القلب، فيقال ذلك؛ لأنه يقع فيه التفاضل * ت *: وكذا قال * ص * وقوله سبحانه: { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره... } الآية: الضمير في قوله: { كادوا } هو لقريش، وقيل: لثقيف، فأما لقريش، فقال ابن جبير ومجاهد: نزلت الآية، لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمس أيضا أوثاننا على معنى التشرع، وقال ابن إسحاق وغيره: إنهم اجتمعوا إليه ليلة، فعظموه، وقالوا له: أنت سيدنا، ولكن أقبل على بعض أمرنا، ونقبل على بعض أمرك، فنزلت الآية في ذلك.
قال * ع *: فهي في معنى قوله:
ودوا لو تدهن فيدهنون
[القلم:9] وأما لثقيف ، فقال ابن عباس وغيره: لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات، وقالوا: إنما نريد أن نأخذ ما يهدى لها ولكن إن خفت أن تنكر ذلك عليك العرب، فقل: أوحى الله ذلك إلي، فنزلت الآية في ذلك. * ت *: والله أعلم بصحة هذه التأويلات، وقد تقدم ما يجب اعتقاده في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فالتزمه تفلح.
وقوله: { وإذا لاتخذوك خليلا }: توقيف على ما نجاه الله منه من مخالة الكفار، والولاية لهم.
[17.74-75]
وقوله سبحانه: { ولولا أن ثبتنك... } الآية: تعديد نعمه على النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية، قال:
" اللهم، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين "
وقرأ الجمهور (تركن) بفتح الكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يركن، لكنه كاد بحسب همه بموافقتهم؛ طمعا منه في استئلافهم، وذهب ابن الأنباري إلى أن معنى الآية: لقد كادوا أن يخبروا عنك أنك ركنت ونحو هذا؛ ذهب في ذلك إلى نفي الهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحمل اللفظ ما لا يحتمل؛ وقوله: { شيئا قليلا } يبطل ذلك.
* ت *: وجزى الله ابن الأنباري خيرا، وإن تنزيه سائر الأنبياء لواجب، فكيف بسيد ولد آدم صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
قال أبو الفضل عياض في «الشفا»: قوله تعالى: { ولولا أن ثبتنك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا }: قال بعض المتكلمين: عاتب الله تعالى نبينا عليه السلام قبل وقوع ما يوجب العتاب؛ ليكون بذلك أشد انتهاء ومحافظة لشرائط المحبة، وهذه غاية العناية، ثم انظر كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذكر ما عاتبه عليه، وخيف أن يركن إليه، وفي أثناء عتبه براءته، وفي طي تخويفه تأمينه.
قال عياض رحمه الله: ويجب على المؤمن المجاهد نفسه الرائض بزمام الشريعة خلقه؛ أن يتأدب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته فهو عنصر المعارف الحقيقة، وروضة الآداب الدينية والدنيوية انتهى.
قال * ع *: وهذا الهم من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان خطرة مما لا يمكن دفعه، ولذلك قيل: { كدت } وهي تعطي أنه لم يقع ركون، ثم قيل: { شيئا قليلا }؛ إذ كانت المقاربة التي تضمنتها { كدت } قليلة خطرة لم تتأكد في النفس.
وقوله: { إذا لأذقنك... } الآية: يبطل أيضا ما ذهب إليه ابن الأنباري.
* ت *: وما ذكره * ع * رحمه الله تعالى من البطلان لا يصح، وما قدمناه عن عياض حسن؛ فتأمله.
وقوله: { ضعف الحيوة }: قال ابن عباس وغيره: يريد ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.
[17.76-77]
وقوله سبحانه: { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها... } الآية: قال الحضرمي: الضمير في «كادوا» ليهود المدينة وناحيتها، ذهبوا إلى المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، فإن كنت نبيا، فاخرج إلى الشام، فإنها أرض الأنبياء، فنزلت الآية، وأخبر سبحانه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خرج، لم يلبثوا بعده إلا قليلا، وقالت فرقة: الضمير لقريش، قال ابن عباس: وقد وقع استفزازهم وإخراجهم له، فلم يلبثوا خلفه إلا قليلا يوم بدر.
وقال مجاهد: ذهبت قريش إلى هذا، ولكنه لم يقع منها؛ لأنه لما أراد الله سبحانه استبقاء قريش، وألا يستأصلها، أذن لرسوله في الهجرة، فخرج من الأرض بإذن الله، لا بقهر قريش، واستبقيت قريش؛ ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم.
* ت *: قال * ص *: قوله { لا يلبثون } جواب قسم محذوف، أي: والله، إن استفززت، فخرجت، لا يلبثون خلفك إلا قليلا. انتهى.
وقوله سبحانه: { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا... } الآية: معنى الآية الإخبار أن سنة الله تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخرجت نبيها من بين أظهرها، نالها العذاب، واستأصلها، فلم تلبث خلفه إلا قليلا.
[17.78]
وقوله سبحانه: { أقم الصلوة لدلوك الشمس... } الآية: إجماع المفسرين على أن الإشارة هنا إلى الصلوات المفروضة، والجمهور أن دلوك الشمس زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر، و { غسق اليل }: أشير به إلى المغرب والعشاء، و { وقرآن الفجر }: يريد به صلاة الصبح، فالآية تعم جميع الصلوات، «والدلوك»؛ في اللغة: هو الميل، فأول الدلوك هو الزوال ، وآخره هو الغروب، قال أبو حيان: واللام في { لدلوك الشمس }: للظرفية بمعنى بعد انتهى، و { غسق اليل }: اجتماعه وتكاثف ظلمته، وعبر عن صلاة الصبح خاصة بالقرآن، لأن القرآن هو عظمها؛ إذ قراءتها طويلة مجهور بها.
وقوله سبحانه: { إن قرآن الفجر كان مشهودا } معناه: يشهده حفظة النهار وحفظة الليل من الملائكة؛ حسبما ورد في الحديث الصحيح:
" يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار؛ فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر... "
الحديث بطوله، وفي «مسند البزار» عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
" إن أفضل الصلوات صلاة الصبح يوم الجمعة، في جماعة، وما أحسب شاهدها منكم إلا مغفور له "
انتهى من «الكوكب الدري».
[17.79-81]
{ ومن اليل فتهجد به } «من» للتبعيض، التقدير: ووقتا من الليل، أي: قم وقتا، والضمير في «به» عائد على هذا المقدر، ويحتمل أن يعود على القرآن، و«تهجد» معناه: اطرح الهجود عنك، «والهجود»: النوم، المعنى: ووقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة، وقال علقمة وغيره: التهجد بعد نومة، وقال الحجاج بن عمرو: إنما التهجد بعد رقدة، وقال الحسن: التهجد ما كان بعد العشاء الآخرة.
وقوله: { نافلة لك } قال ابن عباس: معناه: زيادة لك في الفرض، قال: وكان قيام الليل فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد: إنما هي نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مغفور له،والناس يحطون بمثل ذلك خطاياهم، يعني: ويجبرون بها فرائضهم؛ حسبما ورد في الحديث، قال صاحب «المدخل»، وهو أبو عبد الله بن الحاج؛ وقد قالوا: إن من كان يتفلت منه القرآن، فليقم به في الليل، فإن ذلك يثبته له ببركة امتثال السنة سيما الثلث الأخير من الليل؛ لما ورد في ذلك من البركات والخيرات، وفي قيام الليل من الفوائد جملة، فلا ينبغي لطالب العلم أن يفوته منها شيء.
فمنها: أنه يحط الذنوب؛ كما يحط الريح العاصف الورق اليابس من الشجرة.
الثاني: أنه ينور القلب.
الثالث: أنه يحسن الوجه.
الرابع: أنه يذهب الكسل، وينشط البدن.
الخامس: أن موضعه تراه الملائكة من السماء؛ كما يتراءى الكوكب الدري لنا في السماء، وقد روى الترمذي عن أبي أمامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" عليكم بقيام الليل، فإنه من دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الآثام، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد "
وروى أبو داود في «سننه» عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية، كتب من المقنطرين "
انتهى من «المدخل».
وقوله سبحانه: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }: عدة من الله عز وجل لنبيه، وهو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه صلى الله عليه وسلم، والحديث بطوله في البخاري ومسلم.
قال ابن العربي في «أحكامه»: واختلف في وجه كون قيام الليل سببا للمقام المحمود؛ على قولين للعلماء:
أحدهما: أن الباري تعالى يجعل ما يشاء من فضله سببا لفضله من غير معرفة لنا بوجه الحكمة.
الثاني: أن قيام الليل فيه الخلوة بالباري تعالى، والمناجاة معه دون الناس، فيعطى الخلوة به ومناجاته في القيامة، فيكون مقاما محمودا، ويتفاضل فيه الخلق؛ بحسب درجاتهم، وأجلهم فيه درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيعطى من المحامد ما لم يعط أحد، ويشفع فيشفع.
انتهى.
وقوله سبحانه: { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق... } الآية: ظاهر الآية: والأحسن أن يكون دعا عليه السلام في أن يحسن الله حالته في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة، فهي على أتم عموم، معناه: رب، أصلح لي وردي في كل الأمور، وصدري.
وذهب المفسرون إلى تخصيص اللفظ، فقال ابن عباس وغيره: أدخلني المدينة، وأخرجني من مكة، وقال ابن عباس أيضا: الإدخال بالموت في القبر، والإخراج: البعث، وقيل غير هذا، وما قدمت من العموم التام الذي يتناول هذا كله أصوب، «والصدق»؛ هنا صفة تقتضي رفع المذام واستيعاب المدح، { واجعل لي من لدنك سلطنا نصيرا } قال مجاهد: يعني حجة تنصرني بها على الكفار.
وقوله سبحانه: { وقل جاء الحق... } الآية: قال قتادة: { الحق } القرآن، و { البطل } الشيطان.
وقالت فرقة: { الحق } الإيمان، و { البطل }: الكفران، وقيل غير هذا، والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة؛ فيكون التفسير: جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه، وزهق الكفر بجميع ما انطوى فيه، وهذه الآية نزلت بمكة، وكان يستشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة.
[17.82-84]
وقوله سبحانه: { وننزل من القرآن ما هو شفاء... } الآية: أي شفاء بحسب إزالته للريب، وكشفه غطاء القلب، وشفاء أيضا من الأمراض بالرقى والتعويذ ونحوه.
وقوله سبحانه: { وإذا أنعمنا على الإنسن أعرض ونأى بجانبه }: يحتمل أن يكون { الإنسن } عاما للجنس، فالكافر يبالغ في الإعراض، والعاصي يأخذ بخط منه و(نأى) أي: بعد، { قل كل يعمل على شاكلته } ، أي: على ما يليق به، قال ابن عباس: { على شاكلته } معناه: على ناحيته، وقال قتادة: معناه: على ناحيته وعلى ما ينوي. وقوله سبحانه: { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } توعد بين.
[17.85-87]
وقوله سبحانه: { ويسئلونك عن الروح } روى ابن مسعود أن اليهود قال بعضهم لبعض: سلوا محمدا عن الروح فإن أجاب فيه، عرفتم أنه ليس بنبي.
قال * ع *: وذلك أنه كان عندهم في التوراة؛ أن الروح مما انفرد الله بعلمه، ولا يطلع عليه أحد من عباده، فسألوه، فنزلت الآية.
وقيل: إن الآية مكية، والسائلون هم قريش، بإشارة اليهود، واختلف الناس في الروح المسؤول عنه، أي روح هو؟ فقال الجمهور: وقع السؤال عن الأرواح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي، فالروح: اسم جنس على هذا، وهذا هو الصواب، وهو المشكل الذي لا تفسير له.
وقوله سبحانه: { من أمر ربي } يحتمل أن يريد أن الروح من جملة أمور الله التي استأثر سبحانه بعلمها، وهي إضافة خلق إلى خالق، قال ابن راشد في «مرقبته»: أخبرني شيخي شهاب الدين القرافي عن ابن دقيق العيد؛ أنه رأى كتابا لبعض الحكماء في حقيقة النفس ، وفيه ثلاثمائة قول، قال رحمه الله: وكثرة الخلاف تؤذن بكثرة الجهالات، ثم علماء الإسلام اختلفوا في جواز الخوض فيها على قولين، ولكل حجج يطول بنا سردها، ثم القائلون بالجواز اختلفوا، هل هي عرض أو جوهر، أو ليست بجوهر ولا عرض، ولا توصف بأنها داخل الجسم ولا خارجه، وإليه ميل الإمام أبي حامد وغيره، والذي عليه المحققون من المتأخرين أنها جسم نوراني شفاف سار في الجسم سريان النار في الفحم؛ والدليل على أنها في الجسم قوله تعالى:
فلولا إذا بلغت الحلقوم
[الواقعة:83] فلو لم تكن في الجسم، لما قال ذلك، وقد أخبرني الفقيه الخطيب أبو محمد البرجيني رحمه الله عن الشيخ الصالح أبي الطاهر الركراكي رحمه الله قال: حضرت عند ولي من الأولياء حين النزع، فشاهدت نفسه قد خرجت من مواضع من جسده، ثم تشكلت على رأسه بشكله وصورته، ثم صعدت إلى السماء، وصعدت نفسي معها، فلما انتهينا إلى السماء الدنيا، شاهدت بابا ورجل ملك ممدودة عليه، فأزال ذلك الملك رجله، وقال لنفس ذلك الولي: اصعدي، فصعدت، فأرادت نفسي أن تصعد معها، فقال لها: ارجعي، فقد بقي لك وقت، قال: فرجعت فشاهدت الناس دائرين على جسمي، وقائل يقول: مات، وآخر يقول: لم يمت، فدخلت من أنفي، أو قال: من عيني، وقمت. انتهى.
* ت *: وهذه الحكاية صحيحة، ورجال إسنادها ثقات معروفون بالفضل، فابن راشد هو شارح ابن الحاجب الفرعي، والبرجيني معروف عند أهل إفريقية وأبو الطاهر من أكابر الأولياء معطم عند أهل تونس، مزاره وقبره بالزلاج معروف زرته رحمه الله، وقرأ الجمهور: «وما أوتيتم»، واختلف فيمن خوطب بذلك، فقالت فرقة: السائلون فقط، وقالت فرقة: العالم كله، وقد نص على ذلك صلى الله عليه وسلم؛ على ما حكاه الطبري.
وقوله: { ولئن شئنا لنذهبن... } الآية: المعنى وما أوتيتم أنت يا محمد، وجميع الخلائق من العلم إلا قليلا، فالله يعلم من علمه بما شاء، ويدع ما شاء، ولو شاء لذهب بالوحي الذي آتاك، وقوله { إلا رحمة } استثناء منقطع، أي: لكن رحمة من ربك تمسك عليك قال الداوودي: وما روي عن ابن مسعود من أنه سينزع القرآن من الصدور، وترفع المصاحف لا يصح وإنما قال سبحانه: { ولئن شئنا } فلم يشأ سبحانه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون "
قال البخاري: وهم أهل العلم، ولا يكون العلم مع فقد القرآن. انتهى كلام الداوودي، وهو حسن جدا، وقد جاء في الصحيح ما هو أبين من هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا ولكن يقبض العلم بقبض العلماء... "
الحديث.
[17.88-89]
وقوله سبحانه: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن... } الآية: سبب هذه الآية أن جماعة من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن، فإنا نقدر نحن على المجيء بمثله، فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز لجميع الخلائق.
قال * ص *: واللام في { لئن اجتمعت } اللام الموطئة للقسم، وهي الداخلة على الشرط، كقوله:
لئن أخرجوا
[الحشر:12]
ولئن قوتلوا
[الحشر:12] والجواب بعد للقسم لتقدمه، إذا لم يسبق ذو خبره لا للشرط، هذا مذهب البصريين خلافا للفراء في إجازته الأمرين، إلا أن الأكثر أن يجيء جواب قسم، «والظهير» المعين.
قال * ع *: وفهمت العرب الفصحاء بخلوص فهمها في ميز الكلام ودربتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة، ففهموا العجز عنه ضرورة ومشاهدة، وعلمه الناس بعدهم استدلالا ونظرا، ولكل حصل علم قطعي، لكن ليس في مرتبة واحدة.
[17.90-95]
وقوله سبحانه: { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا... } الآية: روي في قول هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم حديث طويل، مقتضاه: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وعبد الله بن أبي أمية، والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وساداتها، اجتمعوا عليه، فعرضوا عليه أن يملكوه إن أراد الملك، أو يجمعوا له كثيرا من المال؛ إن أراد الغنى ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم صلى الله عليه وسلم عند ذلك إلى الله ، وقال: إنما جئتكم بأمر من الله فيه صلاح دنياكم ودينكم، فإن أطعتم، فحسن، وإلا صبرت حتى يحكم الله بيني وبينكم فقالوا له حينئذ: فإن كان ما تزعم حقا، ففجر لنا من الأرض ينبوعا... الحديث بطوله، «والينبوع»: الماء النابع، { وخلالها } ظرف، ومعناه أثناءها وفي داخلها.
وقوله: { كما زعمت } إشارة إلى ما تلا عليهم قبل ذلك في قوله سبحانه:
إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء...
الآية: [سبأ:9] «والكسف» الشيء المقطوع، وقال الزجاج المعنى: أو تسقط السماء علينا طبقا، وقوله: { قبيلا } قيل: معناه مقابلة وعيانا، وقيل: معناه ضامنا وزعيما بتصديقك؛ ومنه القبالة وهي الضمان، وقيل: معناه نوعا وجنسا لا نظير له عندنا، { أو يكون لك بيت من زخرف } ، قال المفسرون: الزخرف الذهب في هذا الموضع، { أو ترقى في السماء } ، أي: في الهواء علوا، ويحتمل أن يريد السماء المعروفة، وهو أظهر.
* ت *: وذكر * ع * هنا كلمات الواجب طرحها، ولهذا أعرضت عنها، و { ترقى } معناه تصعد، ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبد الله بن أبي أمية، ويروى أن جماعتهم طلبت هذه النحو منه، فأمره عز وجل أن يقول: { سبحان ربي } ، أي: تنزيها له من الإتيان إليكم مع الملائكة قبيلا، ومن اقتراحي أنا عليه هذه الأشياء، وهل أنا إلا بشر، إنما علي البلاغ المبين فقط.
وقوله: { مطمئنين } ، أي: وادعين فيها مقيمين.
[17.96-98]
وقوله سبحانه: { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } روي أن من تقدم الآن ذكرهم من قريش، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في آخر قولهم: فلتجىء معك بطائفة من الملائكة تشهد لك بصدقك في نبوتك، وروي أنهم قالوا: فمن يشهد لك؟ ففي ذلك نزلت الآية، أي: الله يشهد بيني وبينكم، ثم أخبر سبحانه؛ أنه يحشرهم على الوجوه حقيقة، وفي هذا المعنى حديث،
" قيل: يا رسول الله، كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادرا على أن يمشيه في الآخرة على وجهه؟ "
قال قتادة: بلى، وعزة ربنا.
* ت *: وهذا الحديث قد خرجه الترمذي من طريق أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: ركبانا، ومشاة، وعلى وجوههم... "
الحديث، وقوله: { كلما خبت } أي: كلما فرغت من إحراقهم، فسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون، ثم يثور، فتلك زيادة السعير، قاله ابن عباس.
قال * ع *: فالزيادة في حيزهم، وأما جهنم، فعلى حالها من الشدة، لا فتور، وخبت النار، معناه: سكن اللهيب، والجمر على حاله، وخمدت معناه، سكن الجمر وضعف، وهمدت معناه: طفئت جملة.
وقوله سبحانه: { ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآيتنا... } الآية: الإشارة ب { ذلك } إلى الوعيد المتقدم بجهنم.
[17.99-100]
قوله عز وجل: { أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض... } الآية: الرؤية في هذه الآية هي رؤية القلب، وهذه الآية احتجاج عليهم فيما استبعدوه من البعث، «والأجل»؛ ههنا: يحتمل أن يريد به القيامة، ويحتمل أن يريد أجل الموت.
وقوله سبحانه: { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي... } الآية: ال { رحمة } ، في هذه الآية: المال والنعم التي تصرف في الأرزاق.
وقوله: { خشية الإنفاق } المعنى: خشية عاقبة الإنفاق، وهو الفقر، وقال بعض اللغويين، أنفق الرجل معناه: افتقر؛ كما تقول أترب وأقتر.
وقوله: { وكان الإنسن قتورا } أي: ممسكا، يريد أن في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى، فهو لو ملك خزائن رحمة الله، لأمسك خشية الفقر، وكذلك يظن أن قدرة الله تقف دون البعث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى.
[17.101-104]
وقوله سبحانه: { ولقد آتينا موسى تسع آيت بينات... } الآية: اتفق المتأولون والرواة؛ أن الآيات الخمس التي في «سورة الأعراف» هي من هذه التسع، وهي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، واختلفوا في الأربع. * ت *: وفي هذا الاتفاق نظر، وروى في هذا صفوان بن عسال؛
" أن يهوديا من يهود المدينة، قال لآخر: سر بنا إلى هذا النبي نسأله عن آيات موسى، فقال له الآخر: لاتقل له إنه نبي، فإنه لو سمعها، صار له أربعة أعين، قال: فسارا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال: « هي لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى السلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا يوم الزحف، وعليكم - خاصة معشر اليهود ألا تعدوا في السبت » "
انتهى، وقد ذكر * ع * هذا الحديث.
وقوله سبحانه: { فسئل بني إسرءيل إذ جاءهم } ، أي: إذ جاءهم موسى واختلف في قوله: { مسحورا } فقالت فرقة: هو مفعول على بابه، وقال الطبري: هو بمعنى ساحر، كما قال
حجابا مستورا
[الاسراء:45] وقرأ الجمهور: «لقد علمت»، وقرأ الكسائي: «لقد علمت» بتاء المتكلم مضمومة، وهي قراءة علي بن أبي طالب وغيره، وقال: ما علم عدو الله قط، وإنما علم موسى والإشارة ب { هؤلاء } إلى التسع.
وقوله: { بصائر }: جمع بصيرة، وهي الطريقة، أي طرائق يهتدى بها، و«المثبور» المهلك؛ قاله مجاهد، { فأراد أن يستفزهم من الأرض } ، أي: يستخفهم ويقتلهم، والأرض هنا أرض مصر، ومتى ذكرت الأرض عموما، فإنما يراد بها ما يناسب القصة المتكلم فيها، واقتضبت هذه الآية قصص بني إسرائيل مع فرعون، وإنما ذكرت عظم الأمر وخطيره، وذلك طرفاه؛ أراد فرعون غلبتهم وقتلهم، وهذا كان بدء الأمر؛ فأغرقه الله وجنوده، وهذا كان نهاية الأمر، ثم ذكر سبحانه أمر بني إسرائيل بعد إغراق فرعون بسكنى أرض الشام و { وعد الآخرة } هو يوم القيامة، «واللفيف» الجمع المختلط الذي قد لف بعضه إلى بعض.
[17.105-109]
وقوله سبحانه: { وبالحق أنزلناه } يعني القرآن نزل بالمصالح والسداد للناس، و { بالحق نزل } يريد: بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره، وقرأ جمهور الناس: «فرقناه» بتخفيف الراء، ومعناه: بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقانا، وقرأ جماعة خارج السبع: «فرقناه» بتشديد الراء، أي: أنزلناه شيئا بعد شيء، لا جملة واحدة، ويتناسق هذا المعنى مع قوله: { لتقرأه على الناس على مكث } ، وتأولت فرقة قوله: { على مكث } أي: على ترسل في التلاوة، وترتل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد، والتأويل الآخر، أي على مكث وتطاول في المدة شيئا بعد شيء.
وقوله سبحانه: { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } فيه تحقير للكفار، وضرب من التوعد، و { الذين أوتوا العلم من قبله }: قالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب، و«الأذقان»: أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان.
قال الواحدي: { إن كان وعد ربنا } أي: بإنزال القرآن، وبعث محمد { لمفعولا }. انتهى.
وقوله سبحانه: { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } هذه مبالغة في صفتهم، ومدح لهم وحض لكل من توسم بالعلم، وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه الرتبة النفيسة وحكى الطبري عن التميمي؛ أن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علما ينفعه؛ لأن الله سبحانه نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية كلها.
* ت *: وإنه والله لكذلك، وإنما يخشى الله من عباده العلماء، اللهم انفعنا بما علمتنا، ولا تجعله علينا حجة بفضلك، ونقل الغزالي عن ابن عباس؛ أنه قال: إذا قرأتم سجدة «سبحان»، فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم، فليبك قلبه. قال الغزالي: فإن لم يحضره حزن وبكاء؛ كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء، فإن ذلك من أعظم المصائب. قال الغزالي: واعلم أن الخشوع ثمرة الإيمان، ونتيجة اليقين الحاصل بعظمة الله تعالى، ومن رزق ذلك، فإنه يكون خاشعا في الصلاة وغيرها؛ فإن موجب الخشوع استشعار عظمة الله، ومعرفة اطلاعه على العبد، ومعرفة تقصير العبد، فمن هذه المعارف يتولد الخشوع، وليست مختصة بالصلاة، ثم قال: وقد دلت الأخبار على أن الأصل في الصلاة الخشوع، وحضور القلب، وأن مجرد الحركات مع الغفلة قليل الجدوى في المعاد، قال: وأعلم أن المعاني التي بها تتم حياة الصلاة تجمعها ست جمل، وهي: حضور القلب، والتفهم، والتعظيم، والهيبة، والرجاء، والحياء، فحضور القلب: أن يفرغه من غير ما هو ملابس له، والتفهم: أمر زائد على الحضور، وأما التعظيم، فهو أمر وراء الحضور والفهم، وأما الهيبة، فأمر زائد علي التعظيم، وهي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم، وأما التعظيم، فهو حالة للقلب تتولد من معرفتين: إحداهما: معرفة جلال الله سبحانه وعظمته، والثانية: معرفة حقارة النفس، واعلم أن حضور القلب سببه الهمة، فإن قلبك تابع لهمتك ، فلا يحضر إلا فيما أهمك، ومهما أهمك أمر، حضر القلب، شاء أم أبى، والقلب إذا لم يحضر في الصلاة، لم يكن متعطلا؛ بل يكون حاضرا فيما الهمة مصروفة إليه. انتهى من «الإحياء».
[17.110-111]
وقوله سبحانه: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن... } الآية: سبب نزول هذه الآية: أن بعض المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: يا الله يا رحمان، فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد، وهو يدعو إلهين، قاله ابن عباس، فنزلت الآية مبينة، أنها أسماء لمسمى واحد، وتقدير الآية: أي الأسماء تدعو به، فأنت مصيب، فله الأسماء الحسنى، وفي «صحيح البخاري» بسنده عن ابن عباس في قوله سبحانه: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه، رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون، سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { ولا تجهر بصلاتك } ، أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، { ولا تخافت بها } عن أصحابك؛ فلا تسمعهم، { وابتغ بين ذلك سبيلا } ، وأسند البخاري عن عائشة: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } قالت: أنزل ذلك في الدعاء انتهى.
قال الغزالي في «الإحياء»: وقد جاءت أحاديث تقتضي استحباب السر بالقرآن، وأحاديث تقتضي استحباب الجهر به، والجمع بينهما أن يقال: إن التالي إذا خاف على نفسه الرياء والتصنع أو تشويش مصل، فالسر أفضل، وإن أمن ذلك، فالجهر أفضل؛ لأن العمل فيه أكثر؛ ولأن فائدته أيضا تتعدى إلى غيره؛ والخير المتعدي أفضل من اللازم؛ ولأنه يوقظ قلب القارىء، ويجمع همته إلى الفكر فيه، ويصرف إليه سمعه، ويطرد عنه النوم برفع صوته، ولأنه يزيد في نشاطه في القراءة، ويقلل من كسله؛ ولأنه يرجو بجهره تيقظ نائم، فيكون سببا في إعانته على الخير، ويسمعه بطال غافل، فينشط بسببه، ويشتاق لخدمة خالقه، فمهما حضرت نية من هذه النيات، فالجهر أفضل، وإن اجتمعت هذه النيات، تضاعف الأجر، وبكثرة النيات يزكو عمل الأبرار وتتضاعف أجورهم. انتهى.
وقوله سبحانه : { ولم يكن له ولي من الذل } هذه الآية رادة على كفرة العرب في قولهم: لولا أولياء الله، لذل - تعالى الله عن قولهم - وقيد سبحانه نفي الولاية له بطريق الذل، وعلى جهة الانتصار؛ إذ ولايته سبحانه موجودة بفضله ورحمته لمن والى من صالح عباده.
قال مجاهد: المعنى لم يخالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد سبحانه، لا إله إلا هو وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
[18 - سورة الكهف]
[18.1-5]
قوله تعالى: { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتب } كان حفص عن عاصم يسكت عند قوله: { عوجا } سكتة خفيفة، وعند
مرقدنا
في يس [يس:52] وسبب هذه البداءة في هذه السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته قريش عن المسائل الثلاث: الروح، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، حسب ما أمرتهم به يهود - قال لهم صلى الله عليه وسلم: « غدا أخبركم بجواب ما سألتم » ولم يقل: إن شاء الله، فعاتبه الله عز وجل، وأمسك عنه الوحي خمسة عشر يوما، وأرجف به كفار قريش، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ منه، فلما انقضى الأمد الذي أراد الله عتاب نبيه، جاءه الوحي بجواب ما سألوه، وغير ذلك، فافتتح الوحي ب { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتب } ، وهو القرآن.
وقوله: { ولم يجعل له عوجا } ، أي: لم ينزله عن طريق الاستقامة، «والعوج» فقد الاستقامة، ومعنى { قيما } ، أي: مستقيما؛ قاله ابن عباس وغيره، وقيل: معنا أنه قيم على سائر الكتب بتصديقها، ولم يرتضه * ع *، قال: ويصح أن يكون معنى «قيم» قيامه بأمر الله على العالم وهذا معنى يؤيده ما بعده من النذارة والبشارة اللتين عمتا العالم، «والبأس الشديد» عذاب الآخرة، ويحتمل أن يندرج معه في النذارة عذاب الدنيا ببدر وغيرها، و { من لدنه } ، أي: من عنده، والمعنى: لينذر العالم و«الأجر الحسن» نعيم الجنة، ويتقدمه خير الدنيا.
وقوله تعالى: { إن يقولون إلا كذبا } ، أي: ما يقولون، فهي النافية.
[18.6-8]
وقوله سبحانه: { فلعلك بخع نفسك } هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، والباخع نفسه هو مهلكها.
قال * ص *: «لعل» للترجي في المحبوب، وللإشفاق في المحذور، وهي هنا للإشفاق. انتهى.
وقوله: { على آثرهم }: استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان؛ فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا، فهو في آثارهم يحزن عليهم.
وقوله: { بهذا الحديث } ، أي: بالقرآن، «والأسف» المبالغة في حزن أو غضب، وهو في هذا الموضع الحزن؛ لأنه على من لا يملك، ولا هو تحت يد الآسف، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه، لكان غضبا، كقوله تعالى:
فلما آسفونا
[الزخرف:55] أي: أغضبونا. قال قتادة: { أسفا }: حزنا.
وقوله سبحانه: { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها... } الآية: بسط في التسلية، أي: لا تهتم بالدنيا وأهلها، فإن أمرها وأمرهم أقل؛ لفناء ذلك وذهابه، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحانا واختبارا، وفي معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم:
" الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء "
{ لنبلوهم } أي: لنختبرهم، وفي هذا وعيد ما.
قال سفيان الثوري: أحسنهم عملا: أزهدهم فيها، وقال أبو عاصم العسقلاني: { أحسن عملا }. الترك لها.
قال * ع *: وكان أبي رحمه الله يقول: أحسن العمل: أخذ بحق، وإنفاق في حق، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه.
وقوله سبحانه: { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } أي: يرجع ذلك كله ترابا، «والجرز»: الأرض التي لا شيء فيها من عمارة وزينة، فهي البلقع، وهذه حالة الأرض العامرة لا بد لها من هذا في الدنيا جزءا جزءا من الأرض، ثم يعمها ذلك بأجمعها عند القيامة، و«الصعيد» وجه الأرض، وقيل: «الصعيد»: التراب خاصة.
[18.9-10]
وقوله سبحانه: { أم حسبت أن أصحب الكهف والرقيم كانوا من آيتنا عجبا } ، أي: ليسوا بعجب من آيات الله، أي فلا يعظم ذلك عليك بحسب ما عظمه السائلون، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم، وهو قول ابن عباس وغيره، واختلف الناس في { الرقيم } ما هو؟ اختلافا كثيرا، فقيل: «الرقيم» كتاب في لوح نحاس، وقيل: في لوح رصاص، وقيل: في لوح حجارة كتبوا فيه قصة أهل الكهف، وقيل غير هذا، وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: ما أدري ما الرقيم؟
قال * ع *: ويظهر من هذه الروايات؛ أنهم كانوا قوما مؤرخين، وذلك من نبل المملكة، وهو أمر مفيد.
وقوله سبحانه: { إذ أوى الفتية إلى الكهف }: { الفتية } ، فيما روي؛ قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، ويقال فيه «دقيانوس»، وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب، وهم من الروم، واتبعوا دين عيسى، وقيل: كانوا قبل عيسى، واختلف الرواة في قصصهم، ونذكر من الخلاف عيونه، وما لا تستغني الآية عنه: فروي عن مجاهد عن ابن عباس، أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين، حسبما ذكره النقاش، أو من مؤمني الأمم قبلهم، فآمنوا بالله، ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فرفع أمرهم إلى الملك، فاستحضرهم، وأمرهم بالرجوع إلى دينه، فقالوا له فيما روي:
ربنا رب السموات والأرض...
[الكهف:14] الآية، فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار، لا عقل لكم، وأنا لا أعجل عليكم، وضرب لهم أجلا ثم سافر خلال الأجل، فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إني أعرف كهفا في جبل كذا، فلنذهب إليه.
وروت فرقة إن أمر أصحاب الكهف إنما كان أنهم من أبناء الأشراف، فحضر عيد لأهل المدينة، فرأى الفتية ما ينتحله الناس في ذلك العيد من الكفر وعبادة الأصنام، فوقع الإيمان في قلوبهم، وأجمعوا على مفارقة دين الكفرة، وروي أنهم خرجوا، وهم يلعبون بالصولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم؛ لئلا يشعر الناس بهم؛ حتى وصلوا إلى الكهف، وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لبعضهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب، فاتبعهم الراعي على رأيهم، وذهب الكلب معهم، فدخلوا الغار، فروت فرقة أن الله سبحانه ضرب على آذانهم عند ذلك، لما أراد من سترهم وخفي على أهل المملكة مكانهم، وعجب الناس من غرابة فقدهم، فأرخوا ذلك ورقموه في لوحين من رصاص أو نحاس، وجعلوه على باب المدينة، وقيل على الرواية: إن الملك بنى باب الغار، وإنهم دفنوا ذلك في بناء الملك على الغار، وروت فرقة، أن الملك لما علم بذهاب الفتية، أمر بقص آثارهم إلى باب الغار، وأمر بالدخول عليهم، فهاب الرجال ذلك، فقال له بعض وزرائه: «ألست أيها الملك إن أخرجتهم قتلتهم؟ قال: نعم، قال: فأي قتلة أبلغ من الجوع والعطش، ابن عليهم باب الغار، ودعهم يموتوا فيه، ففعل، وقد ضرب الله على آذانهم كما تقدم، ثم أخبر الله سبحانه عن الفتية أنهم لما أووا إلى الكهف، أي: دخلوه وجعلوه مأوى لهم وموضع اعتصام دعوا الله تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمة، وهي الرزق فيما ذكره المفسرون، وأن يهيىء لهم من أمرهم رشدا؛ خلاصا جميلا، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظهم تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه بهذه الآية الكريمة فقط؛ فإنها كافية، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة.
[18.11-13]
وقوله تعالى: { فضربنا على آذانهم... } الآية: عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم.
وقوله: { عددا } نعت ل«السنين» والقصد به العبارة عن التكثير.
وقوله: { لنعلم }: عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود، أي: لنعلم ذلك موجودا وإلا فقد كان سبحانه علم أي الحزبين أحصى الأمد، و«الحزبان»: الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إذ ظنوا لبثهم قليلا، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول الجمهور من المفسرين، وأما قوله: { أحصى } فالظاهر الجيد فيه أنه فعل ماض، و { أمدا } منصوب به على المفعول، «والأمد»: الغاية، ويأتي عبارة عن المدة، وقال الزجاج: { أحصى } هو «أفعل»، ويعترض بأن «أفعل» لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، و { أحصى }: فعل رباعي؛ ويحتج لقول الزجاج بأن «أفعل» من الرباعي قد كثر كقولك: ما أعطاه للمال، وكقوله عليه الصلاة والسلام في صفة جهنم: « أسود من القار » وفي صفة حوضه « أبيض من اللبن».
* ت *: وقد تقدم أن «أسود» من «سود»، وما في ذلك من النقد، وقال مجاهد: { أمدا } معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى.
وقوله سبحانه: { وزدنهم هدى } أي: يسرناهم للعمل الصالح، والانقطاع إلى الله عز وجل، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا، وهذه زيادات على الإيمان.
[18.14-16]
وقوله سبحانه: { وربطنا على قلوبهم }: عبارة عن شدة عزم، وقوة صبر، ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال، حسن في شدة النفس، وقوة التصميم أن يشبه الربط، ومنه يقال: فلان رابط الجأش؛ إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحروب وغيرها، ومنه الربط على قلب أم موسى.
وقوله تعالى: { إذ قاموا } يحتمل أن يكون وصف قيامهم بين يدي الملك الكافر، فإنه مقام يحتاج إلى الربط على القلب، ويحتمل أن يعبر بالقيام على انبعاثهم بالعزم على الهروب إلى الله ومنابذة الناس؛ كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا؛ إذا اعتزم عليه بغاية الجد، وبهذه الألفاظ التي هي: { قاموا فقالوا } ، تعلقت الصوفية في القيام والقول، «والشطط»: الجور وتعدي الحد والحق بحسب أمر أمر و«السلطان»: الحجة، وقال قتادة: المعنى بعذر بين، ثم عظموا جرم الداعين مع الله غيره، وظلمهم بقولهم: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } ، وقولهم: { وإذ اعتزلتموهم... } الآية: المعنى قال بعضهم لبعض، وبهذا يترجح أن قوله تعالى: { إذ قاموا فقالوا } إنما المراد به إذ عزموا ونفذوا لأمرهم، وفي مصحف ابن مسعود: «وما يعبدون من دون الله»، ومضمن هذه الآية الكريمة أن بعضهم قال لبعض: إذ قد فارقنا الكفار، وانفردنا بالله تعالى، فلنجعل الكهف مأوى، ونتكل على الله تعالى، فإنه سيبسط علينا رحمته، وينشرها علينا ويهيىء لنا من أمرنا مرفقا، وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وهم على ثقة من الله في أمر آخرتهم، وقرأ نافع وغيره: «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء، وقرأ حمزة وغيره بكسر الميم وفتح الفاء، ويقالان معا في الأمر، وفي الجارحة، حكاه الزجاج.
[18.17-18]
وقوله سبحانه: { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين } و { تزاور } ، أي: تميل، و { تقرضهم } معناه تتركهم ، والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمس ألبتة، وهو قول ابن عباس، وحكى الزجاج وغيره، قال: كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش، وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك، وال { فجوة }: المتسع، قال قتادة: في فضاء منه؛ ومنه الحديث:
" فإذا وجد فجوة نص ".
وقوله سبحانه: { ذلك من آيت الله } الإشارة إلى الأمر بجملته.
وقوله سبحانه: { ونقلبهم ذات اليمين... } الآية: ذكر بعض المفسرين أن تقليبهم إنما كان حفظا من الأرض، وروي عن ابن عباس، أنه قال لو مستهم الشمس، لأحرقتهم، ولولا التقليب، لأكلتهم الأرض، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان بأمر الله وفعل ملائكته، ويحتمل أن يكون ذلك بإقدار الله إياهم على ذلك، وهم في غمرة النوم.
وقوله: { وكلبهم }: أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة.
قال * ع *: وحدثني أبي رحمه الله قال: سمعت أبا الفضل بن الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: من أحب أهل الخير، نال من بركتهم، كلب أحب أهل الفضل، وصحبهم، فذكره الله في محكم تنزيله.
و«الوصيد» العتبة التي لباب الكهف أو موضعها إن لم تكن، وقال ابن عباس: «الوصيد» الباب والأول أصح، والباب الموصد هو المغلق، ثم ذكر سبحانه ما حفهم به من الرعب، واكتنفهم من الهيبة، حفظا منه سبحانه لهم، فقال: { لو اطلعت عليهم... } الآية.
[18.19-21]
وقوله سبحانه: { وكذلك بعثنهم ليتساءلوا بينهم } الإشارة ب«ذلك» إلى الأمر الذي ذكره الله في جهتهم، والعبرة التي فعلها فيهم، «والبعث»: التحريك عن سكون، واللام في قوله: { ليتساءلوا } لام الصيرورة، وقول القائل: { كم لبثتم } يقتضى أنه هجس في خاطره طول نومهم، واستشعر أن أمرهم خرج عن العادة بعض الخروج، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حال من الوقت، والهواء الزماني لا يباين الحالة التي ناموا عليها، وقولهم: { فابعثوا أحدكم بورقكم } يروى أنهم انتبهوا، وهم جياع، وأن المبعوث هو تمليخا، وروي أن باب الكهف انهدم بناء الكفار منه؛ لطول السنين، ويروى أن راعيا هدمه؛ ليدخل فيه غنمه، فأخذ تمليخا ثيابا رثة منكرة ولبسها، وخرج من الكهف، فأنكر ذلك البناء المهدوم؛ إذ لم يعرفه بالأمس، ثم مشى، فجعل ينكر الطريق والمعالم، ويتحير وهو في ذلك لا يشعر شعورا تاما، بل يكذب ظنه فيما تغير عنده حتى بلغ باب المدينة، فرأى على بابها أمارة الإسلام، فزادت حيرته، وقال: كيف هذا ببلد دقيوس، وبالأمس كنا معه تحت ما كنا، فنهض إلى باب آخر، فرأى نحوا من ذلك؛ حتى مشى الأبواب كلها، فزادت حيرته، ولم يميز بشرا، وسمع الناس يقسمون باسم عيسى، فاستراب بنفسه، وظن أنه جن، أو انفسد عقله، فبقي حيران يدعو الله تعالى، ثم نهض إلى باب الطعام الذي أراد اشتراءه، فقال: يا عبد الله، بعني من طعامك بهذه الورق، فدفع إليه دراهم، كأخفاف الربع فيما ذكر، فعجب لها البائع ودفعها إلى آخر يعجبه، وتعاطاها الناس، وقالوا له: هذه دراهم عهد فلان الملك، من أين أنت؟ وكيف وجدت هذا الكنز، فجعل يبهت ويعجب، وقد كان بالبلد مشهورا هو وبيته، فقال: ما أعرف غير أني وأصحابي خرجنا بالأمس من هذه المدينة، فقال الناس: هذا مجنون، اذهبوا به إلى الملك، ففزع عند ذلك، فذهب به حتى جيء به إلى الملك، فلما لم ير دقيوس الكافر، تأنس، وكان ذلك الملك مؤمنا فاضلا يسمى تبدوسيس، فقال له الملك: أين وجدت هذا الكنز؟ فقال له: إنما خرجت أنا وأصحابي أمس من هذه المدينة، فأوينا إلى الكهف الذي في جبل أنجلوس، فلما سمع الملك ذلك، قال في بعض ما روي: لعل الله قد بعث لكم أيها الناس آية فلنسر إلى الكهف، حتى نرى أصحابه، فساروا، وروي أنه أو بعض جلسائه قال: هؤلاء هم الفتية الذين ورخ أمرهم على عهد دقيوس الملك، وكتب على لوح النحاس بباب المدينة، فسار الملك إليهم، وسار الناس معه فلما انتهوا إلى الكهف، قال تمليخا: أدخل عليهم لئلا يرعبوا، فدخل عليهم، فأعلمهم بالأمر، وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سروا وخرجوا إلى الملك، وعظموه، وعظمهم، ثم رجعوا إلى الكهف، وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حين حدثهم تمليخا، فانتظرهم الناس، فلما أبطأ خروجهم، دخل الناس إليهم، فرعب كل من دخل، ثم أقدموا فوجدوهم موتى، فتنازعوا بحسب ما يأتى، وفي هذه القصص من الاختلاف ما تضيق به الصحف فاختصرته، وذكرت المهم الذي به تتفسر ألفاظ الآية، واعتمدت الأصح والله المعين برحمته، وفي هذا البعث بالورق جواز الوكالة، وصحتها.
و { أزكى } معناه: أكثر فيما ذكر عكرمة، وقال ابن جبير: المراد أحل، وقولهم: { يرجموكم } قال الزجاج: بالحجارة، وهو الأصح وقال حجاج: «يرجموكم» معناه: بالقول وقوله سبحانه: { وكذلك أعثرنا عليهم }: الإشارة في قوله: { وكذلك } إلى بعثهم ليتساءلوا، أي: كما بعثناهم، أعثرنا عليهم، والضمير في قوله: { ليعلموا } يحتمل أن يعود على الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم، وإلى هذا ذهب الطبري؛ وذلك أنهم فيما روي دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس، واستبعدوه، وقالوا: إنما تحشر الأرواح، فشق ذلك على ملكهم، وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم، حتى لبس المسوح، وقعد على الرماد وتضرع إلى الله في حجة وبيان، فأعثرهم الله على أهل الكهف، فلما بعثهم الله، وتبين الناس أمرهم؛ سر الملك، ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين به، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله: { إذ يتنزعون بينهم أمرهم }؛ على هذا التأويل، ويحتمل أن يعود الضمير في { يعلموا } على أصحاب الكهف، وقوله: { إذ يتنزعون }؛ على هذا التأويل: ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم، والتنازع على هذا التأويل إنما هو في أمر البناء أو المسجد، لا في أمر القيامة، وقد قيل: إن التنازع إنما هو في أن اطلعوا عليهم، فقال بعضهم: هم أموات، وبعض: هم أحياء، وروي أن بعض القوم ذهبوا إلى طمس الكهف عليهم، وتركهم فيه مغيبين، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر: { لنتخذن عليهم مسجدا } ، فاتخذوه، قال قتادة: { الذين غلبوا } هم الولاة.
[18.22]
وقوله سبحانه: { سيقولون ثلثة رابعهم كلبهم... } الآية: الضمير في { سيقولون } يراد به أهل التوراة من معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف.
وقوله: { رجما بالغيب }: معناه ظنا وهو مستعار من الرجم، كأن الإنسان يرمي الموضع المشكل المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة يرجمه به، عسى أن يصيبه، والواو في قوله: { وثامنهم كلبهم }: طريق النحاة فيها أنها واو عطف دخلت في آخر الكلام؛ إخبارا عن عددهم، لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا نهاية ما قيل، ولو سقطت، لصح الكلام، وتقول فرقة منهم ابن خالويه: هي واو الثمانية، وذكر ذلك الثعلبي عن أبي بكر بن عياش وأن قريشا كانت تقول في عددها: ستة، سبعة وثمانية تسعة، فتدخل الواو في الثمانية.
* ع *: وهي في القرآن في قوله:
والناهون عن المنكر
[التوبة:112] وفي قوله:
وفتحت أبوبها
[الزمر:73] وأما قوله:
وأبكارا
[التحريم:5] وقوله:
وثمنية أيام
[الحاقة:7] فليست بواو الثمانية بل هي لازمة إذ لا يستغني الكلام عنها، وقد أمر الله سبحانه نبيه في هذه الآية، أن يرد علم عدتهم إليه، ثم قال: { ما يعلمهم إلا قليل } يعني: من أهل الكتاب، وكان ابن عباس؛ يقول: أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعة، وثامنهم كلبهم.
قال * ع *: ويدل على هذا من الآية أنه سبحانه لما حكى قول من قال: ثلاثة، وخمسة، قرن بالقول؛ أنه رجم بالغيب، ثم حكى هذه المقالة، ولم يقدح فيها بشيء، وأيضا فيقوى ذلك على القول بواو الثمانية؛ لأنها إنما تكون حيث عدد الثمانية صحيح.
وقوله سبحانه: { فلا تمار فيهم إلا مرآء ظهرا } معناه على بعض الأقوال: أي: بظاهر ما أوحينا إليك، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى، وقيل: معنى الظاهر؛ أن يقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا يحتج هو على أمر مقرر في ذلك، وقال التبريزي: { ظاهرا } معناه: ذاهبا وأنشد: [الطويل]
....................................
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
ولم يبح له في هذه الآية أن يماري، ولكن قوله: { إلا مرآء } مجاز من حيث يماريه أهل الكتاب، سميت مراجعته لهم مراء، ثم قيد بأنه ظاهر، ففارق المراء الحقيقي المذموم، و«المراء»: مشتق من المرية، وهو الشك، فكأنه المشاككة. * ت *: وفي سماع ابن القاسم، قال: كان سليمان بن يسار، إذا ارتفع الصوت في مجلسه، أو كان مراء، أخذ نعليه، ثم قام. قال ابن رشد: هذا من ورعه وفضله، و«المراء» في العلم منهي عنه، فقد جاء أنه لا تؤمن فتنته، ولا تفهم حكمته انتهى من «البيان».
والضمير في قوله: { ولا تستفت فيهم } عائد على أهل الكهف، وفي قوله: { منهم } عائد على أهل الكتاب.
وقوله: { فلا تمار فيهم } ، أي: في عدتهم.
[18.23-26]
وقوله سبحانه: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } قد تقدم أن هذه الآية عتاب من الله تعالى لنبيه حيث لم يستثن، والتقدير: إلا أن تقول إلا أن يشاء الله أو إلا أن تقول: إن شاء الله، والمعنى: إلا أن تذكر مشيئة الله.
وقوله سبحانه: { واذكر ربك إذا نسيت } قال ابن عباس والحسن معناه: الاشارة به إلى الاستثناء، أي: ولتستثن بعد مدة إذا نسيت، أولا لتخرج من جملة من لم يعلق فعله بمشيئة الله، وقال عكرمة: واذكر ربك إذا غضبت، وعبارة الواحدي: { واذكر ربك إذا نسيت } ، أي: إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله، فاذكره وقله إذا تذكرت. ا ه.
وقوله سبحانه: { وقل عسى أن يهدين ربي... } الآية: الجمهور أن هذا دعاء مأمور به، والمعنى: عسى أن يرشدني ربي فيما أستقبل من أمري، والآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي بعد تعم جميع أمته.
وقال الواحدي: { وقل عسى أن يهدين } ، أي: يعطيني ربي الآيات من الدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف، ثم فعل الله له ذلك حيث آتاه علم غيوب المرسلين وخبرهم. انتهى.
وقوله سبحانه: { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين... } الآية: قال قتادة وغيره: الآية حكاية عن بني إسرائيل، أنهم قالوا ذلك؛ واحتجوا بقراءة ابن مسعود وفي مصحفه: «وقالوا لبثوا في كهفهم»، ثم أمر الله نبيه بأن يرد العلم إليه؛ ردا على مقالهم وتفنيدا لهم، وقال المحققون: بل قوله تعالى: { ولبثوا في كهفهم ... } الآية خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم، وقوله تعالى: { قل الله أعلم بما لبثوا } ، أي: فليزل اختلافكم أيها المخرصون، وظاهر قوله سبحانه: { وازدادوا تسعا } أنها أعوام.
وقوله سبحانه: { أبصر به وأسمع } ، أي: ما أسمعه سبحانه، وما أبصره، قال قتادة: لا أحد أبصر من الله، ولا أسمع.
قال * ع * وهذه عبارة عن الإدراك، ويحتمل أن يكون المعنى: أبصر به أي: بوحيه وإرشاده، هداك، وحججك، والحق من الأمور، وأسمع به العالم، فتكون اللفظتان أمرين لا على وجه التعجب.
وقوله سبحانه: { ما لهم من دونه من ولي }: الضمير في { لهم } يحتمل أن يرجع إلى أهل الكهف، ويحتمل أن يرجع إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار، ويكون في الآية تهديد لهم.
[18.27-28]
وقوله سبحانه: { اتل ما أوحي إليك } ، أي: اتبع، وقيل: اسرد بتلاوتك ما أوحي إليك من كتاب ربك، لا نقض في قوله، ولا مبدل لكلماته، وليس لك سواه جانب تميل إليه، وتستند، و«الملتحد»الجانب الذي يمال إليه؛ ومنه اللحد.
* ت * قال النووي: يستحب لتالي القرآن إذا كان منفردا أن يكون ختمه في الصلاة، ويستحب أن يكون ختمه أول الليل أو أول النهار، وروينا في مسند الإمام المجمع على حفظه وجلالته وإتقانه وبراعته أبي محمد الدارمي رحمه الله تعالى، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إذا وافق ختم القرآن أول الليل، صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن وافق ختمه أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي. قال الدارمي: هذا حديث حسن وعن طلحة بن مطرف، قال: من ختم القرآن أية ساعة كانت من النهار، صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وأية ساعة كانت من الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وعن مجاهد نحوه انتهى.
وقوله سبحانه: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم... } الآية: تقدم تفسيرها.
وقوله سبحانه: { ولا تعد عيناك عنهم } ، أي: لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا، وقرأ الجمهور: «من أغفلنا قلبه» بنصب الباء على معنى جعلناه غافلا، «والفرط»: يحتمل أن يكون بمعنى التفريط، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، وقد فسره المتأولون بالعبارتين.
[18.29]
وقوله سبحانه: { وقل الحق من ربكم } المعنى: وقل لهم يا محمد هذا القرآن هو الحق، * ت *: وقد ذم الله تعالى الغافلين عن ذكره والمعرضين عن آياته في غيرما آية من كتابه، فيجب الحذر مما وقع فيه أولئك، ولقد أحسن العارف في قوله: غفلة ساعة عن ربك مكدرة لمرآة قلبك، فكيف بغفلتك جميع عمرك. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم "
رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان في «صحيحهما» وهذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، «والترة» - بكسر التاء المثناة من فوق وتخفيف الراء - النقص، وقيل: التبعة، ولفظ ابن حبان:
" إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة "
انتهى من «السلاح».
وقوله: { فمن شاء فليؤمن... } الآية: توعد وتهديد، أي: فليختر كل امرىء لنفسه ما يجده غدا عند الله عز وجل، وقال الداوودي، عن ابن عباس: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } يقول: من شاء الله له الإيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر، هو كقوله:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العلمين
[التكوير:29] وقال غيره: هو كقوله:
اعملوا ما شئتم
[فصلت:40] بمعنى الوعيد، والقولان معا صحيحان. انتهى و { أعتدنا } مأخوذ من العتاد، وهو الشيء المعد الحاضر، «والسرادق» هو الجدار المحيط كالحجرة التي تدور وتحيط بالفسطاط، قد تكون من نوع الفسطاط أديما أو ثوبا أو نحوه، وقال الزجاج: «السرادق»: كل ما أحاط بشيء، واختلف في سرادق النار، فقال ابن عباس: سرادقها حائط من نار، وقالت فرقة: سرادقها دخان يحيط بالكفار، وهو قوله تعالى:
انطلقوا إلى ظل ذي ثلث شعب
[المرسلات:30] وقيل غير هذا، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي سعيد الخدري؛ أنه قال
" سرادق النار أربعة جدر كثف عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة "
" و«المهل» قال أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو دردي الزيت، إذا انتهى حره "
وقال أبو سعيد وغيره: هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة، وقالت فرقة: «المهل» هو الصديد والدم إذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه في الكفن: إنما هو للمهلة، يريد لما يسيل من الميت في قبره، ويقوى هذا بقوله سبحانه:
ويسقى من ماء صديد
[ابراهيم:16] و«المرتفق»: الشيء الذي يطلب رفقه.
[18.30-32]
وقوله سبحانه: { إن الذين آمنوا وعملوا الصلحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } تقدم تفسير نظيره، والله الموفق بفضله، و { أساور } جمع «أسوار»، وهي ما كان من الحلي في الذراع، وقيل: «أساور» جمع أسورة، وأسورة جمع أسوار، و«السندس»: رقيق الديباج «والإستبرق» ما غلظ منه، قيل: إستبرق من البريق، و { الأرائك } جمع أريكة، وهي السرير في الحجال، والضمير في قوله: { وحسنت } للجنات، وحكى النقاش عن أبي عمران الجوني، أنه قال: «الإستبرق»: الحرير المنسوج بالذهب.
وقوله سبحانه: { واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعنب... } الآية الضمير في { لهم } عائد على الطائفة المتجبرة التي أرادت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرد فقراء المؤمنين، فالمثل مضروب للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبري قريش، أو بني تميم؛ على الخلاف في ذلك، والرجل المؤمن المقر بالربوبية هو بإزاء فقراء المؤمنين، «وخففنا» بمعنى جعلنا ذلك لهما من كل جهة، وظاهر هذا المثل أنه بأمر وقع في الوجود، وعلى ذلك فسره أكثر المتأولين، فروي في ذلك أنهما كانا أخوين من بني إسرائيل، ورثا أربعة آلاف دينار، فصنع أحدهما بماله ما ذكر، واشترى عبيدا، وتزوج، وأثرى، وأنفق الآخر ماله في طاعة الله عز وجل حتى افتقر، والتقيا، فافتخر الغني، ووبخ المؤمن، فجرت بينهما هذه المحاورة، وروي أنهما كانا شريكين حدادين كسبا مالا كثيرا، وصنعا نحو ما روي في أمر الأخوين، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه.
قال السهيلي: وذكر أن هذين الرجلين هما المذكوران في «والصافات» في قوله تعالى: { قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أءنك لمن المصدقين } إلى قوله { فاطلع فرءاه في سواء الجحيم } وإلى قوله:
لمثل هذا فليعمل العملون
[الصافات:51-61] انتهى.
[18.33-34]
وقوله سبحانه: { كلتا الجنتين آتت أكلها } الأكل: ثمرها الذي يؤكل { ولم تظلم منه شيئا } أي لم تنقص عن العرف الأتم الذي يشبه فيها، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ويظلمني مالي كذا ولوى يدي
لوى يده الله الذي هو غالبه
وقرأ الجمهور: «ثمر» و «بثمره»[الكهف:42] - بضم الثاء والميم - جمع «ثمار»، وقرأ أبو عمرو - بسكون الميم - فيهما، واختلف المتأولون في «الثمر» - بضم الثاء والميم - فقال ابن عباس وغيره: «الثمر»: جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، وقال ابن زيد: هي الأصول، و«المحاورة»: مراجعة القول، وهو من «حار يحور».
وقوله: { أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا }: هذه المقالة بإزاء مقالة متجبري قريش، أو بني تميم، على ما تقدم في «سورة الأنعام». * ت * وقوله: { وأعز نفرا } يضعف قول من قال: «إنهما أخوان» فتأمله، والله أعلم بما صح من ذلك.
[18.35-37]
وقوله سبحانه: { ودخل جنته وهو ظالم لنفسه... } الآية: أفرد الجنة من حيث الوجود كذلك إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد، وظلمه لنفسه هو كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث، وفي شكه في حدوث العالم، إن كانت إشارته ب { هذه } إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواع المخلوقات، وإن كانت إشارته إلى جنته فقط، فإنما الكلام تساخف واغترار مفرط، وقلة تحصيل، كأنه من شدة العجب بها والسرور، أفرط في وصفها بهذا القول، ثم قاس أيضا الآخرة على الدنيا وظن أنه لم يمل له في دنياه إلا لكرامة يستوجبها في نفسه، فقال: فإن كان ثم رجوع، فستكون حالي كذا وكذا.
وقوله: { قال له صاحبه } يعني المؤمن.
وقوله: { خلقك من تراب } إشارة إلى آدم عليه السلام.
[18.38-41]
وقوله: { لكنا هو الله ربي } معناه: لكن أنا أقول هو الله ربي، وروى هارون عن أبي عمرو «لكنه هو الله ربي»، وباقي الآية بين.
وقوله: { ولولا إذ دخلت جنتك... } الآية: وصية من المؤمن للكافر، { ولولا }: تحضيض بمعنى «هلا»، و { ما } تحتمل أن تكون بمعنى «الذي» بتقدير: الذي شاء الله كائن، وفي { شاء } ضمير عائد على «ما»، ويحتمل أن تكون شرطية بتقدير: ما شاء الله كان، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله.
وقوله: { لا قوة إلا بالله }: تسليم، وضد لقول الكافر:
ما أظن أن تبيد هذه أبدا
[الكهف:35]، وفي الحديث:
" إن هذه الكلمة كنز من كنوز الجنة، إذا قالها العبد، قال الله عز وجل: «أسلم عبدي واستسلم "
قال النووي: وروينا في «سنن أبي داود والترمذي والنسائي» وغيرهما، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قال يعني - إذا خرج من بيته - باسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت، وكفيت، ووقيت، وتنحى عنك الشيطان "
قال الترمذي: حديث حسن، زاد أبو داود في روايته:
" فيقول: - يعني الشيطان لشيطان آخر - كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي "
انتهى. وروى الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة "
انتهى.
قال المحاسبي في «رعايته»: وإذا عزم العبد في القيام بجميع حقوق الله سبحانه، فليرغب إليه في المعونة من عنده على أداء حقوقه، ورعايتها، وناجاه بقلب راغب راهب؛ أني أنسى إن لم تذكرني، وأعجز إن لم تقوني، وأجزع إن لم تصبرني، وعزم وتوكل، واستغاث واستعان، وتبرأ من الحول والقوة إلا بربه، وقطع رجاءه من نفسه، ووجه رجاءه كله إلى خالقه، فإنه سيجد الله عز وجل قريبا مجيبا متفضلا متحننا. انتهى.
قال ابن العربي في «أحكامه» قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول كما قال الله تعالى: { ما شاء الله لا قوة إلا بالله } انتهى.
وقوله: { فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك } هذا الترجي ب«عسى» يحتمل أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخرة، وتمني ذلك في الآخرة أشرف وأذهب مع الخير والصلاح، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا - أذهب في نكاية هذا المخاطب، و«الحسبان» العذاب؛ كالبرد والصر ونحوه، و «الصعيد» وجه الأرض، «والزلق»: الذي لا تثبت فيه قدم، يعني: تذهب منافعها حتى منفعة المشي فهي وحل لا تثبت فيه قدم.
[18.42-44]
وقوله سبحانه: { وأحيط بثمره... } الآية: هذا خبر من الله عز وجل عن إحاطة العذاب بحال هذا الممثل به، و { يقلب كفيه }: يريد يضع بطن إحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهف المتأسف.
وقوله: { خاوية على عروشها } يريد أن السقوف وقعت، وهي العروش، ثم تهدمت الحيطان عليها؛ فهي خاوية والحيطان على العروش.
* ت *: فسر * ع * رحمه الله لفظ { خاوية } في «سورة الحج والنمل» ب«خالية»، والأحسن أن تفسر هنا وفي الحج ب«ساقطة»، وأما التي في «النمل»، فيتجه أن تفسر ب«خالية» وب «ساقطة» قال الزبيدي في «مختصر العين» خوت الدار: باد أهلها، وخوت: تهدمت انتهى، وقال الجوهري في كتابه المسمى ب «تاج اللغة وصحاح العربية»: خوت النجوم خيا: أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها، وأخوت مثله، وخوت الدار خواء ممدودا: أقوت وكذلك إذا سقطت، ومنه قوله تعالى:
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا
[النمل:52] أي: خالية، ويقال: ساقطة؛ كما قال:
فهي خاوية على عروشها
[الحج:45] أي ساقطة على سقوفها. انتهى وهو تفسير بارع، وبه أقول، وقد تقدم إيضاح هذا المعنى في «سورة البقرة».
وقوله: { يليتني لم أشرك بربي أحدا } قال بعض المفسرين: هي حكاية عن مقالة هذا الكافر في الآخرة، ويحتمل أن يكون قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة، ويكون فيها زجر لكفرة قريش وغيرهم، «والفئة»: الجماعة التي يلجأ إلى نصرها.
وقوله سبحانه: { هنالك } يحتمل أن تكون ظرفا لقوله: { منتصرا } ويحتمل أن يكون { الولية } مبتدأ، و { هنالك }: خبره، وقرأ حمزة والكسائي: «الولاية - بكسر الواو -، وهي بمعنى الرياسة ونحوه، وقرأ الباقون: «الولاية» - بفتح الواو - وهي بمعنى الموالاة والصلة ونحوه، وقرأ أبو عمرو والكسائي: «الحق» بالرفع؛ على النعت ل«الولاية» وقرأ الباقون بالخفض على النعت ل { لله } عز وجل، وقرأ الجمهور: «عقبا» - بضم العين والقاف - وقرأ حمزة وعاصم - بسكون القاف - والعقب والعقب: بمعنى العاقبة.
[18.45-48]
{ واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا } يريد حياة الإنسان، كماء أنزلناه من السماء { فاختلط به } ، أي: فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب النماء، { فأصبح هشيما } أصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك، و «الهشيم» المتفتت من يابس العشب، و { تذروه } بمعنى تفرقه، فمعنى هذا المثل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وبطره، بالنبات الذي له خضرة ونضرة عن الماء النازل، ثم يعود بعد ذلك هشيما، ويصير إلى عدم، فمن كان له عمل صالح يبقى في الآخرة، فهو الفائز.
وقوله سبحانه: { المال والبنون زينة الحيوة الدنيا } لفظه الخبر، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأنه في المثل قبل حقر أمر الدنيا وبينه؛ فكأنه يقول: المال والبنون زينة هذه الحياة الدنيا المحقرة، فلا تتبعوها نفوسكم، والجمهور أن { الصلحات }. هي الكلمات المذكور فضلها في الأحاديث:
" سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، وقد جاء ذلك مصرحا به من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « وهن الباقيات الصالحات ".
وقوله سبحانه: { خير عند ربك ثوابا وخير أملا } أي: صاحبها ينتظر الثواب، وينبسط أمله، فهو خير من حال ذي المال والبنين، دون عمل صالح، وعن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" استكثروا من الباقيات الصالحات » قيل: وما هن، يا رسول الله؟ قال: » التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله "
رواه النسائي وابن حبان في «صحيحه» انتهى من «السلاح».
وفي «صحيح مسلم» عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أحب الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت "
وفي «صحيح مسلم»، عن أبي مالك الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض... "
الحديث انتهى.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وروى مالك عن سعيد بن المسيب، أن الباقيات الصالحات قول العبد: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله» وروي عن ابن عباس وغيره؛ أن الباقيات الصالحات الصلوات الخمس. انتهى.
* ت *: وما تقدم أولى، ومن كلام الشيخ الولي العارف أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال: عليك بالمطهرات الخمس في الأقوال؛ والمطهرات الخمس في الأفعال، والتبري من الحول والقوة في جميع الأحوال، وغص بعقلك إلى المعاني القائمة بالقلب، واخرج عنها وعنه إلى الرب واحفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده أمامك واعبد الله بها، وكن من الشاكرين، فالمطهرات الخمس في الأقوال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والمطهرات الخمس في الأفعال: الصلوات الخمس، والتبري من الحول والقوة: هو قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله.
انتهى.
وقوله سبحانه: { وترى الأرض بارزة }: يحتمل أن الأرض؛ لذهاب الجبال، والضراب والشجر - برزت، وانكشفت ويحتمل أن يريد بروز أهلها من بطنها للحشر، و«المغادرة»: الترك، { وعرضوا على ربك صفا } ، أي: صفوفا وفي الحديث الصحيح:
" يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر... "
الحديث بطوله، وفي حديث آخر:
" أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا، أنتم منها ثمانون صفا ".
وقوله سبحانه: { لقد جئتمونا كما خلقنكم أول مرة }: يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا "
كمآ بدأنا أول خلق نعيده
[الأنبياء:104].
[18.49-50]
وقوله سبحانه: { ووضع الكتب فترى المجرمين مشفقين مما فيه... } الآية: { الكتب } اسم جنس يراد به كتب الناس التي أحصتها الحفظة لواحد واحد، ويحتمل أن يكون الموضوع كتابا واحدا حاضرا، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { إلا إبليس كان من الجن } قالت فرقة: إبليس لم يكن من الملائكة، بل هو من الجن، وهم الشياطين المخلوقون من مارج من نار، وجميع الملائكة إنما خلقوا من نور، واختلفت هذه الفرقة، فقال بعضهم: إبليس من الجن، وهو أولهم وبدأتهم، كآدم من الإنس، وقالت فرقة: بل كان إبليس وقبيله جنا، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته، فهو كنوح في الإنس، واحتجوا بهذه الآية.
وقوله: { ففسق } معناه فخرج عن أمر ربه وطاعته.
وقوله عز وجل: { أفتتخذونه } يريد: أفتتخذون إبليس.
وقوله: { وذريته }: ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين، الذين يأمرون بالمنكر، ويحملون على الأباطيل.
وقوله تعالى: { بئس للظلمين بدلا } أي: بدل ولاية الله عز وجل بولاية إبليس وذريته، وذلك هو التعوض من الحق بالباطل.
[18.51-53]
وقوله سبحانه: { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض... } الآية: الضمير في { أشهدتهم } عائد على الكفار، وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء، وسواهم من كل من يتخرص في هذه الأشياء، وقيل: عائد على ذرية إبليس، فالآية على هذا تتضمن تحقيرهم، والقول الأول أعظم فائدة، وأقول: إن الغرض أولا بالآية هم إبليس وذريته، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب المصدقين لهم، والمعظمين للجن، حين يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته، وهم أضل الجميع، فهم المراد الأول ب { المضلين } ، وتندرج هذه الطوائف في معناهم، وقرأ الجمهور: «وما كنت»، وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن، بخلاف «وما كنت»، «والعضد»: استعارة للمعين والمؤازر، { ويوم يقول نادوا شركاءي } أي: على جهة الاستغاثة بهم، واختلف في قوله: { موبقا } ، فقال ابن عباس: معناه مهلكا، وقال عبد الله بن عمر وأنس بن مالك ومجاهد: { موبقا } هو واد في جهنم يجري بدم وصديد. قال أنس: يحجز بين أهل النار وبين المؤمنين.
وقوله سبحانه: { فظنوا أنهم مواقعوها } ، أي: مباشروها، وأطلق الناس أن الظن هنا بمعنى اليقين.
قال * ع *: والعبارة بالظن لا تجيء أبدا في موضع يقين تام قد قاله الحسن بل أعظم درجاته أن يجيء، في موضع متحقق، لكنه لم يقع ذلك المظنون، والا فمذ يقع ويحس لا يكاد توجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن ، وتأمل هذه الآية، وتأمل كلام العرب، وروى أبو سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الكافر ليرى جهنم، ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة "
و«المصرف»: المعدل والمراغ، وهو مأخوذ من الانصراف من شيء إلى شيء.
[18.54-59]
وقوله تعالى: { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسن أكثر شيء جدلا } { الإنسن } هنا يراد به الجنس، وقد استعمل صلى الله عليه وسلم الآية على العموم في مروره بعلي ليلا، وأمره له بالصلاة بالليل، فقال علي: إنما أنفسنا يا رسول الله بيد الله، أو كما قال، فخرج صلى الله عليه وسلم، وهو يضرب فخذه بيده، ويقول: { وكان الإنسن أكثر شيء جدلا }.
وقوله سبحانه: { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى... } الآية: { الناس } ، هنا يراد بهم كفار عصر النبي صلى الله عليه وسلم، و { سنة الأولين } ، هي عذاب الأمم المذكورة في القرآن، { أو يأتيهم العذاب قبلا } ، أي: مقابلة عيانا، والمعنى: عذابا غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيم، وقد وقع ذلك بهم يوم بدر، وكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم، وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إلى الخسران - عافانا الله من ذلك -.
و { ليدحضوا } معناه: يزهقوا، «والدحض»: الطين.
وقوله: { فلن يهتدوا إذا }: لفظ عام يراد به الخاص ممن حتم الله عليه أنه لا يؤمن، ولا يهتدي أبدا، كأبي جهل وغيره.
وقوله: { بل لهم موعد } قالت فرقة: هو أجل الموت، وقالت فرقة: هو عذاب الآخرة، وقال الطبري هو يوم بدر والحشر.
وقوله سبحانه: { لن يجدوا من دونه موئلا } ، أي: لا يجدون عنه منجى، يقال: وأل الرجل يئل؛ إذ نجا، ثم عقب سبحانه توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله، و { القرى }: المدن، والإشارة إلى عاد وثمود وغيرهم، وباقي الآية بين.
قال * ص *: وقوله: { لما ظلموا } في { لما ظلموا }: إشعار بعلة الإهلاك؛ وبهذا استدل ابن عصفور على حرفية «لما»؛ لأن الظرف لا دلالة فيها على العلية.
[18.60]
وقوله سبحانه: { وإذ قال موسى لفته لا أبرح... } الآية: { موسى } هو ابن عمران، وفتاه هو يوشع بن نون، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن موسى عليه السلام جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل، وخطب، فأبلغ، فقيل له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله إليه: بلى عبدنا خضر، فقال: يا رب، دلني على السبيل إلى لقيه، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر، حتى يبلغ مجمع البحرين، فإذا فقد الحوت، فإنه هنالك، وأمر أن يتزود حوتا، ويرتقب زواله عنه، ففعل موسى ذلك، وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة: لا أبرح أسير، أي: لا أزال، وإنما قال هذه المقالة، وهو سائر، قال السهيلي: كان موسى عليه السلام أعلم بعلم الظاهر، وكان الخضر أعلم بعلم الباطن، وأسرار الملكوت، فكانا بحرين اجتمعا بمجمع البحرين، والخضر شرب من عين الحياة، فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال، وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث، منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه الله: مات الخضر قبل انقضاء المائة من قوله صلى الله عليه وسلم:
" أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن إلى رأس مائة عام منها لا يبقى على الأرض ممن هو عليها أحد "
يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة، وأما اجتماع الخضر مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل بيته، فمروي من طرق صحاح، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" إنما سمي الخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فاهتزت تحته خضراء ".
قال الخطابي: الفروة وجه الأرض، ثم أنشد على ذلك شاهدا انتهى.
واختلف الناس في «مجمع البحرين»، فقال مجاهد وقتادة هو مجمع بحر فارس وبحر الروم، وقالت فرقة { مجمع البحرين }: هو عند طنجة، وقيل غير هذا، واختلف في «الحقب»، فقال ابن عباس وغيره: الحقب: أزمان غير محدودة، وقال عبد الله بن عمرو ثمانون سنة، وقال مجاهد: سبعون، وقيل: سنة.
[18.61-74]
وقوله سبحانه: { فلما بلغا مجمع بينهما } الضمير في { بينهما }: للبحرين، قاله مجاهد، وفي الحديث الصحيح: " ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما، فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، واتخذ سبيله في البحر سربا، أي: مسلكا في جوف الماء، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما، وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: { فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غدآءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } ويعني ب «النصب» تعب الطريق، قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، قال له فتاه: { أرءيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت } ، يريد: ذكر ما جرى فيه، { وما أنسانيه } ، أي أن أذكره { إلا الشيطن } ، و { اتخذ سبيله في البحر عجبا } قال: فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا، فقال موسى: { ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا } ، قال: فرجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا، { قال إنك لن تستطيع معي صبرا } يعني: لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ، ولم تخبر بوجه الحكمة فيه؟ يا موسى، إني على علم من علم الله، علمنيه لا تعلمه، يريد: علم الباطن، وأنت على علم من علم الله علمكه الله، لا أعلمه، يريد: علم الظاهر، فقال له موسى: { ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا } ، فقال له الخضر: { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا } ، أي: حتى أشرح لك ما ينبغي شرحه، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول، يقول: بغير أجر، فلما ركبا في السفينة، لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى؛ قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم، فخرقتها لتغرق أهلها، { لقد جئت شيئا إمرا } ، أي شنيعا من الأمور، وقال مجاهد: الإمر المنكر، { قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا } قال أبي بن كعب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « فكانت الأولى من موسى نسيانا، قال: وجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر»، وفي رواية: « والله، ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر »، وفي رواية:« ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره ».
قال * ع *: وهذا التشبيه فيه تجوز؛ إذ لا يوجد في المحسوسات أقوى في القلة من نقطة بالإضافة إلى البحر، فكأنها لا شيء، ولم يتعرض الخضر لتحرير موازنة بين المثال وبين علم الله تعالى، إذ علمه سبحانه غير متناه، ونقط البحر متناهية، ثم خرج من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده، فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أقتلت نفسا زاكية.
قال * ع *: قيل: كان هذا الغلام لم يبلغ الحلم، فلهذا قال موسى: نفسا زاكية، وقالت فرقة: بل كان بالغا.
وقوله: { بغير نفس } يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس، لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم، لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس. * ت *: وهذا إذا كان شرعهم كشرعنا، وقد يكون شرعهم أن النفس بالنفس عموما في البالغ وغيره، وفي العمد والخطأ؛ فلا يلزم من الآية ما ذكر.
وقوله: { لقد جئت شيئا نكرا } معناه: شيئا ينكر قال * ع *: ونصف القرآن بعد الحروف. انتهى إلى النون من قوله: { نكرا }.
[18.75-82]
{ قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا } قال: وهذه أشد من الأولى - { قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض } ، قال: مائل، فقال الخضر بيده هكذا، فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم، فلم يطعمونا، ولم يضيفونا { لو شئت لتخذت عليه أجرا } قال سعيد بن جبير: أجرا نأكله - «قال هذا فراق بيني وبينك» إلى قوله: { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما» قال سعيد: فكان ابن عباس يقرأ: «وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة [صالحة] غضبا»، وكان يقرأ: «وأما الغلام [فكان كافرا] وكان أبواه مؤمنين»، وفي رواية للبخاري: يزعمون عن غير سعيد بن جبير؛ أن اسم الملك: هدد بن بدد، والغلام المقتول اسمه يزعمون حيسور، ويقال: جيسور ملك { يأخذ كل سفينة غصبا } ، فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها، فانتفعوا بها، ومنهم من يقول: سدوها بقارورة، ومنهم من يقول بالقار، { فكان أبواه مؤمنين } ، وكان كافرا، { فخشينا أن يرهقهما طغينا وكفرا } أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه، { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة } لقوله: «أقتلت نفسا زاكية»، { وأقرب رحما } هما به أرحم منهما بالأول الذي قتله خضر، وزعم غير سعيد أنهما أبدلا جارية، وأما داود بن أبي عاصم، فقال عن غير واحد: إنها جارية. انتهى لفظ البخاري.
* ت *: وقد تحرينا في هذا المختصر بحمد الله التحقيق فيما علقناه جهد الاستطاعة، والله المستعان، وهو المسؤول أن ينفع به بجوده وكرمه. قال * ع *: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام التلوم ثلاثة، فتأمله.
وقوله سبحانه: { فأبوا أن يضيفوهما } وفي الحديث: «أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم».
قال * ع *: وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله عز وجل. * ص *: وقوله: { فراق بيني } الجمهور بإضافة «فراق»، أبو البقاء، أي تفريق وصلنا، وقرأ ابن أبي عبلة «فراق» بالتنوين، أبو البقاء و«بين»: منصوب على الظرف انتهى.
قال * ع *: و { وراءهم } هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان، وذلك أن الحادث المقدم الوجود هو الأمام، والذي يأتي بعد هو الوراء، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، ومن قرأ: «أمامهم»، أراد في المكان.
قال * ع *: وفي الحديث، «أن هذا الغلام طبع يوم طبع كافرا»، والضمير في «خشينا» للخضر، قال الداوودي: قوله: { فخشينا أن يرهقهما } ، أي: علمنا انتهى. «والزكاة» شرف الخلق والوقار والسكينة المنطوية على خير ونية، «والرحم» الرحمة، وروي عن ابن جريج، أنهما بدلا غلاما مسلما، وروي عنه أنهما بدلا جارية، وحكى النقاش أنها ولدت هي وذريتها سبعين نبيا، وذكره المهدوي عن ابن عباس، وهذا بعيد، ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم، واختلف الناس في هذا الكنز المذكور هنا، فقال ابن عباس: كان علما في صحف مدفونة، وقال عمر مولى غفرة: كان لوحا من ذهب قد كتب فيه: «عجبا للموقن بالرزق كيف يتعب، وعجبا للموقن بالحساب كيف يغفل، وعجبا للموقن بالموت كيف يفرح»، وروي نحو هذا مما هو في معناه، وقال الداوودي: { كان تحته كنز لهما } ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ذهب وفضة» انتهى، فإن صح هذا الحديث، فلا نظر لأحد معه، فالله أعلم أي ذلك كان.
وقوله سبحانه: { وكان أبوهما صلحا } ظاهر اللفظ، والسابق منه إلى الذهن أنه والدهما دنية، وقيل: هو الأب السابع، وقيل: العاشر، فحفظا فيه، وفي الحديث:
" إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته "
، وقول الخضر: { وما فعلته عن أمري } ، يقتضي أنه نبي، وقد اختلف فيه، فقيل: هو نبي، وقيل: عبد صالح، وليس بنبي؛ وكذلك اختلف في موته وحياته، والله أعلم بجميع ذلك، ومما يقضي بموت الخضر قوله صلى الله عليه وسلم:
" أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن إلى رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ".
قال القرطبي في «تذكرته»: وذكر عن عمرو بن دينار: الخضر وإلياس عليهما السلام حيان، فإذا رفع القرآن ماتا قال القرطبي: وهذا هو الصحيح انتهى، وحكايات من رأى الخضر من الأولياء لا تحصى كثرة فلا نطيل بسردها، وانظر «لطائف المنن» لابن عطاء الله.
وقوله: { ذلك تأويل }: أي مآل، وحكى السهيلي أنه لما حان للخضر وموسى أن يفترقا، قال له الخضر: لو صبرت، لأتيت على ألف عجب، كلها أعجب مما رأيت، فبكى موسى، وقال للخضر: أوصني يرحمك الله، فقال: يا موسى، اجعل همك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن من الخوف في أمنك، ولا تيئس من الأمن في خوفك، وتدبر الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك، فقال له موسى: زدني يرحمك الله، فقال له الخضر: يا موسى، إياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير أحدا، وابك على خطيئتك يا بن عمران. انتهى.
[18.83-92]
وقوله سبحانه: { ويسألونك عن ذي القرنين } «ذو القرنين»، هو الملك الإسكندر اليوناني، واختلف في وجه تسميته ب «ذي القرنين» وأحسن ما قيل فيه: أنه كان ذا ظفيرتين، من شعرهما قرناه، والتمكين له في الأرض: أنه ملك الدنيا، ودانت له الملوك كلها، وروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة، مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان: سليمان بن داود عليهما السلام، والإسكندر، والكافران: نمرود، وبخت نصر.
وقوله سبحانه: { وآتينه من كل شيء سببا } معناه: علما في كل أمر، وأقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء، وقوله: { كل شيء } عموم معناه الخصوص في كل ما يمكنه أن يعلمه ويحتاج إليه، وقوله: { فأتبع سببا } ، أي: طريقا مسلوكة، وقرأ نافع وابن كثير: وحفص عن عاصم: «في عين حمئة»، أي: ذات حمأة، وقرأ الباقون: «في عين حامية»، أي: حارة، وذهب الطبري إلى الجمع بين الأمرين، فقال: يحتمل أن تكون العين حارة ذات حمأة؛ واستدل بعض الناس على أن ذا القرنين نبي بقوله تعالى: { قلنا يذا القرنين } ، ومن قال: إنه ليس بنبي، قال كانت هذه المقالة من الله له بإلهام.
قال * ع *: والقول بأنه نبي ضعيف، و { إما أن تعذب } معناه : بالقتل على الكفر، { وإما أن تتخذ فيهم حسنا } ، أي: إن آمنوا، وذهب الطبري إلى أن اتخاذه الحسن هو الأسر مع كفرهم، ويحتمل أن يكون الاتخاذ ضرب الجزية، ولكن تقسيم ذي القرنين بعد هذا الأمر إلى كفر وإيمان يرد هذا القول بعض الرد، و { ظلم }؛ في هذه الآية: بمعنى كفر، وقوله: { عذابا نكرا } ، أي: تنكره الأوهام، لعظمه، وتستهوله، و { الحسنى } يراد بها الجنة.
وقوله تعالى: { ثم أتبع سببا } المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطرق المؤدية إلى مقصده، وكان ذو القرنين، على ما وقع في كتب التاريخ يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، والحزم المستيقظ، والتأييد المتواصل، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة، ولامر بمدينة إلا ذلت ودخلت في طاعته، وكل من عارضه أو توقف عن أمره، جعله عظة وآية لغيره، وله في هذا المعنى أخبار كثيرة وغرائب، محل ذكرها كتب التاريخ.
وقوله: { وجدها تطلع على قوم } المراد ب«القوم» الزنج، قاله قتادة، وهم الهنود وما وراءهم، وقال الناس في قوله سبحانه: { لم نجعل لهم من دونها سترا } معناه: أنهم ليس لهم بنيان، إذ لا تحتمل أرضهم البناء وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب، وقيل: يدخلون في ماء البحر؛ قاله الحسن وغيره، وأكثر المفسرون في هذا المعنى، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم، ولو كان لهم أسراب تغني لكان سترا كثيفا.
وقوله: { كذلك } معناه: فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب، فأوجز بقوله: { كذلك }.
[18.93-95]
وقوله: { حتى إذا بلغ بين السدين... } الآية: «السدان»، فيما ذكر أهل التفسير: جبلان سدا مسالك تلك الناحية، وبين طرفي الجبلين فتح هو موضع الردم، وهذان الجبلان في طرف الأرض مما يلي المشرق، ويظهر من ألفاظ التواريخ؛ أنهما إلى ناحية الشمال.
وقوله تعالى: { ووجد عندها قوما }: قال السهيلي: هم أهل جابلص، ويقال لها بالسريانية «جرجيسا» يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح.
وقوله تعالى: { وجدها تطلع على قوم } هم: أهل جابلق، وهم من نسل مؤمني قوم عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لها بالسريانية: «مرقيسيا» ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، بين كل بابين فرسخ، ومر بهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، فدعاهم، فأجابوه، وآمنوا به، ودعا من ورائهم من الأمم، فلم يجيبوه في حديث طويل رواه الطبري عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. انتهى، والله أعلم بصحته.
و { يأجوج ومأجوج }: قبيلان من بني آدم، لكنهم ينقسمون أنواعا كثيرة، اختلف الناس في عددها، واختلف في إفسادهم الذي وصفوهم به، فقيل: أكل بني آدم، وقالت فرقة: إفسادهم: هو الظلم والغشم وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، وهذا أظهر الأقوال، وقولهم: { فهل نجعل لك خرجا }: استفهام على جهة حسن الأدب، «والخرج»: المجبى، وهو الخراج، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «خراجا»، وروي في أمر يأجوج ومأجوج أن أرزاقهم هي من التنين يمطرون به، ونحو هذا مما لم يصح، وروي أيضا أن الذكر منهم لا يموت حتى يولد له ألف والأنثى كذلك، وروي أنهم يتسافدون في الطرق كالبهائم، وأخبارهم تضيق بها الصحف، فاختصرت ذلك؛ لعدم صحته.
* ت *: والذي يصح من ذلك كثرة عددهم على الجملة، على ما هو معلوم من حديث: «أخرج بعث النار» وغيره من الأحاديث.
وقوله: { ما مكني فيه ربي خير } المعنى: قال لهم ذو القرنين: ما بسطه الله لي من القدرة والملك خير من خراجكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، وهذا من تأييد الله تعالى له، فإنه تهدى في هذه المحاورة إلى الأنفع الأنزه، فإن القوم لو جمعوا له الخراج الذي هو المال، لم يعنه منهم أحد، ولوكلوه إلى البنيان، ومعونتهم بالقوة أجمل به.
[18.96-99]
وقوله: { آتوني زبر الحديد... } الآية قرأ حمزة وغيره: «ائتوني» بمعنى «جيئوني»، وقرأ نافع وغيره: «آتوني» بمعنى «أعطوني»، وهذا كله إنما هو استدعاء المناولة، وإعمال القوة «والزبر» جمع زبرة، وهي القطعة العظيمة منه، والمعنى: فرصفه وبناه { حتى إذا ساوى بين الصدفين } ، وهما الجبلان، وقوله: { قال انفخوا... } الآية إلى آخر الآية، معناه: أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها حتى تحمى ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد؛ بحسب الخلاف في «القطر»، فيفرغه على تلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد، استأنف رصف طاقة أخرى إلى أن استوى العمل، وقال أكثر المفسرين: «القطر»: النحاس المذاب، ويؤيد هذا ما روي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، فقال: كيف رأيته؟ قال: رأيته كالبرد المحبر؛ طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم « قد رأيته» "
و { يظهروه } ومعناه: يعلونه بصعود فيه؛ ومنه قوله في «الموطإ»، «والشمس في حجرتها قبل أن تظهر»، { وما استطعوا له نقبا } لبعد عرضه وقوته، ولا سبيل سوى هذين: إما ارتقاء، وإما نقب، وروي أن في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسين فرسخا، وروي غير هذا مما لم نقف على صحته، فاختصرناه، إذ لا غاية للتخرص؛ وقوله في الآية { انفخوا } يريد بالأكيار.
وقوله: { هذا رحمة من ربي } الآية: القائل ذو القرنين، وأشار ب { هذا } إلى الردم والقوة عليه، والانتفاع به، والوعد يحتمل أن يريد به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به وقت خروج يأجوج ومأجوج، وقرأ نافع وغيره: «دكا» مصدر «دك يدك»، إذا هدم ورض، وناقة دكاء لا سنام لها، والضمير في { تركنا } لله عز وجل.
وقوله: { يومئذ } يحتمل أن يريد به يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به يوم كمال السد، والضمير في قوله: { بعضهم } على هذا ليأجوج ومأجوج، واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة، وتردد بعضهم في بعض، كالمولهين من هم وخوف ونحوه، فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض.
وقوله: { ونفخ في الصور... } إلى آخر الآية: يعني به يوم القيامة بلا احتمال لغيره، و { الصور } في قول الجمهور وظاهر الأحاديث الصحاح: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل للقيامة.
[18.100-106]
وقوله سبحانه: { وعرضنا جهنم يومئذ للكفرين عرضا } معناه أبرزناها لهم؛ لتجمعهم وتحطمهم، ثم أكد بالمصدر عبارة عن شدة الحال.
وقوله: { أعينهم } كناية عن البصائر ، والمعنى: الذين كانت فكرهم بينها، وبين ذكري والنظر في شرعي حجاب، وعليها غطاء { وكانوا لا يستطيعون سمعا } يريد لإعراضهم ونفارهم عن دعوة الحق، وقرأ الجمهور، «أفحسب الذين كفروا» - بكسر السين - بمعنى «أظنوا» وقرأ علي بن أبي طالب وغيره وابن كثير، بخلاف عنه: «أفحسب» بسكون السين وضم الباء، بمعنى «أكافيهم ومنتهى غرضهم»، وفي مصحف ابن مسعود: «أفظن الذين كفروا» وهذه حجة لقراءة الجمهور.
وقوله: { أن يتخذوا عبادي } قال جمهور المفسرين: يريد كل من عبد من دون الله؛ كالملائكة وعزير وعيسى، والمعنى: أن الأمر ليس كما ظنوا، بل ليس لهم من ولاية هؤلاء المذكورين شيء، ولا يجدون عندهم منتفعا و { أعتدنا } معناه: يسرنا، و«النزل» موضع النزول، و«النزل» أيضا: ما يقدم للضيف أو القادم من الطعام عند نزوله، ويحتمل أن يريد بالآية هذا المعنى: أن المعد لهؤلاء بدل النزل جهنم، والآية تحتمل الوجهين، ثم قال تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعملا } الآية: المعنى قل لهؤلاء الكفرة؛ على جهة التوبيخ: هل نخبركم بالذين خسر عملهم، وضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم مع ذلك يظنون أنهم يحسنون فيما يصنعوه، فإذا طلبوا ذلك، فقل لهم: { أولئك الذين كفروا بآيت ربهم ولقائه } ، وعن سعد بن أبي وقاص في معنى قوله تعالى: { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } قال: هم عباد اليهود والنصارى، وأهل الصوامع والديارات وعن علي: هم الخوارج؛ ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك: { أولئك الذين كفروا بآيت ربهم ولقائه } ، وليس هذه الطوائف ممن يكفر بالله ولقائه، وإنما هذه صفة مشركي عبدة الأوثان، وعلي وسعد رضي الله عنهما، ذكرا قوما أخذوا بحظهم من صدر الآية.
وقوله سبحانه: { فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا } يريد أنهم لا حسنة لهم توزن؛ لأن أعمالهم قد حبطت، أي: بطلت، ويحتمل المجاز والاستعارة، كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ، وهذا معنى الآية عندي، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يؤتى بالأكول الشروب الطويل فلا يزن جناح بعوضة ثم قرأ: { فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا } ".
وقوله ذلك اشارة الى ترك إقامة الوزن.
[18.107-108]
وقوله سبحانه: { إن الذين آمنوا وعملوا الصلحات كانت لهم جنت الفردوس }: اختلف المفسرون في «الفردوس» فقال قتادة: إنه أعلى الجنة وربوتها، وقال أبو هريرة: إنه جبل تتفجر منه أنهار الجنة، وقال أبو أمامة: إنه سرة الجنة ووسطها، وروى أبو سعيد الخدري، أنه تتفجر منه أنهار الجنة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
" إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ".
* ت *: ففي «البخاري» من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة "
انتهى.
وقوله تعالى: { لا يبغون عنها حولا } «الحول» بمعنى المتحول.
قال مجاهد: متحولا.
[18.109]
وأما قوله سبحانه: { قل لو كان البحر مدادا لكلمت ربي... } الآية: فروي أن سبب الآية أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها وأنك أعطيت ما يحتاجه الناس من العلم، وأنت مقصر، قد سئلت عن الروح، فلم تجب فيه؟، ونحو هذا من القول؛ فأنزل الله الآية معلمة باتساع معلومات الله عز وجل، وأنها غير متناهية، وأن الوقوف دونها ليس ببدع، فالمعنى: لو كان البحر مدادا تكتب به معلوماته تعالى، لنفد قبل أن يستوفيها، «وكلمات ربي» هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، ومعلومات الله عز وجل لا تتناهى والبحر متناه ضرورة، وذكر الغزالي في آخر «المنهاج» أن المفسرين يقولون في قوله تعالى: { لنفد البحر قبل أن تنفد كلمت ربي } ، أن هذه هي الكلمات التي يقول الله عز وجل لأهل الجنة في الجنة باللطف والإكرام، مما لا تكيفه الأوهام، ولا يحيط به علم مخلوق، وحق أن يكون ذلك كذلك، وهو عطاء العزيز العليم؛ على مقتضى الفضل العظيم، والجود الكريم، ألا لمثل هذا فليعمل العاملون. انتهى.
وقوله: { مددا } ، أي زيادة. * ت *: وكذا فسره الهروي ولفظه: وقوله تعالى : { ولو جئنا بمثله مددا } ، أي زيادة انتهى.
[18.110]
وقوله تعالى: { قل إنما أنا بشر مثلكم } أي: أنا بشر ينتهي علمي إلى حيث يوحى إلي، ومما يوحى إلي { أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صلحا } وباقي الآية بين في الشرك بالله تعالى، وقال ابن جبير في تفسيرها لا يرائي في عمله، وقد ورد حديث أنها نزلت في الرياء.
* ت *: وروى ابن المبارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، أنه كان يصف أمر الرياء، فيقول: ما كان من نفسك فرضيته نفسك لها، فإنه من نفسك فعاتبها، وما كان من نفسك، فكرهته نفسك لها، فإنه من الشيطان؛ فتعوذ بالله منه، وكان أبو حازم يقول ذلك، وأسند ابن المبارك عن عبد الرحمن بن أبي أمية، قال: كل ما كرهه العبد فليس منه انتهى، وخرج الترمذي عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري، وكان من الصحابة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمله لله أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب انتهى، وقد خرج مسلم معناه. * ت *: ومما جربته، وصح من خواص هذه السورة، أن من أراد أن يستيقظ أي وقت شاء من الليل، فليقرأ عند نومه قوله سبحانه: { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء... } إلى آخر السورة، فإنه يستيقظ بإذن الله في الوقت الذي نواه، ولتكن قراءته عند آخر ما يغلب عليه النعاس؛ بحيث لا يتجدد له عقب القراءة خواطر، هذا مما لا شك فيه، وهو من عجائب القرآن المقطوع بها، والله الموفق بفضله.
تنبيه: روينا في «صحيح مسلم»، عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه "
وذلك كل ليلة، فإن أردت أن تعرف هذه الساعة، فاقرأ عند نومك من قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصلحات كانت لهم جنت الفردوس } إلى آخر السورة، فإنك تستيقظ في تلك الساعة - إن شاء الله تعالى - بفضله، ويتكرر تيقظك، ومهما استيقظت، فادع لي ولك، وهذا مما ألهمنيه الله سبحانه، فاستفده، وما كتبته إلا بعد استخارة، وإياك أن تدعو هنا على مسلم، ولو كان ظالما، فإن خالفتني، فالله حسيبك وبين يديه أكون خصيمك، وأنا أرغب إليك أن تشركني في دعائك، إذ أفدتك هذه الفائدة العظيمة وكنت شيخك فيها، وللقرآن العظيم أسرار يطلع الله عليها من يشاء من أوليائه، جعلنا الله منهم بفضله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
[19 - سورة مريم]
[19.1-11]
قوله عز وجل: { كهيعص } قد تقدم الكلام في فواتح السور.
وقوله: { ذكر رحمت ربك } مرتفع بقوله: { كهيعص } في قول فرقة.
وقيل: إنه ارتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا ذكر، وحكى أبو عمرو الداني عن ابن يعمر أنه قرأ: «ذكر رحمة ربك»: بفتح الذال، وكسر الكاف المشددة، ونصب الرحمة.
وقوله { نادى }: معناه بالدعاء والرغبة؛ قاله ابن العربي في «أحكامه».
وقوله تعالى: { إذ نادى ربه نداء خفيا }: يناسب قوله:
ادعوا ربكم تضرعا وخفية
[الأعراف:55].
وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي "
وذلك؛ لأنه أبعد من الرياء، فأما دعاء زكرياء عليه السلام فإنما كان خفيا لوجهين:
أحدهما: أنه كان ليلا.
والثاني: أنه ذكر في دعائه أحوالا تفتقر إلى الإخفاء؛ كقوله: { وإني خفت المولي من ورآئي }. وهذا مما يكتم. انتهى.
و { وهن العظم } معناه ضعف، { واشتعل } مستعار للشيب من اشتعال النار.
وقوله: { ولم أكن بدعآئك رب شقيا } شكر لله عز وجل على سالف أياديه عنده، معناه: قد أحسنت إلي فيما سلف، وسعدت بدعائي إياك؛ فالإنعام يقتضي أن يشفع أوله آخره.
* ت *: وكذا فسر الداوودي، ولفظه: «ولم أكن بدعائك رب شقيا»، يقول: كنت تعرفني الإجابة فيما مضى، وقاله قتادة : انتهى.
وقوله: { وإني خفت المولي... } الآية، قيل: معناه خاف أن يرث الموالي ماله، والموالي: بنو العم، والقرابة.
وقوله { من ورآئي } أي: من بعدي.
وقالت فرقة: إنما كان مواليه مهملين للدين؛ فخاف بموته أن يضيع الدين؛ فطلب وليا يقوم بالدين بعده؛ حكى هذا القول: الزجاج، وفيه: أنه لا يجوز أن يسأل زكرياء من يرث ماله؛ إذا الأنبياء لا تورث.
قال * ع *: وهذا يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:
" إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا، فهو صدقة "
والأظهر الأليق بزكرياء عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوارثة مستعارة، وقد بلغه الله أمله.
قال ابن هشام: و { من ورآئي } متعلق ب { المولي } ، أو بمحذوف هو حال من الموالي، أو مضاف إليهم، أي: كائنين من ورائي، أو فعل الموالي من ورائي، ولا يصح تعلقه ب «خفت»؛ لفساد المعنى. انتهى. من «المغني».
و { خفت المولي } ، هي قراءة الجمهور، وعليها هو هذا التفسير.
وقرأ عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وجماعة «خفت» بفتح الخاء، وفتح الفاء، وشدها، وكسر التاء، والمعنى على هذا: قد انقطع أوليائي، وماتوا، وعلى هذه القراءة، فإنما طلب وليا يقوم بالدين.
قال ابن العربي في «أحكامه»: ولم يخف زكرياء وارث المال، وإنما أراد إرث النبوءة، وعليها خاف أن تخرج عن عقبه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة "
انتهى.
وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وغيرهما رضي الله عنهم «يرثني وارث من آل يعقوب».
* ت *: وقوله: { فهب لي } قال ابن مالك في «شرح الكافية» اللام هنا: هي لام التعدية؛ وقاله ولده في «شرح الخلاصة».
قال ابن هشام: والأولى عندي أن يمثل للتعدية بنحو: ما أكرم زيدا لعمرو، وما أحبه لبكر، انتهى.
وقوله: { من ءال يعقوب } يريد يرث منهم الحكمة، وكذلك العاقر من الرجال.
وقوله: { لم نجعل له من قبل سميا } معناه في اللغة: لم نجعل له مشاركا في هذا الاسم، أي: لم يسم به قبل يحيى، وهذا قول ابن عباس وغيره.
وقال مجاهد: وغيره: { سميا } معناه: مثيلا، ونظيرا، وفي هذا بعد: لأنه لا يفضل على إبراهيم وموسى عليهما السلام إلا أن يفضل في خاص؛ كالسودد، والحصر.
والعتي، والعسي: المبالغة في الكبر، أو يبس العود، أو شيب الرأس، أو عقيدة ما، وزكرياء: هو من ذرية هارون - عليهما السلام - ومعنى قوله: { سويا } فيما قال الجمهور، صحيحا من غير علة، ولا خرس.
وقال ابن عباس: ذلك عائد على الليالي، أراد: كاملات مستويات.
وقوله: { فأوحى إليهم } قال قتادة، وغيره: كان ذلك بإشارة.
وقال مجاهد: بل بكتابة في التراب.
قال * ع *: وكلا الوجهين وحي.
وقوله: { أن سبحوا } قال قتادة: معناه صلوا السبحة، والسبحة: الصلاة، وقالت فرقة: بل أمرهم بذكر الله، وقول: سبحان الله.
[19.12-16]
قوله: عز وجل: { ييحيى خذ الكتب بقوة } المعنى: قال الله له: يا يحيى خذ الكتاب، وهو التوراة، وقوله: { بقوة } أي: العلم به، والحفظ له، والعمل به، والالتزام للوازمه.
وقوله: { صبيا } يريد: شابا لم يبلغ حد الكهولة، ففي لفظ صبي على هذا، تجوز، واستصحاب حال.
وروى معمر أن الصبيان دعوا يحيى إلى اللعب، وهو طفل، فقال: إني لم أخلق للعب، فتلك الحكمة التي آتاه الله عز وجل وهو صبي، وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم، فهو ممن أوتي الحكمة صبيا. «والحنان»: الرحمة، والشفقة، والمحبة؛ قاله جمهور المفسرين، وهو تفسير اللغة؛ ومن الشواهد في «الحنان» قول النابغة: [الطويل]
أبا منذر، أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقال عطاء بن أبي رباح: «حنانا من لدنا» بمعنى تعظيما من لدنا.
قال * ع *: وهو أيضا ما عظم من الأمر لأجل الله عز وجل ومنه قول زيد بن عمر بن نفيل في خبر بلال: والله، لئن قتلتم هذا العبد لاتخذن قبره حنانا.
قال * ص *: قال أبو عبيدة: وأكثر ما يستعمل مثنى. انتهى، والزكاة التنمية، والتطهير في وجوه الخير.
قال مجاهد: كان طعام يحيى العشب، وكان للدمع في خده مجار ثابتة. { ولم يكن جبارا عصيا } روي أن يحيى عليه السلام لم يواقع معصية قط صغيرة، ولا كبيرة والبر كثير البر، والجبار: المتكبر، كأنه يجبر الناس على أخلاقه.
وقوله: { وسلم عليه } قال الطبري، وغيره: معناه وأمان عليه.
قال * ع *: والأظهر عندي: أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف، وأنبه من الأمان؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه، وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف، والحاجة، وقلة الحيلة.
{ واذكر في الكتب مريم } ، الكتاب: هو القرآن والانتباذ: التنحي.
قال السدي: انتبذت؛ لتطهر من حيض، وقال غيره: لتعبد الله عز وجل.
قال * ع *: وهذا أحسن.
وقوله: { شرقيا } يريد: في جهة الشرق من مساكن أهلها، وكانوا يعظمون جهة المشرق؛ قاله الطبري.
وقال بعض المفسرين: اتخذت المكان بشرقي المحراب.
[19.17-19]
وقوله سبحانه: { فاتخذت من دونهم حجابا } ، أي: لتستتر به عن الناس؛ لعبادتها. «والروح»: جبريل عليه السلام.
وقوله تعالى: { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } ، المعنى: قالت مريم للملك الذي تمثل لها بشرا، لما رأته قد خرق الحجاب الذي اتخذته؛ فأساءت به الظن: أعود بالرحمن منك إن كنت ذا تقى، فقال لها جبريل عليه السلام: { إنمآ أنا رسول ربك لأهب لك غلما زكيا }.
وقرأ أبو عمرو، ونافع بخلاف عنه «ليهب».
[19.20-23]
{ قالت أنى يكون لي غلم ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا } ، والبغي: الزانية، وروي: أن جبريل عليه السلام حين قاولها هذه المقاولة، نفخ في جيب درعها؛ فسرت النفخة بإذن الله تعالى حتى حملت منها؛ قاله وهب بن منبه، وغيره.
وقال أبي بن كعب: دخل الروح المنفوخ من فمها؛ فذلك قوله تعالى: { فحملته } أي: فحملت الغلام، ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلما أحست بذلك، وخافت تعنيف الناس، وأن يظن بها الشر { انتبذت } أي: تنحت مكانا بعيدا؛ حياء وفرارا على وجهها، و { أجآءها } معناه: اضطرها، وهو تعدية [جاء] بالهمزة.
و { المخاض }: الطلق، وشدة الولادة، وأوجاعها، وروي: أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة بال يابس، في أصله مذود بقرة، على جرية ماء، فاشتد بها الأمر هنالك، واحتضنت الجذع؛ لشدة الوجع، وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها؛ لما رأته من صعوبة الحال من غير ما وجه: { يليتني مت قبل هذا } فتمنت الموت من جهة الدين؛ أن يظن بها الشر، وخوف أن تفتتن بتعيير قومها، وهذا مباح؛ وعلى هذا الحد تمناه عمر - رضي الله عنه -.
{ وكنت نسيا } أي: شيئا متروكا محتقرا، والنسي في كلام العرب؛ الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى، فلا يتألم لفقده؛ كالوتد، والحبل للمسافر، ونحوه.
وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملا على عرف البشر، واستحيت من ذلك؛ ومرت بسببه، وهي حامل، وهو قول جمهور المتأولين.
وروى عن ابن عباس أنه قال: ليس إلا أن حملت، فوضعت في ساعة واحدة؛ والله أعلم.
وظاهر قوله: { فأجاءها المخاض } أنها كانت على عرف النساء.
[19.24-28]
وقوله سبحانه: { فناداها من تحتهآ } قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: «فناداها من تحتها» على أن «من» فاعل بنادى، والمراد ب «من» عيسى؛ قاله مجاهد، والحسن، وابن جبير، وأبي بن كعب. وقال ابن عباس: المراد ب «من» جبريل, ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها.
والقول الأول أظهر وأبين، وبه يتبين عذر مريم، ولا تبقى بها استرابة.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: «من تحتها» بكسر الميم، واختلفوا أيضا فقالت فرقة: المراد عيسى، وقالت فرقة: المراد جبريل المحاور لها قبل.
قالوا: وكان في بقعة أخفض من البقعة التي كانت هي عليها؛ والأول أظهر.
وقرأ ابن عباس: «فناداها ملك من تحتها».
والسري: من الرجال العظيم السيد، والسري: أيضا الجدول من الماء؛ وبحسب هذا اختلف الناس في هذه الآية.
فقال قتادة، وابن زيد: أراد جعل تحتك عظيما من الرجال، له شأن.
وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول، ثم أمرها بهز الجذع اليابس؛ لترى آية أخرى.
وقالت فرقة: بل كانت النخلة مطعمة رطبا، وقال السدي: كان الجذع مقطوعا، وأجري تحتها النهر لحينه.
قال * ع *: والظاهر من الآية: أن عيسى هو المكلم لها، وأن الجذع كان يابسا؛ فهي آيات تسليها، وتسكن إليها .
قال * ص *: قوله: { وهزي إليك } تقرر في علم النحو أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير متصل، وقد رفع المتصل، وهما لمدلول واحد، وإذا تقرر هذا؛ ف «إليك» لا يتعلق ب «هزي»، ولكن يمكن أن يكون «إليك» حالا من جذع النخلة؛ فيتعلق بمحذوف؛ أي: هزي بجذع النخلة منتهيا إليك. انتهى.
والباء في قوله: { بجذع }: زائدة موكدة، و { جنيا }: معناه: قد طابت وصلحت للاجتناء، وهو من جنيت الثمرة.
وقال عمرو بن ميمون: ليس شيء للنفساء خيرا من التمر، والرطب.
وقرة العين مأخوذة من القر؛ وذلك، أنه يحكى: أن دمع الفرح بارد المس، ودمع الحزن سخن المس، وقيل: غير هذا.
قال * ص *: { وقري عينا } أي: طيبي نفسا. أبو البقاء: «عينا»: تمييز. اه.
وقوله سبحانه: { فإما ترين من البشر أحدا... } الآية، المعنى: أن الله عز وجل أمرها على لسان جبريل عليه السلام أو ابنها؛ على الخلاف المتقدم: بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك؛ ليرتفع عنها خجلها، وتبين الآية؛ فيقوم عذرها.
وظاهر الآية: أنها أبيح لها أن تقول مضمن هذه الألفاظ التي في الآية؛ وهو قول الجمهور.
وقالت فرقة: معنى { قولي } بالإشارة، لا بالكلام.
قال * ص *: وقوله: { فقولي } جواب الشرط، وبينهما جملة محذوفة يدل عليها المعنى؛ أي فإما ترين من البشر أحدا، وسألك أو حاورك الكلام، فقولي.
انتهى.
و { صوما } معناه عن الكلام؛ إذ أصل الصوم الإمساك.
وقرأت فرقة: «إني نذرت للرحمن صمتا» ولا يجوز في شرعنا نذر الصمت؛ فروي: أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله مدلة من المكان القصي الذي كانت منتبذة به، والفري: العظيم الشنيع؛ قاله مجاهد، والسدي، وأكثر استعماله في السوء.
واختلف في معنى قوله تعالى: { يأخت هرون } ، فقيل: كان لها أخ اسمه هارون؛ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل.
وروى المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى أهل نجران في أمر من الأمور، فقالت له النصارى: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون، وبينهما في المدة ست مائة سنة.
قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين.
قال * ع *: فالمعنى أنه اسم وافق اسما.
وقيل: نسبوها إلى هارون أخي موسى؛ لأنها من نسله؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن أخا صداء أذن، ومن أذن، فهو يقيم ".
وقال قتادة: نسبوها إلى هارون اسم رجل صالح في ذلك الزمان.
وقالت فرقة: بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون نسبوها إليه؛ على جهة التعيير.
* ت *: والله أعلم بصحة هذا، وما رواه المغيرة إن ثبت هو المعول عليه، وقولهم: { ما كان أبوك امرأ سوء } المعنى: ما كان أبوك، ولا أمك أهلا لهذه الفعلة، فكيف جئت أنت بها؟ والبغي: التي تبغي الزنا، أي: تطلبه.
[19.29-33]
وقوله تعالى: { فأشارت إليه } يقوى قول من قال: إن أمرها ب { قولي } ، إنما أريد به الإشارة.
وقوله: { ءاتني الكتب } يعني الإنجيل، ويحتمل أن يريد التوراة والإنجيل، و«آتاني» معناه: قضى بذلك سبحانه وأنفذه في سابق حكمه، وهذا نحو قوله تعالى:
أتى أمر الله
[النحل:1].
{ وأوصني بالصلوة والزكوة } قيل: هما المشروعتان في البدن، والمال.
وقيل: الصلاة: الدعاء، والزكاة: التطهر من كل عيب، ونقص، ومعصية. والجبار؛ المتعظم؛ وهي خلق مقرونة بالشقاء؛ لأنها مناقضة لجميع الناس، فلا يلقى صاحبها من كل أحد إلا مكروها، وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع؛ يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على الأرض، ويأوي حيث جنة الليل. لا مسكن له.
قال قتادة: وكان يقول: سلوني؛ فإني لين القلب، صغير في نفسي.
وقالت فرقة: إن عيسى عليه السلام كان أوتي الكتاب وهو في سن الطفولية، وكان يصوم، ويصلي.
قال * ع *: وهذا في غاية الضعف.
* ت *: وضعفه من جهة سنده؛ وإلا فالعقل لا يحيله؛ لا سيما وأمره كله خرق عادة، وفي قصص هذه الآية؛ عن ابن زيد، وغيره: أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا الأمر عظيم.
[19.34-36]
وقوله تعالى: { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } المعنى: قل يا محمد، لمعاصريك من اليهود والنصارى ذلك الذي هذه قصته؛ عيسى ابن مريم.
وقرأ نافع، وعامة الناس: «قول الحق» برفع القول؛ على معنى هذا هو قول الحق.
وقرأ عاصم، وابن عامر: «قول الحق» بنصب اللام؛ على المصدر.
وقوله: { إن الله ربي وربكم... } الآية، هذا من تمام القول الذي أمر به محمد صلى الله عليه وسلم: أن يقوله، ويحتمل أن يكون من قول عيسى عليه السلام ويكون قوله: «أن» بفتح الهمزة، عطفا على قوله: «الكتاب».
وقد قال وهب بن منبه: عهد عيسى إليهم: أن الله ربي وربكم.
* ت *: وما ذكره وهب مصرح به في القرآن، ففي آخر المائدة:
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم...
الآية. [المائدة:117]. وامتراؤهم في عيسى هو اختلافهم؛ فيقول بعضهم: لزنية، وهم اليهود، ويقول بعضهم: هو الله؛ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، فهذا هو امتراؤهم، وسيأتي شرح ذلك بإثر هذا.
[19.37-39]
وقوله: { فاختلف الأحزاب من بينهم } هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن بني إسرائيل اختلفوا أحزابا، أي: فرقا.
وقوله: { من بينهم } بمعنى: من تلقائهم، ومن أنفسهم ثار شرهم، وإن الاختلاف لم يخرج عنهم؛ بل كانوا هم المختلفين.
وروي في هذا عن قتادة: أن بني إسرائيل جمعوا من أنفسهم أربعة أحبار غاية في المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم أن يبينوا لهم أمر عيسى فقال أحدهم: عيسى هو الله؛ تعالى الله عن قولهم.
وقال له الثلاثة: كذبت، واتبعه اليعقوبية، ثم قيل للثلاثة؛ فقال أحدهم: عيسى ابن الله، [تعالى الله عن قولهم] فقال له الاثنان: كذبت، واتبعه النسطورية، ثم قيل للاثنين؛ فقال أحدهما: عيسى أحد ثلاثة: الله إله، ومريم إله، وعيسى إله؛ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا فقال له الرباع: كذبت، واتبعته الإسرائيلية, فقيل للرابع؛ فقال: عيسى عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، فاتبع كل واحد فريق من بني إسرائيل، ثم اقتتلوا فغلب المؤمنون، وقتلوا، وظهرت اليعقوبية على الجميع.
و «الويل»: الحزن، والثبور، وقيل: «الويل»: واد في جهنم، و { مشهد يوم عظيم }: هو يوم القيامة.
وقوله سبحانه: { أسمع بهم وأبصر } أي: ما أسمعهم، وأبصرهم يوم يرجعون إلينا، ويرون ما نصنع بهم، { لكن الظلمون اليوم } أي: في الدنيا في { ضلل مبين } أي بين، { وأنذرهم يوم الحسرة } وهو يوم ذبح الموت؛ قاله الجمهور.
وفي هذا حديث صحيح خرجه البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الموت يجاء به في صورة كبش أملح، فيذبح على الصراط بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنة، خلود لا موت، ويا أهل النار، خلود لا موت، ثم قرأ: { وأنذرهم يوم الحسرة... } [الآية].
قال * ع *: وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها.
وقال ابن زيد، وغيره: يوم الحسرة: هو يوم القيامة.
قال * ع *: ويحتمل أن يكون يوم الحسرة اسم جنس شامل لحسرات كثيرة؛ بحسب مواطن الآخرة: منها يوم موت الإنسان، وأخذ الكتاب بالشمال، وغير ذلك، { وهم في غفلة } يريد: في الدنيا.
[19.40-46]
قوله سبحانه: { إنا نحن نرث الأرض... } الآية، عبارة عن بقائه - جل وعلا - بعد فناء مخلوقاته، لا إله غيره.
وقوله: - عز وجل -: { واذكر في الكتب إبرهيم إنه كان صديقا نبيا.... } الآية، قوله: { واذكر } بمعنى اتل وشهر؛ لأن الله تعالى هو الذاكر؛ و { الكتب }: هو القرآن، والصديق: بناء مبالغة فكان إبراهيم عليه السلام [يوصف] بالصدق في أفعاله وأقواله.
وقوله: { يأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن... } الآية، قال الطبري: «أخاف» بمعنى أعلم.
قال * ع *: والظاهر عندي أنه خوف على بابه؛ وذلك أن إبراهيم عليه السلام في وقت هذه المقالة لم يكن آيسا من إيمان أبيه.
* ت *: ونحو هذا عبارة المهدوي، قال: قيل: «أخاف» معناه: أعلم، أي: إني أعلم إن مت على ما أنت عليه.
ويجوز أن يكون «أخاف» على بابه، ويكون المعنى: إني أخاف أن تموت على كفرك؛ فيمسك العذاب. انتهى.
وقوله: { لأرجمنك } قال الضحاك، وغيره: معناه بالقول، أي: لأشتمنك.
وقال الحسن: معناه: لأرجمنك بالحجارة.
وقالت فرقة : معناه لأقتلنك، وهذان القولان بمعنى واحد.
وقوله: { واهجرني } على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله؛ كأنه قال: إن لم تنته قتلتك بالرجم، ثم قال له: واهجرني، أي: مع انتهائك، و { مليا } معناه: دهرا طويلا مأخوذ من الملوين؛ وهما الليل والنهار؛ هذا قول الجمهور.
[19.47-50]
وقوله: { قال سلم عليك } اختلف في معنى تسليمه على أبيه، فقال بعضهم: هي تحية مفارق, وجوزوا تحية الكافر وأن يبدأ بها.
وقال الجمهور: ذلك السلام بمعنى المسالمة، لا بمعنى التحية.
وقال الطبري: معناه أمنة مني لك؛ وهذا قول الجمهور؛ وهم لا يرون ابتداء الكافر بالسلام.
وقال النقاش: حليم خاطب سفيها؛ كما قال تعالى:
وإذا خاطبهم الجهلون قالوا سلما
[الفرقان:63].
قوله: { سأستغفر لك ربي } معناه: سأدعو الله تعالى في أن يهديك, فيغفر لك بإيمانك، ولما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
والحفي: المهتبل المتلطف، وهذا شكر من إبراهيم لنعم الله تعالى عليه، ثم أخبر إبراهيم عليه السلام بأنه يعتزلهم، أي: يصيرعنهم بمعزل, ويروى: أنهم كانوا بأرض كوثى، فرحل عليه السلام حتى نزل الشام، وفي سفرته تلك لقي الجبار الذي أخدم هاجر... الحديث الصحيح بطوله، و { تدعون } معناه: تعبدون.
وقوله: { عسى }: ترج في ضمنه خوف شديد.
وقوله سبحانه: { فلما اعتزلهم... } إلى آخر الآية: إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لما رحل إبراهيم عن بلد أبيه وقومه، عوضه الله تعالى من ذلك ابنه إسحاق، وابن ابنه يعقوب - على جميعهم السلام - وجعل الولد له تسلية، وشدا لعضده.
وإسحاق أصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل، غارت سارة؛ فحملت بإسحاق، هكذا فيما روي.
وقوله تعالى: { ووهبنا لهم من رحمتنا } يريد: العلم، والمنزلة، والشرف في الدنيا، والنعيم في الآخرة؛ كل ذلك من رحمة الله عز وجل، ولسان الصدق: هو الثناء الباقي عليهم آخر الأبد؛ قاله ابن عباس وإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم وذريته معظمة في جميع الأمم والملل.
قال * ص *: و { كلا جعلنا نبيا } أبو البقاء: هو منصوب ب { جعلنا } انتهى.
[19.51-53]
وقوله عز وجل: { واذكر في الكتاب موسى } ، أي: على جهة التشريف له، { وندينه } هو تكليم الله له، والأيمن: صفة لجانب، وكان على يمين موسى، وإلا فالجبل نفسه لا يمنة له ولا يسرة، ويحتمل أن يكون الأمن مأخوذا من الأيمن { وقربنه } ، أي: تقريب تشريف، والنجي: من المناجاة.
[19.54-58]
وقوله تعالى: { واذكر في الكتب إسمعيل } هو أيضا من لسان الصدق المضمون بقاؤه على إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام: هو أبو العرب اليوم؛ وذلك أن اليمنية والمضرية ترجع إلى ولد إسماعيل، وهو الذبيح في قول الجمهور.
وهو الراجح؛ من وجوه: منها قوله تعالى:
ومن وراء إسحق يعقوب
[هود:71].
فولد بشر أبواه بأن سيكون منه ولد كيف يؤمر بذبحه؟!.
ومنها أن أمر الذبح كان بمنى بلا خلاف، وما روي قط أن إسحاق دخل تلك البلاد، وإسماعيل بها نشأ، وكان أبوه يزوره مرارا كثيرة يأتي من الشام، ويرجع من يومه على البراق؛ وهو مركب الأنبياء.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:
" أنا ابن الذبيحين "
وهو أبوه عبد الله، والذبيح الثاني هو إسماعيل.
ومنها [ترتيب] آيات سورة «والصافات» يكاد ينص على أن الذبيح غير إسحاق، ووصفه الله تعالى بصدق الوعد؛ لأنه كان مبالغا في ذلك؛ وروي أنه وعد رجلا أن يلقاه في موضع، فبقي في انتظاره يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء الرجل، فقال له إسماعيل: ما زلت هنا في انتظارك منذ أمس، وقد فعل مثله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، خرجه الترمذي وغيره.
قال سفيان بن عيينة: أسوأ الكذب إخلاف الميعاد، ورمي الأبرياء بالتهم.
و { أهله } المراد بهم قومه، وأمته؛ قاله الحسن.
وفي مصحف ابن مسعود: «وكان يأمر قومه».
وإدريس عليه السلام من أجداد نوح عليه السلام.
و { ورفعناه مكانا عليا } قالت فرقة من العلماء: رفع إلى السماء.
قال ابن عباس: كان ذلك بأمر الله تعالى.
وقوله: { وبكيا } قالت فرقة: جمع باك، وقالت فرقة: هو مصدر بمعنى البكاء؛ التقدير: وبكوا بكيا.
واحتج الطبري، ومكي لهذا القول؛ بأن عمر رضي الله عنه قرأ سورة مريم ، فسجد ثم قال: هذا السجود، فأين البكى؟ يعني: البكاء.
قال * ع *: ويحتمل أن يريد عمر رضي الله عنه فأين الباكون؟ وهذا الذي ذكروه عن عمر، ذكره أبو حاتم، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[19.59-63]
وقوله تعالى: { فخلف من بعدهم خلف... } الآية، الخلف، [بسكون] اللام مستعمل إذا كان الآتي مذموما؛ هذا مشهور كلام العرب، والمراد بالخلف: من كفر وعصى بعد من بني إسرائيل، ثم يتناول معنى الآية من سواهم إلى يوم القيامة، وإضاعة الصلاة يكون بتركها وبجحدها، وبإضاعة أوقاتها.
وروى أبو داود الطيالسي «في مسنده» بسنده عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أحسن الرجل الصلاة، فأتم ركوعها، وسجودها، قالت الصلاة: حفظك الله؛ كما حفظتني، وترفع، وإذا أساء الصلاة؛ فلم يتم ركوعها، ولا سجودها، قالت الصلاة: ضيعك الله؛ كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجهه "
انتهى من «التذكرة» والشهوات: عموم، والغي: الخسران؛ قاله ابن زيد.
وقد يكون الغي بمعنى الضلال، والتقدير: يلقون جزاء الغي.
وقال عبد الله بن عمرو، وابن مسعود: الغي: واد في جهنم، وبه وقع التوعد في هذه الآية.
وقال * ص *: الغي عندهم كل شر؛ كما أن الرشاد كل خير. [انتهى].
و { جنت عدن }: بدل من الجنة في قوله { يدخلون الجنة }.
وقوله { بالغيب } ، أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم، وفي هذا مدح لهم على سرعة إيمانهم وبدارهم إذ لم يعاينوا، و { مأتيا } مفعول على بابه.
وقال جماعة من المفسرين: هو مفعول في اللفظ؛ بمعنى فاعل؛ ف { مأتيا } بمعنى آت، وهذا بعيد.
* ت *: بل هو الظاهر، وعليه اعتمد * ص *.
واللغو: السقط من القول.
وقوله { بكرة وعشيا } يريد في التقدير.
[19.64-65]
وقوله عز وجل: { وما نتنزل إلا بأمر ربك... } الآية، قال ابن عباس، وغيره: سبب هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عنه جبريل عليه السلام مدة فلما جاءه قال:
" يا جبريل، قد اشتقت إليك، أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا "
فنزلت هذه الآية.
وقال الضحاك، ومجاهد: سببها أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف: «غدا أخبركم».
وقال الداوودي عن مجاهد: أبطأت الرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى جبريل عليه السلام قال: ما حبسك؟ قال: وكيف نأتيكم. وأنتم لا تقصون أظفاركم. ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون، وما نتنزل إلا بأمر ربك. انتهى.
وقد جاءت في فضل السواك آثار كثيرة، فمنها: ما رواه البزار في «مسنده» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي، قام الملك خلفه، فيسمع لقراءته، فيدنو منه حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك "
انتهى من «الكوكب الدري».
وفيه: عن ابن أبي شيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" صلاة على إثر سواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك "
انتهى.
وفي «البخاري»: أن السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب. اه.
وقوله سبحانه: { له ما بين أيدينا... } الآية، المقصود بهذه الآية الإشعار بملك الله تعالى لملائكته، وأن قليل تصرفهم، وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما [هو] بحد منه.
وقوله: { وما كان ربك نسيا } أي: ممن يلحقه نسيان لبعثنا إليك، ف { نسيا }. فعيل من النسيان، وهو الذهول عن الأمور.
وقرأ ابن مسعود: «وما نسيك ربك».
وقوله { سميا } قال قوم: معناه موافقا في الاسم.
قال * ع *: وهذا يحسن فيه أن يريد بالاسم ما تقدم من قوله { رب السموت والأرض وما بينهما } أي: هل تعلم من يسمى بهذا، أو يوصف بهذه الصفة؛ وذلك أن الأمم والفرق لا يسمون بهذا الاسم وثنا، ولا شيئا سوى الله تعالى.
قال القشيري في «التحبير»: قوله تعالى: { واصطبر لعبدته }: الاصطبار: نهاية الصبر ومن صبر، ظفر، ومن لازم، وصل؛ وفي معناه أنشدوا: [البسيط].
لا تيئسن وإن طالت مطالبة
إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وأنشدوا: [البسيط]
إني رأيت وفي الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في شيء يحاوله
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
انتهى.
وقال ابن عباس، وغيره: { سميا } معناه: مثيلا، أو شبيها، ونحو ذلك؛ وهذا قول حسن، وكأن السمي بمعنى: المسامي، والمضاهي؛ فهو من السمو.
[19.66-70]
وقوله تعالى: { ويقول الإنسن أءذا ما مت لسوف أخرج حيا } ، الإنسان: اسم جنس يراد به الكافرون، وروي أن سبب نزول هذه الآية هو: أن رجالا من قريش كانوا يقولون هذا ونحوه، وذكر: أن القائل هو أبي بن خلف.
وروي أن القائل هو العاصي بن وائل، وفي قوله تعالى: { ولم يك شيئا } دليل على أن المعدوم لا يسمى شيئا.
وقال: أبو علي الفارسي: أراد شيئا موجودا.
قال * ع *: وهذه من أبي علي نزعة اعتزالية؛ [فتأملها]، والضمير في { لنحشرنهم } عائد على الكفار القائلين ما تقدم، ثم أخبر تعالى: أنه يقرن بهم الشياطين المغوين لهم، و { جثيا } جمع جاث، فأخبر سبحانه: أنه يحضر هؤلاء المنكرين البعث مع الشياطين [المغوين]، فيجثون حول جهنم؛ وهو قعود لخائف الذليل على ركبتيه كالأسير، ونحوه.
قال ابن زيد: الجثي: شر الجلوس، و«الشيعة»: الفرقة المرتبطة بمذهب واحد، المتعاونة فيه، فأخبر سبحانه أنه ينزع من كل شيعة أعتاها وأولاها بالعذاب، فتكون مقدمتها إلى النار.
قال أبو الأحوص: المعنى: نبدأ بالأكابر جرما، وأي وهنا بنيت لما حذف الضمير العائد عليها من صدر صلتها، وكان التقدير: أيهم هو أشد، و { صليا }: مصدر صلي يصلى إذا باشره.
[19.71-74]
وقوله عز وجل: { وإن منكم إلا واردها } قسم، والواو تقتضيه، ويفسره قوله صلى الله عليه وسلم:
" من مات له ثلاثة أولاد، لم تمسه النار إلا تحلة القسم "
وقرأ ابن عباس، وجماعة: «وإن منهم» بالهاء على إرادة الكفار.
قال * ع *: ولا شغب في هذه القراءة، وقالت فرقة من الجمهور القارئين «منكم». المعنى: قل لهم يا محمد، فالخطاب ب { منكم } للكفرة، وتأويل هؤلاء أيضا سهل التناول.
وقال الأكثر: المخاطب العالم كله، ولا بد من ورود الجميع، ثم اختلفوا في في كيفية ورود المؤمنين، فقال ابن عباس، وابن مسعود، وخالد بن معدان، وابن جريج، وغيرهم: هو ورود دخول، لكنها لا تعدو عليهم، ثم يخرجهم الله عز وجل منها بعد معرفتهم حقيقة ما نجوا منه.
وروى جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الورود في هذه الآية هو الدخول "
، وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود مع الجهل بالصدر جعلنا الله تعالى من الناجين بفضله ورحمته -، وقالت فرقة: بل هو ورود إشراف، واطلاع، وقرب، كما تقول: وردت الماء؛ إذا جئته، وليس يلزم أن تدخل فيه، قالوا: وحسب المؤمن بهذا هولا؛ ومنه قوله تعالى:
ولما ورد ماء مدين
[القصص: الآية 23].
وروت فرقة أثرا: أن الله تعالى يجعل النار يوم القيامة جامدة الأعلى كأنها إهالة فيأتي الخلق كلهم؛ برهم وفاجرهم فيقفون عليها, ثم تسوخ بأهلها, ويخرج المؤمنون الفائزون, لم ينلهم ضر, قالوا فهذا هو الورود.
قال المهدوي: وعن قتادة قال: يرد الناس جهنم وهي سوداء مظلمة، فأما المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم، فنجوا منها، وأما الكفار فأوبقتهم سيئاتهم، واحتبسوا بذنوبهم. [انتهى].
وروت حفصة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية قالت: فقلت: يا رسول الله، وأين قول الله تعالى: { وإن منكم إلا واردها } فقال صلى الله عليه وسلم: فمه، { ثم ننجي الذين اتقوا } "
ورجح الزجاج هذا القول؛ بقوله تعالى:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون
[الأنبياء:101].
* ت *: وحديث حفصة هذا أخرجه مسلم، وفيه: «أفلم تسمعيه يقول: { ثم ننجي الذين اتقوا }.
وروى ابن المبارك في «رقائقه» أنه لما نزلت هذه الآية { وإن منكم إلا واردها } ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى: [فجاءت امرأته، فبكت]، وجاءت الخادم فبكت، وجاء أهل البيت فجعلوا يبكون، فلما انقضت عبرته، قال: يا أهلاه، ما يبكيكم، قالوا: لا ندري، ولكن رأيناك بكيت فبكينا، فقال: آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبئني فيها ربي أني وارد النار، ولم ينبئني أني صادر عنها، فذلك الذي أبكاني.
انتهى.
وقال ابن مسعود : ورودهم: هو جوازهم على الصراط، وذلك أن الحديث الصحيح تضمن أن الصراط مضروب على متن جهنم.
والحتم: الأمر المنفد المجزوم، و { الذين اتقوا }: معناه اتقوا الكفر { ونذر } دالة على أنهم كانوا فيها.
قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» بعد أن ذكر رواية جابر، وابن مسعود في الورود، وروي عن كعب أنه تلا؟ { وإن منكم إلا واردها } فقال: أتدرون ما ورودها؟ إنه يجاء بجهنم فتمسك للناس كأنها متن إهالة: يعني: الودك الذي يجمد على القدر من المرقة، حتى إذا استقرت عليها أقدام الخلائق: برهم وفجارهم، نادى مناد: أن خذي أصحابك، وذري أصحابي، فيخسف بكل ولي لها، فلهي أعلم بهم من الوالدة بولدها، وينجو المؤمنون ندية ثيابهم.
وروي هذا المعنى عن أبي نضرة، وزاد: وهو معنى قوله تعالى:
فاستبقوا الصرط فأنى يبصرون
[يس:66]. انتهى.
وقوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينت قال الذين كفروا للذين ءامنوا أي الفريقين خير مقاما... } الآية، هذا افتخار من كفار قريش؛ وأنه إنما أنعم الله عليهم؛ لأجل أنهم على الحق بزعمهم. والندي، والنادي: المجلس، ثم رد الله تعالى حجتهم وحقر أمرهم؛ فقال تعالى: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثثا ورءيا } أي: فلم يغن ذلك عنهم شيئا، والأثاث: المال العين، والعرض والحيوان.
وقرأ نافع وغيره: «ورءيا» بهمزة بعدها ياء؛ من رؤية العين.
قال البخاري: ورءيا: منظرا.
وقرأ نافع أيضا، وأهل المدينة: «وريا» بياء مشددة، فقيل: هي بمعنى القراءة الأولى، وقيل: هي بمعنى الري في السقيا؛ إذ أكثر النعمة من الري والمطر.
وقرأ ابن جبير، وابن عباس، ويزيد البريري: «وزيا» بالزاي المعجمة؛ بمعنى: الملبس.
[19.75-76]
قوله سبحانه: { قل من كان في الضللة فليمدد له الرحمن مدا } ، فيحتمل أن يكون بمعنى الدعاء والابتهال؛ كأنه يقول: الأضل منا ومنكم مد الله له، أي: أملى له؛ حتى يؤول ذلك إلى عذابه، ويحتمل أن يكون بمعنى الخبر؛ أنه سبحانه هذه عادته: الإملاء للضالين: { حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب } ، أي: في الدنيا بنصر الله للمؤمنين عليهم، { وإما الساعة } فيصيرون إلى النار، والجند الناصرون: القائمون بأمر الحرب، و { شر مكانا } بإزاء قولهم { خير مقاما } و { أضعف جندا } بإزاء قولهم: { أحسن نديا } ولما ذكر سبحانه ضلالة الكفرة وافتخارهم بنعم الدنيا عقب ذلك بذكر نعمة الله على المؤمنين في أنه يزيدهم هدى في الارتباط بالأعمال الصالحة، والمعرفة بالدلائل الواضحة،
" وقد تقدم تفسير الباقيات الصالحات عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنها: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء: «خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك، وبينهن؛ فهن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة» "
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" خذوا جنتكم، قالوا: يا رسول الله، أمن عدو حضر؟ قال: من النار، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وهن الباقيات الصالحات ".
وكان أبو الدرداء يقول إذا ذكر هذا الحديث: لأهللن، ولأكبرن الله، ولأسبحنه حتى إذا رآني الجاهل ظنني مجنونا.
* ت *: ولو ذكرنا ما ورد من صحيح الأحاديث في هذا الباب، لخرجنا بالإطالة عن مقصود الكتاب.
[19.77-79]
وقوله سبحانه: { أفرأيت الذي كفر بآيتنا } هو العاصي بن وائل السهمي؛ قاله جمهور المفسرين، وكان خبره أن خباب بن الأرت كان قينا في الجاهلية، فعمل له عملا، واجتمع له عنده دين؛ فجاءه يتقاضاه، فقال له العاصي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقال خباب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله، ثم يبعثك؛ فقال العاصي: أو مبعوث أنا بعد الموت؟! فقال: نعم، فقال: فإنه إذا كان ذلك، فسيكون لي مال، وولد، وعند ذلك أقضيك دينك؛ فنزلت الآية في ذلك.
وقال الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة.
قال: * ع *: وقد كانت للوليد أيضا، أقوال تشبه هذا الغرض.
* ت *: إلا أن المسند الصحيح في «البخاري» هو الأول.
وقوله: { أم اتخذ عند الرحمن عهدا } معناه بالأيمان، والأعمال الصالحات.
{ وكلا } زجر، ورد، وهذا المعنى لازم ل «كلا»، ثم أخبر سبحانه: أن قول هذا الكافر سيكتب على معنى حفظه عليه، ومعاقبته وبه ومد العذاب؛ هو إطالته وتعظيمه.
[19.80-83]
وقوله سبحانه: { ونرثه ما يقول } أي: هذه الأشياء التي سمى أنه يؤتاها في الآخرة، يرث الله ماله منها في الدنيا؛ بإهلاكه، وتركه لها، فالوراثة مستعارة.
وقال النحاس: { نرثه ما يقول } معناه: نحفظه عليه؛ لنعاقبه به؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" العلماء ورثة الأنبياء "
أي: حفظة ما قالوا.
قال * ع *: فكأن هذا المجرم يورث هذه المقالة.
وقوله: { ويكونون عليهم ضدا } معناه: يجدونهم خلاف ما كانوا أملوه في معبوداتهم؛ فيؤول ذلك بهم إلى ذلة، وضد ما أملوه من العز، وغيره، وهذه صفة عامة.
و { تؤزهم } معناه: تقلقهم وتحركهم إلى الكفر والضلال.
قال قتادة: تزعجهم إزعاجا، وقال ابن زيد: تشليهم إشلاء، ومنه: أزيز القدر، وهو غليانه وحركته؛ ومنه الحديث:
" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يصلي، وهو يبكي، ولصدره أزيز كأزيز المرجل ".
* ت *: هذا الحديث خرجه مسلم، وأبو داود عن مطرف عن أبيه.
وقال العراقي: { تؤزهم } أي: تدفعهم: انتهى.
[19.84-87]
وقوله سبحانه: { فلا تعجل عليهم } أي: لا تستبطىء عذابهم.
وقوله تعالى: { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا }.
قال * ع *: وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوض إلى الجنة، وكذلك سوق المجرمين إنما هو لدخول النار.
و { وفدا } قال المفسرون: معناه ركبانا، وهي عادة الوفود؛ لأنهم سراة الناس، وأحسنهم شكلا، وإنما شبههم بالوفد هيئة، وكرامة.
وروي عن علي - رضي الله عنه - أنهم يجيئون ركبانا على النوق المحلاة بحلية الجنة: خطمها من ياقوت، وزبرجد، ونحو هذا.
وروى عمرو بن قيس الملائي: أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة، وهي في غاية الحسن.
وروي: أنه يركب كل واحد منهم ما أحب؛ فمنهم: من يركب الإبل، ومنهم: من يركب الخيل، ومنهم من يركب السفن، فتجيء عائمة بهم، وقد ورد في «الضحايا»: أنها مطاياكم إلى الجنة؛ وأكثر هذه فيها ضعف من جهة الإسناد، والسوق: يتضمن هوانا، والورود: العطاش؛ قاله ابن عباس وأبو هريرة، والحسن.
واختلف في الضمير في قوله: { لا يملكون } فقالت فرقة: هو عائد على { المجرمين } أي: لا يملكون أن يشفع لهم؛ وعلى هذا فالاستثناء منقطع، أي: لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يشفع له.
والعهد على هذا الأيمان، وقال ابن عباس: العهد: لا إله إلا الله، وفي الحديث: يقول الله تعالى يوم القيامة:
" من كان له عندي عهد، فليقم ".
قال * ع *: ويحتمل: أن يكون المجرمون يعم الكفرة والعصاة، أي: إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا من عصاة المؤمنين؛ فإنه يشفع لهم، ويكون الاستثناء متصلا.
وقالت فرقة: الضمير في { لا يملكون } للمتقين.
وقوله: { إلا من اتخذ... } الآية أي: إلا من كان له عمل صالح مبرور؛ [فيشفع] فيشفع، وتحتمل الآية أن يراد ب «من» النبي صلى الله عليه وسلم وبالشفاعة الخاصة له العامة في أهل الموقف، ويكون الضمير في { لا يملكون } لجميع أهل الموقف؛ ألا ترى أن سائر الأنبياء يتدافعون الشفاعة إذ ذاك، حتى تصير إليه صلى الله عليه وسلم.
[19.88]
وقوله تعالى: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا }.
قال الباجي في «سنن الصالحين» له روي عن ابن مسعود، أنه قال: إن الجبل ليقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله تعالى؟ فإن قال: نعم، سر به، ثم قرأ عبد الله: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا } إلى قوله: { وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا } قال: أترونها تسمع الزور، ولا تسمع الخير. انتهى.
وهكذا رواه ابن المبارك في «رقائقه» وما ذكره ابن مسعود لا يقال من جهة الرأي، وقد روي عن أنس، وغيره نحوه.
قال الباجي بإثر الكلام المتقدم: وروى جعفر بن زيد، عن أنس بن مالك: أنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا وتنادي بقاع الأرض بعضها بعضا: أي جارة، هل مر بك اليوم عبد يصلي أو يذكر الله؟ فمن قائلة: لا، ومن قائلة: نعم، فإذا قالت: نعم، رأت لها فضلا بذلك. انتهى.
[19.89-96]
وقوله سبحانه: { لقد جئتم شيئا إدا } الآية، الإد: الأمر الشنيع الصعب.
* ت *: وقال العراقي: «إدا»، أي: عظيما، انتهى.
والانفطار: الانشقاق، والهد: الانهدام، قال محمد بن كعب: كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة.
وقوله: { إن كل من في السموت... } الآية، إن نافية بمعنى ما.
وقوله: { فردا } يتضمن عدم النصير، والحول والقوة، أي: لا مجير له مما يريد الله به.
وعبارة الثعلبي: «فردا» أي: وحيدا بعمله، ليس معه من الدنيا شيء. اه.
* ت *: وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى
ولقد جئتمونا فرادى...
الآية [الأنعام:94].
وقوله تعالى: { سيجعل لهم الرحمن ودا } ذهب أكثر المفسرين إلى: أن هذا الود هو القبول الذي يضعه الله لمن يحب من عباده؛ حسبما في الحديث الصحيح المأثور، وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه-: أنها بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم
" من أسر سريرة ألبسه الله رداءها ".
* ت *: والحديث المتقدم المشار إليه أصله في «الموطإ» ولفظه: مالك، عن سهيل بن أبي صالح السمان، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا أحب الله العبد قال لجبريل، يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله أحب فلانا، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له القبول في الأرض ".
وإذا أبغض العبد، قال مالك: لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك.
قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد»، وممن روى هذا الحديث عن سهيل، بإسناده هذا فذكر البغض من غير شك معمر وعبد العزيز بن المختار، وحماد بن سلمة، قالوا في آخره: وإذا أبغض بمثل ذلك، ولم يشكوا.
قال أبو عمر: وقد قال المفسرون في قوله تعالى: { سيجعل لهم الرحمن ودا }: يحبهم ويحببهم إلى الناس، وقاله مجاهد، وابن عباس، ثم أسند أبو عمر عن كعب أنه قال: والله ما استقر لعبد ثناء في أهل الدنيا حتى يستقر له في أهل السماء.
قال كعب: وقرأت في التوراة أنه لم تكن محبة لأحد من أهل الأرض إلا كان بدأها من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء، ثم ينزلها على أهل الأرض، ثم قرأت القرآن، فوجدت فيه: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } وأسند أبو عمر، عن قتادة قال: قال هرم بن حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله تعالى إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان عليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. انتهى.
قال ابن المبارك في «رقائقه»:أخبرنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال:
" قيل: يا رسول الله، من أهل الجنة؟ قال: من لا يموت حتى يملأ الله سمعه مما يحب قال: فقيل: يا رسول الله، من أهل النار؟ قال: من لا يموت حتى يملأ الله سمعه مما يكره "
انتهى.
قال * ع *: وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من عبد إلا وله في السماء صيت، فإن كان حسنا، وضع في الأرض حسنا، وإن كان سيئا وضع في الأرض سيئا ".
* ت *: وهذا الحديث خرجه أبو داود في كتاب «الزهد».
[19.97-98]
وقوله تعالى: { فإنما يسرنه بلسانك } أي: القرآن { لتبشر به المتقين } أي: بالجنة، والنعيم الدائم، والعز في الدنيا.
و { قوما لدا } هم: قريش، ومعناه: مجادلين مخاصمين، والألد: المخاصم المبالغ في ذلك، ثم مثل لهم بإهلاك من قبلهم إذ كانوا أشد منهم، وألد وأعظم قدرا، و«الركز»: الصوت الخفي.
[20 - سورة طه]
[20.1-8]
قوله سبحانه وتعالى: { طه * مآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى } قيل: طه: آسم من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: معناه: يا رجل؛ بالسريانية، وقيل: بغيرها من لغات العجم.
قال البخاري: قال ابن جبير: { طه }: يا رجل، بالنبطية. انتهى.
وقيل: إنها لغة يمانية في «عك»؛ وأنشد الطبري في ذلك: [الطويل]
دعوت ب «طه» في القتال فلم يجب
فخفت عليه أن يكون موائلا
وقال آخر: [البسيط]
إن السفاهة طه من خلائقكم
لا بارك الله في القوم الملاعين
وقالت فرقة من العلماء: سبب نزول هذه الآية أن قريشا لما نظرت إلى عيش النبي صلى الله عليه وسلم وشظفه وكثرة عبادته؛ قالت: إن محمدا مع ربه في شقاء فنزلت الآية؛ رادة عليهم.
وأسند عياض في «الشفا» من طريق أبي ذر الهروي، عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى، قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله؛ { طه } يعني: طإ الأرض يا محمد، { ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى } ولا خفاء بما في هذا كله من الإكرام له صلى الله عليه وسلم وحسن المعاملة. انتهى.
قال * ص *: { لتشقى * إلا تذكرة } علتان لقوله: { ما أنزلنا }. انتهى.
وقد تقدم القول في مسألة الاستواء، وباقي الآية بين.
قال ابن هشام: قوله تعالى: { وإن تجهر بالقول } أي: فاعلم أنه غني عن جهرك؛ { فإنه يعلم السر وأخفى } ، فالجواب محذوف. انتهى.
[20.9-14]
وقوله سبحانه: { وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى } هذا الاستفهام توقيف مضمنه: تنبيه النفس إلى استماع ما يورد عليها، وهذا كما تبدأ الرجل إذا أردت إخباره بأمر غريب؛ فتقول: أعلمت كذا، وكذا، ثم تبدأ تخبره.
وكان من قصة موسى - عليه السلام - أنه رحل من مدين بأهله بنت شعيب - عليه السلام - وهو يريد أرض مصر، وقد طالت مدة جنايته هنالك، فرجا خفاء أمره، وكان فيما يزعمون رجلا غيورا، فكان يسير الليل بأهله، ولا يسير بالنهار مخافة كشفة الناس، فضل عن طريقه في ليلة مظلمة، فبينما هو كذلك، وقد قدح بزنده، فلم يور شيئا { إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا } ، أي: أقيموا، وذهب هو إلى النار، فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة، قيل: كانت من عناب، وقيل: من عوسج، وقيل: من عليق، فكلما دنا منها، تباعدت منه، ومشت فإذا رجع عنها اتبعته، فلما رأى ذلك أيقن أن هذا من أمور الله الخارقة للعادة، ونودي، وانقضى أمره كله في تلك الليلة؛ هذا قول الجمهور، وهو الحق، وما حكي عن ابن عباس: أنه قال: أقام في ذلك الأمر حولا، فغير صحيح عن ابن عباس.
و { آنست }: معناه: أحسست، والقبس: الجذوة من النار، تكون على رأس العود.
والهدى: أراد هدى الطريق، أي: لعلي أجد مرشدا لي، أو دليلا.
وفي قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما لقي في تبليغه من المشقات صلى الله عليه وسلم والضمير في قوله: { أتاها }: عائد على النار.
وقوله: «نودي»: كناية عن تكليم الله تعالى له (عليه السلام).
وقرأ نافع وغيره: إني بكسر الهمزة على الابتداء، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: «أني» بفتحها على معنى: لأجل أني أنا ربك، فاخلع نعليك.
واختلف في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين: فقالت فرقة: كانتا من جلد حمار ميت، فأمر بطرح النجاسة.
وقالت فرقة: بل كانت نعلاه من جلد بقرة ذكي؛ لكن أمر بخلعهما لينال بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي.
قال * ع *: وتحتمل الآية معنى آخر، هو الأليق بها عندي؛ وهو: أن الله تعالى أمره أن يتأدب، ويتواضع؛ لعظم الحال التي حصل فيها، والعرف عند الملوك: أن تخلع النعلان، ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه، فكأن موسى - عليه السلام - أمر بذلك على هذا الوجه، ولا نبالي كيف كانت نعلاه من ميتة أو غيرها.
و { المقدس }: معناه المطهر، و { طوى }: معناه مرتين.
فقالت فرقة: معناه قدس مرتين، وقالت فرقة: معناه طويت لك الأرض مرتين من ظنك.
قال الفخر: وقيل: إن طوى اسم واد بالشام، وهو عند الطور الذي أقسم الله به في القرآن.
وقيل: إن { طوى } بمعنى: يا رجل، بالعبرانية، كأنه قيل: يا رجل اذهب إلى فرعون. انتهى.
«من تفسيره لسورة والنازعات».
قال * ع *: وحدثني أبي - رحمه الله - قال: سمعت أبا الفضل بن الجوهري - رحمه الله تعالى - يقول: لما قيل لموسى: استمع لما يوحى، وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا.
وقوله تعالى: { وأقم الصلوة لذكري }: يحتمل أن يريد: لتذكرني فيها، أو يريد: لأذكرك في عليين بها، فالمصدر محتمل الإضافة إلى الفاعل، أو المفعول.
وقالت فرقة: معنى قوله { لذكري } أي: عند ذكرى، أي: إذا ذكرتني، وأمري لك بها.
* ت *: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من نسي صلاة، فليصلها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتها؛ قال الله تعالى: { أقم الصلوة لذكري } "
انتهى.
فقد بين له صلى الله عليه وسلم ما تحتمله الآية، والله الموفق بفضله؛ وهكذا استدل ابن العربي هنا بالحديث، ولفظه: وقد روى مالك وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالى يقول: { أقم الصلوة لذكري } "
انتهى.
من «الأحكام». وقرأت فرقة: «للذكرى»، وقرأت فرقة: «للذكر»، وقرأت فرقة: «لذكرى» بغير تعريف.
[20.15-36]
وقوله تعالى: { إن الساعة }: يريد: القيامة آتية، فيه تحذير ووعيد.
وقرأ ابن كثير، وعاصم: «أكاد أخفيها» - بفتح الهمزة - بمعنى: أظهرها، أي: إنها من تيقن وقوعها تكاد تظهر، لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم، والعرب تقول: خفيت الشيء بمعنى: أظهرته.
وقرأ الجمهور: «أخفيها» - بضم الهمزة - فقيل: معناه: أظهرها، وزعموا: أن «أخفيت» من الأضداد.
وقالت فرقة: { أكاد } بمعنى أريد، أي: أريد إخفاءها عنكم؛ لتجزى كل نفس بما تسعى، واستشهدوا بقول الشاعر: [الكامل]
كادت وكدت وتلك خير إرادة
.................
وقالت فرقة: أكاد: على بابها بمعنى: بأنها مقاربة ما لم يقع لكن الكلام جار على استعارة العرب، ومجازها، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها، وكان القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس؛ بالغ سبحانه في إبهام وقتها، فقال: { أكاد أخفيها }؛ حتى لا تظهر ألبتة، ولكن ذلك لا يقع، ولا بد من ظهورها، وهذا التأويل هو الأقوى عندي.
وقوله سبحانه: { فلا يصدنك عنها }: أي: عن الإيمان بالساعة، ويحتمل عود الضمير على الصلاة.
وقوله: { فتردى }: معناه فتهلك، والردى: الهلاك، وهذا الخطاب كله لموسى عليه السلام، وكذلك ما بعده.
وقال النقاش: الخطاب ب { لا يصدنك }: لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا بعيد.
وقوله سبحانه: { وما تلك بيمينك يموسى } تقرير مضمنه التنبيه، وجمع النفس؛ لتلقى ما يورد عليها، وإلا فقد علم سبحانه ما هي في الأزل.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وأجاب موسى عليه السلام بقوله: { هي عصاي... } الآية, بأكثر مما وقع السؤال عنه؛ وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:
" هو الطهور ماؤه، الحل ميتته "
لمن سأله عن طهورية ماء البحر. انتهى.
* ت *: والمستحسن من الجواب: أن يكون مطابقا للسؤال، أو أعم منه؛ كما في الآية، والحديث، أما كونه أخص منه، فلا. انتهى.
{ وأهش }: معناه: أخبط بها الشجر؛ حتى ينتثر الورق للغنم، وعصا موسى عليه السلام هي التي كان أخذها من بيت عصي الأنبياء عليهم السلام الذي كان عند شعيب عليه السلام حين اتفقا على الرعي، وكانت عصا آدم عليه السلام، هبط بها من الجنة، وكانت من العير الذي في ورق الريحان، وهو الجسم المستطيل في وسطها، ولما أراد الله سبحانه تدريب موسى في تلقي النبوءة، وتكاليفها، أمره بإلقاء العصا، فألقاها، فإذا هي حية تسعى، أي تنتقل، وتمشي، وكانت عصا ذات شعبتين، فصارت الشعبتان فما يلتقم الحجارة، فلما رآها موسى رأى عبرة؛ فولى مدبرا ولم يعقب؛ فقال الله تعالى له: { خذها ولا تخف } فأخذها بيده، فصارت عصا كما كانت أول مرة؛ وهي سيرتها الأولى، { واضمم يدك إلى جناحك } ، أي: جنبك.
قال * ع *: وكل مرعوب من ظلمة ونحوها فإنه إذا ضم يده إلى جناحه، فتر رعبه، وربط جأشه، فجمع الله سبحانه لموسى عليه السلام تفتير الرعب مع الآية في اليد.
وروي أن يد موسى خرجت بيضاء تشف وتضيء؛ كأنها شمس من غير سوء، أي: من غير برص، ولا مثلة، بل هو أمر ينحسر، ويعود بحكم الحاجة إليه، ولما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون، علم أنها الرسالة، وفهم قدر التكليف؛ فدعا الله في المعونة؛ إذ لا حول له إلا به.
و { اشرح لي صدري } معناه: لفهم ما يرد علي من الأمور، والعقدة التي دعا في حلها هي التي اعترته بالجمرة في فيه، حين جربه فرعون، وروي في ذلك: أن فرعون أراد قتل موسى، وهو طفل حين مد يده عليه السلام إلى لحية فرعون، فقالت له امرأته: إنه لا يعقل، فقال: بل هو يعقل، وهو عدوي، فقالت له: نجربه، فقال لها: أفعل، فدعا بجمرات من النار، وبطبق فيه ياقوت، فقالا: إن أخذ الياقوت، علمنا أنه يعقل، وإن أخذ النار، عذرناه ، فمد موسى يده إلى جمرة فأخذها، فلم تعد على يده، فجعلها في فيه، فأحرقته، وأورثت لسانه عقدة، وموسى عليه السلام إنما طلب من حل العقدة قدرا يفقه معه قوله، فجائز أن تكون تلك العقدة قد زالت كلها، وجائز أن يكون قد بقي منها القليل، فيجتمع أن يؤتى هو سؤله، وأن يقول فرعون:
ولا يكاد يبين
[الزخرف:52].
ولو فرضنا زوال العقدة جملة، لكان قول فرعون سبا لموسى بحالته القديمة.
والوزير: المعين القائم بوزر الأمور, وهو ثقلها فيحتمل الكلام أن طلب الوزير من أهله على الجملة ثم أبدل هرون من الوزير المطلوب، ويحتمل أن يريد: واجعل هرون وزيرا، فيكون مفعولا أولا ل { اجعل } ، وكان هرون عليه السلام أكبر من موسى عليه السلام بأربع سنين، والأزر: الظهر؛ قاله أبو عبيدة.
وقوله: { كثيرا } نعت لمصدر محذوف، أي: تسبيحا كثيرا.
[20.37-46]
وقوله سبحانه: { ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينآ إلى أمك ما يوحى } قيل: هو وحي إلهام، وقيل: بملك، وقيل: برؤيا رأتها، وكان من قصة موسى عليه السلام فيما روي أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه يكون على يد غلام من بني إسرائيل؛ فأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل، ثم إنه رأى مع أهل مملكته: أن فناء بني إسرائيل يعود على القبط بالضرر؛ إذ هم كانوا عملة الأرض، والصناع، ونحو هذا؛ فعزم على أن يقتل الولدان سنة، ويستحييهم سنة، فولد هرون عليه السلام في سنة الاستحياء، ثم ولد موسى عليه السلام في العام الرابع سنة القتل، فخافت عليه أمه؛ فأوحى الله إليها: { أن اقذفيه في التابوت } فأخذت تابوتا فقذفت فيه موسى راقدا في فراش، ثم قذفته في يم النيل، وكان فرعون جالسا في موضع يشرف منه على النيل إذ رأى التابوت فأمر به، فسيق إليه، وامرأته معه، ففتح فرأوه فرحمته امرأته؛ وطلبته لتتخذه ابنا، فأباح لها ذلك، ثم إنها عرضته للرضاع، فلم يقبل امرأة فجعلت تنادي عليه في المدينة, ويطاف به يعرض للمراضع, فكلما عرضت عليه امرأة أباها، وكانت أمه قالت لأخته:
قصيه فبصرت به
[القصص:11] وفهمت أمره، فقالت لهم: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم، وهم له ناصحون، فتعلقوا بها، وقالوا: أنت تعرفين هذا الصبي، فأنكرت، وقالت: لا، غير أني أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى المملكة، والجد في خدمتها، ورضاها، فتركوها وسألوها الدلالة، فجاءت بأم موسى، فلما قربته، شرب ثديها، فسرت بذلك آسية امرأة فرعون رضي الله عنها وقالت لها: كوني معي في القصر، فقالت لها: ما كنت لأدع بيتي وولدي، ولكنه يكون عندي، فقالت: نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان، واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع، والسبب من المملكة, وأقام موسى عليه السلام حتى كمل رضاعه، فأرسلت إليها آسية: أن جيئني بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها، ومن معها أن يلقينه بالتحف، والهدايا، واللباس؛ فوصل إليها على ذلك، وهو بخير حال وأجمل ثياب، فسرت به، ودخلت به على فرعون؟ ليراه ويهب له فرآه وأعجبه، وقربه فأخذ موسى عليه السلام بلحية فرعون، وجبذها، فاستشاط فرعون، وقال: هذا عدو لي، وأمر بذبحه، فناشدته فيه امرأته، وقالت: إنه لا يعقل، فقال فرعون: بل يعقل، فاتفقا على تجريبه بالجمرة والياقوت؛ حسب ما تقدم، فنجاه الله من فرعون ورجع إلى أمه، فشب عندها، فاعتز به بنو إسرائيل إلى أن ترعرع، وكان فتى جلدا فاضلا كاملا، فاعتزت به بنو إسرائيل بظاهر ذلك الرضاع، وكان يحميهم، ويكون ضلعه معهم، وهو يعلم من نفسه أنه منهم، ومن صميمهم، فكانت بصيرته في حمايتهم أكيدة، وكان يعرف ذلك أعيان بني إسرائيل، ثم وقعت له قصة القبطي المتقاتل مع الإسرائيلي على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعدد الله سبحانه على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القصة: من لطفه سبحانه به في كل فصل، وتخليصه من قصة إلى أخرى، وهذه الفتون التي فتنه بها، أي: اختبره بها، وخلصه حتى صلح للنبوة، وسلم لها.
وقوله { ما يوحى } إبهام يتضمن عظم الأمر وجلالته وهذا كقوله تعالى:
إذ يغشى السدرة ما يغشى
[النجم:16]
فأوحى إلى عبده ما أوحى
[النجم:10]. وهو كثير في القرآن، والكلام الفصيح.
وقوله: { فليلقه اليم بالساحل } خبر خرج في صيغة الأمر مبالغة؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" قوموا فلأصل لكم "
فأخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه، مبالغة، وهذا كثير، والمراد بالعدو في الآية: فرعون ثم أخبر تعالى موسى عليه السلام أنه ألقى عليه محبة منه.
قالت فرقة: أراد القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده، وكان حظ موسى منه في غاية الوفر؛ وهذا أقوى ما قيل هنا من الأقوال.
وقرأ الجمهور: «ولتصنع» بكسر اللام، وضم التاء؛ على معنى: ولتغذى، وتطعم، وتربى.
وقوله: { على عيني } معناه: بمرأى مني.
وقوله: { على قدر } أي: لميقات محدود للنبوءة التي قد أرادها الله تعالى، { واصطنعتك }: معناه جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإجمال والإحسان.
وقوله: { لنفسي } إضافة تشريف؛ وهذا كما تقول: بيت الله، ونحوه: «والصيام لي» وعبر بالنفس عن شدة القرب وقوة الاختصاص.
وقوله تعالى { ولا تنيا في ذكري } معناه: لا تبطئا وتضعفا؛ تقول: ونى فلان في كذا، إذا تباطأ فيه عن ضعف، والوني: الكلال، والفشل في البهائم والإنس.
وفي مصحف ابن مسعود: «ولا تهنا في ذكري» معناه: لا تلينا؛ من قولك: هين لين. { فقولا له قولا لينا } أي: حسنا له الكلمة مع إكمال الدعوة.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وفي الآية دليل على جواز الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر باللين لمن معه القوة، وفي الإسرائيليات: أن موسى عليه السلام أقام بباب فرعون سنة لا يجد من يبلغ كلامه حتى لقيه حين خرج، فجرى له ما قص الله تعالى علينا من خبره؛ وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين. انتهى.
وقولهما: { إننا نخاف أن يفرط } معناه: يعجل، ويتسرع إلينا بمكروه.
وقوله عز وجل { إنني معكما } أي بالنصر والمعونة.
[20.47-54]
وقوله تعالى: { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرءيل ولا تعذبهم... } الآية جملة ما دعي إليه فرعون الإيمان، وإرسال بني إسرائيل، وأما تعذيبه بني إسرائيل، فبذبح أولادهم، وتسخيرهم وإذلالهم.
وقولهما: { والسلام على من اتبع الهدى } يحتمل أن يكون آخر كلام؛ فيقوى أن يكون السلام بمعنى التحية؛ كأنهما رغبا بها عنه، وجريا على العرف في التسليم عند الفراغ من القول.
ويحتمل أن يكون في درج القول، فيكون خبرا بأن السلامة للمهتدين، وبهذين المعنيين قالت كل فرقة من العلماء.
وقوله سبحانه: { أعطى كل شيء خلقه } قالت فرقة: المعنى أعطى كل موجود من مخلوقاته خلقته، وصورته، أي: أكمل ذلك له، وأتقنه { ثم هدى } ، أي: يسر كل شيء لمنافعه؛ وهذا أحسن ما قيل هنا، وأشرف معنى وأعم في الموجودات.
وقول فرعون: { فما بال القرون الأولى } يحتمل أن يريد ما بال القرون الأولى لم تبعث لها، ولم يوجد أمرك عندها؟ ويحتمل أن يريد فرعون قطع الكلام، والرجوع إلى سؤال موسى عن حالة من سلف من الأمم؛ روغانا في الحجة، وحيدة.
وقيل: البال: الحال، فكأنه سأله عن حالهم، وقول موسى [عليه السلام]: { علمها عند ربي في كتاب } يريد في اللوح المحفوظ، و { لا يضل }: معناه لا ينتلف ويعمه، «والأزواج» هنا: بمعنى الأنواع.
وقوله { شتى } نعت للأزواج، أي: مختلفة.
وقوله { كلوا وارعوا } بمعنى هي صالحة للأكل والرعي، فأخرج العبارة في صيغة الأمر؛ لأنه أرجى الأفعال، وأهزها للنفوس. و { النهى } جمع نهية، والنهية: العقل الناهي عن القبائح.
[20.55-66]
وقوله سبحانه: { منها خلقناكم } يريد من الأرض { وفيها نعيدكم } أي: بالموت، والدفن. { ومنها نخرجكم } أي: بالبعث ليوم القيامة.
وقوله: { ولقد أريناه آياتنا } إخبار لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله { كلها } عائد على الآيات التي رآها فرعون، لا أنه رأى كل آية لله عز وجل وإنما المعنى: أن الله أراه آيات ما؛ كاليد، والعصا، والطمسة، وغير ذلك. وكانت رؤيته لهذه الآيات مستوعبة يرى الآيات كلها كاملة. ومعنى { سوى } أي: عدلا ونصفه، أي: حالنا فيه مستوية.
وقالت فرقة: معناه مستويا من الأرض؛ لا وهد فيه، ولا نشز، فقال موسى: { موعدكم يوم الزينة } وروي. أن يوم الزينة كان عيدا لهم، ويوما مشهورا.
وقيل: هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم.
وقوله: { وأن يحشر الناس } عطفا على { الزينة }؛ فهو في موضع خفض.
{ فتولى فرعون فجمع كيده } أي: جمع السحرة، وأمرهم بالاستعداد لموسى، فهذا هو كيده.
{ ثم أتى } فرعون بجمعه، فقال موسى للسحرة: { ويلكم لا تفتروا على الله كذبا } وهذه مخاطبة محذر، وندبهم في هذه الآية إلى قول الحق إذا رأوه، ألا يباهتوا بكذب؛ { فيسحتكم } أي: فيهلككم، ويذهبكم، فلما سمع السحرة هذه المقالة، هالهم هذا المنزع، ووقع في نفوسهم من هيبته شديد الموقع. و { تنازعوا أمرهم } والتنازع يقتضي اختلافا كان بينهم في السر؛ فقائل منهم يقول: هو محق، وقائل يقول: هو مبطل، ومعلوم أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى عليه السلام و { النجوى } المسارة، أي: كل واحد يناجي من يليه سرا؛ مخافة من فرعون أن يتبين له فيهم ضعف.
وقالت فرقة: إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا.
{ إن هذان لسحرن } قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة والكسائي: «إن هذان لساحران» فقالت فرقة: قوله: «إن» بمعنى: نعم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، برفع الحمد.
وقالت فرقة: إن هذه القراءة على لغة بلحارث بن كعب، وهي إبقاء ألف التثنية في حال النصب، والخفض، وتعزى هذه اللغة لكنانة، وتعزى لخثعم.
وقال الزجاج: في الكلام ضمير تقديره: إنه هذان لساحران
وقرأ أبو عمرو وحده: «إن هذين لساحران».
وقرأ ابن كثير: «إن هذان لساحران» بتخفيف إن، وتشديد نون هذان لساحران.
وقرأ حفص عن عاصم: «إن» بالتخفيف «هذان» خفيفة أيضا «لساحران».
وعبر كثير من المفسرين عن الطريقة بالسادة أهل العقل والحجا؛ وحكوا أن العرب تقول: فلان طريقة قومه، أي: سيدهم، وإلا ظهر في الطريقة هنا أنها السيرة، والمملكة، والحال التي كانوا عليها.
و { المثلى } تأنيث أمثل، أي: الفاضلة الحسنة.
وقرأ جمهور القراء: «فأجمعوا»: بقطع الهمزة، وكسر الميم؛ على معنى: انفذوا، واعزموا.
وقرأ أو عمرو وحده «فاجمعوا» من جمع، أي: ضموا سحركم بعضه إلى بعض.
وقوله { صفا } أي: مصطفين، وتداعوا إلى هذا؛ لأنه أهيب، وأظهر لهم، { وأفلح } معناه: ظفر ببغيته، وباقي الآية بين مما تقدم.
[20.67-73]
وقوله: { فأوجس } عبارة عما يعتري نفس الإنسان إذا وقع ظنه في أمر على شيء يسوؤه، وعبر المفسرون عن أوجس بأضمر؛ وهذه العبارة أعم من الوجيس بكثير.
{ إنك أنت الأعلى } أي الغالب، وروي في قصص هذه الآية: أن فرعون (لعنه الله) جلس في علية له طولها ثمانون ذراعا، والناس تحته في بسيط، وجاء سبعون ألف ساحر، فألقوا من حبالهم وعصيهم ما فيه وقر ثلاث مئة بعير، فهال الأمر، ثم إن موسى عليه السلام ألقى عصاه من يده، فاستحالت ثعبانا، وجعلت تنمو حتى روي أنها عبرت النهر بذنبها، وقيل: البحر، وفرعون في هذا كله يضحك؛ ويرى أن الاستواء حاصل، ثم أقبلت تأكل الحبال والعصي حتى أفنتها، ثم فغرت فاها نحو فرعون؛ ففزع عند ذلك؛ واستغاث بموسى، فمد موسى يده إليها، فرجعت عصا كما كانت، فنظر السحرة، وعلموا الحق، ورأوا عدم الحبال والعصي؛ فأيقنوا أن الأمر من الله عز وجل فآمنوا رضي الله عنهم.
وقوله سبحانه: { فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال آمنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل }.
قال * ص *: «في» على بابها، وقيل: بمعنى على.
* ت *: والأول أصوب.
{ ولتعلمن أينآ } قوله: أينا؛ يريد نفسه، ورب موسى عليه السلام.
وقال الطبري: يريد نفسه، وموسى، والأول أذهب مع مخرقة فرعون، وباقي الآية بين، ثم قال السحرة لفرعون: { لن نؤثرك } أي: لن نفضلك، ونفضل السلامة منك على ما رأينا من حجة الله تعالى، وآياته وعلي الذي فطرنا، هذا على قول جماعة: أن الواو في قوله { والذي }: عاطفة.
وقالت فرقة: هي واو القسم، { وفطرنا } أي: خلقنا، واخترعنا، فافعل يا فرعون ما شئت؛ وإنما قضاؤك في هذه الحياة الدنيا، والآخرة من وراء ذلك لنا بالنعيم، ولك بالعذاب الأليم.
وهؤلاء السحرة اختلف الناس: هل نفذ فيهم وعيد فرعون، أم لا؟ والأمر في ذلك محتمل.
وقولهم: { والله خير وأبقى } رد لقول فرعون: { أينا أشد عذابا وأبقى }.
[20.74-79]
وقوله عز وجل: { إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى... } الآية.
قالت فرقة: هذه الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له، والبيان فيما فعلوه.
وقالت فرقة: بل هي من كلام الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم تنبيها على قبح ما فعل فرعون، وحسن ما فعل السحرة، وموعظة، وتحذيرا قد تضمنت القصة المذكورة مثاله.
وقوله: { لا يموت فيها ولا يحيى } مختص بالكافر؛ فإنه معذب عذابا ينتهي به إلى الموت، ثم لا يجهز عليه فيستريح، بل يعاد جلده، ويجدد عذابه.
وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي، فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة في غمرة قد قاربوا الموت، إلا أنهم لا يجهز عليهم، ولا يجدد عذابهم؛ فهذا فرق ما بينهم وبين الكفار، وفي الحديث الصحيح:
" أنهم يماتون فيها إماتة "
، وهذا هو معناها؛ لأنه لا موت في الآخرة: و { تزكى } معناه: أطاع الله، وأخذ بأزكى الأمور.
وقوله سبحانه: { ولقد أوحينا إلى موسى } هذا استئناف إخبار عن شيء من أمر موسى، وباقي الآية بين، وقد تقدم ذكر ما يخصها من القصص.
وقوله تعالى: { لا تخاف دركا } أي: من فرعون، وجنوده، { ولا تخشى } غرقا من البحر.
وقوله { ما غشيهم } إبهام أهول من النص؛ وهذا كقوله:
إذ يغشى السدرة ما يغشى
[النجم:16]
{ وأضل فرعون قومه } يريد: من أول أمره إلى هذه النهاية، { وما هدى } مقابل لقوله:
وما أهديكم إلا سبيل الرشاد
[غافر:29].
[20.80-82]
وقوله عزوجل: { يبني إسرءيل قد أنجينكم... } الآية، ظاهر هذه الآية: أن هذا القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول النعم التي عددها الله عليهم، ويحتمل أن تكون هذه المقالة خوطب بها معاصرو النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: هذا فعلنا بأسلافكم؛ وتكون الآية على هذا اعتراضا في أثناء قصة موسى، والقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى، والمعنى الأول أظهر وأبين.
وقوله سبحانه: { وواعدنكم جانب الطور الأيمن... } الآية، وقصص هذه الآية: أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل، وغرق فرعون، وعد بني إسرائيل أن يسيروا إلى جانب طور سينا؛ ليكلم فيه موسى، ويناجيه بما فيه صلاحهم، فلما أخذوا في السير، تعجل موسى عليه السلام؛ ابتغاء مرضاة ربه، حسبما يأتي بعد.
وقرأ جمهور الناس: «فيحل» بكسر الحاء، «ويحلل» بكسر اللام.
وقرأ الكسائي وحده بضمهما، ومعنى الأول: فيجب، ويحق، ومعنى الثاني: فيقع وينزل، و { هوى } معناه: سقط أي: هوى في جهنم، وفي سخط الله - عافانا الله من ذلك -، ثم رجى سبحانه عباده بقوله: { وإني لغفار لمن تاب... } الآية, والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره وهي توبة مفيدة وإذا تاب العبد، ثم عاود الذنب بعينه بعد مدة؛ فيحتمل عند حذاق أهل السنة: ألا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول؛ لأن التوبة قد كانت محته، ويحتمل: أن يعيده؛ لأنها توبة لم يوف بها، واضطرب الناس في قوله سبحانه: { ثم اهتدى } من حيث وجدوا الهدى ضمن الإيمان والعمل؛ فقالت فرقة: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه.
وقيل: غير هذا، والذي يقوى في معنى: { ثم اهتدى } أن يكون: ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء؛ فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان، وغير العمل؛ ورب مؤمن عمل صالحا قد أوبقه عدم الاهتداء؛ كالقدرية والمرجئة، وسائر أهل البدع، فمعنى: { ثم اهتدى }: ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم - جعلنا الله منهم بمنه - وفي حفظ المعتقدات ينحصر معظم أمر الشرع.
[20.83-98]
وقوله سبحانه: { وما أعجلك عن قومك يموسى } الآية، وقصص هذه الآية: أن موسى عليه السلام لما شرع في النهوض ببني إسرائيل إلى جانب الطور؛ حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما لهم فيه شرف العاجل والآجل رأى موسى عليه السلام على جهة الاجتهاد أن يتقدم وحده مبادرا لأمر الله سبحانه؛ طلبا لرضائه، وحرصا على القرب منه، وشوقا إلى مناجاته، واستخلف عليهم هارون، وقال لهم موسى: تسيرون إلى جانب الطور، فلما انتهى موسى صلى الله عليه وسلم وناجى ربه، زاده الله في الأجل عشرا، وحينئذ وقفه على معنى استعجاله دون القوم؛ ليخبره موسى أنهم على الأثر، فيقع الإعلام له بما صنعوا، وأعلمه موسى أنه إنما استعجل طلب الرضى، فأعلمه الله سبحانه: أنه قد فتن بني إسرائيل، أي: اختبرهم بما صنع السامري، ويحتمل أن يريد: ألقيناهم في فتنة، فلما أخبر الله تعالى موسى بما وقع، رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، وباقي الآية بين، وقد تقدم قصصها مستوفى؛ وسمى العذاب غضبا من حيث هو عن الغضب.
وقرأ نافع، وعاصم: «بملكنا» بفتح الميم، وقرأ حمزة الكسائي: «بملكنا» بضمة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، وابن عامر: «بملكنا» بكسرة؛ فأما فتح الميم، فهو مصدر من ملك، والمعنى: ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب، ولا وفقنا له، بل غلبتنا أنفسنا.
وأما كسر الميم، فقد كثر استعماله فيما تحوزه اليد، ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان، ومعناها كمعنى التي قبلها، والمصدر مضاف في الوجهين إلى الفاعل.
وقولهم: { ولكنا حملنا أوزارا... } الآية؛ سموها أوزارا من حيث هي ثقيلة الأجرام، أو من حيث تأثموا في قذفها، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «حملنا» بفتح الحاء، والميم.
وقولهم: { فكذلك } أي: فكما قذفنا نحن، فكذلك أيضا ألقى السامري.
قال * ع *: وهذه الألفاظ تقتضى أن العجل لم يصغه، ثم أخبر تعالى عن فعل السامري بقوله: { فأخرج لهم عجلا } ومعنى قوله { جسدا } أي شخصا لا روح فيه، وقيل معناه، جسدا لا يتغذى، «والخوار»: صوت البقر.
قالت فرقة منهم ابن عباس: كان هذا العجل يخور ويمشي، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: { فقالوا } يعني: بني إسرائيل: { هذا إلهكم وإله موسى فنسي } موسى إلهه، وذهب يطلبه في غير موضعه، ويحتمل أن يكون قوله { فنسي } إخبارا من الله تعالى عن السامري؛ أي: فنسي السامري دينه، وطريق الحق، فالنسيان في التأويل الأول بمعنى الذهول، وفي الثاني بمعنى الترك.
* ت *: وعلى التأويل الأول عول البخاري: وهو الظاهر.
ولقولهم أيضا قبل ذلك:
اجعل لنا إلها
[الأعراف:138].
وقول هارون: { فاتبعوني } أي: إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه { وأطيعوا أمري } فيما ذكرته لكم؛ فقال بنو إسرائيل حين وعظهم هارون، وندبهم إلى الحق: { لن نبرح } عابدين لهذا الإله عاكفين عليه، أي: ملازمين له.
ويحتمل قوله: { ألا تتبعن } أي: ببني إسرائيل نحو جبل الطور، ويحتمل قوله: { ألا تتبعن } أي: ألا تسير بسيري، وعلى طريقتي في الإصلاح والتسديد.
وقوله: { يبنؤم } قالت فرقة: إن هارون لم يكن أخا موسى إلا من أمه.
قال * ع *: وهذا ضعيف. وقالت فرقة: كان شقيقه؛ وإنما دعاه بالأم استعطافا برحم الأم، وقول موسى: { فما خطبك يسمري } هو كما تقول: ما شأنك، وما أمرك، لكن لفظة الخطب تقتضى انتهارا؛ لأن الخطب مستعمل في المكاره، و { بصرت } بضم الصاد: من البصيرة، وقرأت فرقة بكسرها، فيحتمل أن يراد من البصيرة، ويحتمل من البصر.
وقرأ حمزة، والكسائي أي: «بما لم تبصروا» بالتاء من فوق، يريد موسى مع بني إسرائيل، والرسول هنا: هو جبريل عليه السلام والأثر: هو تراب تحت حافر فرسه.
وقوله: { فنبذتها } أي: على الحلي، فكان منها ما ترى، { وكذلك سولت لي نفسي } أي: وكما وقع وحدث قربت لي نفسي، وجعلت لي سؤلا وإربا حتى فعلته، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو بوحي، فعاقبه باجتهاد نفسه؛ بأن أبعده ونحاه عن الناس، وأمر بني إسرائيل باجتنابه، واجتناب قبيلته وألا يؤاكلوا ولا يناكحوا، ونحو هذا، وجعل له أن يقول مدة حياته: لا مساس، أي: لا مماسة، ولا إذاية.
وقرأ الجمهور: «لن تخلفه» بفتح اللام، أي: لن يقع فيه خلف، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «تخلفه» بكسر اللام، على معنى لن تستطيع الروغان، والحيدة عن موعد العذاب، ثم وبخه عليه السلام بقوله: { وانظر إلى إلهك... } الآية، و { ظلت } وظل معناه: أقام يفعل الشيء نهارا، ولكنها قد تستعمل في الدائب ليلا ونهارا، بمثابة طفق.
وقرأ ابن عباس وغيره: «لنحرقنه» بضم الراء وفتح النون؛ بمعنى لنبردنه بالمبرد، وقرأ نافع وغيره: «لنحرقنه» وهي قراءة تحتمل الحرق بالنار، وتحتمل بالمبرد. وفي مصحف ابن مسعود: «لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه» وهذه القراءة هي مع رواية من روى أن العجل صار لحما ودما، وعلى هذه الرواية يتركب أن يكون هناك حرق بنار، وإلا فإذا كان جمادا من ذهب ونحوه، فإنما هو حرق بمبرد، اللهم إلا أن تكون إذابة، ويكون النسف مستعارا، لتفريقه في اليم مذابا.
وقرأت فرقة: «لننسفنه» بكسر السين، وقرأت فرقة بضمها، والنسف: تفريق الريح الغبار، وكل ما هو مثله؛ كتفريق الغربال ونحوه، فهو نسف، و { اليم }: غمر الماء من بحر أو نهر، وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو يم، واللام في قوله { لنحرقنه } لام قسم، وقال مكي (رحمه الله تعالى): وأسند أن موسى عليه السلام كان مع السبعين في المناجات، وحينئذ وقع أمر العجل، وأن الله تعالى أعلم موسى بذلك، فكتمه موسى عنهم، وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل، فحينئذ أعلمهم.
قال * ع *: وهذه رواية ضعيفة، والجمهور على خلافها، وإنما تعجل موسى عليه السلام وحده فوقع أمر العجل، ثم جاء موسى، وصنع ما صنع بالعجل، ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل، وأن يطلعهم أيضا على أمر المناجات، فكان لموسى عليه السلام نهضتان، والله أعلم.
[20.99-104]
وقوله سبحانه: { كذلك نقص عليك } مخاطبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أي كما قصصنا عليك نبأ بني إسرائيل، كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق مدتك، والذكر: القرآن.
وقوله: { من أعرض عنه } يريد بالكفر به، و { زرقا } قالت فرقة معناه: يحشرون أول قيامهم سود الألوان، زرق العيون، فهو تشويه، ثم يعمون بعد ذلك، وهي مواطن.
وقالت فرقة: أراد زرق الألوان، وهي غاية في التشويه، لأنهم يجيئون كلون الرماد، و مهيع في كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق: { يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا } أي: يتخافت المجرمون بينهم، أي: يتسارون، والمعنى: أنهم لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم، قد عزب عنهم قدر مدة لبثهم.
واختلف الناس في ماذا، فقالت فرقة في دار الدنيا، ومدة العمر، وقالت فرقة في الأرض مدة البرزخ.
و { أمثلهم طريقة } معناه: أثبتهم نفسا يقول: إن لبثتم إلا يوما، أي: فهم في هذه المقالة يظنون أن هذا قدر لبثهم.
[20.105-110]
وقوله سبحانه: { ويسئلونك عن الجبال... } الآية، السائل: قيل: رجل من ثقيف، وقيل: السائل: جماعة من المؤمنين، وروي: أن الله تعالى يرسل على الجبال ريحا، فتدكدكها حتى تكون كالعهن المنفوش، ثم تتوالى عليها حتى تعيدها كالهباء المنبث، فذلك هو النسف.
والقاع: هو المستوي من الأرض، والصفصف: نحوه في المعنى. والأمت: ما يعتري الأرض من ارتفاع وانخفاض.
وقوله: { لا عوج له } يحتمل: أن يريد الإخبار به، أي: لا شك فيه، ولا يخالف وجوده خبره، ويحتمل: أن يريد لا محيد لأحد عن اتباع الداعي، والمشي نحو صوته، والخشوع: التطامن، والتواضع، وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء.
والهمس: الصوت الخفي الخافت، وهو تخافتهم بينهم، وكلامهم السر، ويحتمل أن يريد صوت الأقدام؛ وفي «البخاري»: { همسا }: صوت الأقدام، انتهى. ومن في قوله { إلا من أذن له الرحمن } يحتمل أن تكون للشافع، ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه.
[20.111]
وقوله تعالى: { وعنت الوجوه } معناه: ذلت، وخضعت، والعاني: الأسير؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في أمر النساء: «هن عوان عندكم» وهذه حالة الناس يوم القيامة.
قال * ص *: وعنت: من عنا يعنو: ذل، وخضع؛ قال أمية ابن أبي الصلت: [الطويل]
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
انتهى.
* ت *: وأحاديث الشفاعة قد استفاضت، وبلغت حد التواتر، ومن أعظمها شفاعة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى ففي «صحيح مسلم»، من حديث أبي سعيد الخدري قال: فيقول الله عز وجل:
" شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط، قد عادوا حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة "
وفيه:
" فيخرجون كاللؤلؤ، في رقابهم الخواتم، يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه... "
الحديث، وخرج أبو القاسم إسحاق، بن إبراهيم الختلي بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا فرغ الله تعالى من القضاء بين خلقه، أخرج كتابا من تحت العرش؛ أن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة، أو قال: مثلي أهل الجنة، قال: وأكبر ظني أنه قال: مثلي أهل الجنة، مكتوب بين أعينهم: عتقاء الله "
انتهى من «التذكرة».
{ وقد خاب من حمل ظلما } ، معنى خاب: لم ينجح، ولا ظفر بمطلوبه، والظلم يعم الشرك والمعاصي، وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم.
[20.112]
وقوله سبحانه: { ومن يعمل من الصلحت } معادل لقوله: { من حمل ظلما } والظلم. والهضم: هما متقاربان في المعنى، ولكن من حيث تناسقا في هذه الآية؛ ذهب قوم إلى تخصيص كل واحد منهما بمعنى، فقالوا: الظلم: أن تعظم عليه سيئاته، وتكثر أكثر مما يجب.
والهضم: أن ينقص من حسناته، ويبخسها.
وكلهم قرأ: «فلا يخاف» على الخبر غير ابن كثير؛ فإنه قرأ: «فلا يخف» على النهي.
[20.113-114]
{ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم } بحسب توقع البشر، وترجيهم { يتقون } الله، ويخشون عقابه؛ فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم، وما حذرهم من أليم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله: { أو يحدث لهم ذكرا }.
وقالت فرقة: معناه أو يكسبهم شرفا، ويبقى عليهم إيمانهم ذكرا صالحا في الغابرين.
وقوله تعالى: { ولا تعجل بالقرءان... } قالت فرقة: سببها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاف وقت تكليم جبريل له أن ينسى أول القرآن، فكان يقرأ قبل أن يستتم جبريل عليه السلام الوحي؛ فنزلت في ذلك، وهي على هذا في معنى قوله:
لا تحرك به لسانك لتعجل به
[القيامة:16].
وقيل غير هذا.
[20.115-117]
وقوله عز وجل: { ولقد عهدنا إلى ءادم من قبل فنسي... } الآية، العهد هنا بمعنى الوصية، والشيء الذي عهد إلى آدم عليه السلام هو ألا يقرب الشجرة.
* ت *: قال عياض: وأما قوله تعالى:
وعصى آدم ربه فغوى
[طه:121] أي: جهل، فإن الله تعالى أخبر بعذره بقوله: { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما } قيل: نسي، ولم ينو المخالفة؛ فلذلك قال تعالى: { ولم نجد له عزما } ، أي: قصدا للمخالفة.
* ت *: وقيل: غير هذا مما لا أرى ذكره هنا، ولله در ابن العربي حيث قال: يجب تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عما نسب إليهم الجهال. ولكن الباري سبحانه بحكمه النافذ، وقضائه السابق أسلم آدم إلى الأكل من الشجرة متعمدا للأكل، ناسيا للعهد، فقال في تعمده: { وعصى آدم } وقال في بيان عذره: { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي } فمتعلق العهد غير متعلق النسيان، وجاز للمولى أن يقول في عبده لحقه: عصى تثريبا، ويعود عليه بفضله فيقول: نسي تقريبا، ولا يجوز لأحد منا أن يطلق ذلك على آدم، أو يذكره إلا في تلاوة القرآن أو قول النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. من «الأحكام».
[20.118-119]
وقوله سبحانه: { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } المعنى: إن لك يا آدم في الجنة نعمة تامة، لا يصيبك جوع، ولا عري، ولا ظمأ، ولا بروز للشمس يؤذيك، وهو الضحاء.
[20.120-127]
وقوله: { فوسوس إليه } * ص *: عدي هنا ب «إلى» على معنى أنهى الوسوسة إليه، وفي «الأعراف» باللام، فقال أبو البقاء: لأنه بمعنى ذكر لهما. انتهى.
ثم أعلمهم سبحانه: أن من اتبع هداه فلا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وأن من أعرض عن ذكر الله، وكفر به؛ فإن له معيشة ضنكا، و«الضنك»: النكد الشاق من العيش والمنازل، ونحو ذلك.
وهل هذه المعيشة الضنك تكون في الدنيا، أو في البرزخ، أو في الآخرة؟ أقوال.
* ت *: ويحتمل في الجميع، قال القرطبي: قال أبو سعيد الخدري، وابن مسعود: ضنكا: عذاب القبر، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أتدرون فيمن نزلت هذه الآية: { فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: عذاب الكافر في القبر؛ والذي نفسي بيده، إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا وهي الحيات لكل حية تسعة رؤوس، ينفخن في جسمه، ويلسعنه ويخدشنه إلى يوم القيامة، ويحشر من قبره إلى موقفه أعمى "
انتهى من «التذكرة» فإن صح هذا الحديث، فلا نظر لأحد معه، وإن لم يصح، فالصواب حمل الآية على عمومها؛ والله أعلم.
قال الثعلبي: قال ابن عباس: { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } قال: أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا، أو يشقى في الآخرة. وفي لفظ آخر: «ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن...» الحديث، وعنه: من قرأ القرآن واتبع ما فيه، هداه الله تعالى من الضلالة ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب. انتهى.
وقوله سبحانه: «ونحشره يوم القيامة أعمى» قالت فرقة: وهو عمى البصر، وهذا هو الأوجه، وأما عمى البصيرة، فهو حاصل للكافر.
وقوله سبحانه: «كذلك أتتك آياتنا فنسيتها» النسيان هنا: هو الترك، ولا مدخل للذهول في هذا الموضع، و { تنسى } أيضا بمعنى: تترك في العذاب.
[20.128-133]
وقوله سبحانه: { أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون } المعنى: أفلم يبين لهم.
وقرأت فرقة: «نهد» بالنون، والمراد بالقرون المهلكين: عاد، وثمود، والطوائف التي كانت قريش تجوز على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره، ثم أعلم سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن العذاب كان يصير لهم لزاما لولا كلمة «سبقت من الله تعالى في تأخيره عنهم إلى أجل مسمى عنده، فتقدير الكلام. ولولا كلمة سبقت في التأخير، وأجل مسمى، لكان العذاب لزاما؛ كما تقول لكان حتما، أو واقعا، لكنه قدم وأخر؛ لتشابه رؤوس الآي.
واختلف في الأجل المسمى: هل هو يوم القيامة، أو موت كل واحد منهم، أو يوم بدر؟ وفي «صحيح البخاري»: أن يوم بدر هو: اللزام، وهو: البطشة الكبرى، يعني: وقع في البخاري من تفسير ابن مسعود، وليس هو من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم.
قال * ص *: و { لزاما }: إما مصدر، وإما بمعنى ملزم، وأجاز أبو البقاء: أن يكون جمع لازم، كقائم وقيام. انتهى.
ثم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، إنه كاهن، إنه كاذب إلى غير ذلك.
وقوله سبحانه: { وسبح بحمد ربك... } الآية، قال أكثر المفسرين: هذه إشارة إلى الصلوات الخمس؛ فقبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر، ومن آناء الليل العشاء، وأطراف النهار المغرب والظهر.
قال ابن العربي: والصحيح أن المغرب من طرف الليل، لا من طرف النهار. انتهى من «الأحكام».
وقالت فرقة: آناء الليل: المغرب والعشاء، وأطراف النهار: الظهر وحدها، ويحتمل اللفظ أن يراد به قول: سبحان الله وبحمده.
وقالت فرقة: في الآية: إشارة إلى نوافل، فمنها آناء الليل، ومنها قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر.
* ت *: ويتعذر على هذا التأويل قوله: { وقبل غروبها }؛ إذ ليس ذلك الوقت وقت نفل، على ما علم إلا أن يتأول ما قبل الغروب بما قبل صلاة العصر وفيه بعد.
قال * ص *: { بحمد ربك } في موضع الحال، أي: وأنت حامد. انتهى.
وقرأ الجمهور: { لعلك ترضى } بفتح التاء، أي: لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وهذه الآية تماثل قوله تعالى:
ولسوف يعطيك ربك فترضى
[الضحى:5].
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر؛ فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس يعني: الصبح، وقبل غروبها؛ فافعلوا ".
وفي الحديث الصحيح أيضا:
" من صلى البردين، دخل الجنة "
انتهى.
وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «ترضى» أي: لعلك تعطى ما يرضيك، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: بالاحتقار لشأن الكفرة، والإعراض عن أموالهم، وما في أيديهم من الدنيا؛ إذ ذلك منحسر عنهم صائر إلى خزي، والأزواج: الأنواع، فكأنه قال: إلى ما متعنا به أقواما منهم، وأصنافا.
وقوله: { زهرة الحيوة الدنيا } شبه سبحانه نعم هؤلاء الكفار بالزهر، وهو ما اصفر من النور، وقيل: الزهر: النور جملة؛ لأن الزهر له منظر، ثم يضمحل عن قرب، فكذلك مآل هؤلاء، ثم أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: أن ذلك إنما هو ليختبرهم به، ويجعله فتنة لهم وأمرا يجازون عليه أسوأ الجزاء؛ لفساد تقلبهم فيه.
* ص *: و { زهرة }: منصوب على الذم، أو مفعول ثان ل: { متعنا } مضمن معنى أعطينا. اه.
ورزق الله تعالى الذي أحله للمتقين من عباده، خير وأبقى، أي: رزق الدنيا خير ورزق الآخرة أبقى، وبين أنه خير من رزق الدنيا، ثم أمره سبحانه وتعالى بأن يأمر أهله بالصلاة، ويمتثلها معهم ويصطبر عليها ويلازمها، وتكفل هو تعالى برزقه لا إله إلا هو، وأخبره أن العاقبة للمتقين بنصره في الدنيا، ورحمته في الآخرة، وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عمومه: جميع أمته.
وروي: أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم، بادر إلى منزله، فدخله وهو يقول: { ولا تمدن عينيك... } الآية إلى قوله { وأبقى } ثم ينادي: الصلاة الصلاة رحمكم الله، ويصلي.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي هو ويتمثل بالآية.
قال الداوودي: وعن عبد الله بن سلام، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة، ثم قرأ: { وأمر أهلك بالصلوة } إلى قوله { للتقوى }. انتهى.
قال ابن عطاء الله في «التنوير» واعلم. أن هذه الآية علمت أهل الفهم عن الله تعالى كيف يطلبون رزقهم، فإذا توقفت عليهم أسباب المعيشة، أكثروا من الخدمة والموافقة، وقرعوا باب الرزق بمعاملة الرزاق - جل وعلا - ثم قال: وسمعت شيخنا أبا العباس المرسي رضي الله عنه يقول: والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق، واذكر رحمك الله هنا:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
[المنافقون:8].
ففي العز الذي أعز الله به المؤمن رفع همته إلى مولاه، وثقته به دون من سواه، واستحي من الله بعد أن كساك حلة الإيمان، وزينك بزينة العرفان؛ أن تستولي عليك الغفلة والنسيان؛ حتى تميل إلى الأكوان، أو تطلب من غيره تعالى وجود إحسان، ثم قال: ورفع الهمة عن الخلق: هو ميزان ذوي الكمال ومسبار الرجال، كما توزن الذوات كذلك توزن الأحوال والصفات. انتهى.
ومن كتاب «صفوة التصوف» لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ حديث بسنده عن ابن عمر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، حدثني حديثا، واجعله موجزا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" صل صلاة مودع، كأنك تراه، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك، وايأس مما في أيدي الناس، تعش غنيا، وإياك وما يعتذر منه "
ورواه أبو أيوب الأنصاري بمثله عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
{ وقالوا لولا يأتينا } محمد { بآية من ربه } أي: بعلامة مما اقترحناها عليه، ثم وبخهم سبحانه بقوله: { أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } أي: ما في التوراة، وغيرها، ففيها أعظم شاهد، وأكبر، آية له سبحانه.
[20.134-135]
قوله سبحانه: { ولو أنا أهلكنهم بعذاب من قبله... } أي: من قبل إرسالنا إليهم محمدا، { لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا... } الآية، وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير: فيقول المغلوب على عقله: رب، لم تجعل لي عقلا، ويقول الصبي نحوه، ويقول الهالك في الفترة. رب، لم يرسل إلي رسولا، ولو جاءني، لكنت أطوع خلقك لك، قال: فترتفع لهم نار، ويقال لهم: ردوها، فيردها من كان في علم الله أنه سعيد ويكع عنها الشقي، فيقول الله تعالى: إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم ".
قال (ع): أما الصبي، والمغلوب على عقله، فبين أمرهما، وأما صاحب الفترة، فليس ككفار قريش قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن كفار قريش، وغيرهم ممن علم وسمع نبوة ورسالة في أقطار الأرض، ليس بصاحب فترة، وقد، قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل:
" أبي وأبوك في النار "
ورأى صلى الله عليه وسلم، عمرو بن لحي في النار إلى غير هذا مما يطول ذكره، وإنما صاحب الفترة يفرض أنه آدمي لم يطرأ إليه أن الله تعالى بعث رسولا، ولا دعا إلى دين، وهذا قليل الوجود إلا أن يشذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران.
* ت *: والصحيح في هذا الباب: «أن أولاد المشركين في الجنة، وأما أولاد المسلمين ففي الجنة من غير شك» متفق عليه.
وقد أسند أبو عمر في «التمهيد» من طريق أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" سألت ربي في اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم فأعطانيهم "
قال أبو عمر إنما قيل للأطفال: اللاهون؛ لأن أعمالهم كاللهو، واللعب من غير عقد، ولا عزم، ثم أسند أبو عمر، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أولاد المشركين خدم أهل الجنة ".
قال أبو عمر، وروى شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وأبو عوانة، عن قتادة، عن أبي سراية العجلي، عن سلمان قال: أطفال المشركين خدم أهل الجنة.
وذكر البخاري حديث الرؤيا الطويل، وفيه:
" وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم عليه السلام وأما الولدان حوله، فكل مولود يولد على الفطرة، قال: فقيل: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين "
، وفي رواية:
" والصبيان حوله أولاد الناس "
وظاهره العموم في جميع أولاد الناس. انتهى من التمهيد والذل، والخزي مقترنان بعذاب الآخرة.
وقوله: { قل كل } أي: منا ومنكم { متربص } والتربص: التأني، والصراط: الطريق، وهذا وعيد بين؛ والله الموفق، والهادي إلى الرشاد بفضله.
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1]
قوله عز وجل: { اقترب للناس حسبهم... } الآية: روي أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبني جدارا، فمر به آخر يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل اليوم { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } فنفض يديه من البنيان، وقال: والله لا بنيت، قال أبو بكر بن العربي: قال لي شيخي: في العبادة لا يذهب لك الزمان؛ في مصاولة الأقران؛ ومواصلة الإخوان، ولم أر للخلاص شيئا أقرب من طريقين. إما أن يغلق الإنسان على نفسه بابه، وإما أن يخرج إلى موضع لا يعرف فيه، فإن اضطر إلى مخالطة الناس، فليكن معهم ببدنه، ويفارقهم بقلبه ولسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، ولا يفارق السكوت. قال القرطبي: ولأبي سليمان الخطابي في هذا المعنى: [الوافر]
أنست بوحدتي ولزمت بيتي
فدام الأنس لي ونما السرور
وأدبني الزمان فلا أبالي
بأني لا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما دمت حيا
أسار الجيش أم ركب الأمير
انتهى من «التذكرة».
وقوله: { اقترب للناس حسابهم } عام في جميع الناس، وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش؛ ويدل على ذلك ما يأتي بعد من الآيات.
قال * ص *: اقترب: بمعني الفعل المجرد وهو قرب، وقيل: اقترب أبلغ: للزيادة { وهم في غفلة } الواو للحال، انتهى.
وقوله: { وهم في غفلة معرضون } يريد: الكفار، ويأخذ عصاة المؤمنين من هذه الألفاظ قسطهم.
* ت *: أيها الأخ أشعر قلبك مهابة ربك، فإليه مآلك؛ وتأهب للقدوم عليه؛ فقد، أن ارتحالك؛ أنت في سكرة لذاتك؛ وغشية شهواتك؛ وإغماء غفلاتك؛ ومقراض الفناء يعمل في ثوب حياتك؛ ويفصل أجزاء عمرك جزءا جزءا في سائر ساعاتك؛ كل نفس من أنفاسك جزء منفصل من جملة ذاتك وبذهاب الأجزاء تذهب الجمل، أنت جملة تؤخذ، آحادها وأبعاضها، إلى أن تستوفي سائرها عساكر الأقضية، والأقدار محدقة بأسوار الأعمار؛ تهدمها بمعاول الليل والنهار؛ فلو أضاء لنا مصباح الاعتبار؛ لم يبق لنا في جميع أوقاتنا سكون ولا قرار. انتهى من «الكلم الفارقية والحكم الحقيقة».
[21.2-5]
وقوله: { ما يأتيهم من ذكر } وما بعده مختص بالكفار، والذكر: القرآن، ومعناه محدث نزوله، لا هو في نفسه.
وقوله: { وهم يلعبون } جملة في موضع الحال، أي: استماعهم في حال لعب؛ فهو غير نافع، ولا واصل إلى النفس.
وقوله { لاهية } حال بعد حال، واختلف النحاة في إعراب قوله: { وأسروا النجوى الذين ظلموا } فمذهب سيبويه (رحمه الله تعالى): أن الضمير في { أسروا }: فاعل، وأن { الذين } بدل منه، وقال: ليس في القرآن لغة من قال: أكلوني البراغيث، ومعنى: { أسروا النجوى } تكلموا بينهم في السر، ومناجات بعضهم لبعض.
وقال أبو عبيدة: أسروا: أظهروا، وهو من الأضداد، ثم بين تعالى الأمر الذي تناجوا به، وهو قول بعضهم لبعض على جهة التوبيخ بزعمهم: { أفتأتون السحر }؛ المعنى: أفتتبعون السحر وأنتم تبصرون، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقول لهم وللناس جميعا: قل { ربي يعلم القول في السماء والأرض } أي: يعلم أقوالكم هذه، وهو بالمرصاد في المجازاة عليها، ثم عدد سبحانه جميع ما قالته طوائفهم ووقع الاضراب بكل مقالة عن المتقدمة لها؛ ليبين اضطراب أمرهم فقال تعالى: { بل قالوا أضغاث أحلم بل افتراه بل هو شاعر } والأضغاث: الأخلاط، ثم حكى سبحانه اقتراحهم، آية تضطرهم؛ كناقة صالح وغيرها، وقولهم: { كمآ أرسل الأولون } دال على معرفتهم بإتيان الرسل الأمم المتقدمة.
[21.6-7]
وقوله سبحانه: { ما ءامنت قبلهم } فيه محذوف يدل عليه المعنى تقديره: والآية التي طلبوها عادتنا أن القوم إن كفروا بها عاجلناهم، وما آمنت قبلهم قرية من القرى التي نزلت بها هذه النازلة، أفهذه كانت تؤمن؟.
وقوله: { أهلكنها } جملة في موضع الصفة ل { قرية } والجمل: إذا اتبعت النكرات؛ فهي صفات لها، وإذا اتبعت المعارف؛ فهي أحوال منها.
وقوله سبحانه: { ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } هذه الآية رد على من استبعد منهم أن يبعث الله بشرا رسولا و { الذكر } هو كل ما يأتي من تذكير الله عباده، فأهل القرآن أهل ذكر، وأما المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا خصومهم، وإنما أحيلوا على سؤال أحبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لكفار قريش على ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
[21.8-12]
وقوله سبحانه: { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } قيل: الجسد من الأحياء: ما لا يتغذى، وقيل: الجسد يعم المتغذي من الأجسام وغير المتغذي ف { جعلناهم جسدا } على التأويل الأول: منفي، وعلى الثاني: موجب، والنفي واقع على صفته.
وقوله سبحانه: { ثم صدقنهم الوعد } الآية، هذه آية وعيد.
وقوله: { ومن نشاء } يعني من المؤمنين، و { المسرفين }: الكفار، ثم وبخهم تعالى بقوله: { لقد أنزلنا إليكم كتبا } يعني: القرآن، { فيه ذكركم } ، أي: شرفكم، آخر الدهر، وفي هذا تحريض لهم، ثم أكد التحريض بقوله: { أفلا تعقلون } و { كم } للتكثير، و { قصمنا } معناه: أهلكنا، وأصل القصم: الكسر في الأجرام، فإذا استعير للقوم والقرية ونحو ذلك فهو ما يشبه الكسر وهو إهلاكهم، و { أنشأنا } ، أي: خلقنا وبثثنا أمة أخرى غير المهلكة.
وقوله: { فلما أحسوا } وصف عن حال قرية من القرى المجملة أولا ؛ قيل: كانت باليمن تسمى «حضور»، بعث الله تعالى إلى أهلها رسولا فقتلوه، فأرسل الله تعالى عليهم بختنصر صاحب بني إسرائيل فهزموا جيشه مرتين، فنهض في الثالثة بنفسه، فلما هزمهم، وأخذ القتل فيهم ركضوا هاربين، ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها، وأن هذا وصف حال كل قرية من القرى المعذبة إذا أحسوا العذاب؛ من أي نوع كان، أخذوا في الفرار و { أحسوا } باشروه بالحواس.
* ص *: { إذا هم منها يركضون } «إذا» الفجائية، وهي وما بعدها جواب لما. انتهى.
[21.13-16]
وقوله: { لا تركضوا } يحتمل على الرواية المتقدمة أن يكون من قول رجال بختنصر على جهة الخداع والاستهزاء بهم، فلما انصرفوا راجعين أمر بختنصر أن ينادي فيهم: يا ثارات النبي المقتول، فقتلوا بالسيف عن آخرهم.
قال * ع *: وهذا كله مروي، ويحتمل أن يكون: { لا تركضوا } إلى آخر الآية. من كلام ملائكة العذاب على جهة الهزء بهم.
وقوله: { حصيدا } أي: بالعذاب كحصيد الزرع بالمنجل، و { خمدين } أي: موتى مشبهين بالنار إذا طفئت، ثم وعظ سبحانه السامعين بقوله: { وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما لاعبين }.
[21.17-20]
وقوله سبحانه: { لو أردنآ أن نتخذ لهوا } الآية: ظاهر الآية: الرد على من قال من الكفار في أمر مريم - عليها السلام -، وما ضارعه من الكفر تعالى الله عن قول المبطلين و «إن» في قوله: { إن كنا فاعلين } يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون نافية بمعنى: ما كنا فاعلين، وكل هذا قد قيل، و «الحق» عام في القرآن والرسالة والشرع، وكل ما هو حق، { فيدمغه } معناه: يصيب دماغه، وذلك مهلك في البشر؛ فكذلك الحق يهلك الباطل، و { الويل }: الخزي.
وقيل: هو اسم واد في جهنم، وأنه المراد في هذه الآية، وهذه مخاطبة للكفار الذين وصفوا الله عز وجل بما لا يجوز عليه تعالى الله عن قولهم.
وقوله { ومن عنده... } الآية: عند هنا ليست في المسافات وإنما هي تشريف في المنزلة، { ولا يستحسرون } أي لا يكلون، والحسير من الإبل: المعيي.
وقوله: { لا يفترون } وفي «الترمذي» عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إني أرى مالا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله "
الحديث قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، وفي الباب عن عائشة، وابن عباس، وأنس، انتهى من أصل الترمذي، أعني: جامعه.
[21.21-26]
وقوله سبحانه: { أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون } ، أي: يحيون غيرهم، ثم بين تعالى أمر التمانع بقوله: { لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا } وقد تقدم إيضاح ذلك عند قوله تعالى:
إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا
[الإسراء:42].
وقوله: { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } يحتمل أن يريد بالإشارة بقوله: { هذا } إلى جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها أنها تبين أن الله الخالق واحد لا شريك له، ويحتمل أن يريد بقوله: { هذا } القرآن والمعنى: فيه نبأ الأولين والآخرين فنص أخبار الأولين، وذكر الغيوب في أمورهم، حسبما هي في الكتب المتقدمة، وذكر الآخرين بالدعوة. وبيان الشرع لهم، ثم حكم عليهم سبحانه بأن أكثرهم لا يعلمون الحق، لإعراضهم عنه، وليس المعنى: فهم معرضون؛ لأنهم لا يعلمون؛ بل المعنى: فهم معرضون، ولذلك لا يعلمون الحق، وباقي الآية بين، ثم بين سبحانه نوعا آخر من كفرهم بقوله: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا } الآية؛ كقول بعضهم: اتخذ الملائكة بناتا، وكما قالت النصارى في عيسى ابن مريم، واليهود في عزير.
وقوله سبحانه: { بل عباد مكرمون } عبارة تشمل الملائكة وعيسى وعزير. وقال * ص *: بل إضراب عن نسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. و { عباد } خبر مبتدإ محذوف أي هم عباد قاله أبو البقاء انتهى.
[21.27-33]
وقوله سبحانه وتعالى: { لا يسبقونه بالقول } عبارة عن حسن طاعتهم ومراعاتهم لامتثال الأمر، ثم أخبر تعالى: أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله أن يشفع له، قال بعض المفسرين: لأهل لا إله إلا الله، والمشفق: المبالغ في الخوف، المحترق النفس من الفزع على أمر ما.
وقوله سبحانه: { ومن يقل منهم إني إله من دونه... } الآية, المعنى: ومن يقل منهم كذا أن لو قاله، وليس منهم من قال هذا، وقال بعض المفسرين: المراد بقوله: { ومن يقل... } الآية: إبليس، وهذا ضعيف؛ لأن إبليس لم يرو قط أنه ادعى الربوبية، ثم وقفهم سبحانه على عبرة دالة على وحدانيته جلت قدرته، فقال: { أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا } ، والرتق: الملتصق بعضه ببعض، الذي لا صدع فيه ولا فتح، ومنه: امرأة رتقاء، واختلف في معنى قوله: { كانتا رتقا ففتقناهما } فقالت فرقة: كانت السماء ملتصقة بالأرض ففتقها الله بالهواء، وقالت فرقة: كانت السموات ملتصقة بعضها ببعض، والأرض كذلك ففتقهما الله سبعا سبعا؛ فعلى هذين القولين فالرؤية الموقف عليها رؤية قلب، وقالت فرقة: السماء قبل المطر رتق، والأرض قبل النبات رتق ففتقهما الله تعالى بالمطر والنبات؛ كما قال تعالى:
والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع
[الطارق:11، 12].
وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين، ويناسب قوله تعالى: { وجعلنا من المآء كل شيء حي } ، أي: من الماء الذي كان عن الفتق، فيظهر معنى الآية، ويتوجه الاعتبار بها، وقالت فرقة: السماء والأرض رتق بالظلمة ففتقهما الله بالضوء؛ والرؤية على هذين القولين رؤية العين، وباقي الآية بين.
قال * ص *: قال الزجاج: السموات جمع أريد به الواحد؛ ولذا قال: { كانتا رتقا }. وقال الحوفي: «قال: { كانتا } والسموات جمع -: لأنه أراد الصنفين» انتهى.
وقوله: { سقفا محفوظا } الحفظ هنا عام في الحفظ من الشيطان، ومن الوهي والسقوط، وغير ذلك من الآفات، والفلك: الجسم الدائر دورة اليوم والليلة. و { يسبحون } معناه: يتصرفون، وقالت فرقة: الفلك موج مكفوف، قوله: { يسبحون } من السباحة وهي: العوم.
[21.34-35]
وقوله عز وجل: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد... } الآية، وتقدير الكلام: أفهم الخالدون إن مت؟!
وقوله سبحانه: { كل نفس ذائقة الموت... } الآية: موعظة بليغة لمن وفق؛ قال أبو نعيم: كان الثوري (رضي الله عنه) إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياما. انتهى. من «التذكرة» للقرطبي.
قال عبد الحق في «العاقبة»، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الموت، وأعاد القول فيه؛ تهويلا لأمره، وتعظيما لشأنه، ثم قال : واعلم أن كثرة ذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي.
قال الحسن ما رأيت عاملا قط إلا وجدته حذرا من الموت, حزينا من أجله، ثم قال: واعلم: أن طول الأمل يكسل عن العمل، ويورث التواني، ويخلد إلى الأرض، ويميل إلى الهوى، وهذا أمر قد شوهد بالعيان؛ فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطالب صاحبه بالبرهان؛ كما أن قصره يبعث على العمل، ويحمل على المبادرة، ويحث على المسابقة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنا النذير والموت المغير، والساعة الموعد "
ذكره القاضي أبو الحسن بن صخر في الفوائد. انتهى.
{ ونبلوكم } معناه: نختبركم، وقدم { الشر } على لفظة { الخير }؛ لأن العرب من عادتها أن تقدم الأقل والأزدى؛ ومنه قوله تعالى:
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات
[فاطر:32]. فبدأ تعالى في تقسيم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالظالم. و { فتنة } معناه: امتحانا.
[21.36-38]
وقوله تعالى: { وإذا رءاك الذين كفروا }: كأبي جهل وغيره، «وإن» بمعنى: «ما»، وفي الكلام حذف تقديره: يقولون: أهذا الذي؟
وقال * ص *: «إن»: نافية، والظاهر أنها وما دخلت عليه جواب إذا، انتهى.
قوله سبحانه: { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } روي: أن الآية نزلت حين أنكروا هذه اللفظة، وقالوا: ما نعرف الرحمن إلا في اليمامة، وظاهر الكلام: أن { الرحمن } قصد به العبارة عن الله عز وجل، ووصف سبحانه الإنسان الذي هو اسم جنس بأنه خلق من عجل، وهذا على جهة المبالغة؛ كما تقول للرجل البطال: أنت من لعب ولهو.
[21.39-50]
وقوله سبحانه: { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار... } الآية: حذف جواب «لو»؛ إيجازا لدلالة الكلام عليه، وتقدير المحذوف: لما استعجلوا، ونحوه، وذكر الوجوه؛ لشرفها من الإنسان، ثم ذكر الظهور؛ ليبين عموم النار لجميع أبدانهم، والضمير في قوله: { بل تأتيهم بغتة }: للساعة التي تصيرهم إلى العذاب، ويحتمل أن يكون للنار، و { ينظرون } معناه: يؤخرن، و { حاق } معناه: حل ونزل، و { يكلؤكم } ، أي: يحفظكم.
وقوله سبحانه: { ولا هم منا يصحبون } يحتمل تأويلين:
أحدهما: يجارون ويمنعون.
والآخر: ولا هم منا يصحبون بخير وتزكية ونحو هذا.
وقوله سبحانه: { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها.. } الآية { نأتي الأرض } معناه: بالقدرة، ونقص الأرض: إما أن يريد بتخريب المعمور، وإما بموت البشر.
وقال قوم: النقص من الأطراف: موت العلماء، ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم متوعدا لهؤلاء الكفرة بقوله: { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك... } الآية، والنفحة: الخطرة والمسة، والمعنى: ولئن مستهم صدمة عذاب ليندمن، وليقرن بظلمهم، وباقي الآية بين.
وقال الثعلبي: { نفحة } ، أي: طرف؛ قاله ابن عباس، انتهى.
وقوله سبحانه: { ليوم القيمة } قال أبو حيان: اللام للظرفية بمعنى «في» انتهى.
قال القرطبي في «تذكرته»: قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، واختلف في الميزان والحوض: أيهما قبل الآخر، قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل الميزان، وذهب صاحب «القوت» وغيره إلى: أن حوض النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بعد الصراط.
قال القرطبي: والصحيح: «أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين، وكلاهما يسمى كوثرا، وأن الحوض الذي ذاد عنه من بدل وغير يكون في الموقف قبل الصراط، وكذا حياض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - تكون في الموقف؛ على ما ورد في ذلك من الأخبار» انتهى.
والفرقان الذي أوتي موسى وهارون قيل: التوراة، وهي الضياء والذكر.
وقالت فرقة: الفرقان: هو ما رزقهما الله تعالى من نصر وظهور على فرعون وغير ذلك، والضياء: التوراة، والذكر: بمعنى التذكرة.
وقوله سبحانه: { وهذا ذكر مبارك } يعني: القرآن، ثم وقفهم سبحانه؛ تقريرا وتوبيخا: هل يصح لهم إنكار بركته وما فيه من الدعاء إلى الله تعالى وإلى صالح العمل؟.
[21.51-56]
وقوله سبحانه: { ولقد ءاتينا إبرهيم رشده... } الآية. الرشد عام، أي: في جميع المراشد وأنواع الخيرات.
وقال الثعلبي: { رشده } ، أي: توفيقه، وقيل: صلاحه, انتهى.
وقوله: { وكنا به عالمين }: مدح لإبراهيم عليه السلام، أي: عالمين بما هل له؛ وهذا نحو قوله تعالى:
الله أعلم حيث يجعل رسالته
[الأنعام:124] والتماثيل: الأصنام.
[21.57-58]
وقوله: { وتالله لأكيدن أصنمكم... } الآية. روي: أنه حضرهم عيد لهم، فعزم قوم منهم على إبراهيم في حضوره؛ طمعا منهم أن يستحسن شيئا من أحوالهم، فمشى معهم، فلما كان في الطريق ثنى عزمه على التخلف عنهم، فقعد، وقال لهم: إني سقيم، فمر به جمهورهم، ثم قال في خلوة من نفسه: { وتالله لأكيدن أصنمكم } فسمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس.
وقوله: { بعد أن تولوا مدبرين } معناه: إلى عيدكم، ثم انصرف إبراهيم عليه السلام إلى بيت أصنامهم فدخله، ومعه قدوم، فوجد الأصنام قد وقفت، أكبرها أول، ثم الذي يليه فالذي يليه، وقد جعلوا أطعمتهم في ذلك اليوم بين يدي الأصنام؛ تبركا لينصرفوا من ذلك العيد إلى أكله، فجعل عليه السلام يقطعها بتلك القدوم، ويهشمها حتى أفسد أشكالها، حاشا الكبير؛ فإنه تركه بحاله وعلق القدوم في يده، وخرج عنها، و { جذاذا }: معناه: قطعا صغارا، والجذ: القطع، والضمير في { إليه } أظهر ما فيه أنه عائد على إبراهيم، أي: فعل هذا كله؛ ترجيا منه أن يعقب ذلك منهم رجعة إليه وإلى شرعه، ويحتمل أن يعود على كبيرهم.
[21.59-63]
وقوله سبحانه: { قالوا من فعل هذا... } الآية. المعنى: فانصرفوا من عيدهم فرأوا ما حدث بآلهتهم، ف { قالوا من فعل هذا بآلهتنا }؟ و { قالوا } الثاني: الضمير فيه للقوم الضعفة الذين سمعوا قول إبراهيم: { تالله لأكيدن أصنمكم }.
وقوله: { على أعين الناس } يريد في الحفل، وبمحضر الجمهور، وقوله: { يشهدون }: يحتمل أن يريد: الشهادة. عليه بفعله، أو بقوله: { لأكيدن } ، ويحتمل أن يريد به: المشاهدة، أي: يشاهدون عقوبته أو غلبته المؤدية إلى عقوبته، وقوله عليه السلام: { بل فعله كبيرهم هذا } على معنى الاحتجاج عليهم، أي: إنه غار من أن يعبد هو وتعبد الصغار معه، ففعل هذا بها لذلك؛ وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات: قوله: { إني سقيم } [الصافات:89]، وقوله: { بل فعله كبيرهم هذا } ، وقوله للملك: هي أختي "
وكانت مقالاته هذه في ذات الله، وذهبت فرقة إلى أن معنى الحديث: لم يكذب إبراهيم، أي: لم يقل كلاما ظاهره الكذب أو يشبه الكذب،، وذهب الفراء إلى جهة أخرى في التأويل بأن قال: قوله: فعله ليس من الفعل، وإنما هو فعله على جهة التوقع، حذف اللام على قولهم: عله بمعنى: لعله، ثم خففت اللام.
قال * ع *: وهذا تكلف.
قلت: قال عياض: واعلم، (أكرمك الله) أن هذه الكلمات كلها خارجة عن الكذب، لا في القصد ولا في غيره، وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، فأما قوله: { بل فعله كبيرهم هذا } فإنه علق خبره بشرط النطق، كأنه قال: إن كان ينطق فهو فعله؛ على طريق التبكيت لقومه. انتهى.
ثم ذكر بقية التوجيه وهو واضح لا نطيل بشرده.
[21.64-70]
وقوله سبحانه: { فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون } ، أي: في توقيف هذا الرجل على هذا الفعل وأنتم معكم من تسألون ثم رأوا ببديهة العقل أن الأصنام لا تنطق، فقالوا لإبراهيم حين نكسوا في حيرتهم: { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } ، فوجد إبراهيم عليه السلام عند هذه المقالة موضع الحجة ووقفهم مويبخا لهم بقوله: { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا... } الآية. ثم حقر شأنهم وشأنها بقوله: { أف لكم ولما تعبدون من دون الله... } الآية.
* ص *: وقولهم: { لقد علمت }: جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال، أي: قائلين، لقد علمت. انتهى.
وقال الثعلبي: { فرجعوا إلى أنفسهم } ، أي: تفكروا بعقولهم فقالوا: ما نراه إلا كما قال، إنكم أنتم الظالمون في عبادتكم الأصنام الصغار مع هذا الكبير. اه.
وما قدمناه عن * ع * هو الأوجه و { أف } لفظة تقال عند المستقذرات من الأشياء، ويستعار ذلك للمستقبح من المعاني، ثم أخذتهم العزة بالإثم وانصرفوا إلى طريق الغلبة والغشم، فقالوا: { حرقوه }؛ روي: أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس، أي: من باديتها، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وروي: أنه لما أجمع رأيهم على تحريقه حبسه نمرود الملك (لعنه الله) وأمر بجمع الحطب حتى اجتمع منه ما شاء الله، ثم أضرم نارا فيما أرادوا طرح إبراهيم فيها لم يقدروا على القرب منها، فجاءهم إبليس في صورة شيخ فقال لهم: أنا أصنع لكم آلة يلقى بها، فعلمهم صنعة المنجنيق، ثم أخرج إبراهيم عليه السلام فشد رباطا ووضع في كفة المنجنيق ورمي به, فتلقاه جبريل - عليه السلام - في الهواء فقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى.
قلت: قال ابن عطاء الله في «التنوير»: وكن أيها الأخ إبراهيميا؛ إذ زج به في المنجنيق، فتعرض له جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى ربي، فبلى، قال: فاسأله. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فانظر كيف رفع همته عن الخلق، ووجهها إلى الملك الحق، فلم يستغث بجبريل، ولا احتال على السؤال، بل رأى ربه تعالى أقرب إليه من جبريل ومن سؤاله؛ فلذلك سلمه من نمرود ونكاله، وأنعم عليه بنواله وأفضاله. انتهى.
وقوله سبحانه: { قلنا ينار كوني بردا وسلما } قال بعض العلماء فيما روي: إن الله تعالى لو لم يقل: { وسلما } لهلك إبراهيم من برد النار، وروي أنه لما وقع في النار سلمه الله، واحترق الحبل الذي ربط به، وقد أكثر الناس في قصصه فاختصرناه؛ لعدم صحة أكثره، وروي: أن إبراهيم عليه السلام كان له بسط وطعام في تلك النار كل ذلك من الجنة، وروي: أن العيدان أينعت وأثمرت له هناك ثمارها، وروي: أنهم قالوا: إن هذه نار مسحورة، لا تحرق، فرموا فيها شيخا منهم فاحترق،، والله أعلم بما كان من ذلك.
قلت: قال صاحب «غاية المغنم في اسم الله الأعظم» وهو من الأئمة المحدثين، وعن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: إنه يكتب للمحموم ويعلق عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، با الله يا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، { ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين } ، اللهم رب جبريل وميكائيل اشف حاملها بحولك وقوتك وجبروتك يا أرحم الراحمين» انتهى.
وقوله: { وسلما } معناه: وسلامة، و«الكيد»: هو ما أرادوه من حرقه.
[21.71-76]
وقوله سبحانه: { ونجينه ولوطا... } الآية. روي أن إبراهيم عليه السلام لما خرج من النار أحضره نمرود، وقال له في بعض قوله: يا إبراهيم، أين جنود ربك الذي تزعم؟ فقال له عليه السلام: سيريك فعل أضعف جنوده، فبعث الله تعالى على نمرود وأصحابه سحابة من بعوض فأكلتهم عن آخرهم ودوابهم حتى كانت العظام تلوح بيضاء، ودخلت منها بعوضة في رأس نمرود، فكان رأسه يضرب بالعيدان وغيرها، ثم هلك منها، وخرج إبراهيم وابن أخيه لوط - عليهما السلام - من تلك الأرض مهاجرين، وهي «كوثى» من العراق، ومع إبراهيم بنت عمه، سارة زوجته، وفي تلك السفرة لقي الجبار الذي رام أخذها منه، واختلف في الأرض التي بورك فيها ونحا إليها إبراهيم ولوط - عليهما السلام -، فقالت فرقة: هي مكة، وقال الجمهور: هي الشام، فنزل إبراهيم بالسبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالموتكفة، «والنافلة»: العطية، وباقي الآية بين، وخبائث قرية لوط هي إتيان الذكور، وتضارطهم في مجالسهم، إلى غير ذلك من قبيح أفعالهم.
[21.77-84]
وقوله سبحانه في نوح عليه السلام: { ونصرنه من القوم... } الآية، لما كان جل نصرته النجاة، وكانت غلبة قومه بأمر أجنبي منه حسن أن يقول: «نصرناه من»، ولا تتمكن هنا «على».
قال * ص *: عدي «نصرناه» ب «من»؛ لتضمنه معنى: نجينا، وعصمنا، ومنعنا. وقال أبو عبيدة: «من» بمعنى «على».
قلت: وهذا أولى، وأما الأول ففيه نظر؛ لأن تلك الألفاظ المقدمة كلها غير مرادفة ل «نصرنا»، انتهى.
قلت: وكذا يظهر من كلام ابن هشام: ترجيح الثاني، وذكر هؤلاء الأنبياء - عليهم السلام - ضرب مثل لقصة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه، ونجاة الأنبياء، وهلاك مكذبيهم ضمنها توعد لكفار قريش.
وقوله تعالى: { وداود وسليمن } المعنى: واذكر داود وسليمان، هكذا قدره جماعة من المفسرين، ويحتمل أن يكون المعنى: وآتينا داود، «والنفش»: هو الرعي ليلا، ومضى الحكم في الإسلام بتضمين أرباب النعم ما أفسدت بالليل؛ لأن على أهلها أن يثقفوها، وعلى أهل الزروع حفظها بالنهار، هذا هو مقتضى الحديث في ناقة ابن عازب، وهو مذهب مالك وجمهور الأمة، وفي كتاب ابن سحنون: إن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة فيضمن أرباب النعم ما أفسدت بالليل والنهار.
قال * ص *: والضمير في قوله: { لحكمهم } يعود على الحاكمين والمحكوم له؛ وعليه أبو البقاء.
وقيل: الضمير لداود وسليمان - عليهما السلام - فقط، وجمع؛ لأن الاثنين جمع انتهى.
قال ابن العربي في «أحكامه»: المواشي على قسمين: ضوار، وغير ضوار، وهكذا قسمها مالك، فالضواري: هي المعتادة بأكل الزرع والثمار، فقال مالك: تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه، ورواه ابن القاسم في الكتاب وغيره.
قال ابن حبيب: وإن كره ذلك أربابها، وكان قول مالك في الدابة التي ضريت بفساد الزرع أن تغرب وتباع، وأما ما يستطاع الاحتراز منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه عن ملكه، وهذا بين. انتهى.
وقوله: { يسبحن } ، أي: يقلن: سبحان الله؛ هذا قول الأكثر، وذهبت فرقة منهم منذر بن سعيد إلى أنه بمعنى: يصلين معه بصلاته، واللبوس في اللغة: هو السلاح، فمنه الدرع وغيره.
قال * ص *: و { لبوس } معناه: ملبوس؛ كالركوب بمعنى المركوب؛ قال الشاعر [الطويل].
عليها أسود ضاريات لبوسهم
سوابع بيض لا تخرقها النبل
{ ولسليمن الريح } ، أي: وسخرنا لسليمان الريح، هذا على قراءة النصب وقرأت فرقة «الريح» بالرفع، ويروى أن الريح العاصفة كانت تهب على سرير سليمان الذي فيه بساطه، وقد مد حول البساط بالخشب والألواح حتى صنع سريرا يحمل جميع عسكره وأقواته، فتقله من الأرض في الهواء، ثم تتولاه الريح الرخاء بعد ذلك فتحمله إلى حيث أراد سليمان.
قال * ص *: والعصف: الشدة، والرخاء: اللين. انتهى.
وقوله تعالى: { إلى الأرض التي بركنا فيها } اختلف فيها، فقالت فرقة: هي الشام، وكانت مسكنه وموضع ملكه، وقد قال بعضهم: إن العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدواب في الإسراع إلى الوطن، وإن الرخاء كانت في البدأة حيث أصاب، أي: حيث يقصد؛ لأن ذلك وقت تأن وتدبير وتقلب رأي، ويحتمل: أن يريد الأرض التي يسير إليها سليمان كائنة ما كانت، وذلك أنه لم يكن يسير إلى أرض إلا أصلحها الله تعالى به صلى الله عليه وسلم، ولا بركة أعظم من هذا، والغوص: الدخول في الماء والأرض، والعمل دون ذلك البنيان وغيره من الصنائع والخدمة ونحوها، { وكنا لهم حفظين } قيل: معناه: من إفسادهم ما صنعوه، وقيل: غير هذا.
قلت: وقوله سبحانه: { وأنت أرحم الرحمين } هذا الاسم المبارك مناسب لحال أيوب عليه السلام، وقد روى أسامة بن زيد (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن لله تعالى ملكا موكلا بمن يقول: يا أرحم الراحمين، فمن قالها ثلاثا، قال له الملك: إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك؛ فاسأل "
رواه الحكام في «المستدرك»، وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال:
" مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل، وهو يقول: يا أرحم الراحمين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل؛ فقد نظر الله إليك "
رواه الحاكم، انتهى من «السلاح». وفي قصص أيوب عليه السلام طول واختلاف، وتلخيص بعض ذلك: أن أيوب عليه السلام أصابه الله تعالى بأكلة في بدنه، فلما عظمت، وتقطع بدنه، أخرجه الناس من بينهم، ولم يبق معه غير زوجته، ويقال: كانت بنت يوسف الصديق عليه السلام قيل: اسمها رحمة، وقيل في أيوب: إنه من بني إسرائيل وقيل: إنه من «الروم» من قرية «عيصو»، فكانت زوجته تسعى عليه، وتأتيه بما يأكل، وتقوم عليه، ودام عليه ضره مدة طويلة، وروي أن أيوب (عليه السلام) لم يزل صابرا شاكرا، لا يدعو في كشف ما به، حتى إن الدودة تسقط منه فيردها، فمر به قوم كانوا يعادونه فسمتوا به؛ فحينئذ دعا ربه سبحانه فاستجاب له، وكانت امرأته غائبة عنه في بعض شأنها، فأنبع الله تعالى له عينا، وأمر بالشرب منها فبرىء باطنه، وأمر بالاغتسال فبرىء ظاهره، ورد إلى أفضل جماله، وأوتي بأحسن ثياب، وهب عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحتفن منه في ثوبه، فناداه ربه سبحانه وتعالى: «يا أيوب ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك» فبينما هو كذلك إذ جاءت امرأته، فلم تره في الموضع، فجزعت وظنت أنه أزيل عنه، فجعلت تتوله رضي الله عنها، فقال لها: ما شأنك أيتها المرأة؟ فهابته؛ لحسن هيئته، وقالت: إني فقدت مريضا لي في هذا الموضع، ومعالم المكان قد تغيرت، وتأملته في أثناء المقاولة فرأت أيوب، فقالت له: أنت أيوب؟ فقال لها: نعم، واعتنقها، وبكى، فروي أنه لم يفارقها حتى أراه الله جميع ماله حاضرا بين يديه.
واختلف الناس في أهله وولده الذين آتاه الله، فقيل: كان ذلك كله في الدنيا فرد الله عليه ولده بأعيانهم، وجعل مثلهم له عدة في الآخرة، وقيل: بل أوتي جميع ذلك في الدنيا من أهل ومال.
* ت *: وقد قدم * ع * في صدر القصة: إن الله سبحانه أذن لإبليس (لعنه الله) في إهلاك مال أيوب، وفي إهلاك بنيه وقرابته، ففعل ذلك أجمع، والله أعلم بصحة ذلك، ولو صح لوجب تأويله.
وقوله سبحانه: { وذكرى للعبدين } ، أي: وتذكرة وموعظة للمؤمنين، ولا يعبد الله إلا مؤمن.
[21.85-88]
وقوله سبحانه: { وإسمعيل وإدريس } المعنى: واذكر إسماعيل، وقوله سبحانه: { وذا النون إذ ذهب مغضبا } التقدير واذكر ذا النون، قال السهيلي: لما ذكر الله تعالى يونس هنا في معرض الثناء، قال: { وذا النون } ، وقال في الآية الأخرى:
ولا تكن كصاحب الحوت
[القلم:48] والمعنى واحد، ولكن بين اللفظين تفاوت كثير في حسن الإشارة إلى الحالتين، وتنزيل الكلام في الموضعين والإضافة بذي أشرف من الإضافة بصاحب؛ لأن قولك: ذو يضاف بها إلى التابع، وصاحب يضاف بها إلى المتبوع، انتهى.
والنون: الحوت، والصاحب: يونس بن متى عليه السلام وهو نبي من أهل نينوى.
وقوله: { مغضبا } قيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم. وتعنتهم، فذهب فارا بنفسه، وقد كان الله تعالى أمره بملازمتهم والصبر على دعائهم، فكان ذلك ذنبه، أي: في خروجه عن قومه بغير إذن ربه.
قال عياض: والصحيح في قوله تعالى: { إذ ذهب مغضبا» أنه مغاضب لقومه؛ لكفرهم، وهو قول ابن عباس، والضحاك وغيرهما، لا لربه؛ إذ مغاضبة الله تعالى معاداة له، ومعاداة الله كفر لا يليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء - عليهم السلام -؟! وفرار يونس عليه السلام خشية تكذيب قومه بما وعدهم به من العذاب.
وقوله سبحانه: { فظن أن لن نقدر عليه } معناه: أن لن نضيق عليه، وقيل: معناه: نقدر عليه ما أصابه، وقد قرىء { نقدر } عليه بالتشديد، وذلك، كما قيل لحسن ظنه بربه: أنه لا يقضى عليه بعقوبة، وقال عياض في موضع آخر: وليس في قصة يونس عليه السلام نص على ذنب، وإنما فيها أبق وذهب مغاضبا، وقد تكلمنا عليه، وقيل: إنما نقم الله - تعالى - عليه خروجه عن قومه من نزول العذاب. وقيل: بل لما وعدهم العذاب، ثم عفا الله عنهم، قال: والله لا ألقاهم بوجه كذاب أبدا، وهذا كله ليس فيه نص على معصية. انتهى.
وقوله سبحانه: { فظن أن لن نقدر عليه }. قالت فرقة: معناه: أن لن نضيف عليه في مذهبه؛ من قوله تعالى:
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر
[الرعد:26]، وقرأ الزهري: «نقدر» بضم النون، وفتح القاف، وشد الدال، ونحوه عن الحسن.
وروي: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر.
وقوله: { إني كنت من الظلمين }: يريد فيما خالف فيه من ترك ملازمة قومه والصبر عليهم، وهذا أحسن الوجوه، فاستجاب الله له.
* ت * وليس في هذه الكلمة ما يدل أنه اعترف بذنب، كما أشار إليه بعضهم، وفي الحديث الصحيح:
" دعوة أخي ذي النون، في بطن الحوت: { لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظلمين } ، ما دعا بها عبد مؤمن أو قال: مسلم ، إلا استجيب له "
الحديث. انتهى. وعن سعد ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }
" أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برىء وقد غفر الله له جميع ذنوبه "
أخرجه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «السلاح».
وذكر صاحب «السلاح» أيضا عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" دعوة ذي النون، إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين؛ فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له "
رواه الترمذي، واللفظ له, والنسائي والحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإسناد، وزاد فيه من طريق آخر:
" فقال رجل: يا رسول الله، هل كانت ليونس خاصة، أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسمع إلى قول الله عز وجل: { ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } "
انتهى.
والغم: ما كان ناله حين التقمه الحوت.
[21.89-91]
وقوله سبحانه: { وزكريا إذ نادى ربه... } الآية تقدم أمر زكرياء.
وقوله سبحانه: { وأصلحنا له زوجه } قيل: بأن جعلت ممن تحمل وهي عاقر قاعد، وعموم اللفظ يتناول جميع الإصلاح.
وقوله تعالى: { ويدعوننا رغبا ورهبا } المعنى: أنهم يدعون في وقت تعبداتهم، وهم بحال رغبة ورجاء، ورهبة وخوف في حال واحدة؛ لأن الرغبة والرهبة متلازمان،، والخشوع: التذلل بالبدن المتركب على التذلل بالقلب.
قال القشيري في «رسالته» سئل الجنيد عن الخشوع فقال: تذلل القلوب لعلام الغيوب، قال سهل بن عبد الله: من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان انتهى.
وقوله سبحانه: { والتي أحصنت فرجها } المعنى: واذكر التي أحصنت فرجها، وهي الجارحة المعروفة، هذا قول الجمهور، وفي أحصانها هو المدح، وقالت فرقة: الفرج هنا هو فرج ثوبها الذي منه نفخ الملك. وهذا قول ضعيف، وقد تقدم أمرها.
* ت * وعكس (رحمه الله) في سورة التحريم النقل، فقال: قال الجمهور: هو فرج الدرع.
[21.92-95]
وقوله تعالى: { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } يحتمل أن يكون منقطعا خطابا لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر عن الناس أنهم تقطعوا، ثم وعد وأوعد، ويحتمل أن يكون متصلا بقصة مريم وابنها - عليهما السلام -.
* ص *: أبو البقاء: { وتقطعوا أمرهم } أي، في أمرهم، يريد أنه منصوب على إسقاط حرف الجر.
وقيل: عدي بنفسه؛ لأنه بمعنى قطعوا، أي فرقوا، انتهى.
وقال البخاري: { أمتكم أمة واحدة } ، أي : دينكم دين واحد. انتهى.
وقرأ جمهور السبعة: «وحرام»، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «وحرم» بكسر الحاء وسكون الراء وهما مصدران بمعنى، فأما معنى الآية، فقالت فرقة: حرام وحرم معناه: جزم وحتم، فالمعنى: وحتم على قرية أهلكناها، أنهم لا يرجعون إلى الدنيا فيتوبون ويستعتبون، بل هم صائرون إلى العقاب.
وقالت طائفة: حرام وحرم، أي: ممتنع.
[21.96]
وقوله سبحانه: { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون... } الآية, تحتمل «حتى» في هذه الآية أن تتعلق ب { يرجعون } ، وتحتمل أن تكون حرف ابتداء، وهو الأظهر بسبب «إذا»؛ لأنها تقتضي جوابا، واختلف هنا في الجواب، والذي أقول به: أن الجواب في قوله { فإذا هي شاخصة } وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره.
قال * ص *: قال أبو البقاء: { حتى إذا } متعلقة في المعنى ب { حرام } أي: يستمر الامتناع إلى هذا الوقت، ولا عمل لها في «إذا». انتهى.
وقرأ الجمهور: «فتحت» بتخفيف التاء، وقرأ ابن عامر وحده «فتحت» بالتشديد، وروي أن يأجوج ومأجوج يشرفون في كل يوم على الفتح، فيقولون: غدا نفتح، ولا يردون المشيئة إلى الله تعالى، فإذا كان غد وجدوا الردم كأوله حتى إذا أذن الله تعالى في فتحه، قال قائلهم: غدا نفتحه إن شاء الله تعالى، فيجدونه كما تركوه قريب الانفتاح فيفتحونه حينئذ.
* ت * وقد تقدم في «سورة الكهف» كثير من أخبار يأجوج ومأجوج فأغنانا عن إعادته، وهذه عادتنا في هذا المختصر أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم به، ويجعله لنا نورا بين أيدينا، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والحدب: كل مسنم من الأرض، كالجبل والظرب والكدية، والقبر ونحوه.
وقالت فرقة: المراد بقوله: { وهم } يأجوج ومأجوج، يعني أنهم يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويملؤون الأرض من كثرتهم.
وقالت فرقة: المراد بقوله: «وهم» جميع العالم، وإنما هو تعريف بالبعث من القبور.
وقرأ ابن مسعود: «وهم من كل جدث» بالجيم والثاء المثلثة، وهذه القراءة تؤيد هذا التأويل، و { ينسلون }: معناه: يسرعون في تطامن، وأسند الطبري عن أبي سعيد قال:
" يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحدا إلا قتلوه، إلا أهل الحصون، فيمرون على بحيرة طبرية فيمر آخرهم فيقول: كان هنا مرة ماء، قال فيبعث الله عليهم النغف حتى تكسر أعناقهم، فيقول أهل الحصون: لقد هلك أعداء الله، فيدلون رجلا ينظر، فيجدهم قد هلكوا، قال: فينزل الله من السماء ماء فيقذف بهم في البحر، فيظهر الله الأرض منهم "
وفي حديث حذيفة نحو هذا، وفي آخره قال: وعند ذلك طلوع الشمس من مغربها.
[21.97-101]
وقوله سبحانه: { واقترب الوعد الحق } يريد يوم القيامة.
وقوله: { فإذا هي }: مذهب سيبويه أنها ضمير القصة، وجوز الفراء أن تكون ضمير الإبصار، تقدمت؛ لدلالة الكلام، ومجيء ما يفسرها، والشخوص بالبصر إحداد النظر دون أن يطرف، وذلك يعترى من الخوف المفرط ونحوه، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم... } الآية: هذه الآية مخاطبة لكفار مكة، أي: إنكم وأصنامكم حصب جهنم، والحصب: ما توقد به النار؛ إما لأنها تحصب به، أي: ترمى، وإما أن يكون لغة في الحطب إذا رمي، وإما قبل أن يرمى فلا يسمى حصبا إلا بتجوز، وحرق الأصنام بالنار على جهة التوبيخ لعابديها، ومن حيث تقع «ما» لمن يعقل في بعض المواضع، اعترض في هذه الآية عبد الله بن الزبعري على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عيسى وعزيرا ونحوهما قد عبدا من دون الله، فيلزم أن يكونوا حصبا لجهنم؛ فنزلت: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } الآية. والوردو في هذه الآية: ورود الدخول، والزفير: صوت المعذب، وهو كنهيق الحمير وشبهه إلا أنه من الصدر.
[21.102-105]
وقوله سبحانه: { لا يسمعون حسيسها } هذه صفة الذين سبقت لهم الحسنى، وذلك بعد دخولهم الجنة؛ لأن الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا جثا على ركبتيه، قال البخاري: الحسيس والحس: واحد، وهو الصوت الخفي، انتهى. والفزع الأكبر عام في كل هول يكون يوم القيامة، فكأن يوم القيامة بجملته هو الفزع الأكبر.
وقوله سبحانه: { وتتلقاهم الملائكة } يريد : بالسلام عليهم والتبشير لهم، أي: هذا يومكم الذي وعدتم فيه الثواب والنعيم، و { السجل } في قول فرقة: هو الصحيفة التي يكتب فيها، والمعنى: كما يطوى السجل من أجل الكتاب الذي فيه، فالمصدر مضاف إلى المفعول؛ وهكذا قال البخاري: السجل: الصحيفة، انتهى، وما خرجه أبو داود في «مراسيله» من أن السجل: اسم رجل من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال السهيلي فيه: هذا غير معروف. انتهى.
وقوله سبحانه: { كما بدأنآ أول خلق نعيده } يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون خبرا عن البعث، أي كما اخترعنا الخلق أولا على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى، فنبعثهم من القبور.
والثاني أن يكون خبرا عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا؛ { كما بدأنآ أول خلق نعيده } ".
وقوله: { كما بدأنآ } الكاف متعلقة بقوله: { نعيده } ، وقالت فرقة: { الزبور } هنا يعم جميع الكتب المنزلة؛ لأنه مأخوذ من: زبرت الكتاب إذا كتبته، و { الذكر } أراد به اللوح المحفوظ، وقالت فرقة: { الزبور } هو زبور داود عليه السلام، و { الذكر }: التوراة.
وقالت فرقة: { الزبور }: ما بعد التوراة من الكتب، و { الذكر }: التوراة.
وقالت فرقة: { الأرض } هنا: أرض الدنيا، أي: كل ما يناله المؤمنون من الأرض، وقالت فرقة: أراد أرض الجنة، واستشهدوا بقوله تعالى:
وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء
[الزمر:74].
[21.106-112]
وقوله سبحانه: { إن في هذا لبلاغا }: الإشارة ب «هذا» إلى هذه الآيات المتقدمة في قول فرقة.
وقالت فرقة: الإشارة إلى القرآن بجملته، والعبادة تتضمن الإيمان.
وقوله سبحانه: { ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين }: قالت فرقة: هو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين عموما أما للمؤمنين فواضح، وأما للكافرين فلأن الله تعالى رفع عنهم ما كان يصيب الأمم والقرون السابقة قبلهم من التعجيل بأنواع العذاب المستأصلة؛ كالطوفان وغيره.
وقوله { آذنتكم } معناه: عرفتكم بنذارتي، وأردت أن تشاركوني في معرفة ما عندي من الخوف عليكم من الله تعالى، وقال البخاري: { آذنتكم }: أعلمتكم ، فإذا أعلمتهم فأنت وهم على سواء، انتهى، ثم أخبر أنه لا يعرف تعيين وقت لعقابهم، هل هو قريب أم بعيد؟ وهذا أهول وأخوف.
قال * ص *: { وإن أدري } بمعنى: ما أدري، انتهى. والضمير في قوله: { لعله } عائد على الإملاء لهم، و { فتنة } معناه: إمتحان وابتلاء، وال { متاع }: ما يستمتع به مدة الحياة الدنيا، ثم أمره تعالى أن يقول على جهة الدعاء: { رب احكم بالحق } وهذا دعاء فيه توعد، ثم توكل في آخر الآية واستعان بالله تعالى؛ قال الداوودي: وعن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شهد قتالا قال: { رب احكم بالحق }. انتهى.
[22 - سورة الحج]
[22.1-2]
قوله عز وجل: { يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } الزلزلة: التحريك العنيف، وذلك مع نفخة الفزع، ومع نفخة الصعق؛ حسبما تضمنه حديث أبي هريرة من ثلاث نفخات، والجمهور على أن «زلزلة الساعة» هي كالمعهودة في الدنيا إلا أنها في غاية الشدة، واختلف المفسرون في الزلزلة المذكورة، هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم؟ فقال الجمهور: هي في الدنيا، والضمير في { ترونها } عائد عندهم على الزلزلة، وقوى قولهم أن الرضاع والحمل إنما هو في الدنيا، وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة، والضمير عندهم عائد على الساعة، والذهول: الغفلة عن الشيء بطريان ما يشغل عنه من هم أوجع أو غيره؛ قال ابن زيد: المعنى: تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.
قلت: وخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحدا إلى الجنة، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد "
الحديث. انتهى.
وهذا الحديث نص صريح في أنه يوم القيامة، وانظر قوله:
يوما يجعل الولدان شيبا
[المزمل :17]، وقوله:
وإذا العشار عطلت
[التكوير:4] تجده موافقا للحديث، وجاء في حديث أبي هريرة فيما ذكره علي بن معبد:
" أن نفخة الفزع تمتد، وأن ذلك يوم الجمعة في النصف من شهر رمضان، فيسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، ثم تكون سرابا، ثم ترتج الأرض بأهلها رجا، وتضع الحوامل ما في بطونها، ويشيب الولدان، ويولي الناس مدبرين، ثم ينظرون إلى السماء، فإذا هي كالمهل، ثم انشقت "
، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" والموتى لا يعلمون شيئا من ذلك، قلت: يا رسول الله، فمن استثنى الله عز وجل حين يقول: { ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله }؟ قال: أولئك هم الشهداء "
انتهى مختصرا، وهذا الحديث ذكره الطبري، والثعلبي، وصححه ابن العربي في «سراج المريدين».
وقال عبد الحق: بل هو حديث منقطع، لا يصح، والذي عليه المحققون أن هذه الأهوال هي بعد البعث، قاله صاحب «التذكرة» وغيره، انتهى.
والحمل: - بفتح الحاء - ما كان في بطن أو على رأس شجرة.
وقوله سبحانه: { وترى الناس سكرى } تشبيها لهم، أي: من الهم، ثم نفي عنهم السكر الحقيقي الذي هو من الخمر، قاله الحسن وغيره، وقرأ حمزة والكسائي: «سكرى» في الموضعين.
قال سيبويه: وقوم يقولون: سكرى جعلو مثل مرضى، ثم جعلوا: روبى مثل سكرى، وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب.
[22.3-4]
وقوله سبحانه: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد }.
قال ابن جريج: هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف، وقيل في أبي جهل بن هشام، ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة، ومجادلتهم في أن الله تعالى لا يبعث من يموت، والشيطان هنا هو مغويهم من الجن، ويحتمل من الأنس، والمريد: المتجرد من الخير للشر، ومنه الأمرد، وشجرة مرداء، أي: عارية من الورق، وصرح ممرد، أي: مملس، والضمير في { عليه } عائد على الشيطان؛ قاله قتادة، ويحتمل أن يعود على المجادل، وأنه في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله، و «أنه» الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها، وقيل: هي مكررة للتأكيد فقط، وهذا معترض بأن الشيء لا يؤكد إلا بعد تمامه، وتمام «أن» الأولى إنما هو بصلتها في قوله: { السعير } وكذلك لا يعطف عليه، ولسيبويه في مثل هذا: أنه بدل، وقيل: «أنه» الثانية خبر مبتدإ محذوف تقديره: فشأنه أنه يضله.
قال * ع *: ويظهر لي أن الضمير في { أنه } الأولى للشيطان، وفي الثانية لمن الذي هو المتولي، وقرأ أبو عمرو: «فإنه» بالكسر فيهما.
[22.5-7]
وقوله عز وجل: { يأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث... } الآية: هذا احتجاج على العالم بالبدأة الأولى، وضرب سبحانه وتعالى في هذه الآية مثلين، إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور، ثم ورد الشرع بوقوع ذلك.
وقوله: { فإنا خلقناكم من تراب } يريد آدم عليه السلام.
{ ثم من نطفة } يريد: المني والنطفة: تقع على قليل الماء وكثيره.
{ ثم من علقة } يريد: من الدم الذي تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة، والعلق الدم الغليظ، وقيل: العلق الشديد الحمرة.
{ ثم من مضغة } يريد مضغة لحم على قدر ما يمضغ.
وقوله: { مخلقة } معناه: متممة، { وغير مخلقة } غير متممة، أي: التي تسقط، قاله مجاهد وغيره، فاللفظة بناء مبالغة من خلق، ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة، وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل؛ لأن فيه خلقا كثيرا.
وقوله سبحانه: { لنبين لكم } قالت فرقة: معناه أمر البعث، { ونقر } أي: ونحن نقر في الأرحام، والأجل المسمى مختلف بحسب حين حين، فثم من يسقط، وثم من يكمل أمره ويخرج حيا.
وقوله سبحانه: { ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } قد تقدم بيان هذه المعاني، والرد اإلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانة، واختلال العقل والقوة، فهذا مثال واحد يقتضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل، المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل، إلى حالها الأولى.
وقوله عز وجل: { وترى الأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعث الأجساد؛ وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين؛ فكذلك الأجساد، و { هامدة }: معناه: ساكنة دارسة بالية، واهتزاز الأرض: هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء، { وربت }: معناه: نشزت وارتفعت؛ ومنه الربوة وهي المكان المرتفع، والزوج: النوع، والبهيج: من البهجة، وهي الحسن؛ قاله قتادة وغيره.
وقوله: { ذلك } إشارة إلى كل ما تقدم ذكره، وباقي الآية بين.
[22.8-10]
وقوله سبحانه: { ومن الناس من يجدل في الله بغير علم... } الآية, الإشارة بقوله: { ومن الناس } إلى القوم الذين تقدم ذكرهم، وكرر هذه الآية؛ على جهة التوبيخ فكأنه يقول: فهذه الأمثال في غاية الوضوح، ومن الناس مع ذلك من يجادل، و { ثاني }: حال من الضمير في { يجدل }.
وقوله: { ثاني عطفه }: عبارة عن المتكبر المعرض؛ قاله ابن عباس وغيره؛ وذلك أن صاحب الكبر يرد وجهه عمن يتكبر عنه، فهو يرد وجهه يصعر خده، ويولي صفحته، ويلوي عنقه، ويثني عطفه، وهذه هي عبارات المفسرين، والعطف: الجانب.
وقوله تعالى: { ذلك بما قدمت يداك } أي: يقال له ذلك، واختلف في الوقف على: «يداك» فقيل: لا يجوز: لأن التقدير: وبأن الله، أي: أن هذا هو العدل فيك بجرائمك.
وقيل: يجوز بمعنى: والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد.
[22.11-18]
وقوله سبحانه: { ومن الناس من يعبد الله على حرف... } الآية نزلت في أعراب، وقوم لا يقين لهم؛ كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان: من نمو مال، وولد يرزقه، وغير ذلك قال: هذا دين جيد، وتمسك به لهذه المعاني، وإن كان الأمر بخلاف ذلك، تشاءم به، وارتد؛ كما فعل العرنيون، قال هذا المعنى ابن عباس وغيره.
وقوله: { على حرف } معناه: على انحراف منه عن العقيدة البيضاء، وقال البخاري: { على حرف }: على شك، ثم أسند عن ابن عباس ما تقدم من حال الأعراب، انتهى.
وقوله: { يدعوا من دون الله ما لا يضره } يريد الأوثان، ومعنى { يدعوا }: يعبد، ويدعو أيضا في ملماته ، واللام في قوله: { لمن ضره }: لام مؤذنة بمجيء القسم، والثانية في { لبئس }: لام القسم، و { العشير }: القريب المعاشر في الأمور.
وفي الحديث في شأن النساء:
" ويكفرن العشير "
يعني الزوج.
قال أبو عمر بن عبد البر: قال أهل اللغة: العشير: الخليط من المعاشرة والمخالطة، ومنه قوله عز وجل: { لبئس المولى ولبئس العشير }.
انتهى من «التمهيد»، والذي يظهر: أن المراد بالمولى والعشير هو الوثن الذي ضره أقرب من نفعه، وهو قول مجاهد، ثم عقب سبحانه بذكر حالة أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به فقال: { إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصلحت جنت تجري من تحتها الأنهر... } الآية، ثم أخذت الآية في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول: هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق، وظنوا أن الله تعالى لن ينصر محمدا وأتباعه، ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا، فمن ظن غير ذلك فليمدد بسبب، وهو الحبل وليختنق هل يذهب بذلك غيظه؟ قال هذا المعنى قتادة، وهذا على جهة المثل السائر في قولهم: «دونك الحبل فاختنق»، و { السماء } على هذا القول: الهواء علوا، فكأنه أراد سقفا أو شجرة، ولفظ البخاري: وقال ابن عباس: «بسبب إلى سقف البيت»، انتهى، والجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق.
قال الخليل: وقطع الرجل: إذا اختنق بحبل ونحوه، ثم ذكر الآية، ويحتمل المعنى من ظن أن محمدا لا ينصر فليمت كمدا؛ هو منصور لا محالة، فليختنق هذا الظان غيظا وكمدا، ويؤيد هذا: أن الطبري والنقاش قالا: ويقال: نزلت في نفر من بني أسد وغطفان، قالوا: نخاف ألا ينصر محمد؛ فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع، والمعنى الأول الذي قيل للعابدين على حرف ليس بهذا؛ ولكنه بمعنى: من قلق واستبطأ النصر، وظن أن محمدا لا ينصر فليختنق سفاهة؛ إذ تعدى الأمر الذي حد له في الصبر وانتظار صنع الله، وقال مجاهد: الضمير في { ينصره } عائد على { من } والمعنى: من كان من المتقلقين من المؤمنين،، وما في قوله: { ما يغيظ } بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون مصدرية حرفا؛ فلا عائد عليها، وأبين الوجوه في الآية: التأويل الأول وباقي الآية بين.
وقوله: { وكثير من الناس } ، أي: ساجدون مرحومون بسجودهم، وقوله: { وكثير حق عليه العذاب } معادل له، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد هذا: { ومن يهن الله فما له من مكرم } الآية.
[22.19-22]
وقوله سبحانه: { هذان خصمان اختصموا في ربهم... } الآية، نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر، وهم ستة نفر: حمزة، وعلي، وعبيدة ابن الحارث (رضي الله عنهم) برزوا لعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وشيبة بن ربيعة، قال علي بن أبي طالب: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا القول ووقع في «صحيح البخاري» (رحمه الله تعالى): أن الآية فيهم، وقال ابن عباس: الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب؛ وذلك أنه وقع بينهم تخاصم، فقالت اليهود: نحن أقدم دينا منكم، ونحو هذا؛ فنزلت الآية، وقال مجاهد وجماعة: الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم.
قال * ع *: وهذا قول تعضده الآية؛ وذلك أنه تقدم قوله: { وكثير من الناس } المعنى: هم مؤمنون ساجدون، ثم قال تعالى: { وكثير حق عليه العذاب } ، ثم أشار إلى هذين الصنفين بقوله: { هذان خصمان } والمعنى: أن الإيمان وأهله، والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى يوم القيامة بالعداوة والجدال والحرب، وخصم مصدر يوصف به الواحد والجمع، ويدل على أنه أراد الجمع قوله: { اختصموا }؛ فإنه قراءة الجمهور وقرأ ابن أبي عبلة: «اختصما».
* ت *: وهذه التأويلات متفقات في المعنى، وقد ورد أن أول ما يقضى به بين الناس يوم القيامة في الدماء، ومن المعلوم أن أول مبارزة وقعت في الإسلام مبارزة علي وأصحابه، فلا جرم كانت أول خصومة وحكومة يوم القيامة؛ وفي «صحيح مسلم» عنه صلى الله عليه وسلم:
" نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة؛ المقضي لهم قبل الخلائق "
وفي رواية:
" المقضي بينهم ".
وقوله: { في ربهم } أي: في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل في رضى ربهم وفي ذاته.
وقال * ص *: { في ربهم } أي: في دين ربهم، انتهى، ثم بين سبحانه حكم الفريقين، فتوعد تعالى الكفار بعذابه الأليم، و { قطعت } معناه جعلت لهم بتقدير كما يفصل الثوب، وروي: أنها من نحاس، و { يصهر } معناه: يذاب، وقيل: معناه: ينضج؛ قيل: إن الحميم بحرارته يهبط كل ما في الجوف ويكشطه، ويسلته، وقد روى أبو هريرة نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنه يسلته، ويبلغ به قدميه، ويذيبه ثم يعاد كما كان ".
وقوله سبحانه: { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } روي فيه: أن لهب النار إذا ارتفع رفعهم؛ فيصلون إلى أبواب النار، فيريدون الخروج، فتردهم الزبانية بمقامع الحديد، وهي المقارع.
[22.23-24]
وقوله سبحانه: { إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصلحت جنت... } الآية معادلة لقوله:
فالذين كفروا
[الحج:19] واللؤلؤ: الجوهر، وأخبر سبحانه: بأن لباسهم فيها حرير؛ لأنه من أكمل حالات الدنيا؛ قال ابن عباس: لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا إلا في الأسماء فقط، وأما الصفات فمتباينة، والطيب من القول: لا إله إلا الله وما جرى معها من ذكر الله وتسبيحه، وتقديسه، وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب؛ فإنها لا تسمع فيها لاغية، و { صرط الحميد } هو طريق الله الذي دعا عباده إليه، ويحتمل أن يريد بالحميد نفس الطريق، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله: { دار الآخرة } ، وقال البخاري: { وهدوا إلى الطيب }: أي: ألهموا إلى قراءة القرآن، { وهدوا إلى صرط الحميد }: أي: إلى الإسلام، انتهى.
[22.25-29]
وقوله سبحانه: { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } هذه الآية نزلت عام الحديبية حين صد النبي صلى الله عليه وسلم وجاء { يصدون } مستقبلا؛ اذ هو فعل يديمونه، وخبر { إن } محذوف مقدر عند قوله: و { الباد }: تقديره: خسروا أو هلكوا. و { العكف }: المقيم في البلد، و «البادي»: القادم عليه من غيره.
وقوله: { بإلحاد } قال أبو عبيدة: الباء فيه زائدة.
* ت * قال ابن العربي في «أحكامه»: وجعل الباء زائدة لا يحتاج إليه في سبيل العربية؛ لأن حمل المعنى على القول أولى من حمله على الحروف، فيقال: المعنى ومن يهم فيه بميل، لأن الإلحاد هو الميل في اللغة إلا أنه قد صار في عرف الشرع ميلا مذموما، فرفع الله الإشكال، وبين سبحانه أن الميل بالظلم هو المراد هنا، انتهى.
قال * ع *: والإلحاد الميل وهو يشمل جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم.
قال * ص *: وقوله: { أن لا تشرك }: أن: مفسرة لقول مقدر، أي: قائلين له، أو موحين له: لا تشرك، وفي التقدير الأول نظر فانظره، انتهى.
وقوله تعالى: { وطهر بيتي للطائفين والقائمين... } الآية: تطهير البيت عام في الكفر، والبدع، وجميع الأنجاس، والدماء، وغير ذلك، { والقائمين }: هم المصلون، وخص سبحانه بالذكر من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود، وروي: «أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما أمر بالأذان بالحج قال: يا رب، وإذا أذنت، فمن يسمعني؟ فقيل له: ناد يا إبراهيم، فعليك النداء وعلينا البلاغ؛ فصعد على أبي قبيس، وقيل: على حجر المقام، ونادى: أيها الناس، إن الله تعالى قد أمرهم بحج هذا البيت؛ فحجوا، فروي أن يوم نادى أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال، وأجابه كل شيء في ذلك الوقت: من جماد، وغيره: لبيك اللهم لبيك؛ فجرت التلبية على ذلك» قاله ابن عباس، وابن جبير،، و { رجالا }: جمع راجل، وال { ضامر }: قالت فرقة: أراد بها الناقة؛ وذلك أنه يقال: ناقة ضامر، وقالت فرقة: لفظ «ضامر» يشمل كل من اتصف بذلك من جمل، أو ناقة، وغير ذلك.
قال * ع *: وهذا هو الأظهر، وفي تقديم { رجالا } تفضيل للمشاة في الحج؛ وإليه نحا ابن عباس.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { يأتين } رد الضمير إلى الإبل؛ تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال تعالى:
والعديت ضبحا
[العاديات:1].
في خيل الجهاد؛ تكرمة لها حين سعت في سبيل الله، انتهى.
والفج: الطريق الواسعة، والعميق: معناه: البعيد؛ قال الشاعر [الطويل]:
إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة
يمد بها في السير أشعث شاحب
وال { منفع } في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين، ابن عباس وغيره، وقال أبو جعفر محمد بن علي: أرادذ الأجر ومنافع الآخرة، وقال مجاهد بعموم الوجهين.
* ت * وأظهرها عندي قول أبي جعفر؛ يظهر ذلك من مقصد الآية، والله أعلم.
وقال ابن العربي: الصحيح: القول بالعموم، انتهى.
وقوله سبحانه: { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ذهب قوم إلى: أن المراد ذكر اسم الله على النحر والذبح، وقالوا: إن في ذكر الأيام دليلا على أن الذبح في الليل لا يجوز، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي.
وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه: الأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده.
وقوله: { فكلوا } ندب، واستحب أهل العلم أن يأكل الإنسان من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر، والبائس: الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها، والمراد أهل الحاجة، والتفث: ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه، وإزالة شعث ونحوه، { وليوفوا نذورهم }: وهو ما معهم من هدي وغيره، { وليطوفوا بالبيت العتيق }: يعني: طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج.
قال الطبري: ولا خلاف بين المتأولين في ذلك.
قال مالك: هو واجب، ويرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف الوداع؛ فإنه يجزيه عنه، ويحتمل أن تكون الإشارة بالآية إلى طواف الوداع، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: { وليطوفوا بالبيت العتيق } فقال: هو طواف الوداع؛ وقاله مالك في الموطإ، واختلف في وجه وصف البيت بالعتيق، فقال مجاهد وغيره: عتيق، أي: قديم.
وقال ابن الزبير: لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة.
وقيل: أعتقه من غرق الطوفان، وقيل غير هذا.
[22.30-31]
وقوله: { ذلك } يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك، ويحتمل أن يكون في محل نصب بتقدير: امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار، وأحسن الأشياء مضمرا أحسنها مظهرا؛ ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير: [البسيط]
هذا، وليس كمن يعيا بخطبته
وسط الندي إذا ما ناطق نطقا
والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج.
وقال ابن العربي في «أحكامه»: الحرمات امتثال ما أمر الله تعالى به، واجتناب ما نهى عنه؛ فإن للقسم الأول حرمة المبادرة إلى الامتثال، وللثاني حرمة الانكفاف والانزجار. انتهى.
وقوله: { فهو خير } ظاهر أنها ليست للتفضيل، وإنما هي عدة بخير، ويحتمل أن يجعل { خير } للتفضيل على تجوز في هذا الموضع.
* ص *: { فهو خير له } أي: فالتعظيم خير له، انتهى.
وقوله تعالى: { فاجتنبوا الرجس من الأوثن } يحتمل معنيين.
أحدهما: أن تكون «من» لبيان الجنس أي: الرجس الذي هو الأوثان؛ فيقع النهي عن رجس الأوثان فقط، وتبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع.
والمعنى الثاني: أن تكون «من» لابتداء الغاية فكأنه نهاهم سبحانه عن الرجس عموما، ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم؛ إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، ويظهر أن الإشارة إلى الذبائح التي كانت للأوثان فيكون هذا مما يتلى عليهم، والمروي عن ابن عباس وابن جريج: أن الآية نهي عن عبادة الأوثان، و { الزور } عام في الكذب والكفر؛ وذلك أن كل ما عدا الحق فهو كذب وباطل.
وقال ابن مسعود وغيره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" عدلت شهادة الزور بالشرك، وتلا هذه الآية "
والزور: مشتق من الزور، وهو الميل، ومنه في جانب فلان زور، ويظهر أن الإشارة إلى زور أقوالهم في تحريم وتحليل ما كانوا قد شرعوا في الأنعام، و { حنفاء } معناه مستقيمين أو مائلين إلى الحق، بحسب أن لفظة الحنف من الأضداد، تقع على الاستقامة، وتقع على الميل، والسحيق: البعيد.
[22.32-35]
وقوله سبحانه: { ذلك ومن يعظم شعئر الله } التقدير في هذا الموضع: الأمر ذلك، و { الشعائر } جمع شعيرة وهي كل شيء لله عز وجل فيه أمر أشعر به وأعلم.
قال الشيخ ابن أبي جمرة: { ومن يعظم شعئر الله فإنها من تقوى القلوب } قال تعظيم شعائر الله، كان من البقع أو من البشر أو ممن شاء الله تعالى زيادة في الإيمان وقوة في اليقين. انتهى.
وقال العراقي في أرجوزته: [الرجز]
أعلام طاعة هي الشعائر
.........................
البيت.
وقالت فرقة: قصد بالشعائر في هذه الآية الهدي والأنعام المشعرة، ومعنى تعظيمها التسمين والاهتبال بأمرها، قاله ابن عباس وغيره، ثم اختلف المتأولون في قوله سبحانه: { لكم فيها منفع... } الآية: فقال مجاهد وقتادة: أراد أن للناس في أنعامهم منافع من الصوف، واللبن، والذبح للأكل، وغير ذلك ما لم يبعثها ربها هديا، فإذا بعثها فهو الأجل المسمى، وقال عطاء: أراد لكم في الهدي المبعوث منافع، من الركوب، والاحتلاب لمن اضطر، والأجل نحرها، وتكون «ثم» من قوله: { ثم محلهآ إلى البيت العتيق } لترتيب المحل؛ لأن المحل قبل الأجل، ومعنى الكلام عند هذين الفريقين: ثم محلها إلى موضع النحر، وذكر البيت؛ لأنه أشرف الحرم، وهو المقصود بالهدي وغيره.
وقال ابن زيد، والحسن، وابن عمر، ومالك: الشعائر في هذه الآية: مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى، وعرفة، والمزدلفة، والصفا والمروة، والبيت وغير ذلك، وفي الآية التي تأتي أن البدن من الشعائر، والمنافع: التجارة وطلب الرزق أو الأجر والمغفرة، والأجل المسمى: الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة، ومحلها مأخوذ من إحلال المحرم، والمعنى: ثم أخروا هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق، فالبيت على هذا التأويل مراد بنفسه، قاله مالك في «الموطإ».
* ت * وأظهر هذه التأويلات عندي تأويل عطاء، وفي الثالث بعض تكلف، ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل أمة من الأمم المؤمنة منسكا، أي: موضع نسك وعبادة، هذا على أن المنسك ظرف، ويحتمل أن يريد به المصدر كأنه قال: عبادة، والناسك العابد.
وقال مجاهد: سنة في هراقة دماء الذبائح.
وقوله: { ليذكروا اسم الله } معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله، وأن يكون الذبح له؛ لأنه رازق ذلك، وقوله: { فله أسلموا } أي: آمنوا، ويحتمل أن يريد استسلموا، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر بشارة على الإطلاق، وهي أبلغ من المفسرة؛ لأنها مرسلة مع نهاية التخيل للمخبتين المتواضعين الخاشعين المؤمنين، والخبت ما انخفض من الأرض، والمخبت المتواضع الذي مشيه متطامن كأنه في حدور من الأرض، وقال عمرو بن أوس: المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.
قال * ع *: وهذا مثال شريف من خلق المؤمن الهين اللين، وقال مجاهد: هم المطمئنون بأمر الله تعالى، ووصفهم سبحانه بالخوف والوجل عند ذكر الله تعالى، وذلك لقوة يقينهم ومراقبتهم لربهم، وكأنهم بين يديه جل وعلا، ووصفهم بالصبر وبإقامة الصلاة وإدامتها، وروي: أن هذه الآية قوله: { وبشر المخبتين } نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (رضي الله عنهم أجمعين).
[22.36]
وقوله سبحانه: { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } البدن: جمع بدنة، وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة؛ قاله عطاء وغيره، وسميت بذلك؛ لأنها تبدن، أي: تسمن.
وقيل: بل هذا الاسم خاص بالإبل، والخير هنا قيل فيه ما قيل في المنافع التي تقدم ذكرها، والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
وقوله: { عليها } يريد عند نحرها، و { صوآف } ، أي: مصطفة، وقرأ ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم: «صوافن» جمع صافنة، وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل؛ لئلا تضطرب، ومنه في الخيل
الصافنات الجياد
[ص:31]، و«وجبت» معناه: سقطت.
وقوله: { فكلوا منها }: ندب، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه، وفيه أجر وامتثال؛ إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، وتحرير القول في { القانع }: أنه السائل و { والمعتر } المتعرض من غير سؤال؛ قاله الحسن ومجاهد وغيرهما، وعكست فرقة هذا القول، فحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: القانع: المستغني بما أعطيته، والمعتر: هو المتعرض, وحكي عنه أنه قال: القانع: المتعفف، والمعتر: السائل.
قال * ع *: يقال: قنع الرجل - بفتح النون - يقنع قنوعا فهو قانع إذا سأل؛ فالقانع: هو السائل بفتح النون في الماضي، وقنع - بكسر النون - يقنع قناعة فهو قنع إذا تعفف واستغنى ببلغته؛ قاله الخليل بن أحمد.
[22.37-39]
وقوله سبحانه: { لن ينال الله لحومها... } الاية: عبارة مبالغة، وهي بمعنى: لن ترفع عنده سبحانه، وتتحصل سبب ثواب، والمعنى: ولكن تنال الرفعة عنده، وتحصل الحسنة لديه بالتقوى.
وقوله تعالى: { لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين } روي: أن قوله: «وبشر المحسنين» نزلت في الخلفاء الأربعة حسبما تقدم في التي قبلها، وظاهر اللفظ العموم في كل محسن .
وقوله سبحانه: { إن الله يدافع عن الذين ءامنوا... } الآية، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: «يدفع»
ولولا دفع
[الحج:40].
قال أبو علي: أجريت «دافع» مجرى «دفع» كعاقبت اللص وطارقت النعل، قال أبو الحسن الأخفش: يقولون: دافع الله عنك، ودفع عنك، إلا أن «دفع» أكثر في الكلام.
قال * ع *: ويحسن «يدافع»؛ لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤديهم، فيجيء دفعه سبحانه مدافعة عنهم، وروي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار؛ هم بعضهم أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال، ويغدر، فنزلت هذه الآية إلى قوله: { كفور } ، ثم أذن الله سبحانه في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار بقوله: { أذن للذين يقاتلون }.
وقوله: { بأنهم ظلموا } معناه: كان الإذن بسبب أنهم ظلموا, قال ابن جريج: وهذه الآية أول ما نقضت الموادعة.
قال ابن عباس, وابن جريج: نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وقال: أبو بكر الصديق: لما سمعتها، علمت أنه سيكون قتال.
قلت: وهذا الحديث خرجه الترمذي، قال ابن العربي: ومعنى { أذن }: أبيح، وقرئ «يقاتلون» بكسر التاء وفتحها، فعلى قراءة الكسر: تكون الآية خبرا عن فعل المأذون لهم، وعلى قراءة الفتح: فالآية خبر عن فعل غيرهم، وأن الإذن وقع من أجل ذلك لهم، ففي فتح التاء بيان سبب القتال، وقد كان الكفار يتعمدون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالإذاية ويعاملونهم بالنكاية، وقد قتل أبو جهل سمية أم عمار بن ياسر، وعذب بلال، وبعد ذلك جاء الانتصار بالقتال، انتهى، ثم وعد سبحانه بالنصر في قوله: { وإن الله على نصرهم لقدير }.
[22.40-41]
وقوله سبحانه: { الذين أخرجوا من ديارهم } يريد كل من خرج من مكة وآذاه أهلها حتى أخرجوه بإذايتهم، - طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة -، ونسب الإخراج إلى الكفار؛ لأن الكلام في معرض تقرير الذنب، وإلزامه لهم.
وقوله: { إلا أن يقولوا ربنا الله } استثناء منقطع.
قال * ص *: وأجاز أبو إسحاق وغيره أن يكون في موضع جر بدلا من حق، أي: بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار، لا موجب الإخراج، ومثله:
هل تنقمون منا إلا أن ءامنا بالله
[المائدة:59] انتهى، وهو حسن من حيث المعنى، والانتقاد عليه مزيف.
وقوله: { ولولا دفع الله الناس } الآية تقوية للأمر بالقتال، وذكر أنه متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون، ولولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة، هذا أصوب تأويلات الآية، والصومعة: موضع العبادة، وهي بناء مرتفع، منفرد، حديد الأعلى، والأصمع من الرجال: الحديد القول، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى، وعباد الصابئين؛ قاله قتادة، ثم استعملت في مئذنة المسلمين، والبيع: كنائس النصارى، واحدتها: بيعة.
وقال الطبري: قيل: هي كنائس اليهود، ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك، والصلوات مشتركة لكل ملة؛ واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطيلها، أو أراد موضع صلوات، وقال أبو العالية: الصلوات مساجد الصابئين، وقيل: غير هذا.
وقوله: { يذكر فيها } الضمير عائد على جميع ما تقدم، ثم وعد سبحانه بنصرة دينه وشرعه، وفي ذلك حض على القتال والجد فيه، ثم الآية تعم كل من نصر حقا إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: { الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلوة... } الآية: قالت فرقة: هذه الآية في الخلفاء الأربعة، والعموم في هذا كله أبين، وبه يتجه الأمر في جميع الناس، وإنما الآية آخذة عهدا على كل من مكن في الأرض على قدر ما مكن، والآية أمكن ما هي في الملوك.
وقوله سبحانه: { ولله عاقبة الأمور }: توعد للمخالف عن هذه الأمور التي تقتضيها الآية لمن مكن.
[22.42-51]
وقوله سبحانه: { وإن يكذبوك }: يعني: قريشا، { فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى... } الآية فيها وعد لقريش، و { فأمليت } معناه: أمهلت، والنكير مصدر بمعنى الإنكار.
وقوله: «وبير معطلة» قيل: هو معطوف على العروش, وقيل: على القرية؛ وهو أصوب.
ثم وبخهم تعالى على الغفلة وترك الاعتبار بقوله: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ } وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب، وذلك هو الحق ، ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ.
وقوله: { فتكون }: نصب بالفاء في جواب الاستفهام؛ صرف الفعل من الجزم إلى النصب.
وقوله سبحانه: { فإنها لا تعمى الأبصار } لفظ مبالغة كأنه قال: ليس العمى عمى العين، وإنما العمى كل العمى عمى القلب، ومعلوم أن الأبصار تعمى، ولكن المقصود ما ذكرنا؛ وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:
" ليس الشديد بالصرعة "
، و
" ليس المسكين بهذا الطواف "
، والضمير في { إنها } للقصة ونحوها من التقدير، والضمير في { يستعجلونك } لقريش.
وقوله: { ولن يخلف الله وعده } وعيد وإخبار بأن كل شيء إلى وقت محدود، والوعد هنا مقيد بالعذاب.
وقوله سبحانه: { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } قالت فرقة: معناه وإن يوما من أيام عذاب الله كألف سنة من هذه؛ لطول العذاب وبؤسه، فكان المعنى أي من هذه السنين فما أجهل من يستعجل هذا، وكرر قوله: { وكأين }؛ لأنه جلب معنى آخر؛ ذكر أولا القرى المهلكة دون إملاء، بل بعقب التكذيب، ثم ثنى سبحانه بالممهلة؛ لئلا يفرح هؤلاء بتأخير العذاب عنهم، وباقي الآية بين، والرزق الكريم: الجنة، و { معجزين } معناه: مغالبين، كأنهم طلبوا عجز صاحب الآيات، والآيات تقتضي تعجيزهم؛ فصارت مفاعلة.
[22.52]
وقوله سبحانه: { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطن في أمنيته... } الآية.
قلت: قال القاضي أبو الفضل عياض: وقد توجهت ها هنا لبعض الطاعنين سؤالات منها ما روي من
" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة «والنجم» وقال: { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } [النجم:19، 20] قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى ".
قال عياض: اعلم (أكرمك الله) أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله.
والثاني: على تقدير تسليمه.
أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند متصل سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي أبو بكر ابن العلاء المالكي (رحمه الله تعالى) حيث يقول: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، ثم قال عياض: قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره؛ وإنما يعرف عن الكلبي، قال عياض: والكلبي ممن لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره؛ لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار، وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا، انتهى، ونحو هذا لابن عطية قال: وهذا الحديث الذي فيه: هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره في علمي مصنف مشهور؛ بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى ولا يعينون هذا السبب ولا غيره.
قال * ع *: وحدثني أبي (رحمه الله تعالى) أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ؛ وإنما الأمر يعني على تقدير صحته أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى
[النجم:19، 20].
وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها، هذا على تقدير صحته، وقد روي نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي.
قلت: قال عياض: وقد أعادنا الله من صحته، وقد حكى موسى بن عقبة في «مغازيه» نحو هذا، وقال: إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين، ومعنى قوله تعالى: { تمنى } أي: تلا ومنه قوله تعالى:
لا يعلمون الكتب إلا أماني
[البقرة:78]. أي: تلاوة، { فينسخ الله ما يلقي الشيطن } أي: يذهبه، ويزيل اللبس به ويحكم آياته، وعبارة البخاري: وقال ابن عباس: { إذا تمنى ألقى الشيطن في أمنيته } ، أي: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقى الشيطان ويحكم آياته، ويقال: { أمنيته }: قراءته انتهى.
قال عياض: وقيل: معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو إذا قرأ فيتنبه لذلك، ويرجع عنه، انتهى.
[22.53-57]
وقوله سبحانه: { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة } الفتنة: الامتحان والاختبار، والذين في قلوبهم مرض: عامة الكفار، { والقاسية قلوبهم } خواص منهم عتاة: كأبي جهل وغيره، والشقاق: البعد عن الخير والكون في شق غير شق الصلاح، و { الذين أوتوا العلم }: هم أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في { أنه }: عائد على القرآن، { فتخبت له قلوبهم }: معناه: تتطامن وتخضع، وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض كما تقدم.
{ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه } أي: من القرآن، والمرية: الشك، { حتى تأتيهم الساعة } يعني يوم القيامة، { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } قيل: يوم بدر، وقيل: الساعة ساعة موتهم، واليوم العقيم يوم القيامة.
[22.58-62]
وقوله سبحانه: { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا... } الآية, ابتداء معنى آخر؛ وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه. فنزلت هذه الآية مسوية بينهم في أن الله تعالى يرزق جميعهم رزقا حسنا، وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل، وقد قال بعض الناس: المقتول والميت في سبيل الله شهيدان، ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله، والرزق الحسن يحتمل: أن يريد به رزق الشهداء عند ربهم في البرزخ، ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة، وقرأت فرقة: «مدخلا» - بضم الميم -؛ من أدخل؛ فهو محمول على الفعل المذكور، وقرأت فرقة: «مدخلا» بفتح الميم؛ من دخل؛ فهو محمول على فعل مقدر تقديره: فيدخلون مدخلا، ثم أخبر سبحانه عمن عاقب من المؤمنين من ظلمه من الكفرة، ووعد المبغي عليه بأنه ينصره، وذلك أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في الأشهر الحرم؛ فأبى المؤمنون من قتالهم، وأبى المشركون إلا القتال، فلما اقتتلوا، جد المؤمنون ونصرهم الله تعالى؛ فنزلت الآية فيهم، وجعل تقصير الليل وزيادة النهار وعكسهما إيلاجا؛ تجوزا وتشبيها، وباقي الآية بين.
[22.63-64]
وقوله سبحانه: { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما في السموات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد } قوله: { فتصبح } عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء؛ وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون إلا ب «بمكة» وتهامة.
قال * ع *: ومعنى هذا أنه أخذ قوله: { فتصبح } مقصودا به صباح ليلة المطر، وذهب إلى أن ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر.
قال * ع *: وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى، نزل المطر ليلا بعد قحط، وأصبحت تلك الأرض الرملة التي تسفيها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف دقيق.
قلت: وقد شاهدت أنا ذلك بصحراء سواكن بالمشرق، وهي في حكم مكة إلا أن البحر قد حال بينهما؛ وذلك أن التعدية من جده إلى «سواكن» مقدار يومين في البحر أو أقل بالريح المعتدلة، وكان ذلك في أول الخريف، وأجرى الله العادة أن أمطار تلك البلاد تكون بالخريف فقط، هذا هو الغالب، ولما شاهدت ذلك تذكرت هذه الآية الكريمة، فسبحان الله ما أعظم قدرته! واللطيف: المحكم للأمور برفق.
[22.65-67]
وقوله سبحانه: { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره } أي: سخر لنا سبحانه ما في الأرض من الحيوان والمعادن وسائر المرافق، وباقي الآية بين مما ذكر في غير هذا الموضع.
وقوله سبحانه: { لكل أمة جعلنا منسكا } المنسك: المصدر، فهو بمعنى: العبادة والشرعة، وهو أيضا موضع النسك، وقوله: { هم ناسكوه } يعطي أن المنسك: المصدر، ولو كان الموضع لقال: هم ناسكون فيه.
[22.68-71]
وقوله سبحانه: { وإن جدلوك... } الآية موادعة محصنة نسختها آية السيف، وباقي الآية وعيد.
وقوله سبحانه: { إن ذلك في كتب } يعني: اللوح المحفوظ.
وقوله سبحانه: { إن ذلك على الله يسير } يحتمل أن تكون الإشارة إلى الحكم في الاختلاف.
[22.72-74]
وقوله سبحانه: { وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينت تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } يعني: أن كفار قريش كانوا إذا تلي عليهم القرآن، وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم والدعاء إلى التوحيد عرفت المساءة في وجوههم والمنكر من معتقدهم وعداوتهم، وأنهم يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتالين، والسطو إيقاع ببطش، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع: { أفأنبئكم } أي: أخبركم. { بشر من ذلكم }. والإشارة بذلكم إلى السطو، ثم ابتدأ بخبر؛ كأن قائلا قال له: وما هو؟ قال: { النار } أي: نار جهنم.
وقوله: { وعدها الله الذين كفروا } يحتمل أن يكون أراد: أن الله تعالى وعدهم بالنار، فيكون الوعد في الشر، ويحتمل أنه أراد: أن الله سبحانه وعد النار بأن يطعمها الكفار، فيكون الوعد على بابه، إذ الذي يقتضي قولها:
هل من مزيد
[ق:30] ونحو ذلك أن ذلك من مسارها.
قلت: والظاهر الأول.
وقوله سبحانه: { وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه... } الآية: ذكر تعالى أمر سالب الذباب، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يتسلط ويذهب بذلك الطيب، وكانوا يتألمون من ذلك، فجعلت مثلا، واختلف المتأولون في قوله تعالى: { ضعف الطالب والمطلوب } فقالت فرقة: أراد بالطالب: الأصنام، وبالمطلوب: الذباب، أي: أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة في الحيوان، وقيل: معناه: ضعف الكفار في طلبهم الصواب والفضيلة من جهة الأصنام، وضعف الأصنام في إعطاء ذلك وإنالته.
قال * ع *: ويحتمل أن يريد: ضعف الطالب وهو الذباب في استلابه ما على الأصنام، وضعف الأصنام في أن لا منعة لهم، وبالجملة فدلتهم الآية على أن الأصنام في أحط رتبة، وأخس منزلة لو كانوا يعقلون. و { ما قدروا الله حق قدره } المعنى: ما وفوه حقه سبحانه من التعظيم والتوحيد.
[22.75-77]
وقوله سبحانه: { الله يصطفي من الملئكة رسلا ومن الناس... } الآية: نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة:
أأنزل عليه الذكر من بيننا
[ص:8].
* ص *: أبو البقاء: { ومن الناس } أي: رسلا، انتهى، ثم أمر سبحانه بعبادته وخص الركوع والسجود بالذكر؛ تشريفا للصلاة، واختلف الناس: هل في هذه الآية سجدة أم لا؟.
قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا } تقبلها قوم على أنها سجدة تلاوة؛ فسجدوها.
وقال آخرون: هو سجود الصلاة فقصروه عليه، ورأى عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما: أنها سجدة تلاوة، وإني لأسجدها وأراها كذلك؛ لما روى ابن وهب، وغيره عن مالك، وغيره، انتهى.
وقوله سبحانه: { وافعلوا الخير } ندب فيما عدا الواجبات.
قلت: وهذه الآية الكريمة عامة في أنواع الخيرات، ومن أعظمها الرأفة والشفقة على خلق الله، ومواساة الفقراء وأهل الحاجة، وقد روى أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أيما مسلم كسا مسلما ثوبا على عري، كساه الله من خضر الجنة،، وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلما على ظمإ، سقاه الله من الرحيق المختوم "
انتهى. وروى علي بن عبد العزيز البغوي في «المسند المنتخب» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أيما مسلم كسا مسلما ثوبا، كان في حفظ الله ما بقيت عليه منه رقعة "
وروى ابن أبي شيبة في «مسنده» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أيما أهل عرصة ظل فيهم امرؤ جائعا، فقد برئت منهم ذمة الله "
انتهى. من «الكوكب الدري».
[22.78]
وقوله سبحانه: { وجهدوا في الله حق جهده } قالت فرقة: الآية في قتال الكفار.
وقالت فرقة: بل هي أعم من هذا، وهو جهاد النفس، وجهاد الكفار والظلمة، وغير ذلك، أمر الله عباده بأن يفعلوا ذلك في ذات الله حق فعله.
قال * ع *: والعموم أحسن، وبين أن عرف اللفظة يقتضي القتال في سبيل الله.
وقوله: { هو اجتبكم } أي: تخيركم، { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي: من تضييق، وذلك أن الملة حنيفية سمحة، ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم، بل فيها التوبة والكفارات، والرخص، ونحو. هذا مما يكثر عده، ورفع الحرج عن هذه الأمة لمن استقام منهم على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فهم أدخلوا الحرج على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الدين أشد من إلزام رجل لاثنين في سبيل الله، ومع صحة اليقين، وجودة العزم ليس بحرج و { ملة } نصب بفعل مضمر من أفعال الإغراء.
وقوله: { هو سمكم المسلمين } قال ابن زيد: الضمير ل { إبرهيم } - عليه السلام - والإشارة إلى قوله:
ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك
[البقرة:128]، وقال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد: الضمير لله عز وجل: و { من قبل } معناه: في الكتب القديمة، { وفي هذا } أي: في القرآن، وهذه اللفظة تضعف قول من قال: الضمير لإبراهيم عليه السلام، ولا يتوجه إلا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف.
قال * ص *: { هو } قيل: يعود على الله تعالى، وقيل: على إبراهيم، وعلى هذا فيكون: { وفي هذا }: القرآن، أي: وسميتم بسببه فيه، انتهى.
وقوله سبحانه: { ليكون الرسول شهيدا عليكم } أي: بالتبليغ.
وقوله: { وتكونوا شهدآء على الناس } أي: بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم نبيكم، ثم أمر سبحانه بالصلاة المفروضة أن تقام ويدام عليها بجميع حدودها، وبالزكاة أن تؤدى، ثم أمر سبحانه بالاعتصام به، أي: بالتعلق به والخلوص له وطلب النجاة منه، ورفض التوكل على سواه.
وقوله سبحانه: { هو مولكم فنعم المولى ونعم النصير } المولى: في هذه الآية معناه: الذي يليكم نصره وحفظه، وباقي الآية بين.
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1-4]
قوله سبحانه: { قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون } أخبر الله سبحانه عن فلاح المؤمنين، وأنهم نالوا البغية، وأحرزوا البقاء الدائم.
قلت: وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، يسمع عند وجهه صلى الله عليه وسلم دوي كدوي النحل، فأنزل عليه يوما، فمكثنا ساعة، وسري عنه، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، فقال: اللهم، زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا "
، ثم قال:
" أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة "
، ثم قرأ: { قد أفلح المؤمنون } حتى ختم عشر آيات؛ رواه الترمذي واللفظ له والنسائي والحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من «سلاح المؤمن».
قلت: وقد نص بعض أئمتنا على وجوب الخشوع في الصلاة، قال الغزالي رحمه الله: ومن مكائد الشيطان أن يشغلك في الصلاة بفكر الآخرة وتدبير فعل الخيرات؛ لتمتنع عن فهم ما تقرأه، واعلم أن كل ما أشغلك عن معاني قراءتك فهو وسواس؛ فإن حركة اللسان غير مقصودة؛ بل المقصود معانيها، انتهى من «الإحياء».
وروي عن مجاهد: أن الله تعالى لما خلق الجنة، وأتقن حسنها قال: { قد أفلح المؤمنون } ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين: فقال: { الذين هم في صلاتهم خاشعون } والخشوع التطامن، وسكون الأعضاء، والوقار، وهذا إنما يظهر في الأعضاء ممن في قلبه خوف واستكانة؛ لأنه إذا خشع قلبه خشعت جوارحه، وروي أن سبب الآية أن المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يمنة ويسرة؛ فنزلت هذه الآية، وأمروا أن يكون بصر المصلي حذاء قبلته أو بين يديه، وفي الحرم إلى الكعبة، و { اللغو }: سقط القول، وهذا يعم جميع ما لا خير فيه، ويجمع آداب الشرع، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي: يعرضون عن اللغو، وكأن الآية فيها موادعة.
{ والذين هم للزكاة فاعلون } ذهب الطبري وغيره إلى: أنها الزكاة المفروضة في الأموال، وهذا بين، ويحتمل اللفظ أن يريد بالزكاة: الفضائل، كأنه أراد الأزكى من كل فعل؛ كما قال تعالى:
خيرا منه زكوة وأقرب رحما
[الكهف:81].
[23.5-12]
وقوله تعالى: { والذين هم لفروجهم حافظون } إلى قوله: { هم العادون } يقتضي تحريم الزنا والاستمناء ومواقعة البهائم، وكل ذلك داخل في قوله: { ورآء ذلك } ويريد: وراء هذا الحد الذي حد، والعادي: الظالم، والأمانة والعهد يجمع كل ما تحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا. وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، ورعاية ذلك حفظه والقيام به، والأمانة أعم من العهد؛ إذ كل عهد فهو أمانة، وقرأ الجمهور: «صلواتهم» وقرأ حمزة والكسائي: «صلاتهم» بالإفراد، و { الورثون } يريد الجنة، وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة، ومسكنا في النار، فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم، ويرثون منازل الكفار، ويحصل الكفار في منازلهم في النار ".
قلت: وخرجه ابن ماجه أيضا بمعناه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما منكم إلا من له منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات يعني الإنسان ودخل النار، ورث أهل الجنة منزله؛ فذلك قوله تعالى: { أولئك هم الوارثون } "
قال القرطبي في «التذكرة»: إسناده صحيح، انتهى من التذكرة.
قال * ع *: أن يسمي الله تعالى حصولهم في الجنة وارثة من حيث حصلوها دون غيرهم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله أحاط الجنة: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وغرس غراسها بيده، وقال لها: تكلمي، فقالت: «قد أفلح المؤمنون» فقال: طوبى لك منزل الملوك "
خرجه البغوي في «المسند المنتخب» له، انتهى من «الكوكب الدري».
[23.13-14]
وقوله سبحانه: { ولقد خلقنا الإنسن من سللة من طين... } الآية: اختلف في قوله: «الإنسان» فقال قتادة وغيره أراد آدم - عليه السلام -؛ لأنه استل من الطين.
وقال ابن عباس وغيره: المراد ابن آدم، والقرار المكين من المرأة: هو موضع الولد، والمكين: المتمكن، والعلقة: الدم الغليظ، والمضغة: بضعة اللحم قدر ما يمضغ، واختلف الناس في الخلق الآخر، فقال ابن عباس وغيره: هو نفخ الروح فيه.
وقال ابن عباس أيضا: هو خروجه إلى الدنيا.
وقال أيضا: تصرفه في أمور الدنيا، وقيل: هو نبات شعره.
قال * ع *: وهذا التخصيص كله لا وجه له، وإنما هو عام في هذا وغيره: من وجوه النطق، والإدراك، وحسن المحاولة، و { تبارك } مطاوع بارك، فكأنها بمنزلة تعالى وتقدس من معنى البركة.
وقوله: { أحسن الخلقين } معناه: الصانعين: يقال لمن صنع شيئا: خلقه،، وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس؛ فقال ابن جريج: إنما قال: { الخلقين }؛ لأنه تعالى أذن لعيسى في أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك.
قال * ع *: ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم.
[23.15-19]
وقوله سبحانه: { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } أي: بعد هذه الأحوال المذكورة، ويريد بالسبع الطرائق: السموات، والطرائق: كل ما كان طبقات بعضه فوق بعض؛ ومنه طارقت نعلي. ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات؛ من طرقت الشيء.
قلت: وقوله تعالى: { وأنزلنا من السماء ماء بقدر... } الآية : ظاهر الآية أنه ماء المطر، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في أول «تاريخ بغداد» عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون: وهو نهر الهند، وجيحون: وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات: وهما نهرا العراق، والنيل: وهو نهر مصر، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل، فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم، فذلك قوله تعالى: { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن، والعلم كله، والحجر من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى عليه السلام بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع ذلك كله إلى السماء؛ فذلك قوله تعالى: { وإنا على ذهاب به لقدرون } ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض، فقد أهلها خير الدين والدنيا "
وفي رواية: «خير الدنيا والآخرة». انتهى، فإن صح هذا الحديث، فلا نظر لأحد معه، ونقل ابن العربي في «أحكامه» هذا الحديث أيضا عن ابن عباس وغيره، ثم قال في آخره: وهذا جائز في القدرة إن صحت به الرواية، انتهى.
قال * ع *: قوله تعالى: { ماء بقدر } قال بعض العلماء: أراد المطر.
وقال بعضهم: إنما أراد الأنهار الأربعة سيحان وجيحان والفرات والنيل.
قال * ع *: والصواب أن هذا كله داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى.
وقوله تعالى: { لكم فيها فوكه كثيرة } يحتمل: أن يعود الضمير على الجنات؛ فيشمل أنواع الفواكه، ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة؛ إذ فيهما مراتب وأنواع، والأول أعم لسائر الثمرات.
[23.20-26]
وقوله سبحانه: { وشجرة } عطف على قوله: { جنت } ويريد بها الزيتونة، وهي كثيرة في طور سيناء من أرض الشام، وهو الجبل الذي كلم فيه موسى عليه السلام؛ قاله ابن عباس، وغيره، وال { طور }: الجبل في كلام العرب، واختلف في { سينآء } فقال قتادة: معناه الحسن، وقال الجمهور: هو اسم الجبل، كما تقول جبل أحد ، وقرأ الجمهور: «تنبت» بفتح التاء وضم الباء، فالتقدير تنبت ومعها الدهن؛ كما تقول خرج زيد بسلاحه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «تنبت» بضم التاء وكسر الباء واختلف في التقدير على هذه القراءة، فقالت فرقة: الباء زائدة، كما في قوله تعالى:
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
[البقرة:195]، وقالت فرقة: التقدير تنبت جناها ومعه الدهن، فالمفعول محذوف، وقيل: نبت وأنبت بمعنى؛ فيكون المعنى كما مضى في قراءة الجمهور، والمراد بالآية تعديد النعم على الإنسان، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون * فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم... } الآية: هذا ابتداء تمثيل لكفار قريش بأمم كفرت بأنبيائها فأهلكوا، وفي ضمن ذلك الوعيد بأن يحل بهؤلاء نحو ما حل بأولئك، والملأ: الأشراف، والجنة، الجنون، و { حتى حين } معناه إلى وقت يريحكم القدر منه، ثم إن نوحا عليه السلام دعا على قومه حين يئس منهم، وإن كان دعاؤه في هذه الآية ليس بنص؛ وإنما هو ظاهر من قوله: { بما كذبون } فهذا يقتضي طلب العقوبة، وأما النصرة بمجردها فكانت تكون بردهم إلى الإيمان.
[23.27-30]
وقوله عز وجل: { فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله } قوله: { بأعيننا }: عبارة عن الإدراك هذا مذهب الحذاق، ووقفت الشريعة على أعين وعين، ولا يجوز أن يقال: عينان من حيث لم توقف الشريعة على التثنية، و { وحينا } معناه في كيفية العمل، ووجه البيان لجميع حكم السفينة وما يحتاج إليه، و { أمرنا } يحتمل أن يكون واحد الأوامر، ويحتمل أن يريد واحد الأمور، والصحيح من الأقوال في { التنور } أنه تنور الخبز، وأنها أمارة كانت بين الله تعالى وبين نوح عليه السلام.
وقوله: { فاسلك }: معناه: فأدخل؛ يقال سلك وأسلك بمعنى، وقرأ حفص عن عاصم: { من كل } بالتنوين، والباقون بغير تنوين، والزوجان: كل ما شأنه الاصطحاب من كل شيء؛ نحو: الذكر، والأنثى من الحيوان، ونحو: النعال وغيرها، هذا موقع اللفظة في اللغة.
وقوله: { وأهلك } يريد: قرابته، ثم استثنى من سبق عليه القول بأنه كافر، وهو ابنه وإمرأته، ثم أمر نوح ألا يراجع ربه، ولا يخاطبه شافعا في أحد من الظالمين، ثم أمر بالدعاء في بركة المنزل.
وقوله سبحانه: إن في ذلك لآيت» خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر سبحانه أنه يبتلي عباده الزمن بعد الزمن على جهة الوعيد لكفار قريش بهذا الإخبار، واللام في { لمبتلين } لام تأكيد، و «مبتلين»: معناه: مصيبين ببلاء، ومختبرين اختبارا يؤدي إلى ذلك.
[23.31-39]
وقوله سبحانه: { ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين }.
قال الطبري - رحمه الله -: إن هذا القرن هم ثمود، قوم صالح.
قال * ع *: وفي جل الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدم إلا أنهم لم يهلكوا بصيحة.
قلت: وهو ظاهر ترتيب قصص القرآن أن عادا أقدم، { وأترفنهم } معناه نعمناهم، وبسطنا لهم الأموال والأرزاق وقولهم: { أيعدكم } استفهام على جهة الاستبعاد و { أنكم }: الثانية بدل من الأولى عند سيبويه، وقولهم: { هيهات هيهات } استبعاد، وهيهات أحيانا تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد، أي: بعد ذلك ومنه قول جرير [الطويل]
فهيهات هيهات العقيق ومن به
وهيهات خل بالعقيق نواصله
وأحيانا يكون الفاعل محذوفا، وذلك عند وجود اللام كهذه الآية، التقدير: بعد الوجود؛ لما توعدون قال صلى الله عليه وسلم ورد بأن فيه حذف الفاعل وحذف المصدر وهو الوجود وذلك غير جائز عند البصريين، وذكر أبو البقاء: أن اللام زائدة «وما» فاعل، أي: بعد ما توعدون.
قال أبو حيان: وهذا تفسير معنى لا إعراب؛ لأنه لم تثبت مصدرية «هيهات»، انتهى. وقولهم: { إن هي إلا حياتنا الدنيا } أرادوا: أنه لا وجود لنا غير الوجود؛ وإنما تموت منا طائفة فتذهب، وتجيء طائفة جديدة، وهذا هو كفر الدهرية.
[23.40-48]
وقوله: { قال عما قليل ليصبحن ندمين } المعنى: قال الله لهذا النبي الداعي: عما قليل يندم قومك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم، ومن ذكر الصيحة ذهب الطبري إلى أنهم قوم ثمود.
وقوله: { بالحق } أي: بما استحقوا بأفعالهم وبما حق منا في عقوبتهم، والغثاء: ما يحمله السيل من زبده الذي لا ينتفع به، فيشبه كل هامد وتالف بذلك.
قال أبو حيان: «وبعدا» منصوب بفعل محذوف، أي: بعدوا بعدا، أي: هلكوا، انتهى، ثم أخبر سبحانه: إنه أنشأ بعد هؤلاء أمما كثيرة، كل أمة بأجل، وفي كتاب لا تتعداه في وجودها وعند موتها، وتترى: مصدر من تواتر الشيء.
وقوله سبحانه: { فأتبعنا بعضهم بعضا } أي: في الإهلاك.
وقوله تعالى: { وجعلناهم أحاديث } يريد أحاديث مثل، وقلما يستعمل الجعل حديثا إلا في الشر، و { عالين } معناه: قاصدين للعلو بالظلم، وقولهم: { وقومهما لنا عبدون } معناه: خادمون متذللون، والطريق المعبد المذلل، و { من المهلكين }: يريد بالغرق.
[23.49-50]
وقوله سبحانه: { ولقد ءاتينا موسى الكتب } يعني: التوراة، و { لعلهم } يريد: بني إسرائيل؛ لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون والقبط، والربوة: المرتفع من الأرض، والقرار: التمكن، وبين أن ماء هذه الربوة يرى معينا جاريا على وجه الأرض؛ قاله ابن عباس، والمعين: الظاهر الجري للعين، فالميم زائدة، وهو الذي يعاين جريه، لا كالبئر ونحوه، ويحتمل أن يكون من قولهم: معن الماء إذا كثر، وهذه الربوة هي الموضع الذي فرت إليه مريم وقت وضع عيسى عليه السلام هذا قول بعض المفسرين، واختلف الناس في موضع الربوة، فقال ابن المسيب: هي الغوطة بدمشق وهذا أشهر الأقوال؛ لأن صفة الغوطة أنها ذات قرار ومعين على الكمال.
وقال كعب الأحبار: الربوة بيت المقدس، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء وأنه يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلا.
قال * ع *: ويترجح: أن الربوة في بيت لحم من بيت المقدس؛ لأن ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذ كان الإيواء، وقال ابن العربي في «أحكامه»: اختلف الناس في تعيين هذه الربوة على أقوال منها: ما تفسر لغة ومنها: ما تفسر نقلا، فيفتقر إلى صحة سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ها هنا نكتة، وذلك أنه إذا نقل للناس نقل تواتر أن هذا موضع كذا، وأن هذا الأمر جرى كذا وقع العلم به، ولزم قبوله, لأن الخبر المتواتر ليس من شرطه الإيمان، وخبر الآحاد لا بد من كون المخبر به بصفة الإيمان؛ لأنه بمنزلة الشاهد، والخبر المتواتر بمنزلة العيان، وقد بينا ذلك في «أصول الفقه»، والذي شاهدت عليه الناس ورأيتهم يعينونه تعيين تواتر موضع في سفح الجبل في غربي دمشق، انتهى، وما ذكره: من أن التواتر ليس من شرطه الإيمان هذا هو الصحيح، وفيه خلاف إلا أنا لا نسلم أن هذا متواتر؛ لاختلال شرطه، انظر «المنتهى» لابن الحاجب.
[23.51-60]
وقوله سبحانه: { يأيها الرسل كلوا من الطيبت واعملوا صلحا إني بما تعملون عليم } يحتمل أن يكون معناه: وقلنا يا أيها الرسل، وقالت فرقة: الخطاب بقوله: { يأيها الرسل } للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال * ع *: والوجه في هذا أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج بهذه الصيغة، ليفهم وجيزا أن المقالة قد خوطب بها كل نبي، أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها؛ كما تقول لعالم: يا علماء إنكم أئمة يقتدى بكم؛ فتمسكوا بعلمكم، وقال الطبري: الخطاب لعيسى عليه السلام.
قلت: والصحيح في تأويل الآية: أنه أمر للمرسلين كما هو نص صريح في الحديث الصحيح؛ فلا معنى للتردد في ذلك وقد روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يأيها الرسل كلوا من الطيبت واعملوا صلحا إني بما تعملون عليم } [المؤمنون:الآية51]. وقال: { يأيها الذين ءامنوا كلوا من طيبات ما رزقنكم } [البقرة:172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك؟! "
اه.
وقوله تعالى: { وإن هذه أمتكم أمة وحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } ، وهذه الآية تقوى أن قوله تعالى: { يأيها الرسل } إنما هو مخاطبة لجميعهم، وأنه بتقدير حضورهم، وإذا قدرت: { يأيها الرسل } مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم قلق اتصال هذه واتصال وقوله: { فتقطعوا } ، ومعنى الأمة هنا: الملة والشريعة، والإشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام، وهو دين الإسلام.
وقوله سبحانه: { فتقطعوا } يريد الأمم، أي: افترقوا، وليس بفعل مطاوع؛ كما تقول: تقطع الثوب؛ بل هو فعل متعد بمعنى قطعوا، وقرأ نافع: «زبرا» جمع زبور، وهذه القراءة تحتمل معنيين.
أحدهما: أن الأمم تنازعت كتبا منزلة فاتبعت فرقة الصحف، وفرقة التوراة، وفرقة الإنجيل، ثم حرف الكل وبدل، وهذا قول قتادة والثاني: أنهم تنازعوا أمرهم كتبا وضعوها وضلالة ألفوها؛ قاله ابن زيد، وقرأ أبو عمرو بخلاف: «زبرا» بضم الزاي وفتح الباء، ومعناها: فرقا كزبر الحديد، ومن حيث كان ذكر الأمم في هذه الآية مثالا لقريش خاطب الله سبحانه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلا بقوله: { فذرهم } أي: فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم، والغمرة: ما عمهم من ضلالهم وفعل بهم فعل الماء الغمر بما حصل فيه، والخيرات هنا نعم الدنيا.
وقوله سبحانه: { والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة.
.. } الآية: أسند الطبري عن عائشة أنها قالت:
" قلت: يا رسول الله، قوله تعالى: { يؤتون ما آتوا } أهي في الذي يزني ويسرق؟ قال: لا، يا بنت أبي بكر، بل هي في الرجل يصوم ويتصدق وقلبه وجل، يخاف ألا يتقبل منه "
قال * ع *: ولا نظر مع الحديث، والوجل: نحو الاشفاق والخوف، وصورة هذا الوجل إما المخلط؛ فينبغي أن يكون أبدا تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وإما التقي أو التائب، فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت، وفي قوله تعالى: { أنهم إلى ربهم رجعون }: تنبيه على الخاتمة، وقال الحسن: معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البر، ويخافون ألا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم، وهذه عبارة حسنة، وروي عن الحسن أيضا أنه قال: المؤمن يجمع إحسانا وشفقة، والمنافق يجمع إساءة وأمنا.
قلت: ولهذا الخطب العظيم أطال الأولياء في هذه الدار حزنهم وأجروا على الوجنات مدامعهم.
قال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا سفيان قال: إنما الحزن على قدر البصيرة.
قال ابن المبارك: وأخبرنا مالك بن مغول عن رجل عن الحسن قال: ما عبد الله بمثل طول الحزن، وقال ابن المبارك أيضا: أخبرنا مسعر عن عبد الأعلى التيمي قال: أن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت العلماء فقال:
إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم
إلى قوله:
ويخرون للأذقان يبكون
[الإسراء:107-109]، انتهى.
[23.61-65]
وقوله سبحانه: { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } أي: إليها سابقون، وهذا قول بعضهم في قوله: «لها»، وقالت فرقة: معناه وهم من أجلها سابقون، وقال الطبري عن ابن عباس: المعنى: سبقت لهم السعادة في الأزل؛ فهم لها، ورجحه الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى.
وقوله سبحانه: { ولدينا كتاب ينطق بالحق } أظهر ما قيل فيه أنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وقيل: الإشارة إلى القرآن، والأول أظهر.
وقوله سبحانه: { بل قلوبهم في غمرة من هذا } اختلف في الإشارة بقوله: { من هذا } هل هي: إلى القرآن، أو إلى كتاب الإحصاء، أو إلى الدين بجملته، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ { ولهم أعمال } أي: من الفساد { هم لها عاملون }: في الحال والاستقبال, والمترف: المنعم في الدنيا، الذي هو منها في سرف، و { يجأرون } معناه: يستغيثون بصياح كصياح البقر، وكثر استعمال الجؤار في البشر؛ ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
يراوح من صلوات المليك
طورا سجودا وطورا جؤارا
وقال *ص*: جأر الرجل إلى الله تعالى، أي: تضرع؛ قاله الحوفي، انتهى, وذهب مجاهد وغيره إلى أن هذا العذاب المذكور هو الوعيد بيوم بدر، وقيل: غير هذا.
وقوله سبحانه: { لا تجأروا اليوم } أي: يقال لهم يوم العذاب: لا تجأروا اليوم.
[23.66-76]
وقوله: { قد كانت آياتي تتلى عليكم } يعني القرآن و { تنكصون } معناه: ترجعون وراءكم، وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحق و { مستكبرين } حال والضمير في { به }: عائد على الحرم والمسجد وإن لم يتقدم له ذكر؛ لشهرته، والمعنى: إنكم تعتقدون في نفوسكم أن لكم بالمسجد الحرام أعظم الحقوق على الناس والمنزلة عند الله، فأنتم تستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق.
وقالت فرقة: الضمير عائد على القرآن والمعنى: يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا، وهذا قول جيد، وذكر منذر ابن سعيد: أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بما بعده، كأن الكلام تم في قوله: { مستكبرين } ثم قال: بمحمد عليه السلام سامرا تهجرون، و { سامرا } حال، وهو مفرد بمعنى الجمع؛ يقال: قوم سمر وسمرة وسامر، ومعناه: سهر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر، وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أوجب معرفتها بالنجوم؛ لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب، وقرأ أبو رجاء: «سمارا» وقرأ ابن عباس وغيره: «سمرا» وكانت قريش تسمر حول الكعبة في أباطيلها وكفرها، وقرأ السبعة غير نافع: «تهجرون»: بفتح التاء وضم الجيم؛ قال ابن عباس معناه: تهجرون الحق وذكر الله، وتقطعونه؛ من الهجران المعروف، وقال ابن زيد: هو من هجر المريض: إذا هذى، أي: تقولون اللغو من القول؛ وقاله أبو حاتم، وقرأ نافع وحده: «تهجرون»: بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة، ومعناه: تقولون الفحش والهجر من القول، وهذه إشارة إلى سبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ قال ابن عباس أيضا وغيره، ثم وبخهم سبحانه بقوله: { أفلم يدبروا القول } لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد قال بعضهم: شعر، وبعضهم: سحر وغير ذلك، أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أي: ليس ببدع بل قد جاء آباءهم الأولين، وهم سالف الأمم الرسل؛ كنوح، وإبراهيم، وإسماعيل وغيرهم، وفي هذا التأويل من التجوز أن جعل سالف الأمم، آباء؛ إذ الناس في الجملة آخرهم من أولهم.
{ أم لم يعرفوا رسولهم } المعنى: ألم يعرفوا صدقه وأمانته مدة عمره صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: { ولو اتبع الحق أهوآءهم }.
قال ابن جريج ، وأبو صالح: الحق: الله تعالى.
قال * ع *: وهذا ليس من نمط الآية، وقال غيرهما: الحق هنا: الصواب والمستقيم.
قال * ع *: وهذا هو الأحرى، ويستقيم على هذا فساد السموات والأرض ومن فيهن لو كان بحكم هوى هؤلاء؛ وذلك أنهم جعلوا لله شركاء وأولادا، ولو كان هذا حقا لم تكن لله عز وجل الصفات العلية، ولو لم تكن له سبحانه لم تكن الصنعة، ولا القدرة كما هي، وكان ذلك فساد السموات والأرض ومن فيهن:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
[الأنبياء:22].
وقوله سبحانه: { بل أتيناهم بذكرهم } قال ابن عباس: بوعظهم، ويحتمل: بشرفهم، وهو مروي.
{ أم تسألهم خرجا } الخرج والخراج بمعنى، وهو: المال الذي يجبى ويؤتى به لأوقات محدودة.
وقوله سبحانه: { فخراج ربك خير } يريد ثوابه، ويحتمل أن يريد بخراج ربك: رزقه، ويؤيده قوله: { وهو خير الرازقين }.
و «الصراط المستقيم» دين الإسلام، «وناكبون»: أي: مجادلون ومعرضون، وقال البخاري: { لناكبون }: لعادلون، انتهى.
قال أبو حيان: يقال: نكب عن الطريق ونكب بالتشديد، أي: عدل عنه، انتهى، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لو زال عنهم القحط، ومن الله عليهم بالخصب، ورحمهم بذلك لبقوا على كفرهم ولجوا في طغيانهم، وهذه الآية نزلت في المدة التي أصاب فيها قريشا السنون الجدبة والجوع الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
" اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "
، الحديث.
{ ولقد أخذناهم بالعذاب } ، قال ابن عباس وغيره: هو الجوع والجدب حتى أكلوا الجلود وما جرى مجراها، وروي أنهم لما بلغهم الجهد ركب أبو سفيان، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال: يا محمد، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال: قد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، وقد أكلنا العلهز؛ فنزلت الآية، و { استكانوا } معناه: تواضعوا وانخفضوا.
[23.77-83]
وقوله سبحانه: { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد... } الآية توعد بعذاب غير معين، وهذا هو الصواب، وهذه المجاعة إنما كانت بعد وقعة بدر، والمبلس الذي قد نزل به شر ويئس من زواله ونسخه بخير، ثم ابتدأ تعالى بتعديد نعم في نفس تعديدها استدلال بها على عظم قدرته سبحانه، فقال: { وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار... } الآية, أنشأ بمعنى: اخترع، والأفئدة: القلوب، وذرأ: بث وخلق.
وقوله: { بل } إضراب، والجحد قبله مقدر كأنه قال: ليس لهم نظر في هذه الآيات أو نحو هذا، و { الأولون }: يشير به إلى الأمم الكافرة: كعاد وثمود.
وقوله تعالى: { لقد وعدنا نحن وءاباؤنا هذا من قبل... } الآية, قولهم: { وءاباؤنا } إن حكي المقالة عن العرب فمرادهم من سلف من العالم، جعلوهم آباء من حيث النوع واحد، وكونهم سلفا، وفيه تجوز، وإن حكي ذلك عن الأولين فالأمر مستقيم فيهم.
[23.84-91]
وقوله سبحانه: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون } أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا يمكنهم إلا الإقرار بها، ويلزم من الإقرار بها توحيد الله وإذعانهم لشرعه ورسالة رسله، وقرأ الجميع في الأول: «لله» بلا خلاف، واختلف في الثاني والثالث، فقرأ أبو عمرو وحده: «الله» جوابا على اللفظ، وقرأ باقي السبعة: «لله» جوابا على المعنى، كأنه قال في السؤال: لمن ملك السموات السبع؟
وقوله سبحانه: { فأنى تسحرون } استعارة وتشبيه لما وقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها ما يقع من المسحور؛ عبر عنهم بذلك.
وقالت فرقة: { تسحرون } معناه: تمنعون، وحكى بعضهم ذلك لغة، والإجارة: المنع، والمعنى: أن الله تعالى إذا أراد منع أحد فلا يقدر عليه، وإذا أراد أخذه فلا مانع له.
وقوله سبحانه: { وإنهم لكاذبون } أي: فيما ذكروه من الصاحبة، والولد، والشريك، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وفي قوله سبحانه: { وما كان معه من إله } الآية.
دليل التمانع وهذا هو الفساد الذي تضمنه قوله تعالى:
لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا
[الأنبياء:22].
والجزء المخترع محال أن تتعلق به قدرتان فصاعدا، وقد تقدم الكلام على هذا الدليل؛ فأغنى عن إعادته.
وقوله: { إذا } جواب لمحذوف تقديره: لو كان معه إله إذا لذهب.
[23.92-98]
وقوله: { علم الغيب } المعنى: هو عالم الغيب، وقرأ أبو عمرو وغيره: «عالم» بالجر؛ اتباعا للمكتوبة.
وقوله سبحانه: { قل رب إما تريني ما يوعدون * رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } أمر الله تعالى نبيه - عليه السلام - أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن كان قضي أن يرى ذلك، «وإن» شرطية و «ما» زائدة و «تريني» جزم بالشرط لزمته النون الثقيلة وهي لا تفارق، «أما» عند المبرد، ويجوز عند سيبويه أن تفارق، ولكن استعمال القرآن لزومها، فمن هنالك ألزمه المبرد، وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من أجله، ثم نظيره لسائر الأمة دعاء في حسن الخاتمة، وقوله ثانيا: «رب» اعتراض بين الشرط وجوابه.
وقوله سبحانه: { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } أمر بالصفح ومكارم الأخلاق، وما كان منها لهذا فهو محكم باق في الأمة أبدا، وما كان بمعنى الموادعة فمنسوخ بآية القتال.
وقوله: { نحن أعلم بما يصفون } يقتضي أنها آية موادعة.
وقال مجاهد: الدفع بالتي هي أحسن: هو السلام، تسلم عليه إذا لقيته.
وقال الحسن والله لا يصيبها أحد حتى يكظم غيظه، ويصفح عما يكره، وفي الآية عدة للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: اشتغل أنت بهذا وكل أمرهم إلينا، ثم أمره سبحانه بالتعوذ من همزات الشياطين، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه؛ وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المجادلة، ولذلك اتصلت بهذه الآية، وقال ابن زيد: همز الشيطان: الجنون، وفي «مصنف أبي داود»: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" اللهم إني أعوذ بك من الشيطان: همزه، ونفخه، ونفثه "
قال أبو داود: همزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: السحر.
قال * ع *: والنزغات وسورات الغضب من الشيطان، وهي المتعوذ منها في الآية، وأصل الهمز: الدفع والوكز بيد أو غيرها.
قلت: قال صاحب «سلاح المؤمن»: وهمزات الشياطين: خطراتها التي تخطرها بقلب الإنسان، انتهى.
وقال الواحدي: همزات الشياطين: نزغاتها ووساوسها، انتهى.
[23.99-104]
وقوله سبحانه: { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صلحا فيما تركت } { حتى } في هذا الموضع حرف ابتداء، والضمير في قوله: { أحدهم } للكفار، وقوله: { ارجعون } أي: إلى الحياة الدنيا، والنون في: { ارجعون }: نون العظمة؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة:
" إذا عاين المؤمن الموت، قالت له الملائكة: نرجعك؟ فيقول: إلى دار الهموم والأحزان؟ بل قدما إلى الله، وأما الكافر، فيقول: { ارجعون * لعلي أعمل صالحا } "
وقوله: { كلا }: رد وزجر.
وقوله: { إنها كلمة هو قائلها } تحتمل ثلاثة معان:
أحدها: الإخبار المؤكد بأن هذا الشيء يقع، ويقول هذه الكلمة.
الثاني: أن يكون المعنى: إنها كلمة لا تغني أكثر من أنه يقولها، ولا نفع له فيها ولا غوث الثالث: أن يكون إشارة إلى أنه لو لو رد لعاد، والضمير في: { ورآئهم } للكفار، والبرزخ في كلام العرب: الحاجز بين المسافتين، ثم يستعار لما عدا ذلك، وهو هنا: للمدة التي بين موت الإنسان وبين بعثه؛ هذا، إجماع من المفسرين.
وقوله عز وجل: { فإذا نفخ في الصور فلا أنسب بينهم... } قال ابن مسعود وغيره: هذا عند النفخة الثانية وقيام الناس من القبور؛ فهم حينئذ لهول المطلع واشتغال كل امرىء بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائل، وزال انتفاع الأنساب؛ فلذلك نفاها سبحانه، والمعنى: فلا أنساب نافعة، وروي عن قتادة أنه: ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف، لأنه يخاف أن يكون له عنده مظلمة، وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه؛ وأمه وأبيه؛ وصاحبته وبنيه، ويفرح كل أحد يومئذ أن يكون له حق على ابنه وأبيه، وقد ورد بهذا حديث، وكأن ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه، ثم تأتي في القيامة مواطن يكون فيها السؤال والتعارف.
قال * ع *: وهذا التأويل حسن، وهو مروي المعنى عن ابن عباس، وذكر البزار من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ملك موكل بالميزان، فيؤتى بابن آدم، فيوقف بين كفتي الميزان، فإن ثقل ميزانه، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا "
، انتهى من «العاقبة». وروى أبو داود في «سننه» عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما يبكيك؟ قالت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما في ثلاثة مواطن، فلا يذكر أحد أحدا، عند الميزان حتى يعلم: أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الكتاب حتى يقول: { هاؤم اقرءوا كتابيه } [الحاقة:19]، حتى يعلم أين يعطى كتابه: أفي يمينه أم في شماله، أم من وراء ظهره، وعند الصراط، إذا وضع بين ظهري جهنم "
، انتهى. ولفح النار: إصابتها بالوهج والإحراق، والكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان، وقد شبه ابن مسعود ما في الآية بما يعتري رؤوس الكباش إذا شيطت بالنار؛ فإنها تكلح، ومنه كلوح الكلب والأسد.
قلت: وفي «الترمذي» عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" { وهم فيها كلحون } قال: تشويه النار، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته... "
الحديث قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، انتهى.
وهذا هو المعول عليه في فهم الآية، وأما قول البخاري: { كالحون } معناه: عابسون فغير ظاهر، ولعله لم يقف على الحديث.
[23.105-108]
وقوله سبحانه: { ألم تكن آياتي } أي: يقال لهم، والآيات هنا القرآن، وقرأ حمزة: «شقاوتنا» ثم وقع جواب رغبتهم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله: { اخسئوا فيها ولا تكلمون } ويقال: إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا من كل خير، فتنطبق عليهم جهنم، ويقع اليأس عافانا الله من عذابه بمنه وكرمه -!
وقوله: { اخسئوا } زجر، وهو مستعمل في زجر الكلاب.
[23.109-118]
وقوله عز وجل: { إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا ءامنا... } الآية الهاء في { إنه }: مبهمة: وهي ضمير الأمر والشأن، والفريق المشار إليه: كل مستضعف من المؤمنين يتفق أن تكون حاله مع كفار مثل هذه الحال، ونزلت الآية في كفار قريش مع صهيب، وعمار، وبلال، ونظرائهم، ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديما وبقية الدهر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «سخريا» بضم السين، والباقون بكسرها؛ فقيل هما بمعنى واحد؛ ذكر ذلك الطبري.
وقال ذلك أبو زيد الأنصاري: إنهما بمعنى الهزء، وقال أبو عبيدة وغيره: إن ضم السين من السخرة والاستخدام، وكسرها من السخر وهو الاستهزاء، ومعنى الاستهزاء هنا أليق؛ ألا ترى إلى قوله: { وكنتم منهم تضحكون }.
وقوله سبحانه: { كم لبثتم في الأرض عدد سنين... } الآية قوله: { في الأرض }.
قال الطبري معناه: في الدنيا أحياء، وعن هذا وقع السؤال، ونسوا لفرط هول العذاب حتى قالوا: { يوما أو بعض يوم } ، والغرض توقيفهم على أن أعمارهم قصيرة أداهم الكفر فيها إلى عذاب طويل، عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه!.
وقال الجمهور: معناه: كم لبثتم في جوف التراب أمواتا؟ قال * ع *: وهذا هو الأصوب من حيث أنكروا البعث. وكان قولهم: إنهم لا يقومون من التراب، وقوله آخرا: { وأنكم إلينا لا ترجعون } يقتضي ما قلناه.
قلت: الآيات محتملة للمعنيين، والله أعلم بما أراد سبحانه؛ قال البخاري: قال ابن عباس: { فسئل العآدين } أي: الملائكة، انتهى.
* ص *: قرأ الجمهور: «العادين» - بتشديد الدال - اسم فاعل من «عد»، وقرأ الحسن وفي رواية: «العادين» بتخفيف الدال، أي: الظلمة، و«إن» من قوله: { إن لبثتم } نافية، أي: ما لبثتم إلا قليلا، اه. و { عبثا }: معناه: باطلا، لغير غاية مرادة، وخرج أبو نعيم الحافظ عن حنش الصنعاني عن ابن مسعود
" أنه قرأ في أذن مبتلى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا... } إلى آخر السورة، فأفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قرأت في أذنه؟ قال: قرأت: { أفحسبتم... } إلى آخر السورة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال "
، انتهى، وخرجه ابن السني أيضا، ذكره النووي.
وقوله سبحانه: { فتعالى الله الملك الحق }: المعنى: فتعالى الله عن مقالتهم في دعوى الشريك والصاحبة والولد، ثم توعد سبحانه عبدة الأوثان بقوله: { فإنما حسابه عند ربه } ، وفي حرف عبد الله: «عند ربك»، وفي حرف أبي: «عند الله» ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعاء والذكر له فقال: { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين }.
[24 - سورة النور]
[24.1-3]
قوله تعالى: { سورة أنزلنها وفرضنها... } الآية معنى «فرضنا». أوجبنا وأثبتنا، وقال الثعلبي والواحدي: { فرضنها } أي: أوجبنا ما فيها من الأحكام، انتهى، وقال البخاري: قال ابن عباس: { سورة أنزلنها }: بيناها، انتهى. وما تقدم أبين.
* ص *: { فرضناها } الجمهور: بتخفيف الراء أي: فرضنا أحكامها، وأبو عمرو وابن كثير: بتشديد الراء: إما للمبالغة في الإيجاب، وإما لأن فيها فرائض شتى، انتهى، والآيات البينات: أمثالها ومواعظها وأحكامها.
وقوله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة... } الآية, هذه الآية ناسخة لآية الحبس باتفاق، وحكم المحصنين منسوخ بآية الرجم والسنة المتواترة على ما تقدم في سورة النساء، وقرأ الجمهور: «رأفة» بهمزة ساكنة؛ من رأف إذا رق ورحم، والرأفة المنهي عنها هي في إسقاط الحد، أي: أقيموه ولا بد، وهذا تأويل ابن عمر وغيره.
وقال قتادة وغيره: هي في تخفيف الضرب عن الزناة، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الخمر، والفرية دون ضرب الزنا.
وقوله تعالى: { وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين } أي: إغلاظا على الزناة، وتوبيخا لهم، ولا خلاف أن الطائفة كلما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر، واختلف في أقل ما يجزىء فقال الزهري: الطائفة: ثلاثة فصاعدا، وقال عطاء: لا بد من اثنين، وهذا هو مشهور قول مالك فرآها موضع شهادة.
وقوله تعالى: { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } مقصد الآية تشنيع الزنا وتشنيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين ويريد بقوله: { لا ينكح } أي: لا يطأ، فالنكاح هنا بمعنى: الجماع؛ كقوله تعالى:
حتى تنكح زوجا غيره
[البقرة:230].
وقد بينه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه بمعنى الوطء، حيث قال:
" لا حتى تذوقي عسيلته... "
الحديث, وتحتمل الآية وجوها هذا أحسنها.
[24.4-5]
وقوله سبحانه: { والذين يرمون المحصنت ثم لم يأتوا بأربعة شهداء... } الآية نزلت بسبب القاذفين، وذكر تعالى في الآية: قذف النساء من حيث هو أهم وأبشع، وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى والإجماع على ذلك، و { المحصنت } هنا: العفائف، وشدد تعالى على القاذف بأربعة شهداء؛ رحمة بعباده، وسترا لهم، وحكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة في موطن واحد، فإن اضطرب منهم واحد جلد الثلاثة، والجلد: الضرب، ثم أمر تعالى: ألا تقبل للقذفة المحدودين شهادة أبدا، وهذا يقتضي مدة أعمارهم، ثم حكم بفسقهم، ثم استثنى تعالى من تاب وأصلح من بعد القذف، فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع، وعامل في فسقه بإجماع، واختلف في عمله في رد الشهادة، والجمهور أنه عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، ثم اختلفوا في صورة توبته، فقيل بأن يكذب نفسه، وإلا لم تقبل وقالت فرقة منها مالك: توبته أن يصلح وتحسن حاله. وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاء المالكية متى تسقط شهادة القاذف فقال ابن الماجشون: بنفس قذفه، وقال ابن القاسم وغيره: لا تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته، قال اللخمي: شهادته في مدة الأجل للإثبات موقوفة، و { تابوا } معناه: رجعوا، وقد رجح الطبري وغيره قول مالك، واختلف أيضا على القول بجواز شهادته، فقال مالك تجوز في كل شيء بإطلاق، وكذلك كل من حد في شيء.
وقال سحنون: من حد في شيء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه، واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أن شهادته لا تجوز في الزنا.
[24.6-10]
وقوله سبحانه: { والذين يرمون أزوجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم... } الآية: لما رمى هلال بن أمية الواقفي زوجته بشريك بن سحماء عزم النبي صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف؛ فنزلت هذه الآية حسبما هو مشروح في الصحاح، فجمعهما صلى الله عليه وسلم في المسجد، وتلاعنا، وجاء أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن، والمشهور: أن نازلة هلال قبل، وأنها سبب الآية، والأزواج في هذه الآية: يعم المسلمات والكافرات والإماء؛ فكلهن يلاعنهن الزوج؛ للانتفاء من الحمل، وتختص الحرة بدفع حد القذف عن نفسها، وقرأ السبعة غير نافع: { أن لعنت } ، و { أن غضب } بتشديد «أن» فيهما ونصب اللعنة والغضب، والعذاب المدرأ في قول الجمهور: هو الحد، وجعلت اللعنة للرجل الكاذب؛ لأنه مفتر مباهت، فأبعد باللعنة، وجعل الغضب، الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول، والله أعلم، وأجمع مالك وأصحابه على وجوب اللعان بادعاء الرؤية زنا لا وطئا من الزوج بعده، وذلك مشهور المذهب.
وقال مالك: إن اللعان يجب بنفي حمل يدعى قبله استبراء والمستحب من ألفاظ اللعان أن يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه، فيقول الزوج: أشهد بالله لرأيت هذه المرأة تزني، وإني في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة: أن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين، وأما في لعان نفي الحمل فيقول: ما هذا الولد مني، وتقول المرأة: أشهد بالله ما زنيت، وأنه في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول: غضب الله علي إن كان من الصادقين، فإن منع جهلهما من ترتيب هذه الألفاظ، وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك، ومشهور المذهب: أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة، ولا يحتاج معها إلى تفريق حاكم، وتحريم اللعان أبدي باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك، وجواب { لولا } محذوف تقديره: لكشف الزناة بأيسر من هذا، أو لأخذهم بعقابه ونحو هذا.
[24.11-13]
وقوله تعالى: { إن الذين جاءو بالإفك... } الآية: نزلت في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ففي «البخاري» في غزوة بني المصطلق عن عائشة رضي الله عنها قالت: وأنزل الله العشر الآيات في براءتي: { إن الذين جاءو بالإفك... } الآيات: والإفك: الزور والكذب، وحديث الإفك في «البخاري» و «مسلم» وغيرهما مستوعب، والعصبة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين.
وقوله سبحانه: { لا تحسبوه } خطاب لكل من ساءه ذلك من المؤمنين.
وقوله تعالى: { بل هو خير لكم } معناه: أنه تبرئة في الدنيا, وترفيع من الله تعالى في أن نزل وحيه بالبراءة من ذلك، وأجر جزيل في الآخرة، وموعظة للمؤمنين في غابر الدهر، و { اكتسب }: مستعملة في المآثم، والإشارة بقوله تعالى: { والذي تولى كبره } هي إلى: عبد الله بن أبي ابن سلول وغيره من المنافقين، وكبره: مصدر كبر الشيء وعظم ولكن استعملت العرب ضم الكاف في السن.
وقوله تعالى: { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنت بأنفسهم خيرا... } الآية: الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره، وفي هذا عتاب للمؤمنين، أي: كان الإنكار واجبا عليهم، ويقيس فضلاء المؤمنين الأمر على أنفسهم، فإذا كان ذلك يبعد فيهم فأم المؤمنين أبعد، لفضلها، ووقع هذا النظر الشديد من أبي أيوب وامرأته؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له: «يا أبا أيوب، أسمعت ما قيل؟ فقال: نعم، وذلك الكذب؛ أكنت أنت يا أم أيوب، تفعلين ذلك؟ فقالت: لا، والله، قال: فعائشة والله أفضل منك، قالت أم أيوب: نعم» فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله فيه المؤمنين؛ إذ لم يفعله جميعهم، والضمير في قوله: { لولا جاءو } للذين تولوا كبره.
[24.14-18]
وقوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والأخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم } هذا عتاب من الله تعالى، بليغ في تعاطيهم هذا الحديث وإن لم يكن المخبر والمخبر مصدقين، ولكن نفس التعاطي والتلقي من لسان إلى لسان والإفاضة في الحديث هو الذي وقع العتاب فيه، وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنها وهي أعلم الناس بهذا الأمر: «إذ تلقونه» بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف ، ومعنى هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل ولقا إذا كذب، وحكى الطبري: أن هذه اللفظة مأخوذة من: الولق الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء؛ يقال: ولق في سيره إذ أسرع، والضمير في: { تحسبونه } للحديث والخوض فيه والإذاعة له.
وقوله تعالى: { سبحنك } أي: تنزيها لله أن يقع هذا من زوج نبيه صلى الله عليه وسلم وحقيقة البهتان: أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة: أن يقال في الإنسان ما فيه، ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة.
[24.19-21]
وقوله سبحانه: { إن الذين يحبون أن تشيع الفحشة في الذين ءامنوا... } الآية: قال مجاهد وغيره: الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين، وعذابهم الأليم في الدنيا: الحدود، وفي الآخرة: النار، وقالت فرقة: الآية عامة في كل قاذف، وهذا هو الأظهر.
وقوله تعالى: { والله يعلم } معناه: يعلم البريء من المذنب، ويعلم سائر الأمور، وجواب { لولا } أيضا محذوف تقديره: لفضحكم بذنوبكم، أو لعذبكم ونحوه.
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوت الشيطن... } الآية: خطوات جمع خطوة، وهي ما بين القدمين في المشي، فكأن المعنى: لا تمشوا في سبله وطرقه.
قلت: وفي قوله سبحانه: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا }: ما يردع العاقل عن الاشتغال بغيره، ويوجب له الاهتمام بإصلاح نفسه قبل هجوم منيته وحلول رمسه، وحدث أبو عمر في «التمهيد» بسنده عن إسماعيل بن كثير قال: سمعت مجاهدا يقول: «إن الملائكة مع ابن آدم، فإذا ذكر أخاه المسلم بخير، قالت الملائكة: ولك مثله، وإذا ذكره بشر، قالت الملائكة: ابن آدم المستور عورته، أربع على نفسك، واحمد الله الذي يستر عورتك» انتهى وروينا في «سنن أبي داود» عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال:
" من حمى مؤمنا من منافق أراه قال: بعث الله ملكا يحمي لحمة يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلما بشيء يريد به شينه، حبسه الله عز وجل على جسر جهنم حتى يخرج مما قال "
وروينا أيضا عن أبي داود بسنده عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاريين أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من امرىء يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرىء ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته "
، انتهى، ثم ذكر تعالى أنه يزكي من شاء ممن سبقت له السعادة، وكان عمله الصالح أمارة على سبق السعادة له.
[24.22]
وقوله تعالى: { ولا يأتل أولوا الفضل منكم... } الآية: المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة، وكان من قرابة أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه، لمسكنته، فلما وقع أمر الإفك بلغ أبا بكر أنه: وقع مسطح مع من وقع؛ فحلف أبو بكر: لا ينفق عليه، ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح معتذرا وقال: إنما كنت أسمع ولا أقول، فنزلت الآية، والفضل: الزيادة في الدين، والسعة هنا: هي المال، ثم قال تعالى: { ألا تحبون أن يغفر الله لكم... } الآية، أي: كما تحبون عفو الله لكم عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، فيروى أن أبا بكر قال: بلى، إني أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح ما كان يجري عليه من النفقة والإحسان.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وفي هذه الآية دليل على أن الحنث إذا رآه الإنسان خيرا هو أولى من البر، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه "
انتهى. وقال بعض الناس: هذه أرجى، آية في كتاب الله عز وجل من حيث لطفه سبحانه بالقذفة العصاة بهذا اللفظ.
قال * ع *: وإنما تعطى الآية تفضلا من الله تعالى في الدنيا، وإنما الرجاء في الآخرة، أما أن الرجاء في هذه الآية بقياس، أي: إذا أمر أولي الفضل والسعة بالعفو، فطرد هذا التفضل بسعة رحمته سبحانه لا رب غيره، وإنما آيات الرجاء: قوله تعالى:
قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
[الزمر:53].
وقوله تعالى:
الله لطيف بعباده
[الشورى:19]. وسمعت أبي رحمه الله يقول: أرجى آية في كتاب الله عندي قوله تعالى:
وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا
[الأحزاب:47]. وقال بعضهم: أرجى آية قوله تعالى:
ولسوف يعطيك ربك فترضى
[الضحى:5].
[24.23-25]
وقوله تعالى: { إن الذين يرمون المحصنت... } الآية: قال ابن جبير: هذه الآية خاصة في رماة عائشة، وقال ابن عباس وغيره: بل ولجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمكانهن من الدين ولم يقرن بآخر الآية توبة.
قال * ع *: وقاذف غيرهن له اسم الفسق، وذكرت له التوبة، ولعن الدنيا: الإبعاد، وضرب الحد، والعامل في قوله: { يوم } فعل مضمر تقديره: يعذبون يوم أو نحو هذا، والدين في هذه الآية: الجزاء، وفي مصحف ابن مسعود وأبي: { يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم } بتقديم الصفة على الموصوف.
وقوله: { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } يقوي قول من ذهب: أن الآية في المنافقين عبد الله بن أبي وغيره.
[24.26-28]
وقوله تعالى: { الخبيثت للخبيثين... } الآية: قال ابن عباس وغيره: الموصوف بالخبث والطيب: الأقوال والأفعال، وقال ابن زيد: الموصوف بالخبث والطيب، النساء والرجال، ومعنى هذا التفريق بين حكم ابن أبي وأشباهه وبين حكم النبي صلى الله عليه وسلم وفضلاء أصحابه وأمته.
وقوله تعالى: { أولئك مبرءون مما يقولون } إشارة إلى الطيبين المذكورين، وقيل: الإشارة ب { أولئك } إلى عائشة - رضي الله عنها - ومن في معناها.
وقوله تعالى: { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا } سبب هذه الآية فيما روى الطبري: أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال؛ فنزلت هذه الآية، ثم هي عامة في الأمة غابر الدهر، وبيت الإنسان: هو الذي لا أحد معه فيه، أو البيت الذي فيه زوجته أو أمته، وما عدا هذا فهو غير بيته، و { تستأنسوا } معناه: تستعملوا من في البيت، وتستبصروا, تقول: آنست: إذا علمت عن حس وإذا أبصرت؛ ومنه قوله تعالى:
آنستم منهم رشدا
[النساء:6].
و «استأنس» وزنه: استفعل، فكأن المعنى في { تستأنسوا }: تطلبوا أن تعلموا ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله، فذلك يكون بالاستئذان على من فيه، أو بأن يتنحنح ويشعر بنفسه بأي وجه أمكنه، ويتأتى قدر ما يتحفظ منه، ويدخل إثر ذلك.
وذهب الطبري في: { تستأنسوا } إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت بأنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه، وتؤنسوا نفوسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم.
قال * ع *: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس، وقرأ أبي وابن عباس: «حتى: تستأذنوا وتسلموا» وصورة الاستئذان أن يقول الإنسان: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثا ثم ينصرف، جاءت في هذا كله آثار، والضمير في قوله: { تجدوا فيها }: للبيوت التي هي بيوت الغير، وأسند الطبري عن قتادة أنه قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول: لي ارجع، فأرجع وأنما مغتبط؛ لقوله تعالى: { هو أزكى لكم }.
وقوله تعالى: { والله بما تعملون عليم } توعد لأهل التجسس.
[24.29-31]
وقوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة... } الآية: أباح سبحانه في هذه الآية رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد؛ لأن العلة في الاستئذان خوف الكشفة على المحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم، وباقي الآية بين ظاهر التوعد، وعن مالك رحمه الله: أنه بلغه أنه كان يستحب إذا دخل البيت غير المسكون أن يقول، الذي يدخله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، انتهى، أخرجه في «الموطإ».
وقوله تعالى: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } أظهر ما في { من } أن تكون للتبعيض، لأن أول نظرة لا يملكها الإنسان؛ وإنما يغض فيما بعد ذلك، فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج؛ إذ حفظها عام لها، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وحفظ الفرج هو عن الزنا وعن كشفه حيث لا يحل.
قلت: النواظر صوارم مشهورة فاغمدها في غمد الغض والحياء من نظر المولى وإلا جرحك بها عدو الهوى، لا ترسل بريد النظر فيجلب لقلبك رديء الفكر، غض البصر يورث القلب نورا، وإطلاقه يقدح في القلب نارا، انتهى من «الكلم الفارقية في الحكم الحقيقية».
قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { ذلك أزكى لهم } يريد: أطهر وأنمى، يعني: إذا غض بصره كان أطهر له من الذنوب وأنمى لعمله في الطاعة.
قال ابن العربي: ومن غض، البصر: كف التطلع إلى المباحات من زينة الدنيا وجمالها؛ كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزوجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى
[طه:131]. يريد ما عند الله تعالى، انتهى.
وقوله تعالى: { وقل للمؤمنت يغضضن من أبصرهن... } الآية: أمر الله تعالى النساء في هذه الآية بغض البصر عن كل ما يكره من جهة الشرع النظر إليه، وفي حديث أم سلمة قالت: كنت أنا وعائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل ابن أم مكتوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" احتجبن، فقلن: إنه أعمى فقال صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما "
و { من } الكلام فيها كالتي قبلها.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وكما لا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، لا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجل، فإن علاقته بها كعلاقتها به، وقصده منها كقصدها منه، ثم استدل بحديث أم سلمة المتقدم، انتهى. وحفظ الفرج يعم الفواحش، وستر العورة، وما دون ذلك مما فيه حفظ، ثم أمر تعالى بألا يبدين زينتهن إلا ما يظهر من الزينة؛ قال ابن مسعود: ظاهر الزينة: هو الثياب.
وقال ابن جبير وغيره: الوجه والكفان والثياب.
وقيل: غير هذا.
قال: زينتها * ع *: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كل ما غلبها، فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه، وذكر أبو عمر: الخلاف في تفسير الآية كما تقدم؛ قال وروي عن أبي هريرة في قوله تعالى: { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قال: القلب والفتخة.
قال جرير بن حازم: القلب: السوار، والفتخة: الخاتم، انتهى من «التمهيد».
وقوله تعالى: { وليضربن بخمرهن على جيوبهن }.
قال ابن العربي: الجيب هو الطوق، والخمار: هو المقنعة, انتهى.
قال * ع *: سبب الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلنها من وراء الظهر ؛ فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك، فأمر الله تعالى بلي الخمار على الجيوب، وهيئة ذلك يستر جميع ما ذكرناه، وقالت عائشة - رضي الله عنها - رحم الله المهاجرات الأول؛ لما نزلت هذه الآية عمدن إلى أكثف المروط فشققنها أخمرة، وضربن بها على الجيوب.
وقوله سبحانه: { أو نسائهن } يعني جميع المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين، وكتب عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الذمة أن يدخلن الحمام مع نساء المسلمين فامتثل.
وقوله سبحانه: { أو ما ملكت أيمنهن } يدخل فيه الإماء الكتابيات والعبيد.
وقال ابن عباس وجماعة: لا يدخل العبد على سيدته فيرى شعرها إلا أن يكون وغدا.
وقوله تعالى: { أو التبعين } يريد الأتباع ليطعموا، وهم فسول الرجال الذين لا إربة لهم في الوطء، ويدخل في هذه الصنيفة: المجبوب، والشيخ الفاني، وبعض المعتوهين، والذي لا إربة له من الرجال قليل، والإربة: الحاجة إلى الوطء، والطفل اسم جنس، ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم، و { يظهروا } معناه: يطلعوا بالوطء.
وقوله تعالى: { ولا يضربن بأرجلهن... } الآية، قيل: سببها أن امرأة مرت على قوم فضربت برجلها الأرض فصوت الخلخال، وسماع صوت هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها؛ ذكره الزجاج، ثم أمر سبحانه بالتوبة مطلقة عامة من كل شيء صغير وكبير.
[24.32-34]
وقوله تعالى: { وأنكحوا الأيمى منكم } الأيم: من لا زوجة له أو لا زوج لها؛ فالأيم: يقال للرجل والمرأة.
وقوله: { والصلحين } يريد: للنكاح، وهذا الأمر بالنكاح يختلف بحسب شخص شخص، ففي نازلة: يتصور وجوبه، وفي نازلة: الندب وغير ذلك حسبما هو مذكور في كتب الفقه؛ قال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { والصلحين من عبادكم } الأظهر فيه: أنه أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمر بإنكاح الأيامى، وذلك بيد السادة في العبيد والإماء؛ كما هو في الأحرار بيد الأولياء، انتهى. ثم وعد تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين؛ طلب رضا الله عنهم، واعتصاما من معاصيه، ثم أمر تعالى كل من يتعذر عليه النكاح أن يستعفف حتى يغنيهم الله من فضله، إذ الغالب من موانع النكاح عدم المال، فوعد سبحانه المتعفف بالغنى. والمكاتبة: مفاعلة من حيث يكتب هذا على نفسه وهذا على نفسه، ومذهب مالك: أن الأمر بالكتابة هو على الندب.
وقال عطاء: ذلك واجب، وهو ظاهر مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقوله: { إن علمتم فيهم خيرا } قالت فرقة: الخير هنا المال.
وقال مالك: إنه ليقال: القوة والأداء، وقال عبيدة السلماني: الخير هو: الصلاح في الدين.
وقوله تعالى: { وءاتوهم } قال المفسرون: هو أمر لكل مكاتب أن يضع عن العبد من مال كتابته، ورأى مالك هذا الأمر على الندب، ولم ير لقدر الوضيعة حدا، واستحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يوضع عنه الربع، وقيل: الثلث، وقيل: العشر، ورأى عمر أن يكون ذلك من أول نجومه؛ مبادرة إلى الخير، وخوف ألا يدرك آخرها، ورأى مالك وغيره: أن يكون الوضع من آخر نجم؛ وعلة ذلك أنه: ربما عجز العبد فرجع هو وماله إلى السيد، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة.
قلت: والظاهر أن هذا لا يعد رجوعا كما لو رجع إليه بالميراث، ورأى الشافعي وغيره: أن الوضيعة واجبة يحكم بها.
وقال الحسن وغيره: الخطاب بقوله تعالى: { وءاتوهم }: للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين.
وقال زيد بن أسلم: إنما الخطاب لولاة الأمور.
وقوله سبحانه: { ولا تكرهوا فتيتكم على البغاء إن أردن تحصنا } الآية: روي: أن سبب الآية هو أن عبد الله بن أبي ابن سلول كانت له أمة، فكان يأمرها بالزنا والكسب به، فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية فيه، وفيمن فعل فعله من المنافقين.
وقوله: { إن أردن تحصنا } راجع إلى الفتيات؛ وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرها، ويمكن أن ينهى عن الإكراه، وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد: لا تكرهها: لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للفساد، فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه، وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين: فقال بعضهم: قوله: { إن أردن } راجع إلى الأيامى في قوله: { وأنكحوا الأيمى منكم } ، وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: { إن أردن } ملغي ونحو هذا مما هو ضعيف، والله الموفق للصواب برحمته.
قلت: وما اختاره * ع * هو الذي عول عليه ابن العربي ونصه، وإنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة؛ لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأما إذا كانت هي راغبة في الزنا، لم يتحصل الإكراه فحصلوه إن شاء الله، انتهى من «الأحكام» وقرأ ابن مسعود وغيره: «فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم» ثم عدد سبحانه نعمه على المؤمنين في قوله: { ولقد أنزلنا إليكم ءايت مبينت ومثلا من الذين خلوا من قبلكم } ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه.
[24.35-37]
وقوله تعالى: { الله نور السموات والأرض... } الآية: النور في كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر، ويستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح؛ فيقال: كلام له نور، ومنه الكتاب المنير والله تعالى ليس كمثله شيء فواضح أنه ليس من الأضواء المدركة، ولم يبق إلا أن المعنى منور السموات والأرض، أي: به وبقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها كما تقول الملك نور الأمة أي قوام أمورها وصلاح جملتها، والأمر في الملك مجاز، وهو في صفة الله تعالى حقيقة محضة، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وغيره: «الله نور» بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء والضمير في { نوره } يعود على الله تعالى؛ قاله جماعة، وهو إضافة خلق إلى خالق، كما تقول: ناقة الله، وبيت الله، ثم اختلفوا في المراد بهذا النور، فقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو المؤمن، وقيل: هو الإيمان والقرآن، وفي قراءة أبي ابن كعب: «مثل نور المؤمنين» والمشكاة: هي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه، وهذه الأقوال الثلاثة يطرد فيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل، فعلى قول من قال: الممثل محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول كعب الأحبار فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه، والزجاجة: قلبه، والشجرة المباركة : هي الوحي، والزيت: هو الحجج والبراهين. وعلى قول من قال: إن الممثل به هو المؤمن وهو قول أبي بن كعب ، فالمشكاة صدره، والمصباح: الإيمان، والعلم، والزجاجة: قلبه، والشجرة القرآن، وزيتها: هو الحجج، والحكمة التي تضمنها قول أبي فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي في قبور الأموات، وتحتمل الآية معنى آخر، وهو أن يريد: مثل نور الله الذي هو هداه في الوضوح كهذه الجملة من النور، الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة؛ التي هي أبلغ صفات النور، الذي هو بين أيديكم أيها البشر؛ وقال أبو موسى: المشكاة: الحديدة أو الرصاصة التي يكون فيها القنديل في جوف الزجاجة، والأول أصح.
وقوله: { في زجاجة } لأنه جسم شفاف، المصباح فيه أنور منه في غير الزجاجة، والمصباح: الفتيل بناره.
وقوله: { كأنها كوكب دري } أي في الإنارة والضوء، وذلك يحتمل معنيين: إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها؛ لصفائها وجودة جوهرها، وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور؛ قال الضحاك: الكوكب الدري: الزهرة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «توقد» بفتح التاء والدال ، والمراد: المصباح، وقرأ نافع وغيره: «يوقد» أي: المصباح.
وقوله: { من شجرة } أي من زيت شجرة، والمباركة: المنماة.
وقوله تعالى: { لا شرقية ولا غربية } قال الحسن: أي: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا؛ وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: { يكاد زيتها يضيء... } الآية مبالغة في صفة صفائه وحسنه.
وقوله: { نور على نور } أي: هذه كلها ومعان تكامل بها هذا النور الممثل به، وفي هذا الموضع تم المثال، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: { في بيوت أذن الله أن ترفع } قال ابن عباس وغيره: هي المساجد المخصوصة بعبادة الله التي من عادتها أن تنور بهذا النوع من المصابيح. وقوله: { أذن الله }: بمعنى: أمر وقضى، و { ترفع } قيل: معناه تبنى وتعلى؛ قاله مجاهد وغيره؛ كقوله تعالى:
وإذ يرفع إبرهيم القواعد من البيت...
[البقرة:127].
وقال الحسن : معناه تعظم ويرفع شأنها، وذكر اسمه تعالى هو بالصلاة والعبادة قولا وفعلا، و { يسبح له فيها } أي: في المساجد، { بالغدو والأصال } قال ابن عباس: أراد ركعتي الضحى. والعصر، وإن ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص؛ ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم رضاه، لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا.
قلت: وعن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يجمع الناس في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، فينادي مناد: سيعلم أهل الجمع لمن الكرم اليوم ثلاث مرات، ثم يقول: أين الذين كانت { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } [السجدة:16]؟ ثم يقول: أين الذين كانوا { لا تلهيهم تجرة ولا بيع عن ذكر الله } إلى آخر الآية، ثم ينادي مناد: سيعلم أهل الجمع لمن الكرم اليوم، ثم يقول: أين الحمادون الذين يحمدون ربهم "
مختصرا رواه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» وله طرق عن أبي إسحاق، انتهى من «السلاح»، ورواه أيضا ابن المبارك من طريق ابن عباس قال:
" إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحامدون لله تعالى على كل حال، فيقومون، فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي ثانية: ستعلمون من أصحاب الكرم؛ ليقم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع؛ يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون؛ قال: فيقومون، فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي ثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليقم الذين كانت: { لا تلهيهم تجرة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة يخفون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصر } فيقومون، فيسرحون إلى الجنة "
انتهى من «التذكرة». والزكاة هنا عند ابن عباس: الطاعة لله.
وقال الحسن: هي الزكاة المفروضة في المال، واليوم المخوف: هو يوم القيامة، ومعنى الآية: إن ذلك اليوم لشدة هوله القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة.
قلت: ومن «الكلم الفارقية»: سعادة القلب إقباله على مقلبه والعالم بحال مآله ومنقلبه، القلوب بحار جواهرها المعارف، وسواحلها الألسنة وغواصها الفكرة النافذة، غواص بحر الصور يغوص بصورته في طلب مكسبه، والعارف يغوص بمعنى قلبه في بحار غيب ربه، فيلتقط جواهر الحكمة ودرر الدراية قلوب العارفين، كالبحار تنعقد في أصداف ضمائرهم جواهر المعارف والأسرار، القلوب كالأراضي إلى من أسلمت إليه قلبك بذر فيه ما عنده, أما من بذر نفسه ووسواسه العفن المسوس, أو بذر فيه معرفته بالرب المقدس، انتهى.
قلت: فإن أردت سلامتك في ذلك اليوم فليكن قلبك الآن مقبلا على طاعة مولاك؛ فإنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قال الواحدي: تتقلب فيه القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تتقلب في أي ناحية يؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشمال، ومن أي جهة يؤتون كتبهم، انتهى.
[24.38-40]
وقوله سبحانه: { ليجزيهم } أي فعلوا ذلك ليجزيهم { أحسن ما عملوا } أي: ثواب أحسن ما عملوا، ولما ذكر تعالى حالة المؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة وأعمالهم، فقال: { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } وهي جمع قاع، والقاع: المنخفض البساط من الأرض، ويريد ب { جآءه }: جاء موضعه الذي تخيله فيه، ويحتمل أن يعود الضمير في: { جآءه } على السراب ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه الظاهر تقديره: فكذلك الكافر يوم القيامة، يظن عمله نافعا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
وقوله: { ووجد الله عنده } أي بالمجازات الضمير في { عنده } عائد على العمل، وباقي الآية وعيد بين.
وقوله تعالى: { أو كظلمت } عطف على قوله: { كسراب } وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا، أي أنهم من الضلال في مثل هذه الظلمات المجتمعة من هذه الأشياء، وذهب بعض الناس إلى أن في هذا المثال أجزاء تقابل أجزاء من الممثل به فقال: الظلمات: الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة، والبحر اللجي: صدر الكافر وقلبه، واللجي معناه: ذو اللجة وهي معظم الماء وغمره، واجتماع ما به أشد لظلمته، والموج: هو الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبه، والسحاب هو شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان.
قال * ع *: وهذا التأويل سائغ وألا يقدر هذا التقابل سائغ.
وقوله : { إذآ أخرج يده لم يكد يرها } لفظ يقتضي مبالغة الظلمة، واختلف في هذه اللفظة، هل معناها أنه لم يريده ألبتة؟ أو المعنى أنه رآها بعد عسر وشدة وكاد ألا يراها، ووجه ذلك أن «كاد» إذا صحبها حرف النفي، وجب الفعل الذي بعدها، وإذا لم يصحبها انتفى الفعل، وكاد معناها: قارب.
وقوله تعالى: { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } قالت فرقة: يريد في الدنيا، أي: من لم يهده الله لم يهتد، وقالت فرقة: أراد في الآخرة، أي: من لم يرحمه الله وينور حاله بالمغفرة والرحمة فلا رحمة له.
قال * ع *: والأول أبين وأليق بلفظ الآية، وأيضا فذلك متلازم، ونور الآخرة إنما هو لمن نور قلبه في الدنيا.
[24.41-44]
وقوله تعالى: { ألم تر أن الله يسبح له من فى السموت والأرض... } الآية: الرؤية هنا قلبية، والتسبيح: التنزيه والتعظيم، والآية عامة عند المفسرين لكل شيء من العقلاء والجمادات.
وقوله تعالى: { كل قد علم صلاته وتسبيحه } قال الزجاج وغيره: المعنى: كل قد علم الله صلاته وتسبيحه.
وقال الحسن: المعنى: كل قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه.
وقالت فرقة: المعنى: كل قد علم صلاة الله وتسبيح الله اللذين أمر بهما وهدى إليهما، فهذه إضافة خلق إلى خالق، وباقي الآية وعيد، و { يزجي } معناه: يسوق، والركام، الذي يركب بعضه بعضا ويتكاثف، والودق: المطر، قال البخاري: { من خلله } أي: من بين أضعاف السحاب، انتهى.
وقوله تعالى: { وينزل من السمآء من جبال فيها من برد } قيل: ذلك حقيقة، وقد جعل الله في السماء جبالا من برد، وقالت فرقة: ذلك مجاز، وإنما أراد وصف كثرته، وهذا كما تقول: عند فلان جبال من مال وجبال من العلم.
قلت: وحمل اللفظ على حقيقته أولى إن لم يمنع من ذلك مانع، ومن كتاب «الفرج بعد الشدة» للقاضي أبي علي التنوخي، أحد الرواة عن أبي الحسن الدارقطني والمختصين به قال: أخبرنا أبو بكر الصولي عن بعض العلماء قال: رأيت امرأة بالبادية، وقد جاء البرد فذهب بزرعها، فجاء الناس: يعزونها فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف وبيدك التعويض مما تلف، فافعل بنا ما أنت أهله، فإن أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك، قال: فلم أبرح حتى مر رجل من الأجلاء، فحدث بما كان؛ فوهب لها خمسمائة دينار، فأجاب الله دعوتها وفرج في الحين كربتها، انتهى. وال { سنا } مقصورا: الضوء، وبالمد: المجد، والباء في قوله { بالأبصار } يحتمل أن تكون زائدة.
[24.45-51]
وقوله سبحانه: { والله خلق كل دابة من ماء } الآية آية اعتبار، والدابة: كل ما دب من جميع الحيوان، وقوله: { من ماء } قال الجمهور: يعني أن خلقة كل حيوان فيها ماء؛ كما خلق آدم من الماء والطين، وقال النقاش: أراد مني الذكور، والمشي على البطن: للحيات، والحوت، والدود، وغيره، وعلى رجلين: للإنسان، والطير إذا مشى، وعلى أربع لسائر الحيوان، وفي مصحف أبي بن كعب: «ومنهم من يمشي على أكثر» فعمم بهذه الزيادة جميع الحيوان.
وقوله تعالى: { لقد أنزلنا ءايت مبينت } يعم كل ما نصب الله تعالى من آية.
وقوله تعالى: { ويقولون } يعني المنافقين؛ روي أن رجلا من المنافقين اسمه بشر دعاه يهودي إلى التحاكم عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان المنافق مبطلا، فأبى، ودعا اليهودي إلى كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية، فيه والحيف: الميل.
وقوله سبحانه: { إنما كان قول المؤمنين... } الآية المعنى: إنما كان الواجب أن يقوله المؤمنون إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله سمعنا وأطعنا.
[24.52-55]
وقوله سبحانه: { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفآئزون } قال الغزالي في «المنهاج»: التقوى في القرآن تطلق على ثلاثة أشياء:
أحدها بمعنى الخشية والهيبة؛ قال الله عز وجل:
وإيي فاتقون
[البقرة:41]. وقال سبحانه:
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله
[البقرة:281].
والثاني: بمعنى الطاعة والعبادة؛ قال تعالى:
يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته
[آل عمران:102]. قال ابن عباس: أطيعوا الله حق طاعته، وقال مجاهد: هو أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
والثالث: بمعنى تنزيه القلب عن الذنوب، وهذه هي الحقيقة في التقوى دون الأوليين؛ ألا ترى أن الله تعالى يقول: { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفآئزون } ذكر الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى، فعلمت أن حقيقة التقوى معنى سوى الطاعة والخشية، وهي تنزيه القلب عن الذنوب، انتهى.
وقوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمنهم... } الآية: جهد اليمين: بلوغ الغاية في تعقيدها، و { ليخرجن } معناه: إلى الغزو، وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دعوا إلى الله ورسوله.
وقوله تعالى: { قل لا تقسموا طاعة معروفة } يحتمل معاني:
أحدها: النهي عن القسم الكاذب؛ إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة فكأنه يقول: لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه.
والثاني: أن المعنى: لا تتكلفوا القسم؛ فطاعة معروفة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدر بكم، وفي هذا التأويل إبقاء عليهم، وقيل غير هذا.
وقوله: { تولوا } معناه: تتولوا، والذي حمل النبي صلى الله عليه وسلم هو التبليغ، والذي حمل الناس هو السمع والطاعة واتباع الحق، وباقي الآية بين.
[24.56-57]
وقوله تعالى: { وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصلحات ليستخلفنهم... } الآية عامة لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أن يملكهم الله البلاد كما هو الواقع، فسبحانه ما أصدق وعده وقال الضحاك في كتاب «النقاش»: هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم, والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واللام في { ليستخلفنهم } لام القسم.
وقوله: { يعبدونني } فعل مستأنف، أي: هم يعبدونني.
وقوله: { ومن كفر } يحتمل أن يريد كفر هذه النعم، ويحتمل الكفر المخرج عن الملة عياذا بالله من سخطه! وباقي الآية بين مما تقدم في غيرها.
[24.58]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمنكم } الآية: قيل: «الذين ملكت أيمانهم»: الرجال والنساء، ورجحه الطبري، وقيل: الرجال خاصة، وقيل: النساء خاصة، ومعنى الآية عند جماعة من العلماء: أن الله تعالى أدب عباده بأن يكون العبيد والأطفال الذين عقلوا معاني الكشفة ونحوها يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري في المضاجع، وهي: عند الصباح، وفي وقت القائلة وهي الظهيرة؛ لأن النهار يظهر فيها إذا علا واشتد حره، وبعد العشاء؛ لأنه وقت التعري للنوم، وأما في غير هذه الأوقات فالعرف من الناس التحرز والتحفظ فلا حرج في دخول هذه الصنيفة بغير إذن؛ إذ هم طوافون يمضون ويجيئون، لا يجد الناس بدا من ذلك.
وقوله: { بعضكم على بعض } بدل من قوله: { طوفون } و { ثلث مرت } نصب على الظرف؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا؛ وإنما أمروا بالاستئذان في ثلاث مواطن، فالظرفية في ثلاث بينة.
وقوله سبحانه: { وكذلك يبين الله الأيت لكم والله عليم حكيم } بين للمتأمل
[24.59-60]
وقوله سبحانه: { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم... } الآية: أمر تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت، وهذا بيان من الله عز وجل.
وقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم ءايته والله عليم حكيم } بين لا يحتاج إلى تفسير.
{ والقوعد من النساء }: هن اللواتي قد أسنن وقعدن عن الولد، واحدتهن قاعد، وقال ربيعة: هي هنا التي تستقذر من كبرها، قال غيره: وقد تقعد المرأة عن الولد وفيها مستمتع، ولما كان الغالب من النساء أن ذوات هذا السن لا مذهب للرجال فيهن أبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وقرأ ابن مسعود وأبي: «أن يضعن من ثيابهن» والعرب تقول: امرأة واضع للتي كبرت، فوضعت خمارها، ثم استثنى عليهن في وضع الثياب ألا يقصدن به التبرج وإبداء الزينة؛ فرب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر لها جمال، والتبرج: طلب البدو والظهور للعين، ومنه: بروج مشيدة، والذي أبيح وضعه لهن الجلباب الذي فوق الخمار والرداء، قاله ابن مسعود وغيره، ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن، واستعفافهن عن وضع الثياب، والتزامهن ما يلتزم الشواب من الستر أفضل لهن وخير.
وقوله تعالى: { والله سميع عليم } أي: سميع لما يقول كل قائل وقائلة عليم بمقصد كل أحد، وفي هاتين الصفتين توعد وتحذير.
[24.61]
وقوله تعالى: { ليس على الأعمى حرج } إلى قوله { كذلك يبين الله لكم الأيت لعلكم تعقلون } ظاهر الآية: وأمر الشريعة أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم الإتيان به بالأكمل، ويقتضي العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، وللناس أقوال في الآية وتخصيصات يطول ذكرها، وذكر الله تعالى بيوت القرابات، وسقط منها بيوت الأبناء؛ فقال المفسرون: ذلك لأنها داخلة في قوله: { من بيوتكم } لأن بيت ابن الرجل بيته.
وقوله تعالى: { أو ما ملكتم مفاتحه } يريد ما خزنتم وصار في قبضتكم، فمعظمه ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه، وهو تأويل الضحاك ومجاهد، وعند جمهور المفسرين: يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف. وقرأ ابن جبير: «ملكتم مفاتيحه» مبنيا للمفعول وزيادة يا بين التاء والحاء، وقرن تعالى في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة؛ لأن قرب المودة لصيق؛ قال معمر: قلت: لقتادة: ألا أشرب من هذا الجب؟ قال: أنت لي صديق، فما هذا الاستئذان؟ قال ابن عباس في كتاب «النقاش»: الصديق أوكد من القرابة؛ ألا ترى استغاثة الجهنميين:
فما لنا من شفعين * ولا صديق حميم
[الشعراء:100، 101].
وقوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا }: رد لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفذاذا ألبتة، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وأن إحضار الأكيل لحسن ولكن بألا يحرم الانفراد، قال البخاري: أشتاتا وشتى واحد، انتهى.
وقال بعض أهل العلم: هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام:
" إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام "
الحديث، وبقوله تعالى: { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا } الآية، وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر: «لا يجلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه» الحديث.
قلت: والحق أن لا نسخ في شيء مما ذكر، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى.
وقوله سبحانه: { فإذا دخلتم بيوتا }: قال النخعي: أراد المساجد، والمعنى: سلموا على من فيها، فإن لم يكن فيها أحد فالسلام أن يقول: السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال ابن عباس وغيره: المراد البيوت المسكونة، أي: سلموا على من فيها، قالوا : ويدخل في ذلك غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
قلت: وفي «سلاح المؤمن»، وعن ابن عباس في قوله عز وجل: { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } قال: هو المسجد إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني البخاري ومسلما، انتهى، وهذا هو الصحيح عن ابن عباس، وفهم النووي أن الآية في البيوت المسكونة، قال: ففي الترمذي عن أنس قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:
" يا بني، إذا دخلت على أهلك، فسلم، يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك "
قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي أبي داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل : رجل خرج غازيا في سبيل الله عز وجل فهو ضامن على الله تعالى حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة، ورجل راح إلى المسجد؛ فهو ضامن على الله تعالى حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة؛ ورجل دخل بيته بسلام؛ فهو ضامن على الله تعالى "
حديث حسن رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواه آخرون، والضمان: الرعاية للشيء، والمعنى: أنه في رعاية الله عز وجل، انتهى. وقوله تعالى: { تحية من عند الله مبركة } وصفها تعالى بالبركة؛ لأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه.
قلت: وقد ذكرنا في سورة النساء: ما ورد في المصافحة من رواية ابن السني قال النووي: وروينا في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا "
انتهى. والكاف من قوله: { كذلك }: كاف تشبيه؛ وذلك: إشارة إلى هذه السنن.
وقال أيضا بعض الناس في هذه الآية: أنها منسوخة بآية الاستئذان المتقدمة.
قال * ع *: والنسخ لا يتصور في شيء من هذه الآيات، بل هي محكمة، أما قوله:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
[البقرة:188] ففي التعدي والخدع ونحوه، وأما هذه الآية ففي إباحة طعام هذه الأصناف التي يسرها استباحة طعامها على هذه الصفة، وأما آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكشفة، فإذا استأذن المرء ودخل المنزل بالوجه المباح صح له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة، وليس يكون في الآية نسخ فتأمله.
[24.62-64]
وقوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله... } الآية: إنما هنا: للحصر والأمر الجامع يراد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لمصلحة، فالأدب اللازم في ذلك ألا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، والإمام الذي يترقب إذنه هو إمام الإمارة، وروي: أن هذه الآية نزلت في وقت حفر النبي صلى الله عليه وسلم خندق المدينة، فكان المؤمنون يستأذنون، والمنافقون يذهبون دون إذن، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالاستغفار لصنفي المؤمنين: من أذن له، ومن لم يؤذن له. وفي ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم.
وقوله تعالى: { لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا } أي: لا تخاطبوه كمخاطبة بعضكم لبعض، وأمرهم تعالى في هذه الآية وفي غيرها أن يدعوا رسول الله بأشرف أسمائه؛ وذلك هو مقتضى التوقير، فالأدب في الدعاء أن يقول: يا رسول الله، ويكون ذلك بتوقير وبر، وخفض صوت، قاله محاهد، واللواذ: الروغان، ثم أمرهم تعالى بالحذر من عذاب الله ونقمته إذا خالفوا أمره ومعنى { يخالفون عن أمره } أي: يقع خلافهم بعد أمره، ثم أخبر تعالى أنه قد علم ما أهل الأرض والسماء عليه، وباقي الآية بين، والحمد لله.
[25 - سورة الفرقان]
[25.1-3]
قوله تعالى: { تبرك }. هو مطاوع «بارك» من البركة، و«بارك» فاعل من واحد، ومعناه: زاد، و«تبارك»: فعل مختص بالله تعالى، لم يستعمل في غيره، وهو صفة فعل، أي: كثرت بركاته، ومن جملتها: إنزال كتابه الذي هو الفرقان بين الحق والباطل، والضمير في قوله: { ليكون }.
قال ابن زيد: هو لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو عبده المذكور، ويحتمل أن يكون للفرقان.
وقوله: { وخلق كل شيء } عام في كل مخلوق، ثم عقب تعالى بالطعن على قريش في اتخاذهم آلهة ليست لها صفات الألوهية. والنشور: بعث الناس من القبور.
[25.4-6]
{ وقال الذين كفروا } يعني: قريشا { إن هذا إلا إفك افتره }: محمد، { وأعانه عليه قوم ءاخرون } تقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة النحل، ثم أكذبهم الله تعالى، وأخبر أنهم ما جاؤوا إلا إثما وزورا، أي: ما قالوا إلا باطلا وبهتانا؛ قال البخاري: { تملى عليه } تقرأ عليه؛ من أمليت وأمللت، انتهى. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول: إن الذي أنزله هو الذي يعلم سر جميع الأشياء التي في السموات والأرض، وعبارة الشيخ العارف بالله، سيدي عبد الله بن أبي جمرة (رضي الله عنه): ولما كان المراد منا بمقتضى الحكمة الربانية العبادة ودوامها؛ ولذلك خلقنا كما ذكر مولانا سبحانه في الآية الكريمة، يعني:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
الآية [الذاريات:56].
وهو عز وجل غني عن عبادتنا وعن كل شيء؛ لكن الحكمة اقتضته لأمر لا يعلمه إلا هو؛ كما قال الله عز وجل: { الذي يعلم السر في السموت والأرض } أي: الذي يعلم الحكمة في خلقها وكذلك في خلقنا وخلق جميع المخلوقات، انتهى.
[25.7-14]
{ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام... } الآية: المعنى عندهم: أن من كان رسولا فهو مستغن عن الأكل والمشي في الأسواق، ومحاجتهم بهذا مذكورة في السير، ثم أخبر تعالى عن كفار قريش، وهم الظالمون المشار إليهم، أنهم قالوا: { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } أي: قد سحر، ثم نبه تعالى نبيه مسليا له عن مقالتهم فقال: { انظر كيف ضربوا لك الأمثال... } الآية، والقصور التي في هذه الآية تأولها الثعلبي وغيره أنها في الدنيا، والقصور هي البيوت المبنية بالجدرات، لأنها قصرت عن الداخلين والمستأذنين، وباقي الآية بين، والضمير في { رأتهم } لجهنم.
[25.15-18]
وقوله سبحانه: { قل أذلك خير أم جنة الخلد } المعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفرة الصائرين إلى هذه الأحوال من النار: أذلك خير أم جنة الخلد، وهذا استفهام على جهة التوقيف والتوبيخ؛ لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء؛ ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطإ.
وقوله تعالى: «ويوم يحشرهم» يعني الكفار، { وما يعبدون من دون الله } يريد كل شيء عبد من دون الله، وقرأ ابن عامر: «فنقول» بالنون، قال جمهور المفسرين: والموقف المجيب كل من ظلم بأن عبد ممن يعقل كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم، وقال الضحاك وعكرمة: الموقف المجيب: الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله تعالى على هذه المقالة، ويجيء خزي الكفرة لذلك أبلغ، وقرأ الجمهور: «نتخذ» بفتح النون ، وذهبوا بالمعنى إلى أنه من قول من يعقل، وأن هذه الآية بمعنى التي في سورة سبإ:
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة
الآية [سبأ:40].
وكقول عيسى:
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به
[المائدة:117].
وقولهم: { حتى نسوا الذكر } أي: ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء - عليهم السلام -، وقرأ زيد بن ثابت وجماعة: «نتخذ» بضم النون .
[25.19-24]
وقوله تعالى: { فقد كذبوكم... } الآية: خطاب من الله تعالى للكفرة، أخبرهم أن معبوداتهم كذبتهم، وفي هذا الإخبار خزي وتوبيخ لهم، وقرأ حفص عن عاصم: «فما تستطيعون» بالتاء من فوق ؛ قال مجاهد: الضمير في «يستطيعون» هو للمشركين، و { صرفا } معناه رد التكذيب أو العذاب.
وقوله تعالى: { ومن يظلم منكم } قيل: هو خطاب للكفار، وقيل: للمؤمنين، والظلم هنا: الشرك، قاله الحسن وغيره، وقد يحتمل أن يعم غيره من المعاصي، وفي حرف أبي: «ومن يكذب منكم نذقه عذابا كبيرا».
وقوله تعالى: { وما أرسلنا قبلك من المرسلين... } الآية: رد على قريش في قولهم: { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ثم أخبر عز وجل أن السبب في ذلك أنه جعل بعض عبيده فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، والتوقيف ب { أتصبرون } خاص بالمؤمنين المحققين، قال ابن العربي في «الأحكام»: ولما كثر الباطل في الأسواق، وظهرت فيه المناكر كره علماؤنا دخولها لأرباب الفضل والمقتدى يهم في الدين؛ تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله تعالى فيها، انتهى. ثم أعرب قوله تعالى: { وكان ربك بصيرا } عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة "
رواه الترمذي وابن ماجه، وهذا لفظ الترمذي، وزاد في رواية أخرى: «وبنى له بيتا في الجنة» ورواه الحاكم في «المستدرك» من عدة طرق، انتهى من «السلاح».
وقوله تعالى: { وقال الذين لا يرجون لقاءنا... } الآية: الرجاء هنا على بابه، وقيل: هو بمعنى الخوف، ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم أخبر تعالى عنهم أنهم عظموا أنفسهم، وسألوا ما ليسوا له بأهل.
* ص * { لقد } جواب قسم محذوف، انتهى. والضمير في قوله: { ويقولون } قال مجاهد، وغيره: هو للملائكة، والمعنى: يقول الملائكة للمجرمين: حجرا محجورا عليكم البشرى، أي: حراما محرما، والحجر: الحرام، وقال مجاهد أيضا وابن جريج: الضمير للكافرين المجرمين، قال ابن جريج: كانت العرب إذا كرهوا شيئا، قالوا: حجرا، قال مجاهد: عوذا يستعيذون من الملائكة.
قال * ع *: ويحتمل أن يكون المعنى: ويقولون حرام محرم علينا العفو، وقد ذكر أبو عبيدة أن هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها من خاف آخر في الحرم، أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة؛ قال الداودي: وعن مجاهد: { وقدمنا } أي: عمدنا، انتهى.
قال * ع *: { وقدمنا } أي: حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة، ومعنى الآية: وقصدنا إلى أعمالهم التي لا تزن شيئا فصيرناها هباء، أي: شيئا لا تحصيل له، والهباء: ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة ولا يكاد يرى إلا في الشمس، قاله ابن عباس وغيره، ومعنى هذه الآية: جعلنا أعمالهم لا حكم لها ولا منزلة، ووصف تعالى الهباء في هذه الآية بمنثور، ووصفه في غيرها بمنبث فقالت فرقة: هما سواء، وقالت فرقة: المنبث: أرق وأدق من المنثور؛ لأن المنثور يقتضي أن غيره نثره، والمنبث كأنه انبث من دقته.
وقوله تعالى: { وأحسن مقيلا } ذهب ابن عباس والنخعي وابن جريج: إلى أن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فالمقيل: القائلة.
قال * ع *: ويحتمل أن اللفظة إنما تضمنت تفضيل الجنة جملة، وحسن هوائها؛ فالعرب تفضل البلاد بحسن المقيل؛ لأن وقت القائلة يبدي فساد هواء البلاد، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء حسنا حاز الفضل، وعلى ذلك شواهد.
[25.25-29]
{ ويوم تشقق السماء } يريد: يوم القيامة.
* ص *: { بالغمم } الباء: للحال، أي: متغيمة، أو للسبب، أو بمعنى «عن»، انتهى. وفي قوله تعالى: { وكان يوما على الكفرين عسيرا }: دليل على أنه سهل على المؤمنين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله ليهون يوم القيامة على المؤمن، حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا "
وعض اليدين هو فعل النادم؛ قال ابن عباس وجماعة من المفسرين: الظالم في هذه الآية عقبة بن أبي معيط؛ وذلك أنه كان أسلم أو جنح إلى الإسلام، وكان أبي بن خلف الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد خليلا لعقبة، فنهاه عن الإسلام، فقبل نهيه؛ فنزلت الآية فيهما، فالظالم: عقبة، و { فلانا } أبي قال السهيلي: وكنى سبحانه عن هذا الظالم ولم يصرح باسمه؛ ليكون هذا الوعيد غير مخصوص به ولا مقصور عليه؛ بل يتناول جميع من فعل مثل فعله، انتهى.
وقال مجاهد وغيره: { الظالم } عام، اسم جنس، وهذا هو الظاهر، وأن مقصد الآية تعظيم يوم القيامة وذكر هوله بأنه يوم تندم فيه الظلمة، وتتمنى أنها لم تطع في دنياها إخلاءها، والسبيل المتمناة: هي طريق الآخرة، وفي هذه الآية لكل ذي نهية تنبيه على تجنب قرين السوء، والأحاديث والحكم في هذا الباب كثيرة مشهورة، و { الذكر }: ما ذكر الإنسان أمر آخرته من قرآن، أو موعظة ونحوه.
{ وكان الشيطان للإنسن خذولا } يحتمل: أن يكون من قول الظالم، ويحتمل: أن يكون ابتداء إخبار من الله عز وجل على وجه التحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ
[25.30-34]
وقوله تعالى: { وقال الرسول } حكاية عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وتشكيه ما يلقى من قومه؛ هذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وقالت فرقة: هو حكاية عن قوله ذلك في الآخرة، و { مهجورا } يحتمل: أن يريد مبعدا مقصيا من الهجر بفتح الهاء، وهذا قول ابن زيد، ويحتمل: أن يريد مقولا فيه الهجر بضم الهاء؛ إشارة إلى قولهم: شعر وكهانة ونحوه؛ قاله مجاهد.
قال * ع *: وقول ابن زيد منبه للمؤمن على ملازمة المصحف، وألا يكون الغبار يعلوه في البيوت، ويشتغل بغيره، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من علق مصحفا، ولم يتعاهده جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب، هذا اتخذني مهجورا؛ اقض بيني وبينه "
وفي حلية النووي قال: وروينا في سنن أبي داود ومسند الدارمي عن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لمن قرأ القرآن ثم نسيه، لقي الله تعالى يوم القيامة أجذم "
، وروينا في كتاب أبي داود والترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها "
تكلم الترمذي فيه، انتهى، ثم سلاه تعالى عن فعل قومه بقوله: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } أي: فاصبر كما صبروا؛ قاله ابن عباس، ثم وعد تعالى بقوله: { وكفى بربك هاديا ونصيرا } والباء في { بربك }: للتأكيد دالة على الأمر؛ إذ المعنى: اكتف بربك.
{ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } قال ابن عباس وغيره: قالوا في بعض معارضاتهم: لو كان من عند الله لنزل جملة كالتوراة والإنجيل.
وقوله: { كذلك } يحتمل أن يكون من قول الكفار؛ إشارة إلى التوراة والإنجيل، ويحتمل أن يكون من الكلام المستأنف وهو أولى، ومعناه: كما نزل أردناه، فالإشارة إلى نزوله متفرقا، والترتيل: التفريق بين الشيء المتتابع، ومنه ترتيل القرآن، وجعل الله تعالى السبب في نزوله متفرقا تثبيت قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن ينزله في النوازل والحوادث التي قد قدرها وقدر نزوله فيها، وأن هؤلاء الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة منهم إلا جاء القرآن بالحق في ذلك والجلية، ثم هو أحسن تفسيرا، وأفصح بيانا، وباقي الآية بين تقدم تفسير نظيره، والجمهور: أن هذا المشي على الوجوه حقيقة، وقد جاء كذلك في الحديث، وقد تقدم ولفظ البخاري عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا نبي الله، أيحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال:
" أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة "
قال قتادة: بلى وعزة ربنا، انتهى.
[25.35-44]
وقوله تعالى: { ولقد ءاتينا موسى الكتب... } الآيات تنبيه لكفار قريش، وتوعد أن يحل بهم ما حل بهؤلاء المعذبين؛ قال قتادة: أصحاب الرس، وأصحاب الأيكة: قومان أرسل إليهما شعيب، وقاله وهب بن منبه، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: { وقرونا بين ذلك كثيرا } إبهام لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل، والتبار: الهلاك، والقرية التي أمطرت مطر السوء هي: «سدوم» مدينة قوم لوط، وما لم نذكر تفسيره قد تقدم بيانه للفاهم المتيقظ، ثم ذكر سبحانه أنهم إذا رأوا محمدا عليه السلام قالوا على جهة الاستهزاء: { أهذا الذي بعث الله رسولا }.
قال * ص *: { إن يتخذونك } إن نافية، جواب «إذا»، انتهى، ثم أنس الله تعالى نبيه بقوله: { أرءيت من اتخذ إلهه هواه... } الآية, المعنى: لا تتأسف عليهم ومعنى { اتخذ إلهه هوه } أي: جعل هواه مطاع فصار كالإله { إن هم إلا كالأنعم } أي: بل هم كالأنعام.
قلت: وعبارة الواحدي: { إن هم } أي: ما هم إلا كالأنعام، انتهى.
[25.45-52]
وقوله سبحانه: { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل... } الآية: مد الظل بإطلاق: هو ما بين أول الإسفار إلى بزوغ الشمس، ومن بعد مغيبها أيضا وقتا يسيرا؛ فإن في هذين الوقتين على الأرض كلها ظلا ممدودا.
{ ولو شآء لجعله ساكنا } أي: ثابتا غير متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل الشمس ونسخها إياه، وطردها له من موضع إلى موضع؛ دليلا عليه مبينا لوجوده ولوجه العبرة فيه، وحكى الطبري أنه: لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء، إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها.
وقوله تعالى: { قبضا يسيرا } يحتمل أن يريد، لطيفا، أي: شيئا بعد شيء، لا في مرة واحدة.
قال الداوودي: قال الضحاك: { قبضا يسيرا } يعني: الظل إذا علته الشمس، انتهى. قال الطبري: ووصف الليل باللباس من حيث يستر الأشياء ويغشاها، والسبات: ضرب من الإغماء يعترى اليقظان مرضا، فشبه النوم به، والنشور هنا: الإحياء، شبه اليقظة به، ويحتمل أن يريد بالنشور وقت انتشار وتفرق، و { أناسي }: قيل هو جمع إنسان، والياء المشددة بدل من النون في الواحد، قاله سيبويه، وقال المبرد: هو جمع إنسي، والضمير في { صرفناه } عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر، ويعضد ذلك قوله: { وجاهدهم به جهادا كبيرا }.
[25.53-57]
وقوله تعالى: { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج } مرج معناه: خلط.
قال * ع *: والذي أقول به في معنى هذه الآية: أن المقصود بها التنبيه على قدرة الله تعالى في أن بث في الأرض مياها عذبة كثيرة، جعلها خلال الأجاج، وجعل الأجاج خلالها، كما هو مرئي تجد البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفته، وتجد الماء العذب في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج، وكل باق على حاله ومطعمه؛ فالبحران: يراد بهما جميع الماء العذب، وجميع الماء الأجاج، والبرزخ والحجر هو ما بين البحرين من الأرض واليبس؛ قاله الحسن،، والفرات: الصافي اللذيذ المطعم، والأجاج أبلغ ما يكون من الملوحة.
وقوله تعالى: { وهو الذي خلق من الماء بشرا... } الآية تعديد نعم على الناس، والنسب: هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أوأم، والصهر هو تواشج المناكحة، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار يقع عاما لذلك كله.
وقوله تعالى: { وكان الكفر على ربه ظهيرا } أي: معينا؛ يعينون على ربهم غيرهم من الكفرة بطاعتهم للشيطان، وهذا تأويل مجاهد وغيره، والكافر هنا اسم جنس، وقال ابن عباس: هو أبو جهل.
قال * ع *: فيشبه أن أبا جهل هو سبب الآية ، ولكن اللفظ عام للجنس كله.
قلت: والمعنى: على دين ربه ظهيرا.
وقوله تعالى: { إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا } الظاهر فيه: أنه استثناء منقطع، والمعنى: لكن مسؤولي ومطلوبي من شاء أن يهتدي ويؤمن، ويتخذ إلى رحمة ربه طريق نجاة.
[25.58-59]
وقوله سبحانه: { وتوكل على الحي الذي لا يموت }.
قال القشيري في «التحبير»: وإذا علم العبد أن مولاه حي لا يموت، صح توكله عليه؛ قال تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت } قيل: إن رجلا كتب إلى آخر أن صديقي فلانا قد مات، فمن كثرة ما بكيت عليه ذهب بصري، فكتب إليه: الذنب لك حين أحببت الحي الذي يموت، فهلا أحببت الحي الذي لا يموت حتى لا تحتاج إلى البكاء عليه، انتهى. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل عليه السلام فقال يا محمد، قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا "
رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح».
وقوله تعالى: { وسبح بحمده } أي: قل: سبحان الله وبحمده أي: تنزيهه واجب وبحمده أقول، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قال في كل يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر "
فهذا معنى قوله: { وسبح بحمده } وهي إحدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان الثقيلتين في الميزان، الحديث في البخاري وغيره.
* ت *: وعن جويرية - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال:
" ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته "
رواه الجماعة إلا البخاري، زاد النسائي في آخره: «والحمد لله كذلك» وفي رواية له: «سبحان الله وبحمده، ولا إله إلا الله، والله إكبر عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» انتهى من «السلاح». وقوله سبحانه: { وكفى به بذنوب عباده خبيرا }: وعيد بين.
وقوله تعالى: «الرحمن»: يحتمل أن يكون: رفعه بإضمار مبتدإ، أي: هو الرحمن، ويحتمل أن يكون: بدلا من الضمير في قوله: { استوى }.
وقوله: { فسئل به خبيرا } فيه تأويلان: أحدهما: فاسأل عنه خبيرا والمعنى: اسأل جبريل والعلماء وأهل الكتاب، والثاني: أن يكون المعنى كما تقول: لو لقيت فلانا لقيت له البحر كرما، أي: لقيت منه، والمعنى: فاسأل الله عن كل أمر، وقال عياض في «الشفا» قال القاضي أبو بكر بن العلاء: المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه وسلم والمسؤول الخبير هو النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
قال أبو حيان: والظاهر تعلق به { فاسأل } وبقاء الباء على بابها، و { خبيرا } من صفاته تعالى، نحو: لقيت بزيد أسدا، أي: أنه الأسد شجاعة، والمعنى: فاسأل الله الخبير بالأشياء، انتهى.
[25.60-61]
{ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } يعني أن كفار قريش قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، وهو مسيلمة الكذاب، وكان مسيلمة تسمى بالرحمن.
{ أنسجد لما تأمرنا وزادهم } هذا اللفظ { نفورا } والبروج هي التي علمتها العرب، وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات، وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله:
والقمر قدرنه منازل
[يس:39].
[25.62-63]
{ وهو الذي جعل اليل والنهار خلفة } أي: هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، قال مجاهد وغيره: { لمن أراد أن يذكر } أي: يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على آلائه، وقال عمر وابن عباس والحسن: معناه: لمن أراد أن يذكر ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه، وقرأ حمزة وحده: «يذكر» بسكون الذال وضم الكاف، ثم لما قال تعالى: { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } جاء بصفات عباده الذين هم أهل التذكرة والشكور .
وقوله: { الذين يمشون }. خبر مبتدإ، والمعنى: وعباده حق عباده هم الذين يمشون.
وقوله: { يمشون على الأرض } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، و { هونا } بمعنى أن أمرهم كله هين، أي: لين حسن؛ قال مجاهد: بالحلم والوقار.
وقال ابن عباس بالطاعة والعفاف والتواضع، وقال الحسن: حلماء، إن جهل عليهم لم يجهلوا.
قال الثعلبي: قال الحسن: يمشون حلماء علماء مثل الأنبياء، لا يؤذون الذر في سكون وتواضع وخشوع، وهو ضد المختال الفخور الذي يختال في مشيه، اه.
قال عياض في صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: يخطو تكفؤا، ويمشي هونا، كأنما ينحط من صبب، انتهى من «الشفا».
قال أبو حيان: { هونا }: نعت لمصدر محذوف، أي: مشيا هونا، أول حال، أي: هينين، انتهى، وروى الترمذي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب، هين، سهل "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى.
{ وإذا خاطبهم الجهلون قالوا سلما } العامل في { سلاما } { قالوا } ، والمعنى: قالوا هذا اللفظ، وقال مجاهد: معنى { سلاما }: قولا سدادا، أي: يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة، وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، قال صاحب «الحكم الفارقية»: إذا نازعك إنسان فلا تجبه؛ فإن الكلمة الأولى أنثى واجباتها فحلها، فإن أمسكت عنها بترتها وقطعت نسلها، وإن أجبتها ألقحتها، فكم من نسل مذموم يتولد بينهما في ساعة واحدة، انتهى.
[25.64-66]
{ والذين يبيتون لربهم سجدا وقيما } هذه آية فيها تحريض على قيام الليل بالصلاة، قال الحسن: لما فرغ من وصف نهارهم، وصف في هذه ليلهم، و { غراما }: معناه: ملازما ثقيلا، و { مقاما }: من الإقامة، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
" من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم، أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجره من النار "
رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه، وابن حبان في «صحيحه» بلفظ واحد، ورواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح».
[25.67]
وقوله سبحانه: { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا... } الآية: عبارة أكثر المفسرين أن الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة وإن أفرط، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه، وإن المقتر هو الذي يمنع حقا عليه؛ وهذا قول ابن عباس وغيره، والوجه أن يقال: إن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات والمباحات، فأدب الشريعة فيها إلا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا، ألا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي: المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخير الأمور أوساطها؛ ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله؛ لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره من ذلك.
وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر: الحسنة بين السيئتين، ثم تلا الآية، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله. و { قواما }: خبر { كان } واسمها مقدر، أي: الإنفاق.
[25.68-72]
{ والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر } الآية: في نحو هذه الآية قال ابن مسعود: قلت يوما: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال:
" أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي قال: أن تقتل ولدك، خشية أن يطعم معك: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك "
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية والأثام في كلام العرب: العقاب، وبه فسر ابن زيد وقتادة هذه الآية.
قال * ع *: { يضعف }: بالجزم بدل من { يلق } قال سيبويه: مضاعفة العذاب هو لقي الأثام.
وقوله تعالى: { إلا من تاب } بلا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني، واختلفوا في القاتل ، وقد تقدم بيان ذلك في «سورة النساء».
وقوله سبحانه: { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنت } أي: بأن يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأولى طاعة؛ قاله ابن عباس وغيره، ويحتمل أن يكون ذلك في يوم القيامة، يجعل بدل السيئات الحسنات؛ تكرما منه سبحانه وتعالى؛ كما جاء في «صحيح مسلم»، وهو تأويل ابن المسيب.
* ص *: والأولى: ويحتمل أن يكون الاستثناء هنا منقطعا، أي: لكن من تاب وآمن، وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، انتهى. ثم أكد سبحانه أمر التوبة، ومدح المتاب فقال: { ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا } كأنه قال: فإنه يجد بابا للفرج والمغفرة عظيما، ثم استمرت الآيات في صفة عباد الله المؤمنين بأن نفى عنهم شهادة الزور، و { يشهدون } في هذا الموضع ظاهر، معناها: يشاهدون ويحضرون، والزور: كل باطل زور، وأعظمه الشرك، وبه فسر الضحاك، ومنه الغناء، وبه فسر مجاهد، وقال علي وغيره: معناه لا يشهدون بالزور، فهي من الشهادة لا من المشاهدة، والمعنى الأول أعم. واللغو: كل سقط من فعل أو قول، وقال الثعلبي: اللغو كل ما ينبغي أن يطرح ويلغى، انتهى. و { كراما } معناه: معرضين مستحيين، يتجافون عن ذلك، ويصبرون على الأذى فيه.
قال * ع *: وإذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغيره، وحدود التغير معروفة.
[25.73-76]
وقوله تعالى: { والذين إذا ذكروا بئايت ربهم } يريد: ذكروا بالقرآن أمر آخرتهم ومعادهم.
وقوله: { لم يخروا عليها صما وعميانا } يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون المعنى: لم يكن خرورهم بهذه الصفة؛ بل يكونوا سجدا وبكيا، وهذا كما تقول: لم يخرج زيد إلى الحرب جزعا، أي: إنما خرج جريئا مقداما، وكأن الذي يخر أصم أعمى هو المنافق أو الشاك، والتأويل الثاني: ذهب إليه الطبري وهو أن يخروا صما وعميانا هي صفة للكفار، وهي عبارة عن إعراضهم.
وقال الفراء: { لم يخروا } ، أي: لم يقيموا، وهو نحو تأويل الطبري، انتهى. وقال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { والذين إذا ذكروا بئايت ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا }.
قال علماؤنا: يعني الذين إذا قرأوا القرآن قرأوه بقلوبهم قراءة فهم وتثبيت، ولم ينثروه الدقل، فإن المرور عليه بغير فهم ولا تثبيت صمم وعمى، انتهى. وقرة العين: من القر وهذا هو الأشهر؛ لأن دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن؛ فلهذا يقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو، وقرة العين في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله تعالى؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب، والابن كافر، والزوج والزوجة كافرة، فكانت قرة أعينهم في إيمان أحبابهم.
{ واجعلنا للمتقين إماما } أي: اجعلنا يأتم بنا المتقون، وذلك بأن يكون الداعي متقيا قدوة وهذا هو قصد الداعي، قال النخعي لم يطلبوا الرياسة، بل أن يكونوا قدوة في الدين، وهذا حسن أن يطلب ويسعى له.
قال الثعلبي: قال ابن عباس: المعنى: واجعلنا أئمة هدى، انتهى، وهو حسن، لأنهم طلبوا أن يجعلهم أهلا لذلك. والغرفة من منازل الجنة وهي الغرف فوق الغرف، وهي اسم جنس؛ كما قال: [من الهزج]
ولولا الحبة السمرا
ء لم نحلل بواد يكم
* ت *: وأخرج أبو القاسم، زاهر بن طاهر بن محمد بن الشحامي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن في الجنة لغرفا ليس لها معاليق من فوقها ولا عماد من تحتها، قيل: يا رسول الله، وكيف يدخلها أهلها؟ قال: يدخلونها أشباه الطير، قيل: هي يا رسول الله لمن؟ قال: هي لأهل الأسقام والأوجاع والبلوى "
انتهى من «التذكرة». وقرأ حمزة وغيره: «يلقون» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف.
[25.77]
وقوله تعالى: { قل ما يعبأ بكم } الآية، ما نافية وتحتمل التقرير، ثم الآية تحتمل أن تكون خطابا لجميع الناس، فكأنه قال لقريش منهم: ما يبالي الله بكم، ولا ينظر إليكم لولا عبادتكم إياه، أن لو كانت إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله؛ قال تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات:56].
وقال النقاش وغيره: المعنى: لولا استغاثتكم إليه في الشدائد، وقرأ ابن الزبير وغيره: «فقد كذب الكافرون» وهذا يؤيد أن الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس، ثم يقول لقريش: فأنتم قد كذبتم، ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب أو التكذيب الذي هو سبب العذاب لزاما، ويحتمل أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة وقال الداوودي: وعن ابن عيننة: { لولا دعآؤكم } معناه: لولا دعاؤكم إياه لتيطعوه، انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه»: زعم بعض الأدباء أن { لولا دعآؤكم } معناه: لولا سؤالكم إياه وطلبكم منه، ورأى أنه مصدر أضيف إلى فاعل، وليس كما زعم؛ وإنما هو مصدر أضيف إلى مفعول، والمعنى: قل يا محمد للكفار: لولا دعاؤكم ببعثة الرسول إليكم وتبين الأدلة لكم فقد كذبتم؛ فسوف يكون لزاما؛ ذكر هذا عند قوله تعالى:
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا
[النور:63]
في آخر سورة النور، انتهى.
* ت * والحق أن الآية محتملة لجميع ما تقدم، ومن ادعى التخصيص فعليه بالدليل، والله أعلم.
ويعبأ: مشتق من العبء وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش.
قال الثعلبي: قال أبو عبيدة: يقال: ما عبأت به شيئا، أي: لم أعده شيئا فوجوده وعدمه سواء، انتهى.
وقال العراقي: { ما يعبأ } أي: ما يبالي، انتهى. وأكثر الناس على أن اللزام المشار إليه هو يوم بدر، وقالت فرقة: هو توعد بعذاب الآخرة، وقال ابن عباس: اللزام الموت، وقال البخاري: { فسوف يكون لزاما } أي: هلكة، انتهى.
[26 - سورة الشعراء]
[26.1-4]
قوله تعالى: { طسم * تلك آيات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } تقدم الكلام على الحروف التي في أوائل السور، والباخع: القاتل والمهلك نفسه بالهم، والخضوع للآية المنزلة إما لخوف هلاك كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإما لأجل الوضوح وبهر العقول، بحيث يقع الإذعان لها،، والأعناق الجارحة المعلومة، وذلك أن خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد.
وقيل: المراد بالأعناق جماعتهم؛ يقال: جاء عنق من الناس، أي: جماعة.
[26.5-9]
وقوله تعالى: { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد كذبوا فسيأتيهم أنبؤا ما كانوا به يستهزءون * أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم } تقدم تفسير هذه الجملة فانظره في محله، وقوله تعالى: { فسيأتيهم } وعيد بعذاب الدنيا كبدر وغيرها، ووعيد بعذاب الآخرة، والزوج: النوع والصنف، والكريم: الحسن المتقن قاله مجاهد وغيره.
وقوله تعالى: { وما كان أكثرهم مؤمنين } حتم على أكثرهم بالكفر، ثم توعد تعالى بقوله: { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي: عزيز في انتقامه من الكفار، رحيم بأوليائه المؤمنين.
[26.10-21]
وقوله تعالى: { وإذ نادى ربك موسى } التقدير: واذكر إذ نادى ربك موسى، وسوق هذه القصة تمثيل لكفار قريش في تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { فأرسل إلى هرون } معناه: يعينني { ولهم علي ذنب } يعني قتله القبطي.
وقوله تعالى: { كلا } رد لقوله: { إني أخاف } أي: لا تخف ذلك، وقول فرعون لموسى: { ألم نربك فينا وليدا } هو على جهة المن عليه والاحتقار، أي: ربيناك صغيرا، ولم نقتلك في جملة من قتلنا { ولبثت فينا من عمرك سنين }: فمتى كان هذا الذي تدعيه، ثم قرره على قتل القبطي بقوله: { وفعلت فعلتك } والفعلة - بفتح الفاء -: المرة، وقوله: { وأنت من الكفرين } يريد: وقتلت القبطي وأنت في قتلك أباه من الكافرين؛ إذ هو نفس لا يحل قتلها؛ قاله الضحاك، أو يريد: وأنت من الكافرين بنعمتي في قتلك إياه؛ قاله ابن زيد؛ ويحتمل أن يريد: وأنت الآن من الكافرين بنعمتي، وكان بين خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا إلى فرعون أحد عشر عاما غير أشهر.
وقوله: { قال فعلتها إذا }: من كلام موسى عليه السلام والضمير في قوله: { فعلتها } لقتلة القبطي. وقوله: { وأنا من الضالين } قال ابن زيد: معناه: من الجاهلين بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه، وقال أبو عبيدة: معناه: من الناسين، ونزع بقوله:
أن تضل إحداهما
[البقرة:282]، وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس: «وأنا من الجاهلين»، ويشبه أن تكون هذه القراءة على جهة التفسير، و { حكما } يريد: النبوة وحكمتها.
وقوله: { وجعلني من المرسلين } درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول.
[26.22-34]
وقوله: { وتلك نعمة تمنها علي } الآية: قال قتادة: هذا من موسى على جهة الإنكار على فرعون لعنه الله كأنه يقول: أو يصح لك أن تعد علي نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟! أي: ليست بنعمة؛ لأن الواجب كان ألا تقتلني ولا تقتلهم، ولا تستعبدهم،، وقرأ الضحاك: «وتلك نعمة ما لك أن تمنها علي» وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وقال الطبري والسدي: هذا الكلام من موسى عليه السلام علي جهة الإقرار بالنعمة كأنه يقول: نعم، وتربيتك نعمة علي؛ من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن ذلك لا يدفع رسالتي، ولما لم يجد فرعون حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله: { وما رب العالمين } واستفهمه استفهاما فقال موسى هو { رب السماوات والأرض... } الآية, فقال فرعون لعنه الله عند ذلك: { ألا تستمعون }: على معنى الإغراء والتعجب من شنعة المقالة إذا كانت عقيدة القوم؛ أن فرعون ربهم ومعبودهم، والفراعنة قبله كذلك، فزاده موسى في البيان بقوله: { ربكم ورب آبآئكم الأولين } فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف: { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } فزاده موسى في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي ربوبية المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر، ولما انقطع فرعون في باب الحجة، رجع إلى الاستعلاء والتغلب فقال لموسى: { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } وفي توعده بالسجن ضعف؛ لأنه خارت طباعه معه، وكان فيما روي أنه يفزع من موسى فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله، وكان عند موسى من أمر الله والتوكل عليه ما لا يفزعه توعد فرعون، فقال له موسى على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: { أولو جئتك بشيء مبين }: يتضح لك معه صدقي، فلما سمع فرعون ذلك طمع أن يجد أثناءه موضع معارضة فقال له: { فأت به إن كنت من الصادقين } فألقى موسى عصاه { فإذا هي ثعبان مبين } على ما تقدم بيانه ونزع يده: من جيبه { فإذا هي }: تتلألأ كأنها قطعة من الشمس، فلما رأى فرعون ذلك هاله، ولم يكن له فيه مدفع غير أنه فزع إلى رميه بالسحر.
[26.35-45]
وقوله: { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } تقدم بيانه، وكذلك قولهم: { وابعث في المدآئن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم } تقدم بيانه.
وقوله تعالى: { قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين } يريد بتقريبهم الجاه الزائد على العطاء الذي طلبوه.
[26.46-68]
وقوله تعالى: { فألقي السحرة سجدين * قالوا ءامنا برب العلمين * رب موسى وهرون * قال ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنآ إلى ربنا منقلبون } تقدم بيان هذه الجملة، والحمد لله فانظره في محله؛ قال ابن العربي في «أحكامه»: قال مالك: دعا موسى فرعون أربعين سنة إلى الإسلام، وأن السحرة آمنوا في يوم واحد، انتهى، وقولهم: { لا ضير } أي: لا يضرنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله ورضوانه، وقولهم: { أن كنا أول المؤمنين } يريدون: من القبط وصنيفتهم، وإلا فقد كانت بنو إسرائيل آمنت، والشرذمة: الجمع القليل المحتقر، وشرذمة كل شيء: بقيته الخسيسة.
وقوله: { لغائظون } يريد بخلافهم الأمر وبأخذهم الأموال عارية و { حذرون } جمع حذر، والضمير في قوله: { فأخرجنهم } عائد على القبط والجنات والعيون بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد؛ قاله ابن عمر وغيره، والمقام الكريم: قال ابن لهيعة: هو الفيوم، وقيل: هو المنابر، وقيل: مجالس الأمراء والحكام، وقيل: المساكن الحسان، و { مشرقين } معناه: عند شروق الشمس، وقيل: معناه: نحو المشرق والطود: هو الجبل، و { أزلفنا } معناه: قربنا، وقرأ ابن عباس: { وأزلقنا } بالقاف.
[26.69-82]
{ واتل عليهم نبأ إبرهيم... } الآية: هذه الآية تضمنت الإعلام بغيب، والعكوف: اللزوم.
وقوله: { فإنهم عدو لي إلا رب العلمين } قالت فرقة: هو استثناء متصل، لأن في الآباء الأقدمين من قد عبد الله تعالى، وقالت فرقة: هو استثناء منقطع؛ لأنه إنما أراد عباد الأوثان من كل قرن منهم، وأسند إبراهيم عليه السلام المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه عز وجل، وهذا حسن أدب في العبارة، والكل من عند الله، وأوقف عليه السلام نفسه على الطمع في المغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه مع علو منزلته عند الله، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى. وفي «صحيح مسلم» عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: جناها "
انتهى، وعنه صلى الله عليه وسلم:
" من عاد مريضا لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله سبحانه "
خرجه أبو داود، والترمذي، والحاكم في «المستدرك على الصحيحين» بالإسناد الصحيح، انتهى من «حلية النووي»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من عاد مريضا لم يحضر أجله، فقال عند رأسه سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض "
رواه أبو داود واللفظ له، والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان في «صحيحيهما» بمعناه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، يعني: البخاري ومسلما، وفي رواية النسائي وابن حبان: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد المريض، جلس عند رأسه، ثم قال»، فذكر مثله بمعناه انتهى من «السلاح».
وقوله: { خطيئتي } ذهب أكثر المفسرين إلى: أنه أراد كذباته الثلاث، قوله: هي أختي في شأن سارة، وقوله:
إني سقيم
[الصافات:89].
وقوله:
بل فعله كبيرهم
[الأنبياء:63], وقالت فرقة: أراد بالخطيئة اسم الجنس، فدعا في كل أمره من غير تعيين.
قال * ع *: وهذا أظهر عندي.
[26.83-106]
وقوله: { رب هب لي حكما }: أي حكمة ونبوة، ودعاؤه في مثل هذا هو في معنى التثبيت والدوام، ولسان الصدق: هو الثناء الحسن، واستغفاره لأبيه في هذه الآية هو قبل أن يتبين له أنه عدو لله.
وقوله: { بقلب سليم } معناه: خالص من الشرك والمعاصي وعلق الدنيا المتروكة، وإن كانت مباحة؛ كالمال والبنين؛ قال سفيان هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره.
قال * ع *: وهذا يقتضي عموم اللفظة، ولكن السليم من الشرك هو الأهم، وقال الجنيد: بقلب لديغ من خشية الله، والسليم: اللديغ.
* ص *: { إلا من أتى الله } الظاهر أنه استثناء منقطع، أي: لكن من أتى الله بقلب سليم، نفعته سلامة قلبه، انتهى. { وأزلفت } معناه: قربت، والغاوون الذين برزت لهم الجحيم هم: المشركون، ثم أخبر سبحانه عن حال يوم القيامة من أن الأصنام تكبكب في النار، أي: تلقى كبة واحدة.
وقال * ص *: { فكبكبوا } ، أي: قلب بعضهم على بعض، وحروفه كلها أصول عند جمهور البصريين، وذهب الزجاج وابن عطية وغيرهما إلى أنه مضاعف الباء من «كب».
وقال غيرهما: وجعل التكرير من اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، وذهب الكوفيون إلى: أن أصله «كبب» والكاف بدل من الباء الثانية، انتهى. والغاوون: الكفرة الذين شملتهم الغواية وجنود إبليس: نسله وكل من يتبعه؛ لأنهم جند له وأعوان، ثم وصف تعالى أن أهل النار يختصمون فيها ويتلاومون قائلين لأصنامهم: { تالله إن كنا لفي ضلال مبين }: في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله الذي هو رب العالمين، ثم عطفوا يردون الملامة على غيرهم، أي: ما أضلنا إلا كبراؤنا وأهل الجرم والجراءة، ثم قالوا على جهة التلهف والتأسف حين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان عموما، وشفاعة الصديق في صديقه خصوصا { فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم } , والحميم: الولي والقريب الذي يخصك أمره وتخصه أمرك، وحامة الرجل خاصته، وباقي الآية بين.
[26.107-127]
وقول نوح عليه السلام: { إني لكم رسول أمين } أي: أمين على وحي الله ورسالته.
* ص *: قرأ الجمهور: «واتبعك» والجملة حال، أي وقد اتبعك، ويعقوب: «وأتباعك» وعن اليماني: «وأتباعك» بالجر؛ عطفا على الضمير في «لك» انتهى، و { الأرذلون }: جمع الأرذل، ولا يستعمل إلا معرفا أو مضافا، أو بمن.
قال * ع *: ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح بنسبة الرذيلة إلى المؤمنين تهجين أفعالهم لا النظر في صنائعهم وذهب أشراف قوم نوح في استنقاصهم ضعفة المؤمنين مذهب كفار قريش في شأن عمار بن ياسر. وصهيب وبلال وغيرهم، وقولهم: { من المرجومين } يحتمل أن يريدوا بالحجارة أو بالقول والشتم، وقوله: { افتح } معناه: احكم، والفتاح، القاضي بلغة يمانية، و { الفلك }: السفينة، و { المشحون } معناه: المملوء.
[26.128-145]
وقول هود عليه السلام لقومه: { أتبنون } هو على جهة التوبيخ، والريع: المرتفع من الأرض وله في كلام العرب شواهد، وعبر المفسرون عن الريع بعبارات، وجملة ذلك أنه المكان المشرف، وهو الذي يتنافس البشر في مبانيه، والآية: البنيان؛ قال ابن عباس: آية علم.
وقال مجاهد: أبراج الحمام، وقيل: القصور الطوال، والمصانع جمع مصنع وهو ما صنع وأتقن في بنيانه من قصر مشيد ونحوه، قال البخاري: كل بناء مصنعة، انتهى.
وقوله: { لعلكم تخلدون } أي: كأنكم تخلدون وكذا نقله البخاري عن ابن عباس غير مسند، انتهى. والبطش: الأخذ بسرعة، والجبار: المتكبر، ثم ذكرهم عليه السلام بأياد الله تعالى فيما منحهم، وحذرهم من عذابه، فكانت مراجعتهم أن سووا بين وعظه وتركه الوعظ، وقرأ نافع وغيره: «خلق الأولين» - بضم اللام - فالإشارة بهذا إلى دينهم، أي ما هذا الذي نحن عليه إلا خلق الناس وعادتهم، وقرأ ابن كثير وغيره: «خلق» بسكون اللام، فيحتمل المعنى: ما هذا الذي تزعمه إلا أخلاق الأولين من الكذبة؛ فأنت على منهاجهم، وروى علقمة عن ابن مسعود,: إلا اختلاق الأولين.
[26.146-159]
وقول صالح لقومه: { أتتركون فيما ههنآ }: تخويف لهم بمعنى: أتطمعون أن تقروا في النعم على معاصيكم، والهضيم: معناه اللين الرطب. والطلع الكفرى. وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته، فكأن الإشارة إلى أن طلعها يتم ويرطب؛ قال ابن عباس: إذا أينع وبلغ فهو هضيم، وقال الزجاج: هو فيما قيل الذي رطبه بغير نوى، وقال الثعلبي: قال ابن عباس هضيم: لطيف ما دام في كفراه، انتهى. وقرأ الجمهور: «تنحتون»: بكسر الحاء، و«فرهين»: من الفراهة وهي جودة منظر الشيء وخبرته وقوته.
وقوله: { ولا تطيعوا أمر المسرفين } خاطب به جمهور قومه وعنى بالمسرفين: كبراءهم وأعلام الكفر والإضلال فيهم { قالوا إنمآ أنت من المسحرين } أي: قد سحرت.
* ص *: قرأ: الجمهور: «شرب» بكسر الشين، أي: نصيب، وقرأ ابن أبي عبلة: بضم الشين فيهما، انتهى.
[26.160-175]
وقوله تعالى: { كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط } قال النقاش: إن في مصحف ابن مسعود وأبي وحفصة: «إذ قال لهم لوط» وسقط أخوهم.
وقوله: { إني لعملكم من القالين } القلى: البغض، فنجاه الله بأن أمره بالرحلة على ما تقدم في قصصهم.
[26.176-191]
وقوله تعالى: { كذب أصحب لئيكة المرسلين } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر: «أصحاب ليكة» على وزن فعلة هنا، وفي ص وقرأ الباقون: «الأيكة» وهي: الدوحة الملتفة من الشجر على الإطلاق، وقيل من شجر معروف له غضارة تألفه الحمام والقماري ونحوها، و«ليكة» اسم البلد في قراءة من قرأ ذلك؛ قاله بعض المفسرين، وذهب قوم إلى أنها مسهلة من الأيكة، أنها وقعت في المصحف هنا وفي «ص» بغير ألف.
وقوله تعالى:
كذبت قوم نوح المرسلين
[الشعراء:105] وكذلك ما بعده بلفظ الجمع من حيث إن تكذيب نبي واحد يستلزم تكذيب جميع الأنبياء؛ لأنهم كلهم يدعون الخلق إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وفي قول الأنبياء عليهم السلام: «ألا تتقون» عرض رفيق وتلطف، كما قال تعالى:
فقل هل لك إلى أن تزكى
[النازعات:18] والجبلة: الخليقة والقرون الماضية، والكسف: القطع، واحدها كسفة، و { يوم الظلة }: هو يوم عذابهم، وصورته فيما روي أن الله امتحنهم بحر شديد، وأنشأ الله سحابة في بعض قطرهم فجاء بعضم إلى ظلها فوجد لها بردا وروحا، فتداعوا إليها حتى تكاملوا فاضطرمت عليهم نارا، فأحرقتهم عن آخرهم.
وقيل غير هذا، والحق أنه عذاب جعله الله ظلة عليهم.
[26.192-199]
وقوله تعالى: { وإنه لتنزيل رب العلمين } يعني القرآن.
وقوله: { بلسان عربي } متعلق ب { نزل } ، أي: سمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل حروفا عربية، وهذا هو القول الصحيح، وما سوى هذا فمردود.
وقوله سبحانه: { وإنه لفي زبر الأولين } أي: القرآن مذكور في الكتب المنزلة القديمة، منبه عليه، مشار إليه { أولم يكن لهم ءاية أن يعلمه علمؤا بني إسرءيل }؛ كعبد الله بن سلام ونحوه ؛ قاله ابن عباس ومجاهد، قال مقاتل: هذه الآية مدنية، ومن قال إن الآية مكية ذهب إلى أن علماء بني إسرائيل ذكروا لقريش أن في التوراة صفة النبي الأمي، وأن هذا زمانه، فهذا الإشارة إلى ذلك؛ وذلك أن قريشا بعثت إلى الأحبار يسألونهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر تعالى أن هذا القرآن لو سمعوه من أعجم، أي: من حيوان غير ناطق، أو من جماد، والأعجم: كل ما لا يفضح ما كانوا يؤمنون، والأعجمون: جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح، وإن كان عربي النسب، وكذلك يقال للحيوانات والجمادات، ومنه الحديث:
" جرح العجماء جبار "
والعجمي هو الذي نسبه في العجم، وإن كان أفصح الناس، وقرأ الحسن: الأعجميين.
قال أبو حاتم: أراد جمع الأعجمي المنسوب إلى العجم.
وقال الثعلبي: معنى الآية: ولو نزلناه على رجل ليس لعربي اللسان، فقرأه عليهم بغير لغة العرب لما آمنوا أنفة من اتباعه، انتهى.
[26.200-203]
وقوله تعالى: { كذلك سلكنه في قلوب المجرمين }.
قال * ع *: و { سلكناه } معناه: أدخلناه، والضمير فيه للكفر الذي يتضمنه قوله:
ما كانوا به مؤمنين
[الشعراء:199]؛ قاله الحسن، وقيل الضمير للتكذيب، وقيل للقرآن ورجح بأنه المتبادر إلى الذهن، والمجرمون أراد به مجرمي كل أمة، أي: أن هذه عادة الله فيهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب، فكفار فريش كذلك و { هل نحن منظرون } أي: مؤخرون.
[26.204-211]
وقوله سبحانه: { أفبعذابنا يستعجلون } توبيخ لقريش على استعجالهم العذاب، وقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أسقط علينا كسفا من السماء، وقولهم: أين ما تعدنا؟ ثم خاطب سبحانه نبيه عليه السلام بقوله: { أفرأيت إن متعناهم سنين }.
قال عكرمة: { سنين }: يريد عمر الدنيا، ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا بعد إرسال من ينذرهم عذاب الله عز وجل؛ ذكرى لهم وتبصرة.
وقوله تعالى: { وما تنزلت به الشيطين } الضمير في { به } عائد على القرآن.
[26.212-217]
وقوله تعالى: { إنهم عن السمع لمعزولون } أي: لأن السماء محروسة بالشهب الجارية إثر الشياطين، ثم وصى تعالى نبيه بالثبوت على التوحيد والمراد: أمته فقال: { فلا تدع مع الله إلها ءاخر... } الآية.
وقوله تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين... } الآية: وفي «صحيح البخاري» وغيره عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف:
" يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد "
الحديث، وخص بإنذاره عشيرته؛ لأنهم مظنة الطواعية، وإذ يمكنه من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيرهم، ولأن الإنسان غير متهم على عشيرته، والعشيرة: قرابة الرجل، وخفض الجناح: استعارة معناه: لين الكلمة، وبسط الوجه، والبر، والضمير في { عصوك } عائد على عشيرته، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالتوكل عليه في كل أموره، ثم جاء بالصفات التي تؤنس المتوكل وهي العزة والرحمة.
[26.218-220]
وقوله: { الذي يراك حين تقوم } يراك عبارة عن الإدراك، وظاهر الآية أنه أراد قيام الصلاة، ويحتمل سائر التصرفات؛ وهو تأويل مجاهد وقتادة.
وقوله سبحانه: { وتقلبك في السجدين } قال ابن عباس وغيره: يريد أهل الصلاة، أي: صلاتك مع المصلين.
[26.221-226]
وقوله تعالى: { هل أنبئكم } أي: قل لهم يا محمد: هل أخبركم { على من تنزل الشياطين }؟ والأفاك: الكذاب، والأثيم: الكثير الإثم، ويريد الكهنة؛ لأنهم كانوا يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء فيخلطون معها مائة كذبة، حسبما جاء في الحديث، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع، والضمير في { يلقون } يحتمل أن يكون للشياطين، ويحتمل أن يكون للكهنة، ولما ذكر الكهنة بإفكهم وحالهم التي تقتضي نفي كلامهم عن كلام الله تعالى عقب ذلك بذكر الشعراء وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام القرآن إذ قال بعض الكفرة في القرآن أنه شعر والمراد شعراء الجاهلية ويدخل في الآية كل شاعر مخلط يهجو ويمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور.
وقوله: { الغاوون }. قال ابن عباس: هم المستحسنون لأشعارهم المصاحبون لهم.
وقال عكرمة: هم الرعاع الذين يتبعون الشاعر ويغتنمون إنشاده.
وقوله: في كل واد يهيمون، عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله، قاله ابن عباس وغيره، ورى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" من مشى سبع خطوات في شعر, كتب من الغاوين "
ذكره أسد بن موسى وذكره النقاش.
[26.227]
وقوله تعالى { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات... } الآية: هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام كحسان بن ثابت, وكعب بن مالك, وعبد الله بن رواحة, وكل من اتصف بهذه الصفة, ويروى عن عطاء بن يسار وغيره أن هؤلاء شق عليهم ما ذكر قبل في الشعراء, فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت آية الاستثناء بالمدينة.
وقوله تعالى { وذكروا الله كثيرا } يحتمل أن يريد في أشعارهم, وهو تأويل ابن زيد, ويحتمل أن ذلك خلق لهم وعبادة؛ قاله ابن عباس, فكل شاعر في الإسلام يهجو ويمدح عن غير حق فهو داخل في هذه الآية وكل تقي منهم يكثر من الزهد, ويمسك عن كل ما يعاب فهو داخل في الاستثناء.
* ت * قد كتبنا - والحمد لله - في هذا المختصر جملة صالحة في فضل الأذكار عسى الله أن ينفع به من وقع بيده, ففي جامع الترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة؟ قال:
" الذاكرون الله كثيرا, قلت: ومن الغازي في سبيل الله عز وجل؟! قال: لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما - لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منه "
وروى الترمذي, وابن ماجه عن أبي الدرداء, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؛ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى "
قال الحاكم أبو عبد الله في كتابه «المستدرك على الصحيحين»: هذا حديث صحيح الإسناد، انتهى من «حلية النووي». وقوله: { وانتصروا من بعد ما ظلموا } إشارة إلى ما رد به حسان وعلي وغيرهما على قريش.
قلت : قيل: وأنصف بيت قالته العرب: قول حسان لأبي سفيان أو لأبي جهل: [الوافر]
أتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
وباقي الآية وعيد لظلمة كفار مكة وتهديد لهم.
[27 - سورة النمل]
[27.1-5]
قوله تعالى: { طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين } تقدم القول في الحروف المقطعة، وعطف الكتاب على القرآن وهما لمسمى واحد؛ من حيث هما صفتان لمعنيين، فالقرءان: لأنه اجتمع، والكتاب: لأنه يكتب، «وإقامة الصلاة»: إدامتها وأداؤها على وجهها.
وقوله تعالى: { زينا لهم أعمالهم } أي: جعل سبحانه عقابهم على كفرهم أن حتم عليهم الكفر، وحبب إليهم الشرك وزينه في نفوسهم. والعمه: الحيرة والتردد في الضلال. ثم توعدهم تعالى بسوء العذاب؛ فمن ناله منه شيء في الدنيا بقي عليه عذاب الآخرة، ومن لم ينله عذاب الدنيا كان سوء عذابه في موته وفي ما بعده.
[27.6-9]
وقوله تعالى: { وإنك لتلقى القرءان } تلقى: مضاعف لقي يلقى، ومعناه تعطى، كما قال:
وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
[فصلت:35].
وهذه الآية رد على كفار قريش في قولهم: إن القرآن من تلقاء محمد؛ و { من لدن } معناه: من عنده؛ ومن جهته. ثم قص تعالى خبر موسى؛ حين خرج بزوجه؛ بنت شعيب عليه السلام يريد مصر، وقد تقدم في «طه» قصص الآية.
وقوله: { سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس... } الآية، أصل الشهاب: الكوكب المنقض فأثر مسترق السمع؛ وكل ما يقال له «شهاب» من المنيرات؛ فعلى التشبيه، والقبس: يحتمل أن يكون اسما، ويحتمل أن يكون صفة. وقرأ الجمهور بإضافة «شهاب» إلى «قبس»، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بتنوين «شهاب قبس»: فهذا على الصفة.
* ص *: وقوله: { جاءها } ضمير المفعول، عائد على النار، وقيل على الشجرة، انتهى. و { بورك } معناه: قدس ونمي خيره، والبركة، مختصة بالخير.
وقوله تعالى: { من في النار } قال ابن عباس: أراد النور، وقال الحسن وابن عباس: وأراد ب { من حولها } الملائكة وموسى.
قال * ع *: ويحتمل أن تكون { من } للملائكة؛ لأن ذلك النور الذي حسبه موسى نارا؛ لم يخل من ملائكة، { ومن حولها } لموسى والملائكة المطيفين به .
وقرأ أبي بن كعب «أن بوركت النار ومن حولها».
وقوله تعالى: { وسبحان الله رب العالمين } ، هو تنزيه لله تعالى مما عساه أن يخطر ببال؛ وفي معنى النداء من الشجرة، أي: هو منزه عن جميع ما تتوهمه الأوهام؛ وعن التشبيه والتكييف، والضمير في { إنه } للأمر والشأن.
[27.10-14]
وقوله سبحانه: { وألق عصاك... } الآية، أمره تعالى بهذين الأمرين إلقاء العصا، وأمر اليد تدريبا له في استعمالهما، والجان: الحيات؛ لأنها تجن أنفسها؛ أي: تسترها. وقالت فرقة: الجان: صغار الحيات.
وقوله تعالى: { ولى مدبرا ولم يعقب } ، أي: ولى فارا. قال مجاهد: ولم يرجع، وقال قتادة: ولم يلتفت.
قال * ع *: وعقب الرجل إذا ولى عن أمر؛ ثم صرف بدنه أو وجهه إليه. ثم ناداه سبحانه مؤنسا له: { يموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون }.
وقوله تعالى: { إلا من ظلم } قال الفراء؛ وجماعة: الاستثناء منقطع، وهو إخبار عن غير الأنبياء، كأنه سبحانه قال: لكن من ظلم من الناس ثم تاب؛ فإني غفور رحيم، وهذه الآية تقتضي المغفرة للتائب، والجيب الفتخ في الأوب لرأس الإنسان.
وقوله تعالى: { في تسع ءايت } متصل بقوله: { ألق } ، { وأدخل يدك } وفيه اقتضاب وحذف، والمعنى في جملة تسع، آيات، وقد تقدم بيانها، والضمير في { جاءتهم } لفرعون وقومه، وظاهر قوله تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها } حصول الكفر عنادا؛ وهي مسألة خلاف؛ قد تقدم بيانها و { ظلما } معناه: على غير استحقاق للجحد، والعلو في الأرض أعظم آفة على طالبه، قال الله تعالى:
تلك الدار الأخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا
[القصص:83].
[27.15-18]
وقوله تعالى: { ولقد ءاتينا داوود وسليمن علما... } الآية، هذا ابتداء قصص فيه غيوب وعبر.
{ وورث سليمن داود } ، أي: ورث ملكه ومنزلته من النبوة؛ بعد موت أبيه، وقوله: { علمنا منطق الطير } إخار بنعمة الله تعالى عندهما؛ في ان فهمهما من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها، وهذا نحو ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام عليه؛ وغير ذلك حسب ما هو في الآثار.
قال قتادة وغيره: إنما كان هذا الأمر في الطير خاصة، والنملة طائر؛ إذ قد يوجد لها جناحان.
وقالت فرقة: بل كان ذلك في جميع الحيوان؛ وإنما خص الطير؛ لأنه كان جندا من جنود سليمان؛ يحتاجه في التظليل من الشمس؛ وفي البعث في الأمور. والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا؛ يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت، ويشق الكزبرة بأربع قطع؛ لأنها تنبت إذا قسمت شقين، ويأكل في عامه نصف ما جمع، ويستقي سائره عدة. قال ابن العربي في «أحكامه»: ولا خلاف عند العلماء في أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول، وقد قال الشافعي: الحمام أعقل الطير، انتهى.
وقوله: { وأوتينا من كل شيء } معناه: يصلح لنا ونتمناه؛ وليست على العموم. ثم ذكر شكر فضل الله تعالى، واختلف في مقدار جند سليمان عليه السلام اختلافا شديدا؛ لا أرى ذكره؛ لعدم صحة التحديد، غير أن الصحيح في هذا أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض، وانقادت له المعمورة كلها، وكان كرسيه يحمل أجناده من الأنس والجن، وكانت الطير تظله من الشمس، ويبعثها في الأمور، و { يوزعون } معناه: يرد أولهم إلى آخرهم، ويكفون، قال قتادة: فكأن لكل صنف وزعة، ومنه قول الحسن البصري حين ولي قضاء البصرة: لا بد للحاكم من وزعة، ومنه قول أبي قحافة للجارية: ذلك يا بنية الوازع؛ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
على حين عاتبت المشيب على الصبا
فقلت: ألما أصح والشيب وازع
أي: كاف، وهكذا نقل ابن العربي عن مالك؛ فقال: { يوزعون } أي: يكفون.
قال ابن العربي: وقد يكون بمعنى يلهمون؛ من قوله { أوزعني أن أشكر نعمتك } أي: ألهمني، انتهى من «الإحكام».
[27.19-24]
وقوله تعالى: { فتبسم ضاحكا من قولها } التبسم هو ضحك الأنبياء في غالب أمرهم؛ لا يليق بهم سواه، وكان تبسمه سرورا بنعمة الله تعالى عليه في إسماعه وتفهيمه. وفي قول النملة: { وهم لا يشعرون } ثناء على سليمان وجنوده يتضمن تنزيههم عن تعمد القبيح. ثم دعا سليمان عليه السلام ربه أن يعينه ويفرغه لشكر نعمته، وهذا معنى إيزاع الشكر، وقال الثعلبي وغيره: «أوزعني» معناه: ألهمني، وكذلك قال العراقي: { أوزعني } ألهمني، انتهى.
وقوله تعالى: { وتفقد الطير... } الآية، قالت فرقة: ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بالمملكة والتهمم بكل جزء منها، وهذا ظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير، وقالت فرقة: بل تفقد الطير؛ لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد؛ فكان ذلك سبب تفقد الطير؛ ليبين من أين دخلت الشمس، وقال عبد الله بن سلام: إنما طلب الهدهد؛ لأنه احتاج إلى معرفة الماء؛ على كم هو من وجه الأرض؛ لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها؛ فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة، وقيل غير هذا؛ والله أعلم بما صح من ذلك. ثم توعد عليه السلام الهدهد بالعذاب، فروي عن ابن عباس وغيره: أن تعذيبه للطير كان بنتف ريشه. والسلطان: الحجة؛ حيث وقع في القرآن العظيم؛ قاله ابن عباس. وفعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين؛ وعقابا على إخلاله بنبوته ورتبته، والضمير في { مكث } يحتمل أن يكون لسليمان أو للهدهد، وفي قراءة ابن مسعود «فتمكث ثم جاء فقال» وفي قراءة أبي «فتمكث ثم قال أحطت».
* ت *: وهاتان القراءتان تبينان أن الضمير في «مكث» للهدهد؛ وهو الظاهر أيضا في قراءة الجماعة، ومعنى { مكث }: أقام.
وقوله: { غير بعيد } يعني: في الزمن.
وقوله: { أحطت } أي: علمت.
وقرأ الجمهور «سبأ» بالصرف على أنه اسم رجل؛ وبه جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث فروة بن مسيك وغيره، سئل عليه السلام عن سبإ فقال:
" كان رجلا له عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة "
ورواه الترمذي من طريق فروة بن مسيك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سبأ» بفتح الهمزة وترك الصرف؛ على أنه اسم بلدة؛ وقاله الحسن وقتادة.
وقوله: { وأوتيت من كل شيء } أي: مما تحتاجه المملكة، قال الحسن: من كل أمر الدنيا، وهذه المرأة هي «بلقيس»، ووصف عرشها بالعظم في الهيئة ورتبة الملك، وأكثر بعض الناس في قصصها بما رأيت اختصاره؛ لعدم صحته، وإنما اللازم من الآية: أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن، ذات ملك عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.
[27.25-35]
وقوله: { ألا يسجدوا لله } إلى قوله { العظيم } ، ظاهره: أنه من قول الهدهد؛ وهو قول ابن زيد وابن إسحاق، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى اعتراضا بين الكلامين، وقراءة التشديد في { ألا } تعطى: أن الكلام للهدهد؛ وهي قراءة الجمهور، وقراءة التخفيف؛ وهي للكسائي تمنعه وتقوي الآخر؛ فتأمله، وقرأ الأعمش { هلا يسجدون } وفي حرف عبد الله «ألا هل تسجدون» بالتاء، و { الخبء }: الخفي من الأمور؛ وهو من خبأت الشيء، واللفظة تعم كل ما خفي من الأمور؛ وبه فسر ابن عباس. وقرأ الجمهور: «يخفون ويعلنون» بياء الغائب؛ وهذه القراءة تعطى أن الآية من كلام الهدهد. وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم «تخفون وتعلنون» بتاء الخطاب؛ وهذه القراءة تعطى أن الآية من خطاب الله تعالى لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: { فألقه إليهم ثم تول عنهم } ، قال وهب بن منبه: أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك، بمعنى: وكن قريبا حتى ترى مراجعاتهم، ولكيل الأمر، إلى حكم ما في الكتاب دون أن تكون للرسول ملازمة ولا إلحاح. وروى وهب بن منبه في قصص هذه الآية: أن الهدهد وصل؛ فوجد دون هذه الملكة حجب جدرات، فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها، لتدخل منها الشمس عند طلوعها؛ لمعنى عبادتها إياها؛ فدخل منها ورمى بالكتاب إليها؛ فقرأته وجمعت أهل ملكها؛ فخاطبتهم بما يأتي بعد. { قالت يأيها الملأ } تعني: الأشراف: { إني ألقي إلي كتاب كريم } وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم، أو لأنه بدىء باسم كريم. ثم أخذت تصف لهم ما في الكتاب، ثم أخذت في حسن الأدب مع رجالها ومشاورتهم في أمرها؛ فراجعها قومها بما يقر عينها من إعلامهم إياها بالقوة، والبأس. ثم سلموا الأمر إلى نظرها؛ وهذه محاورة حسنة من الجميع. وفي قراءة عبد الله: «ما كنت قاضية أمرا» بالضاد من القضاء، ثم أخبرت بلقيس بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها، وفي كلامها خوف على قومها وحيطة لهم، قال الداوودي: وعن ابن عباس: رضي الله عنه { إذا دخلوا قرية أفسدوها } قال: إذا أخذوها عنوة، أخربوها، انتهى.
وقوله: { وكذلك يفعلون } قالت فرقة: هو من قول بقليس، وقال ابن عباس: هو من قول الله تعالى معرفا لمحمد عليه السلام وأمته بذلك.
{ وإني مرسلة إليهم بهدية... } الآية، روي أن بلقيس قالت لقومها: إني أجرب هذا الرجل بهدية فيها نفائس الأموال، فإن كان ملكا دنيويا أرضاه المال؛ وإن كان نبيا لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، فينبغي أن نؤمن به، ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة.
[27.36-42]
وقوله تعالى: { فلما جاء سليمن } يعني: رسل بقليس، وقول سليمان: { ارجع } خطاب لرسلها؛ لأن الرسول يقع على الجمع والإفراد والتذكير والتأنيث. وفي قراءة ابن مسعود: «فلما جاؤوا سليمان» وقرأ «ارجعوا» ووعيد سليمان لهم مقترن بدوامهم على الكفر، قال البخاري: { لا قبل لهم بها } أي: لا طاقة لهم، انتهى. ثم قال سليمان لجمعه { يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها }.
قال ابن زيد: وغرضه في استدعاء عرشها؛ أن يريها القدرة التي من عند الله وليغرب عليها، و { مسلمين } في هذا التأويل بمعنى: مستسلمين، ويحتمل أن يكون بمعنى الإسلام.
وقال قتادة: كان غرض سليمان عليه السلام قبل أن يعصمهم الإسلام؛ فالإسلام على هذا التأويل يراد به الدين.
* ت *: والتأويل الأول أليق يمنصب النبوة، فيتعين حمل الآية عليه، والله أعلم.
وروي أن عرشها كان من ذهب وفضة؛ مرصعا بالياقوت والجوهر، وأنه كان في جوفه سبعة أبيات عليها سبعة أغلاق. والعفريت هو من الشياطين؛ القوي المارد.
وقوله: { قبل أن تقوم من مقامك } قال مجاهد وقتادة: معناه: قبل قيامك من مجلس الحكم, وكان يجلس من الصبح إلى وقت الظهر في كل يوم، وقيل: معناه: قبل أن تستوي من جلوسك قائما. وقول الذي عنده علم من الكتاب: { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } قال ابن جبير وقتادة: معناه: قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى. وقال مجاهد: معناه : قبل أن تحتاج إلى التغميض، أي: مدة ما يمكنك أن تمد ببصرك دون تغميض؛ وذلك ارتداده.
قال * ع *: وهذان القولان يقابلان القولين قبلهما.
وقوله: { لقوي أمين } معناه: قوي على حمله؛ أمين على ما فيه. ويروى أن الجن كانت تخبر سليمان بمناقل سير بلقيس، فلما قربت، قال: { أيكم يأتيني بعرشها } فدعا الذي عنده علم من التوراة، وهو الكتاب المشار إليه باسم الله الأعظم؛ الذي كاانت العادة في ذلك الزمان أن لا يدعو به أحد، إلا أجيب، فشقت الأرض بذلك العرش، حتى نبع بين يدي سليمان عليه السلام : وقيل: بل جيء به في الهواء. وجمهور المفسرين على أن هذا الذي عنده علم من الكتاب كان رجلا صالحا من بني إسرائيل اسمه آصف بن برخيا، روي أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان عليه السلام: يا نبي الله؛ امدد بصرك نحو اليمن، فمد بصره؛ فإذا بالعرش، فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده. وقال قتادة: اسمه بلخيا. وقول سليمان عليه السلام : { نكروا لها عرشها } يريد تجربة ميزها ونظرها، وروت فرقة أن الجن أحست من سليمان أو ظنت به أنه ربما تزوجها، فكرهوا ذلك وعيبوها عنده، بأنها غير عاقلة ولا مميزة؛ وأن رجلها كحافر دابة، فجرب عقلها وميزها بتنكير السرير، وجرب أمر رجلها بأمر الصرح، لتكشف عن ساقيها عنده، وتنكير العرش: تغيير وضعه وستر بعضه. وقولها { كأنه هو } تحرز فصيح، وقال الحسن بن الفضل: شبهوا عليها فشبهت عليهم. ولو قالوا: { أهذا عرشك؟ } لقالت: نعم، ثم قال سليمان عليه السلام عند ذلك: { وأوتينا العلم من قبلها } الآية، وهذا منه؛ على جهة تعديد نعم الله تعالى عليه وعلى آبائه.
[27.43-44]
وقوله تعالى: { وصدها ما كانت تعبد } أي: عن الإيمان، وهذا الكلام يحتمل أن يكون من قول سليمان، أو من قول الله، إخبارا لمحمد عليه السلام: قال محمد ابن كعب القرظي وغيره: ولما وصلت بلقيس أمر سليمان الجن فصنعت له صرحا؛ وهو السطح في الصحن من غير سقف وجعلته مبنيا كالصهريج وملىء ماء وبث فيه السمك وطبقه بالزجاج الأبيض الشفاف، وبهذا جاء صرحا. والصرح أيضا كل بناء عال، وكل هذا من التصريح؛ وهو الإعلان البالغ. ثم وضع سليمان في وسط الصرح كرسيا، فلما وصلته بلقيس؛ قيل لها: ادخلي إلى النبي عليه السلام ، فلما رأت الصرح حسبته لجة وهو معظم الماء، ففزعت وظنت أنها قصد بها الغرق، وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر، فكشفت عن ساقيها، فرأى سليمان ساقيها سليمة مما قالت الجن غير أنها كثيرة الشعر، فلما بلغت هذا الحد قال لها سليمان عليه السلام: { إنه صرح ممرد من قوارير } والممرد: المحكوك المملس؛ ومنه الأمرد، فعند ذلك قالت: { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العلمين } فروي أن سليمان عليه السلام تزوجها عند ذلك، وأسكنها الشام؛ قاله الضحاك. وقيل: تزوجها وردها إلى ملكها باليمن وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة، فولدت له غلاما سماه داود؛ مات في حياته. وروي أن سليمان لما أراد زوال شعر ساقيها؛ أمر الجن بالتلطف في زواله، فصنعوا النورة ولم تكن قبل وصنعوا الحمام
[27.45-53]
وقوله تعالى: { ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صلحا... } الآية، تمثيل لقريش، و { فريقان }: يريد بهما من آمن بصالح. ومن كفر به. واختصامهم هو تنازعهم. وقد ذكر تعالى ذلك في سورة الأعراف، ثم إن صالحا عليه السلام ترفق بقومه ووقفهم على خطأهم في استعجالهم العذاب؛ قبل الرحمة. أو المعصية لله قبل الطاعة، ثم أجابو بقولهم: { اطيرنا بك } أي: تشاءمنا بك. و { تسعة رهط } هم رجال كانوا من أوجه القوم وأعتاهم؛ وهم أصحاب قدار، والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم.
وقوله تعالى: { تقاسموا }.
قال الجمهور: هو فعل أمر، أشار بعضهم على بعض بأن يتحالفوا على هذا الفعل بصالح، وحكى الطبري أنه يجوز أن يكون تقاسموا فعلا ماضيا في موضع الحال، كأنه قال: متقاسمين أو متحالفين بالله لنبيتنه وأهله، وتؤيده قراءة عبد الله: «ولا يصلحون تقاسموا» بإسقاط «قالوا».
قال * ع *: وهذه الألفاظ الدالة على قسم تجاوب باللام، وإن لم يتقدم قسم ظاهر، فاللام في { لنبيتنه }: جواب القسم. وروي في قصص هذه الآية أن هؤلاء التسعة؛ لما كان في صدر الثلاثة الأيام. بعد عقر الناقة وقد أخبرهم صالح بمجيء العذاب، اتفق هؤلاء التسعة فتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا فيقتلوه وأهله المختصين به، قالوا فإن كان كاذبا في وعيده أوقعناه به ما يستحق، وإن كان صادقا كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا به نفوسنا، فجاءوا واختفوا لذلك في غار قريب من داره، فروي أنه انحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا وروي أنها طبقت عليهم الغار فهلكوا فيه حين هلك قومهم، وكل فريق لا يعلم بما جرى على الآخر، وقد كانوا على جحود الأمر من قرابة صالح، ويعني بالأهل كل من آمن به؛ قاله الحسن.
وقوله سبحانه: { ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون } قال ابن العربي الحاتمي: المكر إرداف النهم مع المخالفة وإبقاء الحال مع سوء الأدب، انتهى من شرحه لألفاظ الصوفية. والتدمير: الهلاك و { خاوية } معناه: قفرا، وهذه البيوت المشار إليها هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم عام تبوك:
" لا تدخلوا بيوت المعذبين إلا أن تكونوا باكين "
الحديث في «صحيح مسلم» وغيره.
[27.54-58]
وقوله تعالى: { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفحشة وأنتم تبصرون * أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون } تقدم قصص هؤلاء القوم، و { تبصرون } معناه: بقلوبكم.
قال أبو حيان: و { شهوة } مفعول من أجله، انتهى. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لعن الله من عمل عمل قوم لوط "
رواه أبو داود والترمذي والنسائي؛ واللفظ له؛ وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، انتهى من «السلاح».
[27.59-61]
وقوله تعالى: { قل الحمد لله وسلم على عباده الذين اصطفى ءآلله خير أما يشركون } الآيات، هذا ابتداء تقرير وتنبيه لقريش والعرب وهو بعد يعم كل مكلف من الناس جميعا، وافتتح ذلك بالقول بحمده سبحانه وتمجيده وبالسلام على عباده الذين اصطفاهم للنبوة والإيمان، فهذا اللفظ عام لجمعيهم من ولد آدم، وكأن هذا صدر خطبة للتقرير المذكور، قالت فرقة: وفي الآية حذف مضاف في موضعين التقدير: أتوحيد الله خير أم عبادة ما تشركون, ف «ما»، على هذا: موصولة بمعنى: الذي، وقالت فرقة: «ما» مصدرية، وحذف المضاف إنما هو أولا تقديره: أتوحيد الله خير أم شرككم.
* ت *: ومن كلام الشيخ العارف بالله أبى الحسن الشاذلي قال رحمه الله : إن أردت أن لا يصدأ لك قلب؛ ولا يلحقك هم؛ ولا كرب؛ ولا يبقى عليك ذنب فأكثر من قولك: «سبحان الله وبحمده؛ سبحان الله العظيم، لا إله إلا الله، اللهم ثبت علمها في قلبي، واغفر لي ذنبي، واغفر للمؤمنين والمؤمنات، وقل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى» انتهى.
وقوله تعالى: { أمن خلق } وما بعدها من التقريرات توبيخ لهم وتقرير على ما لا مندوحة عن الإقرار به، و«الحدائق» مجتمع الشجر من الأعناب والنخيل وغير ذلك، قال قوم: لا يقال حديقة إلا لما عليه جدار قد أحدق له.
وقال قوم: يقال ذلك كان جدار أو لم يكن؛ لأن البياض محدق بالأشجار، والبهجة الجمال والنضارة.
وقوله سبحانه: { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } أي: ليس ذلك في قدرتكم، و { يعدلون } يجوز أن يراد به: يعدلون عن طريق الحق، ويجوز أن يراد به يعدلون بالله غيره، أي: يجعلون له عديلا ومثيلا، و { خلالها } معناه: بينها، والرواسي: الجبال، والبحران: الماء العذب والماء الأجاج؛ على ما تقدم، والحاجز: ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها على رقتها في بعض المواضع، ولطافتها؛ لولا قدرة الله لغلب المالح العذب.
[27.62-66]
وقوله سبحانه: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه... } الآية، وعن حبيب بن مسلمة الفهري؛ وكان مجاب الدعوة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى»، رواه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «سلاح المؤمن»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه "
رواه الترمذي؛ وهذا لفظه. قال «صاحب السلاح »: ورواه الحاكم في «المستدرك» وقال: مستقيم الإسناد، انتهى. و { السوء } عام في كل ضر يكشفه الله تعالى عن عباده، قال ابن عطاء الله: ما طلب لك شيء مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب لك مثل الذلة والافتقار، انتهى. و«الظلمات» عام؛ لظلمة الليل؛ ولظلمة الجهل والضلال، والرزق من السماء. هو بالمطر؛ ومن الأرض بالنبات؛ هذا هو مشهور ما يحسه البشر، وكم لله بعد من لطف خفي. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يوقفهم على أن الغيب مما انفرد الله بعلمه؛ ولذلك سمي غيبا لغيبه عن المخلوقين. روي: أن هذه الآية من قوله: { قل لا يعلم } إنما نزلت لأجل سؤال الكفار عن الساعة الموعود بها، فجاء بلفظ يعم الساعة وغيرها، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون إيان يبعثون.
* ص *: { أيان } اسم استفهام بمعنى: متى، وهي معمولة ل { يبعثون } ، والجملة في موضع نصب ب { يشعرون } ، انتهى.
وقرأ جمهور القراء: { بل ادرك } أصله: تدارك. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «بل ادرك» على وزن افتعل وهي بمعنى تفاعل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر: «بل أدرك» وهذه القراءات تحتمل معنيين: أحدهما: ادرك علمهم، أي: تناهى، كما تقول ادرك النبات، والمعنى: قد تناهى علمهم بالآخرة إلى أن لا يعرفوا لها مقدارا، فيؤمنوا وإنما لهم ظنون كاذبة، أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتا، والمعنى الثاني: بل ادرك بمعنى: يدرك أي أنهم في الآخرة يدرك علمهم وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها، وأما في الدنيا؛ فلا، وهذا هو تأويل ابن عباس، ونحا إليه الزجاج، فقوله { في الأخرة } على هذا التأويل: ظرف؛ وعلى التأويل الأول: { في } بمعنى الباء. ثم وصفهم عز وجل بأنهم في شك منها، ثم أردف بصفة هي أبلغ من الشك وهي العمى بالجملة عن أمر الآخرة، و { عمون }: أصله: (عميون) فعلون كحذرون.
[27.67-82]
وقوله تعالى: { وقال الذين كفروا أءذا كنا تربا وءاباؤنا أئنا لمخرجون * لقد وعدنا هذا نحن وءاباؤنا من قبل إن هذا إلا أسطير الأولين } ، هذه الآية معناها واضح مما تقدم في غيرها. ثم ذكر - تعالى - استعجال كفار قريش أمر الساعة والعذاب بقولهم: { متى هذا الوعد } على معنى التعجيز، و { ردف } معناه: قرب وأزف؛ قاله ابن عباس وغيره، ولكنها عبارة عما يجيء بعد الشيء قريبا منه، والهاء في { غائبة } للمبالغة، أي ما من شيء في غاية الغيب والخفاء إلا في كتاب عند الله وفي مكنون علمه، لا إله إلا هو. ثم نبه تعالى على أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الأشياء التي كان بينهم اختلاف في صفتها، جاء بها القرآن على وجهها، { وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين } كما أنه عمى على الكافرين المحتوم عليهم، ثم سلى نبيه بقوله: { إنك لا تسمع الموتى } فشبههم مرة بالموتى، ومرة بالصم من حيث إن فائدة القول لهؤلاء معدومة.
وقرأ حمزة: «وما أنت تهدي العمي» بفعل مستقبل، ومعنى قوله تعالى { وإذا وقع القول عليهم } ، أي: إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله في ذلك، وهذا بمنزلة قوله تعالى:
حقت كلمة العذاب
[الزمر:71].
فمعنى الآية وإذا أراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب أخرج لهم دابة من الأرض، وروي أن ذلك حين ينقطع الخير، ولا يؤمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا تائب، و { وقع } عبارة عن الثبوت واللزوم، وفي الحديث أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الأشراط، وهذه الدابة روي أنها تخرج من الصفا بمكة؛ قاله ابن عمر وغيره، وقيل غير هذا.
وقرأ الجمهور: { تكلمهم } من الكلام. وقرأ ابن عباس وغيره، { تكلمهم } بفتح التاء وتخفيف اللام ، من الكلم وهو الجرح، وسئل ابن عباس عن هذه الآية «تكلمهم أو تكلمهم»؟ فقال: كل ذلك، والله تفعل: تكلمهم وتكلمهم، وروي أنها تمر على الناس فتسم الكافر في جبهته وتزبره وتشتمه وربما خطمته، وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه، ويعرف بعد ذلك الإيمان والكفر من أثرها، وفي الحديث:
" تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى، فتجلو وجوه المؤمنين بالعصا؛ وتختم أنف الكافر بالخاتم، حتى أن الناس ليجتمعون، فيقول هذا : يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر "
رواه البزار، انتهى من «الكوكب الدري».
وقرأ الجمهور: «إن الناس» بكسر «إن».
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «أن» بفتحها.
وفي قراءة عبد الله: «تكلمهم بأن»، وعلى هذه القراءة؛ فيكون قوله: «أن الناس» إلى آخرها من كلام الدابة، وروي ذلك عن ابن عباس. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى.
[27.83-87]
وقوله تعالى: { ويوم نحشر من كل أمة فوجا }: هو تذكير بيوم القيامة، والفوج: الجماعة الكثيرة، و { يوزعون } معناه: يكفون في السوق، أي يحبس أولهم على آخرهم؛ قاله قتادة، ومنه وازع الجيش، ثم أخبر تعالى عن توقيفه الكفرة يوم القيامة وسؤالهم على جهة التوبيخ: { أكذبتم... } الآية، ثم قال: { أماذا كنتم تعملون } على معنى استيفاء الحجج، أي: إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها. ثم أخبر عن وقوع القول عليهم، أي: نفوذ العذاب وحتم القضاء وأنهم لا ينطقون بحجة، وهذا في موطن من مواطن القيامة. ولما تكلم المحاسبي على أهوال القيامة، قال: واذكر الصراط بدقته وهو له؛ وزلته وعظيم خطره؛ وجهنم تخفق بأمواجها من تحته، فيا له من منظر؛ ما أفظعه وأهوله، فتوهم ذلك بقلب فارغ، وعقل جامع، فإن أهوال يوم القيامة إنما خفت على الذين توهموها في الدنيا بعقولهم، فتحملوا في الدنيا الهموم خوفا من مقام ربهم، فخففها مولاهم يوم القيامة عنهم، انتهى من «كتاب التوهم».
{ ويوم ينفخ في الصور } وهو القرن في قول جمهور الأمة، وصاحب الصور هو إسرافيل عليه السلام ، وهذه النفخة المذكورة هنا هي نفخة الفزع، وروى أبو هريرة أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور. وقالت فرقة: إنما هما نفختان: كأنهم جعلوا الفزع والصعق في نفخة واحدة مستدلين بقوله تعالى:
ثم نفخ فيه أخرى...
الآية [الزمر:68].
قالوا: وأخرى لا يقال إلا في الثانية.
قال * ع *: والأول أصح، وأخرى يقال في الثالثة، ومنه قوله تعالى:
ومنوة الثالثة الأخرى
[النجم:20].
وقوله تعالى: { إلا من شاء الله } استثناء فيمن قضى الله سبحانه من ملائكته، وأنبيائه ، وشهداء عبيده أن لا ينالهم فزع النفخ في الصور، حسب ما ورد في ذلك من الآثار.
قال * ع *: وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم فهم حريون أن لا ينالهم هذا.
وقرأ حمزة: «وكل أتوه» على صيغة الفعل الماضي، والداخر: المتذلل الخاضع، قال ابن عباس وابن زيد: الداخر: الصاغر، وقد تظاهرت الروايات بأن الاستثناء في هذه الآية إنما أريد به الشهداء: لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهم أهل للفزع؛ لأنهم بشر لكن فضلوا بالأمن في ذلك اليوم.
* ت *: واختار الحليمي هذا القول قال: وهو مروي عن ابن عباس : إن المستثنى هم الشهداء. وضعف ما عداه من الأقوال، قال القرطبي، في تذكرته: وقد ورد في حديث أبي هريرة؛ بأنهم الشهداء، وهو حديث صحيح، انتهى.
[27.88-90]
وقوله تعالى: { وترى الجبال تحسبها جامدة... } الآية، هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور، والرؤية: هي بالعين، قال ابن عباس: جامدة: قائمة، والحسنة الإيمان، وقال ابن عباس وغيره: هي «لا إله إلا الله» وروي عن علي بن الحسين أنه قال: كنت في بعض خلواتي فرفعت صوتي: ب «لا إله إلا الله» فسمعت قائلا يقول: إنها الكلمة التي قال الله فيها: «من جاء بالحسنة فله خير منها».
وقال ابن زيد: يعطى بالحسنة الواحدة عشرا.
قال * ع *: والسيئة التي في هذه الآية هي الكفر والمعاصي. فيمن حتم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار.
[27.91-93]
وقوله: { إنما أمرت } المعنى قل يا محمد؛ لقومك: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، يعني: مكة، { وأن أتلوا القرءان } معناه تابع في قراءتك، أي: بين آياته واسرد.
قال * ص *: { وأن أتلوا } معطوف على «أن أكون».
وقرأ عبد الله: «وأن اتل» بغير واو وقوله: { ومن ضل } جوابه محذوف يدل عليه ما قبله، أي: فوبال ضلاله عليه، أو يكون الجواب: فقل، ويقدر ضمير عائد من الجواب على الشرط؛ لأنه اسم غير ظرف، أي: من المنذرين له، انتهى. وتلاوة القرآن سبب الاهتداء إلى كل خير.
وقوله تعالى: { سيريكم ءاياته } توعد بعذاب الدنيا كبدر ونحوه، وبعذاب الآخرة.
{ وما ربك بغفل عما تعملون } فيه وعيد.
[28 - سورة القصص]
[28.1-9]
قوله تعالى: { طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى... } الآية، معنى { نتلوا }: نقص وخص تعالى بقوله { لقوم يؤمنون } من حيث إنهم هم المنتفعون بذلك دون غيرهم، و { علا في الأرض } أي: علو طغيان وتغلب، و { في الأرض } يريد أرض مصر، والشيع: الفرق، والطائفة المستضعفة: هم بنو إسرائيل، { يذبح أبناءهم } خوف خراب ملكه على ما أخبرته كهنته، أو لأجل رؤيا رآها؛ قاله السدي. وطمع بجهله أن يرد القدر، وأين هذا المنزع من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:
" إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله "
يعني: ابن صياد؛ إذ خاف عمر أن يكون هو الدجال، وباقي الآية بين؛ وتقدم قصصه. والأئمة: ولاة الأمور؛ قاله قتادة.
{ ونجعلهم الورثين } يريد: أرض مصر والشام، وقرأ حمزة: «ويرى فرعون» بالياء وفتح الراء والمعنى: ويقع فرعون وقومه فيما خافوه وحذروه من جهة بني إسرائيل، وظهورهم، وهامان: هو وزير فرعون وأكبر رجاله, وهذا الوحي إلى أم موسى، قيل: وحي إلهام، وقيل: بملك.
وقيل: في منام
وجملة الأمر أنها علمت أن هذا الذي وقع في نفسها هو من عند الله، قال السدي وغيره: أمرت أن ترضعه عقب الولادة، وتصنع به ما في الآية؛ لأن الخوف كان عقب كل ولادة، واليم: معظم الماء، والمراد: نيل مصر، واسم أم موسى يوحانذ وروي في قصص هذه الآية: أن أم موسى لفته في ثيابه وجعلت له تابوتا صغيرا، وسدته عليه بقفل، وعلقت مفتاحه عليه، وأسلمته ثقة بالله وانتظارا لوعده سبحانه، فلما غاب عنها عاودها بثها وأسفت عليه، وأقنطها الشيطان فاهتمت به وكادت تفتضح، وجعلت الأخت تقصه، أي: تطلب أثره وتقدم باقي القصة في «طه» وغيرها، والالتقاط: اللقاء عن غير قصد، وآل فرعون: أهله وجملته، واللام في { ليكون }: لام العاقبة.
وقال * ص *: { ليكون }: اللام للتعليل المجازي، ولما كان مآله إلى ذلك، عبر عنه بلام العاقبة، وبلام الصيرورة، انتهى.
وقرأ حمزة، والكسائي «وحزنا» - بضم الحاء وسكون الزاي -، والخاطىء: متعمد الخطإ، والمخطىء الذي لا يتعمده.
وقوله: { وهم لا يشعرون } أي: بأنه هو الذي يفسد ملك فرعون على يده؛ قاله قتادة وغيره.
[28.10-14]
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } أي: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى.
قاله ابن عباس.
قال مالك: هو ذهاب العقل، وقالت فرقة: { فارغا } من الصبر.
وقوله تعالى: { إن كادت لتبدي به } أي: أمر ابنها، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كادت أم موسى أن تقول: «وابناه وتخرج سائحة على وجهها». والربط على القلب: تأنيسه وتقويته، { ولتكون من المؤمنين } أي: من المصدقين بوعد الله سبحانه وما أوحي إليها به، و { عن جنب } أي: ناحية، فمعنى { عن جنب }: عن بعد لم تدن منه فيشعر لها.
وقوله: { وهم لا يشعرون } معناه: أنها أخته، ووعد الله المسار إليه هو الذي أوحاه إليها أولا، إما بملك أو بمنامة، حسبما تقدم، والقول بالإلهام ضعيف أن يقال فيه وعد.
وقوله: { أكثرهم } يريد به القبط، والأشد: شدة البدن واستحكام أمره وقوته، و { استوى } معناه: تكامل عقله، وذلك عند الجمهور مع الأربعين. والحكم: الحكمة، والعلم: المعرفة بشرع إبراهيم عليه السلام.
[28.15-24]
وقوله تعالى: { ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها }.
قال السدي: كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون، وكان يركب مراكبه حتى إنه كان يدعى موسى بن فرعون، فركب فرعون يوما وسار إلى مدينة من مدائن مصر، فركب موسى بعده ولحق بتلك المدينة في وقت القائلة، وهو حين الغفلة؛ قاله ابن عباس، وقال أيضا: هو بين العشاء والعتمة، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: { هذا من شيعته } أي من بني إسرائيل، و { عدوه } هم القبط، و«الوكز»: الضرب باليد مجموعة، وقرأ ابن مسعود: «فلكزه» والمعنى: واحد؛ إلا أن اللكز في اللحي، والوكز على القلب، و { قضى عليه } معناه: قتله مجهزا، ولم يرد عليه السلام قتل القبطي، لكن وافقت وكزته الأجل؛ فندم، ورأى أن ذلك من نزع الشيطان. في يده، إن ندامة موسى عليه السلام حملته على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه، فغفر الله له، ذلك، ومع ذلك لم يزل عليه السلام يعيد ذلك على نفسه مع علمه أنه قد غفر له، حتى إنه في القيامة يقول: «وقتلت نفسا لم أومر بقتلها»؛ حسبما صح في حديث الشفاعة، ثم قال موسى عليه السلام معاهدا لربه: رب بنعمتك علي وبسبب إحسانك وغفرانك، فأنا ملتزم ألا أكون معينا للمجرمين؛ هذا أحسن ما تأول.
وقال الطبري: إنه قسم؛ أقسم بنعمة الله عنده.
قال * ع *: واحتج أهل الفضل والعلم بهذه الآية في منع خدمة أهل الجور ومعونتهم في شيء من أمورهم، ورأوا أنها تتناول ذلك؛ نص عليه عطاء بن أبي رباح وغيره.
قال ابن عباس: ثم إن موسى عليه السلام مر وهو بحالة الترقب؛ وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل آخر من القبط، وكان قتل القبطي قد خفي على الناس واكتتم، فلما رأى الإسرائيلي موسى، استصرخه، بمعنى صاح به مستغيثا فلما رأى موسى عليه السلام قتاله لآخر؛ أعظم ذلك وقال له معاتبا ومؤنبا: { إنك لغوى مبين } وكانت إرادة موسى عليه السلام مع ذلك، أن ينصر الإسرائيلي، فلما دنا منهما، وحبس الإسرائيلي وفزع منه، وظن أنه ربما ضربه، وفزع من قوته التي رأى بالأمس، فناداه بالفضيحة وشهر أمر المقتول، ولما اشتهر أن موسى قتل القتيل، وكان قول الإسرائيلي يغلب على النفوس تصديقه على موسى، مع ما كان لموسى من المقدمات أتى رأي فرعون وملائه على قتل موسى، وغلب على نفس فرعون أنه المشار إليه بفساد المملكة، فأنفد فيه من يطلبه ويأتي به للقتل، وألهم الله رجلا؛ يقال إنه مؤمن من آل فرعون أو غيره، فجاء إلى موسى وبلغه قبلهم و { يسعى } معناه: يسرع في مشيه؛ قاله الزجاج وغيره، وهو دون الجري، فقال: { يموسى إن الملأ يأتمرون بك.
.. } الآية.
* ت * قال الهروي: قوله تعالى: { يأتمرون بك } أي: يؤامر بعضهم بعضا في قتلك، وقال الأزهري: الباء في قوله: { يأتمرون بك } بمعنى: «في» يقال: ائتمر القوم إذا شاور بعضهم بعضا، انتهى. وعن أبي مجلز واسمه لاحق بن حميد قال: من خاف من أمير ظلما فقال: رضيت بالله، ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا وبالقرآن حكما وإماما نجاه الله منه؛ رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه»، انتهى من «السلاح». و { تلقاء } معناه ناحية مدين، وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، وكان ملك مدين لغير فرعون، ولما خرج عليه السلام فارا بنفسه منفردا حافيا؛ لا شيء معه ولا زاد وغير عارف بالطريق؛ أسند أمره إلى الله تعالى وقال: { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } ومشى عليه السلام حتى ورد ماء مدين، ووروده الماء، معناه: بلوغه، ومدين: لا ينصرف إذ هو بلد معروف، والأمة: الجمع الكثير، و { يسقون } معناه: ماشيتهم، و { من دونهم } معناه: ناحية إلى الجهة التي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصوله إلى الأمة، و { تذودان } معناه: تمنعان، وتحبسان غنمهما عن الماء؛ خوفا من السقاة الأقوياء، و { أبونا شيخ كبير } ، أي: لا يستطيع؛ لضعفه أن يباشر أمر غنمه.
وقوله تعالى: { فسقى لهما }.
قالت فرقة: كانت آبارهم مغطاة بحجارة كبار، فعمد إلى بئر، وكان حجرها لا يرفعه إلا جماعة، فرفعه وسقى للمرأتين. فعن رفع الصخرة وصفته إحداهما بالقوة، وقيل وصفته بالقوة؛ لأنه زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى لهما.
وقرأ الجمهور «يصدر الرعاء» على حذف المفعول تقديره: مواشيهم، وتولى موسى إلى الظل وتعرض لسؤال ما يظعمه بقوله: { رب إني لمآ أنزلت إلي من خير فقير } ولم يصرح بسؤال؛ هكذا، روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله، قال ابن عباس: وكان قد بلغ به عليه السلام الجوع إلى أن اخضر لونه من أكل البقل، ورئيت خضرة البقل في بطنه، وإنه لأكرم الخلق يومئذ على الله، وفي هذا معتبر وحاكم بهوان الدنيا على الله تعالى، وعن معاذ بن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أكل طعاما، فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا، فقال: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر "
رواه أبو داود؛ واللفظ له، والترمذي وابن ماجه والحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح على شرط البخاري، وقال الترمذي: حسن غريب، انتهى من «السلاح».
[28.25-28]
وقوله تعالى: { فجاءته إحداهما تمشي على استحياء... } الآية: في هذا الموضع اختصار يدل عليه الظاهر، قدره ابن إسحاق: فذهبتا إلى أبيهما فأخبرتاه بما كان من الرجل، فأمر إحدى ابنتيه أن تدعوه له، فجاءته، على ما في الآية. وقوله: { على استحياء } أي: خفرة، قد سترت وجهها بكم درعها؛ قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الحياء من الإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء؛ والجفاء في النار "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ انتهى.
والجمهور أن الداعي لموسى عليه السلام هو شعيب عليه السلام وأن المرأتين ابنتاه. ف { قالت إن أبي يدعوك... } الآية، فقام يتبعها فهبت ريح ضمت قميصها إلى بدنها فتحرج موسى عليه السلام من النظر إليها فقال امشي خلفي وأرشديني إلى الطرق ففهمت عنه؛ فذلك سبب وصفها له بالأمانة؛ قاله ابن عباس. { فلما جآءه وقص عليه القصص } فآنسه بقوله: { لا تخف نجوت من القوم الظلمين } فلما فرغ كلامهما قالت إحدى الابنتين { يأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } فقال لها أبوها: ومن أين عرفت هذا منه؟ قالت: أما قوته ففي رفع الصخرة، وأما أمانته ففي تحرجه عن النظر إلي؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم، فقال له الأب عند ذلك: { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين... } الآية، قال ابن العربي: في «أحكامه» قوله: { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } يدل على أنه عرض لا عقد؛ لأنه لو كان عقدا، لعين المعقود عليها؛ لأن العلماء وإن اختلفوا في جواز البيع، إذ قال له: بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا، فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح؛ لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلحق بالنكاح. وروي أنه قال شعيب: أيتهما تريد؟ قال: الصغرى، انتهى. «وتأجر» معناه: تثيب وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا ووكل العامين إلى المروءة، ولما فرغ كلام شعيب قرره موسى؛ وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج، و { أيما } استفهام نصب ب { قضيت } و «ما» صلة للتأكيد و «لا عدوان» لاتباعة علي، و «الوكيل»: الشاهد القائم بالأمر.
[28.29-40]
وقوله تعالى: { فلما قضى موسى الأجل } قال ابن عباس: قضى أكملهما عشر سنين؛ وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون * فلما أتها نودى... } ، تقدم قصصها، فانظره في محاله، قال البخاري: والجذوة قطعة غليظة من الخشب فيها لهب، انتهى. قال العراقي و«آنس» معناه: أبصر، انتهى.
وقوله: { من الشجرة } يقتضي: أن موسى عليه السلام سمع ما سمع من جهة الشجرة، وسمع وأدرك غير مكيف ولا محدد.
قال السهيلي: قيل إن هذه الشجرة عوسجة، وقيل: عليقة، والعوسج إذا عظم قيل له: الغرقد، انتهى. { ولم يعقب } معناه: لم يرجع على عقبه من توليته.
وقوله تعالى: { واضمم إليك جناحك من الرهب } ذهب مجاهد وابن زيد إلى: أن ذلك حقيقة أمره بضم عضده وذراعه؛ وهو الجناح إلى جنبه؛ ليخف بذلك فزعه؛ ورهبه، ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في أوقات فزعه؛ أن يقوى قلبه، وذهبت فرقة إلى أن ذلك على المجاز وأنه أمر بالعزم على ما أمر به، كما تقول العرب: اشدد حيازيمك؛ واربط جأشك، أي: شمر في أمرك ودع عنك الرهب.
وقوله تعالى: { فذنك برهانن من ربك } قال مجاهد والسدي: هي إشارة إلى العصا واليد.
وقرأ الجمهور: «ردءا» بالهمز .
وقرأ نافع وحده «ردا» بتنوين الدال دون همز وذلك على التخفيف من ردء، والردء: الوزير المعين، وشد العضد: استعارة في المعونة، والسلطان: الحجة.
وقوله: { بئايتنا }: متعلق بقوله { الغلبون } أي: تغلبون بآياتنا؛ وهي المعجزات، ثم إن فرعون استمر في طريق مخرقته على قومه، وأمر هامان بأن يطبخ له الآجر وأن يبني له صرحا أي سطحا في أعلى الهواء، موهما لجهلة قومه أن يطلع بزعمه في السماء، ثم قال: { وإني لأظنه من الكذبين } يعني: موسى في أنه أرسله مرسل و { نبذنهم } معناه: طرحناهم، واليم: بحر القلزم في قول أكثر الناس؛ وهو الأشهر.
[28.41-43]
وقوله تعالى: { وجعلنهم أئمة يدعون إلى النار... } الآية، عبارة عن حالهم وأفعالهم، وخاتمتهم، أي: هم بذلك كالداعين إلى النار؛ وهم فيه أئمة من حيث اشتهروا، وبقي حديثهم، فهم قدوة لكل كافر وعات إلى يوم القيامة، و { المقبوحين } الذين يقبح كل أمرهم، قولا لهم وفعلا بهم، قال ابن عباس: هم الذين قبحوا بسواد الوجوه وزرقة العيون، و { يوم } طرف مقدم { ولقد ءاتينا موسى الكتب } يعني: التوراة والقصد بهذا الإخبار التمثيل لقريش؛ بما تقدم في غيرها من الأمم و«بصائر» نصب على الحال، أي: طرائق هادية.
[28.44-45]
وقوله تعالى: { وما كنت بجانب الغربي... } الآية، أي: ما كنت يا محمد حاضرا لهذه الغيوب التي تخبرهم بها، ولكنها صارت إليك بوحينا، أي: فكان الواجب أن يسارعوا إلى الإيمان بك.
قال السهيلي: وجانب الغربي هو جانب الطور الأيمن، فحين ذكر سبحانه نداءه لموسى قال:
وندينه من جانب الطور الأيمن
[مريم:52] وحين نفى عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون بذلك الجانب قال: { وما كنت بجانب الغربي } والغربي: هو الأيمن، وبين اللفظين في ذكر المقامين ما لا يخفى في حسن العبارة وبديع الفصاحة والبلاغة؛ فإن محمدا عليه السلام لا يقال له: ما كنت بالجانب الأيمن؛ فإنه لم يزل بالجانب الأيمن مذ كان في ظهر آدم عليه السلام، انتهى.
وقوله سبحانه: { فتطاول عليهم العمر } قال الثعلبي: أي: فنسوا عهد الله، انتهى. و { قضينا } معناه: أنفذنا، و { الأمر } يعني: التوراة.
وقالت فرقة: يعني به: ما أعلمه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
قال * ع *: وهذا تأويل حسن يلتئم معه ما بعده من قوله { ولكنا أنشأنا قرونا }.
* ت *: قال أبو بكر بن العربي: قوله تعالى: { إذ قضينا إلى موسى الأمر } معناه: أعلمناه، وهو أحد ما يرد تحت لفظ القضاء مرادا، انتهى من كتاب «تفسير الأفعال الواقعة في القرآن». و«الثاوي»: المقيم.
[28.46-47]
وقوله تعالى: { وما كنت بجانب الطور } يريد وقت إنزال التوراة إلى موسى عليه السلام . وقوله: { إذ نادينا } روي عن أبي هريرة: أنه نودي يومئذ من السماء: «يا أمة محمد، استجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تسألوني» فحينئذ قال موسى عليه السلام : اللهم، اجعلني من أمة محمد، فالمعنى: إذ نادينا بأمرك وأخبرنا بنبوتك.
وقال الطبري: معنى قوله: { إذ نادينا }: بأن
سأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة
الآية[الأعراف:156].
وقوله سبحانه: { ولولا أن تصيبهم مصيبة... } الآية، المصيبة: عذاب في الدنيا على كفرهم، وجواب { لولا } محذوف يقتضيه الكلام؛ تقديره: لعاجلناهم بما يستحقونه.
وقال الزجاج: تقديره: لما أرسلنا الرسل.
[28.48-50]
وقوله سبحانه: { فلما جاءهم الحق } يريد القرآن ومحمدا عليه السلام، والمقالة التي قالتها قريش: { لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } كانت من تعليم اليهود لهم؛ قالوا لهم: لم لا يأتي بآية باهرة كالعصا واليد، وغير ذلك، فعكس الله عليهم قولهم، ووقفهم على أنهم قد وقع منهم في تلك الآيات ما وقع من هؤلاء في هذه، فالضمير في قوله { يكفروا } لليهود، وقرأ الجمهور: «ساحران» والمراد: موسى وهارون.
قال * ع *: ويحتمل أن يريد ب { ما أوتي موسى } من أمر محمد والإخبار به الذي هو في التوراة.
وقوله: { وقالوا إنا بكل كفرون } يؤيد هذا التأويل، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «سحران» والمراد بهما: التوراة والقرآن؛ قاله ابن عباس، و { تظهرا }: معناه: تعاونا.
وقوله: { أهدى منهمآ }.
قال الثعلبي: يعني: أهدى من كتاب محمد وكتاب موسى؛ انتهى.
* ت *: ويحتمل أن يكون الضمير في { يكفروا } لقريش كما أشار إليه الثعلبي، وكذا في { قالوا } لقريش عنده. و { ساحران } يريدون موسى ومحمدا عليهما السلام وهو ظاهر قولهم: { إنا بكل كافرون }؛ لأن اليهود لا يقولون ذلك في موسى في عصر نبينا محمد عليه السلام، ويبين هذا كله قوله تعالى: { فإن لم يستجيبوا لك... } الآية، فإن ظاهر الآية أن المراد قريش وعلى هذا كله مر الثعلبي، انتهى .
[28.51-60]
وقوله تعالى: { ولقد وصلنا لهم القول... } الآية؛ الذين وصل لهم القول: هم قريش؛ قاله مجاهد وغيره، قال الجمهور: والمعنى: واصلنا لهم في القرآن، وتابعناه موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزواجر، والدعاء، إلى الإسلام. وذهبت فرقة إلى: أن الإشارة بتوصيل القول إنما هي إلى الألفاظ، فالمعنى: ولقد وصلنا لهم قولا معجزا دالا على نبوءتك.
قال * ع *: والمعنى الأول تقديره: ولقد وصلنا لهم قولا يتضمن معان؛ من تدبرها اهتدى. ثم ذكر تعالى القوم الذين آمنوا بمحمد من أهل الكتاب مباهيا بهم قريشا. واختلف في تعيينهم فقال الزهري: الإشارة: إلى النجاشي.
وقيل: إلى سلمان، وابن سلام، وأسند الطبري إلى رفاعة القرظي، قال: نزلت هذه الآية في اليهود في عشرة أنا أحدهم، أسلمنا فأوذينا؛ فنزلت فينا هذه الآية. والضمير في { قبله } يعود على القرآن. و { أجرهم مرتين } معناه: على ملتين؛ وهذا المعنى هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم
" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي... "
الحديث. و { يدرءون } معناه: يدفعون؛ وهذا وصف لمكارم الأخلاق، أي: يتغابون ومن قال لهم سوءا لا ينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه، واللغو سقط القول، والقول يسقط لوجوه يعز حصرها، والمراد منه في الآية: ما كان سبا وأذى ونحوه؛ فأدب الإسلام الإعراض عنه. و { سلام } في هذا الموضع قصد به المتاركة لا التحية. قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال، و { لا نبتغي الجهلين } معناه: لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة.
* ت *: قال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا حبيب بن حجر القيسي، قال: كان يقال: ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرفق، وما أضفت إلى شيء، مثل حلم إلى علم، انتهى. وأجمع جل المفسرين على أن قوله تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت } إنما نزلت في شأن أبي طالب، فروى أبو هريرة وغيره
" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه، وهو يجود بنفسه، فقال له: أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله... "
الحديث قد ذكرناه في سورة: «براءة»، فمات أبو طالب على كفره، فنزلت هذه الآية فيه.
قال أبو روق: قوله تعالى: { ولكن الله يهدي من يشاء } إشارة إلى العباس، والضمير في قوله { وقالوا } لقريش.
قال ابن عباس: والمتكلم بذلك فيهم الحارث بن نوفل، وحكى الثعلبي أنه قال له: إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك تخطفتنا العرب. و { تجبى }: معناه: تجمع وتجلب.
وقوله: { كل شيء } يريد مما به صلاح حالهم، ثم توعد قريشا بقوله { وكم أهلكنا من قرية } و { بطرت } معناه: سفهت وأشرت وطغت؛ قاله ابن زيد وغيره.
* ت *: قال الهروي: قوله تعالى: { بطرت معيشتها } ، أي: في معيشتها، والبطر: الطغيان عند النعمة، انتهى. ثم أحالهم على الاعتبار في خراب ديار الأمم المهلكة كحجر ثمود، وغيره. ثم خاطب تعالى قريشا محقرا لما كانوا يفتخرون به من مال وبنين، وأن ذلك متاع الدنيا الفاني، وأن الآخرة وما فيها من النعيم الذي أعده الله للمؤمنين خير وأبقى.
* ت *: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة "
رواه الترمذي من طريق سهل بن سعد، قال: وفي الباب عن أبي هريرة، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، انتهى. وباقي الآية بين لمن أبصر واهتدى، جعلنا الله منهم بمنه.
[28.61-64]
وقوله سبحانه: { أفمن وعدنه وعدا حسنا فهو لاقيه... } الآية، معناها، يعم جميع العالم و { من المحضرين }: معناه: في عذاب الله؛ قاله مجاهد وقتادة، ولفظة { محضرين } مشيرة إلى سوق [بجبر].
وقوله تعالى: { ويوم يناديهم } الضمير المتصل ب «ينادي» لعبدة الأوثان، والإشارة إلى قريش وكفار العرب.
وقوله: { قال الذين حق عليهم القول } هؤلاء المجيبون هم كل مغو داع إلى الكفر من الشياطين والإنس؛ طمعوا في التبري من متبعيهم؛ فقالوا ربنا هؤلاء إنما أضللناهم كما ضلنا نحن باجتهاد لنا ولهم، وأحبوا الكفر كما أحببناه { تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون }. ثم أخبر تعالى: أنه يقال للكفرة العابدين للأصنام: { ادعوا شركاءكم } يعني: الأصنام، { فدعوهم }. فلم يكن في الجمادات ما يجيب، ورأى الكفار العذاب.
وقوله تعالى: { لو أنهم كانوا يهتدون } ذهب الزجاج وغيره إلى أن جواب «لو» محذوف. تقديره «لما نالهم العذاب».
وقالت فرقة: لو: متعلقة بما قبلها، تقديره فودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون.
[28.65-72]
وقوله سبحانه { ويوم ينديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } هذا النداء أيضا للكفار، و { فعميت عليهم الأنبآء }: معناه أظلمت عليهم جهاتها.
وقوله: { فهم لا يتساءلون } معناه، في قول مجاهد: لا يتساءلون بالأرحام ويحتمل أن يريد أنهم لا يتساءلون عن الأبناء، ليقين جميعهم أنه لا حجة لهم.
وقوله سبحانه: { فعسى أن يكون من المفلحين }.
قال كثير من العلماء: «عسى» من الله واجبة.
قال * ع *: وهذا ظن حسن بالله تعالى يشبه كرمه وفضله سبحانه، واللازم من «عسى»: أنها ترجية لا واجبة، وفي كتاب الله تعالى:
عسى ربه إن طلقكن
[التحريم:5].
* ت *: ومعنى الوجوب هنا: الوقوع.
وقوله سبحانه: { وربك يخلق ما يشاء ويختار } ، قيل: سببها، قول قريش:
لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم
[الزخرف:31].
ونحو ذلك من قولهم؛ فرد الله عليهم بهذه الآية، وجماعة المفسرين: أن «ما» نافية، أي: ليس لهم الخيرة، وذهب الطبري إلى أن { ما } مفعولة ب { يختار } أي: ويختار الذي لهم فيه الخيرة، وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من سعادة ابن آدم استخارته الله، ومن شقاوته تركه "
رواه الحاكم في «المستدرك»؛ وقال: صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح». وباقي الآية بين. والسرمد من الأشياء: الدائم الذي لا ينقطع.
[28.73-75]
* ت *: وقوله سبحانه: { ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله... } , الآية معناها بين، وينبغي للعاقل ألا يجعل ليله كله نوما؛ فيكون ضائع العمر جيفة بالليل بطالا بالنهار، كما قيل: [الطويل]
نهارك بطال وليلك نائم
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
فإن أردت أيها الأخ؛ أن تكون من الأبرار فعليك بالقيام في الأسحار، وقد نقل صاحب «الكوكب الدري» عن البزار؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أتدرون ما قالت أم سليمان لسليمان عليه السلام : يا بني، لا تكثر النوم بالليل؛ فإن كثرة النوم بالليل، يدع الرجل فقيرا يوم القيامة "
، انتهى. وابتغاء الفضل: هو بالمشي والتصرف.
وقوله تعالى: { ونزعنا من كل أمة شهيدا } أي: عدول الأمم وأخيارها، فيشهدون على الأمم بخيرها وشرها، فيحق العذاب على من شهد عليه بالكفر، وقيل له: على جهة الإعذار في المحاورة: { هاتوا برهنكم } ومن هذه الآية، انتزع قول القاضي عند إرادة الحكم: أبقيت لك حجة.
[28.76-79]
وقوله تعالى: { إن قرون كان من قوم موسى فبغى عليهم... } الآية، كان قارون من قرابة موسى: ممن آمن بموسى وحفظ التوراة وكان عند موسى عليه السلام من عباد المؤمنين، ثم إن الله أضله وبغى على قومه بأنواع البغي؛ من ذلك كفره بموسى.
وقال الثعلبي: قال ابن المسيب: كان قارون عاملا لفرعون على بني إسرائيل؛ ممن يبغي عليهم ويظلمهم. قال قتادة: بغى عليهم بكثرة ماله وولده، انتهى.
* ت *: وما ذكره ابن المسيب، هو الذي يصح في النظر لمتأمل الآية، ولولا الإطالة لبينت وجه ذلك، والمفاتح ظاهرها: أنها التي يفتح بها، ويحتمل أن يريد بها: الخزائن والأوعية الكبار؛ قاله الضحاك؛ لأن المفتح في كلام العرب الخزانة، وأما قوله: { لتنوء } فمعناه: تنهض بتحامل واشتداد، قال كثير من المفسرين: إن المراد: أن العصبة تنوء بالمفاتح المثقلة لها فقلب.
* قلت *: وقال: عريب الأندلسي في كتاب «الأنواء» له نوء كذا؛ معناه: مثله ومنه: { لتنوأ بالعصبة } ، انتهى، وهو حسن إن ساعده النقل. وقال الداوودي عن ابن عباس: { لتنوأ بالعصبة أولى القوة } يقول تثقل؛ وكذا قال الواحدي، انتهى. واختلف في العصبة: كم هم؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: ثلاثة، وقال قتادة: هم من العشرة إلى الأربعين، قال البخاري: يقال: الفرحين المرحين.
قال الغزالي: في «الإحياء»: الفرح بالدنيا والتنعم بها سم قاتل يسري في العروق؛ فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة؛ وهذا هو موت القلب والعياذ بالله، فأولوا الحزم من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حال الفرح بمواتاة الدنيا، وعلموا أن النجاة في الحزن الدائم، والتباعد من أسباب الفرح، والبطر؛ فقطعوا النفس عن ملاذها وعودوها الصبر عن شهواتها؛ حلالها وحرامها وعلموا أن حلالها حساب وهو نوع عذاب، ومن نوقش الحساب عذب، فخلصوا أنفسهم من عذابها، وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة؛ بالخلاص من أسر الشهوات ورقها، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته، انتهى.
قال ابن الحاج في «المدخل»: قال يمن بن رزق رحمه الله تعالى : وأنا أوصيك بأن تطيل النظر في مرآة الفكرة مع كثرة الخلوات، حتى يريك شين المعصية وقبحها، فيدعوك ذلك النظر إلى تركها، ثم قال يمن بن رزق: ولا تفرحن بكثرة العمل مع قلة الحزن، واغتنم قليل العمل مع الحزن، فإن قليل حزن الآخرة الدائم في القلب؛ ينفي كل سرور ألفته من سرور الدنيا، وقليل سرور الدنيا في القلب؛ ينفي عنك جميع حزن الآخرة. والحزن لا يصل إلى القلب إلا مع تيقظه؛ وتيقظه حياته، وسرور الدنيا لغير الآخرة لا يصل إلى القلب إلا مع غفلته؛ وغفلة القلب موته، وعلامة ثبات اليقين في القلب استدامة الحزن فيه.
وقال رحمه الله : اعلم أني لم أجد شيئا أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب أنس العبد بالوحدة، انتهى.
وقولهم له: { ولا تنس نصيبك من الدنيا }.
قال ابن عباس والجمهور: معناه: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك؛ إذ الآخرة يعمل لها في الدنيا، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها؛ فينبغي أن لا يهمله. وحكى الثعلبي أنه قيل: أرادوا بنصيبه الكفن.
قال: * ع *: وهذا كله وعظ متصل؛ ونحو هذا قول الشاعر: [الطويل]
نصيبك مما تجمع الدهر كله
رداءان تلوى فيهما وحنوط
وقال ابن العربي في «أحكامه»: وفي معنى النصيب ثلاثة أقوال: الأول: لا تنس حظك من الدنيا، أي: لا تغفل أن تعمل في الدنيا للآخرة، الثاني: أمسك ما يبلغك؛ فذلك حظ الدنيا، وأنفق الفضل فذلك حظ الآخرة، الثالث: لا تغفل عن شكر ما أنعم الله به عليك، انتهى . وقولهم: { وأحسن كمآ أحسن الله إليك } أمر بصلة المساكين وذوي الحاجات.
* ص *: { كما أحسن }: - الكاف للتشبيه أو للتعليل -، انتهى. وقول قارون: { قال إنمآ أوتيته على علم عندي } قال الجمهور: ادعى أن عنده علما استوجب به أن يكون صاحب ذلك المال، ثم اختلفوا في ذلك العلم، فقال ابن المسيب: أراد علم الكيمياء.
وقال أبو سليمان الداراني: أراد العلم بالتجارة ووجوه تثمير المال، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون }.
قال محمد بن كعب: هو كلام متصل بمعنى ما قبله، والضمير في { ذنوبهم } عائد على من أهلك من القرون، أي: أهلكوا ولم يسئل غيرهم بعدهم عن ذنوبهم، أي: كل أحد إنما يكلم ويعاتب بحسب ما يخصه، وقالت فرقة: هو إخبار مستأنف عن حال يوم القيامة، وجاءت آيات أخر تقتضي السؤال، فقال الناس في هذا: إنها مواطن وطوائف.
وقيل غير هذا، ويوم القيامة هو مواطن. ثم أخبر تعالى عن خروج قارون على قومه في زينته من الملابس والمراكب وزينة الدنيا وأكثر الناس في تحديد زينة قارون وتعيينها بما لا صحة له؛ فتركته، وباقي الآية بين في اغترار الجهلة والإغمار من الناس.
[28.80-82]
وقوله سبحانه: { وقال الذين أوتوا العلم ويلكم... } الآية: أخبر تعالى عن الذين أوتوا العلم والمعرفة بالله وبحق طاعته أنهم زجروا الأغمار الذين تمنوا حال قارون وحملوهم على الطريقة المثلى؛ من أن النظر والتمني إنما ينبغى أن يكون في أمور الآخرة، وأن حالة المؤمن العامل الذي ينتظر ثواب الله تعالى خير من حال كل ذي دنيا. ثم أخبر تعالى عن هذه النزعة وهذه القوة في الخبر والدين أنها { لا يلقاها } أي: لا يمكن فيها ويخولها إلا الصابر على طاعة الله وعن شهوات نفسه؛ وهذا هو جماع الخير كله.
وقال الطبري: الضمير عائد على الكلمة؛ وهي قوله: { ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا } ، أي: لا يلقن هذه الكلمة إلا الصابرون؛ وعنهم تصدر، وروي في الخسف بقارون وداره أن موسى عليه السلام لما أمضه فعل قارون به وتعديه عليه؛ استجار بالله تعالى وطلب النصرة؛ فأوحى الله إليه، أني قد أمرت الأرض أن تطيعك في قارون وأتباعه، فقال موسى: يا أرض؛ خذيهم فأخذتهم إلى الركب، فاستغاثوا: يا موسى؛ يا موسى؛ فقال: خذيهم، فأخذتهم شيئا فشيئا إلى أن تم الخسف بهم، فأوحى الله إليه: يا موسى؛ لو بي استغاثوا وإلي تابوا لرحمتهم. قال قتادة وغيره: روي أنه يخسف به كل يوم قامة؛ فهو يتجلجل إلى يوم القيامة.
* ت *: وفي الترمذي؛ عن معاذ بن أنس الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من ترك اللباس تواضعا لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق؛ حتى يخيره؛ من أي حلل الإيمان شاء يلبسها "
وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لنا قرام ستر فيه تماثيل على بابي فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" انزعيه فإنه يذكرني الدنيا "
، الحديث وروى الترمذي عن كعب ابن عياض قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي: المال "
؛ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ وفيه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وحلف الخبز والماء ".
قال النضر بن شميل: «جلف الخبز» يعني: ليس معه إدام. انتهى. فهذه الأحاديث وأشباهها تزهد في زينة الدنيا وغضارة عيشها الفاني.
وقوله: { ويكأن } مذهب الخليل وسيبويه: أن «وي» حرف تنبيه منفصلة من (كأن)، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال.
وقال أبو حاتم وجماعة: ويك: هي (ويلك) حذفت اللام منها لكثرة الاستعمال.
وقالت فرقة: و«يكأن» بجملتها كلمة.
[28.83-84]
وقوله تعالى: { تلك الدار الأخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا... } الآية: هذا إخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه عليه السلام ، يراد به جميع العالم، ويتضمن الحض على السعي، حسب ما دلت عليه الآية، ويتضمن الانحناء على حال قارون ونظرائه، والمعنى: أن الآخرة ليست في شيء من أمر قارون؛ وأشباهه؛ وإنما هي لمن صفته كذا وكذا، والعلو المذموم: هو بالظلم والتجبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" وذلك أن تريد أن يكون شراك نعلك أفضل من شراك نعل أخيك "
، والفساد يعم وجوه الشر.
[28.85-88]
وقوله تعالى: { إن الذي فرض عليك القرءان } قالت فرقة: معناه فرض عليك أحكام القرآن.
وقوله تعالى: { لرادك إلى معاد } قال الجمهور: معناه: لرادك إلى الآخرة، أي: باعثك بعد الموت، وقال ابن عباس وغيره: المعاد: الجنة، وقال ابن عباس؛ أيضا ومجاهد: المعاد: مكة، وفي البخاري بسنده عن ابن عباس: { لرادك إلى معاد }: إلى مكة، انتهى. وهذه الآية نزلت بالجحفة؛ كما تقدم، والمعاد: الموضع الذي يعاد إليه.
وقوله تعالى: { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتب إلا رحمة من ربك } هو تعديد نعم، والظهير: المعين.
وقوله تعالى: { ولا يصدنك عن ءايت الله }: بأقوالهم؛ ولا تلتفت نحوهم؛ وامض لشأنك، وادع إلى ربك، وآيات الموادعة كلها منسوخة.
وقوله تعالى: { كل شيء هالك وجهه } قالت فرقة: المعنى: كل شيء هالك إلا هو سبحانه؛ قاله الطبري وجماعة منهم أبو المعالي رحمه الله وقال الزجاج: إلا إياه.
[29 - سورة العنكبوت]
[29.1-3]
قوله تعالى: { الم } تقدم الكلام على هذه الحروف.
وقوله تعالى: { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون } نزلت هذه الآية في قوم من المؤمنين بمكة؛ وكان كفار قريش يؤذونهم، ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك؛ وربما استنكر بعضهم أن يمكن الله الكفرة من المؤمنين. قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآية مسلية، ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبارا للمؤمنين. ليعلم الصادق من الكاذب، و«حسب» بمعنى: ظن.
{ والذين من قبلهم } يريد بهم: المؤمنين مع الأنبياء في سالف الدهر.
[29.4-7]
وقوله تعالى: { أم حسب الذين يعملون السيئات } أم: معادلة للهمزة؛ في قوله:
أحسب
[العنكبوت:2] وكأنه تعالى قرر الفريقين: قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات؛ في تعذيب المؤمنين؛ وغير ذلك على ظنهم؛ أنهم يسبقون عقاب الله تعالى؛ ويعجزونه، ثم الآية بعد تعم كل عاص، وعامل سيئة من المسلمين؛ وغيرهم، وفي الآية وعيد شديد للكفرة الفاتنين، وفي قوله تعالى: { من كان يرجو لقاء الله } تثبيت للمؤمنين، وباقي الآية بين، والله الموفق.
وقال * ص *: قول * ع *: أم: معادلة للألف في قوله: { أحسب } يقتضي أنها هنا متصلة؛ وليس كذلك؛ بل «أم» هنا: منقطعة مقدرة ب «بل»؛ للإضراب، بمعنى: الانتقال؛ لا بمعنى الإبطال، وهمزة الاستفهام؛ للتقرير والتوبيخ؛ فلا تقتضي جوابا، انتهى.
وقوله تعالى: { والذين ءامنوا وعملوا الصلحت لنكفرن عنهم سيئاتهم }. إخبار عن المؤمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من البدار إلى الله تعالى؛ نوه بهم عز وجل وبحالهم؛ ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة؛ وهم الذين فتنهم الكفار.
{ ولنجزينهم أحسن } ، أي: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.
[29.8-11]
وقوله تعالى: { ووصينا الإنسن بوالديه حسنا وإن جهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } روي عن قتادة وغيره: أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص؛ وذلك أنه هاجر؛ فحلفت أمه أن لا تستظل بظل حتى يرجع إليها؛ ويكفر بمحمد، فلج هو في هجرته، ونزلت الآية.
وقيل: بل نزلت في عياش بن أبي ربيعة؛ وكانت قصته كهذه ثم خدعه أبو جهل؛ ورده إلى أمه. الحديث في كتب السيرة، وباقي الآية بين. ثم كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين؛ ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم.
قال الثعلبي: قوله تعالى: { لندخلنهم في الصلحين } أي: في زمرتهم.
وقال محمد بن جرير في مدخل الصالحين: وهو الجنة.
وقيل: { في } بمعنى: «مع» و «الصالحون»: هم الأنبياء والأولياء، انتهى.
وقوله تعالى: { ومن الناس من يقول ءامنا بالله } إلى قوله: { المنفقين } ، نزلت في المتخلفين عن الهجرة؛ المتقدم ذكرهم؛ قاله ابن عباس. ثم قررهم تعالى على علمه بما في صدورهم، أي: لو كان يقينهم تاما وإسلامهم خالصا؛ لما توقفوا ساعة ولركبوا كل هول إلى هجرتهم ودار نبيهم.
وقوله تعالى: { وليعلمن الله الذين ءامنوا وليعلمن المنفقين } هنا؛ انتهى المدني من هذه السورة.
[29.12-13]
وقوله تعالى: { وقال الذين كفروا للذين ءامنوا اتبعوا سبيلنا... } الآية، روي: أن قائل هذه المقالة هو: الوليد بن المغيرة، وقيل : بل كانت شائعة من كفار قريش؛ لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { وليحملن أثقالهم } لأنه يلحق كل داع إلى ضلالة؛ كفل منها حسبما صرح به الحديث المشهور.
[29.14-18]
وقوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم... } الآية، العطف بالفاء يقتضي ظاهره أنه لبث هذه المدة رسولا؛ يدعو إلى عبادة الله تعالى، و { الطوفان }: العظيم الطامي، ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء، أو نار، أو موت.
وقوله: { وهم ظلمون } يريد: بالشرك. ثم ذكر تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وقومه، وذلك أيضا تمثيل لقريش.
وقوله تعالى: { وتخلقون إفكا } قال ابن عباس: هو نحت الأصنام.
وقال مجاهد: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان؛ وغير ذلك.
[29.19-25]
وقوله تعالى: { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده... } الآية، هذه الحالة هي على ما يظهر مع الأحيان من إحياء الأرض، والنبات؛ وإعادته؛ ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور، ثم أمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج, بالسير في الأرض، والنظر في أقطارها، و { النشأة الأخرة }: نشأة القيام من القبور.
وقوله تعالى: { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء... } الآية، قال ابن زيد: لا يعجزه أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء؛ إن عصوه. وقيل: معناه: ولا في السماء لو كنتم فيها. وقيل: المعنى: ليس للبشر حيلة إلى صعود أو نزول؛ يفلتون بها. قال قتادة: ذم الله قوما هانوا عليه؛ فقال: { أولئك يئسوا من رحمتي... } الآية.
قال * ع *: وما تقدم من قوله: { أولم يروا كيف... } إلى هذه الآية المستأنفة؛ يحتمل أن يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويكون اعتراضا في قصة إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن يكون خطابا لإبراهيم عليه السلام؛ ومجاورة لقومه؛ وعند آخر ذلك ذكر جواب قومه.
وقوله تعالى: { فأنجاه الله من النار } أي بأن جعلها بردا وسلاما.
قال كعب الأحبار رضي الله عنه : ولم تحرق النار إلا الحبل الذي أوثقوه به؛ وجعل سبحانه ذلك آية، وعبرة، ودليلا على توحيده لمن شرح صدره؛ ويسره للإيمان. ثم ذكر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قررهم على أن اتخاذهم الأوثان؛ إنما كان اتباعا من بعضهم لبعض؛ وحفظا لمودتهم الدنيوية؛ وأنهم يوم القيامة يجحد بعضهم بعضا، ويتلاعنون؛ لأن توادهم كان على غير تقوى،
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
[الزخرف:67].
[29.26-35]
وقوله تعالى: { فئامن له لوط } معناه: صدق، وآمن: يتعدى باللام والباء، والقائل { إني مهاجر } هو إبراهيم عليه السلام. قاله قتادة والنخعي؛ وقالت فرقة: هو لوط عليه السلام .
وقوله تعالى: { ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتب وءاتيناه أجره في الدنيا... } الآية، الأجر الذي آتاه الله في الدنيا: العافية من النار ومن الملك الجائر. والعمل الصالح؛ أو الثناء الحسن؛ قاله مجاهد ويدخل في عموم اللفظ غير ما ذكر.
قوله تعالى: { وإنه في الأخرة لمن الصلحين } ، أي: في عداد الصالحين الذين نالوا رضا الله عز وجل، وقول لوط عليه السلام: { أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل } ، قالت فرقة: كان قطع الطريق بالسلب فاشيا فيهم، وقيل غير هذا، والنادي، المجلس الذي يجتمع الناس فيه. واختلف في هذا المنكر الذي يأتونه في ناديهم: فقالت فرقة: كانوا يحذفون الناس بالحصباء؛ ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم؛ وروته أم هانىء عن النبي صلى الله عليه وسلم: وكانت خلقهم مهملة؛ لا يربطهم دين؛ ولا مروءة، وقال مجاهد: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم؛ وبعضهم يرى بعضا.
وقال ابن عباس: كانوا يتضارطون ويتصافعون في مجالسهم، وقيل غير هذا، وقد تقدم قصص الآية مكررا والرجز: العذاب.
وقوله تعالى: { ولقد تركنا منها }؛ أي: من خبرها وما بقي من آثارها، والآية: موضع العبرة، وعلامة القدرة، ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى.
[29.36-41]
وقوله تعالى: { وإلى مدين أخهم شعيبا فقال يقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر... } الآية، الرجاء في الآية: على بابه، وذهب أبو عبيدة إلى أن المعنى؛ وخافوا، و { تعثوا } معناه: تفسدوا، و { السبيل }: هي طريق الإيمان، ومنهج النجاة من النار، و { ما كانوا سبقين } ، أي : مفلتين أخذنا وعقابنا، وقيل: معناه: وما كانوا سابقين الأمم إلى الكفر، وباقي الآية بين.
[29.42-45]
وقوله تعالى: { إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء } ، قيل: معناه: إن الله يعلم الذين تدعون من دونه من جميع الأشياء، وقيل: ما نافية؛ وفيه نظر، وقيل: ما استفهامية، قال جابر: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وما يعقلها إلا العلمون }: العالم: من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته وانتهى عن معصيته.
قوله تعالى: { وخلق الله السموات والأرض بالحق } أي: لا للعبث واللعب؛ بل ليدل على سلطانه؛ وتثبيت شرائعه، ويضع الدلالة لأهلها ويعم بالمنافع؛ إلى غير ذلك مما لا يحصى عدا. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره؛ وتلاوة القرآن الذي أوحي إليه وإقامة الصلاة، أي: إدامتها؛ والقيام بحدودها. ثم أخبر سبحانه حكما منه أن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر.
قال * ع *: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع، والإخبات وتذكر الله، وتوهم الوقوف بين يديه، وإن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقوب صلحت لذلك نفسه، وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تعالى؛ فاطرد ذلك في أقواله، وأفعاله، وانتهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى؛ يرجع بها إلى أفضل حاله؛ فهذا معنى هذا الإخبار؛ لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون، وقد روي عن بعض السلف: أنه كان إذا أقام الصلاة ارتعد، واصفر لونه، فكلم في ذلك، فقال: إني أقف بين يدي الله تعالى.
قال * ع *: فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر، وأما من كانت صلاته دائرة حول الإجزاء، بلا تذكر ولا خشوع، ولا فضائل؛ فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان.
وقوله تعالى: { ولذكر الله أكبر } قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن مسعود وأبو قرة: معناه: ولذكر الله إياكم؛ أكبر من ذكركم إياه.
وقيل: معناه: ولذكر الله أكبر؛ مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر. وقال ابن زيد وغيره: معناه: ولذكر الله أكبر من كل شيء . وقيل لسلمان: أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ { ولذكر الله أكبر }. والأحاديث في فضل الذكر كثيرة؛ لا تنحصر.
وقال ابن العربي في «أحكامه»: قوله: و { لذكر الله أكبر } فيه أربعة أقوال.
الأول: ذكر الله لكم أفضل من ذكركم له؛ أضاف المصدر إلى الفاعل.
الثاني: ذكر الله أفضل من كل شيء.
الثالث: ذكر الله في الصلاة؛ أفضل من ذكره في غيرها؛ يعني: لأنهما عبادتان.
الرابع: ذكر الله في الصلاة؛ أكبر من الصلاة؛ وهذه الثلاثة الأخيرة من إضافة المصدر إلى المفعول، وهذه كلها صحيحة، وإن للصلاة بركة عظيمة، انتهى.
قال * ع *: وعندي، أن المعنى: ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي: هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة؛ يفعل ذلك، وكذلك يفعل في غير الصلاة، لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله تعالى، مراقب له، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى، كما في الحديث الصحيح:
" ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم "
والحركات التي في الصلاة؛ لا تأثير لها في نهي، والذكر النافع هو مع العلم؛ وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله تعالى. وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى، وذكر الله تعالى للعبد؛ هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه؛ وذلك ثمرة ذكر العبد ربه. قال الله عز وجل:
فاذكروني أذكركم
[البقرة:152].
وعبارة الشيخ ابن أبي جمرة: { ولذكر الله أكبر } معناه: ذكره لك في الأزل أن جعلك من الذاكرين له؛ أكبر من ذكرك أنت الآن له، انتهى.
قال القشيري في «رسالته» الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه؛ وهو العمدة في هذا الطريق؛ ولا يصل أحد إلى الله سبحانه إلا بدوام الذكر، ثم الذكر على ضربين: باللسان، وذكر بالقلب، فذكر اللسان: به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب، والتأثير لذكر القلب، فإذا كان العبد ذاكرا بلسانه، وقلبه؛ فهو الكامل في وصفه، سمعت أبا علي الدقاق يقول: الذكر: منشور الولاية، فمن وفق للذكر؛ فقد وفق للمنشور، ومن سلب الذكر فقد عزل والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات. وأسند القشيري عن المظفر الجصاص قال: كنت أنا ونصر الخراط ليلة في موضع؛ فتذاكرنا شيئا من العلم؛ فقال الخراط: الذاكر لله تعالى فائدته في أول ذكره: أن يعلم أن الله ذكره؛ فبذكر الله له ذكره، قال: فخالفته، فقال: لو كان الخضر ها هنا لشهد لصحته، قال فإذا نحن بشيخ يجيء بين السماء والأرض، حتى بلغ إلينا وقال صدق؛ الذاكر لله بفضل الله، وذكره له ذكره، فعلمنا أنه الخضر عليه السلام، انتهى. وباقي الآية ضرب من التوعد وحث على المراقبة، قال الباجي في «سنن الصالحين»: قال بعض العلماء: إن الله عز وجل يقول:
" أيما عبد اطلعت على قلبه؛ فرأيت الغالب عليه التمسك بذكري؛ توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه "
انتهى.
[29.46-49]
وقوله تعالى: { ولا تجدلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن }. هذه الآية مكية، ولم يكن يومئذ قتال، وكانت اليهود يومئذ بمكة؛ وفيما جاورها، فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدال واحتجاج في أمر الدين؛ وتكذيب، فأمر الله المؤمنين ألا يجادلوهم إلا بالتي هي أحسن؛ دعاء إلى الله تعالى وملاينة، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين؛ وحصلت منه أذية؛ فإن هذه الضيفة استثني لأهل الإسلام معارضتها؛ بالتغيير عليها، والخروج معها عن التي هي أحسن. ثم نسخ هذا بعد بآية القتال؛ وهذا قول قتادة؛ وهو أحسن ما قيل في تأويل الآية.
* ت *: قال، عز الدين بن عبد السلام في «اختصاره لقواعد الأحكام»؛ فائدة: لا يجوز الجدال والمناظرة إلا الإظهار الحق ونصرته؛ ليعرف ويعمل به، فمن جادل لذلك؛ فقد أطاع، ومن جادل لغرض آخر، فقد عصى وخاب، ولا خير فيمن يتحيل لنصرة مذهبه؛ مع ضعفه وبعد أدلته من الصواب، انتهى.
تنبيه: روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" الحياء والعي: شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق "
وروى أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها "
حديث غريب، انتهى؛ وهما في «مصابيح البغوي». وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال، أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا "
انتهى.
وقوله تعالى: { وقولوا ءامنا } الآية، قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية؛ ويفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم»، وقولوا: { ءامنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } "
وروى ابن مسعود؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم؛ وقد ضلوا: إما أن تكذبوا بحق، وإما أن تصدقوا بباطل ".
وقوله تعالى: { فالذين ءاتينهم الكتب } يريد: التوراة والإنجيل؛ كانوا في وقت نزول الكتاب عليهم يؤمنون بالقرآن. ثم أخبر عن معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن منهم أيضا من يؤمن به ولم يكونوا آمنوا بعد، ففي هذا إخبار بغيب؛ بينه الوجود بعد ذلك.
قوله تعالى: { وما يجحد بآيتنا إلا الكفرون } يشبه أن يراد بهذا الانحناء كفار قريش. ثم بين تعالى الحجة وأوضح البرهان: أن مما يقوى أن نزول هذا القرآن من عند الله؛ أن محمدا عليه السلام جاء به في غاية الإعجاز والطول والتضمن للغيوب، وغير ذلك؟ وهو أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب؛ ولا يتلو كتابا ولا يخط حروفا؛ ولا سبيل له إلى التعلم، ولو كان ممن يقرأ أو يخط، لارتاب المبطلون، وكان لهم في ارتيابهم معلق، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة؛ فظاهر فساده { بل هو ءايت بينت } يعني: القرآن، ويحتمل: أن يعود على أمر محمد صلى الله عليه وسلم و { الظلمون } و { المبطلون } يعم لفظهما كل مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عظم الإشارة بهما إلى قريش؛ لأنهم الأهم؛ قاله مجاهد.
[29.50-52]
{ وقالوا لولا أنزل عليه ءايت من ربه } الضمير في: { قالوا } لقريش ولبعض اليهود؛ لأنهم كانوا يعلمون قريشا مثل هذه الحجة؛ على ما مر في غير ما موضع. ثم احتج عليهم في اقتراحهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات؛ ومعجز للجن والإنس؛ فقال سبحانه: { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتب... }.
وقوله: { ءامنوا بالبطل } يريد: الأصنام وما في معناها.
[29.53-56]
وقوله تعالى: { ويستعجلونك بالعذاب } يريد: كفار قريش، وباقي الآية بين مما تقدم مكررا والله الموفق بفضله. و { بغتة }: معناه: فجأة: وهذا هو عذاب الدنيا؛ كيوم بدر ونحوه. ثم توعدهم سبحانه بعذاب الآخرة في قوله: { يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم... } الآية.
وقوله تعالى: { يعبادي الذين ءامنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون... } الآيات، هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الكائنين بمكة على الهجرة. قال ابن جبير، وعطاء ومجاهده: إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر؛ تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق؛ وقاله مالك.
[29.57-63]
وقوله سبحانه: { كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون } تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها، كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه؛ أنه يموت أو يجوع ونحو هذا؛ فحقر الله سبحانه شأن الدنيا، أي وأنتم لا محالة ميتون ومحشرون إلينا، فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه أولى ما يمتثل. ذكر هشام بن عبد الله القرطبي في تاريخه المسمى ب «بهجة النفس» قال: بينما المنصور جالس في منزله في أعلى قصره؛ إذ جاءه سهم عائر فسقط بين يديه؛ فذعر المنصور منه ذعرا شديدا، ثم أخذه فجعل بقلبه، فإذا مكتوب عليه بين الريشتين: [الوافر]
أتطمع في الحياة إلى التنادي
وتحسب أن مالك من معاد
ستسأل عن ذنوبك والخطايا
وتسأل بعد ذاك عن العباد
ومن الجانب الآخر: [البسيط]
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وساعدتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وفي الآخر: [البسيط]
هي المقادير تجري في أعنتها
فاصبر فليس لها صبر على حال
يوما تريك خسيس القوم ترفعه
إلى السماء ويوما تخفض العالي
ثم قرأ على الجانب الآخر من السهم: [البسيط]
من يصحب الدهر لا يأمن تصرفه
يوما فللدهر إحلاء وإمرار
لكل شيء وإن طالت سلامته
إذا انتهى مده لا بد إقصار
انتهى.
وقرأ حمزة: «لنثوينهم من الجنة غرفا»: من أثوى يثوي بمعنى: أقام.
وقوله تعالى: { وكأين من دابة... } الآية: تحريض على الهجرة؛ لأن بعض المؤمنين فكر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة، وقالوا: غربة في بلد لا دار لنا فيه ولا عقار، ولا من يطعم، فمثل لهم بأكثر الدواب التي لا تتقوت ولا تدخر، ثم قال تعالى: { الله يرزقها وإياكم } فقوله: { لا تحمل } يجوز أن يريد من الحمل، أي: لا تنتقل ولا تنظر في ادخاره.
قاله مجاهد وغيره.
قال * ع *: والادخار ليس من خلق الموقنين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر:
" كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس؛ يخبئون رزق سنة بضعف اليقين "
ويجوز أن يريد من الحمالة؛ أي: لا تتكفل لنفسها.
قال الداوودي: وعن علي بن الأقمر: { لا تحمل رزقها } أي: لا تدخر شيئا لغد، انتهى. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
ثم خاطب تعالى في أمر الكفار وإقامة الحجة عليهم، بأنهم إن سئلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة، لم يكن لهم إلا التسليم بأنها لله تعالى، و { يؤفكون } معناه: يصرفون.
[29.64-69]
وقوله تعالى: { وما هذه الحيوة الدنيا إلا لهو ولعب } وصف الله تعالى الدنيا في هذه الآية بأنها لهو ولعب، أي: ما كان منها لغير وجه الله تعالى؛ وأما ما كان لله تعالى فهو من الآخرة، وأما أمور الدنيا التي هي زائدة على الضروري الذي به قوام العيش، والقوة على الطاعات؛ فإنما هي لهو ولعب، وتأمل ذلك في الملابس، والمطاعم، والأقوال، والمكتسبات، وغير ذلك، وانظر أن حالة الغني والفقير من الأمور الضرورية واحدة: كالتنفس في الهواء، وسد الجوع، وستر العورة، وتوقي الحر والبرد؛ هذه عظم أمر العيش، و { الحيوان } و { الحياة } بمعنى، والمعنى: لا موت فيها، قاله مجاهد وهو حسن، ويقال: أصله: حييان؛ فأبدلت إحداهما واوا لاجتماع المثلين. ثم وقفهم تعالى على حالهم في البحر؛ عند الخوف العظيم؛ ونسيانهم عند ذلك للأصنام، وغيرها، على ما تقدم بيانه في غير هذا الموضع: و { ليكفروا } نصب ب «لام كي» ثم عدد تعالى على كفرة قريش نعمته عليهم؛ في الحرم و«المثوى»: موضع الإقامة، وألفاظ هذه الآية في غاية الاقتضاب والإيجاز؛ وجمع المعاني. ثم ذكر تعالى حال أوليائه والمجاهدين فيه.
وقوله: { فينا } معناه: في مرضاتنا وبغية ثوابنا.
قال السدي وغيره: نزلت هذه الآية قبل فرض القتال.
قال * ع *: فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.
قال الحسن بن أبي الحسن: الآية في العباد. وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما علموا. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط؛ بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين؛ وأعظمه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومنه، مجاهدة النفوس في طاعة الله عز وجل وهو الجهاد الأكبر؛ قاله الحسن وغيره، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
" رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "
و«السبل» هنا يحتمل أن تكون طرق الجنة ومسالكها، ويحتمل أن تكون سبل الأعمال المؤدية إلى الجنة، قال يوسف بن أسباط: هي إصلاح النية في الأعمال، وحب التزيد والتفهم، وهو أن يجازى العبد على حسنة بازدياد حسنة وبعلم ينقدح من علم متقدم.
قال * ص *: { والذين جهدوا }: مبتدأ خبره القسم المحذوف، وجوابه وهو: { لنهدينهم } ، انتهى.
وقال الثعلبي: قال سهل بن عبد الله: { والذين جهدوا } في إقامة السنة { لنهدينهم } سبل الجنة؛ انتهى. واللام في قوله { لمع } لام تأكيد.
[30 - سورة الروم]
[30.1-8]
قوله تعالى: { الم * غلبت الروم } قرأ الجمهور: «غلبت» بضم الغين، وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزم جيش الروم بأذرعات؛ وهي أدنى الأرض إلى مكة؛ قاله عكرمة. فسر بذلك كفار مكة فبشر الله تعالى المؤمنين بأن الروم سيغلبون في بضع سنين، فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المسجد الحرام؛ فقال للكفار: أسركم أن غلبت الروم؟ فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى: أنهم سيغلبون في بضع سنين، فقال له أبي بن خلف وأخوه أمية بن خلف: يا أبا بكر: تعال فلنتناحب، أي: نتراهن في ذلك، فراهنهم أبو بكر على خمس قلائص، والأجل ثلاث سنين، وذلك قبل أن يحرم القمار, فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال له: إن البضع إلى التسع، ولكن زدهم في الرهن؛ واستزدهم في الأجل، ففعل أبو بكر، فجعلوا القلائص مائة، والأجل تسعة أعوام، فغلبت الروم فارس في أثناء الأجل يوم بدر وروي أن ذلك كان يوم الحديبية، يوم بيعة الرضوان؛ وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين، وذكر الناس سرور المؤمنين بغلبة الروم؛ من أجل أنهم أهل كتاب، وفرحت قريش بغلبة الفرس؛ من أجل أنهم أهل أوثان. ونحوه من عبادة النار.
وقوله تعالى: { لله الأمر من قبل ومن بعد }. أي: له إنفاذ الأحكام من قبل ومن بعد هذه الغلبة التي بين هؤلاء؛ ثم أخبر تعالى أن يوم غلبة الروم للفرس يفرح المؤمنون بنصر الله، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يريد: كفار قريش والعرب، أي: لا يعلمون أن الأمور من عند الله، وأن وعده لا يخلف، وأن ما يورده نبيه حق.
قال * ع *: وهذا الذي ذكرناه عمدة ما قيل. ثم وصف تعالى الكفرة الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده بأنهم إنما: { يعلمون ظاهرا من الحيوة الدنيا وهم عن الأخرة هم غفلون } ، قال صاحب «الكلم الفارقية»: الدنيا طبق مسموم، لا يعرف ضرره إلا أرباب الفهوم. قوة الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة. بحسب انصراف الرغبة إلى الشيء، يجد الراغب في طلبه، وتتوفر دواعيه على تحصيله. المطلوبات تظهر وتبين أقدار طلابها؛ فمن شرفت همته شرفت رغبته؛ وعزت طلبته. يا غافل، سكر حبك لدنياك؛ وطول متابعتك لغاوي هواك - أنساك عظمة مولاك؛ وثناك عن ذكره وألهاك؛ وصرف وجه رغبتك عن آخرتك إلى دنياك. إن كنت من أهل الاستبصار، فألق ناظر رغبتك عن زخارف هذه الدار؛ فإنها مجمع الأكدار، ومنبع المضار؛ وسجن الأبرار؛ ومجلس سرور الأشرار. الدنيا كالحية تجمع في أنيابها؛ سموم نوائبها؛ وتفرغه في صميم قلوب أبنائها، انتهى.
قال عياض في الشفا: قال أبو العباس المبرد رحمه الله قسم كسرى أيامه؛ فقال: يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس للحوائج. قال ابن خالويه: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم، { يعلمون ظاهرا من الحيوة الدنيا وهم عن الأخرة هم غفلون } ، لكن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم جزأها ثلاثة أجزاء: جزءا لله تعالى، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه. ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس؛ فكان يستعين بالخاصة على العامة؛ ويقول: أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي؛ فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع، أمنه الله يوم الفزع الأكبر، انتهى. والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه، يأخذ من هذه الآية بحظ. نور الله قلوبنا بهداه.
* ت *: قد تقدم ما جاء في الفكرة في «آل عمران». قال ابن عطاء الله: الفكرة سراج القلب؛ فإذا ذهبت فلا إضاءة له. وقال: ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة، انتهى وباقي الآية بين.
[30.9-13]
وقوله عز وجل: { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض... } الآية، يريد أثاروا الأرض بالمباني، والحرث، والحروب وسائر الحوادث التي أحدثوها هي كلها إثارة للأرض؛ بعضها حقيقة وبعضها بتجوز، والضمير في { عمروها } الأول للماضين، وفي الثاني للحاضرين المعاصرين.
وقوله تعالى: { ثم كان عقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بئايت الله }.
قرأ نافع وغيره: «عاقبة» بالرفع على أنها اسم { كان } ، والخبر يجوز أن يكون { السوأى } ، ويجوز أن يكون { أن كذبوا } ، وتكون { السوأى } على هذا مفعولا ب { أساءوا } وإذا كان { السوأى } خبرا ف { أن كذبوا } مفعول من أجله.
وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما «عاقبة» بالنصب على أنها خبر مقدم، واسم كان أحد ما تقدم، { والسوأى }: مصدر كالرجعى، والشورى، والفتيا. قال ابن عباس: { أساءوا } هنا بمعنى : كفروا، و { السوأى } هي النار. وعبارة البخاري: وقال مجاهد { السوأى } أي: الإساءة جزاء المسيئين، انتهى. والإبلاس: الكون في شر، مع اليأس من الخير.
* ص *: وقال الزجاج: المبلس: الساكت المنقطع في حجته؛ اليائس من أن يهتدي إليها، انتهى.
[30.14-16]
وقوله جلت عظمته: { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } معناه: في المنازل والأحكام والجزاء. قال قتادة: فرقة؛ والله لا اجتماع بعدها. و { يحبرون } معناه ينعمون؛ قاله مجاهد. والحبرة والحبور: السرور وقال يحيى بن أبي كثير: { يحبرون } معناه: يسمعون الأغاني؛ وهذا نوع من الحبرة.
* ت *: وفي الصحيح من قول أبي موسى: لو شعرت بك يا رسول الله لحبرته لك تحبيرا؛ أو كما قال.
وقال * ص *: { يحبرون }: قال الزجاج: التحبير: التحسين، والحبر العالم، إنما هو من هذا المعنى؛ لأنه متخلق بأحسن أخلاق المؤمنين، والحبر المداد إنما سمي به؛ لأنه يحسن به، انتهى. قال الأصمعي: ولا يقال: روضة حتى يكون فيها ماء؛ يشرب منه. ومعنى: { في العذاب محضرون } أي: مجموعون له: لا يغيب أحد عنه.
[30.17-29]
وقوله تعالى: { فسبحان الله... } الآية خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات، كأنه يقول سبحانه: إذا كان أمر هذه الفرق هكذا من النقمة والعذاب، فجد أيها المؤمن في طريق الفوز برحمة الله. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قال حين يصبح { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } إلى قوله: { وكذلك تخرجون } أدرك ما فاته في يومه ذلك، ومن قالهن حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته "
رواه أبو داود، انتهى من «السلاح».
قال ابن عباس وغيره: في هذه الآية تنبيه على أربع صلوات: المغرب، والصبح، والظهر، والعصر، قالوا: والعشاء الأخيرة هي في آية أخرى: في زلف الليل، وقد تقدم بيان هذا مستوفى في محاله.
وقوله تعالى: { يخرج الحي من الميت... } الآية، تقدم بيانها. ثم بعد هذه الأمثلة القاضية بتجويز بعث الأجساد عقلا؛ ساق الخبر سبحانه بأن كذلك خروجنا من قبورنا، و { تنتشرون } معناه: تتصرفون وتتفرقون، والمودة والرحمة: هما على بابهما المشهور من التواد والتراحم؛ هذا هو البليغ. وقيل: غير هذا.
وقرأ الجمهور: «للعالمين» بفتح اللام يعني: جميع العالم. وقرأ حفص عن عاصم بكسرها على معنى: أن أهل الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم، وباقي الآية اطلبه في محاله؛ تجده إن شاء الله مبينا، وهذا شأننا إلاحالة في هذا المختصر؛ على ما تقدم بيانه، فاعلمه راشدا.
* ت *: وهذه الآيات والعبر إنما يعظم موقعها في قلوب العارفين بالله سبحانه، ومن أكثر التفكر في عجائب صنع الله تعالى حصلت له المعرفة بالله سبحانه.
قال الغزالي في «الإحياء»: وبحر المعرفة لا ساحل له؛ والإحاطة بكنه جلال الله محال، وكلما كثرت المعرفة بالله تعالى وصفاته. وأفعاله وأسرار مملكته وقويت كثر النعيم في الآخرة؛ وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن.
وقال أيضا في كتاب «شرح عجائب القلب» من «الإحياء»: وتكون سعة ملك العبد في الجنة؛ بحسب سعة معرفته بالله، وبحسب ما يتجلى له من عظمة الله سبحانه ، وصفاته، وأفعاله، انتهى.
وقوله تعالى: { أن تقوم السماء والأرض } معناه: تثبت كقوله تعالى:
وإذا أظلم عليهم قاموا
[البقرة:20].
وهذا كثير، والدعوة من الأرض: هي البعث ليوم القيامة، قال مكي: والأحسن عند أهل النظر أن الوقف في هذه الآية يكون في آخرها، { تخرجون }؛ لأن مذهب سيبويه والخليل في «إذا» الثانية: أنها جواب الأولى، كأنه قال: ثم إذا دعاكم خرجتم؛ وهذا أسد الأقوال.
وقال * ص *: { إذا أنتم } ، «إذا»: للمفاجأة، وهل هي ظرف مكان أو ظرف زمان؟ خلاف، و { من الأرض } علقه الحوفي ب «دعا»، وأجاز * ع *: أن يتعلق ب «دعوة» انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي: «تخرجون» بفتح التاء، والباقون بضمها ، والقنوت هنا بمعنى الخضوع، والانقياد في طاعته سبحانه. وإعادة الخلق: هو بعثهم من القبور.
وقوله تعالى: { وهو أهون عليه } قال ابن عباس وغيره: المعنى: وهو هين عليه، وفي مصحف ابن مسعود «وهو هين عليه»، وفي بعض المصاحف «وكل هين عليه».
وقال ابن عباس أيضا وغيره: المعنى: وهو أيسر عليه، قال: ولكن هذا التفضيل إنما هو بحسب معتقد البشر؛ وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون علينا من البدأة. ولما جاء بلفظ فيه استعارة، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة؛ بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يلحقه تكييف؛ ولا تماثل مع شيء. ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل ؛ وهو قوله: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم... } الآية، ومعناه: أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم؛ فإنكم لا تشركونهم في أموالكم، ومهم أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة. وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم، أو يقاسموكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض؛ فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون: أن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته؛ هذا تفسير ابن عباس والجماعة.
[30.30-32]
وقوله تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا... } الآية، إقامة الوجه: هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين. وخص الوجه؛ لأنه جامع حواس الإنسان؛ ولشرفه. و { فطرت الله } نصب على المصدر.
وقيل: بفعل مضمر تقديره اتبع أو التزم فطرة الله، واختلف في الفطرة ها هنا، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدة مهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه؛ ويؤمن به، فكأنه تعالى، قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له. فطر البشر؛ لكن تعرضهم العوارض؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه... "
الحديث ، ثم يقول: { فطرت الله } الآية، إلى { القيم } فذكر الأبوين إنما هما مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال البخاري: فطرة الله: هي الإسلام، انتهى.
وقوله تعالى: { لا تبديل لخلق الله } يحتمل أن يريد بها هذه الفطرة، ويحتمل أن يريد بها الإنحاء على الكفرة؛ اعترض به أثناء الكلام؛ كأنه يقول: أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا، فإن هؤلاء الكفرة قد خلق الله لهم الكفر، و { لا تبديل لخلق الله } ، أي: أنهم لا يفلحون، وقيل غير هذا، وقال البخاري: { لا تبديل لخلق الله } أي: لدين الله، وخلق الأولين دينهم. انتهى. و { القيم } بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة، و { منيبين } يحتمل أن يكون حالا من قوله { فطر الناس } لا سيما على رأي من رأى أن ذلك خصوص في المؤمنين، ويحتمل أن يكون حالا من قوله { أقم وجهك } وجمعه: لأن الخطاب بإقامة الوجه هو للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته نظيرها قوله تعالى:
يأيها النبي إذا طلقتم النساء
[الطلاق:1]. والمشركون المشار إليهم في هذه الآية: هم اليهود والنصارى؛ قاله قتادة، وقيل غير هذا.
[30.33-47]
وقوله تعالى: { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه... } الآية، ابتداء إنحاء على عبدة الأصنام.
قال * ع *: ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين؛ إذا جاءهم فرج بعد شدة؛ فعلقوا ذلك بمخلوقين، أو بحذق آرائهم، وغير ذلك؛ لأن فيه قلة شكر لله تعالى؛ ويسمى تشريكا مجازا. والسلطان هنا البرهان من رسول أو كتاب، ونحوه.
وقوله تعالى: { فهو يتكلم } معناه فهو يظهر حجتهم، ويغلب مذهبهم، وينطق بشركهم. ثم قال تعالى: { وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها } ، وكل أحد يأخذ من هذه الخلق بقسط، فالمقل والمكثر، إلا من ربطت الشريعة جأشه، ونهجت السنة سبيله، وتأدب بآداب الله، فصبر عند الضراء؛ وشكر عند السراء، ولم يبطر عند النعمة، ولا قنط عند الابتلاء، والقنط: اليأس الصريح. ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره؛ لم ييأس من روح الله وهو أنه سبحانه يخص من يشاء من عباده ببسط الرزق، ويقدر على من يشاء منهم. فينبغي لكل عبد أن يكون راجيا ما عند ربه. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أمرا تدخل فيه أمته على جهة الندب بإيتاء ذي القربى حقه من صلة المال، وحسن المعاشرة ولين القول، قال الحسن: حقه المواساة في اليسر، وقول ميسور في العسر.
قال * ع *: ومعظم ما قصد أمر المعونة بالمال.
وقرأ الجمهور: { وما ءاتيتم } بمعنى: أعطتيم، وقرأ ابن كثير بغير مد، وما فعلتم، وأجمعوا على المد في قوله { وما ءاتيتم من زكوة } والربا: الزيادة.
قال ابن عباس وغيره: هذه الآية نزلت في هبات الثواب.
قال * ع *: وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه؛ كالسلم وغيره، فهو وإن كان لا إثم فيه؛ فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى، وما أعطى الإنسان تنمية لماله وتطهيرا؛ يريد بذلك وجه الله تعالى؛ فذلك هو الذي يجازى به أضعافا مضاعفة على ما شاء الله له. وقرأ جمهور السبعة «ليربوا» بإسناد الفعل إلى الربا، وقرأ نافع وحده «لتربوا» وباقي الآية بين. ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد بسبب المعاصي، قال مجاهد: البر البلاد البعيدة من البحر، والبحر السواحل والمدن التي على ضفة البحر، وظهور الفساد فيهما: هو بارتفاع البركات، ووقوع الرزايا، وحدوث الفتن وتغلب العدو، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر، قال ابن عباس: الفساد في البحر: انقطاع صيده بذنوب بني آدم، وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال؛ إلا يدفع الله عنها هذه الأمور، والأمر بالعكس في المعاصي، وبطر النعمة؛ ليذيقهم عاقبة بعض ما عملوا ويعفوا عن كثير.
و { لعلهم يرجعون } ، أي: يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة ربهم؛ ثم حذر تعالى من يوم القيامة تحذيرا يعم العالم وإياهم المقصد بقوله { فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله } الآية { ولا مرد له }: معناه: ليس فيه رجوع لعمل، ويحتمل أن يريد لا يرده راد. وهذا ظاهر بحسب اللفظ و { يصدعون }: معناه: يتفرقون بعد جمعهم إلى الجنة وإلى النار. ثم ذكر تعالى من آياته أشياء وهي ما في الريح من المنافع وذلك أنها بشرى بالمطر ويلقح بها الشجر، وغير ذلك، وتجري بها السفن في البحر. ثم آنس سبحانه نبيه عليه السلام بقوله: { ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات... } الآية، ثم وعد تعالى محمدا عليه السلام وأمته النصر بقوله: { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } وحقا خبر كان قدمه اهتماما.
[30.48-53]
وقوله تعالى : { الله الذي يرسل الريح فتثير سحابا... } الآية. الإثارة: تحريكها من سكونها، وتسييرها، وبسطه في السماء هو نشره في الآفاق, والكسف: القطع.
وقوله: { من قبله }: تأكيد أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، والإبلاس: الكون في حال سوء مع اليأس من زوالها.
وقوله تعالى: { كيف يحيي } الضمير في { يحيي } يحتمل أن يكون للأثر ويحتمل أن يعود على الله تعالى وهو أظهر. ثم أخبر تعالى عن حال تقلب بني إدم، في أنه بعد الاستبشار بالمطر، إن بعث الله ريحا فاصفر بها النبات؛ ظلوا يكفرون قلقا منهم وقلة تسليم لله تعالى، والضمير في { رأوه } للنبات واللام في { لئن } مؤذنة بمجيء القسم وفي { لظلوا } لام القسم.
وقوله تعالى: { فإنك لا تسمع الموتى... } الآية: استعارة للكفار وقد تقدم بيان ذلك في «سورة النمل».
[30.54-60]
وقوله تعالى: { الله الذي خلقكم من ضعف } قال كثير من اللغويين: ضم الضاد في البدن، وفتحها في العقل، وهذه الآية إنما يراد بها حال الجسم، والضعف الأول هو: كون الإنسان من ماء مهين، والقوة بعد ذلك: الشبيبة وشدة الأسر والضعف الثاني هو الهرم والشيخوخة، هذا قول قتادة وغيره وروى أبو داود في سننه بسند صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة "
وفي رواية
" إلا كتب الله عز وجل له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة "
انتهى.
ثم أخبر عز وجل عن يوم القيامة فقال: { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا } أي: تحت التراب { غير ساعة } وقيل: المعنى: ما لبثوا في الدنيا كأنهم استقلوها. { كذلك كانوا } في الدنيا { يؤفكون } أي: يصرفون عن الحق.
قال * ص *: { ما لبثوا }: جواب القسم على المعنى، ولو حكي قولهم لكان ما لبثنا؛ انتهى. ثم أخبر تعالى أن الكفرة لا ينفعهم يومئذ اعتذار ولا يعطون عتبى، وهي الرضا وباقي الآية بين، ولله الحمد.
[31 - سورة لقمان]
[31.1-6]
قوله عز وجل: { الم * تلك ءايت الكتب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين }: خصه للمحسنين من حيث لهم نفعه، وإلا فهو هدى في نفسه.
وقوله تعالى: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } روي: أن الآية نزلت في شأن رجل من قريش؛ اشترى جارية مغنية؛ لتغني له بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنه ابن خطل.
وقيل: نزلت في النضر بن الحارث وقيل غير هذا والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو حديث. مضاف إلى كفر؛ فلذلك اشتدت ألفاظ الآية، و { لهو الحديث } كل ما يلهى من غناء وخناء. ونحوه، والآية باقية المعنى في الأمة غابر الدهر؛ لكن ليس ليضلوا عن سبيل الله، ولا ليتخذوا آيات الله هزوا، ولا عليهم هذا الوعيد؛ بل ليعطلوا عبادة، ويقطعوا زمنا بمكروه.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر: أن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؛ أدخلوهم في أرض المسك، ثم يقول الله تعالى للملائكة: أسمعوهم ثنائي وحمدي؛ وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. انتهى.
[31.7-11]
وقوله عز وجل: { وإذا تتلى عليه ءايتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم } الوقر في الأذن: الثقل الذي يعسر معه إدراك المسموعات، و«الرواسي»: هي الجبال و«الميد»: التحرك يمنة ويسرة، وما قرب من ذلك، والزوج: النوع والصنف. و { كريم }: مدحه بكرم جوهره، وحسن منظره، وغير ذلك. ثم وقف تعالى الكفرة على جهة التوبيخ فقال: { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه }.
[31.12-13]
وقوله تعالى: { ولقد ءاتينا لقمان الحكمة } اختلف في لقمان؛ هل هو نبي أو رجل صالح فقط، وقال ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" لم يكن لقمان نبيا؛ ولكن كان عبدا كثير التفكير، حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة؛ يحكم بالحق، فقال: رب إن خيرتني، قبلت العافية، وتركت البلاء، وإن عزمت علي، فسمعا وطاعة، فإنك ستعصمني، وكان قاضيا في بني إسرائيل نوبيا أسود، مشقق الرجلين، ذا مشافر "
، قاله سعيد بن المسيب وابن عباس وجماعة: وقال له رجل كان قد رعى معه الغنم : ما بلغ بك يا لقمان ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني، وحكم لقمان كثيرة مأثورة.
قال ابن العربي في «أحكامه»: وروى علماؤنا عن مالك قال: قال لقمان لابنه: يا بني، إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا مذ كنت، واستقبلت الآخرة مع أنفاسك، وإن دارا ستسير إليها؛ أقرب إليك من دار تخرج منها، انتهى.
وقوله: { أن اشكر } يجوز أن تكون «أن» في موضع نصب على إسقاط حرف الجر، أي: بأن اشكر لله ويجوز أن تكون مفسرة، أي: كانت حكمته دائرة على الشكر لله، وجميع العبادات داخلة في الشكر لله عز وجل، و { حميد } بمعنى: محمود، أي: هو مستحق ذلك بذاته وصفاته.
[31.14-21]
وقوله تعالى: { ووصينا الإنسن بولديه حملته أمه وهنا على وهن } هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان و { وهنا على وهن } معناه ضعفا على ضعف، كأنه قال: حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمده.
وقال * ص *: { وهنا على وهن } حال من أمه أي شدة بعد شدة، أو جهدا على جهد، وقيل { وهنا } نطفة، ثم علقة، فيكون حالا من الضمير المنصوب في { حملته }. انتهى.
وقوله تعالى: { أن اشكر لي ولولديك }.
قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في إدبار الصلوات فقد شكرهما.
وقوله سبحانه: { وإن جهداك على أن تشرك بي } روي أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان، على ما تقدم بيانه، وجملة هذا الباب؛ أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات وتستحسن في ترك الطاعات الندب.
وقوله سبحانه: { واتبع سبيل من أناب إلي } وصية لجميع العالم. وهذه سبيل الأنبياء والصالحين.
وقوله تعالى حاكيا عن لقمان { يبني إنها إن تك مثقال حبة... } الآية: ذكر كثير من المفسرين: إنه أراد مثقال حبة من أعمال المعاصي والطاعات، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف منضاف إلى تبيين قدرة الله تعالى.
وقوله: { واصبر على مآ أصابك } يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نال ضررا، فهو إشعار بأن المغير يؤذي أحيانا.
وقوله: { إن ذلك من عزم الأمور } يحتمل أن يريد مما عزمه الله وأمر به، قاله ابن جريج: ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة؛ قاله جماعة. والصعر: الميل، فمعنى الآية: ولا تمل خدك للناس كبرا عليهم وإعجابا واحتقارا لهم؛ قاله ابن عباس وجماعة. وعبارة البخاري: ولا تصاعر، أي: لا تعرض والتصاعر: الإعراض بالوجه؛ انتهى. والمرح: النشاط، والمشي مرحا: هو في غير شغل، ولغير حاجة، وأهل هذه الخلق ملازمون للفخر والخيلاء، فالمرح مختال في مشيه، وقد ورد من صحيح الأحاديث في جميع ذلك وعيد شديد يطول بنا سرده.
قال عياض: كان أبو إسحاق الجبنياني قل ما يترك ثلاث كلمات؛ وفيهن الخير كله: اتبع ولا تبتدع. اتضع ولا ترتفع، من ورع لا يتسع, انتهى. وغض الصوت أوقر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه، ثم عارض ممثلا بصوت الحمير على جهة التشبيه، أي: تلك هي التي بعدت عن الغض فهي أنكر الأصوات، فكذلك ما بعد عن الغض من أصوات البشر؛ فهو في طريق تلك، وفي الحديث:
" إذا سمعتم نهيق الحمير، فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطانا ".
وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا صياح الحمير.
* ت *: ولفظ الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فأنه رأى شيطانا "
رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وفي لفظ النسائي:
" إذا سمعتم الديكة تصيح بالليل "
، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير من الليل، فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنها ترى ما لا ترون، وأقلوا الخروج إذا جدت؛ فإن الله يبث في ليله من خلقه ما يشاء "
رواه أبو داود النسائي والحاكم في «المستدرك». واللفظ له، وقال صحيح على شرط مسلم؛ انتهى، من «السلاح».
وقوله تعالى: { وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنة }.
قال المحاسبي رحمه الله الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنة: نعم العقبى. والظاهر عندي التعميم. ثم وقف تعالى الكفرة على اتباعهم دين آبائهم أيكون وهم بحال من يصير إلى عذاب السعير، فكأن القائل منهم يقول: هم يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى السعير. فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف؛ كما كان اتساق الكلام فيه؛ فتأمله.
[31.22-26]
وقوله تعالى: { ومن يسلم وجهه إلى الله } معناه يخلص ويوجه ويستسلم به والوجه هنا: الجارحة، استعير للمقصد؛ لأن القاصد إلى شيء فهو مستقبله بوجهه، فاستعير ذلك للمعاني، والمحسن: الذي جمع القول والعمل، وهو الذي شرحه صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان. والمتاع القليل هنا هو العمر في الدنيا. وقوله: { قل الحمد لله } أي: على ظهور الحجة.
[31.27-32]
وقوله تعالى: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام... } الآية. روي عن ابن عباس: أن سبب نزولها أن اليهود قالت: يا محمد؛ كيف عنيتنا: هذا القول،
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الإسراء:85].
ونحن قد أوتينا التوراة تبيانا لكل شيء؟ فنزلت الآية، وقيل غير هذا.
قال * ع *: وهذه الآية بحر نظر وفكرة، نور الله قلوبنا بهداه.
وقوله تعالى: { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس وحدة } أي: لأنه كله ب «كن» فيكون، قاله مجاهد.
وقوله تعالى: { كل يجري إلى أجل مسمى } يريد: القيامة.
وقوله: { بنعمت الله } يحتمل أن يريد ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات، فالباء: للإلزاق، ويحتمل أن يريد بالريح وتسخير الله البحر ونحو هذا، فالباء باء السبب. وذكر تعالى من صفات المؤمن الصبار والشكور؛ لأنهما عظم أخلاقه، الصبر على الطاعات وعلى النوائب، وعن الشهوات، والشكر على الضراء والسراء. وقال الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصفه الآخر، واليقين الإيمان كله. و«غشي» غطى أو قارب، والظلل: السحاب.
وقوله تعالى: { فمنهم مقتصد }.
قال الحسن: منهم مؤمن يعرف حق الله في هذه النعم، والختار القبيح الغدر، وذلك أن منن الله على العباد كأنها عهود ومنن يلزم عنها أداء شكرها، والعبادة لمسديها، فمن كفر ذلك، وجحد به، فكأنه ختر، وخان، قال الحسن: الختار هو الغدار. و { كفور }: بناء مبالغة.
[31.33-34]
وقوله تعالى: { يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده... } الآية يجزي معناه يقضي، والمعنى: لا ينفعه بشيء، وقرأ الجمهور: «الغرور»: بفتح الغين وهو الشيطان؛ قاله مجاهد وغيره، واعلم أيها الأخ أن من فهم كلام ربه ورزق التوفيق لم ينخدع بغرور الدنيا وزخرفها الفاني؛ بل يصرف همته بالكلية إلى التزود لآخرته؛ ساعيا في مرضاة ربه، وأن من أيقن أن الله يطلبه صدق الطلب إليه كما قاله الإمام العارف بالله ابن عطاء الله. وإنه لا بد لبناء هذا الوجود أن تنهدم دعائمه وأن تسلب كرائمه، فالعاقل؛ من كان بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى، قد أشرق نوره وظهرت تباشيره، فصدف عن هذه الدار مغضيا، وأعرض عنها موليا، فلم يتخذها وطنا، ولا جعلها سكنا؛ بل أنهض الهمة فيها إلى الله تعالى وصار فيها مستعينا به في القدوم عليه، فما زالت مطية عزمه لا يقر قرارها. دائما تسيارها، إلى أن أناخت بحضرة القدس، وبساط الإنس، انتهى.
وروينا في «جامع الترمذي» عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس؛ لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا؛ فصبر على ذلك، ثم نفض بيده فقال: عجلت منيته، قلت نوائحه؛ قل تراثه "
، قال أبو عيسى: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت لا، يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، أو قال: ثلاثا أو نحو هذا، فإذا جعت ، تضرعت إليك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وفي الباب عن فضالة بن عبيد، انتهى. والغرور: التطميع بما لا يحصل. وقال ابن جبير: معنى الآية: أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة، وفي الحديث الصحيح: عنه صلى الله عليه وسلم قال:
" خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله تعالى؛ وتلا الآية: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث... } إلى آخرها "
قال أبو حيان { بأي أرض }: الباء ظرفية والجملة في موضع نصب ب { تدري }. انتهى.
[32 - سورة السجدة]
[32.1-4]
قال جابر: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام حتى يقرأ: { الم } السجدة، و { تبارك الذي بيده الملك }. و { تنزيل } يصح أن يرتفع بالابتداء، والخبر: { لا ريب } ويصح أن يرتفع على أنه خبر مبتدإ محذوف، أي: ذلك تنزيل، والريب: الشك، وكذلك هو في كل القرآن إلا قوله
ريب المنون
[الطور:30].
وقوله: { أم يقولون } إضراب؛ كأنه قال: بل أيقولون: ثم رد على مقالتهم وأخبر أنه الحق من عند الله.
وقوله سبحانه: { ما ءاتهم } أي: لم يباشرهم ولا رأوه هم ولا آباؤهم العرب.
وقوله تعالى:
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
[فاطر:24] يعم من بوشر من النذر ومن سمع به، فالعرب من الأمم التي خلت فيها النذر على هذا الوجه، لأنها علمت بإبراهيم وبنيه، وبدعوتهم، ولم يأتهم نذير مباشر لهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس ومقاتل: المعنى: لم يأتهم نذير في الفترة بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
[32.5-9]
وقوله تعالى: { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض... } الآية، الأمر اسم جنس لجميع الأمور، والمعنى ينفذ سبحانه قضاءه بجميع ما يشاءه، ثم يعرج إليه خبر ذلك في يوم من أيام الدنيا؛ مقداره أن لو سير فيه السير المعروف، من البشر ألف سنة، أي: نزولا وعروجا لأن ما بين السماء والأرض خمس مائة سنة، هذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وقيل: المعنى: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من عدنا، وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة. وقيل: غير هذا وقرأ الجمهور: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: بفتح اللام على أنه فعل ماض ومعنى: «أحسن»: أتقن وأحكم فهو حسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: «خلقه»: بسكون اللام وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن: «أحسن» هنا معناه: ألهم وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى:
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه:50].
أي: ألهم. والإنسان هنا آدم عليه السلام والمهين: الضعيف، { ونفخ }: عبارة عن إفاضة الروح في جسد آدم عليه السلام والضمير في { روحه } لله تعالى، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق، ويحتمل أن يكون الإنسان في هذه الآية اسم جنس و { قليلا } صفة لمصدر محذوف.
[32.10-15]
وقوله تعالى: { وقالوا أءذا ضللنا في الأرض } أي: تلفنا وتقطعت أوصالنا، فذهبنا في التراب حتى لم نوجد؛ { أءنا لفي خلق جديد } أي: أنخلق بعد ذلك خلقا جديدا؛ إنكارا منهم للبعث واستبعادا له، و { يتوفكم } معناه يستوفيكم؛ روي عن مجاهد: أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث أمر.
وقوله تعالى: { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم } الآية تعجيب لمحمد عليه السلام وأمته من حال الكفرة، وما حل بهم، وجواب { لو } محذوف؛ لأن حذفه أهول في النفوس، وتنكيس رؤوسهم هو من الذل واليأس والهم بحلول العذاب. وقولهم { أبصرنا وسمعنا } أي: ما كنا نخبر به في الدنيا، ثم طلبوا الرجعة حين لا ينفع ذلك. ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه لو شاء لهدى الناس أجميعن؛ بأن يلطف بهم لطفا يؤمنون به، ويخترع الإيمان في نفوسهم، هذا مذهب أهل السنة، و { الجنة }: الشياطين، و { نسيتم } معناه: تركتم؛ قاله ابن عباس وغيره.
وقوله: { إنا نسينكم } سمى العقوبة باسم الذنب. ثم أثنى سبحانه على القوم الذين يؤمنون بآياته، ووصفهم بالصفة الحسنى من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم استكبارهم.
[32.16-22]
وقوله تعالى: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع... } الآية، تجافى الجنب عن موضعه إذا تركه قال الزجاج وغيره: التجافي التنحي إلى فوق.
قال * ع *: وهذا قول حسن، والجنوب جمع جنب، والمضاجع موضع الاضطجاع للنوم.
* ت *: وقال الهروي: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } أي: ترتفع وتتباعد والجفاء بين الناس هو التباعد، انتهى. وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قال: [الطويل]
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
انتهى. وجمهور المفسرين: على أن المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل.
قال * ع *: وعلى هذا التأويل أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح وفيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر عليه السلام قيام الليل؛ ثم يستشهد بالآية؛ ففي حديث معاذ
" ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم قرأ { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } ، حتى بلغ { يعملون } "
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح؛ ورجح الزجاج ما قاله الجمهور بأنهم: جوزوا بإخفاء، فدل ذلك على أن العمل إخفاء أيضا، وهو قيام الليل { يدعون ربهم خوفا } أي: من عذابه { وطمعا } ، أي: في ثوابه.
قال * ص *: { تتجافى } أعربه أبو البقاء: حالا، و { يدعون }: حال أو مستأنف و { خوفا وطمعا }: مفعولان من أجله أو مصدران في موضع الحال؛ انتهى. وفي الترمذي عن معاذ بن جبل قال: قلت: يار رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار، قال:
" لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه؛ تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } حتى بلغ { يعملون }. ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى، يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: كف عليك هذا. قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟! "
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. انتهى.
وقرأ حمزة وحده: «أخفي» بسكون الياء كأنه قال: أخفي أنا.
وقرأ الجمهور «أخفي» بفتح الياء ، وفي معنى هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم:
" قال الله - عز وجل -: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما اطلعتم عليه، واقرءوا إن شئتم: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين... } الآية "
انتهى.
قال القرطبي في «تذكرته»: «وبله» معناه: غير، وقيل: هو اسم فعل بمعنى دع، وهذا الحديث خرجه البخاري، وغيره.
* ت *: وفي رواية للبخاري قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: { فلا تعلم نفس... } الآية. انتهى.
وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب «على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، وباقي الآية بين؛ والضمير في قوله تعالى: { ولنذيقنهم } لكفار قريش، ولا خلاف أن العذاب الأكبر هو عذاب الآخرة، واختلف في تعيين العذاب الأدنى؛ فقيل هو السنون التي أجاعهم الله فيها، وقيل هو مصائب الدنيا من الأمراض؛ ونحوها، وقيل هو القتل بالسيف كبدر وغيرها.
وقوله سبحانه: { إنا من المجرمين منتقمون } ظاهر الإجرام هنا أنه الكفر، وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
" ثلاث من فعلهن، فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، ومن عق والديه، ومن نصر ظالما ".
[32.23-25]
وقوله تعالى: { ولقد ءاتينا موسى الكتب فلا تكن في مرية من لقائه } اختلف في الضمير الذي في { لقائه } على من يعود؟ فقال قتادة وغيره: يعود على موسى، والمعنى: فلا تكن يا محمد، في شك من أنك تلقى موسى، أي: في ليلة الإسراء، وهذا قول جماعة من السلف، وقالت فرقة: الضمير: عائد على الكتاب، أي: فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب.
* ص *: وقيل: يعود على الكتاب على تقدير مضمر، أي: من لقاء مثله، أي: أتيناك مثل ما آتينا موسى، والتأويل الأول هو الظاهر، انتهى. والمرية: الشك، والضمير في جعلناه: يحتمل أن يعود على الكتاب أو على موسى؛ قاله قتادة.
وقوله تعالى: { إن ربك هو يفصل بينهم } ، حكم يعم جميع الخلق، وذهب بعضهم إلى تخصيص الضمير وذلك ضعيف.
[32.26-30]
وقوله تعالى: { أولم يهد } معناه يبين؛ قاله ابن عباس، والفاعل ب { يهد } هو الله؛ في قول فرقة، والرسول؛ في قول فرقة، وقرأ أبو عبد الرحمن: «نهد» بالنون وهي قراءة الحسن وقتادة، فالفاعل الله تعالى، والضمير في { يمشون } يحتمل أن يكون للمخاطبين أو للمهلكين، و { الجرز }: الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش والقيظ؛ ومنه قيل للأكول جروز. وقال ابن عباس وغيره: { الأرض الجرز }: أرض أبين من اليمن وهي أرض تشرب بسيول لا بمطر، وفي «البخاري»: وقال ابن عباس: { الجرز }: التي لم تمطر إلا مطرا لا يغني عنها شيئا. انتهى.
ثم حكى سبحانه عن الكفرة أنهم يستفتحون؛ ويستعجلون فصل القضاء بينهم وبين الرسل على معنى الهزء.والتكذيب، و { الفتح }: الحكم، هذا قول جماعة من المفسرين، وهو أقوى الأقوال.
قال مجاهد و { الفتح } هنا هو حكم الآخرة. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالإعراض عن الكفرة وانتظار الفرج، وهذا مما نسخته آية السيف.
وقوله: { إنهم منتظرون } أي: العذاب بمعنى هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون.
[33 - سورة الأحزاب]
[33.1-5]
قوله تعالى: { يأيها النبي اتق الله... } الآية. قوله: { اتق } معناه: دم على التقوى، ومتى أمر أحد بشيء وهو به متلبس؛ فإنما معناه الدوام في المستقبل على مثل الحالة الماضية. وحذره تعالى من طاعة الكافرين والمنافقين تنبيها على عداوتهم، وألا يطمئن إلى ما يبدونه من نصائحهم. والباء في قوله: { وكفى بالله } زائدة على مذهب سيبويه، وكأنه قال وكفى الله، وغيره يراها غير زائدة متعلقة ب «كفى» على أنه بمعنى: اكتف بالله. واختلف في السبب في قوله تعالى: { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } فقال ابن عباس: سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمدا له قلبان، وقيل غير هذا.
قال * ع *: ويظهر من الآية بجملتها أنها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر، فمنها أن العرب كانت تقول: إن الإنسان له قلب يأمره، وقلب ينهاه، وكان تضاد الخواطر يحملها على ذلك، وكذلك كانت العرب تعتقد الزوجة إذا ظاهر منها بمنزلة الأم، وتراه طلاقا، وكانت تعتقد الدعي المتبنى ابنا، فنفى الله ما اعتقدوه من ذلك.
وقوله سبحانه: { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } سببها أمر زيد بن حارثة كانوا يدعونه: زيد بن محمد و { السبيل } هنا سبيل الشرع والإيمان. ثم أمر تعالى في هذه الآية بدعاء الأدعياء لآبائهم، أي: إلى آبائهم للصلب، فمن جهل ذلك فيه؛ كان مولى وأخا في الدين، فقال الناس زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة، إلى غير ذلك و { أقسط }: معناه: أعدل.
وقوله عز وجل: { وليس عليكم جناح... } الآية: رفع الحرج عمن وهم ونسي وأخطأ، فجرى على العادة من نسبة زيد إلى محمد، وغير ذلك. مما يشبهه، وأبقى الجناح في المتعمد، والخطأ مرفوع عن هذه الأمة عقابه؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه "
وقال عليه السلام :
" ما أخشى عليكم الخطأ وإنما أخشى العمد ".
قال السهيلي: ولما نزلت الآية وامتثلها زيد فقال: أنا زيد بن حارثة؛ جبر الله وحشته وشرفه بأن سماه باسمه في القرآن فقال:
فلما قضى زيد منها وطرا
[الأحزاب:37] ومن ذكره سبحانه باسمه في الذكر الحكيم، حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب، فقد نوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم له؛ ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا، فبكى أبي وقال : أو ذكرت هنالك "
، وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره؛ فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلدا لا يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة كذلك في الجنان، ثم زاده في الآية غاية الإحسان أن قال:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه
[الأحزاب:37] يعني بالإيمان؛ فدل على أنه عند الله من أهل الجنان، وهذه فضيلة أخرى هي غاية منتهى أمنية الأنسان، انتهى.
[33.6]
وقوله تعالى: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } أزال الله بهذه الآية أحكاما كانت في صدر الإسلام منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذكر الله تعالى؛ أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، حسب حديث عمر بن الخطاب، ويلزم أن يمتثل أوامره، أحبت نفسه ذلك أو كرهت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية:
" أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك مالا فلورثته، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي، أنا وليه، اقرءوا إن شئتم: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم... } ".
* ت *: ولفظ البخاري من رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } ، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا، فليأتني فأنا مولاه ".
قال ابن العربي: في «أحكامه»: فهذا الحديث هو تفسير الولاية في هذه الآية. انتهى.
قال * ع *: وقال بعض العارفين: هو صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدوعهم إلى النجاة.
قال * ع *: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
" فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها تقحم الفراش ".
قال عياض في «الشفا»: قال أهل التفسير في قوله تعالى: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } أي: ما أنفذه فيهم من أمر؛ فهو ماض عليهم؛ كما يمضي حكم السيد على عبده، وقيل اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس. انتهى، وشرف تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين في المبرة وحرمة النكاح، وفي مصحف أبي بن كعب: «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» وقرأ ابن عباس «من أنفسهم، وهو أب لهم» ووافقه أبي على ذلك. ثم حكم تعالى: بأن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض في التوارث، مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوه الإسلام، و { في كتب الله } يحتمل أن يريد القرآن أو اللوح المحفوظ.
وقوله: { من المؤمنين } متعلق ب { أولى } الثانية.
وقوله تعالى: { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } يريد الأحسان في الحياة والصلة والوصية عند الموت و«الكتاب المسطور»: يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا.
[33.7-8]
وقوله سبحانه: { وإذ أخذنا من النبيين ميثقهم } المعنى واذكر إذ أخذنا من النبيين، وهذا الميثاق.
قال الزجاج وغيره: إنه الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم. كالذر، بالتبليغ وبجميع ما تضمنته النبوة. وروي نحوه عن أبي بن كعب.
وقالت فرقة: بل أشار إلى أخذ الميثاق عليهم وقت بعثهم وإلقاء الرسالة إليهم، وذكر تعالى النبيين جملة، ثم خصص أولي العزم منهم تشريفا لهم، واللام في قوله { ليسئل } يحتمل أن تكون لام كي، أو لام الصيرورة.
[33.9-12]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود... } الآيات إلى قوله تعالى:
يأيها النبي قل لأزوجك
[الأحزاب:28] نزلت في شأن غزوة الخندق، وما اتصل بها من أمر بني قريظة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى بني النضير من موضعهم عند المدينة إلى خيبر، فاجتمعت جماعة منهم، ومن غيرهم من اليهود، وخرجوا إلى مكة مستنهضين قريشا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجسروهم على ذلك، وأزمعت قريش السير إلى المدينة، ونهض اليهود إلى غطفان، وبني أسد، ومن أمكنهم من أهل نجد وتهامة، فاستنفروهم إلى ذلك وتحزبوا وساروا إلى المدينة، واتصل خبرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فحفر الخندق حول المدينة، وحصنها، فوردت الأحزاب، وحصروا المدينة ، وذلك في شوال سنة خمس، وقيل: أربع من الهجرة، وكانت قريظة قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاقدوه ألا يلحقه منهم ضرر، فلما تمكن ذلك الحصار، وداخلهم بنو النضير غدروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهده، وضاق الحال على المؤمنين، ونجم النفاق وساءت ظنون قوم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع ذلك يبشر ويعد النصر، فألقى الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين، وتخاذلوا ويئسوا من الظفر، وأرسل الله عليهم ريحا وهي الصبا، وملائكة تسدد الريح، وتفعل نحو فعلها، وتلقي الرعب في قلوب الكفرة، وهي الجنود التي لم تر، فارتحل الكفرة وانقلبوا خائبين.
قوله تعالى: { إذ جاءوكم من فوقكم } يريد: أهل نجد مع عيينة بن حصن { ومن أسفل منكم }: يريد أهل مكة وسائر تهامة قاله مجاهد: { وزاغت الأبصر } معناه مالت عن مواضعها وذلك فعل الواله الفزع المختبل. { وبلغت القلوب الحناجر } عبارة عما يجده الهلع من ثوران نفسه وتفرقها ويجد كأن حشوته وقلبه يصعد علوا، وروى أبو سعيد أن المؤمنين قالوا يوم الخندق: يا نبي الله، بلغت القلوب الحناجر؛ فهل من شيء نقوله؟ قال: نعم؛ قولوا:
" اللهم، استر عوراتنا، وآمن روعاتنا "
فقالوها؛ فضرب الله وجوه الكفار بالريح فهزمهم.
وقوله سبحانه: { وتظنون بالله الظنونا... } الآية: عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن البشر دفعها، وأما المنافقون فنطقوا، ونجم نفاقهم. و { ابتلي المؤمنون } معناه: اختبروا { وزلزلوا }: معناه: حركوا بعنف. ثم ذكر تعالى قول المنافقين والمرضى القلوب؛ على جهة الذم لهم { ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } فروي عن يزيد بن رومان أن معتب بن قشير قال: يعدنا محمد أن نفتتح كنوز كسرى وقيصر ومكة؛ ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط؛ ما يعدنا إلا غرورا، وقال غيره من المنافقين نحو هذا.
[33.13-21]
وقوله سبحانه: { وإذ قالت طائفة منهم } أي: من المنافقين { لا مقام لكم } أي: لا موضع قيام وممانعة، فارجعوا إلى منازلكم وبيوتكم، وكان هذا على جهة التخذيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفريق المتسأذن هو أوس بن قيظي؛ استأذن في ذلك على اتفاق من أصحابه المنافقين؛ فقال: { إن بيوتنا عورة } أي: منكشفة للعدو فأكذبهم الله - تعالى - ولو دخلت المدينة { من أقطارها } أي: من نواحيها، واشتد الخوف الحقيقي، ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لبادروا إليها وآتوها محبين فيها ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيرا.
قيل: قدر ما يأخذون سلاحهم. ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد كانوا عاهدوا الله إثر أحد لا يولون الأدبار وفي قوله تعالى: { وكان عهد الله مسؤولا } توعد وباقي الآية بين. ثم وبخهم بقوله: { قد يعلم الله المعوقين منكم } وهم الذين يعوقون الناس عن نصرة الرسول ويمنعونهم بالأقوال والأفعال من ذلك ويسعون على الدين، وأما القائلون لإخوانهم هلم إلينا فقال ابن زيد وغيره: أراد من كان من المنافقين يقول لإخوانه في النسب وقرابته هلم، أي: إلى المنازل والأكل والشرب، واترك القتال. وروي: أن جماعة فعلت ذلك وأصل { هلم }: ها المم. وهذا مثل تعليل «رد» من «اردد» والبأس: القتال: و { إلا قليلا } معناه إلا إتيانا قليلا، و { أشحة } جمع شحيح والصواب تعميم الشح أن يكون بكل ما فيه للمؤمنين منفعة.
وقوله: { فإذا جاء الخوف } قيل: معناه: فإذا قوي الخوف رأيت هؤلاء المنافقين ينظرون إليك نظر الهلع المختلط؛ الذي يغشى عليه، فإذا ذهب ذلك الخوف العظيم وتنفس المختنق: { سلقوكم } أي: خاطبوكم مخاطبة بليغة، يقال: خطيب سلاق ومسلاق ومسلق ولسان أيضا كذلك إذا كان فصيحا مقتدرا ووصف الألسنة بالحدة لقطعها المعاني ونفوذها في الأقوال، قالت فرقة: وهذا السلق هو في مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة.
وقوله: { أشحة } حال من الضمير في { سلقوكم }.
وقوله: { على الخير } يدل على عموم الشح في قوله أولا: { أشحة عليكم } وقيل: المراد بالخير: المال، أي: أشحة على مال الغنائم، والله أعلم. ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لم يؤمنوا، وجمهور المفسرين على أن هذه الإشارة إلى منافقين لم يكن لهم قط إيمان، ويكون قوله: { فأحبط الله أعملهم } أي: أنها لم تقبل قط ، والإشارة بذلك في قوله { وكان ذلك } إلى حبط أعمال هؤلاء المنافقين، والضمير في قوله: { يحسبون الأحزاب } للمنافقين، والمعنى: أنهم من الفزع والجزع بحيث رحل الأحزاب وهزمهم الله تعالى، وهؤلاء يظنون أنها من الخدع؛ وأنهم لم يذهبوا، { وإن يأت الأحزاب } ، أي: يرجعوا إليهم كرة ثانية { يودوا } من الخوف والجبن { لو أنهم بادون } أي: خارجون إلى البادية.
{ في الأعراب } وهم أهل العمود ليسلموا من القتال. { يسألون } أي من ورد عليهم. ثم سلى سبحانه عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا لما أغنوا ولما قاتلوا إلا قتالا قليلا؛ لا نفع له. ثم قال تعالى على جهة الموعظة : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } حين صبر وجاد بنفسه، و { أسوة } معناه قدوة، ورجاء الله تابع للمعرفة به, ورجاء اليوم الآخر؛ ثمرة العمل الصالح، وذكر الله كثيرا من خير الأعمال فنبه عليه.
* ت *: وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه "
رواه ابن ماجه، واللفظ له وابن حبان في «صحيحه» ورواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أبي الدرداء.
وروى جابر بن عبد الله؛ قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
" يأيها الناس، إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فارتعوا في رياض الجنة، قالوا: وأين رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: مجالس الذكر؛ فاغدوا وروحوا في ذكر الله؛ وذكروه أنفسكم من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله عنده؛ فإن الله ينزل العبد منه، حيث أنزله من نفسه "
رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح الإسناد.
" وعن معاذ بن جبل قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله» "
رواه ابن حبان في «صحيحه»، انتهى من «السلاح». ولولا خشية الإطالة، لأتيت في هذا الباب بأحاديث كثيرة، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال أخبرنا سفيان ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يكون الرجل من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات؛ حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا، انتهى. وفي «مصحف ابن مسعود» «يحسبون الأحزاب قد ذهبوا فإذا وجدوهم لم يذهبوا ودوا أنهم بادون في الأعراب».
[33.22-25]
وقوله تعالى: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب... } الآية. قالت فرقة: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق أعلمهم بأنهم سيحصرون، وأمرهم بالاستعداد لذلك، وأعلمهم بأنهم سينصرون بعد ذلك, فلما رأوا الأحزاب: { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } الآية، وقالت فرقة: أرادوا بوعد الله ما نزل في سورة البقرة من قوله تعالى:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم
[البقرة:214] إلى قوله
قريب
[البقرة:214].
قال * ع *: ويحتمل أنهم أرادوا جميع ذلك. ثم أثنى سبحانه على رجال عاهدوا الله على الاستقامة فوفوا، وقضوا نحبهم، أي: نذرهم، وعهدهم، «والنحب» في كلام العرب: النذر والشيء الذي يلتزمه الإنسان، وقد يسمى الموت نحبا، وبه فسر ابن عباس وغيره هذه الآية، ويقال للذي جاهد في أمر حتى مات: قضى فيه نحبه، ويقال لمن مات: قضى فلان نحبه؛ فمن سمى المفسرون أنه أشير إليه بهذه الآية أنس بن النضر عم أنس بن مالك، وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك، وقال لئن شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا ليرين الله ما أصنع. فلما كان أحد أبلى بلاء حسنا حتى قتل ووجد فيه نيف على ثمانين جرحا، فكانوا يرون أن هذه الآية في أنس بن النضر ونظرائه.
وقالت فرقة: الموصوفون بقضاء النحب؛ هم جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفوا بعهود الإسلام على التمام، فالشهداء منهم، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم، إلى من حصل في هذه المرتبة ممن لم ينص عليه، ويصحح هذه المقالة أيضا ما روي
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على المنبر، فقال له أعرابي: يا رسول الله، من الذي قضى نحبه؟ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم دخل طلحة بن عبيد الله على باب المسجد، وعليه ثوبان أخضران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين السائل؟ فقال: هأنذا، يا رسول الله، قال: هذا ممن قضى نحبه» ".
قال * ع *: فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شرطه الموت.
وقال معاوية بن أبي سفيان: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: طلحة ممن قضى نحبه، وروت عائشة نحوه.
وقوله تعالى: { ومنهم من ينتظر } يريد ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح، وهم بسبيل ذلك وما بدلوا ولا غيروا واللام في: { ليجزي } يحتمل أن تكون لام الصيرورة أو «لام كي»، وتعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم، والتوبة موازية لتلك الإدامة، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب، فهما درجتان: إدامة على نفاق أو توبة منه، وعنهما ثمرتان: تعذيب أو رحمة. ثم عدد سبحانه نعمه على المؤمنين في هزم الأحزاب؛ فقال: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم }.
[33.26-27]
وقوله تعالى: { وأنزل الذين ظهروهم } يريد: بني قريظة، وذلك أنهم لما غدروا وظاهروا الأحزاب، أراد الله النقمة منهم فلما ذهب الأحزاب؛ جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهر؛ فقال: يا محمد، إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وقال لهم:
" «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فخرج الناس إليهم، وحصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ؛ فحكم فيهم سعد بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية والعيال والأموال، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار، فقالت له الأنصار في ذلك، فقال: أردت أن يكون للمهاجرين أموال كما لكم أموال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة» "
فأمر صلى الله عليه وسلم برجالهم فضربت أعناقهم، وفيهم حيي بن أخطب النضيري، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر، و { ظهروهم }: معناه: عاونوهم، و«الصياصي »: الحصون، واحدها صيصية وهي كل ما يتمنع به ومنه يقال لقرون: البقر الصياصي، والفريق المقتول: الرجال والفريق المأسور: العيال والذرية.
وقوله سبحانه: { وأرضا لم تطؤوها } يريد بها: البلاد التي فتحت على المسلمين بعد كالعراق والشام واليمن وغيرها، فوعد الله تعالى بها عند فتح حصون بني قريظة، وأخبر أنه قد قضى بذلك قاله عكرمة.
[33.28-34]
وقوله تعالى: { يأيها النبي قل لأزوجك إن كنتن تردن الحيوة الدنيا وزينتها... } الآية، ذكر جل المفسرين أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا، وآذينه بزيادة النفقة والغيرة، فهجرهن وآلى ألا يقربهن شهرا، فنزلت هذه الآية، فبدأ بعائشة، وقال:
" يا عائشة، إني ذاكر لك أمرا ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم تلا عليها الآية، فقالت له: وفي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم قالت: وقد علم أن أبوي لا يأمراني بفراقه، ثم تتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على مثل قول عائشة فاخترن الله ورسوله رضي الله عنهن ".
قالت فرقة قوله: { بفحشة مبينة } يعم جميع المعاصي ولزمهن رضي الله عنهن بحسب مكانتهن، أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
وقوله: { ضعفين } معناه: يكون العذاب عذابين، أي: يضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر مثله و { يقنت }: معناه: يطيع ويخضع بالعبودية؛ قاله الشعبي وقتادة والرزق الكريم: الجنة. ثم خاطبهن الله سبحانه بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن؛ فما بعد، بل هن أفضل بشرط التقوى، وإنما خصصنا النساء لأن فيمن تقدم آسية ومريم فتأمله؛ وقد أشار إلى هذا قتادة. ثم نهاهن سبحانه عما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم القول؛ و { لا تخضعن } معناه: لا تلن.
قال ابن زيد: خضع القول ما يدخل في القلوب العزل؛ والمرض في هذه الآية قال قتادة: هو النفاق.
وقال عكرمة: الفسق، والغزل، والقول المعروف هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس. وقرأ الجمهور: «وقرن» بكسر القاف ، وقرأ نافع وعاصم: «وقرن» بالفتح ، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار، ويصح أن تكون من القرار، وأما قراءة الفتح فعلى لغة العرب قررت بكسر الراء ، أقر بفتح القاف في المكان، وهي لغة ذكرها أبو عبيد في «الغريب» المصنف وذكرها الزجاج وغيره، فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج؛ والتبرج إظهار الزينة والتصنع بها، ومنه الروج لظهورها وانكشافها للعيون، واختلف الناس في { الجهلية الأولى } فقال الشعبي: ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وقيل: غير هذا.
قال * ع *: والذي يظهر عندي؛ أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام، وليس المعنى. أن ثم جاهلية أخرة، و { الرجس } اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت، قالت أم سلمة نزلت هذه الآية في بيتي؛
" فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فدخل معهم تحت كساء خيبري، وقال «هؤلاء أهل بيتي، وقرأ الآية، وقال اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قالت أم سلمة: فقلت: وأنا يا رسول الله، فقال: أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنت إلى خير» "
والجمهور على هذا، وقال ابن عباس وغيره: أهل البيت: أزواجه خاصة، والجمهور على ما تقدم.
قال * ع *: والذي يظهر لي: أن أهل البيت أزواجه وبنته وبنوها وزوجها أعنى عليا، ولفظ الآية: يقتضي أن الزوجات من أهل البيت؛ لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن.
قال * ص *: و { أهل البيت }: منصوب على النداء أو على المدح أو على الاختصاص وهو قليل في المخاطب، وأكثر ما يكون في المتكلم، كقوله [الرجز]
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
انتهى.
واستصوب ابن هشام نصبه على النداء، قاله في «المغني»: وقوله تعالى: { واذكرن } يعطي أن أهل البيت نساؤه، وعلى قول الجمهور: هي ابتداء مخاطبة والحكمة السنة، فقوله: { واذكرن } يحتمل مقصدين: كلاهما موعظة أحدهما: أن يريد تذكرنه، واقدرنه قدره، وفكرن في أن من هذه حاله ينبغي أن تحسن أفعاله، والثاني: أن يريد: { اذكرن } بمعنى: احفظن واقرأن وألزمنه ألسنتكن.
* ت *: ويحتمل أن يراد ب { اذكرن } إفشاؤه ونشره للناس، والله أعلم. وهذا هو الذي فهمه ابن العربي من الآية، فإنه قال: أمر الله أزواج رسوله أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن وبما يرين من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، حتى يبلغ ذلك إلى الناس، فيعملوا بما فيه ويقتدوا به، انتهى. وهو حسن وهو ظاهر الآية وقد تقدم له نحو هذا في قوله تعالى:
وإن امرأة خفت من بعلها نشوزا أو إعراضا
[النساء:128] الآية.
ذكره في «أحكام القرآن».
[33.35]
وقوله تعالى: { إن المسلمين والمسلمت... } الآية: روي في سببها؛ أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، يذكر الله تعالى الرجال في كتابه في كل شيء، ولا يذكرنا، فنزلت الآية في ذلك، وألفاظ الآية في غاية البيان.
وقوله سبحانه: { والذكرين الله كثيرا والذكرت... } الآية. وفي الحديث: الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال:
" سبق المفردون قالوا: وما المفردون، يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات "
رواه مسلم، واللفظ له والترمذي، وعنده: قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال:
" المستهترون في ذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا ".
قال عياض: «والمفردون» ضبطناه على متقني شيوخنا بفتح الفاء وكسر الراء .
وقال ابن الأعرابي: فرد الرجل إذا تفقه واعتزل الناس، وخلا لمراعاة الأمر والنهي، وقال الأزهري: هم المتخلون من الناس بذكر الله تعالى، وقوله المستهترون في ذكر الله هو بفتح التاءين المثناتين يعني: الذين أولعوا بذكر الله، يقال: استهتر فلان بكذا، أي: أولع به، انتهى، من «سلاح المؤمن».
[33.36]
وقوله سبحانه: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة... } الآية: قوله: { وما كان } لفظه النفي، ومعناه الحظر والمنع والخيرة مصدر بمعنى التخير.
قال ابن زيد: نزلت هذه الآية بسبب أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهبت نفسها للنبي، فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد، وقيل غير هذا، والعصيان هنا يعم الكفر فما دون، وفي حديث الترمذي؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" من سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضاه الله له "
انتهى.
[33.37]
وقوله تعالى: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه... } الآية. ذهب جماعة من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فروي عن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحي إليه أن زيدا يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية:
" اتق الله - أي: في قولك - وأمسك عليك زوجك "
وهو يعلم أنه سيفارقها وهذا هو الذي أخفى صلى الله عليه وسلم في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها وخشي صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس، في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا، القدر من أن خشي الناس في شيء؛ قد أباحه الله تعالى له.
قال عياض: وتأويل علي بن الحسين أحسن التأويلات وأصحها، وهو قول ابن عطاء، وصححه واستحسنه، انتهى.
وقوله: { أنعم الله عليه } يعني بالإسلام وغير ذلك { وأنعمت عليه } يعني بالعتق، وهو زيد بن حارثة وزينب هي بنت جحش بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم أعلم تعالى نبيه أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها؛ لتكون سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم وليبينن أنها ليست كحرمة البنوة، والوطر: الحاجة والبغية.
وقوله تعالى: { وكان أمر الله مفعولا }: فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم أمر الله أو مضمن أمر الله وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل وعبارة الواحدي: { وكان أمر الله مفعولا } أي: كائنا لا محالة، وكان قد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
[33.38-39]
وقوله تعالى: { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له... } الآية: هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة؛ أعلمهم أنه لا حرج على نبيه في نيل ما فرض الله له وأباحه من تزويجه لزينب بعد زيد، ثم أعلم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء، من أن ينالوا ما أحله الله لهم، وعبارة الواحدي: { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } أي: أحل الله له من النساء. { سنة الله في الذين خلوا من قبل } ، يقول: هذه سنة قد مضت لغيرك؛ يعني كثرة أزواج داود وسليمان، عليهما السلام، { وكان أمر الله قدرا مقدورا } قضاء مقضيا. وقوله تعالى: { الذين يبلغون رسلت الله } من نعت قوله: { في الذين خلوا من قبل } ، انتهى.
[33.40-44]
وقوله تعالى: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } إلى قوله { كريما } أذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم؛ لأنهم استعظموا أن يتزوج زوجة ابنه، فنفى القرآن تلك البنوة، وقوله: { أبا أحد من رجالكم } يعني المعاصرين له وباقي الآية بين. ثم أمر سبحانه عباده بأن يذكروه ذكرا كثيرا، وجعل تعالى ذلك دون حد ولا تقدير؛ لسهولته على العبد، ولعظم الأجر فيه. قال ابن عباس: لم يعذر أحد في ترك ذكر الله عز وجل إلا من غلب على عقله، وقال: الذكر الكثير أن لا تنساه أبدا.
وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم
" أكثروا ذكر الله؛ حتى يقولوا: مجنون "
* ت *: وهذا الحديث خرجه ابن حبان في «صحيحه».
وقوله: { وسبحوه بكرة وأصيلا } أراد في كل الأوقات فحدد الزمن بطرفي نهاره وليله، والأصيل من العصر إلى الليل، وعن ابن أبي أوفى قال: قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله "
رواه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «السلاح».
وقوله سبحانه: { هو الذي يصلي عليكم وملئكته }: صلاة الله على العبد هي رحمته له، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين. ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيسا لهم.
وقوله تعالى: { تحيتهم يوم يلقونه سلم } قيل: يوم القيامة تحي الملائكة المؤمنين بالسلام، ومعناه: السلامة من كل مكروه، وقال قتادة: يوم دخولهم الجنة يحي بعضهم بعضا بالسلام، والأجر الكريم: جنة الخلد في جوار الله تبارك وتعالى.
[33.45-49]
وقوله تعالى: { يأيها النبي إنا أرسلنك شاهدا ومبشرا... } الآية، هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم.
وقوله: { وداعيا إلى الله بإذنه } أي: بأمره { وسراجا منيرا } استعارة للنور الذي تضمنه شرعه.
وقوله تعالى: { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا }.
قال * ع *: قال لنا أبي رحمه الله : هذه الآية من أرجى آية عندي في كتاب الله عز وجل .
قال أبو بكر الخطيب أخبرنا أبو نعيم الحافظ ثم ذكر سنده إلى ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم
" أنزلت علي آية { يأيها النبي إنا أرسلنك شاهدا ومبشرا ونذيرا } قال: شاهدا: على أمتك، ومبشرا: بالجنة، ونذيرا: من النار، وداعيا: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، بإذنه: بأمره، وسراجا منيرا: بالقرآن "
انتهى، من «تاريخ بغداد» له، من ترجمة «محمد بن نصر».
وقوله تعالى: { ودع أذاهم } يحتمل أن يريد أن يأمره تعالى بترك أن يؤذيهم هو ويعاقبهم، فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، ويحتمل أن يريد: أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل؛ وهذا تأويل مجاهد، وباقي الآية بين.
[33.50]
وقوله تعالى: { يأيها النبي إنا أحللنا لك أزوجك... } الآية، ذهب ابن زيد والضحاك في تفسير هذه الآية إلى: أن الله تعالى أحل لنبيه أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها، وأباح له كل النساء بهذا الوجه، وإنما خصص هؤلاء بالذكر تشريفا لهن فالآية على هذا التأويل فيها إباحة مطلقة في جميع النساء، حاشى ذوات المحارم المذكور حكمهن: في غير هذه الآية. ثم قال بعد هذا { ترجي من تشآء منهن } أي: من هذه الأصناف كلها، ثم تجرى الضمائر بعد ذلك على العموم إلى قوله تعالى:
ولا أن تبدل بهن
[الأحزاب:52] فيجيء هذا الضمير مقطوعا من الأول عائدا على أزواجه التسع فقط؛ على الخلاف في ذلك وتأويل غير ابن زيد في قوله: { أحللنا لك أزوجك } من في عصمته ممن تزوجها بمهر؛ وأن ملك اليمين بعد حلال؛ وأن الله أباح له مع المذكورات بنات عمه وعماته، وخاله، وخالاته، ممن هاجر معه، والواهبات خاصة، فيجيء الأمر على هذا التأويل أضيق على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي النساء شاء، وكان ذلك يشق على نسائه، فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء؛ إلا من سمي سر نساؤه بذلك.
وقوله سبحانه: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي... } الآية، قال السهيلي: ذكر البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن؛ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أنهن كن غير واحدة، انتهى: وقوله: { خالصة لك } أي: هبة النساء أنفسهن خاصة بك دون أمتك.
قال: * ع *: ويظهر من لفظ أبي بن كعب أن معنى قوله: «خالصة لك» يراد به جميع هذه الإباحة؛ لأن المؤمنين لم يبح لهم الزيادة على أربع. وقوله تعالى: { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزوجهم } يريد هو كون النكاح بالولي والشاهدين، والمهر، والاقتصار على أربع؛ قاله قتادة ومجاهد.
وقوله: { لكي لا } أي: بينا هذا البيان. { لكي لا يكون عليك حرج } ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك.
[33.51]
وقوله تعالى: { ترج من تشاء منهن... } الآية، ترجي معناه: تؤخر و { تؤوي } معناه: تضم وتقرب، ومعنى هذه الآية: أن الله تعالى فسح لنبيه فيما يفعله في جهة النساء، والضمير في { منهن } عائد على من تقدم ذكره من الأصناف؛ حسب الخلاف المذكور في ذلك، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني؛ منها؛ أن المعنى في القسم، أي: تقرب من شئت في القسمة لها من نفسك وتؤخر عنك من شئت وتكثر لمن شئت وتقل لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن هن أن هذا هو حكم الله لك؛ رضين وقرت أعينهن؛ وهذا تأويل مجاهد وقتادة والضحاك.
قال * ع *: لأن سبب هذه الآية تغابر وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تأذى به.
وقال ابن عباس: المعنى في طلاق من شاء وإمساك من شاء.
وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى في تزوج من شاء؛ وترك من شاء.
قال * ع *: وعلى كل معنى فالآية معناها: التوسعة على النبي صلى الله عليه وسلم والإباحة له وذهب هبة الله في «الناسخ والمنسوخ» له إلى أن قوله { ترجي من تشاء... } الآية، ناسخ لقوله:
لا يحل لك النساء من بعد
[الأحزاب:52] الآية.
وقوله تعالى: { ومن ابتغيت ممن عزلت } يحتمل معاني: أحدها؛ أن تكون «من» للتبعيض، أي: من أردت؛ وطلبته نفسك ممن كنت قد عزلته وأخرته؛ فلا جناح عليك في رده إلى نفسك وإيوائه إليك، ووجه ثان؛ وهو أن يكون مقويا ومؤكدا لقوله: { ترجي من تشاء } و { تؤوي من تشاء } فيقول بعد ومن ابتغيت ومن عزلت فذلك سواء؛ لا جناح عليك في رده إلى نفسك وإيوائه إليك.
وقوله: { ويرضين بما ءاتيتهن } أي من نفسك، ومالك، واتفقت الروايات على أنه عليه السلام مع ما جعل الله له من ذلك كان يسوي بينهن في القسم تطييبا لنفوسهن؛ وأخذا بالفضل، وما خصه الله من الخلق العظيم صلى الله عليه وعلى آله غير أن سودة وهبت يومها العائشة تقمنا لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[33.52-55]
وقوله تعالى: { لا يحل لك النساء من بعد } قيل كما قدمنا: إنها حظرت عليه النساء إلا التسع وما عطف عليهن؛ على ما تقدم لابن عباس وغيره، قال ابن عباس وقتادة؛ جازاهن الله بذلك، لما اخترن الله ورسوله، ومن قال: بأن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا: { لا يحل لك النساء } معناه: لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات، ولا ينبغي أن يكن أمهات المؤمنين ؛ وروي هذا عن مجاهد وكذلك قدر ولا أن تبدل اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات؛ وهو قول أبي رزين وابن جبير وفيه بعد.
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير نظرين إنه } هذه الآية تضمنت قصتين: إحداهما: الأدب في أمر الطعام والجلوس، والثانية: أمر الحجاب.
قال الجمهور: سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش، أو لم عليها؛ ودعا الناس، فلما طعموا، قعد نفر في طائفة من البيت يتحدثون، فثقل على النبي صلى الله عليه وسلم مكانهم، فخرج؛ ليخرجوا بخروجه، ومر على حجر نسائه، ثم عاد فوجدهم في مكانهم، وزينب في البيت معهم، فلما دخل ورآهم، انصرف، فخرجوا عند ذلك، قال أنس بن مالك: فأعلم أو أعلمته بانصرافهم، فجاء، فلما وصل الحجرة، أرخى الستر بيني وبينه؛ ودخل، ونزلت آية الحجاب بسبب ذلك.
قال إسماعيل بن أبي حكيم: هذا أدب الله به الثقلاء، وقالت عائشة وجماعة: سبب الحجاب: كلام عمر للنبي صلى الله عليه وسلم مرارا في أن يحجب نساءه، و { نظرين } معناه: منتظرين، و { إنه }: مصدر «أنى» الشيء يأني أني، إذا فرغ وحان، ولفظ البخاري يقال: إناه: إدراكه أنى يأنى إناءة، انتهى.
وقوله تعالى: { والله لا يستحي من الحق } معناه: لا يقع منه ترك الحق، ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء؛ نفى عنه تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر، وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن؛ لا يؤم رجل قوما؛ فيخص نفسه بالدعاء دونهم؛ فإن فعل، فقد خانهم، ولا ينظر في قعر بيت؛ قبل أن يستأذن؛ فإن فعل، فقد خان، ولا يصلي وهو حاقن حتى يتخفف "
رواه أبو داود واللفظ له، وابن ماجه، والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن، ورواه أبو داود أيضا من حديث أبي هريرة، انتهى من «السلاح».
وقوله تعالى: { وإذا سألتموهن متعا... } الآية، هي آية الحجاب، والمتاع عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق، وباقي الآية بين. وقد تقدم في سورة النور طرف من بيانه فأغنى عن إعادته.
[33.56-59]
وقوله تعالى: { إن الله وملئكته يصلون على النبي... } الآية، تضمنت شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند الله تعالى.
قالت فرقة: تقدير الآية: أن الله يصلي وملائكته يصلون, فالضمير في قوله { يصلون }: للملائكة فقط. وقالت فرقة: بل الضمير في { يصلون } لله والملائكة؛ وهذا قول من الله تعالى، شرف به ملائكته؛ فلا يرد عليه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب: من يطع الله ورسوله، فقد رشد، ومن يعصيهما، فقد ضل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" بئس الخطيب أنت "
وهذا القدر كاف هنا، وصلاة الله تعالى: رحمة منه وبركة، وصلاة الملائكة: دعاء، وصلاة المؤمنين: دعاء، وتعظيم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل حين؛ من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها؛ ولا يغفلها إلا من لا خير فيه، وفي حديث ابن عباس: أنه لما نزلت هذه الآية؛ قال قوم من الصحابة: «هذا السلام عليك يا رسول الله؛ قد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟» الحديث.
* ت *: ولفظ البخاري:
" عن كعب بن عجرة قال: قيل: يا رسول الله؛ أما السلام عليك، فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم؛ إنك حميد مجيد» "
انتهى؛ وفيه طرق يزيد فيها بعض الرواة على بعض، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
" إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي "
الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، واللفظ لأبي داود، ورواه الحاكم في «المستدرك» من حديث أبي مسعود الأنصاري، وقال: صحيح الإسناد، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي؛ حتى أرد عليه السلام "
وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" صلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم "
رواهما أبو داود، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة "
رواه الترمذي، وابن حبان. في «صحيحيه»، ولفظهما سواء، وقال الترمذي حسن غريب. انتهى من «السلاح».
وقوله سبحانه: { يدنين عليهن من جلبيبهن } الجلباب: ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود: أنه الخمار، واختلف في صورة إدنائه: فقال ابن عباس وغيره: ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقال ابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها؛ لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.
وقوله: { ذلك أدنى أن يعرفن }: حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عرفن لم يقابلن بأذى. من المعارضة؛ مراقبة لرتبة الحرائر، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي؛ وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت قنعها بالدرة محافظة على زي الحرائر.
[33.60-71]
وقوله تعالى: { لئن لم ينته المنفقون... } الآية. اللام في قوله: { لئن } هي المؤذنة بمجيء القسم، واللام في { لنغرينك }: هي لام القسم.
قلت: وروى الترمذي عن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع، فقال:
" يا معشر من قد أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم؛ يتبع الله عورته؛ ومن يتبع الله عورته يفضحه، ولو في جوف رحله... "
الحديث. انتهى. ورواه أبو داود في «سننه» من طريق أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد الله سبحانه هذه الأصناف في هذه الآية.
وقوله سبحانه { والذين في قلوبهم مرض } المرض، هنا: هو الغزل وحب الزنا؛ قاله عكرمة. { والمرجفون في المدينة }: هم قوم كانوا يتحدثون بغزو العرب المدينة؛ ونحو هذا مما يرجفون به نفوس المؤمنين، فيحتمل أن تكون هذه الفرق داخلة في جملة المنافقين، ويحتمل أن تكون متباينة و { نغرينك } معناه : نحضك عليهم بعد تعيينهم لك. في البخاري: وقال ابن عباس: { لنغرينك }: لنسلطنك. انتهى.
وقوله تعالى: { ثم لا يجاورونك } أي: بعد الإغراء لأنك تنفيهم بالإخافة والقتل.
وقوله: { إلا قليلا } يحتمل: أن يريد إلا جوارا قليلا، أو وقتا قليلا، أو عددا قليلا، كأنه قال: إلا أقلاء، و { ثقفوا }: معناه: حصروا وقدر عليهم و { أخذوا }: معناه: أسروا والأخيذ الأسير: { والذين خلوا } هم منافقوا الأمم، وباقي الآية متضح المعنى. و { السبيلا }: مفعول ثان ؛ لأن { أضل } متعد بالهمزة، وهي سبيل الإيمان والهدى، { والذين ءاذوا موسى }: هم قوم من بني إسرائيل. قال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة: الإشارة إلى ما تضمنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم
" من أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة، وكان موسى عليه السلام رجلا ستيرا حييا، لا يكاد يرى من جسده شيء؛ فقالوا: والله، ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر أو به برص، فذهب يغتسل؛ فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فلج موسى في إثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، فمر بهم فنظروا إليه؛ فقالوا: والله، ما بموسى من بأس "
الحديث خرجه البخاري وغيره، وقيل في إذايتهم غير هذا. { فبرأه الله مما قالوا } والوجيه: المكرم الوجه، والقول السديد: يعم جميع الخيرات وقال عكرمة: أراد «لا إله إلا الله» وباقي الآية بين.
[33.72-73]
وقوله سبحانه: { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض... } الآية، ذهب الجمهور: إلى أن الأمانة كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر؛ ونهي وشأن دين ودنيا؛ فالشرع كله أمانة؛ ومعنى الآية: إنا عرضنا على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي ولها الثواب إن أحسنت، والعقاب إن أساءت فأبت هذه المخلوقات وأشفقت، فيحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة، وحمل الإنسان الأمانة، أي: التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه؛ وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير. قال ابن عباس وأصحابه: و { الإنسن } آدم تحمل الأمانة؛ فما تم له يوم حتى وقع في أمر الشجرة. وقال بعضهم: { الإنسن }: النوع كله؛ فعلى تأويل الجمهور يكون قولهما في الآية الأخرى { أتينا طائعين } إجابة لأمر أمرت به وتكون هذه الآية إباية وإشفاقا من أمر عرض عليها وخيرت فيه.
وقوله تعالى: { ليعذب }: اللام لام العاقبة، وكذا قال أبو حيان: اللام في { ليعذب }: للصيرورة؛ لأنه لم يحمل الأمانة ليعذب، ولكن آل أمره إلى ذلك.
* ص *: أبو البقاء: اللام تتعلق ب: { حملها } وقرأ الأعمش: «ويتوب» بالرفع على الاستئناف، والله أعلم. انتهى. وباقي الآية بين.
[34 - سورة سبإ]
[34.1-2]
قوله تعالى: { الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض } الألف واللام في { الحمد }: لاستغراق جنس المحامد، أي: الحمد على تنوعه هو لله تعالى من جميع جهات الفكرة، { ويلج } معناه: يدخل، و { يعرج } معناه: يصعد.
[34.3-11]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } روي: أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب، واللام من قوله: { ليجزي } يصح أن تكون متعلقة بقوله: { لتأتينكم } و { الذين } معطوف على { الذين } الأولى، أي: وليجزي الذين سعوا و { معجزين } معناه: محاولين تعجيز قدرة الله فيهم، ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا العلم يرون الوحي المنزل على محمد عليه السلام حقا، والذين أوتوا العلم قيل: هم من أسلم من أهل الكتاب، وقال قتادة: هم أمة محمد المؤمنون به، ثم حكى الله تعالى عن الكفار مقالتهم التي قالوها على جهة التعجب والهزء واستبعاد البعث، هل ندلكم على رجل؛ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم { ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق } بالبلى وتقطع الأوصال في القبور وغيرها و { جديد } بمعنى مجدد، وقولهم: { أفترى على الله كذبا } هو أيضا من قول بعضهم لبعض، ثم أضرب عن قولهم؛ فقال: { بل الذين لا يؤمنون بالأخرة في العذاب }: يريد عذاب الآخرة؛ لأنهم صائرون إليه، ويحتمل أن يريد عذاب الدنيا أيضا، والضمير في قوله: { أفلم يروا } لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وقفهم الله على قدرته، وخوفهم من إحاطتها بهم، والمعنى: أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي، وباقي الآية بين، ثم ذكر الله تعالى نعمته على داود وسليمان احتجاجا على ما منح محمدا، و { أوبي } معناه: رجعي معه، قال ابن عباس وغيره: معناه: يا جبال سبحي معه، أي: يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي: تردده بالذكر.
وقال مؤرج: { أوبي } سبحي بلغة الحبشة، وقرأ عاصم: «والطير» بالرفع عطفا على لفظ قوله: «يا جبال» وقرأ نافع وابن كثير: «والطير» بالنصب.
قال سيبويه: عطف على موضع قوله: «يا جبال» لأن موضع المنادى المفرد نصب، وقيل: نصبها بإضمار فعل تقديره وسخرنا الطير، { وألنا له الحديد } معناه: جعلناه لينا، وروى قتادة وغيره: أن الحديد كان له كالشمع؛ لا يحتاج في عمله إلى نار، و«السابغات»: الدروع الكاسيات ذوات الفضول.
وقوله تعالى: { وقدر في السرد } قال ابن زيد: الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي: لا تعملها صغيرة فتضعف؛ فلا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة، فينال لابسها من خلالها.
وقال ابن عباس: التقدير: الذي أمر به هو في المسمار، وذكر البخاري في «صحيحه» ذلك؛ فقال: المعنى: لا تدق المسمار فيتسلل ولا تغلظه فينقصم بالقاف وبالفاء أيضا رواية.
* ت *: قال الهروي: قوله تعالى: { وقدر في السرد } «السرد» متابعة حلق الدرع شيئا بعد شيء حتى يتناسق، يقال: فلان يسرد الحديث سردا، أي: يتابعه. انتهى.
[34.12-13]
وقوله تعالى: { ولسليمن الريح } المعنى: ولسليمان سخرنا الريح، و { غدوها شهر ورواحها شهر }.
قال قتادة: معناه: إنها كانت تقطع به في الغدو إلى قرب الزوال؛ مسيرة شهر، وتقطع في الرواح من بعد الزوال إلى الغروب، مسيرة شهر وكان سليمان إذا أراد قوما لم يشعروا حتى يظلهم في جو السماء. وقوله تعالى: { وأسلنا له عين القطر }:
قال ابن عباس، وغيره: كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس؛ يصنع له منها جميع ما أحب، و { القطر }: النحاس، و { يزغ }: معناه: يمل، أي: ينحرف عاصيا، وقال: { عن أمرنا } ولم يقل: «عن أرادتنا» لأنه لا يقع في العالم شيء يخالف إرادته سبحانه تعالى ويقع ما يخالف الأمر، وقوله: { من عذاب السعير } قيل: عذاب الآخرة.
وقيل : بل كان قد وكل بهن ملك بيده سوط من نار السعير؛ فمن عصى ضربه فأحرقه، و«المحاريب»: الأبنية العالية الشريفة، قال قتادة: القصور والمساجد والتماثيل، قيل: كانت من زجاج ونحاس تماثيل أشياء ليست بحيوان، «والجوابي»: جمع جابية وهي البركة التي يجبى إليها الماء و { راسيت } معناه: ثابتات لكبرها، ليست مما ينقل أو يحمل ولا يستطيع على عمله إلا الجن، ثم أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا بالطاعات، و { شكرا } يحتمل نصبه على الحال، أو على جهة المفعول، أي: اعملوا عملا هو الشكر كأن العبادات كلها هي نفس الشكر، وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية، ثم قال:
" ثلاث من أوتيهن فقد أوتي العمل شكرا: العدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية "
، وهكذا نقل ابن العربي هذا الحديث في «أحكامه» وعبارة الداوودي: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر: { اعملوا آل داود شكرا } ، وقال:
" ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود: العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وذكر الله تعالى في السر والعلانية "
قال القرطبي الشكر تقوى الله والعمل بطاعته انتهى.
قال ثابت: روي أن داود كان قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله؛ فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار؛ إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي؛ يتناوبون دائما، وكان سليمان عليه السلام فيما روي يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار، ويطعم المساكين الدرمك، وروي أنه ما شبع قط، فقيل له في ذلك؛ فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع.
وقوله تعالى: { وقليل من عبادي الشكور } يحتمل: أن تكون مخاطبة لآل داود، ويحتمل: أن تكون مخاطبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى كل وجه؛ ففيها تحريض وتنبيه، قال ابن عطاء الله في «الحكم»: من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
وقال صاحب «الكلم الفارقية»: لا تغفل عن شكر الصنائع؛ وسرعة استرجاع الودائع، وقال أيضا : يا ميتا نشر من قبر العدم، بحكم الجود والكرم، لا تنس سوالف العهود والذمم، اذكر عهد الإيجاد، وذمة الإحسان والإرفاد، وحال الإصدار والإيراد، وفاتحة المبدإ وخاتمة المعاد، وقال: رحمه الله : يا دائم الغفلة عن عظمة ربه، أين النظر في عجائب صنعه، والتفكر في غرائب حكمته، أين شكر ما أفاض عليك من ملابس إحسانه ونعمه، يا ذا الفطنة، اغتنم نعمة المهلة، وفرصة المكنة، وخلسة السلامة، قبل حلول الحسرة والندامة. انتهى.
[34.14]
وقوله تعالى: { فلما قضينا عليه الموت... } الآية. روي عن ابن عباس وابن مسعود في قصص هذه الآية كلام طويل، حاصله: أن سليمان عليه السلام لما أحس بقرب أجله؛ اجتهد عليه السلام وجد في العبادة؛ وجاءه ملك الموت، وأخبره أنه أمر بقبض روحه، وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة.
قال الثعلبي: وقال سليمان عند ذلك: اللهم، عم على الجن موتي؛ حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب, وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد، ولما أعلمه ملك الموت بقرب الأجل؛ أمر حينئذ الجن، فصنعت له قبة من زجاج تشف؛ ودخل فيها يتعبد؛ ولم يجعل لها بابا، وتوكأ على عصاه على وضع يتماسك معه. وإن مات، ثم توفي عليه السلام على تلك الحالة، فلما مضى لموته سنة، خر عن عصاه، والعصا قد أكلتها الأرضة؛ وهي الدودة التي تأكل العود؛ فرأت الجن انخراره فتوهمت موته؛ «والمنسأة»: العصا، وقرأ الجمهور: { تبينت الجن } بإسناد الفعل إليها، أي: بان أمرها، كأنه قال: افتضحت الجن، أي: للإنس، هذا تأويل، ويحتمل أن يكون قوله: { تبينت الجن } بمعنى: علمت الجن وتحققت، ويريد بالجن: جمهورهم؛ والخدمة منهم، ويريد بالضمير في { كانوا }: رؤساءهم وكبارهم لأنهم هم الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم من الجن والإنس.
وقرأ يعقوب: «تبينت الجن» على بناء الفعل للمفعول، أي: تبينها الناس، و { العذاب المهين }: ما هم فيه من الخدمة والتسخير وغير ذلك، والمعنى: أن الجن لو كانت تعلم الغيب لما خفي عليها موت سليمان؛ وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة، وهو ميت ف { المهين } المذل، من الهوان، وحكى الثعلبي: أن الشياطين قالت للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام والشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين؛ فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت شكرا لها انتهى.
[34.15-17]
وقوله تعالى: { لقد كان لسبإ في مسكنهم ءاية... } الآية، هذا مثل لقريش بقوم أنعم الله عليهم فلم يشكروا؛ فانتقم منهم، أي: فأنتم أيها القوم مثلهم، و«سبأ» هنا يراد به القبيل، واختلف: لم سمي القبيل بذلك فقالت فرقة: هو اسم امرأة.
وقيل: اسم موضع سمي به القبيل، وقال الجمهور: هو اسم رجل، هو أبو القبيل، كله، وفيه حديث فروة بن مسيك المتقدم في «سورة النمل»؛ خرجه الترمذي، و { ءاية }: معناه: عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته، و { جنتان }: مبتدأ وخبره: { عن يمين وشمال } ، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره: هي جنتان، وقيل: { جنتان } بدل من { ءاية } وضعف، وروي في قصصهم أنه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين، وكانت جنبتا الوادي فواكه وزروعا، وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين؛ جسر عظيم من حجارة من الجبل إلى الجبل، فاحتبس الماء فيه، وصار بحيرة عظيمة، وأخذ الماء من جنبتيها فمشى مرتفعا يسقى جنات كثيرة جنبتي الوادي، قيل: بنته بلقيس، وقيل بناه حمير أبو القبائل اليمانية كلها، وكانوا بهذه الحال في أرغد عيش، وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة متصلة من اليمن إلى الشام، وكانو أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان.
* ت *: وقول * ع *: «وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين» صوابه: وكان قد بني في أسفل الوادي عند آخر الجبلين، و { كلوا }: فيه حذف معناه: قيل لهم: كلوا، و { طيبة } معناه: كريمة التربة حسنة الهواء، وروي أن هذه المقالة؛ من الأمر بالأكل والشكر والتوقيف على طيب البلدة وغفران الرب مع الإيمان به؛ هي من قول الأنبياء لهم، وبعث إليهم فيما روي ثلاثة عشر نبيا فكفروا بهم وأعرضوا؛ فبعث الله على ذلك السد جرذا أعمى؛ توالد فيه؛ وخرقه شيئا بعد شيء؛ فانخرق السد وفاض الماء على أموالهم وجناتهم فغرقها؛ وأهلك كثيرا من الناس ممن لم يمكنه الفرار، واختلف في { العرم }. فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة: هو كل ما بني أو سنم ليمسك الماء، وقال ابن عباس وغيره: { العرم }: اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني له، وقال ابن عباس أيضا { العرم } الشديد.
قال * ع *: فكأنه صفة للسيل من العرامة، والإضافة إلى الصفة مبالغة؛ وهي كثيرة في كلام العرب، وقيل: { العرم }: صفة للمطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل.
وقوله تعالى: { وبدلنهم بجنتيهم جنتين } فيه تجوز واستعارة، وذلك أن البدل - من الخمط والأثل - لم يكن جنات؛ لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوبا جيدا وضرب ظهره: هذا الضرب ثوب صالح لك؛ ونحو هذا، و«الخمط»: شجر الأراك، قاله ابن عباس وغيره، وقيل: «الخمط»: كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حموضة أو نحوه، ومنه تخمط اللبن إذا تغير طعمه و«الأثل»: ضرب من الطرفاء، هذا هو الصحيح، و«السدر»: معروف وهو له نبق شبه العناب لكنه دونه في الطعم بكثير، وللخمط ثمر غث هو البرير، وللأثل ثمر قليل الغناء غير حسن الطعم، وقرأ نافع وابن كثير: «أكل»: بضم الهمزة وسكون الكاف ، والباقون: بضمهما وهما بمعنى الجنى والثمرة، ومنه:
تؤتي أكلها كل حين
[سورة إبراهيم:25].
أي: جناها، وقرأ أبو عمرو: «أكل خمط» بإضافة «أكل» إلى «خمط».
وقوله تعالى: { ذلك } إشارة إلى ما أجراه عليهم.
وقوله: «وهل يجازى»، أي: يناقش ويقارض بمثل فعله قدرا بقدر، لأن جزاء المؤمن إنما هو بتفضل وتضعيف ثواب، وأما الذي لا يزاد ولا ينقض فهو الكافر، وقرأ حمزة والكسائي: «وهل نجازي» بالنون وكسر الزاي «الكفور» بالنصب .
[34.18-19]
وقوله تعالى: { وجعلنا بينهم وبين القرى... } الآية، هذه الآية وما بعدها وصف حالهم قبل مجيء السيل، وهي أن الله تعالى مع ما كان منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم؛ كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة؛ وعمرها وجعلهم أربابها؛ وقدر السير بأن قرب القرى بعضها من بعض ؛ حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في قرية فلا يحتاج إلى حمل زاد، و { القرى }: المدن، والقرى التي بورك فيها: هي بلاد الشام بإجماع المفسرين، والقرى الظاهرة: هي التي بين الشام ومأرب وهي اسم بلدهم.
قال ابن عباس وغيره: هي قرى عربية بين المدينة والشام واختلف في معنى { ظهرة } فقالت فرقة: معناه: مستعلية مرتفعة في الآكام وهي أشرف القرى، وقالت فرقة: معناه: يظهر بعضها من بعض؛ فهي أبدا في قبضة عين المسافر؛ لا يخلو عن رؤية شيء منها.
قال * ع *: والذي يظهر لي أن معنى { ظهرة } خارجة عن المدن فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن؛ والله أعلم، و { ءامنين } ، أي: من الخوف والجوع والعطش وآفات السفر، ثم حكى سبحانه عنهم مقالة قالوها على جهة البطر والأشر؛ وهي طلب البعد بين الأسفار كأنهم ملوا النعمة في القرب وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وظلموا أنفسهم ففرق الله شملهم وخرب بلادهم وجعلهم أحاديث؛ ومنه المثل السائر «تفرقوا أيادي سبا وأيدي سبا» يقال المثل بالوجهين؛ وهذا هو تمزيقهم كل ممزق؛ فتيامن منهم ستة قبائل، وتشاءمت منهم أربعة حسبما في الحديث، ثم أخبر تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته على جهة التنبيه؛ بأن هذا القصص فيه آيات وعبر مؤمن متصف بالصبر والشكر.
[34.20-24]
وقوله تعالى: { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه... } الآية، قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر: «ولقد صدق» بتخفيف الدال، وقرأ حمزة والكسائي: «صدق» بتشديدها؛ فالظن على هذه القراءة مفعول «بصدق» ومعنى الآية: أن إبليس ظن فيهم ظنا حيث قال:
ولا تجد أكثرهم شكرين
[الأعراف:17].
وغير ذلك فصدق ظنه فيهم؛ وأخبر تعالى أنهم اتبعوه وهو اتباع في كفر لأنه في قصة قوم كفار.
وقوله: { ممن هو منها في شك } يدل على ذلك و «من» في قوله: { من المؤمنين } لبيان الجنس لا للتبعيض.
وقوله: { وما كان له عليهم من سلطن }. أي: من حجة، قال الحسن: والله ما كان له سيف ولا سوط ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه.
وقوله تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } يريد: الأصنام والملائكة؛ وذلك أن منهم من كان يعبد الملائكة؛ وهذه آية تعجيز وإقامة حجة؛ ويروى أن الآية نزلت عند الجوع الذي أصابت قريشا، ثم جاء بصفة هؤلاء الذين يدعونهم آلهة أنهم لا يملكون ملك اختراع مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ وأنهم لا شرك لهم فيهما، وهذان نوعا الملك: إما استبداد وإما مشاركة؛ فنفى جميع ذلك ونفى أن يكون منهم لله تعالى معين في شيء، و «الظهير»: المعين، ثم قرر في الآية بعد أن الذين يظنون أنهم يشعفون لهم عند الله؛ لا تصح منهم شفاعة لهم إذ هؤلاء كفرة ولا يأذن الله في الشفاعة في كافر، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو و«أذن» بضم الهمزة .
وقوله تعالى: { حتى إذا فزع عن قلوبهم... } الآية، الضمير في { قلوبهم } عائد على الملائكة الذين دعوهم آلهة.
قال * ع *: وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أعني قوله: { حتى إذا فزع عن قلوبهم... } إنما هي في الملائكة؛ إذا سمعت الوحي إلى جبريل، أو الأمر يأمر الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة لله تبارك وتعالى وقيل: خوفا أن تقوم الساعة؛ فإذا فرغ ذلك، فزع عن قلوبهم، أي: أطير الفزع عنها وكشف، فيقول بعضهم لبعض ولجبريل: ماذا قال ربكم؟ فيقول المسؤولون: قال الحق، وهو العلي الكبير.
* ت *: ولفظ الحديث من طريق أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا قضى الله أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله: كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق، وهو العلي الكبير "
انتهى.
وقرأ الجمهور «فزع» بضم الفاء ومعناه أطير الفزع عنهم وقولهم: { وهو العلي الكبير } تمجيد وتحميد، ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جهة الاحتجاج وإقامة الدليل على الرازق لهم من السموات والأرض من هو، ثم أمره أن يقتضب الاحتجاج بأن يأتي بجواب السؤال؛ إذ هم في بهتة ووجمة من السؤال؛ وإذ لا جواب لهم إلا أن يقولوا: هو الله، وهذه السبيل في كل سؤال جوابه في غاية الوضوح؛ لأن المحتج يريد أن يقتضب ويتجاوز إلى حجة أخرى بوردها، ونظائرها في القرآن كثير.
وقوله تعالى: { وإنا أو إياكم } تلطف في الدعوة والمحاورة والمعنى: كما تقول لمن خالفك في مسألة أحدنا مخطىء تثبت وتنبه؛ والمفهوم من كلامك أن مخالفك هو المخطىء فكذلك هذا، معناه: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين؛ وإنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين؛ فتنبهوا، والمقصد أن الضلال في حيزهم؛ وحذف أحد الخبرين لدلالة الباقي عليه.
[34.25-30]
وقوله: { قل لا تسئلون } الآية مهادنة ومتاركة منسوخة.
وقوله تعالى: { قل يجمع بيننا ربنا } إخبار بالبعث و { يفتح } معناه: يحكم: والفتاح: القاضي، وهو مشهور في لغة اليمن و { أروني }: هي رؤية قلب، وهذا هو الصحيح، أي: أروني بالحجة والدليل.
وقوله { كلا } رد لما تقرر من مذهبهم في الإشراك.
وقوله تعالى: { وما أرسلنك إلا كافة للناس } الآية: إعلام من الله تعالى بأنه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع العالم وهي إحدى خصائصه التي خص بها من بين سائر الأنبياء وباقي الآية بين.
قال أبو عبيدة: الوعد والوعيد والميعاد: بمعنى؛ وخولف في هذا، والذي عليه الناس أن الوعد إذا أطلق ففي الخير؛ والوعيد في المكروه؛ والميعاد يقع لهذا ولهذا.
[34.31-33]
وقوله تعالى: { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرءان ولا بالذي بين يديه } هذه المقالة قالها بعض قريش وهي أنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بالذي بين يديه من التوراة والإنجيل والزبور، فكأنهم كذبوا بجميع كتب الله عز وجل وإنما فعلوا هذا لما وقع الاحتجاج عليهم بما في التوراة من أمر محمد عليه السلام .
قال الواحدي: قوله تعالى: { يرجع بعضهم إلى بعض القول } ، أي: في التلاؤم، انتهى. وباقي الآية بين. وقولهم: { بل مكر الليل والنهار } ، المعنى: بل كفرنا بمكركم بنا في الليل والنهار؛ وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما، ولتدل هذه الإضافة على الدءوب والدوام، والضمير في { أسروا } عام لجميعهم من المستضعفين والمستكبرين.
[34.34-37]
وقوله تعالى: { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كفرون } هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن فعل قريش وقولها، أي: هذه يا محمد سيرة الأمم، فلا يهمنك أمر قومك والقرية: المدينة، والمترف: الغني المنعم القليل تعب النفس والبدن، فعادتهم المبادرة بالتكذيب.
وقوله: { وقالوا نحن أكثر أمولا... } الآية: يحتمل أن يعود الضمير في { قالوا } على المترفين؛ ويحتمل أن يكون لقريش، ويكون كلام المترفين قد تم قبله، وفي «صحيح مسلم» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "
انتهى.
واعلم أن المال الزائد على قدر الحاجة قل أن يسلم صاحبه من الآفات إلا من عصمه الله تعالى،
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض
[الشورى:27].
وقد جاء في «صحيح البخاري» وغيره من رواية أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الأكثرون مالا هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا "
وأشار ابن شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم اه. وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا حيوة بن شريح عن عقيل بن خالد عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن الشيطان قال: لن ينجو مني الغني من إحدى ثلاث: إما أن أزين ماله في عينيه فيمنعه من حقه؛ وإما أن أسهل له سبيله فينفقه في غير حقه؛ وإما أن أحببه فيكسبه بغير حقه "
؛ انتهى. و«الزلفى»: مصدر بمعنى القرب.
وقوله: { إلا من ءامن } استثناء منقطع، وقرأ الجمهور: «جزاء الضعف»، بالإضافة و { الضعف }: هنا اسم جنس، أي: بالتضعيف، إذ بعضهم يجازى إلى عشرة وبعضهم أكثر صاعدا إلى سبع مائة بحسب الأعمال ومشيئة الله فيها.
[34.38-43]
وقوله تعالى: { والذين يسعون في ءايتنا معجزين } تقدم تفسيره و { محضرون } من الإحضار والإعداد، ثم كرر القول ببسط الرزق لا على المعنى الأول؛ بل هذا هنا على جهة الوعظ، والتزهيد في الدنيا، والحض على النفقة في الطاعات، ثم وعد بالخلف في ذلك. إما في الدنيا، إما في الآخرة، وفي «البخاري» أن ملكا ينادي كل يوم: اللهم، أعط منفقا خلفا، ويقول ملك آخر: اللهم، أعط ممسكا تلفا. وروى الترمذي عن أبي كبشة الأنصاري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، أو كلمة نحوها "
الحديث، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى. وقوله تعالى: { ويوم نحشرهم } الآية تقدم تفسير نظيرها مكررا، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها؛ ثم قال تعالى: { فاليوم } أي: يقال لمن عبد ومن عبد: «اليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا».
[34.44-46]
وقوله تعالى: { ومآ ءاتينهم من كتب يدرسونها... } الآية المعنى: أن هؤلاء الكفرة يقولون بآرائهم في كتاب الله، فيقول بعضهم: سحر، وبعضهم: افتراء، وذلك منهم تسور لا يستندون فيه إلى أثارة علم؛ فإنا ما آتيناهم من كتب يدرسونها؛ وما أرسلنا إليهم قبلك من ندير يباشرهم ويشافههم فيمكنهم أن يسندوا دعواهم إليه.
وقوله تعالى: { وما بلغوا معشار ما ءاتينهم } الضمير في: { بلغوا } يعود على قريش، وفي آتيناهم على الأمم الذين من قبلهم، والمعنى: من القوة والنعم والظهور في الدنيا؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد: والمعشار: العشر ولم يأت هذا البناء إلا في العشرة والأربعة، فقالوا: مرباع ومعشار؛ و«النكير» مصدر كالإنكار في المعنى، وكالعزيز في الوزن، و { كيف }: تعظيم للأمر وليست استفهاما مجردا؛ وفي هذا تهديد لقريش، أي: أنهم متعرضون لنكير مثله، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يدعوهم إلى عبادة الله تعالى والنظر في حقيقة نبوته هو، ويعظهم بأمر مقرب للأفهام، فقوله: { بوحدة } معناه: بقضية واحدة إيجازا لكم وتقريبا عليكم وهو أن تقوموا لله، أي: لأجل الله أو لوجه الله مثنى أي: اثنين اثنين متناظرين وفرادى، أي: واحدا واحدا، ثم تتفكروا، هل بصاحبكم، جنة أو هو بريء، من ذلك، والوقف عند أبي حاتم { تتفكروا } فيجيء: { ما بصاحبكم } نفيا مستأنفا، وهو عند سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم؛ وقيل في الآية غير هذا مما هو بعيد من ألفاظها فتعين تركه.
[34.47-50]
وقوله تعالى: { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } معنى الآية بين واضح لا يفتقر إلى بيان.
وقوله: { يقذف بالحق } يريد بالوحي وآيات القرآن واستعار له القذف من حيث كان الكفار يرمون بآياته وحكمه.
وقوله سبحانه: { قل جاء الحق } يريد الشرع بجملته، { وما يبدئ البطل وما يعيد } قالت فرقة: الباطل غير الحق من الكذب والكفر ونحوه، استعار له الإبداء والإعادة ونفاهما عنه، كأنه قال: وما يصنع الباطل شيئا.
وقوله: { فبما يوحي } يحتمل أن تكون «ما» بمعنى الذي أو مصدرية.
[34.51-54]
وقوله تعالى : { ولو ترى إذ فزعوا... } الآية. قال الحسن بن أبي الحسن: ذلك في الكفار عند خروجهم من القبور في القيامة.
قال * ع *: وهو أرجح الأقوال هما، وأما معنى الآية فهو التعجب من حالهم إذا فزعوا من أخذ الله إياهم ولم يتمكن لهم أن يفوت منهم أحد { وأخذوا من مكان قريب } ، أي: أن الأخذ يجيئهم من قرب في طمأنينتهم وبعقبها، بينما الكافر يؤمل ويترجى إذ غشيه الأخذ، ومن غشيه أخذ من قريب؛ فلا حيلة له ولا روية، و { قالوا آمنا به } الضمير في { به } عائد على الله تعالى ، وقيل: على محمد وشرعه والقرآن وقرأ نافع وعامة القراء: «التناوش» دون همز ومعناه التناول، من قولهم ناش ينوش إذا تناول، وعبارة الواحدي { وأنى لهم التناوش } أي: كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم. انتهى.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: «التناؤش» بالهمز فيحتمل أن يكون تفسيره كالقراءة الأولى، ويحتمل أن يكون من الطلب؛ تقول: انتأشت الخير إذا طلبته من بعد.
* ت *: وقال البخاري: التناوش الرد من الآخرة إلى الدنيا، انتهى.
{ ويقذفون بالغيب } أي: يرجمون بظنونهم ويرمون بها الرسول وكتاب الله، وذلك غيب عنهم في قولهم سحر وافتراء وغير ذلك، قاله مجاهد، وقال قتادة: قدفهم بالغيب هو قولهم لا بعث ولا جنة ولا نار.
وقوله سبحانه: { وحيل بينهم وبين ما يشتهون }.
قال الحسن: معناه من الإيمان والتوبة والرجوع إلى الإنابة والعمل الصالح، وذلك أنهم اشتهوه في وقت لا تنفع فيه التوبة وقاله أيضا قتادة؛ وقال مجاهد: معناه: وحيل بينهم وبين نعيم الدنيا.
وقيل: معناه حيل بينهم وبين الجنة ونعيمها كما فعل بأشياعهم من قبل، والأشياع الفرق المتشابهة، أشياع هؤلاءهم الكفرة من كل أمة.
* ص *: قال أبو حيان: و { مريب } اسم فاعل من أراب، أي: أتى بريبة وأربته وأوقعته في ريبة، ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز.
قال * ع *: والشك المريب أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاما، انتهى.
[35 - سورة فاطر]
[35.1-4]
قوله تعالى: { الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملئكة رسلا أولي أجنحة... } الآية { رسلا } معناه: بالوحي وغير ذلك من أوامره سبحانه، كجبريل وميكائيل رسل، والملائكة المتعاقبون رسل وغير ذلك، و { مثنى وثلث وربع } ألفاظ معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة وأربعة أربعة, عدلت في حالة التنكير فتعرفت بالعدل فهي لا تنصرف للعدل والتعريف، وقيل: للعدل والصفة، وفائدة العدل الدلالة على التكرار لأن مثنى بمنزلة قولك: اثنين اثنين.
قال قتادة: إن أنواع الملائكة هم هكذا منها ما له جناحان؛ ومنها ماله ثلاثة، ومنها ما له أربعة، ويشذ منها ما له أكثر من ذلك، وروي: أن لجبريل عليه السلام ست مائة جناح منها اثنان يبلغان من المشرق إلى المغرب.
وقوله تعالى: { يزيد في الخلق ما يشاء } تقرير لما يقع في النفوس من التعجب عند الخبر بالملائكة أولي الأجنحة، أي: ليس هذا ببدع في قدرة الله تعالى، فإنه يزيد في الخلق ما يشاء؟ وروي عن الحسن وابن شهاب أنهما قالا: المزيد هو حسن الصوت، قال الهيثم الفارسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي: أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا.
وقيل : من الأقوال في الزيادة غير هذا وذلك على جهة المثال لا أن المقصد هي فقط.
وقوله تعالى: { ما يفتح الله } { ما } شرط و { يفتح } مجزوم بالشرط.
وقوله: { من رحمة } عام في كل خير يعطيه الله تعالى لعباده.
وقوله: { من بعده } فيه حذف مضاف، أي: من بعد إمساكه ومن هذه الآية سمت الصوفية ما تعطاه من الأموال والمطاعم وغير ذلك «الفتوحات».
[35.5-7]
وقوله تعالى: { يأيها الناس } خطاب لقريش وهو متوجه لكل كافر.
وقوله سبحانه: { فلا تغرنكم الحيوة الدنيا }.
* ت *: هذه الآية معناها بين، قال ابن عطاء الله ينبغي للعبد أن يقلل الدخول في أسباب الدنيا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن قليل الدنيا يلهي عن كثير الآخرة "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ما طلعت شمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان: يأيها الناس، هلموا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى "
انتهى. من «لطائف المنن» وقرأ جمهور الناس: «الغرور» بفتح الغين وهو الشيطان قاله ابن عباس.
وقوله: { إن الشيطن لكم عدو } الآية يقوي قراءة الجمهور { فاتخذوه عدوا }. أي: بالمباينة والمقاطعة والمخالفة له باتباع الشرع.
[35.8-10]
وقوله تعالى: { أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا } توقيف وجوابه محذوف يمكن أن يقدر كمن اهتدى ونحو هذا من التقدير ما دل اللفظ بعد عليه؛ وقرأ الجمهور: { فلا تذهب } بفتح التاء والهاء : { نفسك } بالرفع ، وقرأ قتادة وغيره «تذهب» بضم التاء وكسر الهاء «نفسك» بالنصب ورويت عن نافع والحسرة هم النفس على فوات أمر، وهذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن كفر قومه، ووجب التسليم لله عز وجل في إضلال من شاء وهداية من شاء. وقوله سبحانه: { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحبا فسقناه إلى بلد ميت } هذه آية احتجاج على الكفرة في إنكارهم البعث من القبور.
وقوله تعالى: { من كان يريد العزة } يحتمل أن يريد: من كان يريد العزة بمغالبة فلله العزة: أي: ليست لغيره ولا تتم إلا به، ونحا إليه مجاهد وقال: من كان يريد العزة بعبادة الأوثان.
قال * ع *: وهذا تمسك بقوله تعالى:
واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا
[مريم:81].
ويحتمل أن يريد: من كان يريد العزة وطريقها القويم ويحب نيلها على وجهها فلله العزة، أي: به وعن أوامره لا تنال عزته إلا بطاعته، ونحا إليه قتادة.
وقوله تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب } أي: التوحيد، والتحميد، وذكر الله ونحوه.
وقوله تعالى: { والعمل الصلح يرفعه } قيل: المعنى؛ يرفعه الله، وهذا أرجح الأقوال.
وقال ابن عباس وغيره: إن العمل الصالح هو الرافع للكلم، وهذا التأويل إنما يستقيم بأن يتأول على معنى أنه يزيد في رفعه وحسن موقعه.
* ت *: وعن ابن مسعود؛ «قال: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه؛ إن العبد إذا قال: «سبحان الله والحمد لله والله أكبر وتبارك الله» قبض عليهن ملك؛ فضمهن تحت جناحه؛ وصعد بهن لا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجاء بهن وجه الرحمن سبحانه. ثم تلا عبد الله بن مسعود: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصلح يرفعه } ». رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح الإسناد: انتهى من «السلاح». و { يمكرون السيئات } أي: المكرات السيئات. و { يبور } معناه: يفسد ويبقى لا نفع فيه.
[35.11-14]
وقوله تعالى: { والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزوجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره } الآية. قيل: معنى الأزواج هنا: الأنواع، وقيل: أراد تزويج الرجال النساء، والضمير في { عمره } قال ابن عباس وغيره، ما مقتضاه أنه عائد على { معمر } الذي ههو اسم جنس؛ والمراد غير الذي يعمر، وقال ابن جبير وغيره: بل المراد شخص واحد وعليه يعود الضمير، أي: ما يعمر إنسان ولا ينقص من عمره بأن يحصى ما مضى منه إذا مر حول كتب ما مضى منه، فإذا مر حول آخر كتب ذلك، ثم حول، ثم حول؛ فهذا هو النقص.
قال ابن جبير: فما مضى من عمره؛ فهو النقص وما يستقبل؛ فهو الذي يعمره.
وقوله تعالى: { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } تقدم تفسير نظير هذه الآية.
وقوله تعالى: { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } الآية. الأجل المسمى هو قيام الساعة، وقيل: آماد الليل، وآماد النهار، والقطمير: القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة. وقال الضحاك وغيره: القطمير القمع الذي في رأس التمرة، والأول أشهر وأصوب. ثم بين تعالى بطلان الأصنام بثلاثة أشياء: أولها: أنها لا تسمع إن دعيت، والثاني: أنها لا تجيب إن لو سمعت، وإنما جاء بهذه؛ لأن القائل متعسف أن يقول: عساها تسمع، والثالث: أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفرة.
وقوله تعالى: { ولا ينبئك مثل خبير } قال المفسرون: الخبير هنا هو الله سبحانه فهو الخبير الصادق الخبر، ونبأ بهذا؛ فلا شك في وقوعه.
[35.15-18]
وقوله تعالى: { يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } الآية: آية وعظ وتذكير، والإنسان فقير إلى الله تعالى في دقائق الأمور وجلائلها؛ لا يستغني عنه طرفة عين؛ وهو به مستغن عن كل أحد، { والله هو الغني الحميد } أي: المحمود بالإطلاق.
وقوله: { بعزيز } أي: بممتنع و { تزر } تحمل، وهذه الآية في الذنوب، وأنثت { وازرة } لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت { مثقلة } ، واسم { كان } مضمر تقديره: ولو كان الداعي. ثم أخبر تعالى نبيه أنه إنما ينذر أهل الخشية. ثم حض على التزكي بأن رجى عليه غاية الترجية. ثم توعد بعد ذلك بقوله: { وإلى الله المصير }.
قال * ع *: وكل عبارة فهي مقصرة عن تفسير هذه الآية، وكذلك كتاب الله كله، ولكن يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع؛ بحسب تقصيرنا.
[35.19-28]
وقوله سبحانه: { وما يستوي الأعمى والبصير } الآية: مضمن هذه الآية الطعن على الكفرة وتمثيلهم بالعمي والظلمات؛ وتمثيل المؤمنين بإزائهم بالبصراء والأنوار. و { الحرور }: شدة الحر.
قال الفراء وغيره: إن السموم يختص بالنهار و { الحرور } يقال في حر الليل وحر النهار. وتأول قوم الظل في هذه الآية الجنة والحرور جهنم وشبه المؤمنين بالأحياء ، والكفرة بالأموات؛ من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه.
وقوله سبحانه: { وما أنت بمسمع من في القبور } تمثيل بما يحسه البشر ويعهده جميعا من أن الميت الشخص الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح فلا نقول إنها في القبر، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين؛ في شجر عند العرش، وفي قناديل وغير ذلك، وأن أرواح الكفرة في سجين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور؛ فربما سمعت، وكذلك أهل قليب بدر إنما سمعت أرواحهم؛ فلا تعارض بين الآية وحديث القليب.
وقوله تعالى: { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } معناه: أن دعوة الله تعالى قد عمت جميع الخلق، وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة؛ فهو ممن بلغته؛ لأن آدم بعث إلى بنيه، ثم لم تنقطع النذارة إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم و { البينات } و { الزبر } و { الكتاب المنير }: شيء واحد؛ لكنه أكد أوصاف بعضها ببعض.
وقوله تعالى: { ومن الجبال جدد... } الآية: جمع «جدة» وهي: الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولا، وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه: أنه يقال: جدد في جمع «جديد»، ولا معنى لمدخل الجديد في هذه الآية، وقال الثعلبي: وقيل الجدد القطع؛ جددت الشيء؛ إذا قطعته، انتهى.
وقوله: { وغرابيب سود } لفظان لمعنى واحد، وقدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر، وكذلك هو في المعنى؛ لكن الكلام العرب الفصيح يأتي كثيرا على هذا النحو، والمعنى: ومنها، أي: من الجبال؛ سود غرابيب، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله يبغض الشيخ الغربيب "
؛ يعني: الذي يخضب بالسواد. { ومن الناس والدواب والأنعم } ، أي: خلق مختلف ألوانه.
وقوله تعالى: { كذلك } يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسنا، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين. ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني؛ خرج مخرج السبب كأنه قال: كما جاءت القدرة في هذا كله كذلك { إنما يخشى الله من عباده العلمؤا } ، أي: المحصلون لهذه العبر، الناظرون فيها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أعلمكم بالله أشدكم له خشية "
؛ وقال صلى الله عليه وسلم
" رأس الحكمة مخافة الله ".
وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية: كفى بالزهد علما، ويقال: إن فاتحة الزبور؛ «رأس الحكمة خشية الله»، وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علما، وبالاغترار به جهلا.
وقال مجاهد والشعبي: إنما العالم من يخشى الله. و { إنما } في هذه الآية تخصيص للعلماء؛ لا للحصر. قال ابن عطاء الله في «الحكم»: العلم النافع هو الذي ينبسط في الصدر شعاعه، ويكشف به عن القلب قناعه، خير العلم ما كانت الخشية معه؛ والعلم إن قارنته الخشية فلك؛ وإلا؛ فعليك.
وقال في «التنوير»: اعلم أن العلم؛ حيث ما تكرر في الكتاب العزيز أو في السنة؛ فإنما المراد به العلم النافع الذي تقارنه الخشية وتكتنفه المخافة: قال تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } فبين سبحانه أن الخشية تلازم العلم، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. انتهى.
قال ابن عباد في «شرح الحكم»: واعلم أن العلم النافع المتفق عليه فيما سلف وخلف؛ إنما هو العلم الذي يؤدي صاحبه إلى الخوف، والخشية، وملازمة التواضع، والذلة، والتخلق بأخلاق الإيمان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا، والزهادة فيها، وإيثار الآخرة عليها، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العلية والمناحي السنية» انتهى. وهذه المعاني كلها محصلة في كتب الغزالي وغيره؛ رضي الله عن جميعهم، ونفعنا ببركاتهم.
قال صاحب: «الكلم الفارقية والحكم الحقيقية»: العلم النافع ما زهدك في دنياك، ورغبك في أخراك، وزاد في خوفك وتقواك، وبعثك على طاعة مولاك، وصفاك من كدر هواك. وقال رحمه الله : العلوم النافعة ما كانت للهمم رافعة، وللأهواء قامعة، وللشكوك صارفة دافعة. انتهى.
[35.29-31]
وقوله تعالى: { إن الذين يتلون كتب الله وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقنهم... } الآية، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء.
قال * ع *: وهذا على أن { يتلون } بمعنى: يقرؤون، وإن جعلناه بمعنى: يتبعون, صح معنى الآية؛ وكانت في القراء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية، وكتاب الله هو القرآن، وإقامة الصلاة، أي: بجميع شروطها، والنفقة هي في الصدقات ووجوه البر و { لن تبور } معناه: لن تكسد. و { يزيدهم من فضله } قالت فرقة: هو تضعيف الحسنات، وقالت فرقة: هو إما النظر إلى وجه الله عز وجل، وإما أن يجعلهم شافعين في غيرهم؛ كما قال:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس:26].
وقد خرج أبو نعيم بإسناده عن الثوري عن شقيق
" عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } "
قال: أجورهم: يدخلهم الجنة، ويزيدهم من فضله: الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه المعروف في الدنيا. وخرج ابن ماجه في «سننه» عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يصف الناس صفوفا ".
وقال ابن نمير: أهل الجنة - فيمر الرجل من أهل النار على الرجل من أهل الجنة، فيقول: يا فلان، أما تذكر يوم استسقيتني، فسقيتك شربة؟ قال: فسيشفع له. ويمر الرجل على الرجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهورا؟ فيشفع له»، قال ابن نمير: «ويقول: يا فلان؛ أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا، فذهبت لك؟ فيشفع له». وخرجه الطحاوي وابن وضاح بمعناه، انتهى من «التذكرة».
[35.32-35]
وقوله تعالى: { ثم أورثنا الكتب الذين اصطفينا... } الآية: { أورثنا } معناه: أعطيناه فرقة بعد، موت فرقة و { الكتب } هنا يريد به: معاني الكتاب، وعلمه، وأحكامه، وعقائده، فكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن؛ وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة قبله؛ فكأنه ورث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها. قال ابن عطاء الله في «التنوير»: قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى : أكرم المؤمنين؛ وإن كانوا عصاة فاسقين، وأمرهم بالمعروف، وانههم عن المنكر، واهجرهم رحمة بهم؛ لا تعززا عليهم، فلو كشف عن نور المؤمن العاصي، لطبق السماء والأرض، فما ظنك بنور المؤمن المطبع، ويكفيك في تعظيم المؤمنين وإن كانوا عن الله غافلين قول رب العالمين: { ثم أورثنا الكتب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظلم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرت بإذن الله } فانظر كيف أثبت لهم الاصطفاء مع وجود ظلمهم، واعلم أنه لا بد في مملكته من عباد هم نصيب الحلم، ومحل ظهور الرحمة والمغفرة، ووقوع الشفاعة، انتهى. و { الذين اصطفينا } يريد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قاله ابن عباس وغيره. و { اصطفينا } معناه: اخترنا وفضلنا، والعباد عام في جميع العالم، واختلف في عود الضمير من قوله: { فمنهم } فقال ابن عباس وغيره؛ ما مقتضاه: أن الضمير عائد على { الذين اصطفينا } وإن الأصناف الثلاثة هي كلها في أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالظالم لنفسه: العاصي المسرف، والمقتصد: متقي الكبائر، وهم جمهور الأمة، والسابق: المتقي على الإطلاق، وقالت هذه الفرقة: الأصناف الثلاثة في الجنة وقاله أبو سعيد الخدري والضمير في { يدخلونها } عائد على الأصناف الثلاثة، قالت عائشة رضي الله عنها وكعب رضي الله عنه: دخلوها كلهم ورب الكعبة وقال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
وقال ابن مسعود: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث: يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث: يحاسبون حسابا يسيرا؛ ثم يدخلون الجنة، وثلث: يجيئون بذنوب عظام؛ فيقول الله عز وجل : ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا؛ فيقول عز وجل أدخلوهم في سعة رحمتي.
" وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: «كلهم في الجنة» "
وقرأ عمر هذه الآية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له "
؛ وقال عكرمة والحسن وقتادة؛ ما مقتضاه: أن الضمير في { منهم } عائد على العباد فالظالم لنفسه: الكافر، والمقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: التقي على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى:
وكنتم أزواجا ثلثة
[الواقعة:7] الآية.
والضمير في { يدخلونها } على هذا التأويل خاص بالمقتصد والسابق، وباقي الآية بين، و { الحزن } في هذه الآية عام في جميع أنواع الأحزان وقولهم: { إن ربنا لغفور شكور } وصفوه سبحانه بأنه يغفر الذنوب، ويجازي على القليل من الأعمال بالكثير من الثواب، وهذا هو شكره. لا رب سواه، و { دار المقامة }: الجنة، و { المقامة }: الإقامة و«النصب»: تعب البدن و«اللغوب»: تعب النفس اللازم عن تعب البدن.
[35.36-41]
وقوله سبحانه: { والذين كفروا لهم نار جهنم } هذه الآية تؤيد التأويل الأول من أن الثلاثة الأصناف هي كلها في الجنة، لأن ذكر الكافرين أفرد ها هنا.
وقوله: { لا يقضى عليهم } أي لا يجهز عليهم.
وقولهم: { ربنا أخرجنا } أي: يقولون هذه المقالة فيقال لهم على جهة التوبيخ: { أو لم نعمركم } الآية. واختلف في المدة التي هي حد للتذكر، فقال الحسن بن أبي الحسن: البلوغ، يريد أنه أول حال التذكر. وقال ابن عباس أربعون سنة؛ وهذا قول حسن؛ ورويت فيه آثار. وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب؛ مسح الشيطان على وجهه، وقال: بأبي وجه لا يفلح، وقيل: الستين وفيه حديث.
* ت *: وفي البخاري: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه؛ لقوله: { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } يعني: الشيب. ثم أسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أعذر الله امرأ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة "
انتهى. و { النذير } في قول الجمهور: الأنبياء. قال الطبري: وقيل: النذير: الشيب، وهذا أيضا قول حسن.
وقوله: { فعليه كفره } أي وبال كفره و«المقت»: احتقارك الإنسان من أجل معصيته، والخسار: مصدر خسر يخسر، و { أرءيتم } ، تتنزل عند سيبويه منزلة أخبروني، ولذلك لا تحتاج إلى مفعولين، والرؤية في قوله { أروني } رؤية بصر.
* ت *: قال ابن هشام: قوله { من الأرض } ، «من»: مرادفة «في». ثم قال: والظاهر أنها لبيان الجنس، مثلها:
ما ننسخ من ءاية
[البقرة:106] الآية.انتهى. ثم أضرب سبحانه عنهم بقوله: { بل إن يعد } أي: بل إنما يعدون أنفسهم غرورا.
وقوله: { أن تزولا } أي: لئلا تزولا, ومعنى الزوال هنا: التنقل من مكانها، والسقوط من علوها. وعن ابن مسعود أن السماء لا تدور وإنما تجري فيها الكواكب.
وقوله تعالى: { ولئن زالتا } قيل: أراد يوم القيامة. وقوله تعالى: { إن أمسكهما من أحد من بعده } أي: من بعد تركه الإمساك.
قال * ص *: { إن أمسكهما }: أن: نافية بمعنى، ما وأمسك: جواب القسم المقدر قبل اللام الموطئة في { لئن } ، وهو بمعنى: يمسك؛ لدخول أن الشرطية؛ كقوله تعالى:
ولئن أتيت الذين أوتوا الكتب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك
[البقرة:145] أي: ما يتبعون وكقوله:
ولئن أرسلنا ريحا
[الروم:51] إلى قوله:
لظلوا من بعده
[الروم:51] أي: ليظلون، وحذف جواب إن في هذه المواضع لدلالة جواب القسم عليه.
وقوله: { من إحدى } { من }: زائدة لتأكيد الاستغراق انتهى.
[35.42-45]
وقوله تعالى: { وأقسموا بالله } يعني: قريشا { لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } وذلك أنه روي: أن كفار قريش كانت قبل الإسلام تنكر على اليهود والنصارى، وتأخذ عليهم في تكذيب بعضهم بعضا وتقول: لو جاءنا نحن رسول لكنا أهدى من هؤلاء، و { إحدى الأمم }: يريدون: اليهود والنصارى، { فلما جاءهم نذير } وهو: محمد صلى الله عليه وسلم { ما زادهم إلا نفورا } وقرأ ابن مسعود: و«مكرا سيئا»، و { يحيق }: معناه: يحيط ويحل وينزل ولا يستعمل إلا في المكروه و { ينظرون } معناه: ينتظرون والسنة: الطريقة والعادة. وقوله: { فلن تجد لسنت الله تبديلا } أي: لتعذيبه الكفرة المكذبين وفي هذا وعيد بين.
وقوله تعالى: { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السموت ولا في الأرض } لما توعدهم سبحانه بسنة الأولين وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره؛ كديار ثمود ونحوها، و«يعجزه»: معناه: يفوته ويفلته.
وقوله تعالى: { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } الآية: قوله: { من دابة }: مبالغة، والمراد: بنو آدم؛ لأنهم المجاوزن، وقيل: المراد الإنس والجن، وقيل: المراد: كل ما دب من الحيوان وأكثره إنما هو لمنفعة ابن آدم، وبسببه، والضمير في: { ظهرها } عائد على الأرض والأجل المسمى القيامة.
وقوله تعالى: { فإن الله كان بعباده بصيرا }: وعيد, وفيه للمتقين وعد, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله على ما أنعم به.
[36 - سورة يس]
[36.1-7]
قوله عز وجل: { يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين } قد تقدم الكلام في الحروف المقطعة، ويختص هذا الموضع بأقوال، منها: أن ابن جبير قال: يس اسم من أسماء محمد عليه السلام وقال ابن عباس: معناه: يا إنسان، بالحبشية.
وقال أيضا: هو بلغة طيىء، وقال قتادة: «يس» قسم و«الصراط» الطريق، والمعنى: إنك على طريق هدى بين ومهيع رشاد، واختلف المفسرون في قوله تعالى: { ما أنذر ءابآؤهم } فقال عكرمة: «ما» بمعنى: الذي، والتقدير: الشيء الذي أنذر آباؤهم من النار والعذاب، ويحتمل أن تكون «ما» مصدرية على هذا القول، ويكون الآباء هم الأقدمون على مر الدهر.
وقوله: { فهم } مع هذا التأويل بمعنى: فإنهم، دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة، وقال قتادة: «ما» نافية، فالآباء على هذا هم الأقربون منهم، وهذه الآية كقوله تعالى:
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير
[سبأ:44] وهذه النذارة المنفية: هي نذارة المباشرة، كما قدمنا، و { حق القول } ، معناه: وجب العذاب وسبق القضاء به، وهذا فيمن لم يؤمن من قريش كمن قتل ببدر، وغيرهم.
[36.8-10]
وقوله تعالى: { إنا جعلنا فى أعنقهم أغللا } الآية.
قال مكي: قيل: هي حقيقة في الآخرة إذا دخلوا النار.
وقال ابن عباس وغيره: الآية استعارة لحال الكفرة الذين أرادوا النبي صلى الله عليه وسلم بسوء، فجعل الله هذه مثلا لهم في كفه إياهم عنه ومنعهم من إذايته حين بيتوه.
وقالت فرقة: الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى إياهم من الإيمان، وحوله بينهم وبينه، وهذا أرجح الأقوال، و«الغل»: ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب.
وقوله: { فهى } يحتمل أن تعود على الأغلال، أي: هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان، والذقن: مجتمع اللحيين، فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء، وذلك هو الإقماح، وهو نحو الإقناع في الهيئة.
قال قتادة: المقمح: الرافع رأسه، ويحتمل: وهو قول الطبري أن تعود (هي) على الأيدي؛ وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين، وروي أن في مصحف ابن مسعود وأبي «إنا جعلنا في أيمانهم» وفي بعضها «في أيديهم»، وأرى الناس علي بن أبي طالب الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه، وقرأ الجمهور: «سدا» بضم السين في الموضعين ، وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما (سدا) بفتح السين ، فقيل: هما بمعنى، أي: حائلا يسد طريقهم، وقال عكرمة: ما كان مما يفعله البشر فهو بالضم، وما كان خلقة فهو بالفتح، ومعنى الآية: أن طريق الهدى سد دونهم.
[36.11-12]
وقوله تعالى: { إنما تنذر من اتبع الذكر... } الآية، «إنما» ليست للحصر هنا؛ بل هي على جهة تخصيص من ينفعه الإنذار، «واتباع الذكر» هو العمل بما في كتاب الله والاقتداء به. قال قتادة: الذكر: القرآن.
وقوله: { بالغيب } ، أي: بالخلوات عند مغيب الإنسان عن أعين البشر. ثم أخبر تعالى بإحيائه الموتى ردا على الكفرة، ثم توعدهم بذكر كتب الآثار وإحصاء كل شيء، وكل ما يصنعه الإنسان فيدخل فيما قدم، ويدخل في آثاره، لكنه سبحانه؛ ذكر الأمر من الجهتين؛ ولينبه على الآثار التي تبقى، وتذكر بعد الإنسان من خير وشر.
وقال جابر بن عبد الله وأبو سعيد: إن هذه الآية نزلت في بني سلمة؛ على ما تقدم، وقول النبي عليه السلام لهم:
" دياركم تكتب آثاركم "
والإمام المبين: قال قتادة وابن زيد: هو اللوح المحفوظ، وقالت فرقة: أراد صحف الأعمال.
[36.13-27]
وقوله تعالى: { واضرب لهم مثلا أصحب القرية... } الآية، روي عن ابن عباس والزهري وعكرمة: أن القرية هنا هي أنطاكية، واختلف في هؤلاء المرسلين؛ فقال قتادة وغيره: كانوا من الحواريين الذين بعثهم عيسى حين رفع، وصلب الذي ألقي عليه شبهه، فتفرق الحواريون في الآفاق، فقص الله تعالى هنا قصة الذين نهضوا إلى أنطاكية.
وقالت فرقة: بل هؤلاء أنبياء من قبل الله عز وجل.
قال * ع *: وهذا يرجحه قول الكفرة { ما أنتم إلا بشر مثلنا } فإنها محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة من الله تعالى، والآخر محتمل، وذكر المفسرون في قصص الآية أشياء يطول ذكرها والصحة فيها غير متيقنة، فاختصرته واللازم من الآية أن الله تعالى بعث إليها رسولين، فدعيا أهل القرية إلى عبادة الله وتوحيده، فكذبوهما فشدد الله أمرهما بثالث، وقامت الحجة على أهل القرية، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى، وقتلوه في آخر أمره وكفروا، وأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا، وقرأ الجمهور: «فعززنا» بشد الزاي، على معنى: قوينا. وشددنا؛ وبهذا فسره مجاهد وغيره، وهذه الأمة أنكرت النبوات بقولها: { وما أنزل الرحمن من شىء } قال بعض المتأولين: لما كذب أهل القرية المرسلين أسرع فيهم الجذام.
وقال مقاتل: احتبس عنهم المطر؛ فلذلك قالوا: { إنا تطيرنا بكم } ، أي: تشاءمنا بكم، والأظهر أن تطير هؤلاء إنما كان بسبب ما دخل قريتهم من اختلاف كلمتهم وافتتان الناس.
وقوله: { أئن ذكرتم } جوابه محذوف، أي: تطيرتم، قاله أبو حيان وغيره، انتهى، وقولهم عليهم السلام ، { طئركم معكم } ، معناه: حظكم وما صار لكم من خير وشر معكم أي: من أفعالكم ومن تكسباتكم، ليس هو من أجلنا، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر: «أإن ذكرتم» بهمزتين؛ الثانية مكسورة. وقرأ نافع وغيره بتسهيل الثانية، وردها ياء: «أين ذكرتم». وأخبر تعالى عن حال رجل جاء من أقصى المدينة يسعى؛ سمع المرسلين وفهم عن الله تعالى، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم، إذ هو الحق. فروي عن ابن عباس وغيره، أن اسم هذا الرجل حبيب، وكان نجارا وكان فيما قال وهب بن منبه: قد تجذم.
وقيل: كان في غار يعبد ربه فقال: { يقوم اتبعوا المرسلين... } الآية، وذكر الناس في أسماء الرسل: صادق، وصدوق، وشلوم، وغير هذا، والله أعلم بصحته، واختلف المفسرون في قوله { فاسمعون } فقال ابن عباس وغيره: خاطب بها قومه، أي: على جهة المبالغة والتنبيه.
وقيل: خاطب بها الرسل على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم.
قال * ع *: وهنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات وهم أنهم قتلوه فقيل له عند موته: { ادخل الجنة } فلما أقر الله عينه بما رأى من الكرامة قال: { يليت قومى يعلمون.
.. } الآية، قيل: أراد بذلك الإشفاق والنصح لهم أي: لو علموا ذلك، لآمنوا بالله تعالى، وقيل: أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم به، وبخزيهم ذلك، وهذا موجود في جبلة البشر إذا نال الشخص عزا وخيرا في أرض غربة ود أن يعلم ذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم، كما قيل: [السريع]
العز مطلوب وملتمس
وأحبه ما نيل في الوطن
قال * ع *: والتأويل الأول أشبه بهذا العبد الصالح؛ وفي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" نصح قومه حيا وميتا "
؛ وقال قتادة: نصحهم على حالة الغضب والرضا وكذلك لا تجد المؤمن إلا ناصحا للناس.
[36.28-32]
وقوله تعالى: { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند... } الآية، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها توعد لقريش وتحذير أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بقوم حبيب النجار.
قال مجاهد: لم ينزل الله عليهم من جند أراد أنه لم يرسل إليهم رسولا ولا استعتبهم، قال قتادة: والله، ما عاتب الله قومه بعد قتله حتى أهلكهم.
وقال ابن مسعود: أراد: لم يحتج في تعذيبهم إلى جند، بل كانت صيحة واحدة؛ لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك، واختلف في قوله تعالى: { وما كنا منزلين } فقالت فرقة: «ما» نافية، وقالت فرقة: «ما» عطف على جند، أي: من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم قبل ذلك، و«خامدون» أي: ساكنون موتى.
وقوله تعالى: { يحسرة } الحسرة التلهف: وذلك أن طباع كل بشر توجب عند سماع حالهم وعذابهم على الكفر وتضييعهم أمر الله، أن يشفق ويتحسر على العباد، وقال الثعلبي: قال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل، وقال ابن عباس: حلوا محل من يتحسر عليه، انتهى. وقرأ الأعرج وأبو الزناد ومسلم بن جندب: (يا حسره) بالوقف على الهاء وهو أبلغ في معنى التحسر والتشفيق وهز النفس.
وقوله تعالى: { ما يأتيهم من رسول... } الآية، تمثيل لفعل قريش؛ وإياهم عنى بقوله: { ألم يروا كم أهلكنا } ، وقرأ جمهور الناس «لما جميع» بتخفيف الميم ، وذلك على زيادة «ما» للتأكيد والمعنى: لجميع، وقرأ عاصم والحسن وابن جبير (لما) بشد الميم ، قالوا: هي بمنزلة «إلا» و { محضرون } قال قتادة: محشرون يوم القيامة.
[36.33-36]
وقوله تعالى: { وءاية لهم الأرض الميتة أحيينها... } الآية، و { ءاية }: معناه وعلامة على الحشر وبعث الأجساد، والضمير في (لهم) لكفار قريش، والضمير في (ثمره) قيل هو عائد على الماء الذي تضمنه ذكر العيون، وقيل: هو عائد على جميع ما تقدم مجملا: كأنه قال: من ثمر ما ذكرنا «وما» في قوله: { وما عملته أيديهم } قال الطبري: هي اسم معطوف على الثمر، أي: يقع الأكل من الثمر، ومما عملته الأيدي بالغرس والزراعة ونحوه.
وقالت فرقة: هي مصدرية وقيل: هي نافية، والتقدير أنهم يأكلون من ثمره وهو شيء لم تعمله أيديهم؛ بل هي نعمة من الله تعالى عليهم، والأزواج: الأنواع من جميع الأشياء.
وقوله: { ومما لا يعلمون } نظير قوله تعالى:
ويخلق ما لا تعلمون
[النحل:8].
[36.37-40]
وقوله تعالى: { وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار } هذه الآيات جعلها الله عز وجل أدلة على قدرته ووجوب الألوهية له، و { نسلخ } معناه نكشط ونقشر: فهي استعارة.
قلت: قال الهروي: قوله تعالى: { وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار } أي: نخرجه منه إخراجا لا يبقى من ضوء النهار معه شيء، انتهى. و { مظلمون } داخلون في الظلام، ومستقر الشمس: على ما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي ذر،
" بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها "
وهو في البخاري؛ وفي حديث آخر
" أنها تسجد في عين حمئة "
و { منازل } منصوب على الظرف وهي المنازل المعروفة عند العرب، وهي ثمانية وعشرون منزلة يقطع القمر منها كل ليلة منزلة، وعودته هي استهلاله رقيقا وحينئذ يشبه العرجون، وهو الغصن من النخلة الذي فيه شماريخ التمر، فإنه ينحني ويصفر إذا قدم، ويجيء أشبه شيء بالهلال؛ قاله الحسن، والوجود يشهد له، و { القديم } معناه: العتيق الذي قد مر عليه زمن طويل، و { ينبغى } هنا مستعملة فيما لا يمكن خلافه؛ لأنها لا قدرة لها على غير ذلك، وال«فلك» فيما روي عن ابن عباس متحرك مستدير كفلكة المغزل فيه جميع الكواكب و { يسبحون } معناه: يجرون ويعومون.
[36.41-46]
وقوله تعالى: { وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك } الآية، ذكر الذرية لضعفهم عن السفر، فالنعمة فيهم أمكن، والضمير المتصل بالذريات، هو ضمير الجنس، كأنه قال: ذريات جنسهم أو نوعهم؛ هذا أصح ما يتجه في هذا.
وأما معنى الآية؛ فقال ابن عباس وجماعة: يريد بالذريات المحمولين أصحاب نوح في السفينة، ويريد بقوله: { من مثله } السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة، وإياها أراد بقوله: { وإن نشأ نغرقهم } ، وقال مجاهد وغيره: المراد بقوله: { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون }: السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة، ويريد بقوله: { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } الإبل وسائر ما يركب؛ فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط، ويعود قوله: { وإن نشأ نغرقهم } على السفن الموجودة في الناس، والصريخ؛ هنا بمعنى المصرخ المغيث.
وقوله تعالى: { إلا رحمة منا } قال الكسائي: نصب { رحمة } على الاستثناء، كأنه قال: إلا أن نرحمهم.
وقوله: { إلى حين } يريد إلى آجالهم المضروبة لهم، ثم ابتدأ الإخبار عن عتو قريش بقوله: { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم } قال قتادة ومقاتل: ما بين أيديهم: هو عذاب الأمم الذي قد سبقهم في الزمن؛ وهذا هو النظر الجيد: وقال الحسن: خوفوا بما مضى من ذنوبهم؛ وبما يأتي منها، قال * ع *: وهذا نحو الأول في المعنى.
[36.47-50]
وقوله تعالى: { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله... } الآية، الضمير في قوله { لهم } لقريش؛ وسبب الآية أن الكفار لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم، والمستضعفين، قطعوا عنهم نفقاتهم وصلاتهم، وكان الأمر بمكة أولا فيه بعض الاتصال في وقت نزول آيات الموادعة، فندب أولئك المؤمنون قراباتهم من الكفار، إلى أن يصلوهم وينفقوا عليهم، مما رزقهم الله؛ فقالوا عند ذلك: { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه }.
وقالت فرقة: سبب الآية أن قريشا شحت بسبب أزمة على المساكين جميعا مؤمن وغير مؤمن، فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين، وقولهم يحتمل معنيين :
أحدهما يخرج على اختيار لجهال العرب، فقد روي أن أعرابيا كان يرعى إبله فيجعل السمان في الخصب، والمهازيل في المكان الجدب، فقيل له في ذلك؛ فقال: أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله، فيخرج قول قريش على هذا المعنى، ومن أمثالهم: «كن مع الله على المدبر».
والتأويل الثاني: أن يكون كلامهم بمعنى الاستهزاء بقول محمد عليه السلام إن ثم إلها هو الرزاق، فكأنهم قالوا: لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم، أي: نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمت، لأطعمه.
وقوله تعالى: { إن أنتم إلا فى ضلل مبين } يحتمل أن يكون من قول الكفرة للمؤمنين، أي: في أمركم لنا بالنفقة؛ وفي غير ذلك من دينكم، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى للكفرة. وقولهم: { متى هذا الوعد } أي: متى يوم القيامة.
وقيل: أرادوا: متى هذا العذاب الذي تتهددنا به، و { ما ينظرون } أي: ينتظرون، و«ما» نافية، وهذه الصيحة هي صيحة القيامة؛ وهي النفخة الأولى، وفي حديث أبي هريرة أن بعدها نفخة الصعق، ثم نفخة الحشر، وهي التي تدوم؛ فما لها من فواق، وأصل { يخصمون }: يختصمون، والمعنى: وهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال بينهم، وفي مصحف أبي بن كعب «يختصمون»، { ولا إلى أهلهم يرجعون }؛ لإعجال الأمر، بل تفيض أنفسهم؛ حيث ما أخذتهم الصيحة.
[36.51-54]
وقوله سبحانه: { ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون }: هذه نفخة البعث، والأجداث: القبور، و { ينسلون } أي يمشون مسرعين. وفي قراءة ابن مسعود: «من أهبنا من مرقدنا»، وروي عن أبي بن كعب وغيره: أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر.
قال * ع *: وهذا غير صحيح الإسناد، وإنما الوجه في قولهم: { من مرقدنا }: أنها استعارة؛ كما تقول في قتيل: هذا مرقده إلى يوم القيامة.
وقوله: { هذا ما وعد الرحمن } جوز الزجاج أن يكون «هذا» إشارة إلى المرقد، ثم استأنف { ما وعد الرحمن } ويضمر الخبر «حق» أو نحوه، وقال الجمهور: ابتداء الكلام: { هذا ما وعد الرحمن } واختلف في هذه المقالة من قالها؟ فقال ابن زيد : هي من قول الكفرة، وقال قتادة ومجاهد: هي من قول المؤمنين للكفار.
وقال الفراء: هي من قول الملائكة، وقالت فرقة: هي من قول الله تعالى على جهة التوبيخ، وباقي الآية بين.
[36.55-58]
وقوله تعالى: { إن أصحب الجنة اليوم فى شغل } قال ابن عباس وغيره: هو افتضاض الأبكار.
وقال ابن عباس أيضا: هو سماع الأوتار.
وقال مجاهد: معناه: نعيم قد شغلهم.
قال * ع *: وهذا هو القول الصحيح؛ وتعيين شيء دون شيء لا قياس له.
وقوله سبحانه: { هم وأزوجهم فى ظلل } جاء في «صحيح البخاري» وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه متعلق بالمسجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال؛ فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة؛ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه "
انتهى. وهذا الظل المذكور في الحديث؛ هو في المحشر.
قال الشيخ ابن أبي جمرة (رضي الله عنه): وظلال الآخرة، ما فيها مباح؛ بل كلها قد تملكت بالأعمال التي عملها العاملون الذين هداهم الله تعالى؛ فليس هناك لصعلوك الأعمال ظل، انتهى؛ وهو كما قال، فشمر عن ساق الجد؛ إن أردت الفوز؛ أيها الأخ والسلام. و { الأرائك }: السرر المفروشة، قيل: ومن شرطها أن تكون عليها حجلة وإلا فليست بأريكة؛ وبذلك قيدها ابن عباس وغيره.
وقوله: { ما يدعون } بمنزلة ما يتمنون.
قال أبو عبيدة: العرب تقول: ادع علي ما شئت بمعنى: تمن علي.
وقوله: { سلم } قيل: هي صفة، أي: مسلم لهم، وخالص، وقيل: هو مبتدأ، وقيل: هو خبر مبتدإ.
[36.59-65]
وقوله تعالى: { وامتازوا اليوم } فيه حذف تقديره؛ ونقول للكفرة، «وامتازوا» معناه: انفصلوا وانحجزوا؛ لأن العالم في الموقف إنما هم مختلطون. قلت: وهذا يحتاج إلى سند صحيح، وفي الكلام إجمال، ويوم القيامة هو مواطن، ثم خاطبهم تعالى لما تميزوا، توبيخا وتوقيفا على عهده إليهم ومخالفتهم له، وعبادة الشيطان هي طاعته والانقياد لإغوائه.
وقوله: { هذا صرط مستقيم } إشارة إلى الشرائع؛ إذ بعث الله آدم إلى ذريته؛ ثم لم تخل الأرض من شريعة إلى ختم الرسالة بسيدنا محمد خاتم النبيين، و«الجبل»: الأمة العظيمة، ثم أخبر سبحانه نبيه محمدا عليه السلام أخبارا تشاركه فيه أمته؛ بقوله: { اليوم نختم على أفوههم } وذلك أن الكفار يجحدون، ويطلبون شهيدا عليهم من أنفسهم؛ حسبما ورد في الحديث الصحيح؛ فعند ذلك يختم الله تعالى على أفواههم، ويأمر جوارحهم بالشهادة؛ فتشهد.
[36.66-69]
وقوله سبحانه { ولو نشآء لطمسنا على أعينهم } الضمير في «أعينهم» لكفار قريش، ومعنى الآية: تبيين أنهم في قبضة القدرة، وبمدرج العذاب.
قال الحسن وقتادة: أراد الأعين حقيقة، والمعنى: لأعميناهم؛ فلا يرون كيف يمشون؛ ويؤيد هذا مجانسة المسخ للعمى الحقيقي.
وقوله: { فاستبقوا الصرط } معناه: على الفرض والتقدير، كأنه قال: ولو شئنا لأعميناهم، فاحسب أو قدر أنهم يستبقون الصراط؛ وهو الطريق، فأنى لهم بالإبصار، وقد أعميناهم، وعبارة الثعلبي: وقال الحسن والسدي: ولو نشاء لتركناهم عميا يترددون؛ فكيف يبصرون الطريق حينئذ، انتهى، وقال ابن عباس: أراد: أعين البصائر؛ والمعنى: لو شئنا لحتمنا عليهم بالكفر؛ فلم يهتد منهم أحد أبدا، وبين تعالى في تنكيسه المعمرين، وأن ذلك مما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه، وتنكيسه: تحول خلقه من القوة إلى الضعف؛ ومن الفهم إلى البله، ونحو ذلك.
ثم أخبر تعالى عن حال نبيه محمد عليه السلام رادا على من قال من الكفرة: إنه شاعر وإن القرآن شعر بقوله: { وما علمنه الشعر... } الآية.
[36.70-76]
وقوله تعالى: { لينذر من كان حيا } أي: حي القلب والبصيرة، ولم يكن ميتا لكفره؛ وهذه استعارة، قال الضحاك: { من كان حيا } معناه: عاقلا، { ويحق القول } معناه: يحتم العذاب ويجب الخلود.
وقوله تعالى: { أولم يروا أنا خلقنا } الآية. مخاطبة لقريش أيضا.
وقوله: { أيدينا } عبارة عن القدرة، والله تعالى منزه عن الجارحة.
وقوله تعالى: { فهم لها ملكون } تنبيه على النعمة.
وقوله: { وهم لهم جند محضرون } أي: يحضرون لهم في الآخرة على معنى التوبيخ والنقمة، وسمى الأصنام جندا؛ إذ هم عدة للنقمة من الكفرة، ثم أنس الله نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: { فلا يحزنك قولهم } وتوعد الكفرة بقوله: { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون }.
[36.77-83]
وقوله تعالى: { أولم ير الإنسن أنا خلقنه من نطفة } الآية، والصحيح في سبب نزول الآية هو ما رواه ابن وهب عن مالك؛ وقاله ابن إسحاق وغيره أن أبي بن خلف؛ جاء بعظم رميم، ففته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وحياله، وقال: من يحيي هذا يا محمد؛ ولابي هذا مع النبي صلى الله عليه وسلم مقامات ومقالات إلى أن قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد؛ طعنه بحربة في عنقه.
وقوله: { ونسى خلقه } يحتمل أن يكون نسيان الذهول، ويحتمل أن يكون نسيان الترك، والرميم: البالي المتفتت، وهو الرفات، ثم دلهم سبحانه على الاعتبار بالنشأة الأولى، ثم عقب تعالى بدليل ثالث في إيجاد النار في العود الأخضر المرتوي ماء، وهذا هو زناد العرب، والنار موجودة في كل عود غير أنها في المتخلخل المفتوح المسام أوجد، وكذلك هو المرخ والعفار، وجمع الضمير جمع من يعقل في قوله: { مثلهم }؛ من حيث إن السموات والأرض متضمنة من يعقل من الملائكة والثقلين؛ هذا تأويل جماعة، وقيل: { مثلهم } عائد على الناس، وباقي الآية بين.
[37 - سورة الصافات]
[37.1-10]
قوله عز وجل: { والصفت صفا } الآية، أقسم تعالى في هذه الآية بأشياء من مخلوقاته، قال ابن مسعود وغيره: «الصافات» هي الملائكة تصف في السماء في عبادة الله عز وجل.
وقالت فرقة: المراد: صفوف بني آدم في القتال في سبيل الله، قال * ع *: واللفظ يحتمل أن يعم هذه المذكورات كلها، قال مجاهد: «والزاجرات» هي الملائكة تزجر السحاب وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى، وقال قتادة: «الزاجرات» هي آيات القرآن، و«التاليات ذكرا» معناه: القارئات، قال مجاهد: أراد الملائكة التي تتلو ذكره، وقال قتادة: أراد بني آدم الذين يتلون كتبه المنزلة وتسبيحه وتكبيره ونحو ذلك، والمقسم عليه: قوله: { إن إلهكم لواحد }.
وقوله: { مارد } قال العراقي: مارد سخط عليه، وهكذا
مريد
[الحج:3] انتهى؛ وهذا لفظه، والملأ الأعلى: أهل السماء الدنيا فما فوقها، وسمي الكل منهم أعلى؛ بالإضافة إلى ملإ الأرض الذي هو أسفل، والضمير في { يسمعون } للشياطين، وقرأ حمزة، وعاصم في رواية حفص: «لا يسمعون»، بشد السين والميم ، بمعنى: لا يتسمعون، فينتفي على قراءة الجمهور سماعهم، وإن كانوا يستمعون؛ وهو المعنى الصحيح، ويعضده قوله تعالى:
إنهم عن السمع لمعزولون
[الشعراء:212] { ويقذفون } معناه: يرجمون، والدحور: الإصغار والإهانة، لأن الدحر هو الدفع بعنف، وقال البخاري: { ويقذفون } يرمون و { دحورا } مطردين، وقال ابن عباس: «مدحورا» مطرودا، انتهى، والواصب: الدائم؛ قاله مجاهد وغيره، وقال أبو صالح: الواصب: الموجع، ومنه الوصب، والمعنى: هذه الحال هي الغالبة على جميع الشياطين إلا من شذ فخطف خبرا أو نبأ، { فأتبعه شهاب } فأحرقه، والثاقب، النافذ بضوئه وشعاعه المنير؛ قاله قتادة وغيره.
[37.11-13]
وقوله تعالى: { فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ } أي: فلا يمكنهم أن يقولوا إلا أن خلق من سواهم من الأمم والملائكة، والجن والسموات والأرض والمشارق والمغارب وغير ذلك هو أشد من هؤلاء المخاطبين، وبأن الضمير في { خلقنآ } يراد به ما تقدم ذكره، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود «أم من عددنا»؛ وكذلك قرأ الأعمش.
وقوله تعالى: { إنا خلقنهم من طين } أي: خلق أصلهم وهو آدم عليه السلام ، واللازب: اللازم: يلزم ما جاوره ويلصق به، وهو الصلصال، { بل عجبت } يا محمد من إعراضهم عن الحق، وقرأ حمزة والكسائي «بل عجبت» بضم التاء ؛ وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجب ومعنى ذلك من الله تعالى: أنه صفة فعل، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم :
" يعجب الله من الشاب ليست له صبوة "
فإنما هي عبارة عما يظهره الله تعالى في جانب المتعجب منه من التعظيم أو التحقير حتى يصير الناس متعجبين منه، قال الثعلبي: قال الحسين بن الفضل: التعجب من الله إنكار الشيء، وتعظيمه؛ وهو لغة العرب، انتهى.
وقوله: { ويسخرون } أي: وهم يسخرون من نبوتك.
[37.14-26]
وقوله: { وإذا رأوا ءاية يستسخرون } يريد بالآية: العلامة والدلالة، وروي أنها نزلت في ركانة وهو رجل من المشركين من أهل مكة؛ لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في جبل خال وهو يرعى غنما له؛ وكان أقوى أهل زمانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
" يا ركانة؛ أرأيت إن صرعتك؛ أتؤمن بي؟ قال: نعم، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا "
، ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها، ونحو ذلك مما اختلفت فيه ألفاظ الحديث، فلما فرغ ذلك لم يؤمن، وجاء إلى مكة، فقال: يا بني هاشم، ساخروا بصاحبكم أهل الأرض، فنزلت هذه الآية فيه وفي نظرائه، و { يستسخرون } قال مجاهد وقتادة: معناه: يسخرون، ثم أمر تعالى نبيه أن يجيب تقريرهم واستفهامهم عن البعث ب { نعم } ، وأن يزيدهم في الجواب، أنهم مع البعث في صغار وذلة واستكانة، والداخر: الصاغر الذليل، وقد تقدم بيانه غير ما مرة، والزجرة الواحدة: هي نفخة البعث، قال العراقي: الزجرة: الصيحة بانتهار، انتهى. و { الدين }: الجزاء، وأجمع المفسرون على أن قوله تعالى: { هذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون } ليس هو من قول الكفرة وإنما المعنى: يقال لهم.
وقوله: { وأزوجهم } معناه: أنواعهم وضرباؤهم؛ قاله عمر وابن عباس وقتادة، ومعهم { وما كانوا يعبدون * من دون الله } من آدمي رضي بذلك، ومن صنم ووثن؛ توبيخا لهم وإظهارا لسوء حالهم، وقال الحسن: { أزوجهم } نساؤهم المشركات: وقاله ابن عباس أيضا.
وقوله تعالى: { فاهدوهم } معناه: قدموهم واحملوهم على طريق الجحيم، ثم يأمر الله تعالى بوقوفهم على جهة التوبيخ لهم والسؤال، قال جمهور المفسرين: يسألون عن أعمالهم ويوقفون على قبحها، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا تزول قدما عبد... "
الحديث، قال * ع *: ويحتمل عندي أن يكون المعنى على نحو ما فسره تعالى بقوله: { مالكم لا تنصرون } أي: إنهم مسؤلون عن امتناعهم عن التناصر؛ وهذا على جهة التوبيخ، وقرأ خلق «لا تتناصرون». * ت *: قال عياض في «المدارك»: كان أبو إسحاق الجبنياني ظاهر الحزن، كثير الدمعة يسرد الصيام، قال ولده أبو الطاهر: قال لي أبي: إن إنسانا بقي في آية سنة لم يتجاوزها، وهي قوله تعالى: { وقفوهم إنهم مسئولون } فقلت له: أنت هو؟ فسكت، فعلمت أنه هو، وكان إذا دخل في الصلاة: لو سقط البيت الذي هو فيه، ما التفت، إقبالا على صلاته، واشتغالا بمناجاة ربه، وكان رحمه الله من أشد الناس تضييقا على نفسه؛ ثم على أهله، وكان يأكل البقل البري والجراد إذا وجده ويطحن قوته بيده شعيرا، ثم يجعله بنخالته دقيقا في قدر مع ما وجد من بقل بري وغيره، حتى إنه ربما رمى بشيء منه لكلب أو هر؛ فلا يأكله، وكان لباسه يجمعه من خرق المزابل ويرفعه، وكان يتوطأ الرمل، وفي الشتاء يأخذ قفاف المعاصر الملقاة على المزابل يجعلها تحته، قال ولده أبو الطاهر: وكنا إذا بقينا بلا شيء نقتاته، كنت أسمعه في الليل يقول: [البسيط]
مالي تلاد ولا استطرفت من نشب
وما أؤمل غير الله من أحد
إن القنوع بحمد الله يمنعني
من التعرض للمنانة النكد
انتهى.
[37.27-34]
وقوله تعالى: { وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون } هذه الجماعة التي يقبل بعضها على بعض هي جن وإنس؛ قاله قتادة، وتساؤلهم هو على معنى التقريع واللوم والتسخط، والقائلون: { إنكم كنتم تأتوننا } إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين؛ وهذا قول مجاهد وابن زيد، وإما أن يكون ضعفة الإنس يقولونها للكبراء والقادة، واضطرب المتأولون في معنى قولهم: { عن اليمين }؛ فعبر ابن زيد وغيره عنه بطريق الجنة، ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى، ولا يختص بنفس اللفظة، والذي يخصها معان: منها أن يريد باليمين: القوة. أي: تحملوننا على طريق الضلالة بقوة، ومنها أن يريد باليمين. اليمن، أي: تأتوننا من جهة النصائح والعمل الذي يتيمن به، ومن المعاني التي تحتملها الآية؛ أن يريدوا أنكم كنتم تجيئوننا من جهة الشهوات، وأكثر ما يتمكن هذا التأويل مع إغواء الشياطين، وقيل: المعنى تحلفون لنا، فاليمين على هذا: القسم، وقد ذهب بعض العلماء في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله:
من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمنهم وعن شمآئلهم
[الأعراف:17] إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات. ثم أخبر تعالى عن قول الجن المجيبين لهؤلاء بقولهم: { بل لم تكونوا مؤمنين } ، أي: ليس الأمر كما ذكرتم؛ بل كان لكم اكتساب الكفر؛ وما كان لنا عليكم حجة، وبنحو هذا فسر قتادة وغيره أنه قول الجن إلى { غوين }. ثم أخبر تعالى بأنهم جميعا في العذاب مشتركون، وأن هذا فعله بأهل الجرم والكفر.
[37.35-39]
وقوله سبحانه: { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله... } الآية، قلت: جاء في فضل «لا إله إلا الله» أحاديث كثيرة؛ فمنها ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" قال موسى: يا رب؛ علمني شيئا أذكرك به، وأدعوك به، قال: قل، يا موسى: «لا إله إلا الله» قال: يا رب، كل عبادك يقول هذا، قال: قل: «لا إله إلا الله» قال: إنما أريد شيئا تخصني به، قال: يا موسى، لو أن السموات السبع والأرضين السبع في كفة، و«لا إله إلا الله» في كفة مالت بهن «لا إله إلا الله» "
رواه النسائي وابن حبان في «صحيحه»، واللفظ لابن حبان، وعنه صلى الله عليه وسلم قال:
" وقول لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يشبهها عمل "
، رواه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» وقال صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح»، والطائفة التي قالت: { أئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون } هي قريش وإشارتهم بالشاعر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرد الله عليهم بقوله: { بل جآء بالحق وصدق المرسلين } الذين تقدموه، ثم أخبر تعالى مخاطبا لهم بقوله: { إنكم لذآئقو العذاب الأليم } الآية.
[37.40-48]
وقوله تعالى: { إلا عباد الله المخلصين } استثناء منقطع وهؤلاء المؤمنون.
وقوله: { معلوم } معناه: عندهم.
وقوله: { بيضآء } يحتمل أن يعود على الكأس، ويحتمل أن يعود على الخمر، وهو أظهر قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، وفي قراءة ابن مسعود: «صفراء» فهذا وصف الخمر وحدها، والغول: اسم عام في الأذى، وقال ابن عباس وغيره: الغول: وجع في البطن، وقال قتادة هو صداع في الرأس و { ينزفون } من قولك: نزف الرجل إذا سكر، وبإذهاب العقل فسره ابن عباس، وقرأ حمزة والكسائي «ينزفون» بكسر الزاي من «أترف» وله معنيان.
[أحدهما: سكر.
والثاني: نفد شرابه.
وهذا كله منفي عن أهل الجنة.
و { قصرت الطرف } قال ابن عباس وغيره معناه على أزواجهن، أي: لا ينظرن إلى غيرهم، و { عين }: جمع «عيناء»، وهي الكبيرة العينين في جمال.
[37.49-53]
وقوله تعالى: { كأنهن بيض مكنون } قال ابن جبير والسدي: شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخلي، وهو المكنون، أي المصون، ورجحه الطبري، وقال الجمهور: شبه ألوانهن بلون قشر البيضة من النعام، وهو بياض قد خالطته صفرة حسنة، و { مكنون } أي: بالريش، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري: «البيض المكنون» أراد به الجوهر المصون، قال * ع *: وهذا يرده لفظ الآية، فلا يصح عن ابن عباس.
وقوله تعالى: { فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون * قال قآئل منهم... } الآية، هذا التساؤل الذي بين أهل الجنة هو تساؤل راحة وتنعم؛ يتذاكرون أمورهم في الجنة وأمر الدنيا وحال الطاعة والإيمان فيها، ثم أخبر تعالى عن قول قائل منهم في قصته، وهو مثال لكل من له قرين سوء، فيعطي هذا المثال التحفظ من قرناء السوء، قال الثعلبي: قوله: { إنى كان لى قرين } قال مجاهد: كان شيطانا، انتهى، وقال ابن عباس وغيره: كان هذان من البشر؛ مؤمن وكافر، وقال فرات بن ثعلبة البهراني في قصص هذين: إنهما كانا شريكين بثمانية آلاف دينار، فكان أحدهما مشغولا بعبادة الله، وكان الآخر كافرا مقبلا على ماله، فحل الشركة مع المؤمن وبقي وحده لتقصير المؤمن في التجارة، وجعل الكافر كلما اشترى شيئا من دار أو جارية أو بستان ونحوه، عرضه على المؤمن وفخر عليه، فيمضي المؤمن عند ذلك، ويتصدق بنحو ذلك؛ ليشتري به من الله تعالى في الجنة، فكان من أمرهما في الآخرة ما تضمنته هذه الآية، وحكى السهيلي أن هذين الرجلين هما المذكوران في قوله تعالى:
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعنب
الآية [الكهف:32] انتهى، و { مدينون } معناه: مجازون محاسبون؛ قاله ابن عباس وغيره.
[37.54-61]
وقوله تعالى: { قال هل أنتم مطلعون } الآية، في الكلام حذف، تقديره: فقال لهذا الرجل حاضروه من الملائكة: إن قرينك هذا في جهنم يعذب فقال عند ذلك: { هل أنتم مطلعون } يخاطب ب«أنتم» الملائكة أو رفقاءه في الجنة أو خدمته؛ وكل هذا حكى المهدوي، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين «مطلعون» بسكون الطاء وفتح النون، وقرىء شاذا «مطلعون» بسكون الطاء وكسر النون ، قال ابن عباس وغيره: { سوآء الجحيم } وسطه، فقال له المؤمن عند ذلك: { تالله إن كدت لتردين } أي: لتهلكني بإغوائك، والردى: الهلاك، وقول المؤمن: { أفما نحن بميتين } إلى قوله: { بمعذبين } يحتمل أن تكون مخاطبة لرفقائه في الجنة، لما رأى ما نزل بقرينه، ونظر إلى حاله في الجنة وحال رفقائه؛ قدر النعمة قدرها، فقال لهم على جهة التوقيف على النعمة: أفما نحن بميتين ولا معذبين، ويجيء على هذا التأويل قوله: { إن هذا لهو الفوز العظيم } إلى قوله: { العملون } متصلا بكلامه خطابا لرفقائه، ويحتمل قوله: { أفما نحن بميتين } أن تكون مخاطبة لقرينه؛ على جهة التوبيخ، كأنه يقول: أين الذي كنت تقول من أنا نموت وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب، ويكون قوله تعالى: { إن هذا لهو الفوز العظيم } إلى قوله: { العملون } يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه؛ وإليه ذهب قتادة، ويحتمل أن يكون من خطاب الله تعالى لمحمد عليه السلام وأمته، ويقوي هذا قوله: { لمثل هذا فليعمل العملون } وهو حض على العمل؛ والآخرة ليست بدار عمل
[37.62-72]
وقوله تعالى: { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم } المراد بالآية: تقرير قريش والكفار، قال * ع *: وفي بعض البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرة مرة مسمومة لها لبن، إن مس جسم أحد؛ تورم ومات منه في أغلب الأمر؛ تسمى شجرة الزقوم، والتزقم في كلام العرب: البلع على شدة وجهد.
وقوله تعالى: { إنا جعلنها فتنة للظلمين } قال قتادة ومجاهد والسدي: يريد أبا جهل ونظراءه، وقد تقدم بيان ذلك.
وقوله تعالى: { كأنه رءوس الشيطين } اختلف في معناه؛ فقالت فرقة: شبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لها «رءوس الشياطين»، وهي بناحية اليمن، يقال لها: «الأستن»، وقالت فرقة: شبه برؤوس صنف من الحيات يقال لها «الشياطين»، وهي ذوات أعراف، وقالت فرقة: شبه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها؛ وإن كانت لا ترى؛ لأن الناس إذا وصفوا شيئا بغاية القبح قالوا: كأنه شيطان؛ ونحو هذا قول امرىء القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فإنما شبه بما استقر في النفوس من هيئتها، والشوب: المزاج والخلط؛ قاله ابن عباس وقتادة، والحميم: السخن جدا من الماء؛ ونحوه، فيريد به ههنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ينماع منهم؛ هذا قول جماعة من المفسرين.
وقوله تعالى: { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } كقوله تعالى:
يطوفون بينها وبين حميم ءان
[الرحمن:44] وقوله سبحانه: { إنهم ألفوا ءاباءهم... } الآية، تمثيل لقريش و { يهرعون } معناه: يسرعون؛ قاله قتادة وغيره، وهذا تكسبهم للكفر وحرصهم عليه.
[37.73-76]
وقوله تعالى: { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } يقتضي الإخبار بأنه عذبهم؛ ولذلك حسن الاستثناء في قوله: { إلا عباد الله المخلصين } ونداء نوح تضمن أشياء؛ كطلب النصرة والدعاء على قومه وغير ذلك، قال أبو حيان: وقوله: { فلنعم المجيبون } جواب قسم كقوله: [من الطويل]
يمينا لنعم السيدان وجدتما
......................
والمخصوص بالمدح محذوف، أي: فلنعم المجيبون نحن، انتهى.
[37.77-82]
وقوله تعالى: { وجعلنا ذريته هم البقين } قال ابن عباس وقتادة: أهل الأرض كلهم من ذرية نوح، وقالت فرقة: إن الله تعالى أبقى ذرية نوح ومد نسله، وليس الأمر بأن أهل الدنيا انحصروا إلى نسله، بل في الأمم من لا يرجع إليه، والأول أشهر عن علماء الأمة، وقالوا: نوح هو آدم الأصغر، قال السهيلي: ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال في قوله عز وجل : { وجعلنا ذريته هم البقين }: [إنهم] سام وحام ويافث، انتهى.
وقوله تعالى: { وتركنا عليه فى الأخرين } معناه: ثناء حسنا جميلا باقيا آخر الدهر؛ قاله ابن عباس وغيره، و { سلم } رفع بالابتداء مستأنف، سلم الله به عليه ليقتدي بذلك البشر. * ت *: قال أبو عمر في «التمهيد»: قال سعيد يعني: ابن عبد الرحمن الجمحي : بلغني أنه من قال حين يمسي: { سلم على نوح فى العلمين } لم تلدغه عقرب، ذكر هذا عند قول النبي صلى الله عليه وسلم للأسلمي الذي لدغته عقرب:
" أما لو أنك قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله "
، قال أبو عمر: وروى [ابن وهب] هذا الحديث عن مالك يعني: حديث:
" أعوذ بكلمات الله التامات "
بإسناده مثل ما في الموطإ، إلا أنه قال في آخره:
" لم يضرك شيء "
انتهى.
وقوله تعالى: { ثم أغرقنا الأخرين } قال جماعة من العلماء: إن الغرق عم جميع الناس، وأسندوا في ذلك أحاديث، قالوا: ولم يكن الناس حينئذ بهذه الكثرة؛ لأن عهد آدم كان قريبا، وكانت دعوة نوح ونبوته قد بلغت جميعهم، لطول المدة واللبث فيهم، فتمادوا على كفرهم، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه من عبادة الرحمن؛ فلذلك أغرق الله جميعهم.
[37.83-87]
وقوله تعالى: { وإن من شيعته } قال ابن عباس وغيره: الضمير عائد على نوح، والمعنى: في الدين والتوحيد، وقال الطبري وغيره عن الفراء: الضمير عائد على محمد، والإشارة إليه.
وقوله: { أئفكا } استفهام بمعنى التقرير، أي: أكذبا ومحالا، { ءالهة دون الله تريدون }.
وقوله: { فما ظنكم } توبيخ وتحذير وتوعد.
[37.88-90]
وقوله تعالى: { فنظر نظرة فى النجوم } روي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوا إبراهيم عليه السلام إلى الخروج معهم، فنظر حينئذ، واعتذر بالسقم، وأراد البقاء ليخالفهم إلى الأصنام، وروي أن علم النجوم كان عندهم منظورا فيه مستعملا؛ فأوهمهم هو من تلك الجهة، قالت فرقة: وقوله: { إنى سقيم } من المعاريض الجائزة.
[37.91-102]
وقوله تعالى: { فراغ إلى ءالهتهم } «راغ» معناه: مال.
وقوله: { ألا تأكلون } هو على جهة الاستهزاء بعبدة تلك الأصنام، ثم مال عند ذلك إلى ضرب تلك الأصنام بفأس حتى جعلها جذاذا، واختلف في معنى قوله: { باليمين } فقال ابن عباس: أراد يمنى يديه، وقيل: أراد بقوته؛ لأنه كان يجمع يديه معا بالفأس، وقيل: أراد باليمين، القسم في قوله:
وتالله لأكيدن أصنمكم
[الأنبياء:57] والضمير في «أقبلوا» لكفار قومه و { يزفون } معناه: يسرعون، واختلف المتأولون في قوله: { وما تعملون } فمذهب جماعة من المفسرين: أن «ما» مصدرية ، والمعنى: أن الله خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق الله تعالى أفعال العباد؛ وهو مذهب أهل السنة، وقالت فرقة: «ما» بمعنى: الذي، «والبنيان» قيل: كان في موضع إيقاد النار، وقيل: بل كان للمنجنيق الذي رمي عنه، والله أعلم.
وقوله: { إنى ذاهب إلى ربى... } الآية، قالت فرقة: كان قوله هذا بعد خروجه من النار، وأنه أشار بذهابه إلى هجرته من [أرض] بابل؛ حيث كانت مملكة نمرود، فخرج إلى الشام، وقالت فرقة: قال هذه المقالة قبل أن يطرح في النار؛ وإنما أراد لقاء الله؛ لأنه ظن أن النار سيموت فيها، وقال: { سيهدين } أي: إلى الجنة؛ نحا إلى هذا المعنى قتادة، قال * ع *: وللعارفين بهذا الذهاب تمسك واحتجاج في الصفاء، وهو محمل حسن في { إنى ذاهب } وحده، والتأويل الأول أظهر في نمط الآية، بما يأتي بعد؛ لأن الهداية معه تترتب، والدعاء في الولد كذلك، ولا يصح مع ذهاب الموت، وباقي الآية تقدم قصصها، وأن الراجح أن الذبيح هو إسماعيل، وذكر الطبري أن ابن عباس قال: الذبيح، إسماعيل، وتزعم اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود، وذكر أيضا أن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك رجلا يهوديا كان أسلم وحسن إسلامه، فقال: الذبيح هو إسماعيل، وإن اليهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب: أن تكون هذه الآيات والفضل والله في أبيكم، والسعي في هذه الآية: العمل والعبادة والمعونة، قاله ابن عباس وغيره، وقال قتادة: السعي على القدم يريد سعيا متمكنا، وهذا في المعنى نحو الأول.
وقوله: { إنى أرى فى المنام... } الآية، يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينه؛ ورؤيا الأنبياء وحي، وعين له وقت الامتثال، ويحتمل أنه أمر في نومه بذبحه، فعبر عن ذلك بقوله: { إنى أرى } أي: أرى ما يوجب أن أذبحك، قال ابن العربي في «أحكامه»: واعلم أن رؤيا الأنبياء وحي فما ألقي إليهم، ونفث به الملك في روعهم، وضرب المثل له عليهم فهو حق؛ ولذلك قالت عائشة: وما كنت أظن أنه ينزل في قرآن يتلى، ولكني رجوت أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها، وقد بينا حقيقة الرؤيا، وأن الباري تعالى يضربها مثلا للناس، فمنها أسماء وكنى، ومنها رؤيا تخرج بصفتها، ومنها رؤيا تخرج بتأويل، وهو كنيتها. ولما استسلم إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام لقضاء الله، أعطي إبراهيم ذبيحا فداء، وقيل له: هذا فداء ولدك، فامتثل فيه ما رأيت؛ فإنه حقيقة ما خاطبناك فيه، وهو كناية لا اسم، وجعله مصدقا للرؤيا بمبادرة الامتثال، انتهى.
[37.103-124]
وقوله تعالى: { فلما أسلما } أي: أسلما أنفسهما، واستسلما لله عز وجل ، وقرأ ابن عباس وجماعة: «سلما»، والمعنى فوضا إليه في قضائه وقدره سبحانه ، فأسلم إبراهيم ابنه، وأسلم الابن نفسه، قال بعض البصريين: جواب «لما» محذوف تقديره: فلما أسلما وتله للجبين، أجزل أجرهما، ونحو هذا مما يقتضيه المعنى، { وتله } معناه: وضعه بقوة ومنه الحديث في القدح: فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، أي: وضعه بقوة، و { للجبين } معناه: لتلك الجهة وعليها، كما يقولون في المثل: [الطويل]
.............
وخر صريعا لليدين وللفم
وكما تقول: سقط لشقه الأيسر، والجبينان: ما اكتنف الجبهة من ههنا، ومن ههنا، و«أن» من قوله: { أن يإبرهيم } مفسرة لا موضع لها من الإعراب، و { صدقت الرؤيا } يحتمل أن يريد بقلبك أو بعملك، و«الرؤيا» اسم لما يرى من قبل الله تعالى ، والمنام والحلم: اسم لما يرى من قبل الشيطان؛ ومنه الحديث الصحيح:
" الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان "
، و { البلاء }: الاختبار، والذبح العظيم في قول الجمهور: كبش أبيض أعين، وجده وراءه مربوطا بسمرة، وأهل السنة على أن هذه القصة نسخ فيها العزم على الفعل؛ خلافا للمعتزلة، قال أحمد بن نصر الداوودي: وإن نسخ الله آية قبل العمل بها؛ فإنما ينسخها بعد اعتقاد قبولها وهو عمل انتهى من تفسيره عند قوله تعالى:
ما ننسخ من ءاية
[البقرة:106] قال * ع *: ولا خلاف أن إبراهيم أمر الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع، والجمهور أن أمر الذبح كان بمنى، وقال الشعبي: رأيت قرني كبش إبراهيم معلقتين في الكعبة، وروى عمران بن حصين : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يا فاطمة، قومي لاضحيتك، فاشهديها؛ فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه، وقولي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين "
قال عمران: قلت: يا رسول الله، هذا لك ولأهل بيتك خاصة، أم للمسلمين عامة؟ قال: «لا، بل للمسلمين عامة» رواه الحاكم في «المستدرك» انتهى من «السلاح».
وقوله تعالى: { وظلم لنفسه } توعد لمن كفر من اليهود بمحمد عليه السلام ، و { الكتب المستبين }: هو التوراة، قال قتادة وابن مسعود: إلياس: هو إدريس عليه السلام ، وقالت فرقة: هو من ولد هارون، وقرأ نافع وابن عامر: «على آل ياسين»، وقرأ الباقون: «على إلياسين» بألف مكسورة ولام ساكنة ، فوجهت الأولى؛ على أنها بمعنى: «أهل»، و«ياسين»: اسم لإلياس، وقيل: هو اسم لمحمد عليه السلام ، ووجهت الثانية على أنها جمع «إلياسي»، وقرأ ابن مسعود والأعمش: «وإن إدريس لمن المرسلين، وسلام على إدريسين»، قال السهيلي: قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا؛ ف«ياسين»، و«إلياس» و«الياسين» شيء واحد، انتهى.
* ت *: وحكى الثعلبي هنا حكاية عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن رجل لقي إلياس في أيام مروان بن الحكم، وأخبره بعدد الأبدال وعن الخضر في حكاية طويلة لا ينبغي إنكار مثلها؛ فأولياء الله يكاشفون بعجائب، فلا يحرم الإنسان التصديق بها، جعلنا الله من زمرة أوليائه، انتهى.
[37.125-138]
وقوله: { أتدعون بعلا } معناه: أتعبدون، قال الحسن والضحاك وابن زيد: بعل: اسم صنم: كان لهم، ويقال له: بعلبك، وذكر ابن إسحاق عن فرقة: أن بعلا اسم امرأة كانت أتتهم بضلالة، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «الله ربكم ورب آبائكم» كل ذلك بالنصب بدلا من قوله: { أحسن الخالقين } وقرأ الباقون كل ذلك بالرفع على القطع والاستئناف، والضمير في { فكذبوه } عائد على قوم إلياس، و { لمحضرون } معناه: مجموعون لعذاب الله.
وقوله تعالى: { وإنكم لتمرون عليهم } مخاطبة لقريش، ثم وبخهم بقوله: { أفلا تعقلون }.
[37.139-142]
وقوله تعالى: { وإن يونس... } الآية هو يونس بن متى صلى الله عليه وسلم، وهو من بني إسرائيل.
وقوله تعالى: { إذ أبق } الآية، وذلك أنه لما أخبر قومه بوقت مجيء العذاب، وغاب عنهم، ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب أنابوا إلى الله، فقبل توبتهم، فلما مضى وقت العذاب، ولم يصبهم، قال يونس: لا أرجع إليهم بوجه كذاب، وروي أنه كان في سيرتهم أن يقتلوا الكذاب فأبق إلى الفلك، أي: أراد الهروب، ودخل في البحر، وعبر عن هروبه بالإباق من حيث [إنه] فر عن غير إذن مولاه، فروي عن ابن مسعود؛ أنه لما حصل في السفينة، وأبعدت في البحر، ركدت ولم تجر؛ وغيرها من السفن يجري يمينا وشمالا، فقال أهلها إن فينا لصاحب ذنب وبه يحبسنا الله تعالى، فقالوا: لنقترع، فأخذوا لكل واحد سهما، واقترعوا، فوقعت القرعة على يونس، ثلاث مرات، فطرح حينئذ نفسه، والتقمه الحوت، وروي أن الله تعالى أوحى إلى الحوت أني لم أجعل يونس لك رزقا، وإنما جعلت بطنك له حرزا وسجنا، فهذا معنى { فسهم }.
والمدحض: المغلوب في محاجة أو مساهمة، وعبارة ابن العربي في «الأحكام»: «وأوحى الله تعالى إلى الحوت: إنا لم نجعل يونس لك رزقا، وإنما جعلنا بطنك له مسجدا» الحديث، انتهى، ولفظة «مسجد»: أحسن من السجن، فرحم الله عبدا لزم الأدب لا سيما مع أنبيائه وأصفيائه، وال«مليم»: الذي أتى ما يلام عليه؛ وبذلك فسر مجاهد وابن زيد.
[37.143-144]
وقوله سبحانه: { فلولا أنه كان من المسبحين } قيل: المراد: القائلين: سبحان الله في بطن الحوت؛ قاله ابن جريج، وقالت فرقة: بل التسبيح هنا الصلاة، قال ابن عباس وغيره: صلاته في وقت الرخاء نفعته في وقت الشدة؛ وقال هذا جماعة من العلماء، وقال الضحاك بن قيس على منبره: اذكروا الله؛ عباد الله؛ في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبدا لله ذاكرا له، فلما أصابته الشدة نفعه ذلك، قال الله عز وجل : { فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون } ، وإن فرعون كان طاغيا باغيا فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فلم ينفعه ذلك ، فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، وقال ابن جبير: الإشارة بقوله: { من المسبحين } إلى قوله:
لا إله إلا أنت سبحنك إنى كنت من الظلمين
[الأنبياء:87].
[37.145-146]
وقوله سبحانه: { فنبذنه بالعراء... } الآية، «العراء»: الأرض الفيحاء التي لا شجر فيها ولا معلم، قال ابن عباس وغيره قي قوله: { وهو سقيم }: إنه كالطفل المنفوس، بضعة لحم، وقال بعضهم: كاللحم النيء، إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء، فأنعشه الله في ظل اليقطينة بلبن أروية [كانت تغاديه وتراوحه، وقيل: بل كان يتغذى من اليقطينة، ويجد منها ألوان الطعام وأنواع] شهواته، قال ابن عباس وأبو هريرة وعمرو بن ميمون: اليقطين: القرع خاصة، وقيل، كل ما لا يقوم على ساق كالبقول والقرع والبطيخ ونحوه مما يموت؛ من عامه، ومشهور اللغة أن اليقطين هو القرع، فنبت لحم يونس عليه السلام وصح، وحسن لونه، لأن ورق القرع أنفع شيء لمن تسلخ جلده، وهو يجمع خصالا حميدة، برد الظل [ولين] الملمس، وأن الذباب لا يقربها، حكى النقاش أن ماء ورق القرع إذا رش به مكان، لم يقربه ذباب، وروي أنه كان يوما نائما، فأيبس الله تلك اليقطينة، وقيل: بعث عليها الأرضة فقطعت ورقها، فانتبه يونس لحر الشمس، فعز عليه شأنها، وجزع له؛ فأوحى الله إليه: يا يونس، جزعت ليبس اليقطينة، ولم تجزع لإهلاك مائة ألف أو يزيدون تابوا فتبت عليهم.
[37.147-157]
وقوله تعالى: { وأرسلنه إلى مائة ألف أو يزيدون } قال الجمهور: إن هذه الرسالة هي رسالته الأولى ذكرها الله في آخر القصص، وقال قتادة وغيره: هذه رسالة أخرى بعد أن نبذ بالعراء، وهي إلى أهل «نينوى» من ناحية الموصل، وقرأ الجمهور: «أو يزيدون» فقال ابن عباس: «أو» بمعنى «بل» وروي عنه أنه قرأ: «بل يزيدون» وقالت فرقة: «أو» هنا بمعنى الواو، وقرأ جعفر بن محمد: «ويزيدون» وقال المبرد، وكثير من البصريين: قوله: { أو يزيدون } المعنى: على نظر البشر وحزرهم، أي: من رآهم قال: مائة ألف أو يزيدون، وروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا مائة وعشرين ألفا. * ت *: وعبارة أحمد بن نصر الداوودي: وعن أبي بن كعب قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين:
الحسنى وزيادة
[يونس:26] { وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون } قال يزيدون عشرين ألفا، وأحسبه قال: الحسنى: الجنة، «والزيادة» النظر إلى وجه الله عز وجل ، انتهى، وفي قوله: { فئامنوا فمتعنهم إلى حين } مثال لقريش إن آمنوا، ومن هنا حسن انتقال القول والمحاورة إليهم بقوله: { فاستفتهم }؛ فإنما يعود على ضميرهم، على ما في المعنى من ذكرهم، والاستفتاء: السؤال؛ وهو هنا بمعنى التقريع والتوبيخ في جعلهم البنات لله، تعالى الله عن قولهم، ثم أخبر [الله] تعالى عن فرقة منهم بلغ بها الإفك والكذب إلى أن قالت: ولد الله الملائكة؛ لأنه نكح في سروات الجن، تعالى الله عن قولهم، وهذه فرقة، من بني مدلج فيما روي، وقرأ الجمهور: «أصطفى البنات» بهمزة الاستفهام على جهة التقريع والتوبيخ.
[37.158-160]
وقوله تعالى: { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } الجنة هنا: قيل: هم الملائكة: لأنها مستجنة، أي: مستترة، وقيل: الجنة هم الشياطين، والضمير في { وجعلوا } لفرقة من كفار قريش والعرب، { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } أي: ستحضر أمر الله وثوابه وعقابه، ثم نزه تعالى نفسه عما يصفه الكفرة، ومن هذا استثنى عباده المخلصين؛ لأنهم يصفونه بصفاته العلا، وقالت فرقة: استثناهم من قوله: { لمحضرون } وعبارة الثعلبي: { ولقد علمت الجنة } أي: الملائكة أن قائلي هذه المقالة من الكفرة { لمحضرون } في النار، وقيل للحساب، والأول أولى لأن الإحضار متى جاء في هذه الصورة عني به العذاب { إلا عباد الله المخلصين } فإنهم ناجون من النار، انتهى، وفي البخاري { لمحضرون } أي: سيحضرون للحساب، انتهى.
[37.161-173]
وقوله تعالى: { فإنكم وما تعبدون } بمعنى: قل لهم يا محمد، إنكم وأصنامكم ما أنتم بمضلين أحدا بسببها وعليها إلا من قد سبق عليه القضاء؛ فإنه يصلى الجحيم في الآخرة وليس لكم إضلال من هدى الله تعالى، وقالت فرقة: { عليه } بمعنى: «به» والفاتن: المضل في هذا الموضع؛ وكذلك فسره ابن عباس وغيره، وحذفت الياء من { صال } للإضافة.
ثم حكى سبحانه قول الملائكة { وما منا إلا له مقام معلوم }؛ وهذا يؤيد أن الجنة أراد بها الملائكة، وتقدير الكلام وما منا ملك، وروت عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم :
" أن السماء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي "
، وعن ابن مسعود وغيره نحوه.
و { الصافون } معناه: الواقفون صفوفا، و { المسبحون } ، يحتمل أن يريد به الصلاة، ويحتمل أن يريد قول: سبحان الله، قال الزهراوي: قيل: إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة؛ مذ نزلت هذه الآية، ولا يصطف أحد من أهل الملل غير المسلمين، ثم ذكر تعالى مقالة بعض الكفار، قال قتادة وغيره: فإنهم قبل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: لو كان لنا كتاب أو جاءنا رسول، لكنا عباد الله المخلصين، فلما جاءهم محمد كفروا به، فسوف يعلمون، وهذا وعيد محض، ثم آنس تعالى نبيه وأولياءه بأن القضاء قد سبق، والكلمة قد حقت بأن رسله سبحانه هم المنصورون، على من ناوأهم، وجند الله هم الغزاة.
[37.174-182]
وقوله تعالى: { فتول عنهم } أمر لنبيه بالموادعة، ووعد جميل، و { حتى حين } قيل هو يوم بدر، وقيل: يوم القيامة.
وقوله تعالى: { وأبصرهم فسوف يبصرون } وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم، ثم وبخهم على استعجال العذاب { فإذا نزل } أي: العذاب، { بساحتهم فساء صباح المنذرين } والساحة الفناء، وسوء الصباح: أيضا مستعمل في ورود الغارات، قلت: ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر:
" الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين "
انتهى، وقرأ ابن مسعود: «فبئس صباح»، والعزة في قوله: { رب العزة } هي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين؛ وكذلك قال الفقهاء من أجل أنها مربوبة؛ قال محمد بن سحنون وغيره: من حلف بعزة الله، فإن كان أراد صفته الذاتية، فهي يمين، وإن كان أراد عزته التي خلق بين عباده، وهي التي في قوله: { رب العزة } فليست بيمين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا سلمتم علي، فسلموا على المرسلين ؛ فإنما أنا أحدهم "
صلى الله عليه وعلى آله وعلى جميع النبيين وسلم.
[38 - سورة ص]
[38.1-5]
قرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق: «صاد» بكسر الدال ، والمعنى: ماثل القرآن بعملك، وقاربه بطاعتك، وكذا فسره الحسن، أي: انظر أين عملك منه، وقال الجمهور: إنه حرف معجم يدخله ما يدخل أوائل السور من الأقوال، ويختص هذا بأن قال بعض الناس: معناه: صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الضحاك: معناه: صدق الله، وقال محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله: صمد صادق، ونحوه.
وقوله: { والقرءان ذى الذكر } قسم؛ قال ابن عباس وغيره: معناه: ذي الشرف الباقي المخلد، وقال قتادة: ذي التذكرة للناس والهداية لهم، وقالت فرقة: ذي الذكر للأمم والقصص والغيوب، * ت *: ولا مانع [من] أن يراد الجميع، قال * ع *: وأما جواب القسم، فاختلف فيه؛ فقالت فرقة: الجواب في قوله: { ص }؛ إذ هو بمعنى: صدق الله أو صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الكوفيون والزجاج: الجواب في قوله:
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار
[ص:64]، وقال بعض البصريين ومنهم الأخفش: الجواب في قوله:
إن كل إلا كذب الرسل
[ص:14] قال * ع *: وهذان القولان بعيدان، وقال قتادة والطبري: الجواب مقدر قبل «بل»، وهذا هو الصحيح، وتقديره: والقرآن، ما الأمر كما يزعمون، ونحو هذا من التقدير، فتدبره، وقال أبو حيان: الجواب: إنك لمن المرسلين، وهو ما أثبت جوابا للقرآن حين أقسم به، انتهى، وهو حسن، قال أبو حيان: وقوله: { فى عزة } هي قراءة الجمهور، وعن الكسائي بالغين المعجمة والراء، أي: في غفلة، انتهى.
والعزة هنا: المعازة والمغالبة والشقاق ونحوه، أي: هم في شق، والحق في شق، وكم للتكثير، وهي خبر فيه مثال ووعيد، وهي في موضع نصب ب { أهلكنا }.
وقوله: { فنادوا } معناه: مستغيثين، والمعنى: أنهم فعلوا ذلك بعد المعاينة، فلم ينفعهم ذلك؛ ولم يكن في وقت نفع، { ولات } بمعنى: ليس، واسمها مقدر عند سيبويه، تقديره: ولات الحين حين مناص، والمناص: المفر، ناص ينوص: إذا فر وفات، قال ابن عباس: المعنى: ليس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم، والضمير في { وعجبوا } لكفار قريش.
[38.6-8]
قوله تعالى: { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على ءالهتكم } الآية،
" روي في قصص هذه الآية، أن أشراف قريش اجتمعوا عند مرض أبي طالب، وقالوا: إن من القبيح علينا أن يموت أبو طالب، ونؤذي محمدا بعده، فتقول العرب: تركوه مدة عمه، فلما مات آذوه، ولكن لنذهب إلى أبي طالب فينصفنا منه ويربط بيننا وبينه ربطا، فنهضوا إليه، فقالوا: يا أبا طالب: إن محمدا يسب آلهتنا، ويسفه آراءنا، ونحن لا نقاره على ذلك، ولكن افصل بيننا وبينه في حياتك بأن يقيم في منزله يعبد ربه الذي يزعم ويدع آلهتنا وسبها، ولا يعرض لأحد منا بشيء من هذا، فبعث أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن قومك قد دعوك إلى النصفة، وهي أن تدعهم وتعبد ربك وحدك، فقال: أو غير ذلك يا عم؟ قال: وما هو؟ قال: يعطونني كلمة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم الجزية بها العجم، قالوا: وما هي؟! فإنا نبادر إليها! قال: «لا إله إلا الله»؛ فنفروا عند ذلك، وقالوا: ما يرضيك منا غير هذا؟ قال: «والله، لو أعطيتموني الأرض ذهبا ومالا» "
وفي رواية
" لو جعلتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما أرضى منكم غيرها "
فقاموا عند ذلك، وبعضهم يقول لبعض: { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } ، ويرددون هذا المعنى، وعقبة بن أبي معيط يقول: { امشوا واصبروا على ءالهتكم } ، فقوله تعالى: { وانطلق الملأ } عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وانطلاقهم من ذلك الجمع، هذا قول جماعة من المفسرين.
وقوله: { أن امشوا } نقل الإمام الفخر أن «أن» بمعنى: «أي»، انتهى، وقولهم: { إن هذا لشىء يراد } يريدون ظهور محمد وعلوه، أي: يراد منا الانقياد له، وأن نكون له أتباعا، ويريدون بالملة الآخرة ملة عيسى، قاله ابن عباس، وغيره؛ وذلك أنها ملة شهر فيها التثليث.
ثم توعدهم سبحانه بقوله: { بل لما يذوقوا عذاب } أي: لو ذاقوه، لتحققوا أن هذه الرسالة [حق].
[38.9-14]
وقوله تعالى: { أم عندهم خزائن رحمة ربك... } الآية، عبارة الثعلبي: { أم عندهم خزائن رحمة ربك } يعني: مفاتيح النبوة حتى يعطوا من اختاروا، نظيرها
أهم يقسمون رحمت ربك
[الزخرف:32].
قوله تعالى: { أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما } يعني: أن ذلك لله تعالى؛ يصطفي من يشاء { فليرتقوا فى الأسباب } فليصعدوا فيما يوصلهم إلى السموات، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون، وهذا أمر توبيخ وتعجيز، انتهى، ونحوه كلام * ع.
ثم وعد الله نبيه النصر، فقال: { جند ما هنالك مهزوم } أي: مغلوب ممنوع من الصعود إلى السماء، { من الأحزاب } أي: من جملة الأحزاب، قال * ع *: وهذا تأويل قوي، وقالت فرقة: الإشارة ب { هنالك } إلى حماية الأصنام وعضدها، أي: هؤلاء القوم جند مهزوم في هذه السبيل، وقال مجاهد: الإشارة ب«هنالك» إلى يوم بدر، وهي من الأمور المغيبة أخبر بها عليه السلام.
«وما» في قوله: { جند ما } زائدة مؤكدة، وفيها تخصيص، وباقي الآية بين.
وقال أبو حيان { جند } خبر مبتدإ محذوف، أي: هم جند وما زائدة أو صفة أريد بها التعظيم على سبيل الهزء بهم أو الاستخفاف؛ لأن الصفة تستعمل على هذين المعنيين، و { هنالك } ظرف مكان يشار به إلى البعيد، في موضع صفة ل { جند } ، أي: كائن هنالك، أو متعلق ب { مهزوم } ، انتهى.
[38.15-19]
وقوله تعالى: { وما ينظر هؤلآء } أي: ينتظر، { إلا صيحة وحدة } قال قتادة: توعدهم سبحانه بصيحة القيامة والنفخ في الصور، قال الثعلبي: وقد روي هذا التفسير مرفوعا، وقالت طائفة: توعدهم الله بصيحة يهلكون بها في الدنيا، { ما لها من فواق } قرأ الجمهور بفتح الفاء ، وقرأ حمزة والكسائي «فواق» بضم الفاء ، قال ابن عباس: هما بمعنى، أي: ما لها من انقطاع وعودة، بل هي متصلة حتى تهلكهم، ومنه: فواق الحلب، وهو المهلة التي بين «الشخبين»، وقال ابن زيد وغيره: المعنى مختلف، فالضم كما تقدم من معنى فواق الناقة، والفتح بمعنى الإفاقة، أي: لا يفيقون فيها كما يفيق المريض، والمغشي عليه، والقط: الحظ والنصيب، والقط أيضا الصك والكتاب من السلطان بصلة، ونحوه، واختلف في القط هنا، ما أرادوا به؟ فقال ابن جبير: أرادوا به: عجل لنا نصيبنا من الخير والنعيم في دنيانا، وقال أبو العالية: أرادوا عجل لنا صحفنا بأيماننا؛ وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطى يوم القيامة بالأيمان والشمائل، وقال ابن عباس وغيره: أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه، وهذا نظير قولهم
فأمطر علينا حجارة من السماء
[الأنفال:32] قال * ع *: وعلى كل تأويل، فكلامهم خرج على جهة الاستخفاف والهزء.
{ واذكر عبدنا * داوود ذا الأيد } أي: فتأس به ولا تلتفت إلى هؤلاء، «والأيد» القوة في الدين والشرع والصدع به، وال { أواب } الرجاع إلى طاعة الله، وقاله مجاهد وابن زيد وفسره السدي: بالمسبح، وتسبيح الجبال هنا حقيقة، و { الإشراق }: ضياء الشمس وارتفاعها، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل، قال الثعلبي: وليس الإشراق طلوع الشمس، وإنما هو صفاؤها وضوءها، انتهى. قال ابن العربي في «أحكامه»: قال [ابن عباس]: ما كنت أعلم صلاة الضحى في القرآن حتى سمعت الله تعالى يقول: { يسبحن بالعشى والإشراق } قال ابن العربي: أما صلاة الضحى فهي في هذه الآية نافلة مستحبة، ولا ينبغي أن تصلى حتى تتبين الشمس طالعة قد أشرق نورها، وفي صلاة الضحى أحاديث أصولها ثلاثة: الأول حديث أبي ذر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة؛ تسليمه على من لقي صدقة، وأمره بالمعروف صدقة، ونهيه عن المنكر صدقة، وإماطته الأذى عن الطريق صدقة، وبضعه أهله صدقة، ويجزىء من ذلك كله ركعتان من الضحى ".
الثاني: حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا، غفرت خطاياه، وإن كانت أكثر من زبد البحر ".
الثالث: حديث أم هانىء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ثماني ركعات، انتهى.
* ت *: وروى أبو عيسى الترمذي وغيره عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله تعالى، حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة "
، قال الترمذي: حديث حسن انتهى. قال الشيخ أبو الحسن بن بطال في شرحه للبخاري: وعن زيد بن أسلم قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول لأبي ذر: أوصني يا عم، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني؛ فقال:
" من صلى الضحى ركعتين، لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعا، كتب من العابدين، ومن صلى ستا، لم يلحقه ذلك اليوم ذنب، ومن صلى ثمانيا، كتب من القانتين، ومن صلى ثنتي عشرة ركعة، بنى الله له بيتا في الجنة "
انتهى.
{ والطير }: عطف على الجبال، أي: وسخرنا الطير، و { محشورة } معناه مجموعة، والضمير في «له» قالت فرقة: هو عائد على الله عز وجل و { كل } على هذا، يراد به: داود والجبال والطير، وقالت فرقة: هو عائد على داود ف { كل } على هذا يراد به الجبال والطير.
[38.20-22]
وقوله تعالى: { وشددنا ملكه }: عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وجند ونعمة، { وفصل الخطاب } ، قال ابن عباس وغيره: هو فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه، وقال الشعبي: أراد قول «أما بعد» فإنه أول من قالها، قال * ع *: والذي يعطيه اللفظ أنه آتاه فصل الخطاب، بمعنى أنه إذا خاطب في نازلة، فصل المعنى وأوضحه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف.
وقوله تعالى: { وهل أتاك نبؤا الخصم } الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، واستفتحت بالاستفهام؛ تعجيبا من القصة وتفخيما لها، والخصم يوصف به الواحد والاثنان والجمع، و { تسوروا } معناه: علوا سوره، وهو جمع «سورة» وهي القطعة من البناء، وتحتمل هذه الآية أن يكون المتسور اثنان فقط، فعبر عنهما بلفظ الجمع، ويحتمل أن يكون مع كل واحد من الخصمين جماعة، و { المحراب } الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو موضع التعبد، وإنما فزع منهم من حيث دخلوا من غير الباب، ودون استئذان، ولا خلاف بين أهل التأويل أن هذا الخصم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتاهم بفتيا هي واقعة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد، خر راكعا وأناب، واستغفر، وأما نازلته التي وقع فيها، ففيها للقصاص تطويل، فلم نر سوق جميع ذلك لعدم صحته.
وروي في ذلك عن ابن عباس ما معناه؛ أن داود كان في محرابه يتعبد؛ إذ دخل عليه طائر حسن الهيئة، فمد يده إليه؛ ليأخذه، فزال مطعما له من موضع إلى موضع، حتى اطلع على امرأة لها منظر وجمال، فخطر في نفسه أن لو كانت من نسائه، وسأل عنها، فأخبر أنها امرأة أوريا، وكان في الجهاد فبلغه أنه استشهد فخطب المرأة، وتزوجها، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة، فبعث الله الخصم ليفتي، قالت فرقة من العلماء: وإنما وقعت المعاتبة على همه، ولم يقع منه شيء سوى الهم، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق، وقد قال علي بن أبي طالب: من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود، جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله قدره.
وقوله: { خصمان } تقديره: نحن خصمان، و { بغى } معناه: اعتدى واستطال، { ولا تشطط } معناه: ولا تتعد في حكمك، و { سواء الصرط } معناه: وسطه.
[38.23-25]
وقوله: { إن هذا أخى } [إعراب «أخي»] عطف بيان، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف، فإنه نعت محض، والعامل فيه هو العامل في الموصوف، وما كان منها مما ليس يوصف به بتة، فهو بدل والعامل فيه مكرر أي: تقديرا يقال: جاءني أخوك زيد، فالتقدير: جاءني أخوك، جاءني زيد، وما كان منها مما لا يوصف به، واحتيج إلى أن يبين به، ويجري مجرى الصفة، فهو عطف بيان.
«والنعجة» في هذه الآية عبر بها عن المرأة، والنعجة في كلام العرب: تقع على أنثى بقر الوحش، وعلى أنثى الضأن، وتعبر العرب بها عن المرأة.
وقوله: { أكفلنيها } أي: ردها في كفالتي، وقال ابن كيسان: المعنى: اجعلها كفلي، أي: نصيبي، { وعزنى } معناه: غلبني، ومنه قول العرب: «من عز بز» أي: من غلب، سلب، ومعنى قوله: { فى الخطاب } أي: كان أوجه مني، فإذا خاطبته، كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي.
ويروى أنه لما قال: { لقد ظلمك بسؤال نعجتك } ، تبسما عند ذلك، وذهبا، ولم يرهما لحينه، فشعر حينئذ للأمر، ويروى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه.
و { الخلطآء }: الشركاء في الأملاك، والأمور، وهذا القول من داود وعظ لقاعدة حق، ليحذر الخصم من الوقوع في خلاف الحق.
وقوله تعالى: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم }: قال أبو حيان: { وقليل } خبر مقدم، و«ما» زائدة تفيد معنى التعظيم، انتهى.
وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أشد الأعمال ذكر الله على كل حال، والإنصاف من نفسك، ومواساة الأخ في المال "
انتهى.
وقوله تعالى: { وظن داوود أنما فتنه } معناه: شعر للأمر وعلمه، و { فتنه } أي: ابتليناه وامتحناه، وقال البخاري: قال ابن عباس: { فتنه } أي: اختبرناه، وأسند البخاري عن مجاهد قال: سألت ابن عباس عن سجدة «ص» أين تسجد، فقال: أو ما تقرأ
ومن ذريته داوود وسليمن
[الأنعام:84] إلى قوله:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[الأنعام:90] فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها داود؛ فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى، فتأمله وما فيه من الفقه، وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر: «فتناه» بتخفيف التاء والنون على إسناد الفعل للخصمين، أي: امتحناه عن أمرنا، قال أبو سعيد الخدري: «رأيتني في النوم أكتب سورة «ص» فلما بلغت قوله: { وخر راكعا وأناب } سجد القلم، ورأيتني في منام آخر، وشجرة تقرأ سورة «ص» فلما بلغت هذا، سجدت، وقالت: اللهم، اكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، وارزقني بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وسجدت أنت يا أبا سعيد؟ قلت: لا، قال: أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة، ثم تلا نبي الله الآيات حتى بلغ: { وأناب } ، فسجد، وقال كما قالت الشجرة».
{ وأناب } معناه: رجع، * ت *: وحديث سجود الشجرة رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حبان في «صحيحيهما»، وقال الحاكم: هو من شرط الصحة، انتهى من «السلاح».
والزلفى: القربة والمكانة الرفيعة، والمآب: المرجع في الآخرة من آب يئوب: إذا رجع.
[38.26-28]
وقوله تعالى: { يداوود إنا جعلنك خليفة فى الارض } تقدير الكلام: وقلنا له يا داود، قال * ع *: ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله، وأما الخلفاء، فكل واحد خليفة للذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز وغلو؛ ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرزوا هذا المعنى، فقالوا لأبي بكر: خليفة رسول الله، وبهذا كان يدعى مدة خلافته، فلما ولي عمر؛ قالوا: يا خليفة خليفة رسول الله، فطال الأمر، ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر؛ فدعوه أمير المؤمنين، وقصر هذا الاسم على الخلفاء.
وقوله: { فيضلك } قال أبو حيان: منصوب في جواب النهي، (ص) أبو البقاء وقيل: مجزوم عطفا على النهي وفتحت [اللام] لالتقاء الساكنين، انتهى.
وقوله سبحانه: { إن الذين يضلون عن سبيل الله } إلى قوله: { وليتذكر أولو الألباب }: اعتراض فصيح بين الكلامين من أمر داود وسليمان، وهو خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعظة لأمته، و { نسوا } في هذه الآية معناه تركوا، ثم وقف تعالى على الفرق عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات وبين المفسدين الكفرة وبين المتقين والفجار، وفي هذا التوقيف حض على الإيمان والتقوى، وترغيب في عمل الصالحات، قال ابن العربي: نفى الله تعالى المساواة بين المؤمنين والكافرين، وبين المتقين والفجار؛ فلا مساواة بينهم في الآخرة، كما قاله المفسرون ولا في الدنيا أيضا؛ لأن المؤمنين المتقين معصومون دما ومالا وعرضا، والمفسدون في الأرض والفجار مباحو الدم والمال والعرض، فلا وجه لتخصيص المفسرين بذلك في الآخرة دون الدنيا، انتهى، من «الأحكام»؛ وهذا كما قال: وقوله تعالى في الآية الأخرى:
سواء محيهم وممتهم
[الجاثية:21] يشهد له، وباقي الآية بين.
[38.29-33]
وقوله تعالى: { كتب أنزلنه إليك مبرك ليدبروا ءايته } قال الغزالي في «الإحياء»: اعلم أن القرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه، ويعظم خوفه إن كان مؤمنا بما فيه وترى الناس يهذونه هذا، يخرجون الحروف من مخارجها، ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها، لا يهمهم الالتفات إلى معانيها والعمل بما فيها، وهل في العلم غرور يزيد على هذا، انتهى من «كتاب ذم الغرور».
واختلف المتأولون في قصص هذه الخيل المعروضة على سليمان عليه السلام فقال الجمهور: إن سليمان عليه السلام عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه، فأجريت بين يديه عشاء، فتشاغل بجريها ومحبتها، حتى فاته وقت صلاة العشي، فأسف لذلك؛ وقال: ردوا علي الخيل؛ فطفق يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، قال الثعلبي وغيره، وجعل ينحرها تقربا إلى الله تعالى؛ حيث اشتغل بها عن طاعته، وكان ذلك مباحا لهم كما أبيح لنا بهيمة الأنعام، قال * ع *: فروي أن الله تعالى أبدله منها أسرع منها، وهي الريح، قال ابن العربي في «أحكامه»: و { الخير } هنا هي الخيل؛ وكذلك قرأها ابن مسعود: «إني أحببت حب الخيل» انتهى، و«الصافن»: الذي يرفع إحدى يديه؛ وقد يفعل ذلك برجله؛ وهي علامة الفراهية؛ وأنشد الزجاج: [الكامل]
ألف الصفون فما يزال كأنه
مما يقوم على الثلاث كسيرا
قال بعض العلماء: { الخير } هنا أراد به الخيل، والعرب تسمي الخيل، الخير، وفي مصحف ابن مسعود: «حب الخيل» باللام.
والضمير في { توارت } للشمس، وإن كان لم يتقدم لها ذكر: لأن المعنى يقتضيها، وأيضا فذكر العشي يتضمنها، وقال بعض المفسرين { حتى توارت بالحجاب } ، أي: الخيل دخلت إصطبلاتها، وقال ابن عباس والزهري: مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف؛ بل بيده تكريما لها؛ ورجحه الطبري، وفي البخاري: { فطفق مسحا } يمسح أعراف الخيل وعراقيبها؛ انتهى، وعن بعض العلماء أن هذه القصة لم يكن فيها فوت صلاة، وقالوا: عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة، فأشار إليهم؛ أي: إني في صلاة، فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الإصطبلات، فقال هو، لما فرغ من صلاته : إني أحببت حب الخير، أي: الذي عند الله في الآخرة؛ بسبب ذكر ربي، كأنه يقول: فشغلني ذلك عن رؤية الخيل، حتى أدخلت إصطبلاتها، ردوها علي، فطفق يمسح أعرافها وسوقها، تكرمة لها، أي: لأنها معدة للجهاد، وهذا هو الراجح عند الفخر، قال: ولو كان معنى مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله:
وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم
[المائدة:6] قطعها * ت *: وهذا لا يلزم للقرينة في الموضعين، اه. قال أبو حيان: و { حب الخير } قال الفراء: مفعول به، { أحببت } مضمن معنى آثرت، وقيل: منصوب على المصدر التشبيهي، أي: حبا مثل حب الخير، انتهى.
وقوله: { عن ذكر ربى } «عن» على كل تأويل هنا للمجاوزة من شيء إلى شيء، وتدبره فإنه مطرد.
[38.34-35]
وقوله تعالى: { ولقد فتنا سليمن } الآية، * ت *: اعلم رحمك الله أن الناس قد أكثروا في قصص هذه الآية بما لا يوقف على صحته، وحكى الثعلبي في بعض الروايات؛ أن سليمان عليه السلام لما فتن، سقط الخاتم من يده، وكان فيه ملكه، فأعاده إلى يده، فسقط؛ وأيقن بالفتنة، وأن آصف بن برخيا قال له: يا نبي الله، إنك مفتون؛ ولذلك لا يتماسك الخاتم في يدك أربعة عشر يوما؛ ففر إلى الله تعالى تائبا من ذنبك، وأنا أقوم مقامك في عالمك إن شاء الله تعالى إلى أن يتوب الله تعالى عليك، ففر سليمان هاربا إلى ربه منفردا لعبادته، وأخذ آصف الخاتم، فوضعه في يده، فثبت، وقيل: إن الجسد الذي قال الله تعالى: { وألقينا على كرسيه جسدا } هو آصف كاتب سليمان، وهو الذي عنده علم من الكتاب، وأقام آصف في ملك سليمان وعياله يسير بسيرته الحسنة، ويعمل بعمله أربعة عشر يوما إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله تعالى، ورد الله تعالى عليه ملكه، فأقام آصف عن مجلسه، وجلس سليمان على كرسيه، وأعاد الخاتم، وقال سعيد بن المسيب: إن سليمان بن داود عليهما السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله إليه: أن يا سليمان، احتجبت عن الناس ثلاثة أيام، فلم تنظر في أمور عبادي ، ولم تنصف مظلوما من ظالم، وذكر حديث الخاتم كما تقدم، انتهى، وهذا الذي نقلناه أشبه ما ذكر، وأقرب إلى الصواب؛ والله أعلم، وقال عياض: قوله تعالى: { ولقد فتنا سليمن } معناه: ابتليناه، وابتلاؤه: هو ما حكي في الصحيح أنه قال: «لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: «إن شاء الله» تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل»، الحديث، قال أصحاب المعاني: والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه حين عرض عليه؛ وهي كانت عقوبته ومحنته، وقيل: بل مات، وألقي على كرسيه ميتا، وأما عدم استثنائه، فأحسن الأجوبة عنه، ما روي في الحديث الصحيح أنه نسي أن يقول: «إن شاء الله»، ولا يصح ما نقله الإخباريون من تشبه الشيطان به وتسلطه على ملكه، وتصرفه في أمته؛ لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا، وقد عصم الأنبياء من مثله، انتهى، * ت *: قال ابن العربي: { وألقينا على كرسيه جسدا } يعني جسده لا أجساد الشياطين؛ كما يقوله الضعفاء، انتهى من «كتاب تفسير الأفعال» له، قال ابن العربي في «أحكامه»: وما ذكره بعض المفسرين من أن الشيطان أخذ خاتمه، وجلس مجلسه، وحكم الخلق على لسانه قول باطل قطعا ؛ لأن الشياطين لا يتصورون بصور الأنبياء؛ ولا يمكنون من ذلك؛ حتى يظن الناس أنهم مع نبيهم في حق، وهم مع الشياطين في باطل؛ ولو شاء ربك لوهب من المعرفة (والدين) لمن قال هذا القول ما يزعه عن ذكره، ويمنعه من أن يسطره في ديوان من بعده، انتهى.
وقوله: { وهب لى ملكا لا ينبغى لأحد } الآية، قال * ع *: من المقطوع به أن سليمان عليه السلام إنما قصد بذلك قصدا برا؛ لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد؛ لا سيما بحسب المكانة والنبوة.
[38.36-48]
وقوله تعالى: { فسخرنا له الريح... } الآية، كان لسليمان كرسي فيه جنوده، وتأتي عليه الريح الإعصار، فتنقله من الأرض حتى يحصل في الهواء، ثم تتولاه الرخاء؛ وهي اللينة القوية لا تأتي فيها دفع مفرطة فتحمله؛ غدوها شهر ورواحها شهر، { حيث أصاب }: معناه: حيث أراد؛ قاله وهب وغيره، قال * ع *: ويشبه أن [أصاب] معدى «صاب يصوب»، أي: حيث وجه جنوده، وقال الزجاج: معناه: قصد، قلت: وعليه اقتصر أبو حيان؛ فإنه قال: أصاب: أي قصد؛ وأنشد الثعلبي: [المتقارب]
أصاب الكلام فلم يستطع
فأخطا الجواب لدى المفصل
انتهى.
وقوله: { كل بناء } بدل من { الشيطين } و { مقرنين } معناه: موثقين؛ قد قرن بعضهم ببعض، و { الأصفاد } القيود والأغلال، قال الحسن: والإشارة بقوله: { هذا عطاؤنا... } الآية، إلى جميع ما أعطاه الله سبحانه من الملك؛ وأمره بأن يمن على من يشاء ويمسك عمن يشاء، فكأنه وقفه على قدر النعمة، ثم أباح له التصرف فيه بمشيئته؛ وهذا أصح الأقوال وأجمعها لتفسير الآية، وتقدمت قصة أيوب في سورة الأنبياء.
وقوله: { أنى مسنى الشيطن بنصب... } الآية، النصب: المشقة، فيحتمل أن يشير إلى مسه حين سلطه الله على إهلاك ماله وولده وجسمه؛ حسبما روي في ذلك، وقيل: أشار إلى مسه إياه في تعرضه لأهله؛ وطلبه منها أن تشرك بالله؛ فكأن أيوب تشكى هذا الفصل، وكان عليه أشد من مرضه، وهنا في الآية محذوف تقديره: فاستجاب له وقال: { اركض برجلك } فروي أن أيوب ركض الأرض فنبعت له عين ماء صافية باردة؛ فشرب منها، فذهب كل مرض في داخل جسده، ثم اغتسل فذهب ما كان في ظاهر بدنه، وروي أن الله تعالى وهب له أهله وماله في الدنيا، ورد من مات منهم، وما هلك من ماشيته وحاله، ثم بارك له في جميع ذلك، وروي أن هذا كله وعد به في الآخرة، والأول أكثر في قول المفسرين.
* ت *: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما قال عبد قط، إذا أصابه هم أو حزن: اللهم، إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله غمه وأبدله مكان حزنه فرحا، قالوا: يا رسول الله: ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات؟ قال: أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن "
قال صاحب «السلاح»: رواه الحاكم في «المستدرك»، وابن حبان في «صحيحه».
* ت *: ورويناه من طريق النووي عن ابن السني بسنده عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:
" أنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك في قبضتك "
، وفيه:
" فقال رجل من القوم: إن المغبون لمن غبن هؤلاء الكلمات، فقال: أجل، فقولوهن وعلموهن؛ من قالهن، التماس ما فيهن أذهب الله تعالى حزنه وأطال فرحه "
انتهى.
وقوله: { وذكرى } معناه: موعظة وتذكرة يعتبر بها أولو العقول، ويتأسون بصبره في الشدائد، ولا ييئسون من رحمة الله على حال.
وروي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه فيتلقاها الشيطان في صورة طبيب، ومرة في هيئة ناصح؛ وعلى غير ذلك، فيقول لها: لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرىء، لو ذبح عناقا للصنم الفلاني لبرىء، ويعرض عليها وجوها من الكفر، فكانت هي ربما عرضت شيئا من ذلك على أيوب، فيقول لها: لقيت عدو الله في طريقك، فلما أغضبته بهذا ونحوه؛ حلف عليها لئن برىء من مرضه ليضربنها مائة سوط، فلما برىء؛ أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب، «والضغث»: القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشجر الرطب؛ قاله الضحاك وأهل اللغة، فيضرب به ضربة واحدة، فتبر يمينه؛ وهذا حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلى الله عليه وسلم [مثله في حد الزنا لرجل زمن، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم] بعذق نخلة فيه شماريخ مائة أو نحوها، فضرب ضربة، ذكر الحديث أبو داود، وقال بهذا بعض فقهاء الأمة، وليس يرى ذلك مالك بن أنس وأصحابه، وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به، وأن الحدود والبر في الأيمان لا تقع إلا بتمام عدد الضربات، وقرأ الجمهور «أولي الأيدي» يعني: أولي القوة في طاعة الله؛ قاله ابن عباس ومجاهد، وقالت فرقة: معناه: أولى الأيدي والنعم التي أسداها الله إليهم من النبوة والمكانة، { والأبصر } عبارة عن البصائر، أي: يبصرون الحقائق وينظرون بنور الله تعالى، وقرأ نافع وحده: «بخالصة ذكرى الدار»، على الإضافة، وقرأ الباقون «بخالصة» على تنوين «خالصة» ف«ذكرى» على هذه القراءة بدل من خالصة فيحتمل أن يكون معنى الآية: أنا أخلصناهم بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ودعاء الناس إليها؛ وهذا قول قتادة، وقيل المعنى: أنا أخلصناهم، بأن خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم لها والعمل بحسب ذلك؛ وهذا قول مجاهد، وقال ابن زيد: المعنى أنا وهبناهم أفضل ما في الدار الآخرة، وأخلصناهم به، وأعطيناهم إياه، ويحتمل أن يريد بالدار دار الدنيا على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس.
[38.49-54]
وقوله تعالى: { هذا ذكر } يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يشير إلى مدح من ذكر وإبقاء الشرف له، فيتأيد بهذا قول من قال: إن الدار يراد بها الدنيا.
والثاني: أن يشير بهذا إلى القرآن، أي: ذكر للعالم.
و { جنت } بدل من { لحسن مئاب } و { مفتحة } نعت ل { جنت } ، و { الأبواب } مفعول لم يسم فاعله، وباقي الآية بين.
[38.55-61]
وقوله سبحانه: { هذا وإن للطغين لشر مئاب } الآية، التقدير: الأمر هذا، ويحتمل أن يكون التقدير: هذا واقع أو نحوه، و«الطغيان» هنا في الكفر.
وقوله تعالى: { هذا فليذوقوه حميم وغساق } قرأ الجمهور: «غساق» بتخفيف السين وهو اسم بمعنى السائل، قال قتادة: الغساق: ما يسيل من صديد أهل النار، قال * ص *: الغساق السائل، وعن أبي عبيدة أيضا: البارد المنتن بلغة الترك، انتهى، قال الفخر: { هذا فليذوقوه حميم وغساق } فيه وجهان: الأول على التقديم والتأخير، والتقدير: هذا حميم وغساق أي: منه حميم وغساق، انتهى، * ت *: والوجه الثاني: أن الآية ليس فيها تقديم ولا تأخير وهو واضح، وقرأ الجمهور { وءاخر } بالإفراد، ولهم عذاب آخر، ومعنى { من شكله } أي: من مثله وضربه، وقرأ أبو عمرو وحده: «وأخر» على الجمع، و { أزوج } معناه: أنواع، والمعنى: لهم حميم وغساق، وأغذية أخر من ضرب ما ذكر.
وقوله تعالى: { هذا فوج } هو مما يقال لأهل النار، إذا سيق عامة الكفار والأتباع إليها؛ لأن رؤساءهم يدخلون النار أولا، والأظهر أن قائل ذلك لهم ملائكة العذاب، وهو الذي حكاه الثعلبي وغيره، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض، فيقول البعض الأخر: { لا مرحبا بهم } أي، لا سعة مكان، ولا خير يلقونه.
وقوله: { بل أنتم لا مرحبا بكم } حكاية لقول الأتباع لرؤسائهم، أي: أنتم قدمتموه لنا بإغوائكم وأسلفتم لنا ما أوجب هذا، قال العراقي: [الرجز]
مقتحم أي داخل بشده
مجاوز لما اقتحم بالشده
انتهى.
وقوله تعالى: { قالوا ربنا من قدم لنا هذا... } الآية، هو حكاية لقول الأتباع أيضا دعوا على رؤسائهم؛ بأن يكون عذابهم مضاعفا.
[38.62-69]
وقوله تعالى: { وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار... } الآية: الضمير في { قالوا } لأشراف الكفار ورؤسائهم، وهذا مطرد في كل أمة، وروي أن قائلي هذه المقالة أهل القليب؛ كأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة، ومن جرى مجراهم، وأن الرجال الذين يشيرون إليهم هم كعمار بن ياسر، وبلال وصهيب، ومن جرى مجراهم، قاله مجاهد وغيره، والمعنى: كنا في الدنيا نعدهم أشرارا، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو «اتخذناهم» بصلة الألف، على أن يكون ذلك في موضع الصفة لرجال، وقرأ الباقون «أتخذناهم» بهمزة الاستفهام، ومعناها: تقرير أنفسهم على هذا؛ على جهة التوبيخ لها والأسف، أي: اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «سخريا» بضم السين من السخرة، والاستخدام، وقرأ الباقون: «سخريا» بكسر السين ، ومعناها المشهور من السخر الذي هو بمعنى الهزء، وقولهم: { أم زاغت } معادلة لما في قولهم: { ما لنا لا نرى } والتقدير في هذه الآية: أمفقودون هم أم هم معنا، ولكن زاغت عنهم أبصارنا، فلا نراهم، والزيغ: الميل.
ثم أخبر تعالى نبيه بقوله: { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } والإشارة بقوله تعالى: { قل هو نبأ عظيم } إلى التوحيد والمعاد، فهي إلى القرآن وجميع ما تضمن، وعظمه أن التصديق به نجاة والتكذيب به هلكة، ووبخهم بقوله: { أنتم عنه معرضون } ، ثم أمر عليه السلام أن يقول محتجا على صحة رسالته: « { ما كان لى من علم بالملإ الأعلى } لولا أن الله أخبرني بذلك» والملأ الأعلى أراد به: الملائكة، واختلف في الشيء الذي هو اختصامهم فيه؛ فقالت فرقة: اختصامهم في شأن آدم: كقولهم:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة:30] ويدل على ذلك ما يأتي من الآيات، وقالت فرقة: بل اختصامهم في الكفارات وغفر الذنوب، ونحوه فإن العبد إذا فعل حسنة، اختلفت الملائكة في قدر ثوابه في ذلك، حتى يقضي الله بما شاء، وروي في هذا حديث فسره ابن فورك يتضمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ربه عز وجل في نومه: «أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، قال: اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات: فإسباغ الوضوء في الغدوات الباردة، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وأما الدرجات: فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» الحديث قال ابن العربي في «أحكامه»: وقد رواه الترمذي صحيحا، وفيه «قال: سل؛ قال: اللهم، إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم، فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وعملا يقرب إلي حبك» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إنها حق فارسموها، ثم تعلموها "
انتهى.
[38.70-76]
وقوله: { إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير مبين } قال الفراء: إن شئت جعلت «أنما» في موضع رفع، كأنه قال: ما يوحى إلي إلا الإنذار، أو: ما يوحى إلي إلا أني نذير مبين، انتهى، وهكذا قال أبو حيان: «إن» بمعنى: «ما» وباقي الآية بين مما تقدم في «البقرة» وغيرها.
وقوله تعالى: { بيدى } عبارة عن القدرة والقوة.
وقوله: { أستكبرت }: المعنى: أحدث لك الاستكبار الآن أم كنت قديما ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك؛ وهذا على جهة التوبيخ له.
[38.77-86]
وقوله تعالى: { قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم } الآية، «الرجيم» أي: المرجوم بالقول السيىء، واللعنة: الإبعاد.
وقوله سبحانه: { فالحق والحق أقول } قال مجاهد: المعنى: فالحق أنا، وقرأ الجمهور: «فالحق والحق» بنصب الاثنين، فأما الثاني، فمنصوب ب«أقول» وأما الأول فيحتمل أن ينتصب على الإغراء، ويحتمل أن ينتصب على القسم، على إسقاط حرف القسم، كأنه قال: فوالحق؛ ثم حذف الحرف؛ كما تقول: الله، لأفعلن، تريد والله؛ ويقوي ذلك قوله: { لأملان } وقد قال سيبويه: قلت للخليل: ما معنى: «لأفعلن» إذا جاءت مبتدأة؟ فقال: هي بتقدير قسم منوي، وقالت فرقة: «الحق» الأول منصوب بفعل ومضمر، وقرأ ابن عباس: «فالحق والحق» برفع الاثنين، وقرأ عاصم وحمزة: «فالحق» بالرفع، و«الحق» بالنصب ، وهي قراءة مجاهد وغيره.
ثم أمر تعالى نبيه [أن] يخبرهم بأنه ليس بسائل منهم عليه أجرا وأنه ليس ممن يتكلف ما لم يجعل إليه، ولا يختلي بغير ما هو فيه، قال الزبير بن العوام: نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم:
" اللهم، اغفر للذين لا يدعون، ولا يتكلفون؛ ألا إني بريء من التكلف وصالحو أمتي ".
[38.87-88]
وقوله: { إن هو } يريد القرآن و { ذكر } بمعنى تذكرة، ثم توعدهم بقوله: { ولتعلمن نبأه بعد حين } وهذا على حذف تقديره: لتعلمن صدق نبئه بعد حين، قال ابن زيد: أشار إلى يوم القيامة، وقال قتادة والحسن: أشار إلى الآجال التي لهم؛ لأن كل واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته.
[39 - سورة الزمر]
[39.1-5]
قوله تعالى: { تنزيل الكتب... } الآية، { تنزيل } رفع بالابتداء، والخبر قوله: { من الله } وقالت فرقة: { تنزيل } خبر مبتدإ محذوف، تقديره: هذا تنزيل، والإشارة إلى القرآن؛ قاله المفسرون، ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله، فكأنه أخبر إخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله تعالى، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله: { إنا أنزلنا إليك الكتب }.
وقوله: { بالحق } معناه: متضمنا الحق، أي: بالحق فيه، وفي أحكامه وأخباره، و { الدين } هنا يعم المعتقدات وأعمال الجوارح، قال قتادة: و { الدين الخالص }: «لا إله إلا الله».
وقوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء... } الآية، أي: يقولون، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وفي مصحف ابن مسعود: «قالوا ما نعبدهم» وهي قراءة ابن عباس وغيره، وهذه المقالة شائعة في العرب في الجاهلية يقولون في معبوداتهم من الأصنام وغيرها: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، قال مجاهد: وقد قال ذلك قوم من اليهود في عزير، وقوم من النصارى في عيسى.
و { زلفى } بمعنى قربة وتوصلة، [كأنهم] قالوا ليقربونا إلى الله تقريبا، وكأن هذه الطوائف كلها ترى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله، فكانت ترى أن تتصل بمخلوقاته.
و { زلفى } عند سيبويه، مصدر في موضع الحال كأنه تنزل منزلة «متزلفين» والعامل فيه { ليقربونا } ، وقرأ الجحدري «كذاب كفار» بالمبالغة فيهما، وهذه المبالغة إشارة إلى التوغل في الكفر.
وقوله تعالى: { لو أراد الله أن يتخذ ولدا } معناه: اتخاذ التشريف والتبني؛ وعلى هذا يستقيم قوله تعالى: { لاصطفى مما يخلق } وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد فمستحيل أن يتوهم في جهة الله تعالى، ولا يستقيم عليه معنى قوله: { لاصطفى مما يخلق } ، وقوله تعالى:
وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا
[مريم:92] لفظ يعم اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء، فأما الأول فمعقول، وأما الثاني فمعروف بخبر الشرع، ومما يدل على أن معنى قوله: { أن يتخذ } إنما المقصود به اتخاذ اصطفاء، وتبن قوله: { مما يخلق } أي: من موجوداته ومحدثاته ثم نزه سبحانه نفسه تنزيها مطلقا عن كل ما لا يليق به سبحانه.
وقوله تعالى: { يكور الليل على النهار... } الآية، معناه: يعيد من هذا على هذا، ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض، فكأن الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزء فيستره، وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول، فيستتر فيه.
[39.6-7]
وقوله تعالى: { خلقكم من نفس وحدة ثم جعل منها زوجها } قيل: «ثم» هنا: لترتيب الإخبار لا لترتيب الوجود، وقيل: قوله: { خلقكم من نفس وحدة }: هو أخذ الذرية من ظهر آدم، وذلك شيء كان قبل خلق حواء، * ت *: وهذا يحتاج إلى سند قاطع.
وقوله سبحانه: { فى ظلمت ثلث } قالت فرقة: الأولى هي ظهر الأب، ثم رحم الأم، ثم المشيمة في البطن، وقال مجاهد وغيره: هي المشيمة والرحم والبطن، وهذه الآيات كلها فيها عبر وتنبيه على توحيد الخالق الذي لا يستحق العبادة غيره وتوهين لأمر الأصنام.
وقوله سبحانه: { إن تكفروا فإن الله غنى عنكم... } الآية، قال ابن عباس: هذه الآية مخاطبة للكفار، قال * ع *: وتحتمل أن تكون مخاطبة لجميع الناس، لأن الله سبحانه غني عن جميع الناس، وهم فقراء إليه، واختلف المتأولون من أهل السنة في تأويل قوله تعالى: { ولا يرضى لعباده الكفر } فقالت فرقة: «الرضا» بمعنى الإرادة، والكلام ظاهره العموم، ومعناه الخصوص فيمن قضى الله له بالإيمان، وحتمه له، فعباده على هذا ملائكته ومؤمنو الإنس والجن، وهذا يتركب على قول ابن عباس، وقالت فرقة: الكلام عموم صحيح، والكفر يقع ممن يقع بإرادة الله تعالى، إلا أنه بعد وقوعه لا يرضاه دينا لهم، ومعنى لا يرضاه: لا يشكره لهم، ولا يثيبهم به خيرا، فالرضى: على هذا هو صفة فعل بمعنى، القبول، ونحوه، وتأمل الإرادة فإنما هي حقيقة فيما لم يقع بعد، والرضا؛ فإنما هو حقيقة فيما قد وقع، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا.
وقوله تعالى: { وإن تشكروا يرضه لكم } عموم، والشكر الحقيقي في ضمنه الإيمان، قال النووي: وروينا في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من قال: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، وجبت له الجنة "
انتهى.
[39.8-9]
وقوله تعالى: { وإذا مس الإنسن ضر دعا ربه... } الآية: { الإنسن } هنا: الكافر، وهذه الآية بين تعالى بها على الكفار، أنهم على كل حال يلجئون إليه في حال الضرورات، و { خوله } معناه ملكه وحكمه فيها ابتداء من الله لا مجازاة، ولا يقال في الجزاء «خول».
وقوله تعالى: { نسي ما كان يدعو إليه } قالت فرقة: «ما» مصدرية، والمعنى: نسي دعاءه إليه في حال الضرورة ، ورجع إلى كفره، وقالت فرقة «ما» بمعنى: الذي، والمراد بها الله تعالى، أي: نسي الله، وعبارة الثعلبي: قوله: { نسي ما كان يدعو إليه من قبل } أي: ترك عبادة الله تعالى والتضرع إليه من قبل في حال الضر انتهى» وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: { أمن هو قانت } بتخفيف الميم، هي قراءة نافع وابن كثير وحمزة، والهمزة للتقرير والاستفهام، وكأنه يقول: أهذا القانت خير أم هذا المذكور الذي يتمتع بكفره قليلا، وهو من أصحاب النار، وقرأ الباقون: «أمن» بتشديد الميم، والمعنى: أهذا الكافر خير أمن هو قانت؟ والقانت: المطيع؛ وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما ، والقنوت في الكلام يقع على القراءة وعلى طول القيام في الصلاة؛ وبهذا فسره ابن عمر رضي الله عنهما قال الفخر: قيل: إن المراد بقوله: { أمن هو قانت ءاناء اليل }: عثمان بن عفان؛ لأنه كان يحيي الليل، والصحيح أنها عامة في كل من اتصف بهذه الصفة، وفي هذه الآية تنبيه على فضل قيام الليل، انتهى، وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: «من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في سواد الليل ساجدا وقائما»، * ت * قال الشيخ عبد الحق في «العاقبة»: وعن قبيصة بن سفيان قال: رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته؛ فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: [الطويل]
نظرت إلى ربي عيانا فقال لي
هنيئا رضائي عنك يا بن سعيد
لقد كنت قواما إذا الليل قد دجا
بعبرة محزون وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصر تريده
وزرني فإني منك غير بعيد
وكان شعبة بن الحجاج، ومسعر بن كدام، رجلين فاضلين، وكانا من ثقات المحدثين وحفاظهم، وكان شعبة أكبر فماتا، قال أبو أحمد اليزيدي، فرأيتهما في النوم، وكنت إلى شعبة أميل مني إلى مسعر، فقلت: يا أبا بسطام؛ ما فعل الله بك؟ فقال: وفقك الله يا بني، احفظ ما أقول:
حباني إلهي في الجنان بقبة
لها ألف باب من لجين وجوهرا
وقال لي الجبار: يا شعبة الذي
تبحر في جمع العلوم وأكثرا
تمتع بقربي إنني عنك ذو رضا
وعن عبدي القوام في الليل مسعرا
كفى مسعرا عزا بأن سيزورني
وأكشف عن وجهي ويدنو لينظرا
وهذا فعالي بالذين تنسكوا
ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا
انتهى. «والآناء»: الساعات واحدها «إنى»؛ ك«معى» ويقال: «إني» بكسر الهمزة وسكون النون ، و«أنى» على وزن «قفا».
وقوله سبحانه: { يحذر الأخرة ويرجوا رحمة ربه } قال ابن الجوزي في «المنتخب»: يقول الله تعالى: «لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين؛ من خافني في الدنيا، أمنته في الآخرة، ومن أمنني في الدنيا خوفته في الآخرة»، يا أخي:
امتطى القوم مطايا الدجى على مركب السهر، فما حلوا ولا حلوا رحالهم حتى السحر،درسوا القرآن فغرسوا بأيدي الفكر أزكى الشجر، ومالوا إلى النفوس باللوم؛ فلا تسأل عما شجر، رجعوا بنيل القبول من ذلك السفر، ووقفوا على كنز النجاة وما عندك خبر، فإذا جاء النهار قدموا طعام الجوع، وقالوا للنفس: هذا الذي حضر،حذوا عزمات طاحت الأرض بينها، فصار سراهم في ظهور العزائم،تراهم نجوم الليل ما يبتغونه على عاتق الشعرى وهام النعائم، مالت بالقوم ريح السحر ميل الشجر بالأغصان، وهز الخوف أفنان القلوب فانتشرت الأفنان، فالقلب يخشع واللسان يضرع والعين تدمع والوقت بستان،خلوتهم بالحبيب تشغلهم عن نعم ونعمان، سرورهم أساورهم والخشوع تيجان، خضوعهم حلاهم وماء دمعهم در ومرجان، باعوا الحرص بالقناعة فما ملك أنوشروان، فإذا وردوا القيامة تلقاهم بشر: لولاكم ما طاب الجنان، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، أين أنت منهم يا نائم كيقظان، كم بينك وبينهم أين الشجاع من الجبان، ما للمواعظ فيك نجح، موضع القلب باللهو منك ملآن، يا أخي، قف على باب النجاح ولكن وقوف لهفان، واركب سفن الصلاح، فهذا الموت طوفان، إخواني، إنما الليل والنهار مراحل؛ ومركب العمر قد قارب الساحل، فانتبه لنفسك وازدجر يا غافل، يا هذا، أنت مقيم في مناخ الراحلين، ويحك اغتنم أيام القدرة قبل صيحة الانتزاع، فما أقرب ما ينتظر، وما أقل المكث فيما يزول ويتغير. انتهى.
[39.10-16]
وقوله تعالى: { قل يعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم } يروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه، حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة، ووعد سبحانه بقوله: { للذين أحسنوا فى هذه الدنيا حسنة } فقوله: { فى هذه الدنيا } متعلق ب { أحسنوا } ، والمعنى: إن الذين يحسنون في الدنيا لهم حسنة في الآخرة، وهي الجنة والنعيم؛ قاله مقاتل ويحتمل أن يريد: أن الذين يحسنون لهم حسنة في الدنيا، وهي العافية والظهور وولاية الله تعالى؛ قاله السدي، والأول أرجح أن الحسنة هي في الآخرة.
وقوله سبحانه: { وأرض الله واسعة } حض على الهجرة، ثم وعد تعالى على الصبر على المكاره، والخروج من الوطن ونصرة الدين وجميع الطاعات بتوفية الأجور بغير حساب، وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن الصابر يؤتى أجره ولا يحاسب على نعيم ولا يتابع بذنوب، ويكون في جملة الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
والثاني من المعنيين: أن أجور الصابرين توفى بغير حصر ولا عد، بل جزافا، وهذه استعارة للكثرة التي لا تحصى؛ وإلى هذا التأويل ذهب جمهور المفسرين، حتى قال قتادة: ليس ثم والله مكيال ولا ميزان، وفي الحديث أنه لما نزلت
والله يضعف لمن يشاء
[البقرة:261] قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اللهم، زد أمتي "
، فنزلت بعد ذلك
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة
[البقرة:245] فقال:
" اللهم زد أمتي "
حتى نزلت: { إنما يوفى الصبرون أجرهم بغير حساب } ، قال: «رضيت يا رب».
وقوله تعالى: { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } من المعلوم أنه عليه السلام معصوم من العصيان، وإنما الخطاب بالآية لأمته يعمهم حكمه، ويحفهم وعيده.
وقوله: { فاعبدوا ما شئتم من دونه } هذه صيغة أمر على جهة التهديد، وهذا في القرآن كثير، و«الظلة» ما غشي وعم كالسحابة وسقف البيت، ونحوه.
[وقوله سبحانه: { ذلك يخوف الله به عباده } يريد: جميع العالم].
[39.17-18]
وقوله تعالى: { والذين اجتنبوا الطغوت... } الآية، قال ابن زيد: إن سبب نزولها زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري، والإشارة إليهم.
* ت *: سليمان إنما أسلم بالمدينة، فيلزم على هذا التأويل أن تكون الآية مدنية، وقال ابن إسحاق: الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، والزبير، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك؛ فجاؤوه، فقالوا: أأسلمت؟ قال: نعم؛ وذكرهم بالله سبحانه، فآمنوا بأجمعهم، فنزلت فيهم هذه الآية، وهي على كل حال عامة في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم حكمها، و { الطغوت }: كل ما عبد من دون الله.
وقوله سبحانه: { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }: كلام عام في جميع الأقوال، والمقصد الثناء على هؤلاء في نفوذ بصائرهم، وقوام نظرهم، حتى إنهم إذا سمعوا قولا ميزوه واتبعوا أحسنه، قال أبو حيان: { الذين يستمعون } صفة ل { عباد } ، وقيل: الوقف على عباد، { والذين } مبتدأ خبره { أولئك } وما بعده، انتهى.
[39.19-21]
وقوله تعالى: { أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار } قالت فرقة: معنى الآية: أفمن حقت عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، لكنه زاد الهمزة الثانية؛ توكيدا، وأظهر الضمير تشهيرا لهؤلاء القوم وإظهارا لخسة منازلهم.
وقوله تعالى: { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف } الآية معادلة وتحضيض على التقوى، وعادلت { غرف من فوقها غرف } ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم، والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ثم وقف تعالى نبيه عليه السلام وأمته على معتبر من مخلوقاته، فقال: { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء... } الآية، قال الطبري: الإشارة إلى ماء المطر ونبع العيون منه، { فسلكه } معناه: أجراه وأدخله في الأرض، و { يهيج } معناه: ييبس، وهاج الزرع والنبات: إذا يبس، والحطام: اليابس المتفتت، ومعنى «لذكرى» أي: للبعث من القبور وإحياء الموتى؛ على قياس هذا المثال المذكور.
[39.22]
وقوله تعالى: { أفمن شرح الله صدره للإسلم... } الآية، روي أن هذه الآية نزلت في علي وحمزة وأبي لهب وابنه؛ وهما اللذان كانا من القاسية قلوبهم، وفي الكلام محذوف يدل عليه الظاهر؛ تقديره: أفمن شرح الله صدره كالقاسي القلب المعرض عن أمر الله، وشرح الصدر: استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله، والنور: هداية الله تعالى، وهي أشبه شيء بالوضوء، قال ابن مسعود: قلنا يا رسول الله! كيف انشراح الصدر؟ قال: إذا دخل النور القلب، انشرح وانفسح، قلنا: يا رسول الله، وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت، والقسوة: شدة القلب، وهي مأخوذة من قسوة الحجر، شبه قلب الكافر به في صلابته وقلة انفعاله، للوعظ، وروى الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي "
، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. انتهى وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد [بعقوبة] أعظم من قسوة قلبه، قال ابن هشام: قوله تعالى: { فويل للقسية قلوبهم من ذكر الله } «من» هنا: مرادفة «عن»، وقيل: هي للتعليل، أي: من أجل ذكر الله؛ لأنه إذا ذكر الله، قست قلوبهم؛ عياذا بالله، وقيل: هي للابتداء، انتهى من «المغني».
قال الفخر: اعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، وقد يوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، فإذا عرفت هذا، فنقول: إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورتبتها هو ذكر الله، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله سببا لازدياد مرضها، كان مرض تلك النفوس مرضا لا يرجى زواله، ولا يتوقع علاجه، وكانت في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: { فويل للقسية قلوبهم من ذكر الله أولئك فى ضلل مبين } وهذا كلام كامل محقق، انتهى.
[39.23]
وقوله تعالى: { الله نزل أحسن الحديث } يريد القرآن، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدثنا بأحاديث حسان، وأخبرنا بأخبار الدهر، فنزلت الآية.
وقوله: { متشبها } معناه مستويا لا تناقض فيه ولا تدافع، بل يشبه بعضه بعضا في رصف اللفظ، ووثاقة البراهين، وشرف المعاني؛ إذ هي اليقين في العقائد في الله وصفاته وأفعاله وشرعه، و { مثاني } معناه: موضع تثنية للقصص والأقضية والمواعظ تثنى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد، وقال ابن عباس، ثنى فيه الأمر مرارا، ولا ينصرف { مثاني } لأنه جمع لا نظير له في الواحد.
وقوله تعالى: { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } عبارة عن قف شعر الإنسان عندما يداخله خوف ولين قلب عند سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه، وهذه علامة وقوع المعنى المخشع في قلب السامع، وفي الحديث؛ أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم، فرقت القلوب؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اغتنموا الدعاء عند الرقة؛ فإنها رحمة "
وقال العباس بن عبد المطلب: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من اقشعر جلده من خشية الله تعالى، تحاتت عنه ذنوبه كما تتحات عن الشجرة اليابسة ورقها "
، وقالت أسماء بنت أبي بكر: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن أقواما اليوم إذا سمعوا القرآن خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان»، وعن ابن عمر نحوه، وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط [مادا] رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن رمى بنفسه، فهو صادق.
* ت *: وهذا كله تغليظ على المرائين والمتصنعين، ولا خلاف أعلمه بين أرباب القلوب وأئمة التصوف أن المتصنع عندهم بهذه الأمور ممقوت، وأما من غلبه الحال لضعفه وقوي الوارد عليه حتى أذهبه عن حسه؛ فهو إن شاء الله من السادة الأخيار والأولياء الأبرار، وقد وقع ذلك لكثير من الأخيار يطول تعدادهم؛ كابن وهب وأحمد بن معتب المالكيين، ذكرهما عياض في «مداركه»، وأنهما ماتا من ذلك؛ وكذلك مالك بن دينار مات من ذلك؛ ذكره عبد الحق في «العاقبة»، وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، ومن كلام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله في قواعده الصغرى قال: وقد يصيح بعضهم لغلبة الحال عليه، وإلجائها إياه إلى الصياح، وهو في ذلك معذور، ومن صاح لغير ذلك، فمتصنع ليس من القوم في شيء، وكذلك من أظهر شيئا من الأحوال رياء أو تسميعا، فإنه ملحق بالفجار دون الأبرار، انتهى.
وقوله تعالى: { ذلك هدى الله } يحتمل أن يشير إلى القرآن ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود، أي: ذلك أمارة هدى الله.
قال الغزالي في «الإحياء»: والمستحب من التالي للقرآن أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغير ذلك، ومهما تمت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه، انتهى، قال الشيخ الولي عبد الله بن أبي جمرة: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه يكسوه من كل آية يقرؤها حال يناسب معنى تلك الآية، وكذلك ينبغي أن تكون تلاوة القرآن وألا يكون تاليه كمثل الحمار يحمل أسفارا، انتهى.
[39.24-28]
وقوله تعالى: { أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب... } الآية، تقرير بمعنى التعجيب، والمعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كالمنعمين في الجنة، قال مجاهد: { يتقى بوجهه } ، أي: يجر على وجهه في النار.
وقالت فرقة: ذلك لما روي أن الكافر يلقى في النار مكتوفا مربوطة يداه إلى رجليه مع عنقه، ويكب على وجهه، فليس له شيء يتقي به إلا وجهه، وقالت فرقة: المعنى في ذلك صفة كثرة ما ينالهم من العذاب يتقيه بكل جارحة منه حتى بوجهه الذي هو أشرف جوارحه، وهذا المعنى أبين بلاغة، ثم مثل لقريش بالأمم الذين من قبلهم، وما نالهم من العذاب في الدنيا المتصل بعذاب الآخرة الذي هو أكبر، ونفى الله سبحانه عن القرآن العوج؛ لأنه لا اختلاف فيه، ولا تناقض، ولا مغمز بوجه.
[39.29-31]
وقوله سبحانه: { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشكسون } ، هذا مثل ضربه الله سبحانه في التوحيد، فمثل تعالى الكافر العابد للأوثان والشياطين بعبد لرجال عدة؛ في أخلاقهم شكاسة وعدم مسامحة؛ فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بتضايقهم في أوقاتهم، ويضايقون العبد في كثرة العمل؛ فهو أبدا في نصب منهم وعناء، فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها؛ هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها، ومتى توهم أنه أرضى صنما بالذبح له في زعمه، تفكر فيما يصنع مع الآخر؛ فهو أبدا تعب في ضلال، وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك، ومثل تعالى المؤمن بالله وحده؛ بعبد لرجل واحد يكلفه شغله؛ فهو يعمله على تؤدة وقد ساس مولاه، فالمولى يغفر زلته ويشكره على إجادة عمله، و { مثلا } مفعول ب { ضرب } و { رجلا } نصب على البدل و { متشكسون } معناه: لا سمح في أخلاقهم؛ بل فيها لجاج، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سالما» أي: سالما من الشركة، ثم وقف تعالى الكفار بقوله: { هل يستويان مثلا } ونصب { مثلا } على التمييز؛ وهذا التوقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان؛ فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد أجابوا، فقال: { الحمد لله } أي: على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم، وباقي الآية بين.
والاختصام في الآية قيل: عام في المؤمنين والكافرين، قال * ع *: ومعنى الآية عندي: أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيتخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في وجه الشريعة وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى الترمذي من حديث عبد الله بن الزبير قال:
" لما نزلت: { ثم إنكم يوم القيمة عند ربكم تختصمون } قال الزبير: يا رسول الله: أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟ قال: نعم قال: إن الأمر إذن لشديد "
انتهى.
[39.32-35]
وقوله تعالى: { فمن أظلم ممن كذب على الله... } الآية، الإشارة بهذا الكذب إلى قولهم: «إن لله صاحبة وولدا» وقولهم: هذا حلال، وهذا حرام، افتراء على الله، ونحو ذلك، وكذبوا أيضا بالصدق، وذلك تكذيبهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ثم توعدهم سبحانه توعدا فيه احتقارهم بقوله: { أليس فى جهنم مثوى للكفرين } وقرأ ابن مسعود: «والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به» والصدق هنا القرآن والشرع بجملته؛ وقالت فرقة «الذي» يراد به: «الذين»، وحذفت النون، قال * ع *: وهذا غير جيد وتركيب «جاء» عليه يرد ذلك، بل «الذي» ههنا هي للجنس، والآية معادلة لقوله: { فمن أظلم }. قال قتادة وغيره: الذي جاء بالصدق هو محمد عليه السلام والذي صدق به هم المؤمنون؛ وهذا أصوب الأقوال، وذهب قوم إلى أن الذي صدق به أبو بكر، وقيل: علي وتعميم اللفظ أصوب.
وقوله سبحانه: { أولئك هم المتقون } قال ابن عباس: اتقوا الشرك.
وقوله تعالى: { ليكفر } يحتمل أن يتعلق بقوله: { المحسنين } أي: الذين أحسنوا، لكي يكفر؛ وقاله ابن زيد، ويحتمل أن يتعلق بفعل مضمر مقطوع مما قبله؛ تقديره: يسرهم الله لذلك؛ ليكفر، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير.
[39.36-44]
وقوله تعالى: { أليس الله بكاف عبده } تقوية لنفس النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ حمزة والكسائي: «عباده» يريد الأنبياء، وأنت يا محمد أحدهم، فيدخل في ذلك المؤمنون المطيعون والمتوكلون على الله سبحانه.
وقوله سبحانه: { ويخوفونك بالذين من دونه } أي: بالذين يعبدون، وباقي الآية بين، وقد تقدم تفسير نظيره.
وقوله تعالى: { فمن اهتدى فلنفسه } ، أي: فلنفسه عمل وسعى، ومن ضل فعليها جنى، ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبرى، تدل الناظر على الوحدانية، وأن ذلك لا شركة فيه لصنم، وهي حالة التوفي، وذلك أن ما توفاه الله تعالى على الكمال، فهو الذي يموت، وما توفاه توفيا غير مكمل فهو الذي يكون في النوم، قال ابن زيد: النوم وفاة والموت وفاة وكثر الناس في هذه الآية، وفي الفرق بين النفس والروح، وفرق قوم بين نفس التمييز ونفس التخيل؛ إلى غير ذلك من الأقوال التي هي غلبة ظن، وحقيقة الأمر في هذا هي مما استأثر الله به وغيبه عن عباده في قوله:
الروح من أمر ربى
[الإسراء:85] ويكفيك أن في هذه الآية { يتوفى الأنفس } ، وفي الحديث الصحيح:
" إن الله قبض أرواحنا حين شاء، وردها علينا حين شاء "
، وفي حديث بلال في الوادي؛ فقد نطقت الشريعة بقبض الروح والنفس، وقد قال تعالى: { قل الروح من أمر ربى } والظاهر أن الخوض في هذا كله عناء، وإن كان قد تعرض للقول في هذا ونحوه أئمة، ذكر الثعلبي عن ابن عباس؛ أنه قال: «في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه»، وجاء في آداب النوم وأذكار النائم أحاديث صحيحة؛ ينبغي للعبد ألا يخلي نفسه منها، وقد روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا أوى الرجل إلى فراشه، ابتدره ملك وشيطان، فيقول الملك: اختم بخير، ويقول الشيطان: اختم بشر، فإن ذكر الله تعالى، ثم نام؛ بات الملك يكلؤه، فإن استيقظ؛ قال الملك: افتح بخير، وقال الشيطان: افتح بشر، فإن قال: الحمد لله الذي رد إلي نفسي، ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إن الله بالناس لرؤوف رحيم، فإن وقع من سريره، فمات، دخل الجنة "
، رواه النسائي، واللفظ له، والحاكم في «المستدرك» وابن حبان في «صحيحه»، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وزاد آخره: «الحمد لله الذي يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير» انتهى من «السلاح»، وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يأوي إلى فراشه:
" لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد؛ وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، غفرت له ذنوبه أو خطاياه شك مسعر وإن كانت مثل زبد البحر "
رواه ابن حبان في «صحيحه»، ورواه النسائي موقوفا، انتهى، وروى الترمذي عن أبي أمامة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" من أوى إلى فراشه طاهرا يذكر الله حتى يدركه النعاس، لم ينقلب ساعة من الليل يسأل الله شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه "
، انتهى، والأجل المسمى في هذه الآية: هو عمر كل إنسان، والضمائر في قوله تعالى: { أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون }: للأصنام.
[39.45-52]
وقوله تعالى: { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالأخرة... } الآية، قال مجاهد وغيره نزلت في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار، وقرأ
أفرءيتم اللت والعزى...
[النجم:19] الآية، وألقى الشيطان يعني في أسماع الكفار (تلك الغرانقة العلى) على ما مر في سورة الحج، فاستبشروا، واشمأزت نفوسهم: معناه: تقبضت كبرا وأنفة وكراهية ونفورا.
وقوله تعالى: { قل اللهم فاطر السموات... } الآية، أمر لنبيه عليه السلام بالدعاء إليه ورد الحكم إلى عدله، ومعنى هذا الأمر تضمن الإجابة.
وقوله تعالى: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } قال الثعلبي: قال السدي: ظنوا أشياء أنها حسنات فبدت سيئات، قال * ع *: قال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء من هذه الآية، وقال عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند الموت، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أخاف هذه الآية { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون }.
وقوله تعالى: { ثم إذا خولنه نعمة منا... } الآية، قال الزجاج: التخويل العطاء عن غير مجازاة، والنعمة هنا عامة في المال وغيره، وتقوى الإشارة إلى المال بقوله: { إنما أوتيته على علم } قال قتادة: يريد إنما أوتيته على علم مني بوجه المكاسب والتجارات، ويحتمل أن يريد: على علم من الله في واستحقاق حزته عند الله، ففي هذا التأويل اغترار بالله، وفي الأول إعجاب بالنفس، ثم قال تعالى: { بل هى فتنة } أي: ليس الأمر كما قال؛ بل هذه الفعلة به فتنة له وابتلاء، ثم أخبر تعالى عمن سلف من الكفرة؛ أنهم قد قالوا هذه المقالة كقارون وغيره، { فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } من الأموال، { والذين ظلموا من هؤلاء } المعاصرين لك، يا محمد، { سيصيبهم سيئات ما كسبوا }. قال أبو حيان: { فما أغنى } يحتمل أن تكون «ما» نافية أو استفهامية فيها معنى النفي، انتهى.
[39.53-54]
وقوله تعالى: { قل يعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله... } الآية، هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة، فتوبة الكافر تمحو ذنبه، وتوبة العاصي تمحو ذنبه؛ على ما تقدم تفصيله، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال عطاء بن يسار: نزلت في وحشي قاتل حمزة، وقال ابن إسحاق وغيره: نزلت في قوم بمكة آمنوا، ولم يهاجروا وفتنتهم قريش، فافتتنوا، ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم، [فنزلت] الآية فيهم، منهم الوليد بن الوليد وهشام بن العاصي؛ وهذا قول عمر بن الخطاب، وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي، الحديث، وقالت فرقة: نزلت في قوم كفار من أهل الجاهلية، قالوا: وما ينفعنا الإسلام، ونحن قد زنينا وقتلنا النفس، وأتينا كل كبيرة، فنزلت الآية فيهم، وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن، وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية { قل يعبادى... "
و { أسرفوا } معناه أفرطوا، والقنط أعظم اليأس، وقرأ نافع والجمهور «تقنطوا» بفتح النون، قال أبو حاتم: فيلزمهم أن يقرؤوا
من بعد ما قنطوا
[الشورى:28] بكسرها ولم يقرأ به أحد، وقرأ أبو عمرو «تقنطوا» بالكسر .
وقوله: { إن الله يغفر الذنوب جميعا } عموم بمعنى الخصوص؛ لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعا، وهي أيضا في المعاصي مقيدة بالمشيئة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ:
" إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي "
وقرأ ابن مسعود: «إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء» { وأنيبوا } معناه: ارجعوا.
[39.55-60]
وقوله سبحانه: { واتبعوا أحسن } معناه: أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيرة وأوامر ونواهي منجية وعدات على الطاعات، والبر، وتضمن أيضا حدودا على المعاصي ووعيدا على بعضها فالأحسن للمرء أن يسلك طريق الطاعة والانتهاء عن المعصية والعفو في الأمور ونحو ذلك من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية؛ فيحد أو يقع تحت الوعيد، فهذا المعنى هو المقصود ب { أحسن } ، وليس المعنى: أن بعض القرآن أحسن من بعض من حيث هو قرآن، * ت *: وروى أبو بكر بن الخطيب بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قول الله عز وجل : { يا حسرتى } قال: الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة، قال: فهي الحسرة، انتهى.
وقوله: { فرطت فى جنب الله } أي: في جهة طاعته وتضييع شريعته والإيمان به، وقال مجاهد: { فى جنب الله } أي: في أمر الله، وقول الكافر: { وإن كنت لمن السخرين } ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى ، و«كرة» مصدر من كر يكر، وهذا الكون في هذه الآية داخل في التمني، وباقي الآية أنواره لائحة، وحججه واضحة، ثم خاطب تعالى نبيه بخبر ما يراه يوم القيامة من حالة الكفار، وفي ضمن هذا الخبر وعيد بين لمعاصريه عليه السلام فقال: { ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } { ترى } من رؤية العين، وظاهر الآية أن وجوههم تسود حقيقة.
[39.61-66]
وقوله سبحانه: { وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم... } الآية، ذكر تعالى حالة المتقين ونجاتهم؛ ليعادل بذلك ما تقدم من شقاوة الكافرين، وفي ذلك ترغيب في حالة المتقين؛ لأن الأشياء تتبين بأضدادها، و«مفازتهم» مصدر من الفوز، وفي الكلام حذف مضاف، تقديره: وينجي الله الذين اتقوا بأسباب مفازتهم، وال { مقاليد }: المفاتيح؛ وقاله ابن عباس واحدها «مقلاد» ك«مفتاح»، وقال عثمان بن عفان: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن { مقاليد السموات والأرض } فقال:
" هي لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير "
وقوله تعالى: { ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك } قالت فرقة: المعنى: ولقد أوحي إلى كل نبي؛ لئن أشركت ليحبطن عملك، * ت *: قد تقدم غير ما مرة، بأن ما ورد من مثل هذا، فهو محمول على إرادة الأمة لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المراد من يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطب هو صلى الله عليه وسلم تعظيما للأمر، قال * ص *: { ليحبطن } جواب القسم، وجواب الشرط محدوف؛ لدلالة جواب القسم عليه، انتهى.
[39.67-72]
وقوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } معناه وما عظموا الله حق عظمته، ولا وصفوه بصفاته، ولا نفوا عنه ما لا يليق به، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كفار قريش الذين كانت هذه الآيات كلها محاورة لهم، وردا عليهم، وقالت فرقة: نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله تعالى، فألحدوا وجسموا وأتوا بكل تخليط.
وقوله تعالى: { والأرض جميعا قبضته } معناه: في قبضته، واليمين هنا، والقبضة عبارة عن القدرة والقوة، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل و { فصعق } في هذه الآية، معناه: خر ميتا، والصور: القرن، ولا يتصور هنا غير هذا، ومن يقول: { الصور } جمع صورة، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث، وقد تقدم بيان نظير هذه الآية في غير هذا الموضع.
وقوله تعالى: { ثم نفخ فيه أخرى } هي نفخة البعث، وفي الحديث:
" أن بين النفختين أربعين "
لا يدري أبو هريرة سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة * ت *: ولفظ مسلم: عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم
" وما بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة: أربعون سنة؟ قال: أبيت قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون يوما؟ قال: أبيت "
الحديث، قال صاحب «التذكرة»: فقيل: معنى قوله: «أبيت» أي: امتنعت من بيان ذلك؛ إذ ليس هو مما تدعو إليه حاجة، وعلى هذا كان عنده علم ذلك، وقيل: المعنى: أبيت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وعلى هذا: فلا علم عنده، والأول أظهر، وقد جاء أن ما بين النفختين أربعين عاما، انتهى، وقد تقدم أن الصحيح في المستثنى في الآية أنهم الشهداء قال الشيخ أبو محمد بن بزيزة في «شرح الأحكام الصغرى» لعبد الحق: الذي تلقيناه من شيوخنا المحققين أن العوالم التي لا تفنى سبعة: العرش، والكرسي، واللوح، والقلم، والجنة، والنار، والأرواح. انتهى.
{ وأشرقت الأرض بنور ربها } معناه: أضاءت وعظم نورها، و { الأرض } في هذه الآية: الأرض المبدلة من الأرض المعروفة.
وقوله: { بنور ربها } إضافة مخلوق إلى خالق، و { الكتب } كتاب حساب الخلائق، ووحده على اسم الجنس ؛ لأن كل أحد له كتاب على حدة، { وجيء بالنبيين } أي: ليشهدوا على أممهم، و { الشهداء } قيل: هو جمع «شاهد» وقيل: هو جمع «شهيد» في سبيل الله، والأول أبين في معنى التوعد، والضمير في قوله { بينهم } عائد على العالم بأجمعه، إذ الآية تدل عليهم، و { زمرا } معناه: جماعات متفرقة، واحدتها: زمرة.
وقوله: { فتحت } جواب «إذا»، والكلام هنا يقتضي أن فتحها إنما يكون بعد مجيئهم، وفي وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم، وهكذا هي حال السجون ومواضع الثقاف والعذاب؛ بخلاف قوله في أهل الجنة { وفتحت } ، فالواو مؤذنة بأنهم يجدونها مفتوحة كمنازل الأفراح والسرور.
وقوله تعالى: { وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايت ربكم... } الآية، في قوله: { منكم } أعظم في الحجة، أي: رسل من جنسكم؛ لا يصعب عليكم مرامهم، ولا فهم أقوالهم.
[39.73-75]
وقوله تعالى: { وسيق الذين اتقوا ربهم }: لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذين اتقوا الشرك، والواو في قوله: { وفتحت } مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها، وقالت فرقة: هي زائدة وقال قوم: أشار إليهم ابن الأنباري، وضعف قولهم: هذه واو الثمانية، وقد تقدم الكلام عليها، وجواب «إذا» فتحت، وعن المبرد: جواب «إذا» محذوف، تقديره بعد قوله: { خلدين }: سعدوا وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود، { وسلم عليكم } تحية، و { طبتم } معناه: أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء، { وأورثنا الأرض } يريد: أرض الجنة، و { نتبوأ } معناه: نتخذ أمكنة ومساكن، ثم وصف تعالى حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به والحفوف الإحداق بالشيء، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف، وهو الجانب، قال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي؛ أنه تلا هذه الآية: { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها } قال: وجدوا عند باب الجنة شجرة يخرج من ساقها عينان، فعمدوا إلى إحداهما كأنما أمروا بها، فاغتسلوا بها، فلم تشعث رؤوسهم بعدها أبدا، ولم تتغير جلودهم بعدها أبدا كأنما دهنوا بالدهن، ثم عمدوا إلى الأخرى، فشربوا منها، فطهرت أجوافهم، وغسلت كل قذر فيها، وتتلقاهم على كل باب من أبواب الجنة ملائكة: { سلم عليكم طبتم فادخلوها خلدين } ، ثم تتلقاهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان الدنيا بالحميم، يجيء من الغيبة يقولون: أبشر، أعد الله لك كذا وكذا، وأعد الله لك كذا، ثم يذهب الغلام منهم إلى الزوجة من أزواجه، فيقول: قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعي به في الدنيا، فتقول له: أنت رأيته؟ فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها، ثم ترجع، فيجيء، فينظر إلى تأسيس بنيانه من جندل اللؤلؤ أخضر وأصفر وأحمر؛ من كل لون ثم يجلس فينظر؛ فإذا زرابي مبثوثة، وأكواب موضوعة، ثم يرفع رأسه فلولا أن الله قدر ذلك، لأذهب بصره إنما هو مثل البرق؛ ثم يقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، انتهى.
وقوله تعالى: { يسبحون بحمد ربهم } قالت فرقة معناه: أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله، وقالت فرقة: تسبيحهم هو بترديد حمد الله، وتكراره، قال الثعلبي: متلذذين لا متعبدين مكلفين.
وقوله تعالى: { وقيل الحمد لله رب العلمين } ختم للأمر، وقول جزم عند فصل القضاء، أي: أن هذا الملك الحاكم العادل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه بين عباده، ومن هذه الآية جعلت { الحمد لله رب العلمين } خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم، قال قتادة: فتح الله أول الخلق بالحمد، فقال:
الحمد لله الذى خلق السموات والأرض
[الأنعام:1] وختم القيامة بالحمد في هذه الآية.
قال * ع *: وجعل سبحانه { الحمد لله رب العلمين } فاتحة كتابه؛ فبه يبدأ كل أمر وبه يختم، وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن؛ كما قيل: [الطويل]
وآخر شيء أنت في كل ضجعة
وأول شيء أنت عند هبوبي
[40 - سورة غافر]
[40.1-5]
قوله تعالى: { حم }: تقدم القول في الحروف المقطعة، ويختص هذا الموضع بقول آخر قاله الضحاك والكسائي؛ أن { حم } هجاء (حم) بضم الحاء وتشديد الميم المفتوحة ؛ كأنه يقول: حم الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله، وقال ابن عباس: الر، وحم، ون، هي حروف الرحمن مقطعة في سور ، وسأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن حم ما هو؟ فقال: بدء أسماء، وفواتح سور، و { ذى الطول } معناه: ذي التطول والمن بكل نعمة، فلا خير إلا منه سبحانه، فترتب في هذه الآية وعيد بين وعدين، وهكذا رحمته سبحانه تغلب غضبه، قال * ع *: سمعت هذه النزعة من أبي رحمه الله وهو نحو من قول عمر رضي الله عنه : «لن يغلب عسر يسرين» * ت *: هو حديث، والطول: الإنعام، وعبارة البخاري: الطول: التفضل، وحكى الثعلبي عن أهل الإشارة أنه تعالى: غافر الذنب فضلا، وقابل التوب وعدا، شديد العقاب عدلا، لا إله إلا هو إليه المصير فردا، وقال ابن عباس: الطول: السعة، والغنى، وتقلب الذين كفروا في البلاد: عبارة عن تمتعهم بالمساكن والمزارع والأسفار وغير ذلك، { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } أي: ليهلكوه، كما قال تعالى: { فأخذتهم } ، والعرب تقول للقتيل: أخذ، وللأسير كذلك؛ قال قتادة: { ليأخذوه } معناه: ليقتلوه، و { ليدحضوا } معناه ليزلقوا ويذهبوا، والمدحضة: المزلة، والمزلقة.
وقوله: { فكيف كان عقاب }: تعجيب وتعظيم، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر.
[40.6-9]
وقوله سبحانه: { وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا } الآية، في مصحف ابن مسعود «وكذلك سبقت كلمة ربك» والمعنى: وكما أخذت أولئك المذكورين فأهلكتهم، فكذلك حقت كلماتي على جميع الكفار، من تقدم منهم ومن تأخر أنهم أصحاب النار.
وقوله تعالى: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به... } الآية، أخبر الله سبحانه بخبر يتضمن تشريف المؤمنين، ويعظم الرجاء لهم، وهو أن الملائكة الحاملين للعرش والذين حول العرش؛ وهؤلاء أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين، ويسألون الله لهم الرحمة والجنة؛ وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية،
كان على ربك وعدا مسئولا
[الفرقان:16]أي سألته الملائكة، قال * ع *: وفسر في هذه الآية المجمل الذي في قوله تعالى:
ويستغفرون لمن فى الأرض
[الشورى:5]؛ لأن الملائكة لا تستغفر لكافر، وقد يجوز أن يقال: إن استغفارهم لهم بمعنى طلب هدايتهم، وبلغني أن رجلا قال لبعض الصالحين: ادع لي، واستغفر لي، فقال له: تب، واتبع سبيل الله يستغفر لك من هو خير مني، وتلا هذه الآية، وقال مطرف بن الشخير: وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد الشياطين، وتلا هذه الآية، وروى جابر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة، قال الداوودي: وعن هارون بن رياب قال: حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت حسن، فأربعة يقولون: سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك "
، انتهى. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه [مسيرة] سبعمائة عام "
، انتهى، وقد تقدم.
وقولهم: { ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما } معناه: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء.
وقوله:
" ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم "
روي عن سعيد بن جبير في ذلك: أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته، فيقول: أين أبي؟ أين أمي، أين ابني، أين زوجي، فيلحقون به؛ لصلاحهم ولتنبيهه عليهم، وطلبه إياهم، وهذه دعوة الملائكة.
وقولهم: { وقهم السيئت } معناه: اجعل لهم وقاية تقيهم السيئات، واللفظ يحتمل أن يكون الدعاء في أن يدفع الله عنهم أنفس السيئات حتى لا ينالهم عذاب من أجلها، ويحتمل أن يكون الدعاء في دفع العذاب اللاحق من السيئات، فيكون في اللفظ على هذا حذف مضاف، كأنه قال: وقهم جزاء السيئات، قال الفخر: وقوله تعالى: { ومن تق السيئت يومئذ فقد رحمته } يعني: من تق السيئات في الدنيا، فقد رحمته في يوم القيامة، انتهى، وهذا راجع إلى التأويل الأول.
[40.10-11]
وقوله تعالى: { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم... } الآية، روي أن هذه الحال تكون للكفار عند دخولهم النار؛ فإنهم إذا دخلوا فيها مقتوا أنفسهم وتناديهم ملائكة العذاب على جهة التوبيخ: لمقت الله إياكم في الدنيا؛ إذ كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون، أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم، هذا هو معنى الآية؛ وبه فسر مجاهد وقتادة وابن زيد، واللام في قوله: { لمقت } يحتمل أن تكون لام ابتداء، ويحتمل أن تكون لام قسم، وهو أصوب، و { أكبر } خبر الابتداء، واختلف في معنى قولهم: { أمتنا اثنتين... } الآية، فقال ابن عباس وغيره: أرادوا موتة كونهم في الأصلاب، ثم إحياءهم في الدنيا، ثم إماتتهم الموت المعروف، ثم إحياءهم يوم القيامة، وهي كالتي في سورة البقرة
كيف تكفرون بالله وكنتم أموتا
[البقرة:28] الآية، وقال السدي: أرادوا أنه أحياهم في الدنيا، ثم أماتهم، ثم أحياهم في القبر وقت السؤال، ثم أماتهم فيه، ثم أحياهم في الحشر، قال * ع *: هذا فيه الإحياء ثلاث مرار، والأول أثبت، وهذه الآية متصلة المعنى بالتي قبلها، وبعد قولهم: { فهل إلى خروج من سبيل } محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره. لا إسعاف لطلبتكم، أو نحو هذا من الرد.
[40.12-14]
وقوله تعالى: { ذلكم } يحتمل أن يكون إشارة إلى العذاب الذي هم فيه، أو إلى مقتهم أنفسهم أو إلى المنع والزجر والإهانة.
وقوله تعالى: { ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده } معناه بحالة توحيد ونفي لما سواه، كفرتم، وإن يشرك به اللات والعزى وغيرهما، صدقتم، فالحكم اليوم بعذابكم وتخليدكم في النار لله؛ لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في الألوهية.
وقوله سبحانه: { فادعوا الله مخلصين له الدين... } الآية مخاطبة للمؤمنين أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم و { ادعوا } معناه: اعبدوا.
[40.15-18]
وقوله تعالى: { رفيع الدرجت } ويحتمل أن يريد بالدرجات صفاته العل، وعبر بما يقرب من أفهام السامعين، ويحتمل أن يريد: رفيع الدرجات التي يعطيها للمؤمنين، ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنته، و { العرش } هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السموات السبع والكرسي والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض.
وقوله تعالى: { يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده } قال الضحاك: الروح هنا هو: الوحي القرآن وغيره مما لم يتل وقال قتادة والسدي: الروح: النبوة ومكانتها؛ كما قال تعالى:
روحا من أمرنا
[الشورى:52] وسمى هذا روحا؛ لأنه تحيا به الأمم والأزمان كما يحيا الجسد بروحه، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عاما لكل ما ينعم الله به على عباده المهتدين في تفهيمه الإيمان والمعقولات الشريفة، والمنذر بيوم التلاق على هذا التأويل هو الله تعالى، قال الزجاج: الروح كل ما فيه حياة الناس، وكل مهتد حي، وكل ضال كالميت.
وقوله: { من أمره } إن جعلته جنسا للأمور ف«من» للتبعيض أو لابتداء الغاية، وإن جعلت الأمر من معنى الكلام ف«من» إما لابتداء الغاية، وإما بمعنى الباء، ولا تكون للتبعيض بتة، وقرأ الجمهور: «لتنذر» بالتاء على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ أبي بن كعب وجماعة: «لينذر» بالياء، و { يوم التلاق } معناه: تلاقي جميع العالم بعضهم بعضا، وذلك أمر لم يتفق قط قبل ذلك اليوم.
وقوله: { يوم هم برزون } معناه في براز من الأرض يسمعهم الداعي وينفدهم البصر.
وقوله تعالى: { لمن الملك اليوم } روي أن الله تعالى يقرر هذا التقرير، ويسكت العالم هيبة وجزعا، فيجيب سبحانه هو نفسه بقوله: { لله الواحد القهار } ، ثم يعلم الله تعالى أهل الموقف بأن اليوم تجزى كل نفس بما كسبت، وباقي الآية تكرر معناه، فانظره في مواضعه.
ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بإنذار العالم وتحذيرهم من يوم القيامة وأهواله، و«الآزفة»: القريبة من أزف الشيء إذا قرب، و { الأزفة } في الآية: صفة لمحذوف قد علم واستقر في النفوس هوله، والتقدير يوم الساعة الآزفة، أو الطامة: الآزفة، ونحو هذا.
وقوله سبحانه : { إذ القلوب لدى الحناجر } معناه: عند الحناجر، أي قد صعدت من شدة الهول والجزع، والكاظم الذي يرد غيظه وجزعه في صدره، فمعنى الآية: أنهم يطمعون في رد ما يجدونه في الحناجر، والحال تغالبهم، و { يطاع } في موضع الصفة ل { شفيع }؛ لأن التقدير: ولا شفيع مطاع، قال أبو حيان { يطاع } في موضع صفة ل { شفيع } ، فيحتمل أن يكون في موضع خفض على اللفظ، أو في موضع رفع على الموضع، ثم يحتمل النفي أن يكون منسحبا على الوصف فقط، فيكون ثم شفيع، ولكنه لا يطاع، ويحتمل أن ينسحب على الموصوف وصفته، أي: لا شفيع فيطاع، انتهى. وهذا الاحتمال الأخير هو الصواب، قال * ع *: وهذه الآية كلها عندي اعتراض في الكلام بليغ.
[40.19-20]
وقوله: { يعلم خائنة الأعين } متصل بقوله:
سريع الحساب
[غافر:17] وقالت فرقة: { يعلم } متصل بقوله:
لا يخفى على الله منهم شىء
[غافر:16] وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين، ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل، والخائنة: مصدر كالخيانة، ويحتمل أن تكون { خائنة } اسم فاعل، أي: يعلم الأعين إذا خانت في نظرها، قال أبو حيان: والظاهر أن: { خائنة الأعين } من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الأعين الخائنة، كقوله: [البسيط]
.................
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
أي: الناس الكرام، وجوزوا أن يكون { خائنة } مصدرا، ك«العافية» أي: يعلم خيانة الأعين، انتهى، وهذه الآية عبارة عن علم الله تعالى بجميع الخفيات، فمن ذلك كسر الجفون والغمز بالعين، أو النظرة التي تفهم معنى؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم [لأصحابه في شأن رجل ارتد ثم جاء ليسلم:
" هلا قام إليه رجل منكم حين تلكأت عنه، فضرب عنقه؟ فقالوا: يا رسول الله، ألا أومأت إلينا؟ فقال صلى الله عليه وسلم]: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين "
، وفي بعض الكتب المنزلة من قول الله عز وجل: أنا مرصاد الهمم أنا العالم بمجال الفكر وكسر الجفون، وقال مجاهد: «خائنة الأعين»: مسارقة النظر إلى ما لا يجوز، ثم قوى تعالى هذا الإخبار بقوله: { وما تخفى الصدور } مما لم يظهر على عين ولا غيرها، وأسند أبو بكر بن الخطيب عن مولى أم معبد الخزاعية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو:
" اللهم طهر قلبي من النفاق، وعملي من الرياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة؛ فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور "
، انتهى. قال القشيري في: «التحبير» ومن علم اطلاع الحق تعالى عليه يكون مراقبا لربه؛ وعلامته أن يكون محاسبا لنفسه، ومن لم تصح محاسبته، لم تصح مراقبته، وسئل بعضهم عما يستعين به العبد على حفظ البصر، فقال: يستعين عليه بعلمه أن نظر الله إليه سابق على نظره إلى ما ينظر إليه، انتهى.
وقوله سبحانه: { والله يقضى بالحق } أي: يجازي الحسنة بعشر والسيئة بمثلها، وينصف المظلوم من الظالم؛ إلى غير ذلك من أقضية الحق والعدل، والأصنام لا تقضي بشيء، ولا تنفذ أمرا، و { يدعون } معناه: يعبدون.
[40.21-25]
وقوله سبحانه: { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق } الضمير في: { يسيروا } لكفار قريش، والآثار في الأرض هي المباني والمآثر والصيت الدنيوي، وذنوبهم كانت تكذيب الأنبياء، والواقي الساتر المانع؛ مأخوذ من الوقاية، وباقي الآية بين، وخص تعالى هامان وقارون بالذكر تنبيها على مكانهما من الكفر؛ ولكونهما أشهر رجال فرعون، وقيل: إن قارون هذا ليس بقارون بني إسرائيل، وقيل: هو ذلك، ولكنه كان منقطعا إلى فرعون خادما له مستغنيا معه.
وقوله: { سحر } أي: في أمر العصا، و { كذاب } في قوله: إني رسول الله، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لما جاءهم موسى بالنبوة والحق من عند الله؛ قال هؤلاء الثلاثة وأجمع رأيهم على أن يقتل أبناء بني إسرائيل أتباع موسى، وشبانهم وأهل القوة منهم، وأن يستحيا النساء للخدمة والاسترقاق، وهذا رجوع منهم إلى نحو القتل الأول الذي كان قبل ميلاد موسى، ولكن هذا الأخير لم تتم لهم فيه عزمة، لا أعانهم الله تعالى على شيء منه، قال قتادة: هذا قتل غير الأول الذي [كان] حذر المولود، وسموا من ذكرنا من بني إسرائيل أبناء؛ كما تقول لأنجاد القبيلة أو المدينة وأهل الظهور فيها: هؤلاء أبناء فلانة.
وقوله تعالى: { وما كيد الكفرين إلا فى ضلل } عبارة وجيزة تعطي قوتها أن هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل، ولا نجحت لهم فيهم سعاية.
[40.26-33]
وقوله تعالى: { وقال فرعون ذرونى أقتل موسى... } الآية، الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرتهم آيات موسى عليه السلام انهد ركنه، واضطربت معتقدات أصحابه، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره، وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما، وفي هذه الآية على ذلك دليلان:
أحدهما: قوله: { ذروني }؛ فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم.
والدليل الثاني: مقالة المؤمن وما صدع به، وإن مكاشفته لفرعون أكثر من مساترته، وحكمه بنبوة موسى أظهر من توريته في أمره، وأما فرعون فإنما نحا إلى المخرقة والتمويه والاضطراب، ومن ذلك قوله: { ذروني أقتل موسى وليدع ربه } أي: إني لا أبالي برب موسى، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم، فقال: { إني أخاف أن يبدل دينكم } والدين: السلطان؛ ومنه قول زهير: [البسيط]
لئن حللت بحي في بني أسد
في دين عمرو وحالت بيننا فدك
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «أو أن يظهر» وقرأ الباقون: «وأن يظهر»؛ فعلى القراءة الأولى: خاف فرعون أحد أمرين، وعلى الثانية: خاف الأمرين معا، ولما سمع موسى مقالة فرعون دعا، وقال: { إني عذت بربي وربكم... } الآية، ثم حكى الله سبحانه مقالة رجل مؤمن من آل فرعون؛ شرفه بالذكر وخلد ثناءه في الأمم غابر الدهر، قال * ع *: سمعت أبي رحمه الله يقول: سمعت أبا الفضل ابن الجوهري على المنبر يقول؛ وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة، فأطرق قليلا، ثم رفع رأسه، وأنشد: [الطويل]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن مقتد
ماذا تريد من قوم قرنهم الله بنبيه، وخصهم بمشاهدة وحيه، وقد أثنى الله تعالى على رجل مؤمن من آل فرعون، كتم إيمانه وأسره، فجعله تعالى في كتابه، وأثبت ذكره في المصاحف، لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ إذ جرد سيفه بمكة، وقال: والله، لا أعبد الله سرا بعد اليوم، قال مقاتل: كان هذا المؤمن ابن عم فرعون، قال الفخر: قيل: إنه كان ابن عم لفرعون، وكان جاريا مجرى ولي العهد له، ومجرى صاحب السر له، وقيل: كان قبطيا من قوم فرعون، وقيل: إنه كان من بني إسرائيل، والقول الأول أقرب؛ لأن لفظ الآل يقع على القرابة والعشيرة، انتهى .
قال الثعلبي: قال ابن عباس وأكثر العلماء: كان اسمه «حزقيل»، وقيل: حزيقال، وقيل: غير هذا، انتهى.
وقوله: { يصبكم بعض الذى يعدكم } قال أبو عبيدة وغيره: { بعض } هنا بمعنى: «كل»، وقال الزجاج: هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه نفي إصابة الكل، قال * ع *: ويظهر لي أن المعنى: يصبكم القسم الواحد مما يعد به، [لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم، وإن كفروا بالعذاب الأليم، فإن كان صادقا، فالعذاب بعض ما وعد به]، وقول المؤمن: { يقوم لكم الملك اليوم ظهرين فى الأرض } استنزال لهم ووعظ.
وقوله: { فى الأرض } يريد أرض مصر، وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون؛ ولذلك استكان هو، وراجع بقوله: { ما أريكم إلا ما أرى } واختلف الناس من المراد بقوله تعالى: { وقال الذي آمن } ، فقال الجمهور: هو المؤمن المذكور؛ قص الله تعالى أقاويله إلى آخر الآيات، وقالت فرقة: بل كلام ذلك المؤمن قد تم؛ وإنما أراد تعالى: { الذي آمن } موسى عليه السلام محتجين بقوة كلامه، وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك؛ ولم يكن كلام الأول إلا بملاينة لهم.
وقوله: { مثل يوم الأحزاب } أي: مثل يوم من أيامهم؛ لأن عذابهم لم يكن في عصر واحد، والمراد بالأحزاب المتحزبون على الأنبياء، و { مثل } الثاني: بدل من الأول، والدأب: العادة، «ويوم التنادي» معناه: يوم ينادي قوم قوما، ويناديهم الآخرون؛ واختلف في التنادي المشار إليه، فقال قتادة: هو نداء أهل الجنة أهل النار،
فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا
[الأعراف:44] وقيل: هو النداء الذي يتضمنه قوله تعالى:
يوم ندعوا كل أناس بإممهم
[الإسراء:71] قال * ع *: ويحتمل أن يكون المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة؛ وذلك كثير. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح: «يوم التناد» بشد الدال؛ وهذا معنى آخر ليس من النداء، بل هو من: ند البعير: إذا هرب؛ وبهذا المعنى فسر ابن عباس والسدي هذه الآية، وروت هذه الفرقة، في هذا المعنى حديثا أن الله تعالى إذا طوى السموات نزلت ملائكة كل سماء، فكانت صفا بعد صف مستديرة بالأرض التي عليها الناس للحساب؛ فإذا رأى الخلق هول القيامة، وأخرجت جهنم عنقا إلى أصحابها، فر الكفار وندوا مدبرين إلى كل جهة، فتردهم الملائكة إلى المحشر؛ لا عاصم لهم، والعاصم: المنجي.
[40.34-40]
وقوله: { ولقد جاءكم يوسف... } الآية، قالت فرقة منهم الطبري: يوسف المذكور هنا هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام وروي عن وهب بن منبه؛ أن فرعون موسى هو فرعون يوسف عمر إلى زمن موسى، وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة، وقالت فرقة: بل هو فرعون آخر.
وقوله: { كبر مقتا } أي: كبر مقتا جدالهم عند الله، فاختصر ذكر الجدال؛ لدلالة تقدم ذكره عليه، وقرأ أبو عمرو وحده: «على كل قلب» بالتنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين، وفي مصحف ابن مسعود: «على قلب (كل) متكبر جبار»، ثم إن فرعون لما أعيته الحيل في مقاومة موسى، نحا إلى المخرقة، ونادى هامان وزيره أن يبني له صرحا؛ فيروى أنه طبخ الآجر لهذا الصرح، ولم يطبخ قبله، وبناه ارتفاع أربعمائة ذراع، فبعث الله جبريل فمسحه بجناحه، فكسره ثلاث كسر، تفرقت اثنتان، ووقعت ثالثة في البحر، { الأسباب } الطرق؛ قاله السدي، وقال قتادة: أراد الأبواب، وقيل عنى لعله يجد مع قربه من السماء سببا يتعلق به.
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «وصد عن السبيل» بضم الصاد وفتح الدال ، عطفا على { زين } ، والباقون بفتح الصاد والتباب: الخسران؛ ومنه
تبت يدآ أبي لهب
[المسد:1] وبه فسرها مجاهد وقتادة، ثم وعظهم الذي آمن، فدعا إلى اتباع أمر الله.
وقوله: { اتبعون أهدكم } يقوي أن المتكلم موسى، وإن كان الآخر يحتمل أن يقول ذلك، أي: اتبعوني في اتباع موسى، ثم زهدهم في الدنيا، وأنها شيء يتمتع به قليلا، ورغب في الآخرة، إذ هي دار الاستقرار، قال الغزالي في «الإحياء»: من أراد أن يدخل الجنة بغير حساب، فليستغرق أوقاته في التلاوة والذكر والتفكر في حسن المآب، ومن أراد أن ترجح كفة حسناته وتثقل موازين خيراته، فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته، فإن خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، فأمره في خطر، لكن الرجاء غير منقطع، والعفو من كرم الله منتظر، انتهى.
[40.41-56]
وقوله تعالى: { ويقوم ما لي أدعوكم إلى النجاة... } الآية، قد تقدم ذكر الخلاف، هل هذه المقالات لموسى أو لمؤمن آل فرعون، والدعاء إلى النجاة هو الدعاء إلى سببها؛ وهو توحيد الله تعالى وطاعته، وباقي الآية بين.
وقوله: { أنما تدعونني } المعنى: وإن الذي تدعونني إليه من عبادة غير الله ليس له دعوة، أي: قدر وحق يجب أن يدعى أحد إليه ثم توعدهم بأنهم سيذكرون قوله عند حلول العذاب بهم، والضمير في { فوقاه } يحتمل أن يعود على موسى، أو على مؤمن آل فرعون؛ على ما تقدم من الخلاف.
وقال القائلون بأنه مؤمن آل فرعون: إن ذلك المؤمن نجا مع موسى عليه السلام في البحر، وفر في جملة من فر معه من المتبعين.
وقوله تعالى في آل فرعون: { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا... } الآية، قوله: { النار } رفع على البدل من قوله: { سوء } وقيل رفع بالابتداء، وخبره { يعرضون } قالت فرقة: هذا الغدو والعشي هو في الدنيا، أي: في كل غدو وعشي من أيام الدنيا يعرض آل فرعون على النار، قال القرطبي في «التذكرة»: وهذا هو عذاب القبر في البرزخ، انتهى؛ وكذا قال الإمام الفخر، وروي في ذلك أن أرواحهم في أجواف طير سود تروح بهم وتغدو إلى النار؛ وقاله الأوزاعي عافانا الله من عذابه ، وخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة "
،انتهى.
وقوله [تعالى] { ويوم تقوم الساعة } أي: ويوم القيامة يقال: { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } وآل فرعون: أتباعه وأهل دينه، والضمير في قوله: { يتحاجون } لجميع كفار الأمم، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون، والعامل في: «إذ» فعل مضمر، تقديره: اذكر، ثم قال جميع من في النار لخزنتها: { ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب }؛ فراجعتهم الخزنة على معنى التوبيخ والتقرير: { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينت } ، فأقر الكفار عند ذلك، و { قالوا بلى } ، أي: قد كان ذلك، فقال لهم الخزنة عند ذلك: ادعوا أنتم إذن، وهذا على معنى الهزء بهم.
وقوله تعالى: { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } قيل: هو من قول الخزنة، وقيل: هو من قول الله تعالى إخبارا منه لمحمد عليه السلام ، ثم أخبر تعالى أنه ينصر رسله والمؤمنين في الدنيا والآخرة، ونصر المؤمنين داخل في نصر الرسل، وأيضا، فقد جعل الله للمؤمنين الفضلاء ودا، ووهبهم نصرا إذا ظلموا، وحضت الشريعة على نصرهم؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" من رد عن أخيه في عرضه، كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم "
، وقوله عليه السلام :
" من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث الله ملكا يحميه يوم القيامة "
وقوله تعالى: { ويوم يقوم الأشهد } يريد يوم القيامة، قال الزجاج، و { الأشهد }: جمع شاهد، وقال الطبري: جمع شهيد، كشريف وأشراف، و { يوم لا ينفع } بدل من الأول، والمعذرة، مصدر، كالعذر، ثم أخبر تعالى بقصة موسى وما آتاه من النبوة، تأنيسا لمحمد، وضرب أسوة وتذكيرا بما كانت العرب تعرفه من أمر موسى، فبين ذلك أن محمدا ليس ببدع من الرسل، والهدى: النبوة والحكمة؛ التوراة تعم جميع ذلك.
وقوله تعالى: { واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار } قال الطبري: { الإبكار }: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقيل: من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، وقال الحسن: { بالعشى } يريد صلاة العصر، { والإبكر } يريد صلاة الصبح.
وقوله تعالى: { إن فى صدورهم إلا كبر } [أي: ليسوا على شيء، بل في صدورهم كبر] وأنفة عليك، ثم نفى أن يكونوا يبلغون آمالهم بحسب ذلك الكبر، ثم أمره تعالى بالاستعاذة بالله في كل أمره من كل مستعاذ منه.
[40.57-59]
وقوله تعالى: { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس }: فيه توبيخ لهؤلاء الكفرة المتكبرين، كأنه قال: مخلوقات الله أكبر وأجل قدرا من خلق البشر، فما لأحد منهم يتكبر على خالقه، ويحتمل أن يكون الكلام في معنى البعث، وأن الذي خلق السموات والأرض قادر على خلق الناس تارة أخرى، والخلق هنا: مصدر مضاف إلى المفعول، { والذين ءامنوا وعملوا الصلحات } يعادلهم قوله: { ولا المسيء } وهو اسم جنس يعم المسيئين.
[40.60]
وقوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } آية تفضل ونعمة ووعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالإجابة عند الدعاء؛ قال النووي: وروينا في «كتاب الترمذي» عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف [عنه] من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذن نكثر، قال: الله أكثر "
قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم في «المستدرك» من رواية أبي سعيد الخدري، وزاد فيه: «أو يدخر له من الأجر مثلها»، انتهى، قال ابن عطاء الله: لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبا ليأسك؛ فهو ضمن لك الإجابة فيما يختار لك لا فيما تختار لنفسك، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد، انتهى، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني "
رواه الجماعة إلا أبا داود: واللفظ لمسلم، انتهى من «السلاح»، وقالت فرقة: معنى { ادعوني }: اعبدوني، و { أستجب } معناه: بالنصر والثواب؛ ويدل على هذا قوله: { إن الذين يستكبرون عن عبادتى... } الآية، * ت *: وهذا التأويل غير صحيح، والأول هو الصواب إن شاء الله ؛ للحديث الصحيح؛ فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" «الدعاء هو العبادة». وقرأ: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } "
رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان في «صحيحهما»؛ وقال الترمذي، واللفظ له : حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح» والداخر، الصاغر الذليل.
[40.61-66]
وقوله تعالى: { الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه... } الآيات، هذا تنبيه على آيات الله وعبره، متى تأملها العاقل أدته إلى توحيد الله سبحانه، والإقرار بربوبيته، و { تؤفكون } معناه: تصرفون عن طريق النظر والهدى، { كذلك يؤفك } أي: على هذه الهيئة وبهذه الصفة صرف الله تعالى الكفار الجاحدين بآيات الله من الأمم المتقدمة عن طريق الهدى
[40.67-68]
وقوله تعالى: { هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل } الآية، تنبيه على الوحدانية بالعبرة في ابن آدم وتدريج خلقه.
وقوله سبحانه: { ومنكم من يتوفى من قبل } عبارة تردد في الأدراج المذكورة، فمن الناس من يموت قبل أن يخرج طفلا وآخرون قبل الأشد، وآخرون قبل الشيخوخة، { ولتبلغوا أجلا مسمى } ، أي: ليبلغ كل واحد آجلا مسمى لا يتعداه، و { لعلكم تعقلون } الحقائق إذا نظرتم في هذا وتدبرتم حكمة الله تعالى.
[40.69-77]
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يجدلون فى ءايت الله... } الآية في الكفار المجادلين في رسالة نبينا محمد عليه السلام و { يسحبون } معناه يجرون، والسحب: الجر والحميم الذائب الشديد الحر من النار، و { يسجرون }: قال مجاهد: معناه توقد النار بهم، والعرب تقول؛ سجرت التنور: إذا ملأته نارا، وقال السدي: يسجرون: يحرقون، ثم أخبر تعالى؛ أنهم يقال لهم: أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا؟ فيقولون: ضلوا، أي: تلفوا لنا وغابوا، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب، فيقولون: { بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا } ثم يقال لهؤلاء الكفار المعذبين: { ذلكم }: العذاب الذي أنتم فيه { بما كنتم تفرحون } في الدنيا بالمعاصي والكفر، و { تمرحون } قال مجاهد: معناه: الأشر والبطر.
وقوله تعالى: { ادخلوا أبوب جهنم } معناه: يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر: ادخلوا؛ لأن هذه المخاطبة إنما هي بعد دخولهم، ثم آنس تعالى نبيه، ووعده بقوله: { فاصبر إن وعد الله حق } أي: في نصرك وإظهار أمرك؛ فإن ذلك أمر إما أن ترى بعضه في حياتك، فتقر عينك به، وإما أن تموت قبل ذلك، فإلى أمرنا وتعذيبنا يصيرون ويرجعون.
قال أبو حيان: و«ما» في «إما» زائدة لتأكيد معنى الشرط، انتهى.
[40.78-81]
وقوله تعالى: { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } هذه الآية رد على العرب الذين استبعدوا أن يبعث الله بشرا رسولا.
وقوله تعالى: { فإذا جاء أمر الله قضى بالحق... } الآية، يحتمل أن يريد بأمر الله القيامة، فتكون الآية توعدا لهم بالآخرة، ويحتمل أن يريد بأمر الله إرسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق؛ وخسر كل مبطل. * ت *: والأول أبين.
وقوله تعالى: { الله الذى جعل لكم الانعم لتركبوا منها... } الآية، هذه آيات فيها عبر وتعديد نعم، و { الأنعم }: الأزواج الثمانية، و { منها } الأولى للتبعيض، وقال الطبري في هذه الآية: الأنعام تعم الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم، ف { منها } في الموضعين على هذا للتبعيض.
[40.82-85]
وقوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون... } الآية، هذا احتجاج على قريش بما أظهر سبحانه في الأمم السالفة من نقماته في الكفار الذين كانوا أكثر منهم، وأشد قوة قال أبو حيان: { فما أغنى } «ما» نافية أو استفهامية بمعنى النفي، انتهى.
وقوله سبحانه: { فلما جاءتهم رسلهم بالبينت } الآية، الضمير في (جاءتهم) عائد على الأمم المذكورة، واختلف المفسرون في الضمير في { فرحوا } على من يعود؟ فقال مجاهد وغيره: هو عائد على الأمم المذكورين، أي: فرحوا بما عندهم من العلم في ظنهم ومعتقدهم من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون، قال ابن زيد: واغتروا بعلمهم بالدنيا والمعاش، وظنوا أنه لا آخرة؛ ففرحوا وهذا كقوله تعالى:
يعلمون ظاهرا من الحيوة الدنيا
[الروم:7] وقالت فرقة: الضمير في { فرحوا } عائد على الرسل، وفي هذا التأويل حذف وتقديره: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات، كذبوهم ففرح الرسل بما عندهم من العلم بالله والثقة به، وبأنه سينصرهم، والضمير في { بهم } عائد على الكفار بلا خلاف ، ثم حكى سبحانه حالة بعضهم ممن آمن بعد تلبس العذاب بهم، فلم ينفعهم ذلك؛ وفي ذكر هذا حض على المبادرة.
و { سنت } نصب على المصدر، * ت *: وقيل: المعنى: احذروا سنة الله، كقوله:
ناقة الله
[الشمس:13] قال الفخر، وقوله: { هنالك }: اسم مكان مستعار للزمان، أي: وخسروا وقت رؤية البأس، انتهى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.
[41 - سورة فصلت]
[41.1-11]
روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليحتج عليه، ويبين له أمر مخالفته لقومه، فلما فرغ عتبة من كلامه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«بسم الله الرحمن الرحيم»: { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتب فصلت ءايته } إلى قوله:
فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صعقة مثل صعقة عاد وثمود
[فصلت:13] فأرعد الشيخ، وقف شعره، وأمسك على فم النبي صلى الله عليه وسلم، وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: والله، لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر، ولا هو بالكهانة، ولا هو بالسحر، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي» و { الرحمن الرحيم }: صفتا رجاء ورحمة لله عز وجل، و { فصلت } معناه بينت و { ءايته } أي: فسرت معانيه، ففصل بين حلاله وحرامه، ووعده ووعيده، وقيل: فصلت في التنزيل، أي: نزل نجوما، ولم ينزل مرة واحدة، وقيل: فصلت بالمواقف وأنواع أواخر الآي، ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها؛ كالسجع والشعر.
وقوله تعالى: { لقوم يعلمون } قالت فرقة: يعلمون الأشياء، ويعقلون الدلائل، فكأن القرآن فصلت آياته لهؤلاء؛ إذ هم أهل الانتفاع بها، فخصوا بالذكر؛ تشريفا، وقالت فرقة: { يعلمون }: متعلق في المعنى بقوله: { عربيا } أي: لقوم يعلمون ألفاظه، ويتحققون أنها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب، وكأن الآية على هذا التأويل رادة على من زعم أن في كتاب الله ما ليس في كلام العرب، والتأويل الأول أبين وأشرف معنى وبين أنه ليس في القرآن إلا ما هو من كلام العرب، إما من أصل لغتها، وإما مما عربته من لغة غيرها، ثم ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل.
وقوله تعالى : { فهم لا يسمعون } نفي لسماعهم النافع الذي يعتد به، ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كل المباعدة، وأرادوا أن يؤيسوه من قبولهم ما جاء به، وهي: { قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه } وأكنة: جمع كنان، والوقر: الثقل في الأذن الذي يمنع السمع.
وقوله تعالى: { وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكوة... } الآية: قال الحسن: المراد بالزكاة: زكاة المال، وقال ابن عباس والجمهور: الزكاة في هذه الآية: لا إله إلا الله التوحيد؛ كما قال موسى لفرعون:
هل لك إلى أن تزكى
[النازعات:18] ويرجح هذا التأويل أن الآية مكية، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة؛ وإنما هذه زكاة القلب والبدن، أي: تطهيره من المعاصي؛ وقاله مجاهد والربيع، وقال الضحاك ومقاتل: معنى الزكاة هنا: النفقة في الطاعة، و { غير ممنون } قال ابن عباس: معناه: غير منقوص، وقالت فرقة: معناه: غير مقطوع؛ يقال: مننت الحبل: إذا قطعته، وقال مجاهد: معناه: غير محسوب، قال * ع *: ويظهر في الآية أنه وصفه بعدم المن والأذى من حيث هو من جهة الله تعالى، فهو شريف لا من فيه، وأعطيات البشر هي التي يدخلها المن، والأنداد: الأشباه والأمثال، وهي إشارة إلى كل ما عبد من دون الله.
وقوله تعالى: { وبرك فيها } أي: جعلها منبتة للطيبات والأطعمة، وجعلها طهورا إلى غير ذلك من وجوه البركة، وفي قراءة ابن مسعود: «وقسم فيها أقواتها» واختلف في معنى قوله: { أقوتها } فقال السدي: هي أقوات البشر وأرزاقهم، وأضافها إلى الأرض، من حيث هي فيها وعنها، وقال قتادة: هي أقوات الأرض: من الجبال، والأنهار، والأشجار، والصخور، والمعادن، والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها، وروى ابن عباس في هذا حديثا مرفوعا، فشبهها بالقوت الذي به قوام الحيوان، وقال مجاهد أراد أقواتها من المطر والمياه، وقال الضحاك وغيره: أراد بقوله: { أقوتها }: خصائصها التي قسمها في البلاد من الملبوس والمطعوم، فجعل في بلد وفي قطر ما ليس في الآخر، ليحتاج بعضهم إلى بعض، ويتقوت من هذه في هذه، وهذا قريب من الأول.
وقوله تعالى: { فى أربعة أيام } يريد: باليومين الأولين، وقرأ الجمهور: «سواء» بالنصب على الحال، أي: سواء هي وما انقضى فيها، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «سواء» بالرفع ، أي: هي سواء، وقرأ الحسن: «سواء» بالخفض على نعت الأيام، واختلف في معنى: «للسائلين»: فقال قتادة معناه: سواء لمن سأل واستفهم عن الأمر وحقيقة وقوعه، وأراد العبرة فيه، فإنه يجده، كما قال تعالى، وقال ابن زيد وجماعة: معناه: مستو مهيأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر، فعبر عنهم ب { للسائلين } بمعنى «الطالبين»؛ لأنه من شأنهم، ولا بد طلب ما ينتفعون به، فهم في حكم من سأل هذه الأشياء، إذ هم أهل حاجة إليها، ولفظة «سواء» تجري مجرى عدل وزور، في أن ترد على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث.
وقوله سبحانه: { ثم استوى إلى السماء } معناه: بقدرته واختراعه إلى خلق السماء وإيجادها.
وقوله تعالى: { وهى دخان } روي: أنها كانت جسما رخوا؛ كالدخان أو البخار، وروي: أنه مما أمره الله تعالى أن يصعد من الماء، وهنا محذوف، تقديره: فأوجدها، وأتقنها، وأكمل أمرها، وحينئذ قال لها وللأرض أئتيا بمعنى ائتيا أمري وإرادتي فيكما، وقرأ ابن عباس: «آتيا» بمعنى: أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرهما وما قدره الله من أعمالهما.
وقوله: { أو كرها } فيه محذوف تقديره ائتيا طوعا وإلا أتيتما كرها.
وقوله سبحانه: { قالتا } أراد الفرقتين جعل السموات سماء والأرضين أرضا، واختلف في هذه المقالة من السموات والأرض، هل هو نطق حقيقة أو هو مجاز؟ لما ظهر عليها من التذلل والخضوع والانقياد الذي يتنزل منزلة النطق، قال * ع *: والقول الأول: أنه نطق حقيقة أحسن؛ لأنه لا شيء يدفعه ، وأن العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر.
[41.12-15]
وقوله تعالى: { فقضاهن } معناه: فصنعهن وأوجدهن، ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
وقوله تعالى: { وأوحى فى كل سماء أمرها } قال مجاهد وقتادة: أوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي بها قوامها وصلاحها.
وقوله: { ذلك } إشارة إلى جميع ما ذكر، أي: أوجده بقدرته، وأحكمه بعلمه.
وقوله تعالى: { فإن أعرضوا } يعني: قريشا، والعرب الذين دعوتهم إلى عبادة الله تعالى عن هذه الآيات البينات { فقل أنذرتكم صعقة مثل صعقة عاد وثمود } وقرأ النخعي وغيره: { صعقة } فيهما، وهذه قراءة بينة المعنى؛ لأن الصعقة الهلاك الوحي، وأما الأولى فهي تشبيه بالصاعقة، وهي الوقعة الشديدة من صوت الرعد، فشبهت هنا وقعة العذاب بها؛ لأن عادا لم تعذب إلا بريح، وإنما هذا تشبيه واستعارة، وعبارة الثعلبي: { صاعقة } أي: واقعة وعقوبة مثل صاعقة عاد وثمود، انتهى، قال * ع *: وخص عادا وثمود بالذكر؛ لوقوف قريش على بلادها في اليمن وفي الحجر في طريق الشام، قال الثعلبي: و { من بين أيديهم ومن خلفهم } يعني: قبلهم وبعدهم، وقامت الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمتهم خبرا ومباشرة، وقال * ع *: قوله: { ومن خلفهم } أي: جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تقدم وجودهم في الزمن، فلذلك قال: { ومن خلفهم } ولا يتوجه أن يجعل { ومن خلفهم } عبارة عما أتى بعدهم؛ لأن ذلك لا يلحقهم منه تقصير.
* ت *: وما تقدم للثعلبي وغيره أحسن؛ لأن مقصد الآية اتصال النذارة بهم وبمن قبلهم وبمن بعدهم؛ إذ ما من أمة إلا وفيها نذير، وكما قال تعالى:
رسلنا تترى...
[المؤمنون:44] وأيضا فإنه جمع في اللفظ عادا وثمودا وبالضرورة أن الرسول الذي أرسل إلى ثمود هو بعد عاد، فليس لرد * ع *: وجه؛ فتأمله.
[41.16-21]
وقوله تعالى: { فأرسلنا عليهم ريحا... } الآية، تقدم قصص هؤلاء، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير: { نحسات } بسكون الحاء ، وهي جمع «نحس» وقرأ الباقون: { نحسات } بكسر الحاء جمع «نحس» على وزن حذر، والمعنى في هذه اللفظة: مشائيم من النحس المعروف، قاله مجاهد وغيره، وقال ابن عباس: { نحسات } معناه متتابعات، وقيل: معناه: شديدة، أي: شديدة البرد.
وقوله تعالى: { فهدينهم } معناه: بينا لهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وهذا كما هي الآن شريعة الإسلام مبينة لليهود والنصارى المختلطين بنا، ولكنهم يعرضون ويشتغلون بالضد، فذلك استحباب العمى على الهدى، و { العذاب الهون } هو الذي معه هوان وإذلال ؛ قال أبو حيان: «الهون» مصدر بمعنى «الهوان»، وصف به العذاب، انتهى، و { أعداء الله } هم الكفار المخالفون لأمر الله سبحانه، و { يوزعون } معناه: يكف أولهم حبسا على آخرهم؛ قاله قتادة، والسدي، وأهل اللغة، وهذا وصف حال من أحوال الكفرة في بعض أوقات القيامة، وذلك عند وصولهم إلى جهنم، فإنه سبحانه يستقرهم عند ذلك على أنفسهم، ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فيجحدون، ويحسبون أن لا شاهد عليهم، ويطلبون شهيدا عليهم من أنفسهم، وفي الحديث الصحيح:
" إن العبد يعني الكافر يقول: يا رب، أليس وعدتني ألا تظلمني؟ قال: فإن ذلك لك، قال: فإني لا أقبل علي شاهدا إلا من نفسي، قال فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، قال: فيقول لهن: بعدا لكن، وسحقا، فعنكن كنت أدافع "
الحديث، قال أبو حيان: { حتى إذا ما جاءوها }: «ما» بعد «إذا» زائدة للتوكيد، انتهى.
[41.22-25]
وقوله تعالى: { وما كنتم تستترون } يحتمل أن يكون من كلام الجلود، ويحتمل أن يكون من كلام الله عز وجل، وجمهور الناس على أن المراد بالجلود الجلود المعروفة، وأما معنى الآية فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يريد وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر؛ خوف أن يشهد، أو لأجل { أن يشهد عليكم سمعكم... } الآية، وهذا هو منحى مجاهد، والمعنى الثاني أن يريد: وما يمكنكم ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم، والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم، وهذا هو منحى السدي، وعن ابن مسعود قال:
" إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ دخل ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فتحدثوا بحديث، فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع منه شيئا فإنه يسمعه كله، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فنزلت هذه الآية: { وما كنتم تستترون } ، وقرأ حتى بلغ: { وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين } ".
قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في آخر: «مختصر المدونة» له: واعلم أن [الأجساد التي أطاعت أو عصت ، هي التي تبعث يوم القيامة لتجازى، والجلود التي كانت في الدنيا، والألسنة]، والأيدي، والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على من تشهد، انتهى.
قال القرطبي في «تذكرته»: واعلم أن عند أهل السنة أن تلك الأجساد الدنيوية تعاد بأعيانها وأعراضها بلا خلاف بينهم في ذلك، انتهى، ومعنى { أرداكم }: أهلككم، والردى: الهلاك؛ وفي صحيح «البخاري» و«مسلم» عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته بثلاث:
" لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل "
وذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله عز وجل، وزاد فيه: «فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال لهم الله تبارك وتعالى: { وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخسرين } انتهى، ونقله أيضا صاحب «التذكرة».
وقوله تعالى: { فإن يصبروا } مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: فإن يصبروا أو لا يصبروا، واقتصر لدلالة الظاهر على ما ترك.
وقوله تعالى: { وإن يستعتبوا } معناه: وإن طلبوا العتبى، وهي الرضا فما هم ممن يعطاها ويستوجبها؛ قال أبو حيان: قراءة الجمهور: «وإن يستعتبوا مبنيا للفاعل، و: { من المعتبين } مبنيا للمفعول، أي: وإن يعتذروا فما هم من المعذورين، انتهى.
ثم وصف تعالى حالهم في الدنيا وما أصابهم به حين أعرضوا، فحتم عليهم، فقال: { وقيضنا لهم قرناء } ، أي: يسرنا لهم قرناء سوء من الشياطين وغواة الإنس.
وقوله: { فزينوا لهم ما بين أيديهم } أي: علموهم، وقرروا لهم في نفوسهم معتقدات سوء في الأمور التي تقدمتهم من أمر الرسل والنبوات، ومدح عبادة الأصنام، واتباع فعل الآباء، إلى غير ذلك مما يقال: إنه بين أيديهم، وذلك كل ما تقدمهم في الزمن، واتصل إليهم أثره أو خبره، وكذلك أعطوهم معتقدات سوء فيما خلفهم، وهو كل ما يأتي بعدهم من القيامة والبعث ونحو ذلك { وحق عليهم القول } أي: سبق عليهم القضاء الحتم، وأمر الله بتعذيبهم في جملة أمم معذبين، كفار من الجن والإنس.
وقالت فرقة: «في» بمعنى «مع»، أي: مع أمم، قال * ع *: والمعنى يتأدى بالحرفين، ولا نحتاج أن نجعل حرفا بمعنى حرف، إذ قد أبى ذلك رؤساء البصريين.
[41.26-27]
وقوله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان... } الآية: الآية حكاية لما فعله بعض كفار قريش، كأبي جهل وغيره، لما خافوا استمالة القلوب بالقرآن، قالوا: متى قرأ محمد فالغطوا بالصفير والصياح وإنشاد الشعر؛ حتى يخفى صوته، فهذا الفعل منهم هو اللغو، وقال أبو العالية: أرادوا: قعوا فيه وعيبوه، وقولهم: { لعلكم تغلبون } أي: تطمسون أمر محمد، وتميتون ذكره، وتصرفون عنه القلوب، فهذه الغاية التي تمنوها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وقوله تعالى: { فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا... } الآية، قوله: { فلنذيقن }: الفاء دخلت على لام القسم، وهي آية وعيد لقريش، والعذاب الشديد: هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها، والجزاء بأسوإ أعمالهم هو عذاب الآخرة.
* ت *: حدث أبو عمر في «كتاب التمهيد» قال: حدثنا أحمد بن قاسم، قال: حدثنا محمد بن معاوية، قال: حدثنا إبراهيم بن موسى بن جميل، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، قال: حدثنا العتكي. قال: حدثنا خالد أبو يزيد الرقي عن يحيى المدني، عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: خرجت مرة، فمررت بقبر من قبور الجاهلية، فإذا رجل قد خرج من القبر، يتأجج نارا، في عنقه سلسلة، ومعي إداوة من ماء، فلما رآني قال: يا عبد الله، اسقني، قال: فقلت: عرفني، فدعاني باسمي، أو كلمة تقولها العرب: يا عبد الله، إذ خرج على أثره رجل من القبر، فقال: يا عبد الله، لا تسقه، فإنه كافر، ثم أخذ السلسلة فاجتذبه، فأدخله القبر، قال: ثم أضافني الليل إلى بيت عجوز، إلى جانبها قبر، فسمعت من القبر صوتا يقول: بول وما بول، شن وما شن، فقلت للعجوز: ما هذا؟ قالت: كان زوجا لي، وكان إذا بال لم يتق البول، وكنت أقول له: ويحك! إن الجمل إذا بال تفاج، وكان يأبى، فهو ينادي من يوم مات: بول وما بول، قلت: فما الشن؟ قالت: جاء رجل عطشان فقال: اسقني فقال: دونك الشن، فإذا ليس فيه شيء؛ فخر الرجل ميتا، فهو ينادي منذ مات: شن وما شن، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فنهى: أن يسافر الرجل وحده. قال أبو عمر: هذا الحديث في إسناده مجهولون، ولم نورده للاحتجاج به؛ ولكن للاعتبار، وما لم يكن حكم، فقد تسامح الناس في روايته عن الضعفاء، انتهى من ترجمة عبد الرحمن بن حرملة، وكلامه على قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" الشيطان يهم بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم "
وقد ذكرنا الحكاية الأولى عن الوائلي في سورة { اقرأ باسم ربك } بغير هذا السند، وأن الرجل الأول هو أبو جهل، انتهى، ثم ذكر تعالى مقالة كفار يوم القيامة إذا دخلوا النار؛ فإنهم يرون عظيم ما حل بهم وسوء منقلبهم، فتجول أفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم ومبادي ضلالتهم، فيعظم غيظهم وحنقهم عليه، ويودون أن يحصل في أشد عذاب، فحينئذ يقولون: { ربنآ أرنا الذين أضلانا } وظاهر اللفظ يقتضي أن الذي في قولهم: { اللذين } إنما هو للجنس، أي: أرنا كل مغو من الجن والإنس، وهذا قول جماعة من المفسرين.
وقيل: طلبوا ولد آدم الذي سن القتل والمعصية من البشر، وإبليس الأبالسة من الجن، وهذا قول لا يخفى ضعفه، والأول هو القوي، وقولهم: { نجعلهما تحت أقدامنا } يريدون في أسفل طبقة في النار؛ وهي أشد عذابا.
[41.30-32]
وقوله تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقموا تتنزل عليهم الملئكة ألا تخافوا ولا تحزنوا } قال سفيان بن عبد الله الثقفي: قلت: يا رسول الله، أخبرني بأمر أعتصم به، قال: «قل: ربي الله ثم استقم».
* ت *: هذا الحديث خرجه مسلم في «صحيحه»، قال صاحب «المفهم»: جوابه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم، وكأنه منتزع من قول الله تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقموا... } الآية، وتلخيصه: اعتدلوا على طاعته قولا وفعلا وعقدا، انتهى من «شرح الأربعين حديثا» لابن الفاكهاني، قال * ع *: واختلف الناس في مقتضى قوله: { ثم استقموا } فذهب الحسن وجماعة إلى أن معناه: استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي ، وتلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر، ثم قال: استقاموا والله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب، قال * ع *: فذهب رحمه الله إلى حمل الناس على الأتم الأفضل، وإلا فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب ألا تتنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة، وذهب أبو بكر رضي الله عنه وجماعة معه إلى أن المعنى: ثم: استقاموا على قولهم: ربنا الله، فلم يختل توحيدهم، ولا اضطرب إيمانهم، قال * ع *: وفي الحديث الصحيح:
" من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة "
وهذا هو المعتقد إن شاء الله، وذلك أن العصاة من أمة محمد وغيرها فرقتان: فأما من غفر الله له، وترك تعذيبه، فلا محالة أنه ممن تتنزل عليهم الملائكة بالبشارة، وهو إنما استقام على توحيده فقط، وأما من قضى الله بتعذيبه مدة، ثم [يأمر] بإدخاله الجنة، فلا محالة أنه يلقى جميع ذلك عند موته ويعلمه، وليس يصح أن تكون حاله كحالة الكافر واليائس من رحمة الله، وإذا كان هذا فقد حصلت له بشارة بألا يخاف الخلود، ولا يحزن منه، ويدخل فيمن يقال لهم: { وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون } ومع هذا كله فلا يختلف في أن الموحد المستقيم على الطاعة أتم حالا وأكمل بشارة، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، وبالجملة، فكلما كان المرء أشد استعدادا، كان أسرع فوزا بفضل الله تعالى؛ قال الثعلبي: قوله تعالى: { تتنزل عليهم الملئكة } أي: عند الموت { ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا } قال وكيع: والبشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، وفي البخاري: { تتنزل عليهم الملئكة } أي عند الموت، انتهى، قال ابن العربي في " أحكامه ": { تتنزل عليهم الملئكة } قال المفسرون: عند الموت، وأنا أقول: كل يوم، وأوكد الأيام: يوم الموت، وحين القبر، ويوم الفزع الأكبر، وفي ذلك آثار بيناها في موضعها، انتهى، قال * ع *: قوله تعالى { ألا تخافوا ولا تحزنوا }: أمنة عامة في كل هم مستأنف، وتسلية تامة عن كل فائت ماض، وقال مجاهد: المعنى: لا تخافون ما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم.
* ت *: وذكر أبو نعيم عن ثابت البناني أنه قرأ: حم السجدة حتى بلغ: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة } ، فوقف، وقال: بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له: لا تخف، ولا تحزن، وأبشر بالجنة التي كنت توعد، قال: فأمن الله خوفه، وأقر عينه، الحديث. انتهى. قال ابن المبارك في " رقائقه ": سمعت سفيان يقول في قوله تعالى: { تتنزل عليهم الملئكة }: أي عند الموت { ألا تخافوا }: ما أمامكم { ولا تحزنوا }: على ما خلفتم من ضيعاتكم { وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون } قال: يبشر بثلاث بشارات: عند الموت، وإذا خرج من القبر، وإذا فزع، { نحن أولياؤكم فى الحيوة الدنيا } قال: كانوا معهم، قال ابن المبارك: وأخبرنا رجل عن منصور، عن مجاهد في قوله تعالى: { نحن أولياؤكم فى الحيوة الدنيا } قال: قرناؤهم يلقونهم يوم القيامة، فيقولون: لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة، اه.
وقوله تعالى: { نحن أولياؤكم فى الحيوة الدنيا وفى الاخرة } المتكلم ب { نحن أولياؤكم } هم الملائكة القائلون: { ألا تخافوا ولا تحزنوا } أي: يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق: نحن كنا أولياءكم في الدنيا، ونحن هم أولياؤكم في الآخرة؛ قال السدي: المعنى: نحن حفظتكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة، والضمير في قوله: { فيها } عائد على الآخرة، و { تدعون } معناه: تطلبون؛ قال الفخر: ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين، إشارة إلى أن للملائكة تأثيرات في الأرواح [البشرية، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية والمناجات الخفية؛ كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح] بإلقاء الوساوس، وبالجملة، فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة، حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون: كما أن تلك الولايات حاصلة في الدنيا، فهي تكون باقية في الآخرة؛ فإن تلك العلائق ذاتية لازمة، غير مائلة إلى الزوال؛ بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى؛ وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر، وإنما التعلقات الجسدانية والتدبيرات البدنية هي الحائلة بينها وبين الملائكة، فإذا زالت تلك العلائق، فقد زال الغطاء، واتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر، والشعلة بالشمس، انتهى.
* ت *: وقد نقل الثعلبي من كلام أرباب المعاني هنا كلاما كثيرا حسنا جدا، موقظا لأرباب الهمم، فانظره إن شئت، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأنه قال:
" إذا فنيت أيام الدنيا عن هذا العبد المؤمن، بعث الله إلى نفسه من يتوفاها، قال: فقال صاحباه اللذان يحفظان عليه عمله: إن هذا قد كان لنا أخا وصاحبا، وقد حان اليوم منه فراق، فأذنوا لنا، أو قال: دعونا نثن على أخينا، فيقال: أثنيا عليه، فيقولان: جزاك الله خيرا، ورضي عنك، وغفر لك، وأدخلك الجنة؛ فنعم الأخ كنت والصاحب؛ ما كان أيسر مؤنتك، وأحسن معونتك على نفسك، ما كانت خطاياك تمنعنا أن نصعد إلى ربنا، فنسبح بحمده، ونقدس له، ونسجد له، ويقول الذي يتوفى نفسه: اخرج أيها الروح الطيب إلى خير يوم مر عليك، فنعم ما قدمت لنفسك، اخرج إلى الروح والريحان وجنات النعيم ورب عليك غير غضبان،، وإذا فنيت أيام الدنيا عن العبد الكافر، بعث الله إلى نفسه من يتوفاها، فيقول صاحباه اللذان كانا يحفظان عليه عمله: إن هذا قد كان لنا صاحبا، وقد حان منه فراق، فأذنوا لنا، ودعونا نثن على صاحبنا، فيقال: أثنيا عليه فيقولان: لعنة الله وغضبه عليه، ولا غفر له، وأدخله النار فبئس الصاحب؛ ما كان أشد مؤنته، وما كان يعين على نفسه؛ إن كانت خطاياه وذنوبه لتمنعنا أن نصعد إلى ربنا فنسبح له، ونقدس له، ونسجد له، ويقول الذي يتوفى نفسه: اخرج أيها الروح الخبيث إلى شر يوم مر عليك، فبئس ما قدمت لنفسك، اخرج إلى الحميم وتصلية الجحيم ورب عليك غضبان "
، انتهى.
[41.33-35]
وقوله تعالى: { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله... } الآية ابتداء توصية لنبيه عليه السلام ، وهو لفظ يعم كل من دعا قديما وحديثا إلى الله عز وجل من الأنبياء والمؤمنين، والمعنى: لا أحد أحسن قولا ممن هذه حاله، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة، وقيل: إن الآية نزلت في المؤذنين، وهذا ضعيف؛ لأن الآية مكية، والأذان شرع بالمدينة، قال أبو حيان: { ولا السيئة } «لا» زائدة للتوكيد، انتهى.
وقوله تعالى: { ادفع بالتى هى أحسن } آية جمعت مكارم الأخلاق وأنواع الحلم، والمعنى: ادفع ما يعرض لك مع الناس في مخالطتهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن، قال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل المؤمنون ذلك، عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم، { كأنه ولى حميم } البخاري: «ولي حميم» أي: قريب، انتهى،، وفسر مجاهد وعطاء هذه الآية بالسلام عند اللقاء، قال * ع *: ولا شك أن السلام هو مبدأ الدفع بالتي هي أحسن، وهو جزء منه، والضمير في قوله: { يلقاها } عائد على هذه الخلق التي يقتضيها قوله: { ادفع بالتى هى أحسن } ، وقالت فرقة: المراد: وما يلقى «لا إله إلا الله»، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ.
وقوله سبحانه: { إلا الذين صبروا }: مدح بليغ للصابرين، وذلك بين للمتأمل؛ لأن الصبر على الطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها، والحظ العظيم: يحتمل أن يريد من العقل والفضل؛ فتكون الآية مدحا للمتصف بذلك، ويحتمل أن يريد: ذو حظ عظيم من الجنة وثواب الآخرة، فتكون الآية وعدا، وبالجنة فسر قتادة الحظ هنا.
[41.36-39]
وقوله تعالى: { وإما ينزغنك من الشيطن نزغ فاستعذ بالله } «إما»: شرط وجواب الشرط قوله: { فاستعذ } والنزغ: فعل الشيطان في قلب أو يد من إلقاء غضب، أو حقد، أو بطش في اليد.
فمن الغضب هذه الآية، ومن الحقد قوله:
نزغ الشيطن بينى وبين إخوتى
[يوسف:100]، ومن البطش قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح؛ لا ينزغ الشيطان في يده فيلقيه في حفرة من حفر النار "
ومن دعاء الشيخ الولي العارف بالله سبحانه، محمد بن مسرة القرطبي: اللهم، لا تجعل صدري للشيطان مراغا، ولا تصير قلبي له مجالا، ولا تجعلني، ممن استفزه بصوته، وأجلب عليه بخيله ورجله، وكن لي من حبائله منجيا، ومن مصائده منقذا، ومن غوايته مبعدا، اللهم إنه وسوس في القلب، وألقى في النفس ما لا يطيق اللسان ذكره، ولا تستطيع النفس نشره مما نزهك عنه علو عزك، وسمو مجدك، فأزل يا سيدي ما سطر، وامح ما زور بوابل من سحائب عظمتك وطوفان من بحار نصرتك، واسلل عليه سيف إبعادك، وارشقه بسهام إقصائك، وأحرقه بنار انتقامك، واجعل خلاصي منه زائدا في حزنه، ومؤكدا لأسفه، ثم قال رحمه الله: اعلم أنه ربما كان العبد في خلوته مشتغلا بتلاوته، ويجد في نفسه من الوسوسة ما يحول بينه وبين ربه، حتى لا يجد لطعم الذكر حلاوة، ويجد في قلبه قساوة، وربما اعتراه ذلك مع الاجتهاد في قراءته؛ وعلة ذلك أن الذكر ذكران: ذكر خوف ورهبة، وذكر أمن وغفلة، فإذا كان [الذكر بالخوف والرهبة، خنس الشيطان، ولم يحتمل الحملة، وأذهب الوسوسة؛ لأن الذكر إذا كان] باجتماع القلب وصدق النية، لم يكن للشيطان قوة عند ذلك، وانقطعت علائق حيله؛ وإنما قوته ووسوسته مع الغفلة، وإذا كان [الذكر بالأمن والغفلة لم تفارقه الوسوسة، وإن استدام العبد الذكر والقراءة؛ لأن على قلب الغافل غشاوة؛ ولا يجد] صاحبها لطعم الذكر حلاوة، فتحفظ على دينك من هذا العدو، وليس لك أن تزيله عن مرتبته، ولا أن تزيحه عن وطنه، وإنما أبيح لك مجاهدته، فاستعن بالله يعنك، وثق بالله؛ فإنه لا يخذلك؛ قال تعالى:
والذين جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين
[العنكبوت:69]، انتهى من تصنيفه رحمه الله .
وندب سبحانه في الآية المتقدمة إلى الأخذ بمكارم الأخلاق، ووعد على ذلك، وعلم سبحانه أن خلقة البشر تغلب أحيانا وتثور بهم سورة الغضب ونزغ الشيطان؛ فدلهم في هذه الآية على ما يذهب ذلك، وهي الاستعاذة به عز وجل، ثم عدد سبحانه آياته؛ ليعتبر فيها، فقال: { ومن ءايته اليل والنهار والشمس والقمر } ، ثم قال تعالى: { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر }: وإن كانت لكم فيهما منافع؛ لأن النفع منهما إنما هو بتسخير الله إياهما، فهو الذي ينبغي أن يسجد له، والضمير في { خلقهن } قيل: هو عائد على الآيات المتقدم ذكرها، وقيل: عائد على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وأيضا جمع ما لا يعقل يؤنث، فلذلك قال: { خلقهن } ومن حيث يقال: شموس وأقمار؛ لاختلافهما بالأيام ساغ أن يعود الضمير مجموعا، وقيل: هو عائد على الأربعة المذكورة.
* ت *: ومن كتاب «المستغيثين بالله» لأبي القاسم بن بشكوال حدث بسنده إلى أنس بن مالك، قال: تقرأ «حم السجدة»، وتسجد عند السجدة، وتدعو؛ فإنه يستجاب لك، قال الراوي: وجربته فوجدته مستجابا، انتهى،، ثم خاطب جل وعلا نبيه عليه السلام بما يتضمن وعيدهم وحقارة أمرهم، وأنه سبحانه غني عن عبادتهم بقوله: { فإن استكبروا... } الآية، وقوله: { فالذين } يعني بهم الملائكة هم صافون يسبحون، و { عند } هنا ليست بظرف مكان؛ وإنما هي بمعنى المنزلة والقربة؛ [كما تقول: زيد عند الملك جليل، ويروى أن تسبيح الملائكة قد صار لهم كالنفس لبني آدم، { ولا يسئمون } معناه: لا] يملون، ثم ذكر تعالى آية منصوبة؛ ليعتبر بها في أمر البعث من القبور، ويستدل بما شوهد من هذه على ما لم يشاهد، فقال: { ومن ءايته أنك ترى الأرض خشعة... } الآية، وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشعث بالجدب، فهي عابسة كما الخاشع عابس يكاد يبكي، واهتزاز الأرض: هو تخلخل أجزائها وتشققها للنبات، وربوها: هو انتفاخها بالماء وعلو سطحها به، وعبارة البخاري: اهتزت بالنبات، وربت: ارتفعت اه، ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية، والعبرة، وذلك إحياء الموتى، فقال: { إن الذي أحياها لمحى الموتى إنه على كل شيء قدير } والشيء في اللغة: الموجود.
[41.40-43]
وقوله تعالى: { إن الذين يلحدون فى ءايتنا لا يخفون علينا... } الآية، آية وعيد، والإلحاد: الميل، وهو هنا ميل عن الحق؛ ومنه لحد الميت؛ لأنه في جانب، يقال: لحد الرجل، وألحد بمعنى.
واختلف في إلحادهم هذا: ما هو؟ فقال قتادة وغيره: هو إلحاد بالتكذيب، وقال مجاهد وغيره: هو بالمكاء والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه، وقال ابن عباس: إلحادهم: وضعهم للكلام غير موضعه، ولفظة الإلحاد تعم هذا كله، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: { اعملوا ما شئتم } وعيد في صيغة الأمر؛ بإجماع من أهل العلم.
وقوله تعالى: { إن الذين كفروا بالذكر... } الآية: يريد ب { الذين كفروا } قريشا، و { الذكر }: القرآن؛ بإجماع.
واختلف في الخبر عنهم: أين هو؟ فقالت فرقة: هو في قوله:
أولئك ينادون من مكان بعيد
[فصلت:44]، ورد بكثرة الحائل، وأن هنالك قوما قد ذكروا بحسن رد قوله: «أولئك ينادون عليهم»، وقالت فرقة: الخبر مضمر، تقديره: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم، هلكوا أو ضلوا، وقيل: الخبر في قوله: { وإنه لكتب عزيز } وهذا ضعيف لا يتجه، وقال عمرو بن عبيد: معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به، وإنه لكتاب عزيز؛ قال * ع *: والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر، ولكنه عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدره هؤلاء فيه؛ وإنما هو بعد { حكيم حميد } ، وهو أشد إظهارا لمذمة الكفار به؛ وذلك لأن قوله: { وإنه لكتب } داخل في صفة الذكر المكذب به؛ فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه، ووصف الله تعالى الكتاب بالعزة؛ لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من الله تعالى؛ قال ابن عباس: معناه: كريم على الله تعالى.
وقوله تعالى: { لا يأتيه البطل } قال قتادة والسدي: يريد: الشيطان، وظاهر اللفظ يعم الشيطان، وأن يجيء أمر يبطل منه شيئا.
وقوله: { من بين يديه } معناه: ليس فيما تقدم من الكتب ما يبطل شيئا منه.
وقوله: { ولا من خلفه } أي: ليس يأتي بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل شيئا منه، والمراد باللفظة عل الجملة: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات.
وقوله: { تنزيل } خبر مبتدإ، أي: هو تنزيل.
وقوله تعالى: { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك }: يحتمل معنيين.
أحدهما: أن يكون تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن مقالات، قومه وما يلقاه من المكروه منهم.
والثاني: أن يكون المعنى: ما يقال لك من الوحي، وتخاطب به من جهة الله تعالى إلا ما قد قيل للرسل من قبلك.
[41.44-46]
وقوله تعالى: { ولو جعلنه قرءانا أعجميا... } الآية، الأعجمي: هو الذي لا يفصح، عربيا كان أو غير عربي، والعجمي: الذي ليس من العرب، فصيحا كان أو غير فصيح، والمعنى: ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا، لا يبين لقالوا واعترضوا: لولا بينت آياته، وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل حروف وقعت في القرآن، وهي مما عرب من كلام العجم؛ كسجين وإستبرق ونحوه، وقرأ الجمهور: { ءاعجمى وعربى } على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف، وقرأ حمزة والكسائي وحفص: «أأعجمي» بهمزتين، وكأنهم ينكرون ذلك، ويقولون: أأعجمي وعربي مختلط؟ هذا لا يحسن [ثم قال تعالى]: { قل هو } يعني القرآن { للذين ءامنوا هدى وشفاء } واختلف الناس في قوله: { وهو عليهم عمى } فقالت فرقة: يريد ب«هو» القرآن، وقالت فرقة يريد ب«هو» الوقر، وهذه كلها استعارات، والمعنى: أنهم كالأعمى وصاحب الوقر؛ وهو الثقل في الأذن، المانع من السمع؛ وكذلك قوله تعالى: { أولئك ينادون من مكان بعيد } يحتمل معنيين، وكلاهما مقول للمفسرين:
أحدهما: أنها استعارة لقلة فهمهم، شبههم بالرجل ينادى على بعد، يسمع منه الصوت، ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه، وهذا تأويل مجاهد.
والآخر: أن الكلام على الحقيقة، وأن معناه: أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد؛ حتى يسمع ذلك أهل الموقف؛ ليفضحوا على رؤوس الخلائق، ويكون أعظم لتوبيخهم؛ وهذا تأويل الضحاك.
قال أبو حيان: { عمى } بفتح الميم مصدر عمي، انتهى.
ثم ضرب الله تعالى أمر موسى مثلا للنبي عليه السلام ولقريش، أي: فعل أولئك كأفعال هؤلاء، حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء، والكلمة السابقة هي حتم الله تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، والضمير في قوله: { لفى شك منه } يحتمل أن يعود على موسى، أو على كتابه.
وقوله تعالى: { من عمل صلحا فلنفسه... } الآية: نصيحة بليغة للعالم، وتحذير وترجية.
[41.47-50]
وقوله تعالى: { إليه يرد علم الساعة... } الآية، المعنى: إن علم الساعة ووقت مجيئها يرده كل مؤمن متكلم فيه إلى الله عز وجل.
وقوله تعالى: { ويوم يناديهم أين شركائى... } الآية، التقدير: واذكر يوم يناديهم، والضمير في { يناديهم } الأظهر والأسبق فيه للفهم: أنه يريد الكفار عبدة الأوثان، ويحتمل أن يريد كل من عبد من دون الله من إنسان وغيره، وفي هذا ضعف، وأما الضمير في قوله: { وضل عنهم } فلا احتمال لعودته إلا على الكفار، و { ءاذناك } قال ابن عباس وغيره: معناه: أعلمناك ما منا من يشهد، ولا من شهد بأن لك شريكا { وضل عنهم } أي: نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا، ويدعون من الآلهة والأصنام، ويحتمل أن يريد: وضل عنهم الأصنام، أي: تلفت، فلم يجدوا منها نصرا، وتلاشى لهم أمرها.
وقوله: { وظنوا } يحتمل أن يكون متصلا بما قبله، ويكون الوقف عليه، ويكون قوله: { ما لهم من محيص } استئنافا، نفى أن يكون لهم ملجأ أو موضع روغان، تقول: حاص الرجل: إذا راغ لطلب النجاة من شيء؛ ومنه الحديث:
" فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب "
، ويكون الظن على هذا التأويل على بابه، أي: ظنوا أن هذه المقالة { ما منا من شهيد } منجاة لهم، أو أمر يموهون به، ويحتمل أن يكون الوقف في قوله: { من قبل } ، ويكون { وظنوا } متصلا بقوله: { ما لهم من محيص } أي: ظنوا ذلك، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين، وقد تقدم البحث في إطلاق الظن على اليقين.
* ت *: وهذا التأويل هو الظاهر، والأول بعيد جدا.
وقوله تعالى: { لا يسئم الإنسن من دعاء الخير } هذه آيات نزلت في كفار، قيل: في الوليد بن المغيرة، وقيل: في عتبة بن ربيعة، وجل الآية يعطي أنها نزلت في كفار، وإن كان أولها يتضمن خلقا ربما شارك فيها بعض المؤمنين.
و { دعاء الخير } إضافته إضافة المصدر إلى المفعول، وفي مصحف ابن مسعود: «من دعاء بالخير» والخير في هذه الآية المال والصحة، وبذلك تليق الآية بالكفار.
وقوله تعالى: { ليقولن هذا لى } أي: بعملي وبما سعيت ولا يرى أن النعم إنما هي فضل من الله تعالى؛ قال * ص *: { ليقولن } قال أبو البقاء: هو جواب الشرط، والفاء محذوفة، وقيل: هو جواب قسم محذوف ، قال * ص *: قلت: هذا هو الحق، والأول غلط؛ لأن القسم قد تقدم في قوله: { ولئن } فالجواب له، ولأن حذف الفاء في الجواب لا يجوز، انتهى، وفي تغليط الصفاقسي لأبي البقاء نظر.
وقوله: { وما أظن الساعة قائمة } قول بين فيه الجحد والكفر، ثم يقول هذا الكافر: { ولئن رجعت إلى ربى }: كما تقولون: «إن لي عنده للحسنى» أي: حالا ترضيني من مال، وبنين، وغير ذلك، قال * ع *: والأماني على الله تعالى، وترك الجد في الطاعة مذموم لكل أحد؛ فقد قال عليه السلام:
" الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ".
[41.51-54]
وقوله تعالى: { وإذا أنعمنا على الإنسن أعرض ونأى بجانبه... } الآية، ذكر سبحانه الخلق الذميمة من الإنسان جملة، وهي في الكافر بينة متمكنة، وأما المؤمن، ففي الأغلب يشكر على النعمة، وكثيرا ما يصبر عند الشدة، و { نأى } معناه: بعد ولم يمل إلى شكر ولا طاعة.
وقوله: { فذو دعاء عريض } أي: وطويل أيضا، وعبارة الثعلبي: { عريض } أي: كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض كليهما في الكثرة من الكلام، انتهى.
ثم أمر تعالى نبيه أن يوقف قريشا على هذا الاحتجاج، وموضع تغريرهم بأنفسهم، فقال: { قل أرءيتم إن كان من عند الله } ، وخالفتموه ألستم على هلكة؟ فمن أضل ممن يبقى على مثل هذا الغرر مع الله؛ وهذا هو الشقاق؛ ثم وعد تعالى نبيه عليه السلام بأنه سيري الكفار آياته، واختلف في معنى قوله سبحانه: { فى الأفاق وفى أنفسهم } فقال المنهال والسدي وجماعة: هو وعد بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكة، وفي غير ذلك من الأرض؛ كخيبر ونحوها { وفى أنفسهم }: أراد به فتح مكة؛ قال * ع *: وهذا تأويل حسن، يتضمن الإعلام بغيب ظهر بعد ذلك، وقال قتادة والضحاك { سنريهم ءايتنا فى الأفاق }: هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما، { وفى أنفسهم }: يوم بدر، والتأويل الأول أرجح، والله أعلم، والضمير في قوله تعالى: { أنه الحق } عائد على الشرع والقرآن فبإظهار الله نبيه وفتح البلاد عليه يتبين لهم أنه الحق.
وقوله: { بربك } قال أبو حيان: الباء زائدة، وهو فاعل { يكف } أي: أو لم يكفهم ربك، انتهى، وباقي الآية بين.
[42 - سورة الشورى]
[42.1-5]
قوله تعالى: { حم عسق } قال الثعلبي: قال ابن عباس: إن { حم عسق } هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله المنزلة على كل نبي أنزل عليه كتاب؛ ولذلك قال تعالى: { كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك } ، وقرأ الجمهور: { يوحى } بإسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ ابن كثير وحده: «يوحى» بفتح الحاء على بناء الفعل للمفعول، والتقدير: يوحي إليك القرآن.
وقوله تعالى: { وإلى الذين من قبلك }: يريد من الأنبياء الذين نزل عليهم الكتاب، وقرأ نافع والكسائي «يتفطرن»، وقرأ أبو عمرو، وعاصم: «ينفطرن» والمعنى فيهما: يتصدعن ويتشققن، خضوعا وخشية من الله تعالى، وتعظيما وطاعة.
وقوله: { من فوقهن } أي: من أعلاهن، وقال الأخفش، علي بن سليمان: الضمير في { من فوقهن } للكفار، أي: من فوق الجماعات الكافرة والفرق الملحدة من أجل أقوالها تكاد السموات يتفطرن، فهذه الآية على هذا كالتي في «كهيعص»:
تكاد السموات يتفطرن منه
[مريم:90] الآية، وقالت فرقة: معناه: من فوق الأرضين، إذ قد جرى ذكر الأرض.
وقوله تعالى: { ويستغفرون لمن فى الأرض } قالت فرقة: هذا منسوخ بقوله تعالى:
ويستغفرون للذين ءامنوا
[غافر:7] قال * ع *: وهذا قول ضعيف، لأن النسخ في الأخبار لا يتصور، وقال السدي ما معناه: إن ظاهر الآية العموم، ومعناها الخصوص في المؤمنين، فكأنه قال: ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين، وقالت فرقة: بل هي على عمومها: لكن استغفار الملائكة ليس بطلب غفران للكفرة مع بقائهم على كفرهم، وإنما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي إلى الغفران لهم، وتأويل السدي أرجح.
[42.6-8]
وقوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل } هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكافرين، والمعنى: ليس عليك إلا البلاغ فقط، فلا تهتم بعدم إيمان قريش وغيرهم، الله هو الحفيظ عليهم كفرهم المحصي لأعمالهم، المجازي عليها، وأنت لست بوكيل عليهم، وما في هذه الألفاظ من موادعة فمنسوخ؛ قال الإمام الفخر في شرحه لأسماء الله الحسنى، عند كلامه على اسمه سبحانه «الحفيظ»: قال بعضهم: ما من عبد حفظ جوارحه إلا حفظ الله عليه قلبه، وما من عبد حفظ الله عليه قلبه إلا جعله حجة على عباده، انتهى، ثم قال تعالى: { وكذلك أوحينا إليك قرءانا عربيا } [المعنى: وكما قضينا أمرك هكذا، وأمضيناه في هذه السورة كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا] مبينا لهم، لا يحتاجون إلى آخر سواه، إذ فهمه متأت لهم، ولم نكلفك إلا إنذار من ذكر، و { أم القرى } هي مكة، و { يوم الجمع } هو يوم القيامة، أي: تخوفهم إياه.
وقوله: { فريق } مرتفع على خبر الابتداء المضمر؛ كأنه قال: هم فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم قوى تعالى تسلية نبيه بأن عرفه أن الأمر موقوف على مشيئة الله من إيمانهم أو كفرهم، وأنه لو أراد كونهم أمة واحدة على دين واحد، لجمعهم عليه؛ ولكنه سبحانه يدخل من سبقت له السعادة عنده في رحمته، وييسره في الدنيا لعمل أهل السعادة، وأن الظالمين بالكفر الميسرين لعمل الشقاوة ما لهم من ولي ولا نصير، قال عبد الحق رحمه الله في «العاقبة»: وقد علمت (رحمك الله) أن الناس يوم القيامة صنفان:
صنف مقرب مصان.
وآخر مبعد مهان.
صنف نصبت لهم الأسرة والحجال؛ والأرائك والكلال؛ وجمعت لهم الرغائب والآمال.
وآخرون أعدت لهم الأراقم والصلال؛ والمقامع والأغلال؛ وضروب الأهوال والأنكال، وأنت لا تعلم من أيهما أنت؛ ولا في أي الفريقين كنت: [الكامل]
نزلوا بمكة في قبائل نوفل
ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وتقلبوا فرحين تحت ظلالها
وطرحت بالصحراء غير مظلل
وسقوا من الصافي المعتق ريهم
وسقيت دمعة واله متململ
بكى سفيان الثوري رحمه الله ليلة إلى الصباح، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا؛ إنما أبكي؛ خوف الخاتمة، وبكى سفيان، وغير سفيان، وإنه للأمر يبكى عليه؛ ويصرف الاهتمام كله إليه.
وقد قيل: لا تكف دمعك؛ حتى ترى في المعاد ربعك.
وقيل: يابن آدم، الأقلام عليك تجري، وأنت في غفلة لا تدري، يابن آدم دع التنافس في هذه الدار، حتى ترى ما فعلت في أمرك الأقدار، سمع بعض الصالحين منشدا ينشد: [الطويل]
أيا راهبي نجران ما فعلت هند
.............................
فبكى ليلة إلى الصباح، فسئل عن ذلك فقال: قلت في نفسي: ما فعلت الأقدار في؛ وماذا جرت به علي؟ انتهى.
[42.9-12]
وقوله تعالى: { أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولى... } الآية، قوله: { أم اتخذوا }: كلام مقطوع مما قبله، وليست بمعادلة، ولكن الكلام كأنه أضرب عن حجة لهم أو مقالة مقررة، فقال: { بل * اتخذوا } هذا مشهور قول النحويين في مثل هذا، وذهب بعضهم إلى أن «أم» هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقدير إضراب، ثم أثبت الحكم بأنه عز وجل هو الولي الذي تنفع ولايته.
وقوله تعالى: { وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله... } الآية، المعنى: قل لهم يا محمد: وما اختلفتم فيه، أيها الناس، من تكذيب وتصديق، وإيمان وكفر، وغير ذلك فالحكم فيه والمجازاة عنه ليست إلي ولا بيدي؛ وإنما ذلك إلى الله تعالى، الذي صفاته ما ذكر من إحياء الموتى والقدرة على كل شيء.
وقوله تعالى: { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } يريد: زوج الإنسان الأنثى، وبهذه النعمة اتفق الذرء، وليست الأزواج ههنا الأنواع.
وقوله: { ومن الأنعم أزوجا } الظاهر أيضا فيه والمتسق أنه يريد إناث الذكران، ويحتمل أن يريد الأنواع، والأول أظهر.
وقوله: { يذرؤكم } أي: يخلقكم نسلا بعد نسل، وقرنا بعد قرن؛ قاله مجاهد، والناس، فلفظة «ذرأ» تزيد على لفظة «خلق» معنى آخر ليس في «خلق»، وهو توالي طبقات على مر الزمان.
وقوله: { فيه } الضمير عائد على الجعل يتضمنه قوله: { جعل لكم } وهذا كما تقول: كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه، وقال القتبي: الضمير للتزويج، ولفظة «في» مشتركة على معان، وإن كان أصلها الوعاء، وإليه يردها النظر في كل وجه.
وقوله تعالى: { ليس كمثله شىء } الكاف مؤكدة للتشبيه، فنفي التشبيه أوكد ما يكون؛ وذلك أنك تقول: زيد كعمرو، وزيد مثل عمرو، فإذا أردت المبالغة التامة قلت: زيد كمثل عمرو، وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب، وعلى هذا المعنى شواهد كثيرة، وذهب الطبري وغيره إلى أن المعنى: ليس كهو شيء، وقالوا: لفظة { مثل } في الآية توكيد، وواقعة موقع «هو»، و«المقاليد»: المفاتيح؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال مجاهد هذا أصلها بالفارسية، وهي ههنا استعارة لوقوع كل أمر تحت قدرته سبحانه، وقال السدي: المقاليد: الخزائن، وفي اللفظ على هذا حذف مضاف، قال قتادة: من ملك مقاليد خزائن، فالخزائن في ملكه.
[42.13-15]
وقوله سبحانه: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا... } الآية، المعنى: شرع لكم وبين من المعتقدات والتوحيد ما وصى به نوحا قبل.
وقوله: { والذى } عطف على { ما } ، وكذلك ما ذكر بعد من إقامة الدين مشروع اتفقت النبوات فيه؛ وذلك في المعتقدات، وأما الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة، وهي المراد في قوله تعالى:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهجا
[المائدة:48] وإقامة الدين هو توحيد الله ورفض سواه.
وقوله تعالى: { ولا تتفرقوا }: نهي عن المهلك من تفرق الأنحاء والمذاهب، والخير كله في الألفة واجتماع الكلمة، ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }: من توحيد الله ورفض الأوثان؛ قال قتادة: كبر عليهم «لا إله إلا الله» وأبى الله إلا نصرها، ثم سلاه تعالى عنهم بقوله: { الله يجتبى إليه من يشاء... } الآية، أي: يختار ويصطفي؛ قاله مجاهد وغيره و { ينيب } يرجع عن الكفر ويحرص على الخير ويطلبه.
{ وما تفرقوا } يعني: أوائل اليهود والنصارى { إلا من بعد ما جاءهم العلم }.
وقوله: { بغيا بينهم } أي: بغى بعضهم على بعض، وأداهم ذلك إلى اختلاف الرأي وافتراق الكلمة، والكلمة السابقة قال المفسرون: هي حتمه تعالى القضاء بأن مجازاتهم إنما تقع في الآخرة، ولولا ذلك لفصل بينهم في الدنيا، وغلب المحق على المبطل.
وقوله تعالى: { وإن الذين أورثوا الكتب } إشارة إلى معاصري نبينا محمد عليه السلام من اليهود والنصارى.
وقيل: هو إشارة إلى العرب؛ والكتاب على هذا هو القرآن، والضمير في قوله: { لفى شك منه } يحتمل أن يعود على الكتاب، أو على محمد، أو على الأجل المسمى، أي: في شك من البعث؛ على قول من رأى أن الإشارة إلى العرب، ووصف الشك ب { مريب }؛ مبالغة فيه، واللام في قوله تعالى: { فلذلك فادع } قالت فرقة: هي بمنزلة { إلى }؛ كأنه قال: فإلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد فادع، وقالت فرقة: بل هي بمعنى «من أجل» كأنه قال: من أجل أن الأمر كذا وكذا، ولكونه كذا فادع أنت إلى ربك، وبلغ ما أرسلت به، وقال الفخر: يعني فلأجل ذلك التفرق، ولأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها؛ كما أمرك الله، ولا تتبع أهواءهم الباطلة، انتهى، وخوطب عليه السلام بالاستقامة، وهو قد كان مستقيما بمعنى: دم على استقامتك، وهكذا الشأن في كل مأمور بشيء هو متلبس به، إنما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نصب عيني النبي عليه السلام ، وكانت شديدة الموقع من نفسه، أعني قوله تعالى: { واستقم كما أمرت } ، لأنها جملة تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوة، وفي هذا المعنى قال عليه السلام :
" شيبتني هود وأخواتها "
، فقيل له: لم ذلك، يا نبي الله؟ فقال: لأن فيها:
فاستقم كما أمرت
[هود:112] وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله عز وجل، وقال: هو لأمته بحسب ضعفهم: استقيموا ولن تحصوا.
وقوله تعالى: { ولا تتبع أهواءهم } يعني: قريشا.
* ت *: وفرض الفخر هذه القضية في أهل الكتاب، وذكر ما وقع من اليهود ومحاجتهم في دفع الحق وجحد الرسالة، وعلى هذا فالضمير في: { أهواءهم } عائد عليهم، والله أعلم. اه.
ثم أمره تعالى أن يقول: { آمنت بمآ أنزل الله من كتاب } ، وهو أمر يعم سائر أمته.
وقوله: { وأمرت لأعدل بينكم } قالت فرقة: اللام في { لأعدل } بمعنى: أن أعدل بينكم، وقالت فرقة: المعنى وأمرت بما أمرت به من التبليغ والشرع؛ لكي أعدل بينكم.
وقوله: { لنا أعملنا ولكم أعملكم } إلى آخر الآية ما فيه من موادعة منسوخ بآية السيف.
وقوله: { لا حجة بيننا وبينكم } أي: لا جدال، ولا مناظرة؛ قد وضح الحق، وأنتم تعاندون، وفي قوله: { الله يجمع بيننا }: وعيد بين.
[42.16-19]
وقوله تعالى: { والذين يحاجون فى الله... } الآية، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم، وقيل: نزلت في قريش؛ لأنها كانت أبدا تحاول هذا المعنى، و { يحاجون فى الله } معناه: في دين الله أو توحيد الله، أي: يحاجون فيه بالإبطال والإلحاد وما أشبهه، والضمير في { له } يحتمل أن يعود على الله تبارك وتعالى، ويحتمل أن يعود على الدين والشرع، ويحتمل أن يعود على النبي عليه السلام و { داحضة } معناه: زاهقة، والدحض الزهق، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { الله الذى أنزل الكتب بالحق } معناه: مضمنا الحق، أي: بالحق في أحكامه، وأوامره، ونواهيه، وأخباره، { والميزان } هنا: العدل؛ قاله ابن عباس ومجاهد، والناس، وحكى الثعلبي عن مجاهد؛ أنه قال: هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس، قال * ع *: ولا شك أنه داخل في العدل وجزء منه.
وقوله تعالى: { وما يدريك لعل الساعة قريب } وعيد للمشركين، وجاء لفظ «قريب» مذكرا من حيث تأنيث الساعة غير حقيقي ، وإذ هي بمعنى الوقت.
* ت *: ينبغي للمؤمن العاقل أن يتدبر هذه الآية ونظائرها، ويقدر في نفسه أنه المقصود بها: [البسيط]
لاه بدنياه والأيام تنعاه
والقبر غايته واللحد مأواه
يلهو فلو كان يدري ما أعد له
إذن لأحزنه ما كان ألهاه
قال الغزالي في «الإحياء» قال أبو زكريا التيمي: بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام؛ إذ أوتي بحجر منقوش، فطلب من يقرؤه، فأوتي بوهب بن منبه، فإذا فيه: ابن آدم، إنك لو رأيت قرب ما بقي من أجلك، لزهدت في طول أملك؛ ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك غدا ندمك؛ لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، ففارقك الولد والقريب؛ ورفضك الوالد والنسيب، فلا أنت إلى دنياك عائد؛ ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامه، قبل الحسرة والندامه.
فبكى سليمان بكاء شديدا، انتهى،، وباقي الآية بين.
ثم رجى تبارك وتعالى عباده بقوله: { الله لطيف بعباده } و { لطيف } هنا بمعنى رفيق متحف، والعباد هنا المؤمنون.
[42.20-22]
وقوله تعالى: { من كان يريد حرث الأخرة } معناه: إرادة مستعد عامل، لا إرادة متمن مسوف، والحرث في هذه الآية: عبارة عن السعي والتكسب والإعداد.
وقوله تعالى: { نزد له فى حرثه } وعد متنجز؛ قال الفخر: وفي تفسير قوله: { نزد له فى حرثه } قولان.
الأول: نزد له في توفيقه وإعانته، وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه، وقال مقاتل: تزد له في حرثه بتضعيف الثواب؛ قال تعالى:
ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله
[فاطر:30] انتهى، وقوله: { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها } معناه: ما شئنا منها ولمن شئنا، فرب ممتحن مضيق عليه حريص على حرث الدنيا، مريد له، لا يحس بغيره، نعوذ بالله من ذلك وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى أن يكون له نصيب في الآخرة.
وقوله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } «أم» هذه منقطعة لا معادلة، وهي بتقدير «بل»، وألف الاستفهام، والشركاء في هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم، ويكون الضمير في { لهم } للكفار المعاصرين لمحمد عليه السلام فالاشتراك ههنا هو في الكفر والغواية، وليس بشركة الإشراك بالله ويحتمل أن يكون المراد بالشركاء: الأصنام والأوثان؛ على معنى: أم لهم أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيته، ويكون الضمير في { شرعوا } لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم، والضمير في { لهم } للأصنام الشركاء، و { شرعوا } معناه: أثبتوا، ونهجوا، ورسموا و { الدين } هنا: العوائد والأحكام والسيرة، ويدخل في ذلك أيضا المعتقدات السوء؛ لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعا فاسدة، وكلمة الفصل هي ما سبق من قضاء الله تعالى بأنه يؤخر عقابهم للدار الآخرة، والقضاء بينهم هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم.
وقوله تعالى: { ترى الظلمين } هي رؤية بصر، و { مشفقين } حال، وليس لهم في هذا الإشفاق مدح؛ لأنهم إنما أشفقوا حين نزل بهم، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من أمر الساعة، كما تقدم ، وهو واقع بهم.
أبو حيان: ضمير { هو } عائد على العذاب، أو على ما كسبوا بحذف مضاف، أي: وبال ما كسبوا، انتهى، والروضات: المواضع المونقة النضرة.
[42.23-26]
وقوله تعالى: { ذلك الذى يبشر الله عباده } إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى:
وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا
[الأحزاب:47].
وقوله تعالى: { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } اختلف الناس في معناه فقال ابن عباس وغيره: هي آية مكية نزلت في صدر الإسلام، ومعناها: استكفاف شر الكفار ودفع أذاهم، أي: ما أسألكم على القرآن إلا أن تودوني لقرابة بيني وبينكم؛ فتكفوا عني أذاكم، قال ابن عباس، وابن إسحاق، وقتادة: ولم يكن في قريش بطن إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيه نسب أو صهر، فالآية على هذا فيها استعطاف ما، ودفع أذى، وطلب سلامة منهم، وذلك كله منسوخ بآية السيف، ويحتمل هذا التأويل أن يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم، أي: لا أسألكم غرامة ولا شيئا إلا أن تودوني لقرابتي منكم، وأن تكونوا أولى بي من غيركم، قال * ع *: وقريش كلها عندي قربى، وإن كانت تتفاضل، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ومن مات على بغضهم، لم يشم رائحة الجنة "
، وقال ابن عباس أيضا: ما يقتضي أن الآية مدنية، وأن الأنصار جمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالا وساقته إليه، فرده عليهم، ونزلت الآية في ذلك، وقيل غير هذا، وعلى كل قول، فالاستثناء منقطع، و { إلا } بمعنى «لكن» و { يقترف } معناه: يكتسب، ورجل قرفة إذا كان محتالا كسوبا و { غفور } معناه: ساتر عيوب عباده، و { شكور } معناه: مجاز على الدقيقة من الخير، لا يضيع عنده لعامل عمل.
وقوله تعالى: { أم يقولون افترى على الله كذبا } «أم» هذه مقطوعة مضمنة إضرابا عن كلام متقدم، وتقريرا على هذه المقالة منهم.
وقوله تعالى: { فإن يشإ الله يختم على قلبك } معناه؛ في قول قتادة وفرقة من المفسرين: ينسيك القرآن، والمراد الرد على مقالة الكفار، وبيان إبطالها، كأنه يقول: وكيف يصح أن تكون مفتريا، وأنت من الله بمرأى ومسمع؟ هو قادر لو شاء أن يختم على قلبك؛ فلا تعقل، ولا تنطق، ولا يستمر افتراؤك؛ فمقصد اللفظ: هذا المعنى، وحذف ما يدل عليه الظاهر؛ اختصارا واقتصارا، وقال مجاهد: المعنى: فإن يشإ الله يختم على قلبك بالصبر لأذى الكفار، ويربط عليك بالجلد، فهذا تأويل لا يتضمن الرد على مقالتهم؛ قال أبو حيان: وذكر القشيري أن الخطاب للكفار، أي: يختم على قلبك أيها القائل؛ فيكون انتقالا من الغيبة للخطاب، { ويمح }: استئناف إخبار؛ لا داخل في الجواب، وتسقط الواو من اللفظ؛ لالتقاء الساكنين، ومن المصحف؛ حملا على اللفظ، انتهى.
وقوله تعالى: { ويمح } فعل مستقبل، خبر من الله تعالى أنه يمحو الباطل، ولا بد إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا بحسب نازلة نازلة، وكتب { يمح } في المصحف بحاء مرسلة، كما كتبوا:
ويدع الإنسن
[الإسراء:11] إلى غير ذلك مما ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار.
وقوله: { بكلمته } معناه: بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء، فالكلمات: المعاني القائمة القديمة التي لا تبديل لها، ثم ذلك تعالى النعمة في تفضله بقبول التوبة من عباده، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمانه وأعماله مقطوع به بهذه الآية ، وأما ما سلف من أعماله فينقسم، فأما التوبة من الكفر فماحية كل ما تقدمها من مظالم العباد الفائتة وغير ذلك، وأما التوبة من المعاصي فلأهل السنة فيها قولان: هل تذهب المعاصي السالفة للعبد بينه وبين خالقه؟ فقالت فرقة: هي مذهبة لها، وقالت فرقة: هي في مشيئة الله تعالى، وأجمعوا أنها لا تذهب مظالم العباد، وحقيقة التوبة: الإقلاع عن المعاصي، والإقبال، والرجوع إلى الطاعات، ويلزمها الندم على ما فات؛ والعزم على ملازمة الخيرات.
وقال سري السقطي: التوبة: العزم على ترك الذنوب؛ والإقبال بالقلب على علام الغيوب، وقال يحيى بن معاذ: التائب: من كسر شبابه على رأسه، وكسر الدنيا على رأس الشيطان، [ولزم الفطام] حتى أتاه الحمام.
وقوله تعالى: { عن عباده } بمعنى من عباده، وكأنه قال: التوبة الصادرة عن عباده، وقرأ الجمهور: «يفعلون» بالياء على الغيبة، وقرأ حمزة والكسائي: «تفعلون» بالتاء على المخاطبة، وفي الآية توعد.
وقوله تعالى: «ويستجيب» قال الزجاج وغيره: معناه: يجيب، والعرب تقول: أجاب واستجاب بمعنى، و { الذين } على هذا التأويل: مفعول «يستجيب»، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل، ونحوه عن ابن عباس، وقالت فرقة: المعنى: ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحات، ودل قوله: { ويزيدهم من فضله } على أن المعنى: فيجيبهم، و { الذين } على هذا القول فاعل { يستجيب } ،، وقالت فرقة: المعنى: ويجيب المؤمنون ربهم، ف { الذين } فاعل بمعنى: يجيبون دعوة شرعه ورسالته، والزيادة من فضله هي تضعيف الحسنات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" هي قبول الشفاعات في المذنبين، والرضوان ".
[42.27-29]
وقوله تعالى: { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير } قال عمرو بن حريث وغيره: إنها نزلت؛ لأن قوما من أهل الصفة طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغنيهم الله، ويبسط لهم الأموال والأرزاق، فأعلمهم الله تعالى أنه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم، لكان سبب بغيهم وإفسادهم؛ ولكنه عز وجل أعلم بالمصلحة في كل أحد: { إنه بعباده خبير بصير }: بمصالحهم، فهو ينزل لهم من الرزق القدر الذي به صلاحهم؛ فرب إنسان لا يصلح، وتنكف عاديته إلا بالفقر.
* ت *: وقد ذكرنا في هذا المختصر أحاديث كثيرة مختارة في فضل الفقراء الصابرين ما فيه كفاية لمن وفق، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» عن سعيد بن المسيب قال:
" جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة، قال: هم الخائفون، الخاضعون، المتواضعون، الذاكرون الله كثيرا، قال: يا رسول الله، فهم أول الناس يدخلون الجنة؟ قال: لا، قال: فمن أول الناس يدخل الجنة؟ قال: الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة، فتخرج إليهم منها ملائكة، فيقولون: ارجعوا إلى الحساب، فيقولون: علام نحاسب، والله ما أفيضت علينا الأموال في الدنيا فنقبض فيها ونبسط، وما كنا أمراء نعدل ونجور؛ ولكنا جاءنا أمر الله فعبدناه حتى أتانا اليقين "
انتهى.
وقوله عز وجل: { وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا... } الآية، تعديد نعم الله تعالى الدالة على وحدانيته، وأنه المولى الذي يستحق أن يعبد دون ما سواه من الأنداد، وقرأ الجمهور: «قنطوا» بفتح النون، وقرأ الأعمش: «قنطوا» بكسرها، وهما لغتان، وروي أن عمر رضي الله عنه قيل له: أجدبت الأرض، وقنط الناس، فقال: مطروا إذن، بمعنى أن الفرج عند الشدة.
وقوله تعالى { وينشر رحمته } قيل: أراد بالرحمة: المطر، وقيل: أراد بالرحمة هنا: الشمس، فذلك تعديد نعمة غير الأولى، وذلك أن المطر إذا ألم بعد القنط حسن موقعه، فإذا دام سئم، فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع.
وقوله تعالى: { وهو الولى الحميد } أي: من هذه أفعاله هو الذي ينفع إذا والى، وتحمد أفعاله ونعمه، قال القشيري: اسمه تعالى: «الولي»، أي: هو المتولي لأحوال عباده، وقيل: هو من الوالي، وهو الناصر، فأولياء الله أنصار دينه، وأشياع طاعته، والولي: في صفة العبد من يواظب على طاعة ربه، ومن علامات من يكون الحق سبحانه وليه أن يصونه، ويكفيه في جميع الأحوال، ويؤمنه، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق في دفع شر أو جلب نفع؛ بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كل نفس، فيحقق آماله عند إشاراته، ويعجل مآربه عند خطراته، ومن أمارات ولايته لعبده: أن يديم توفيقه حتى لو أراد سوءا، أو قصد محظورا عصمه عن ارتكابه، أو لو جنح إلى تقصير في طاعة، أبى إلا توفيقا وتأييدا، وهذا من أمارات السعادة، وعكس هذا من أمارات الشقاوة،، ومن أمارات ولايته أيضا أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه، انتهى من «التحبير».
ثم ذكر تعالى الآية الكبرى الدالة على الصانع، وذلك خلق السموات والأرض.
وقوله [تعالى]: { وما بث فيهما من دابة } يتخرج على وجوه: منها: أن يريد إحداهما، وهو ما بث في الأرض دون السموات، ومنها: أن يكون تعالى قد خلق في السموات وبث دواب لا نعلمها نحن، ومنها: أن يريد الحيوانات التي توجد في السحاب، وقد تقع أحيانا كالضفادع ونحوها؛ فإن السحاب داخل في اسم السماء.
وقوله تعالى: { وهو على جمعهم } يريد: يوم القيامة عند الحشر من القبور.
[42.30-33]
وقوله تعالى: { وما أصبكم من مصيبة } قرأ جمهور القراء: «فبما» بفاء، وكذلك هي في جل المصاحف، وقرأ نافع وابن عامر: «بما» دون فاء، قال أبو علي الفارسي: أصاب من قوله: { وما أصبكم } يحتمل أن يكون في موضع جزم، وتكون «ما» شرطية، وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه، وجوز حذفها أبو الحسن الأخفش، وبعض البغداديين؛ على أنها مرادة في المعنى، ويحتمل أن يكون «أصاب» صلة ل«ما»، وتكون «ما» بمعنى «الذي»، وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم، أي: لولا كسبكم ما أصابتكم مصيبة، والمصيبة إنما هي بكسب الأيدي، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم، ويجوز أن يعرى منه، قال * ع *: وأما في هذه الآية، فالتلازم مطرد مع الثبوت والحذف، وأما معنى الآية، فاختلف الناس فيه، فقالت فرقة: هو إخبار من الله تعالى بأن الرزايا والمصائب في الدنيا إنما هي مجازات من الله تعالى على ذنوب المرء وخطاياه، وأن الله تعالى يعفو عن كثير، فلا يعاقب عليه بمصيبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يصيب ابن آدم خدش عود، أو عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو عنه أكثر "
، وقال مرة الهمداني: رأيت على ظهر كف شريح قرحة، فقلت: ما هذا؟ فقال: هذا بما كسبت يدي، ويعفو [الله] عن كثير، وقيل لأبي سليمان الداراني: ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء إليهم؟ فقال: لأنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه "
وقال الحسن: معنى الآية في الحدود، أي: ما أصابكم من حد من حدود الله، فبما كسبت أيديكم، ويعفو الله عن كثير، فيستره على العبد حتى لا يحد عليه، ثم أخبر تعالى عن قصور ابن آدم وضعفه، وأنه في قبضة القدرة لا يعجز طلب ربه، ولا يمكنه الفرار منه، و«الجواري»: جمع جارية وهي السفينة، و { الأعلام }: الجبال، وباقي الآية بين، فيه الموعظة وتشريف الصبار الشكور.
[42.34-37]
وقوله تعالى: { أو يوبقهن بما كسبوا }: أوبقت الرجل: إذا أنشبته في أمر يهلك فيه، وهو في السفن تغريقها و { بما كسبوا } أي: بذنوب ركابها، وقرأ نافع، وابن عامر: «ويعلم» بالرفع؛ على القطع والاستئناف، وقرأ الباقون والجمهور: «ويعلم» بالنصب؛ على تقدير «أن»، و«المحيص»: المنجى، وموضع الروغان.
ثم وعظ سبحانه عباده، وحقر عندهم أمر الدنيا وشأنها، ورغبهم فيما عنده من النعيم والمنزلة الرفيعة لديه، وعظم قدر ذلك في قوله: { فما أوتيتم من شىء فمتع الحيوة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون } وقرأ الجمهور: { كبئر } على الجمع؛ قال الحسن: هي كل ما توعد فيه بالنار، وقد تقدم ما ذكره الناس في الكبائر في سورة النساء وغيرها، { والفوحش }: قال السدي: الزنا، وقال مقاتل: موجبات الحدود.
وقوله تعالى: { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } حض على كسر الغضب والتدرب في إطفائه؛ إذ هو جمرة من جهنم، وباب من أبوابها، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:
" أوصني، قال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب "
، ومن جاهد هذا العارض من نفسه حتى غلبه، فقد كفي هما عظيما في دنياه وآخرته.
* ت *:
" وروى مالك في «الموطإ» أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر علي فأنسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب» "
قال أبو عمر بن عبد البر: أراد: علمني ما ينفعني بكلمات قليلة؛ لئلا أنسى إن أكثرت علي، ثم أسند أبو عمر من طرق عن الأحنف بن قيس عن عمه جارية بن قدامة، أنه قال: يا رسول الله، قل لي قولا ينفعني الله به، وأقلل لي؛ لعلي أعقله، قال:
" لا تغضب، فأعاد عليه مرارا، كلها يرجع إليه رسول الله: لا تغضب "
، انتهى من «التمهيد»، وأسند أبو عمر في «التمهيد» أيضا عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: لما رأى يحيى أن عيسى مفارقه قال له: أوصني، قال: لا تغضب، قال: لا أستطيع، قال: لا تقتن مالا، قال عسى. انتهى. وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من كف لسانه عن أعراض المسلمين أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن كف غضبه عنهم، وقاه الله عذابه يوم القيامة "
، قال ابن المبارك: وأخبرنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: إن الله تبارك وتعالى يقول:
" من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، ومن ذكرني حين يغضب ذكرته حين أغضب فلم أمحقه فيمن أمحق "
انتهى.
[42.38-41]
وقوله تعالى: { والذين استجابوا } مدح لكل من آمن بالله، وقبل شرعه، ومدح الله تعالى القوم الذين أمرهم شورى بينهم؛ لأن في ذلك اجتماع الكلمة، والتحاب، واتصال الأيدي، والتعاضد على الخير، وفي الحديث:
" ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأحسن، ما بحضرتهم ".
وقوله تعالى: { ومما رزقنهم ينفقون } معناه: في سبيل الله، وبرسم الشرع؛ وقال ابن زيد قوله تعالى: { والذين استجابوا لربهم... } الآية، نزلت في الأنصار، والظاهر أن الله تعالى مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائنا من كان، وهل حصل الأنصار في هذه الصفة إلا بعد سبق المهاجرين إليها رضي الله عن جميعهم بمنه وكرمه .
وقوله عز وجل: { والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون }: مدح سبحانه في هذه الآية قوما بالانتصار ممن بغى عليهم، ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا: الانتصار بالواجب تغيير منكر، قال الثعلبي: قال إبراهيم [النخعي] في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، انتهى.
وقوله سبحانه: { وجزاء سيئة سيئة مثلها } قيل: سمي الجزاء باسم الابتداء، وإن لم يكن سيئة، لتشابههما في الصورة، قال * ع *: وإن أخذنا السيئة هنا بمعنى المصيبة في حق البشر، أي: يسوء هذا هذا ويسوءه الآخر فلسنا نحتاج إلى أن نقول: سمى العقوبة باسم الذنب؛ بل الفعل الأول والآخر سيئة، قال الفخر: اعلم أنه تعالى لما قال: { والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون } أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل؛ فإن النقصان حيف، والزيادة ظلم، والمساواة هو العدل؛ فلهذا السبب قال تعالى: { وجزاء سيئة سيئة مثلها } انتهى؛ ويدل على ذلك قوله تعالى: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ونحوه من الآي، واللام في قوله: { ولمن انتصر بعد ظلمه } لام التقاء القسم.
وقوله: { من سبيل } يريد: من سبيل حرج ولا سبيل حكم، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار، والخلاف فيه: هل هو بين المؤمن والمشرك، أو بين المؤمنين؟.
[42.42-45]
وقوله تعالى: { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس... } الآية، المعنى: إنما سبيل الحكم والإثم على الذين يظلمون الناس، روى الترمذي عن كعب بن عجرة قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم،:
" أعيذك بالله يا كعب من أمراء يكونون، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، ولا يرد علي الحوض، يا كعب، الصلاة برهان، والصبر جنة حصينة، والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، يا كعب لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به ".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وخرجه أيضا في «كتاب الفتن» وصححه، انتهى.
وقوله تعالى: { إنما السبيل } إلى قوله: { أليم }: اعتراض بين الكلامين، ثم عاد في قوله: { ولمن صبر } إلى الكلام الأول، كأنه قال: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، { ولمن صبر وغفر... } الآية، واللام في قوله: { ولمن صبر } يصح أن تكون لام قسم، ويصح أن تكون لام الابتداء، و { عزم الامور }: محكمها ومتقنها، والحميد العاقبة منها، فمن رأى أن هذه الآية هي فيما بين المؤمنين والمشركين، وأن الصبر للمشركين كان أفضل قال: إن الآية نسخت بآية السيف، ومن رأى أن الآية بين المؤمنين، قال: هي محكمة، والصبر والغفران أفضل إجماعا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا كان يوم القيامة، نادى مناد: من كان له على الله أجر فليقم، فيقوم عنق من الناس كبير، فيقال: ما أجركم؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا في الدنيا "
وقوله تعالى: { ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده } تحقير لأمر الكفرة، أي: فلا يبالي بهم أحد من المؤمنين؛ لأنهم صائرون إلى ما لا فلاح لهم معه، ثم وصف تعالى لنبيه حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب، وقولهم: { هل إلى مرد من سبيل } ومرادهم: الرد إلى الدنيا، والرؤية هنا رؤية عين، والضمير في قوله: { عليها } عائد على النار، وإن لم يتقدم لها ذكر من حيث دل عليها قوله: { رأوا العذاب }.
وقوله: { من الذل } يتعلق ب { خشعين }.
وقوله تعالى: { ينظرون من طرف خفى } قال قتادة والسدي: المعنى: يسارقون النظر؛ لما كانوا فيه من الهم وسوء الحال لا يستطيعون النظر بجميع العين؛ وإنما ينظرون ببعضها؛ قال الثعلبي: قال يونس: { من } بمعنى الباء، ينظرون بطرف خفي، أي: ضعيف؛ من أجل الذل والخوف، ونحوه عن الأخفش، انتهى، وفي البخاري { من طرف خفى } ، أي: ذليل.
وقوله تعالى: { وقال الذين ءامنوا إن الخسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة... } الآية، وقول { الذين ءامنوا } هو في يوم القيامة عند ما عاينوا حال الكفار وسوء منقلبهم.
وقوله تعالى: { ألا إن الظلمين فى عذاب مقيم } يحتمل أن يكون من قول المؤمنين يومئذ، حكاه الله عنهم، ويحتمل أن يكون استئنافا من قول الله عز وجل وأخباره لنبيه محمد عليه السلام .
[42.46-48]
وقوله تعالى: { وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله... } الآية، إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها، واعتقدت ذلك دينا، ثم أمر تعالى نبيه أن يأمرهم بالاستجابة لدعوة الله وشريعته من قبل إتيان يوم القيامة الذي لا يرد أحد بعده إلى عمل ، قال * ع *: في الآية الأخرى في سورة «ألم غلبت الروم»: ويحتمل أن يريد: لا يرده راد حتى لا يقع، وهذا ظاهر بحسب اللفظ،، و«النكير»: مصدر بمعنى الإنكار؛ قال الثعلبي: { ما لكم من ملجأ }: أي معقل، { وما لكم من نكير } أي: من إنكار على ما ينزل بكم من العذاب بغير ما بكم، انتهى.
وقوله تعالى: { فإن أعرضوا... } الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، والإنسان هنا اسم جنس، وجمع الضمير في قوله: { تصبهم } وهو عائد على لفظ الإنسان من حيث هو اسم جنس.
[42.49-51]
وقوله تعالى: { لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء... } الآية، هذه آية اعتبار دال على القدرة والملك المحيط بالجميع، وأن مشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه وفي كل أمرهم، وهذا لا مدخل لصنم فيه، فإن الذي يخلق ما يشاء هو الله تبارك وتعالى، وهو الذي يقسم الخلق؛ فيهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الأولاد الذكور، { أو يزوجهم } أي: ينوعهم ذكرانا وإناثا، وقال محمد بن الحنفية: يريد بقوله تعالى: { أو يزوجهم } التوءم، أي: يجعل في بطن زوجا من الذرية ذكرا وأنثى، و«العقيم»: الذي لا يولد له، وهذا كله مدبر بالعلم والقدرة وبدأ في هذه الآية بذكر الإناث؛ تأنيسا بهن ليهتم بصونهن والإحسان إليهن، وقال النبي عليه السلام :
" من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن، كن له حجابا من النار "
، وقال واثلة بن الأسقع: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر؛ لأن الله تعالى بدأ بذكر الإناث؛ حكاه عنه الثعلبي قال: وقال إسحاق بن بشر: نزلت هذه الآية في الأنبياء، ثم عمت ف { يهب لمن يشآء إناثا } يعني: لوطا عليه السلام ، و { ويهب لمن يشآء الذكور } يعني: إبراهيم عليه السلام ، { أو يزوجهم ذكرانا وإنثا } يعني: نبينا محمدا عليه السلام ، { ويجعل من يشاء عقيما } يعني: يحيى بن زكرياء عليهما السلام .
وقوله تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا... } الآية، نزلت بسبب خوض كان للكفار في معنى تكليم الله موسى ونحو ذلك، ذهب قريش واليهود في ذلك إلى تجسيم ونحوه، فنزلت الآية مبينة صورة تكليم الله عباده، كيف هو، فبين الله تعالى أنه لا يكون لأحد من الأنبياء، ولا ينبغي له، ولا يمكن فيه أن يكلمه الله إلا بأن يوحي إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام؛ قال مجاهد: أو النفث في القلب، أو وحي في منام، قال النخعي: وكان من الأنبياء من يخط له في الأرض ونحو هذا، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزا كموسى عليه السلام ، وهذا معنى { من وراء حجاب } أي: من خفاء عن المكلم لا يحده ولا يتسور بذهنه عليه، وليس كالحجاب في الشاهد، أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله عز وجل، قال الفخر: قوله: { فيوحى بإذنه ما يشاء } أي: فيوحى ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله انتهى، وقرأ جمهور القراء والناس: «أو يرسل» بالنصب «فيوحى» بالنصب أيضا، وقرأ نافع، وابن عامر، وابن عباس، وأهل المدينة: «أو يرسل» بالرفع فيوحي بسكون الياء ، وقوله: { أو من وراء حجاب } «من» متعلقة بفعل يدل ظاهر الكلام عليه، تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب، وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم، وأن من حلف: لا يكلم فلانا، وهو لم ينو المشافهة، ثم أرسل رسولا حنث.
[42.52-53]
وقوله تعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا... } الآية، المعنى: وبهذه الطرق، ومن هذا الجنس أوحينا إليك، أي: بالرسول، و«الروح» في هذه الآية: القرآن آن وهدى الشريعة، سماه روحا من حيث يحيي به البشر والعالم؛ كما يحيي الجسد بالروح، فهذا على جهة التشبيه.
وقوله تعالى: { من أمرنا } أي: واحد من أمورنا، ويحتمل أن يكون الأمر بمعنى الكلام، { ومن } لابتداء الغاية.
وقوله تعالى: { ما كنت تدرى ما الكتب ولا الإيمن } توقيف على مقدار النعمة، والضمير في { جعلنه } عائد على الكتاب، و { نهدى } بمعنى: نرشد، وقرأ جمهور الناس: «وإنك لتهدي» بفتح التاء وكسر الدال ، وقرأ حوشب: «لتهدى» بضم التاء وفتح الدال ، وقرأ عاصم: «لتهدي » بضم التاء وكسر الدال .
وقوله: { صرط الله } يعني: صراط شرع الله، ثم استفتح سبحانه القول في الإخبار بصيرورة الأمور إليه سبحانه؛ مبالغة وتحقيقا وتثبيتا، فقال: { ألا إلى الله تصير الامور } قال الشيخ العارف بالله أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: إن أردت أن تغلب الشر كله، وتلحق الخير كله، ولا يسبقك سابق، وإن عمل ما عمل فقل: يا من له الخير كله، أسألك الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله، فإنك أنت الله الغني الغفور الرحيم، أسألك بالهادي محمد صلى الله عليه وسلم إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، ألا إلى الله تصير الأمور، اللهم، إني أسألك مغفرة تشرح بها صدري، وتضع بها وزري، وترفع بها ذكري، وتيسر بها أمري، وتنزه بها فكري، وتقدس بها سري، وتكشف بها ضري، وترفع بها قدري؛ إنك على كل شيء قدير، اه.
* قلت *: قوله تعالى: { ما كنت تدرى ما الكتب }: هذا بين، وقوله: { ولا الإيمن }: فيه تأويلات: قيل معناه: ولا شرائع الإيمان ومعالمه؛ قال أبو العالية: يعني: الدعوة إلى الإيمان، وقال الحسين بن الفضل: يعني أهل الإيمان، من يؤمن ومن لا يؤمن، وقال ابن خزيمة: الإيمان هنا الصلاة؛ دليله:
وما كان الله ليضيع إيمنكم
[البقرة:143] قال ابن أبي الجعد وغيره: احترق مصحف فلم يبق منه إلا: { ألا إلى الله تصير الأمور } وغرق مصحف فامحى كله إلا قوله: { ألا إلى الله تصير الأمور } نقله الثعلبي وغيره، انتهى.
قال العبد الفقير إلى الله تعالى، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، لطف الله به في الدارين: قد يسر الله عز وجل في تحرير هذا المختصر، وقد أودعته بحمد الله جزيلا من الدرر، قد استوعبت فيه بحمد الله مهمات ابن عطية، وزدته فوائد جليلة من غيره، وليس الخبر كالعيان، توخيت فيه بحمد الله الصواب؛ وجعلته ذخيرة عند الله ليوم المآب، لا يستغني عنه المنتهي؛ وفيه كفاية للمبتدي، يستغني به عن المطولات؛ إذ قد حصل منها لبابها؛ وكشف عن الحقائق حجابها.
التعريف برحلة المؤلف
رحلت في طلب العلم في أواخر القرن الثامن، ودخلت بجاية في أوائل القرن التاسع، فلقيت بها الأئمة المقتدى بهم، أصحاب سيدي عبد الرحمن الوغليسي متوافرين، فحضرت مجالسهم، وكانت عمدة قراءتي بها على سيدي [علي بن] عثمان المانجلاتي رحمه الله بمسجد عين البربر، ثم ارتحلت إلى تونس، فلقيت بها سيدي عيسى الغبريني والأبي، والبرزلي، وغيرهم، وأخذت عنهم، ثم ارتحلت إلى المشرق، فلقيت بمصر الشيخ ولي الدين العراقي، فأخذت عنه علوما جمة معظمها علم الحديث، وفتح الله لي فيه فتحا عظيما، وكتب لي وأجازني جميع ما حضرته عليه، وأطلق في غيره، ثم لقيت بمكة بعض المحدثين، ثم رجعت إلى الديار المصرية وإلى تونس، وشاركت من بها، ولقيت بها شيخنا أبا عبد الله محمد بن مرزوق قادما لإرادة الحج، فأخذت عنه كثيرا، وأجازني [التدريس] في أنواع الفنون الإسلامية، وحرضني على إتمام تقييد وضعته على ابن الحاجب الفرعي.
قلت: ولما فرغت من تحرير هذا المختصر وافق قدوم شيخنا أبي عبد الله محمد بن مرزوق علينا في سفرة سافرها من تلمسان متوجها إلى تونس، ليصلح بين سلطانها وبين صاحب تلمسان، فأوقفته على هذا الكتاب، فنظر فيه وأمعن النظر، فسر به سرورا كثيرا ودعا لنا بخير، والله الموفق بفضله.
[43 - سورة الزخرف]
[43.1-4]
{ حم * والكتب المبين } { والكتب }: خفض بواو القسم، والضمير في { جعلنه } عائد على الكتاب، و { إنه } عطف على { جعلنه } ، وهذا الإخبار الثاني واقع أيضا تحت القسم، و { أم الكتب }: اللوح المحفوظ، وهذا فيه تشريف للقرآن، وترفيع، واختلف المتأولون: كيف هو في أم الكتاب؟ فقال قتادة وغيره: القرآن بأجمعه فيه منسوخ، ومنه كان جبريل ينزل، وهنالك هو علي حكيم، وقال جمهور الناس: إنما في اللوح المحفوظ ذكره ودرجته ومكانته من العلو والحكمة.
[43.5-8]
وقوله سبحانه: { أفنضرب } بمعنى: أفنترك؛ تقول العرب: أضربت عن كذا وضربت: إذا أعرضت عنه وتركته، و { الذكر } هو: الدعاء إلى الله، والتذكير بعذابه، والتخويف من عقابه، وقال أبو صالح: الذكر هنا أراد به العذاب نفسه، وقال الضحاك ومجاهد: الذكر القرآن.
وقوله: { صفحا }: يحتمل أن يكون بمعنى العفو والغفر للذنوب، فكأنه يقول: أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوا عنكم، وغفرا لإجرامكم؛ من أجل أن كنتم قوما مسرفين، أي: هذا لا يصلح؛ وهذا قول ابن عباس ومجاهد ويحتمل قوله: { صفحا } أن يكون بمعنى مغفولا عنه، أي: نتركه يمر لا تؤخذون بقبوله ولا بتدبره، فكأن المعنى: أفنترككم سدى، وهذا هو منحى قتادة وغيره، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «إن كنتم» بكسر الهمزة، وهو جزاء دل ما تقدمه على جوابه، وقرأ الباقون بفتحها بمعنى: من أجل أن، والإسراف في الآية هو كفرهم.
{ وكم أرسلنا من نبي فى الأولين } أي: في الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
{ وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون } أي: كما يستهزىء قومك بك، وهذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتهديد بأن يصيب قريشا ما أصاب من هو أشد بطشا منهم.
{ ومضى مثل الأولين } أي: سلف أمرهم وسنتهم، وصاروا عبرة غابر الدهر، أنشد صاحب «عنوان الدراية»لشيخه أبي عبد الله التميمي: [البسيط]
يا ويح من غره دهر فسر به
لم يخلص الصفو إلا شيب بالكدر
هو الحمام فلا تبعد زيارته
ولا تقل ليتني منه على حذر
انظر لمن باد تنظر آية عجبا
وعبرة لأولي الألباب والعبر
أين الألى جنبوا خيلا مسومة
وشيدوا إرما خوفا من القدر
لم تغنهم خيلهم يوما وإن كثرت
ولم تفد إرم للحادث النكر
بادوا فعادوا حديثا إن ذا عجب
ما أوضح الرشد لولا سيىء النظر
تنافس الناس في الدنيا وقد علموا
أن المقام بها كاللمح بالبصر
انتهى.
[43.9-14]
وقوله سبحانه: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم }: الآية ابتداء احتجاج على قريش يوجب عليهم التناقض من حيث أقروا بالخالق، وعبدوا غيره، وجاءت العبارة عن الله ب { العزيز العليم }؛ ليكون ذلك توطئة لما عدد سبحانه من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها، وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش.
وقوله تعالى: { الذى جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون } الآية، هذه أوصاف فعل، وهي نعم من الله سبحانه على البشر، تقوم بها الحجة على كل مشرك.
وقوله: { الذى جعل لكم } ليس هو من قول المسؤولين، بل هو ابتداء إخبار من الله تعالى.
وقوله سبحانه: { والذى نزل من السماء ماء بقدر } قيل: معناه: بقدر في الكفاية للصلاح لا إكثار فيفسد، ولا قلة فيقصر؛ بل غيثا مغيثا، وقيل: { بقدر } أي: بقضاء وحتم، وقالت فرقة: معناه: بتقدير وتحرير، أي: قدر ماء معلوما، ثم اختلف قائلو هذه المقالة فقال بعضهم: ينزل في كل عام ماء قدرا واحدا، لا يفضل عام عاما، لكن يكثر مرة ههنا ومرة ههنا، وقال بعضهم: بل ينزل تقديرا ما في عام، وينزل في آخر تقديرا ما، وينزل في آخر تقديرا آخر بحسب ما سبق به قضاؤه لا إله إلا هو.
قلت: وبعض هذه الأقوال لا تقال من جهة الرأي، بل لا بد لها من سند، و { أنشرنا } معناه: أحيينا؛ يقال: نشر الميت وأنشره الله، والأزواج هنا الأنواع من كل شيء، و { من } في قوله: { من الفلك والأنعم } للتبعيض، والضمير في { ظهوره } عائد على النوع المركوب الذي وقعت عليه «ما»، وقد، بينت آية أخرى ما يقال عند ركوب الفلك، وهو:
بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم
[هود:41] وإنما هذه خاصة فيما يركب من الحيوان، وإن قدرنا أن ذكر النعمة هو بالقلب، والتذكر بدء الراكب ب { سبحن الذى سخر لنا هذا } ، وهو يرى نعمة الله في ذلك وفي سواه و { مقرنين } أي: مطيقين، وقال أبو حيان { مقرنين }: خبر كان، ومعناه غالبين ضابطين، انتهى، وهو بمعنى الأول، { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أمر بالإقرار بالبعث.
* ت *: وعن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" على ظهر كل بعير شيطان، فإذا ركبتموها فسموا الله "
رواه ابن حبان في «صحيحه»، انتهى من «السلاح»، وينبغي لمن ملكه الله شيئا من هذا الحيوان أن يرفق به ويحسن إليه؛ لينال بذلك رضا الله تعالى، قال القشيري في «التحبير»: وينبغي للعبد أن يكون معظما لربه، نفاعا لخلقه ، خيرا في قومه، مشفقا على عباده؛ فإن رأس المعرفة تعظيم أمر الله سبحانه، والشفقة على خلق الله، انتهى، وروى مالك في «الموطإ» عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، فخرج فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟! فقال: في كل كبد رطبة أجر "
قال أبو عمر في «التمهيد»: وكذا في الإساءة إلى الحيوان إثم، وقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها، ولا هي أطلقتها تأكل من خشاش الأرض "
، ثم أسند أبو عمر؛
" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا من حيطان الأنصار، فإذا جمل قد أتي فجرجر، وذرفت عيناه، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته وذفراه، فسكن، فقال: من صاحب الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله؛ إنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه "
ومعنى ذرفت عيناه، أي: قطرت دموعهما قطرا ضعيفا، والسراة الظهر، «والذفرى»: ما وراء الأذنين عن يمين النقرة وشمالها، انتهى.
[43.15-19]
وقوله سبحانه: { وجعلوا له من عباده جزءا } أي: جعلت كفار قريش والعرب لله جزءا، أي: نصيبا وحظا، وهو قول العرب: «الملائكة بنات الله»؛ هذا قول كثير من المتأولين، وقال قتادة: المراد بالجزء: الأصنام وغيرها ف { جزءا } معناه: ندا.
* ت *: وباقي الآية يرجح تأويل الأكثر.
وقوله: { أم اتخذ }: إضراب وتقرير وتوبيخ؛ إذ المحمود المحبوب من الأولاد قد خوله الله بني آدم، فكيف يتخذ هو لنفسه النصيب الأدنى، وباقي الآية بين مما ذكر في «سورة النحل» وغيرها.
ثم زاد سبحانه في توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله : { أومن ينشأ فى الحلية } التقدير: أو من ينشأ في الحلية هو الذي خصصتم به الله عز وجل، والحلية: الحلي من الذهب والفضة والأحجار، و { ينشأ } معناه: ينبت ويكبر، و { الخصام }: المحاجة ومجاذبة المحاورة، وقل ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني، وفي مصحف ابن مسعود: «وهو في الكلام غير مبين» والتقدير: غير مبين غرضا أو منزعا ونحو هذا، وقال ابن زيد: المراد ب { من ينشأ فى الحلية }: الأصنام والأوثان، لأنهم كانوا يجعلون الحلي على كثيرا منها، ويتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة، وقرأ أكثر السبعة: «وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا» وقرأ الحرميان وابن عامر: «عند الرحمن إناثا» وهذه القراءة أدل على رفع المنزلة.
وقوله تعالى: { أشهدوا خلقهم } معناه أأحضروا خلقهم، وفي قوله تعالى: { ستكتب شهدتهم ويسئلون } وعيد مفصح، وأسند ابن المبارك عن سليمان بن راشد؛ أنه بلغه أن امرأ لا يشهد شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ولا يمتدح عبدا في الدنيا إلا امتدحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، قال القرطبي في «تذكرته»: وهذا صحيح؛ يدل على صحته قوله تعالى: { ستكتب شهدتهم ويسئلون } وقوله:
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
[ق:18] انتهى.
[43.20-25]
وقوله سبحانه: { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدنهم... } الآية، أي: ما عبدنا الأصنام.
* ت *: وقال قتادة وغيره: يعني: ما عبدنا الملائكة، وجعل الكفار إمهال الله لهم دليلا على رضاه عنهم، وأن ذلك كالأمر به، ثم نفى سبحانه علمهم بهذا، وليس عندهم كتاب منزل يقتضي ذلك؛ وإنما هم يظنون ويحدسون ويخمنون، وهذا هو الخرص والتخرص، والأمة هنا بمعنى الملة والديانة، والآية على هذا تعيب عليهم التقليد، وذكر الطبري عن قوم أن الأمة الطريقة، ثم ضرب الله المثل لنبيه محمد عليه السلام وجعل له الأسوة فيمن مضى من النذر والرسل؛ وذلك أن المترفين من قومهم، وهم أهل التنعم والمال، قد قابلوهم بمثل هذه المقالة، وفي قوله عز وجل: { فانتقمنا منهم... } الآية: وعيد لقريش، وضرب مثل لهم بمن سلف من الأمم المعذبة المكذبة لأنبيائها.
[43.26-28]
وقوله سبحانه: { وإذ قال إبرهيم } المعنى: واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: { إننى براء مما تعبدون } أي: فافعل أنت فعله، وتجلد جلده، و { براء }: صفة تجري على الواحد والاثنين والجمع؛ كعدل وزور، وقرأ ابن مسعود: «بريء».
وقوله: «إلا الذي فطرني» قالت فرقة: الاستثناء متصل، وكانوا يعرفون الله ويعظمونه، إلا أنهم كانوا يشركون معه أصنامهم، فكأن إبراهيم قال لهم: أنا لا أوافقكم إلا على عبادة الله الذي فطرني، وقالت فرقة: الاستثناء منقطع، والمعنى: لكن الذي فطرني هو معبودي الهادي المنجي من العذاب، وفي هذا استدعاء لهم، وترغيب في طاعة الله، وتطميع في رحمته.
والضمير في قوله: { وجعلها كلمة... } الآية، قالت: فرقة: هو عائد على كلمته بالتوحيد في قوله { إننى براء } وقال مجاهد وغيره: المراد بالكلمة: لا إله إلا الله، وعاد عليها الضمير، وإن كان لم يجر لها ذكر؛ لأن اللفظ يتضمنها، والعقب: الذرية، وولد الولد ما امتد فرعهم.
[43.29-35]
وقوله: { بل متعت هؤلاء } يعني قريشا { حتى جاءهم الحق ورسول } ، وذلك هو شرع الإسلام، والرسول [هو] محمد صلى الله عليه وسلم و { مبين } أي: يبين لهم الأحكام، والمعنى في الآية: بل أمهلت هؤلاء ومتعتهم بالنعمة { ولما جاءهم الحق } يعني القرآن { قالوا هذا سحر }.
{ وقالوا } يعني قريشا: { لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم } يعني: من إحدى القريتين، وهما مكة والطائف، ورجل مكة هو الوليد بن المغيرة في قول ابن عباس وغيره، وقال مجاهد: هو عتبة بن ربيعة، وقيل غير هذا، ورجل الطائف: قال قتادة: هو عروة بن مسعود، وقيل غير هذا، قال * ع *: وإنما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسن، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعظم من هؤلاء؛ إذ كان المسمى عندهم «الأمين»، ثم وبخهم سبحانه بقوله: { أهم يقسمون رحمت ربك } و«الرحمة» اسم عام يشمل النبوة وغيرها، وفي قوله تعالى: { نحن قسمنا بينهم معيشتهم } تزهيد في السعايات، وعون على التوكل على الله عز وجل؛ ولله در القائل: [الرجز]
[كم جاهل يملك دورا وقرى
[وعالم يسكن بيتا بالكرا]
لما سمعنا قوله سبحانه
نحن قسمنا بينهم زال المرا
وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا أراد الله بعبد خيرا أرضاه بما قسم له، وبارك له فيه، وإذا لم يرد به خيرا، لم يرضه بما قسم له، ولم يبارك له فيه "
انتهى، و { سخريا } بمعنى التسخير، ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية.
وقوله تعالى: { ورحمت ربك خير مما يجمعون } قال قتادة والسدي: يعني الجنة، قال * ع *: ولا شك أن الجنة هي الغاية، ورحمة الله في الدنيا بالهداية والإيمان خير من كل مال، وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا، وتزهيد فيها، ثم استمر القول في تحقيرها بقوله سبحانه: { ولولا أن يكون الناس أمة وحدة... } الآية؛ وذلك أن معنى الآية أن الله سبحانه أبقى على عباده، وأنعم عليهم بمراعاة بقاء الخير والإيمان، وشاء حفظه على طائفة منهم بقية الدهر، ولولا كراهية أن يكون الناس كفارا كلهم، وأهل حب في الدنيا وتجرد لها لوسع الله على الكفار غاية التوسعة، ومكنهم من الدنيا؛ وذلك لحقارتها عنده سبحانه، وأنها لا قدر لها ولا وزن؛ لفنائها وذهاب رسومها، فقوله: { أمة واحدة } معناه في الكفر؛ قاله ابن عباس وغيره، ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:
" لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء "
وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن علقمة عن عبد الله قال:
" اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر الحصير في جنبه، فلما استيقظ، جعلت أمسح عنه، وأقول: يا رسول الله، ألا آذنتني قبل أن تنام على هذا الحصير، فأبسط لك عليه شيئا يقيك منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي وللدنيا، وما للدنيا وما لي ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل في فيء أو ظل شجرة، ثم راح وتركها "
انتهى، وقد خرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح،، و { سقفا } جمع سقف، والمعارج: الأدراج التي يطلع عليها؛ قاله ابن عباس وغيره، و { يظهرون } معناه: يعلون؛ ومنه حديث عائشة (رضي الله عنها) والشمس في حجرتها لم تظهر بعد، والسرر: جمع سرير، والزخرف: قال ابن عباس، والحسن، وقتادة والسدي: هو الذهب، وقالت فرقة: الزخرف: التزاويق والنقش ونحوه؛ وشاهده:
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها
[يونس:24] وقرأ الجمهور: { وإن كل ذلك لما } بتخفيف الميم من «لما»؛ ف«إن» مخففة من الثقيلة، واللام في «لما» داخلة؛ لتفصل بين النفي والإيجاب، وقرأ عاصم، وحمزة، وهشام بخلاف عنه بتشديد الميم من «لما»؛ ف«إن» نافية بمعنى [«ما»، و«لما» بمعنى] «إلا»، أي: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، وفي قوله سبحانه: { والأخرة عند ربك للمتقين } وعد كريم، وتحريض على لزوم التقوى، إذ في الآخرة هو التباين الحقيقي في المنازل؛ قال الفخر: بين تعالى أن كل ذلك متاع الحياة الدنيا، وأما الآخرة فهي باقية دائمة، وهي عند الله وفي حكمه للمتقين المعرضين عن حب الدنيا، المقبلين على حب المولى، انتهى.
[43.36-42]
وقوله عز وجل: { ومن يعش عن ذكر الرحمن } الآية، وعشا يعشو معناه: قل الإبصار منه، ويقال أيضا: عشي الرجل يعشى: إذا فسد بصره، فلم ير، أو لم ير إلا قليلا، فالمعنى في الآية: ومن يقل بصره في شرع الله، ويغمض جفونه عن النظر في ذكر الرحمن، أي: فيما ذكر به عباده، أي: فيما أنزله من كتابه، وأوحاه إلى نبيه.
وقوله: { نقيض له شيطانا } أي: نيسر له، ونعد، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح، وهذا كما يقال: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالتزيد في المعاصي، ويجازي على الحسنة بالتزيد من الحسنات، وقد روي هذا المعنى مرفوعا. قال * ص *: { ومن يعش } الجمهور بضم الشين، أي: يتعام ويتجاهل، ف { من } شرطية، و { يعش } مجزوم بها، و { نقيض } جواب { من } ، انتهى، والضمير في قوله: { وإنهم } عائد على الشياطين، وفيما بعده عائد على الكفار، وقرأ نافع وغيره: «حتى إذا جاءانا»؛ على التثنية، يريد: العاشي والقرين؛ قاله قتادة وغيره، وقرأ أبو عمرو وغيره: «جاءنا» يريد العاشي وحده، وفاعل { قال } هو العاشي، قال الفخر: وروي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطان بيده، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار، فذلك حيث يقول: { يليت بيني وبينك بعد المشرقين } انتهى.
وقوله: { بعد المشرقين } يحتمل معاني:
أحدها: أن يريد بعد المشرق من المغرب، فسماهما مشرقين؛ كما يقال القمران، والعمران.
والثاني: أن يريد مشرق الشمس في أطول يوم، ومشرقها في أقصر يوم.
والثالث: أن يريد بعد المشرقين من المغربين، فاكتفى بذكر المشرقين.
قلت: واستبعد الفخر التأويل الثاني قال: لأن المقصود من قوله: { يليت بيني وبينك بعد المشرقين } المبالغة في حصول البعد، وهذه المبالغة إنما تحصل عند ذكر بعد لا يمكن وجود بعد أزيد منه، والبعد بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف ليس كذلك، فيبعد حمل اللفظ عليه؛ قال: والأكثرون على التأويل الأول، انتهى.
وقوله تعالى: { ولن ينفعكم اليوم... } الآية، حكاية عن مقالة تقال لهم يوم القيامة، وهي مقالة موحشة فيها زيادة تعذيب لهم ويأس من كل خير، وفاعل { ينفعكم } الاشتراك، ويجوز أن يكون فاعل { ينفعكم } التبري الذي يدل عليه قوله: { يليت }.
وقوله سبحانه: { أفأنت تسمع الصم... } الآية، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وباقي الآية تكرر معناه غير ما مرة.
[43.43-45]
وقوله تعالى: { فاستمسك بالذى أوحى إليك } أي: بما جاءك من عند الله من الوحي المتلو وغيره.
وقوله: { وإنه لذكر لك } يحتمل أن يريد: وإنه لشرف في الدنيا لك ولقومك يعني: قريشا؛ قاله ابن عباس وغيره، ويحتمل أن يريد: وإنه لتذكرة وموعظة، ف«القوم» على هذا أمته بأجمعها، وهذا قول الحسن بن أبي الحسن.
وقوله: { وسوف تسئلون } قال ابن عباس وغيره: معناه: عن أوامر القرآن ونواهيه، وقال الحسن: معناه: عن شكر النعمة فيه، واللفظ يحتمل هذا كله ويعمه.
وقوله تعالى: { وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا... } الآية، قال ابن زيد، والزهري: أما إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرسل ليلة الإسراء عن هذا؛ لأنه كان أثبت يقينا من ذلك، ولم يكن في شك، وقال ابن عباس وغيره: أراد: واسأل أتباع من أرسلنا وحملة شرائعهم، وفي قراءة ابن مسعود وأبي: «واسئل الذين أرسلنا إليهم».
* ت *: قال عياض: قوله تعالى: { وسئل من أرسلنا من قبلك... } الآية: الخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد المشركون؛ قاله القتبي، ثم قال عياض: والمراد بهذا، الإعلام بأن الله عز وجل لم يأذن في عبادة غيره لأحد؛ ردا على مشركي العرب وغيرهم في قولهم:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
[الزمر:3] انتهى.
[43.46-51]
وقوله سبحانه: { ولقد أرسلنا موسى بئايتنا... } الآية، ضرب مثل وأسوة للنبي صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام ولكفار قريش بقوم فرعون.
وقوله: { وأخذنهم بالعذاب } أي: كالطوفان والجراد والقمل والضفادع، وغير ذلك { لعلهم يرجعون } أي: يتوبون ويرجعون عن كفرهم، وقالوا لما عاينوا العذاب لموسى: { يأيه الساحر } [أي]: العالم، وإنما قالوا هذا على جهة التعظيم والتوقير؛ لأن علم السحر عندهم كان علما عظيما، وقيل: إنما قالوا ذلك على جهة الاستهزاء، والأول أرجح، وقولهم: { ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون } أي: إن نفعتنا دعوتك.
وقوله: { أليس لى ملك مصر... } الآية: مصر من بحر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل، والأنهار التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل.
[43.52-56]
وقوله: { أم أنا خير } قال سيبويه: «أم» هذه المعادلة، والمعنى: أفأنتم لا تبصرون؟ أم تبصرون، وقالت فرقة: «أم» بمعنى «بل»، وقرأ بعض الناس: «أما أنا خير» حكاه الفراء، وفي مصحف أبي بن كعب: «أم أنا خير أم هذا» و { مهين } معناه: ضعيف، { ولا يكاد يبين } إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة، وكانت أحدثت في لسانه عقدة، فلما دعا في أن تحل ليفقه قوله، أجيبت دعوته، لكنه بقي أثر كان البيان يقع معه، فعيره فرعون به.
وقوله: { ولا يكاد يبين } يقتضى أنه كان يبين.
وقوله: { فلولا ألقى عليه }: يريد من السماء، على معنى التكرمة، وقرأ الجمهور: «أساورة» وقرأ حفص عن عاصم: «أسورة» وهو ما يجعل في الذراع من الحلي، وكانت عادة الرجال يومئذ لبس ذلك والتزين به.
* ت *: وذكر بعض المفسرين عن مجاهد أنهم كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوار، وطوقوه بطوق من ذهب؛ علامة لسيادته، فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى على موسى أساورة من ذهب، أو جاء معه الملائكة مقترنين متتابعين، يقارن بعضهم بعضا، يمشون معه شاهدين له، انتهى، وقال * ع *: قوله: { مقترنين }: أي: يحمونه، ويشهدون له، ويقيمون حجته.
* ت *: وما تقدم لغيره أحسن، ولا يشك أن فرعون شاهد من حماية الله لموسى أمورا لم يبق معه شك في أن الله قد منعه منه.
وقوله سبحانه: { ءاسفونا } معناه: أغضبونا بلا خلاف.
وقوله: { فجعلنهم سلفا } «السلف»: الفارط المتقدم، أي: جعلناهم متقدمين في الهلاك؛ ليتعظ بهم من بعدهم إلى يوم القيامة، وقال البخاري: قال قتادة: { ومثلا للأخرين } عظة، انتهى.
[43.57-59]
وقوله سبحانه: { ولما ضرب ابن مريم مثلا... } الآية، روي عن ابن عباس وغيره في تفسيرها؛ أنه لما نزلت:
إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم
[آل عمران:59] الآية، وكون عيسى من غير فحل قالت قريش: ما يريد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى، فهذا كان صدودهم.
وقوله تعالى: { وقالوا ءالهتنا خير أم... } هذا ابتداء معنى ثان، وذلك أنه لما نزل:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء:98] الآية، قال [ابن] الزبعرى ونظراؤه: يا محمد، أآلهتنا خير أم عيسى؟ فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى؛ إذ هو خير منها، وإذ قد عبد، فهو من الحصب إذن، فقال الله تعالى: { ما ضربوه لك إلا جدلا } ومغالطة، ونسوا أن عيسى لم يعبد برضا منه، وقالت فرقة: المراد ب { هو } محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول قتادة، وفي مصحف [أبي]: «خير أم هذا» فالإشارة إلى نبينا محمد عليه السلام ، وقال ابن زيد وغيره: المراد ب { هو } عيسى، وهذا هو الراجح، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم أهل خصام ولدد، وأخبر عن عيسى بقوله: { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } أي: بالنبوة والمنزلة العالية.
* ت *: وروينا في «جامع الترمذي» عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية: { ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى.
وقوله: { وجعلنه مثلا } أي: عبرة وآية { لبني إسرائيل } والمعنى: لا تستغربوا أن يخلق عيسى من غير فحل؛ فإن القدرة تقتضي ذلك، وأكثر منه.
[43.60-62]
وقوله: { ولو نشاء لجعلنا منكم } معناه: لجعلنا بدلا منكم، أي: لو شاء الله لجعل بدلا من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض، ويخلفون بني آدم فيها، وقال ابن عباس ومجاهد: يخلف بعضهم بعضا، والضمير في قوله: { وإنه لعلم } قال ابن عباس وغيره: الإشارة به إلى عيسى، وقالت فرقة: إلى محمد، وقال قتادة وغيره: إلى القرآن.
* ت *: وكذا نقل أبو حيان هذه الأقوال الثلاثة، ولو قيل: إنه ضمير الأمر والشأن؛ استعظاما واستهوالا لأمر الآخرة ما بعد، بل هو المتبادر إلى الذهن، يدل عليه: { فلا تمترن بها } ، والله أعلم،، وقرأ ابن عباس، وجماعة: «لعلم» بفتح العين واللام ، أي: أمارة، وقرأ عكرمة: «للعلم» بلامين الأولى مفتوحة، وقرأ أبي: «لذكر للساعة» فمن قال: إن الإشارة إلى عيسى حسن مع تأويله «علم» و«علم»، أي: هو إشعار بالساعة، وشرط من أشراطها، يعني: خروجه في آخر الزمان، وكذلك من قال: الإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: هو آخر الأنبياء، وقد قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» يعني السبابة والوسطى، ومن قال: الإشارة إلى القرآن حسن قوله مع قراءة الجمهور، أي: يعلمكم بها وبأهوالها.
وقوله: { هذا صرط مستقيم }: إشارة [إلى] الشرع.
[43.63-65]
وقوله تعالى: { ولما جاء عيسى بالبينت } يعني: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك، وباقي الآية تكرر معناه.
وقوله: { هذا صرط مستقيم } حكاية عن عيسى عليه السلام ، إذ أشار إلى شرعه.
[43.66-67]
وقوله سبحانه: { هل ينظرون } يعني: قريشا، والمعنى: ينتظرون و { بغتة } معناه: فجأة، ثم وصف سبحانه بعض حال القيامة، فقال: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو } ، وذلك لهول مطلعها والخوف المطيف بالناس فيها؛ يتعادى ويتباغض كل خليل كان في الدنيا على غير تقى؛ لأنه يرى أن الضرر دخل عليه من قبل خليله، وأما المتقون فيرون أن النفع دخل من بعضهم على بعض، هذا معنى كلام علي رضي الله عنه وخرج البزار عن ابن عباس قال:
" قيل: يا رسول الله، أي جلسائنا خير؟ قال: من ذكركم بالله رؤيته، وزادكم في علمكم منطقه، وذكركم بالله عمله "
اه، فمن مثل هؤلاء تصلح الأخوة الحقيقية، والله المستعان، ومن كلام الشيخ أبي مدين رضي الله عنه : دليل تخليطك صحبتك للمخلطين، ودليل انقطاعك صحبتك للمنقطعين، وقال ابن عطاء الله في «التنوير»: قل ما تصفو لك الطاعات، أو تسلم من المخالفات، مع الدخول في الأسباب، لاستلزامها لمعاشرة الأضداد؛ ومخالطة أهل الغفلة والبعاد، وأكثر ما يعينك على الطاعات رؤية المطيعين، وأكثر ما يدخلك في الذنب رؤية المذنبين، كما قال عليه السلام :
" المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل "
والنفس من شأنها التشبه والمحاكاة بصفات من قارنها، فصحبة الغافلين معينة لها على وجود الغفلة، انتهى،، وفي «الحكم الفارقية»: من ناسب شيئا انجذب إليه؛ وظهر وصفه عليه، وفي «سماع العتبية» قال مالك: لا تصحب فاجرا؛ لئلا تتعلم من فجوره، قال ابن رشد: لا ينبغي أن يصحب إلا من يقتدى به في دينه وخيره؛ لأن قرين السوء يردي؛ قال الحكيم: [الطويل]
[إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
انتهى.
* ت *: وحديث:
" المرء على دين خليله "
أخرجه أبو داود، وأبو بكر بن الخطيب وغيرهما، وفي «الموطإ» من حديث معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى:
" وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتباذلين في والمتزاورين في "
قال أبو عمر: إسناده صحيح عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ، وقد رواه جماعة عن معاذ، ثم أسند أبو عمر من طريق أبي مسلم الخولاني، عن معاذ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله "
، قال أبو مسلم: فخرجت فلقيت عبادة بن الصامت، فذكرت له حديث معاذ، فقال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه: قال:
" حقت محبتي على المتحابين في، وحقت محبتي على المتزاورين في، وحقت محبتي على المتباذلين في،، والمتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله "
انتهى من «التمهيد».
[43.68-73]
وقوله تعالى: { يعباد } المعنى: يقال لهم، أي: للمتقين، وذكر الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال: سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادي مناد: يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم، ولا أنتم تحزنون، فيرجوها الناس كلهم، فيتبعها: { الذين ءامنوا بئايتنا وكانوا مسلمين } قال: فييئس منها جميع الكفار.
وقوله: { الذين ءامنوا } نعت للعباد، و { تحبرون } معناه: تنعمون وتسرون، و«الحبرة»: السرور، و«الأكواب»: ضرب من الأواني؛ كالأباريق، إلا أنها لا آذان لها ولا مقابض.
[43.74-77]
وقوله تعالى: { إن المجرمين } يعني: الكفار، و«المبلس»: المبعد اليائس من الخير؛ قاله قتادة وغيره، وقولهم: { ليقض علينا ربك } أي: ليمتنا ربك؛ فنستريح، فالقضاء في هذه الآية: الموت؛ كما في قوله تعالى:
فوكزه موسى فقضى عليه
[القصص:15] وروي في تفسير هذه الآية عن ابن عباس؛ أن مالكا يقيم بعد سؤالهم ألف سنة، ثم حينئذ يقول لهم: { إنكم مكثون }.
[43.78-83]
وقوله سبحانه: { لقد جئنكم } يحتمل أن يكون من تمام قول مالك لهم، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى لقريش، فيكون فيه تخويف فصيح بمعنى: انظروا كيف يكون حالكم؟!.
وقوله تعالى: { أم أبرموا أمرا } أي: أحكموا أمرا في المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم { فإنا مبرمون } أي: محكمون أمرا في نصره ومجازاتهم، والمراد ب«الرسل» هنا: الحفظة من الملائكة يكتبون أعمال العباد، وتعد للجزاء يوم القيامة.
«واختلف في قوله تعالى: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العبدين } فقال مجاهد: المعنى إن كان لله ولد في قولكم، فأنا أول من عبد الله ووحده وكذبكم، وقال ابن زيد وغيره : «إن»: نافية بمعنى «ما»؛ فكأنه قال: قل ما كان للرحمن ولد، وهنا هو الوقف على هذا التأويل، ثم يبتدىء قوله: { فأنا أول العبدين } قال أبو حاتم قالت فرقة: العابدون في الآية: من عبد الرجل: إذا أنف وأنكر، والمعنى: إن كان للرحمن ولد في قولكم، فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك، وقرأ أبو عبد الرحمن: «فأنا أول العبدين» قال أبو حاتم: العبد بكسر الباء : الشديد الغضب، وقال أبو عبيدة: معناه: أول الجاحدين، والعرب تقول: عبدني حقي، أي: جحدني، وباقي الآية تنزيه لله سبحانه، ووعيد للكافرين، و { يومهم الذى يوعدون } هو يوم القيامة، هذا قول الجمهور، وقال عكرمة وغيره: هو يوم بدر.
[43.84-87]
وقوله جلت عظمته: { وهو الذى فى السماء إله... } الآية، آية تعظيم وإخبار بألوهيته سبحانه، أي: هو النافذ أمره في كل شيء، وقرأ عمر بن الخطاب، وأبي، وابن مسعود، وغيرهم: «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله» وباقي الآية بين، ثم [أعلم سبحانه] أن من عبد من دون الله لا يملك شفاعة يوم القيامة، إلا من شهد بالحق، وهم الملائكة، وعيسى وعزير؛ فإنهم يملكون الشفاعة؛ بأن يملكها الله إياهم؛ إذ هم ممن شهد بالحق، وهم يعلمونه، فالاستثناء على هذا التأويل متصل، وهو تأويل قتادة، وقال مجاهد وغيره: الاستثناء في المشفوع فيهم، فكأنه قال: لا يشفع هؤلاء الملائكة، وعيسى، وعزير إلا فيمن شهد بالحق، أي: بالتوحيد فآمن على علم وبصيرة، فالاستثناء على هذا التأويل منفصل، كأنه قال: لكن من شهد بالحق؛ فيشفع فيهم هؤلاء، والتأويل الأول أصوب، وقرأ الجمهور: «وقيله» بالنصب، وهو مصدر؛ كالقول، والضمير فيه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واختلف في الناصب له، فقالت فرقة: هو معطوف على قوله: { سرهم ونجوهم } ولفظ البخاري { وقيله يرب }: تفسيره: أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم [و] لا نسمع قيله يا رب، انتهى،، وقيل: العامل فيه { يكتبون } ونزل قوله تعالى: { وقيله يرب } بمنزلة شكوى محمد عليه السلام واستغاثته من كفرهم وعتوهم، وقرأ حمزة وعاصم: «وقيله» بالخفض؛ عطفا على الساعة.
وقوله سبحانه: { فاصفح عنهم }: موادعة منسوخة { وقل سلم } تقديره: أمري سلام، أي: مسالمة { فسوف يعلمون }.
[44 - سورة الدخان]
[44.1-3]
{ حم * والكتب المبين * إنا أنزلنه فى ليلة مبركة... } الآية، قوله: { والكتب المبين } قسم أقسم الله تعالى به، وقوله: { إنا أنزلنه } يحتمل أن يقع القسم عليه، ويحتمل أن يكون وصفا للكتاب، ويكون الذي وقع القسم عليه { إنا كنا منذرين } ، واختلف في تعيين الليلة المباركة، فقال قتادة، والحسن، وابن زيد: هي ليلة القدر، ومعنى هذا النزول أن ابتداء نزوله كان في ليلة القدر؛ وهذا قول الجمهور،، وقال عكرمة: الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان، قال القرطبي: والصحيح أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ليلة القدر من شهر رمضان، وهي الليلة المباركة، انتهى من «التذكرة»، ونحوه لابن العربي.
[44.4-17]
وقوله تعالى: { فيها يفرق كل أمر حكيم } معناه يفصل من غيره ويتخلص، فعن عكرمة أن الله تعالى يفصل ذلك للملائكة في ليلة النصف من شعبان، وفي بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له، ولقد خرج اسمه في الموتى "
وقال قتادة، والحسن، ومجاهد: يفصل في ليلة القدر كل ما في العام المقبل، من الأقدار، والأرزاق، والآجال، وغير ذلك، و { أمرا } نصب على المصدر.
وقوله: { إنا كنا مرسلين } يحتمل أن يريد الرسل والأشياء، ويحتمل أن يريد الرحمة التي ذكر بعد، واختلف الناس في «الدخان» الذي أمر الله تعالى بارتقابه، فقالت فرقة؛ منها علي، وابن عباس، وابن عمر، والحسن بن أبي الحسن، وأبو سعيد الخدري: هو دخان يجيء قبل يوم القيامة، يصيب المؤمن منه مثل الزكام، وينضح رؤوس المنافقين والكافرين، حتى تكون كأنها مصلية حنيذة، وقالت فرقة، منها ابن مسعود: هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف، فكان الرجل يرى من الجوع دخانا بينه وبين السماء؛ وما يأتي من الآيات يؤيد هذا التأويل، وقولهم: { إنا مؤمنون } كان ذلك منهم من غير حقيقة، ثم قال تعالى: { أنى لهم الذكرى } أي: من أين لهم التذكر والاتعاظ بعد حلول العذاب؟ { وقد جاءهم رسول مبين } يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم ف { تولوا عنه } ، أي: أعرضوا { وقالوا معلم مجنون }.
وقوله: { إنكم عائدون } أي: إلى الكفر، واختلف في يوم البطشة الكبرى، فقالت فرقة: هو يوم القيامة، وقال ابن مسعود وغيره: هو يوم بدر.
[44.18-24]
وقوله: { أن أدوا } مأخوذ من الأداء، كأنه يقول: أن ادفعوا إلي، وأعطوني، ومكنوني من بني إسرائيل، وإياهم أراد بقوله: { عباد الله } ، وقال ابن عباس: المعنى: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق، فعباد الله على هذا منادى مضاف، والمؤدى هي الطاعة، والظاهر من شرع موسى عليه السلام أنه بعث إلى دعاء فرعون إلى الإيمان، وأن يرسل بني إسرائيل، فلما أبى أن يؤمن ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل وقوله بعد: { وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون } كالنص في أنه آخر الأمر، إنما يطلب إرسال بني إسرائيل فقط.
وقوله: { وأن لا تعلوا على الله... } الآية: المعنى: كانت رسالته، وقوله: { أن أدوا } { وأن لا تعلوا على الله } أي: على شرع الله، وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو، و { أن ترجمون } معناه: الرجم بالحجارة المؤدي إلى القتل؛ قاله قتادة وغيره، وقيل: أراد الرجم بالقول، والأول أظهر؛ لأنه الذي عاذ منه، ولم يعذ من الآخر.
* قلت *: وعن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن أتى إليكم بمعروف فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه "
، رواه أبو داود، والنسائي والحاكم، وابن حبان في «صحيحيهما»، واللفظ للنسائي، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين يعني البخاري ومسلما اه من «السلاح».
وقوله: { فاعتزلون } متاركة صريحة، قال قتادة: أراد خلوا سبيلي.
وقوله: { فدعا ربه } قبله محذوف، تقديره: فما أجابوه لما طلب منهم.
وقوله: { فأسر } قبله محذوف، أي: قال الله له فأسر بعبادي، قال ابن العربي في «أحكامه»: السرى: سير الليل، و«الإدلاج» سير السحر، و«التأويب»: سير النهار، ويقال: سرى وأسرى انتهى.
انتهى، واختلف في قوله تعالى: { واترك البحر رهوا } متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة: هو كلام متصل بما قبله، وقال قتادة وغيره: خوطب به بعد ما جاز البحر، وذلك أنه هم أن يضرب البحر؛ ليلتئم؛ خشية أن يدخل فرعون وجنوده وراءه، و { رهوا } معناه: ساكنا كما جزته، قاله ابن عباس، وهذا القول هو الذي تؤيده اللغة؛ ومنه قول القطامي: [البسيط]
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة
ولا الصدور على الأعجاز تتكل
ومنه: [البسيط]
وأمة خرجت رهوا إلى عيد
..........................
أي: خرجوا في سكون وتمهل.
فقيل لموسى عليه السلام : اترك البحر ساكنا على حاله من الانفراق؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
[44.25-36]
وقوله تعالى: { كم تركوا } «كم» للتكثير، أي: كم ترك هؤلاء المغترون من كثرة الجنات والعيون، فروي أن الجنات كانت متصلة ضفتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان، وأما العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان، فشبهها بالعيون، ويحتمل أنها كانت ونضبت، ذكر الطرطوشي في «سراج الملوك» له، قال: قال أبو عبد الله بن حمدون: كنت مع المتوكل لما خرج إلى دمشق، فركب يوما إلى رصافة هشام بن عبد الملك، فنظر إلى قصورها، ثم خرج، فنظر إلى دير هناك قديم حسن البناء بين مزارع وأشجار، فدخله، فبينما هو يطوف به إذ بصر برقعة قد ألصقت في صدره؛ فأمر بقلعها، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات: [الطويل]
أيا منزلا بالدير أصبح خاليا
تلاعب فيه شمأل ودبور
كأنك لم يسكنك بيض أوانس
ولم تتبختر في قبابك حور
وأبناء أملاك غواشم سادة
صغيرهمو عند الأنام كبير
إذا لبسوا أدراعهم فعوابس
وإن لبسوا تيجانهم فبدور
على أنهم يوم اللقاء ضراغم
وأنهمو يوم النوال بحور
ليالي هشام بالرصافة قاطن
وفيك ابنه يا دير وهو أمير
إذ العيش غض والخلافة لذة
وأنت طروب والزمان غرير
وروضك مرتاد ونورك مزهر
وعيش بني مروان فيك نضير
بلى فسقاك الغيث صوب سحائب
عليك لها بعد الرواح بكور
تذكرت قومي فيكما فبكيتهم
بشجو ومثلي بالبكاء جدير
فعزيت نفسي وهي نفس إذا جرى
لها ذكر قومي أنة وزفير
لعل زمانا جار يوما عليهمو
لهم بالذي تهوى النفوس يدور
فيفرح محزون وينعم بائس
ويطلق من ضيق الوثاق أسير
رويدك إن الدهر يتبعه غد
وإن صروف الدائرات تدور
فلما قرأها المتوكل، ارتاع، ثم دعا صاحب الدير، فسأله عمن كتبها، فقال: لا علم لي به، وانصرف، انتهى، وفي هذا وشبهه عبرة لأولي البصائر المستيقظين،، اللهم، لا تجعلنا ممن اغتر بزخارف هذه الدار!!.
[من الطويل]
ألا إنما الدنيا كأحلام نائم
وما خير عيش لا يكون بدائم
وقرأ جمهور الناس: «ومقام» بفتح الميم ؛ قال ابن عباس وغيره: أراد المنابر.
وعلى قراءة ضم الميم قال قتادة: أراد: المواضع الحسان من المساكن وغيرها، والقول بالمنابر بعيد جدا، و«النعمة» بفتح النون : غضارة العيش ولذاذة الحياة، «والنعمة» بكسر النون : أعم من هذا كله، وقد تكون الأمراض والمصائب نعما، ولا يقال فيها: «نعمة» بالفتح ، وقرأ الجمهور: «فاكهين» ومعناه: فرحين مسرورين { كذلك وأورثنها قوما ءاخرين } أي: بعد القبط، وقال قتادة: هم بنو إسرائيل، وفيه ضعف، وقد ذكر الثعلبي عن الحسن؛ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: { فما بكت عليهم السماء والأرض } ، فقال ابن عباس وغيره: وذلك أن الرجل المؤمن إذا مات، بكى عليه من الأرض موضع عباداته أربعين صباحا، وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله، قالوا: ولم يكن في قوم فرعون من هذه حاله، فتبكي عليهم السماء والأرض، قال * ع *: والمعنى الجيد في الآية: أنها استعارة فصيحة تتضمن تحقير أمرهم، وأنه لم يتغير لأجل هلاكهم شيء، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا ينتطح فيها عنزان "
، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه، إلا بكت عليه السماء والأرض، ثم قرأ هذه الآية، وقال: إنهما لا يبكيان على كافر "
قال الداوودي. وعن مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض، وقال: أفي هذا عجب؟! وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود، وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل؟! انتهى.
وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا الأوزاعي قال: حدثني عطاء الخراساني، قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض، إلا شهدت له يوم القيامة، وبكت عليه يوم يموت، انتهى، وروى ابن المبارك أيضا عن أبي عبيد صاحب سليمان «أن العبد المؤمن إذا مات تنادت بقاع الأرض: عبد الله المؤمن مات قال: فتبكي عليه السماء والأرض، فيقول الرحمن تبارك وتعالى: ما يبكيكما على عبدي؟ فيقولان: يا ربنا، لم يمش على ناحية منا قط إلا وهو يذكرك» اه.
و { منظرين } أي: مؤخرين { العذاب المهين }: هو ذبح الأبناء، والتسخير، وغير ذلك.
وقوله: { على علم } أي: على شيء قد سبق عندنا فيهم، وثبت في علمنا أنه سينفذ، ويحتمل أن يكون معناه: على علم لهم وفضائل فيهم على العالمين، أي: عالمي زمانهم؛ بدليل أن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس { وءاتينهم من الأيت }: لفظ جامع لما أجرى الله من الآيات على يدي موسى، ولما أنعم به على بني إسرائيل، والبلاء في هذا الموضع: الاختبار والامتحان؛ كما قال تعالى:
ونبلوكم بالشر والخير فتنة
[الأنبياء:35]، و { مبين } بمعنى: بين ثم ذكر تعالى قريشا على جهة الإنكار لقولهم وإنكارهم للبعث، فقال: { إن هؤلاء ليقولون * إن هى } أي: ما هي { إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين } أي: بمبعوثين، وقول قريش: { فأتوا بئابائنا } مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم طلبوا منه أن يحيي الله لهم بعض آبائهم، وسموا له قصيا وغيره، كي يسألوهم عما رأوا في آخرتهم.
[44.37-42]
وقوله سبحانه: { أهم خير أم قوم تبع... } الآية، آية تقرير ووعيد، و { تبع }: ملك حميري، وكان يقال لكل ملك منهم: «تبع» إلا أن المشار إليه في هذه الآية رجل صالح؛ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق سهل بن سعد «أن تبعا هذا أسلم وآمن بالله»، وقد ذكره ابن إسحاق في السيرة، قال السهيلي: وبعد ما غزا تبع المدينة، وأراد خرابها أخبر بأنها مهاجر نبي اسمه أحمد، فانصرف عنها، وقال فيه شعرا وأودعه عند أهلها، فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر، إلى أن هاجر إليهم النبي عليه السلام فأدوه إليه، ويقال: إن الكتاب والشعر [كانا] عند أبي أيوب الأنصاري [ومنه]: [من المتقارب]
شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
لكنت وزيرا له وابن عم
وذكر الزجاج، وابن أبي الدنيا: أنه حفر قبر ب«صنعاء» في الإسلام، فوجد فيه امرأتان صحيحتان، وعند رأسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حبى ولميس، ويروى: وتماضر ابنتي تبع، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله، ولا تشركان به شيئا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما، انتهى، و { يوم الفصل }: هو يوم القيامة وهذا هو الإخبار بالبعث، و«المولى» في هذه الآية: يعم جميع الموالي.
[44.43-49]
وقوله سبحانه: { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم } روي عن ابن زيد؛ أن الأثيم المشار إليه أبو جهل، ثم هي بالمعنى تتناول كل أثيم، وهو كل فاجر، روي أنها لما نزلت، جمع أبو جهل عجوة وزبدا، وقال لأصحابه: تزقموا، فهذا هو الزقوم، وهو طعامي الذي حدث به محمد، قال * ع *: وإنما قصد بذلك ضربا من المغالطة والتلبيس على الجهلة.
وقوله سبحانه: { كالمهل } قال ابن عباس، وابن عمر: «المهل»: دردي الزيت وعكره، وقال ابن مسعود وغيره: «المهل»: ما ذاب من ذهب أو فضة، والمعنى: أن هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنم، صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل المذاب من الإحراق والإفساد،، و { الحميم }: الماء السخن الذي يتطاير من غليانه.
وقوله: { خذوه... } الآية، أي: يقال يومئذ للملائكة: خذوه، يعني الأثيم { فاعتلوه } و«العتل»: السوق بعنف وإهانة، ودفع قوي متصل، كما يساق أبدا مرتكب الجرائم، و«السواء»: الوسط، وقيل: المعظم، وذلك متلازم.
وقوله تعالى: { ذق إنك أنت العزيز الكريم } مخاطبة على معنى التقريع.
[44.50-54]
وقوله سبحانه: { إن هذا ما كنتم به تمترون }: عبارة عن قول يقال للكفرة، ثم ذكر تعالى حالة المتقين، فقال: { إن المتقين فى مقام أمين } أي: مأمون، «والسندس»: رقيق الحرير، و«الإستبرق»: خشنه.
وقوله: { متقبلين }: وصف لمجالس أهل الجنة، لأن بعضهم لا يستدبر بعضا في المجالس، وقرأ الجمهور: { وزوجنهم بحور عين } وقرأ ابن مسعود: «بعيس عين» وهو جمع «عيساء»، وهي البيضاء؛ وكذلك هي من النوق، وروى أبو قرصافة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين "
قال الثعلبي: قال مجاهد: يحار فيهن الطرف من بياضهن وصفاء لونهن، يرى مخ سوقهن من وراء ثيابهن، ويرى الناظر وجهه في كعب إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون، انتهى.
[44.55-59]
وقوله سبحانه: { يدعون فيها بكل فكهة } أي: يدعون الخدمة والمتصرفين.
قال أبو حيان: { إلا الموتة }: استثناء منقطع، أي: لكن الموتة الأولى ذاقوها، انتهى،، والضمير في { يسرنه } عائد على القرآن { بلسانك } أي: بلغة العرب؛ قال الواحدي: { لعلهم يتذكرون }: أي: يتعظون، انتهى، وفي قوله تعالى: { فارتقب إنهم مرتقبون } وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكافرين.
[45 - سورة الجاثية]
[45.1-8]
قوله عز وجل: { حم * تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم * إن فى السموات والأرض لأيت للمؤمنين } قال أبو حيان: أجاز الفخر الرازي في { العزيز الحكيم } أن يكونا صفتين ل«الله»، وهو الراجح، أو ل«الكتاب»؛ ورد بأنه لا يجوز أن يكونا صفتين للكتاب من وجوه، انتهى.
وذكر تبارك وتعالى هنا الآيات التي في السموات والأرض مجملة غير مفصلة، فكأنها إحالة على غوامض تثيرها الفكر، ويخبر بكثير منها الشرع؛ فلذلك جعلها للمؤمنين، ثم ذكر سبحانه خلق البشر والحيوان، وكأنه أغمض؛ فجعله للموقنين الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين، ثم ذكر اختلاف الليل والنهار، والعبرة بالمطر والرياح، فجعل ذلك لقوم يعقلون؛ إذ كل عاقل يحصل هذه ويفهم قدرها.
قال * ع *: وإن كان هذا النظر ليس بلازم ولا بد، فإن اللفظ يعطيه، والرزق المنزل من السماء هو: الماء، وسماه الله سبحانه رزقا بمآله، لأن جميع ما يرتزق، فعن الماء هو.
وقوله: { نتلوها عليك بالحق } أي: بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها.
وقال جلت عظمته: { فبأى حديث بعد الله وءايته يؤمنون } آية تقريع وتوبيخ، وفيها قوة تهديد، والأفاك: الكذاب الذي يقع منه الإفك مرارا، والأثيم: بناء مبالغة، اسم فاعل من أثم يأثم، وروي أن سبب الآية أبو جهل، وقيل: النضر بن الحارث، والصواب أنها عامة فيهما وفي غيرهما، وأنها تعم كل من دخل تحت الأوصاف المذكورة إلى يوم القيامة و { يصر } معناه: يثبت على عقيدته من الكفر.
وقوله: { فبشره بعذاب أليم } أي: مؤلم.
[45.9-10]
وقوله تعالى: { وإذا علم من ءايتنا شيئا } أي: أخبر بشيء من آياتنا، فعلم نفس الخبر لا المعنى الذي تضمنه الخبر، ولو علم المعاني التي تضمنها أخبار الشرع، وعرف حقائقها لكان مؤمنا.
* ت *: وفي هذا نظر؛ لأنه ينحو إلى القول بأن الكفر لا يتصور عنادا محضا، وقد تقدم اختياره رحمه الله لذلك في غير هذا المحل، فقف عليه، وخشية الإطالة منعتني من تكراره هنا.
[45.11-13]
وقوله سبحانه: { هذا هدى } إشارة إلى القرآن.
وقوله: { لهم عذاب } بمنزلة قولك: لهم حظ، فمن هذه الجهة ومن جهة تغاير اللفظين حسن قوله: { عذاب من رجز } ، إذ الرجز هو العذاب.
وقوله: { لتجرى الفلك فيه بأمره } أقام القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر والناس بذلك، وقرأ مسلمة بن محارب: «جميعا منه» بضم التاء، وقرأ أيضا: «جميعا منه» [بفتح الميم وشد النون والهاء] وقرأ ابن عباس: «منة» بالنصب على المصدر.
وقوله تعالى: { إن فى ذلك لآيت لقوم يتفكرون } قال الغزالي في «الإحياء»: الفكر والذكر أعلى مقامات الصالحين، وقال رحمه الله : اعلم أن الناظرين بأنوار البصيرة علموا أن لا نجاة إلا في لقاء الله عز وجل، وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محبا لله تعالى، وعارفا به، وأن المحبة والأنس لا يتحصلان إلا بدوام ذكر المحبوب، وأن المعرفة لا تحصل إلا بدوام الفكر، ولن يتيسر دوام الذكر والفكر إلا بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقدر البلغة والضرورة،، ثم قال: والقرآن جامع لفضل الذكر والفكر والدعاء مهما كان بتدبر، انتهى.
[45.14-17]
وقوله تعالى: { قل للذين ءامنوا يغفروا... } الآية، قال أكثر الناس: هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وقالت فرقة: بل هي محكمة؛ قال * ع *: الآية تتضمن الغفران عموما، فينبغي أن يقال: إن الأمور العظام، كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك قد نسخت غفرانه، آية السيف والجزية، وما أحكمه الشرع لا محالة، وأن الأمور الحقيرة كالجفاء في القول ونحو ذلك تحتمل أن تبقى محكمة، وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى.
وقوله { أيام الله } قالت فرقة: معناه: أيام إنعامه، ونصره، وتنعيمه في الجنة، وغير ذلك، وقال مجاهد: { أيام الله }: أيام نقمه وعذابه، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم... } الآية، قد تقدم بيان نظيرها في سورة يونس وغيرها.
[45.18-20]
وقوله سبحانه: { ثم جعلنك على شريعة من الأمر... } الآية: «الشريعة» لغة: مورد المياه، وهي في الدين من ذلك؛ لأن الناس يردون الدين ابتغاء رحمة الله والتقرب منه، و«الأمر» واحد الأمور، ويحتمل أن يكون واحد الأوامر، و { الذين لا يعلمون } هم: الكفار، وفي قوله تعالى: { وإن الظلمين بعضهم أولياء بعض والله ولى المتقين } تحقير للكفرة من حيث خروجهم عن ولاية الله تعالى.
* ت *: وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم أحد:
" أجيبوهم فقولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم "
، وذلك أن قريشا قالوا للصحابة: لنا العزى، ولا عزى لكم.
وقوله عز وجل: { هذا بصئر للناس } يريد: القرآن، وهو جمع «بصيرة»، وهو المعتقد الوثيق في الشيء، كأنه من إبصار القلب؛ قال أبو حيان: قرىء: «هذه» أي: هذه الآيات، انتهى.
[45.21-22]
وقوله سبحانه: { أم حسب الذين اجترحوا السيئت } قيل: إن الآية نزلت بسبب افتخار كان للكفار على المؤمنين، قالوا: لئن كانت آخرة، كما تزعمون، لنفضلن عليكم فيها، كما فضلنا في الدنيا.
و { اجترحوا } معناه: اكتسبوا، وهذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال أهل التقوى، وهي موقف للعارفين يبكون عنده، وروي عن الربيع بن خيثم، أنه كان يرددها ليلة حتى أصبح، وكذلك عن الفضيل بن عياض، وكان يقول لنفسه: ليت شعري! من أي الفريقين أنت؟ وقال الثعلبي: كانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين، قال * ع *: وأما لفظها فيعطى أنه اجتراح الكفر، بدليل معادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بين الاجتراح وعمل الصالحات، ويكون الإيمان في الفريقين، ولهذا بكى الخائفون رضي الله عنهم .
* ت *: وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده؛ أن تميما الداري رضي الله عنه بات ليلة إلى الصباح، يركع ويسجد، ويردد هذه الآية: { أم حسب الذين اجترحوا السيئت } الآية، ويبكي رضي الله عنه ، انتهى.
وقوله: { ساء ما يحكمون }: «ما» مصدرية، والتقدير: ساء الحكم حكمهم.
[45.23-24]
وقوله سبحانه: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه... } الآية: تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي: لا تهتم بأمر الكفرة من أجل إعراضهم عن الإيمان، وقوله: { إلهه هواه } إشارة إلى الأصنام؛ إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة، وقال قتادة: المعنى: لا يهوى شيئا إلا ركبه، لا يخاف الله؛ فهذا كما يقال: الهوى إله معبود، وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر؛ فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله "
، وقال سهل التستري: هواك داؤك؛ فإن خالفته فدواؤك،، وقال وهب: إذا عرض لك أمران، وشككت في خيرهما، فانظر أبعدهما من هواك فأته؛ ومن الحكمة في هذا قول القائل: [الطويل]
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى
إلى كل ما فيه عليك مقال
قال الشيخ ابن أبي جمرة: قوله صلى الله عليه وسلم:
" فيقال: من كان يعبد شيئا فليتبعه "
«شيئا» يعم جميع الأشياء، مدركة كانت أو غير مدركة، فالمدرك: كالشمس والقمر، وغير المدرك، مثل: الملائكة والهوى؛ لقوله عز وجل: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } ، وما أشبه ذلك، انتهى،، قال القشيري في «رسالته»: وحكي عن أبي عمران الواسطي قال: انكسرت بنا السفينة، فبقيت أنا وامرأتي على لوح، وقد ولدت في تلك الحال صبية، فصاحت بي، وقالت: يقتلني العطش، فقلت: هو ذا يرى حالنا، فرفعت رأسي، فإذا رجل في الهواء جالس في يده سلسلة من ذهب، وفيها كوز من ياقوت أحمر، فقال: هاك، اشربا، قال: فأخذت الكوز فشربنا منه، فإذا هو أطيب من المسك، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، فقلت: من أنت رحمك الله؟ فقال: عبد لمولاك، فقلت له: بم وصلت إلى هذا؟ فقال: تركت هواي لمرضاته، فأجلسني في الهواء، ثم غاب عني، ولم أره، انتهى.
وقوله تعالى: { على علم } قال ابن عباس: المعنى: على علم من الله تعالى سابق، وقالت فرقة: أي: على علم من هذا الضال بتركه للحق وإعراضه عنه، فتكون الآية على هذا التأويل من آيات العناد؛ من نحو قوله:
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
[النمل:14].
وقوله تعالى: { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشوة } استعارات كلها.
وقوله: { من بعد الله } فيه حذف مضاف، تقديره: من بعد إضلال الله إياه، واختلف في معنى قولهم: { نموت ونحيا } فقالت فرقة: المعنى: يموت الآباء، ويحيا الأبناء، وقالت فرقة: المعنى: نحيا ونموت، فوقع في اللفظ تقديم وتأخير، وقولهم: { وما يهلكنا إلا الدهر } أي: طول الزمان.
[45.25-29]
وقوله سبحانه: { وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينات } يعني: قريشا، { ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بئابائنا } أي: يا محمد، أحي لنا قصيا حتى نسأله، إلى غير ذلك من هذا النحو، فنزلت الآية في ذلك، ومعنى { إن كنتم صدقين } أي: في قولكم أنا نبعث بعد الموت.
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم بالحال السابقة في علم الله التي لا تبدل بأنه يحيي الخلق ثم يميتهم.... إلى آخر الآية،، وباقي الآية بين.
و { المبطلون }: الداخلون في الباطل.
وقوله سبحانه: { وترى كل أمة جاثية } هذا وصف حال القيامة وهولها، والأمة: الجماعة العظيمة من الناس، وقال مجاهد: الأمة: الواحد من الناس؛ قال * ع *: وهذا قلق في اللغة، وإن قيل في إبراهيم «أمة» وفي قس بن ساعدة، فذلك تجوز على جهة التشريف والتشبيه، و { جاثية } معناه: على الركب؛ قاله مجاهد وغيره، وهي هيئة المذنب الخائف، وقال سليمان: في القيامة ساعة قدر عشر سنين، يخر الجميع فيها جثاة على الركب.
وقوله: { كل أمة تدعى إلى كتبها } قالت فرقة: معناه: إلى كتابها المنزل عليها، فتحالكم إليه، هل وافقته أو خالفته؟ وقالت فرقة: أراد إلى كتابها الذي كتبته الحفظة على كل واحد من الأمة.
وقوله سبحانه: { هذا كتبنا } يحتمل أن تكون الإشارة إلى الكتب المنزلة، أو إلى اللوح المحفوظ أو إلى كتب الحفظة؛ وقال ابن قتيبة: إلى القرآن.
وقوله سبحانه: { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } قال الحسن: هو كتب الحفظة على بني آدم، وروى ابن عباس وغيره حديثا؛ أن الله تعالى يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس، فينقل من الصحف التي كانت ترفع الحفظة كل ما هو معد أن يكون عليه ثواب أو عقاب، ويلغى الباقي؛ فهذا هو النسخ من أصل.
[45.30-33]
وقوله عز وجل: { فأما الذين ءامنوا وعملوا الصلحت فيدخلهم ربهم * فى رحمته } أي: في جنته.
{ وأما الذين كفروا أفلم تكن } أي: فيقال لهم: { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } وقرأ حمزة وحده: «والساعة» بالنصب ؛ عطفا على قوله: { وعد الله } ، وقرأ ابن مسعود: «وأن الساعة لا ريب فيها»، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { وبدا لهم سيئت ما عملوا... } الآية، حكاية حال يوم القيامة { وحاق } معناه: نزل وأحاط، وهي مستعملة في المكروه، وفي قوله: { ما كانوا } حذف مضاف، تقديره: جزاء ما كانوا به يستهزئون.
[45.34-37]
وقوله عز وجل: { وقيل اليوم ننساكم } معناه: نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا، و { آيات الله } هنا: لفظ جامع لآيات القرآن وللأدلة التي نصبها الله تعالى، للنظر، { ولا هم يستعتبون } أي: لا يطلب منهم مراجعة إلى عمل صالح.
وقوله سبحانه: { فلله الحمد رب السموات الأرض... } إلى آخر السورة تحميد لله عز وجل، وتحقيق لألوهيته، وفي ذلك كسر لأمر الأصنام وسائر ما تعبده الكفرة، و { الكبرياء }: بناء مبالغة.
[46 - سورة الأحقاف]
[46.1-5]
وقوله سبحانه: { حم * تنزيل الكتب } يعني: القرآن.
وقوله سبحانه: { ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون }: هذه الآية موعظة، وزجر، المعنى: فانتبهوا أيها الناس، وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم، «والأجل المسمى»: هو يوم القيامة.
وقوله: { قل أرأيتم ما تدعون } [معناه:] ما تعبدون، ثم وقفهم على السموات؛ هل لهم فيها شرك، ثم استدعى منهم كتابا منزلا قبل القرآن يتضمن عبادة الأصنام، قال ابن العربي في «أحكامه»: هذه الآية من أشرف آية في القرآن؛ فإنها استوفت الدلالة على الشرائع عقليها وسمعيها؛ لقوله عز وجل : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك فى السموات } فهذا بيان لأدلة العقل المتعلقة بالتوحيد، وحدوث العالم، وانفراد الباري تعالى بالقدرة والعلم والوجود والخلق، ثم قال: { ائتونى بكتب من قبل هذا }: على ما تقولون، وهذا بيان لأدلة السمع؛ فإن مدرك الحق إنما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع، حسبما بيناه من مراتب الأدلة في كتب الأصول، ثم قال: { أو أثرة من علم } يعني: أو علم يؤثر، أي: يروى وينقل، وإن لم يكن مكتوبا، انتهى.
وقوله: { أو أثرة } معناه: أو بقية قديمة من علم أحد العلماء، تقتضي عبادة الأصنام، و«الأثارة» البقية من الشيء، وقال الحسن: المعنى: من علم تستخرجونه فتثيرونه، وقال مجاهد: المعنى: هل من أحد يأثر علما في ذلك، وقال القرطبي: هو الإسناد؛ ومنه قول الأعشى: من [السريع]
إن الذي فيه تماريتما
بين للسامع والآثر
أي: وللمسند عن غيره، وقال ابن عباس: الأثارة: الخط في التراب، وذلك شيء كانت العرب تفعله، والضمير في قوله: { وهم عن دعائهم غفلون } هو للأصنام في قول جماعة، ويحتمل أن يكون لعبدتها.
[46.6-9]
وقوله سبحانه: { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء } وصف ما يكون يوم القيامة بين الكفار وأصنامهم من التبري والمناكرة، وقد بين ذلك في غير هذه الآية.
{ وإذا تتلى عليهم ءايتنا } أي: آيات القرآن، { قال الذين كفروا للحق } يعني: القرآن { هذا سحر مبين } أي: يفرق بين المرء وبنيه.
وقوله سبحانه: { قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا } المعنى: إن افتريته، فالله حسبي في ذلك، وهو كان يعاقبني ولا يمهلني، ثم رجع القول إلى الاستسلام إلى الله، والاستنصار به عليهم، وانتظار ما يقتضيه علمه بما يفيضون فيه من الباطل ومرادة الحق، وذلك يقتضي معاقبتهم؛ ففي اللفظ تهديد، والضمير في { به } عائد على الله عز وجل.
وقوله سبحانه: { وهو الغفور الرحيم } ترجية واستدعاء إلى التوبة، ثم أمره عز وجل أن يحتج عليهم بأنه لم يكن بدعا من الرسل، والبدع والبديع من الأشياء ما لم ير مثله، المعنى: قد جاء قبلي غيري؛ قاله ابن عباس وغيره.
* ت *: ولفظ البخاري: وقال ابن عباس: { بدعا من الرسل } أي: لست بأول الرسل، واختلف الناس في قوله: { وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم } فقال ابن عباس وجماعة: كان هذا في صدر الإسلام، ثم بعد ذلك عرفه الله عز وجل بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير، وهو الجنة، وبأن الكافرين في نار جهنم؛ والحديث الصحيح الذي وقع في جنازة عثمان بن مظعون يؤيد هذا، وقالت فرقة: معنى الآية: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي، وقيل غير هذا.
وقوله: { إن أتبع إلا ما يوحى إلى } معناه: الاستسلام والتبري من علم المغيبات، والوقوف مع النذارة من عذاب الله عز وجل.
[46.10-14]
وقوله عز وجل: { قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسرءيل... } الآية، جواب هذا التوقيف محذوف، تقديره: أليس قد ظلمتم؟! ودل على هذا المقدر قوله تعالى: { إن الله لا يهدى القوم الظلمين } قال مجاهد وغيره: هذه الآية مدنية، والشاهد عبد الله بن سلام، وقد قال عبد الله بن سلام: في نزلت، وقال مسروق بن الأجدع والجمهور: الشاهد موسى بن عمران عليه السلام ، والآية مكية، ورجحه الطبري.
وقوله: { على مثله } يريد بالمثل التوراة، والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن، أي: جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله أنه من عند الله سبحانه.
وقوله: { فئامن } ، على هذا التأويل، يعني به تصديق موسى وتبشيره بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: { ومن قبله } أي: من قبل القرآن { كتاب موسى } يعني: التوراة { وهذا كتب } يعني القرآن { مصدق } للتوراة التي تضمنت خبره، وفي مصحف ابن مسعود: «مصدق لما بين يديه» و { الذين ظلموا } هم: الكفار ، وعبر عن المؤمنين بالمحسنين؛ ليناسب لفظ «الإحسان» في مقابلة «الظلم».
ثم أخبر تعالى عن حسن [حال] المستقيمين، وذهب كثير من الناس إلى أن المعنى: ثم استقاموا بالطاعات والأعمال الصالحات، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعنى: ثم استقاموا بالدوام على الإيمان؛ قال * ع *: وهذا أعم رجاء وأوسع، وإن كان في الجملة المؤمنة من يعذب وينفذ عليه الوعيد، فهو ممن يخلد في الجنة، وينتفي عنه الخوف والحزن الحال بالكفرة.
وقوله تعالى: { جزاء بما كانوا يعملون } قد جعل الله سبحانه الأعمال أمارات على ما سيصير إليه العبد، لا أنها توجب على الله شيئا.
[46.15-16]
وقوله سبحانه: { ووصينا الإنسن } يريد: النوع، أي: هكذا مضت شرائعي وكتبي، فهي وصية من الله في عباده، وبر الوالدين واجب، وعقوقهما كبيرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله، ودعوة الوالدين "
قال * ع *: ولن يدعوا في الغالب إلا إذا ظلمهما الولد، فهذا يدخل في عموم قوله عليه السلام :
" اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب "
ثم عدد سبحانه على الأبناء منن الأمهات.
وقوله تعالى: { حملته أمه كرها } قال مجاهد، والحسن، وقتادة: حملته مشقة، ووضعته مشقة، قال أبو حيان: { وحمله } على حذف مضاف، أي: مدة حمله، انتهى.
وقوله: { ثلاثون شهرا } يقتضى أن مدة الحمل والرضاع هي هذه المدة، وفي البقرة:
والولدت يرضعن أولدهن حولين كاملين
[البقرة:233] فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر، وإكمال الحولين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة، وهذا في أمد الحمل، هو مذهب مالك وجماعة من الصحابة، وأقوى الأقوال في بلوغ الأشد ستة وثلاثون سنة، قال * ع *: وإنما ذكر تعالى الأربعين؛ لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته، وفي الحديث:
" إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب، فيقول: بأبي، وجه لا يفلح ".
* ت *: وحدث أبو بكر ابن الخطيب في «تاريخ بغداد» بسنده المتصل عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا بلغ العبد أربعين سنة، أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون، والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة خفف الله عنه الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة لما يحب، فإذا بلغ سبعين سنة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وناداه مناد من السماء: هذا أسير الله في أرضه "
انتهى، وهذا والله أعلم في العبد المقبل على آخرته، المشتغل بطاعة ربه.
وقوله: { رب أوزعنى } معناه: ادفع عني الموانع، وأجرني من القواطع؛ لأجل أن أشكر نعمتك، ويحتمل أن يكون { أوزعنى } بمعنى: اجعل حظي ونصيبي، وهذا من التوزيع.
* ت *: وقال الثعلبي وغيره { أوزعنى }: معناه: ألهمني، وعبارة الفخر: قال ابن عباس { أوزعنى }: معناه: ألهمني، قال صاحب «الصحاح» استوزعت الله فأوزعني، أي: استلهمته فألهمني، انتهى، قال ابن عباس { نعمتك }: في التوحيد و { صلحا ترضه }: الصلوات، والإصلاح في الذرية: كونهم أهل طاعة وخير، وهذه الآية معناها: أن هكذا ينبغي للإنسان أن يكون، فهي وصية الله تعالى للإنسان في كل الشرائع، وقول من قال: إنها في أبي بكر وأبويه ضعيف؛ لأن هذه الآية نزلت بمكة بلا خلاف، وأبو قحافة أسلم عام الفتح، وفي قوله تعالى: { أولئك الذين نتقبل عنهم... } الآية: دليل على أن الإشارة بقوله: { ووصينا الإنسن } إنما أراد به الجنس.
وقوله: { فى أصحب الجنة } يريد: الذين سبقت لهم رحمة الله، قال أبو حيان { فى أصحب الجنة } قيل: { فى } على بابها، أي: في جملتهم؛ كما تقول: أكرمني الأمير في ناس، أي: في جملة من أكرم، وقيل: { فى } بمعنى مع، انتهى.
[46.17-19]
وقوله تعالى: { والذى قال لولديه } قال الثعلبي: معناه: إذ دعواه إلى الإيمان، { أف لكما... } الآية، انتهى، و { الذى } يعنى به الجنس على حد العموم في التي قبلها في قوله: { ووصينا الإنسن }؛ هذا قول الحسن وجماعة، ويشبه أن لها سببا من رجل قال ذلك لأبويه، فلما فرغ من ذكر الموفق، عقب بذكر هذا العاق، وقد أنكرت عائشة أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، وقالت: ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي.
* ت *: ولا يعترض عليها بقوله تعالى:
ثاني اثنين
[التوبة:40] ولا بقوله:
ولا يأتل أولوا الفضل
[النور:22] كما بينا ذلك في غير هذه الآية، قال * ع *: والأصوب أن تكون الآية عامة في أهل هذه الصفات، والدليل القاطع على ذلك: قوله تعالى: { أولئك الذين حق عليهم القول فى أمم } وكان عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه من أفاضل الصحابة، ومن أبطال المسلمين، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره، و { أف } بالتنوين قراءة نافع وغيره، والتنوين في ذلك علامة تنكير؛ كما تستطعم رجلا حديثا غير معين فتقول: «إيه» منونة، وإن كان حديثا مشارا إليه قلت: «إيه» بغير تنوين.
وقوله: { أتعداننى أن أخرج } المعنى: أن أخرج من القبر إلى الحشر، وهذا منه استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد. { وقد خلت القرون من قبلى } معناه: هلكت ومضت، ولم يخرج منهم أحد، { وهما يستغيثان الله } يعني: الوالدين يقولان له: { ويلك ءامن }.
وقوله: { ما هذا إلا أسطير الأولين } أي: ما هذا القول الذي يتضمن البعث من القبور إلا شيء سطره الأولون في كتبهم، يعني: الشرائع، وظاهر ألفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه، قال: وقيل له، فنعى الله إلينا أقواله؛ تحذيرا من الوقوع في مثلها.
وقوله: { أولئك } ظاهره أنها إشارة إلى جنس، و { حق عليهم القول } أي: قول الله: إنه يعذبهم؛ قال أبو حيان { فى أمم } أي: في جملة أمم ف«في» على بابها، وقيل: { فى } بمعنى مع، وقد تقدم ذلك، انتهى.
وقوله: { قد خلت من قبلهم من الجن والإنس } يقتضى أن الجن يموتون، وهكذا فهم الآية قتادة، وقد جاء حديث يقتضى ذلك.
وقوله سبحانه: { ولكل درجت } يعني: المحسنين والمسيئين، قال ابن زيد: ودرجات المحسنين تذهب علوا، ودرجات المسيئين تذهب سفلا، وباقي الآية بين في أن كل امرىء يجتني ثمرة عمله من خير أو شر، ولا يظلم في مجازاته.
[46.20-22]
وقوله عز وجل: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار... } الآية، المعنى: واذكر يوم يعرض، وهذا العرض هو بالمباشرة { أذهبتم } أي: يقال لهم: { أذهبتم طيبتكم فى حيتكم الدنيا } و«الطيبات» هنا: الملاذ، وهذه الآية، وإن كانت في الكفار، فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمال الطيبات؛ ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه : أتظنون أنا لا نعرف طيب الطعام؟ ذلك لباب البر بصغار المعزى، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم أنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، ذكر هذا في كلامه مع الربيع بن زياد، وقال أيضا نحو هذا لخالد بن الوليد حين دخل الشام، فقدم إليه طعام طيب، فقال عمر: هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير؟ فقال خالد: لهم الجنة، فبكى عمر، وقال: لئن كان حظنا في الحطام، وذهبوا بالجنة فقد بانوا بونا بعيدا، وقال جابر بن عبد الله: اشتريت لحما بدرهم، فرآني عمر، فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئا اشتراه فأكله؟! أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية، وتلا: { أذهبتم طيبتكم فى حيتكم الدنيا } * ت *: والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا، فمنها ما رواه أبو داود في سننه، عن عبد الله بن بريدة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رحل إلى فضالة بن عبيد، وهو بمصر، فقدم عليه، فقال: أما إني لم آتك زائرا ولكن سمعت أنا وأنت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجوت أن يكون عندك منه علم، قال: ما هو؟ قال: كذا وكذا، قال: فمالي أراك شعثا وأنت أمير الأرض؟! قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ينهى عن كثير من الإرفاه، قال: فمالي لا أرى عليك حذاء؟ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرنا أن نحتفي أحيانا، وروى أبو داود عن أبي أمامة قال:
" ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يوما عنده الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تسمعون أن البذاذة من الإيمان؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان» "
قال أبو داود: يعني: التقحل ، وفسر أبو عمر بن عبد البر: «البذاذة» برث الهيئة، ذكر ذلك في «التمهيد»، وكذلك فسرها غيره، انتهى،، وروى ابن المبارك في «رقائقه» من طريق الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج في أصحابه إلى بقيع الغرقد، فقال:
" السلام عليكم يا أهل القبور، لو تعلمون ما نجاكم الله منه مما هو كائن بعدكم! ثم أقبل على أصحابه، فقال: هؤلاء خير منكم؛ قالوا: يا رسول الله، إخواننا، أسلمنا كما أسلموا، وهاجرنا كما هاجروا، وجاهدنا كما جاهدوا، وأتوا على آجالهم فمضوا فيها وبقينا في آجالنا، فما يجعلهم خيرا منا؟! قال: هؤلاء خرجوا من الدنيا لم يأكلوا من أجورهم شيئا، وخرجوا وأنا الشهيد عليهم، وإنكم قد أكلتم من أجوركم، ولا أدري ما تحدثون من بعدي؟ قال: فلما سمعها القوم عقلوها وانتفعوا بها، وقالوا: إنا لمحاسبون بما أصبنا من الدنيا، وإنه لمنتقص به من أجورنا "
انتهى، ومنها حديث ثوبان في «سنن أبي داود»: قال ثوبان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليها فاطمة، فقدم من غزاة، وقد علقت مسحا أو سترا على بابها، وحلت الحسن والحسين قلبين من فضة، فلم يدخل، فظنت أنما منعه أن يدخل ما رأى؛ فهتكت الستر، وفكت القلبين عن الصبيين وقطعتهما عنهما، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكيان، فأخذهما منهما، وقال: يا ثوبان، اذهب بهما إلى آل فلان؛ إن هؤلاء أهلي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان، اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج» انتهى، * ص *: قرأ الجمهور: «أذهبتم» على الخبر، أي: فيقال لهم: أذهبتم طيباتكم، وابن كثير بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن عامر بهمزتين حققهما ابن ذكوان، ولين الثانية هشام وابن كثير في رواية، والاستفهام هنا على معنى التوبيخ والتقرير، فهو خبر في المعنى، ولهذا حسنت الفاء في قوله: { فاليوم } ، ولو كان استفهاما محضا لما دخلت الفاء، انتهى، و { عذاب الهون } هو الذي اقترن به هوان، فالهون والهوان بمعنى.
ثم أمر تعالى نبيه بذكر هود وقومه عاد؛ على جهة المثال لقريش، وقد تقدم قصص عاد مستوفى في «سورة الأعراف»، فلينظر هناك، والصحيح من الأقوال أن بلاد عاد كانت باليمن، ولهم كانت إرم ذات العماد، و { بالأحقاف }: جمع «حقف» وهو الجبل المستطيل المعوج من الرمل.
وقوله سبحانه: { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } { خلت } معناه: مضت إلى الأرض الخلاء، و { النذر } جمع نذير، وقولهم: { لتأفكنا } معناه: لتصرفنا، وقولهم: { فأتنا بما تعدنا } تصميم منهم على التكذيب، وتعجيز له في زعمهم.
[46.23-26]
وقوله سبحانه: { قال إنما العلم عند الله... } الآية، المعنى: قال لهم هود: إن هذا الوعيد ليس من قبلي، وإنما الأمر فيه إلى الله، وعلم وقته عنده، وإنما علي أن أبلغ فقط، والضمير في { رأوه } يحتمل أن يعود على العذاب، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم، وهو الذي فسره قوله: { عارضا } و«العارض»: هو ما يعرض في الجو من السحاب الممطر؛ قال ابن العربي في «أحكامه» عند تفسيره قوله تعالى:
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمنكم
[البقرة:224]: كل شيء عرض، فقد منع، ويقال لما عرض في السماء من السحاب: «عارض»؛ لأنه منع من رؤيتها ومن رؤية البدر والكواكب، انتهى، وروي في معنى قوله: { مستقبل أوديتهم }؛ أن هؤلاء القوم كانوا قد قحطوا مدة، فطلع هذا العارض من جهة كانوا يمطرون بها أبدا، جاءهم من قبل واد لهم يسمونه المغيث، قال ابن عباس: ففرحوا به، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، وقد كذب هود فيما أوعد به، فقال لهم هود عليه السلام : ليس الأمر كما رأيتم، بل هو ما استعجلتم به في قولكم:
فأتنا بما تعدنا
[الأحقاف:22] ثم قال: { ريح فيها عذاب أليم } وفي قراءة ابن مسعود: «ممطرنا قال هود: بل هو ريح» بإظهار المقدر و { تدمر } معناه: تهلك، و«والدمار»: الهلاك، وقوله: { كل شىء } ظاهره العموم، ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره، وروي أن هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر .
ثم خاطب جل وعلا قريشا على جهة الموعظة بقوله: { ولقد مكنهم فيما إن مكنكم فيه } ف«ما» بمعنى «الذي»، و«إن» نافية وقعت مكان «ما» لمختلف اللفظ، ومعنى الآية: ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم، ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب؛ فأنتم أحرى بذلك؛ إذا تماديتم في كفركم، وقالت فرقة: «إن» شرطية، والجواب محذوف، تقديره: في الذي إن مكناكم فيه طغيتم، وهذا تنطع في التأويل، و«ما» نافية في قوله: { فما أغنى عنهم }؛ ويقوي ذلك دخول «من» في قوله: { من شىء } ، وقالت فرقة: بل هي استفهام؛ على جهة التقرير؛ و { من شىء } على هذا تأكيد؛ وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول «من» في الجواب.
[46.27-28]
وقوله عز وجل: { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى... } الآية، مخاطبة لقريش على جهة التمثيل { وصرفنا الايت } يعني: لهذه القرى.
وقوله سبحانه: { فلولا نصرهم... } الآية، يعني: فهلا نصرتهم أصنامهم، «بل ضلوا عنهم» أي: انتلفوا عنهم وقت الحاجة { وذلك إفكهم } إشارة إلى قولهم في الأصنام: إنها آلهة.
وقوله: { وما كانوا يفترون } يحتمل أن تكون «ما» مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد، ويحتمل أن تكون بمعنى «الذي» فهناك عائد محذوف، تقديره: يفترونه.
[46.29-33]
وقوله تعالى: { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن... } ابتداء، ابتداء وصف قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفت الرواة هنا: هل هذا الجن هم الوفد أو المتجسسون؟ واختلفت الروايات أيضا عن ابن مسعود وغيره في هذا الباب.
والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه نفر من الجن دون أن يشعر بهم، وهم المتجسسون المتفرقون من أجل رجم الشهب الذي حل بهم، وهؤلاء هم المراد بقوله تعالى:
قل أوحى إلى...
[الجن:1] ثم بعد ذلك وفد عليه وفدهم؛ حسبما ورد في ذلك من الآثار.
وقوله: { نفرا } يقتضي أن المصروفين كانوا رجالا لا أنثى فيهم، والنفر والرهط هم: القوم الذين لا أنثى فيهم.
وقوله تعالى: { فلما حضروه قالوا أنصتوا } فيه تأدب مع العلم، وتعليم كيف يتعلم { فلما قضى } أي: فرغ من تلاوة القرآن واستماع الجن، قال جابر بن عبد الله وغيره: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأعليهم سورة «الرحمن» فكان إذا قال:
فبأي آلاء ربكما تكذبان
[الرحمن:13] قالوا: لا بشيء من آلائك نكذب، ربنا لك الحمد، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن، وقولهم: { إنا سمعنا كتبا } يعنون: القرآن.
* ت *: وقولهم: { من بعد موسى } يحتمل أنهم لم يعلموا بعيسى؛ قاله ابن عباس، أو أنهم على دين اليهود، قاله عطاء؛ نقل هذا الثعلبي، ويحتمل ما تقدم ذكره في غير هذا، وأنهم ذكروا المتفق عليه، انتهى.
{ مصدقا لما بين يديه } وهي التوراة والإنجيل، وداعي الله هو محمد صلى الله عليه وسلم { وآمنوا به } أي: بالله { يغفر لكم من ذنوبكم... } الآية.
* ت *: وذكر الثعلبي خلافا في مؤمني الجن، هل يثابون على الطاعة ويدخلون الجنة، أو يجارون من النار فقط؟ الله أعلم بذلك، قال الفخر: والصحيح أنهم في حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى؛ قال الضحاك: يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، انتهى، وقد تقدم ما نقلناه عن البخاري في سورة الأنعام؛ أنهم يثابون.
وقوله سبحانه: { ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز... } الآية: يحتمل أن يكون من تمام كلام المنذرين، ويحتمل أن يكون من كلام الله عز وجل، و«المعجز»: الذاهب في الأرض الذي يعجز طالبه؛ فلا يقدر عليه.
وقوله سبحانه: { أولم يروا } الضمير لقريش؛ وذلك أنهم أنكروا البعث وعود الأجساد، وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السموات والأرض، فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم * ص *: قال أبو حيان: والباء في قوله: { بقادر } زائدة،، انتهى.
[46.34-35]
وقوله تعالى: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } المعنى: واذكر يوم، وهذا وعيد لكفار قريش وغيرهم، وهذا عرض مباشرة.
وقوله: { أليس هذا بالحق } أي: يقال لهم: أليس هذا بالحق؟ { قالوا بلى وربنا } فصدقوا بذلك حيث لا ينفعهم التصديق، فروي عن الحسن؛ أنه قال: إنهم ليعذبون في النار، وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل.
واختلف في تعيين أولى العزم من الرسل، ولا محالة أن لكل نبي ورسول عزما وصبرا.
وقوله: { ولا تستعجل لهم } معناه: ولا تستعجل لهم عذابا؛ فإنهم إليه صائرون، ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة؛ فإنهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة لاحتقارهم ذلك؛ لأن المنقضي من الزمان يصير عدما.
* ت *: وإذا علمت أيها الأخ أن الدنيا أضغاث أحلام، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد، وحفظ الحواس، ومراعاة الأنفاس، ومراقبة مولاك، فآتخذه صاحبا، وذر الناس جانبا؛ قال أبو حامد الغزالي رحمه الله : اعلم أن صاحبك الذي لا تفارقه في حضرك وسفرك، ونومك ويقظتك، بل في حياتك، وموتك هو ربك، ومولاك، وسيدك، وخالقك، ومهما ذكرته فهو جليسك؛ إذ قال تعالى:
" أنا جليس من ذكرني "
، ومهما انكسر قلبك حزنا على تقصيرك في حق دينك، فهو صاحبك وملازمك؛ إذ قال: «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» فلو عرفته يا أخي حق معرفته لاتخذته صاحبا، وتركت الناس جانبا، فإن لم تقدر على ذلك في جميع أوقاتك، فإياك أن تخلي ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه بمولاك، وتلذذ بمناجاته، وعند ذلك فعليك بآداب الصحبة مع الله تعالى، وآدابها: إطراق الطرف، وجمع الهم، ودوام الصمت، وسكون الجوارح، ومبادرة الأمر، واجتناب النهي، وقلة الاعتراض على القدر، ودوام الذكر باللسان، وملازمة الفكر، وإيثار الحق، واليأس من الخلق، والخضوع تحت الهيبة، والانكسار تحت الحياء، والسكون عن حيل الكسب ثقة بالضمان، والتوكل على فضل الله معرفة بحسن اختياره؛ وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك، في جميع ليلك ونهارك، فإنه آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك، والخلق كلهم يفارقونك في بعض أوقاتك،، انتهى من «بداية الهداية».
وقوله: { بلاغ } يحتمل معاني:
أحدها: أن يكون خبر مبتدإ محذوف، أي: هذا إنذار وتبليغ.
ويحتمل أن يريد: كأن لم يلبثوا إلا ساعة كانت بلاغهم، وهذا كما تقول: متاع قليل، وقيل غير هذا، وقرأ أبو مجلز وغيره: { بلغ } على الأمر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: { بلاغ } بالخفض نعتا ل { نهار }.
وقوله سبحانه: { فهل يهلك إلا القوم الفسقون } وقرىء شاذا: { فهل يهلك } ببناء الفعل للفاعل، وفي هذه الآية وعيد محض، وإنذار بين؛ وذلك أن الله عز وجل جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وغفر الصغائر باجتناب الكبائر، ووعد الغفران على التوبة، فلن يهلك على الله إلا هالك؛ كما قال صلى الله عليه وسلم قال الثعلبي: يقال: إن قوله تعالى: { فهل يهلك إلا القوم الفسقون } أرجى آية في كتاب الله عز وجل للمؤمنين.
[47 - سورة محمد]
[47.1-3]
قوله عز وجل: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعملهم } { الذين كفروا }: إشارة إلى أهل مكة الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { والذين ءامنوا وعملوا الصلحات... } الآية: إشارة إلى الأنصار الذين آووا، ونصروا، وفي الطائفتين نزلت الآيتان؛ قاله ابن عباس ومجاهد، ثم هي بعد تعم كل من دخل تحت ألفاظها.
وقوله: { أضل أعملهم } أي: أتلفها، ولم يجعل لها نفعا.
* ت *: وقد ذكرنا في سورة «الصف» أن اسم محمد صلى الله عليه وسلم لم يتسم به أحد قبله إلا قوم قليلون، رجاء أن تكون النبوة في أبنائهم، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، قال ابن القطان: وعن خليفة والد أبي سويد قال: سألت محمد بن عدي بن أبي ربيعة: كيف سماك أبوك محمدا؟ قال: سألت أبي عما سألتني عنه، فقال لي: كنت رابع أربعة من بني غنم أنا فيهم، وسفيان بن مجاشع بن جرير، وأمامة بن هند بن خندف. ويزيد بن ربيعة، فخرجنا في سفرة نريد ابن جفنة ملك غسان، فلما شارفنا الشام، نزلنا على غدير فيه شجرات، وقربه شخص نائم، فتحدثنا فاستمع كلامنا، فأشرف علينا، فقال: إن هذه لغة، ما هي لغة هذه البلاد، فقلنا: نحن قوم من مضر، فقال: من أي المضريين؟ قلنا: من خندف، قال: إنه يبعث فيكم خاتم النبيين، فسارعوا إليه، وخذوا بحظكم منه ترشدوا، قلنا: ما اسمه؟ قال: محمد، فرجعنا، فولد لكل واحد منا ابن سماه محمدا، وذكره المدائني، انتهى.
وقوله تعالى في المؤمنين: { وأصلح بالهم } قال قتادة: معناه: حالهم، وقال ابن عباس: شأنهم.
وتحرير التفسير في اللفظة أنها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان، وهو القلب، فإذا صلح ذلك منه، فقد صلح حاله، فكأن اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم، وغير ذلك من الحال تابع، فقولك: خطر في بالي كذا، وقولك: أصلح الله بالك: المراد بهما واحد؛ ذكره المبرد،، والبال: مصدر كالحال والشأن، ولا يستعمل منه فعل، وكذلك عرفه لا يثنى ولا يجمع، وقد جاء مجموعا شاذا في قولهم: «بالات».
و { البطل } هنا: الشيطان، وكل ما يأمر به؛ قاله مجاهد، و { الحق } هنا: الشرع ومحمد عليه السلام .
وقوله: { كذلك يضرب الله }: الإشارة إلى الأتباع المذكورين من الفريقين.
[47.4-9]
وقوله سبحانه: { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب... } الآية: قال أكثر العلماء: إن هذه الآية وآية السيف، وهي قوله تعالى:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
[التوبة:5] محكمتان، فقوله هنا: { فضرب الرقاب } بمثابة قوله هنالك: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ، وصرح هنا بذكر المن والفداء، ولم يصرح به هنالك، فهذه مبينة لتلك، وهذا هو القول القوي، وقوله: { فضرب الرقاب } مصدر بمعنى الفعل، أي: فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره، والمراد: اقتلوهم بأي وجه أمكن؛ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا "
وفي «صحيح البخاري» عنه صلى الله عليه وسلم قال:
" ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله؛ فتمسه النار "
انتهى.
والإثخان في القوم أن يكثر فيهم القتلى والجرحى، ومعنى: { فشدوا الوثاق } أي: بمن لم يقتل، ولم يترتب فيه إلا الأسر، ومنا وفداء: مصدران منصوبان بفعلين مضمرين.
وقوله: { حتى تضع الحرب أوزارها } معناه: حتى تذهب الحرب وتزول أثقالها، والأوزار: الأثقال؛ ومنه قول عمرو بن معد يكرب: [من المتقارب]
وأعددت للحرب أوزارها
رماحا طوالا وخيلا ذكورا
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحرب أوزارها، فقال قتادة: حتى يسلم الجميع، وقال حذاق أهل النظر: حتى تغلبوهم وتقتلوهم، وقال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم، قال * ع*: وظاهر اللفظ أنه استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا؛ وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا وكذا إلى يوم القيامة، وإنما تريد أنك تفعله دائما.
{ ولو يشاء الله لانتصر منهم } أي: بعذاب من عنده، ولكن أراد سبحانه اختبار المؤمنين، وأن يبلو بعض الناس ببعض، وقرأ الجمهور: { قاتلوا } وقرأ عاصم بخلاف عنه: { قتلوا } بفتح القاف والتاء ، وقرأ أبو عمرو وحفص: { قتلوا } بضم القاف وكسر التاء ، قال قتادة: نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين.
وقوله سبحانه: { سيهديهم } أي: إلى طريق الجنة.
* ت *: ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ أن ميسرة الخادم قال: غزونا في بعض الغزوات، فإذا فتى إلى جانبي، وإذا هو مقنع بالحديد، فحمل على الميمنة، فثناها، ثم على الميسرة حتى ثناها، وحمل على القلب حتى ثناه، ثم أنشأ يقول[الرجز]
أحسن بمولاك سعيد ظنا
هذا الذي كنت له تمنى
تنح يا حور الجنان عنا
مالك قاتلنا ولا قتلنا
لكن إلى سيدكن اشتقنا
قد علم السر وما أعلنا
قال: فحمل، فقاتل، فقتل منهم عددا، ثم رجع إلى مصافه، فتكالب عليه العدو، فإذا هو رضي الله تعالى عنه قد حمل على الناس، وأنشأ يقول: [الرجز]
قد كنت أرجو ورجائي لم يخب
ألا يضيع اليوم كدي والطلب
يا من ملا تلك القصور باللعب
لولاك ما طابت ولا طاب الطرب
ثم حمل رضي الله عنه فقاتل، فقتل منهم عددا، ثم رجع إلى مصافه، فتكالب عليه العدو فحمل رضي الله عنه في المرة الثالثة، وأنشأ يقول: [الرجز]
يا لعبة الخلد قفي ثم اسمعي
مالك قاتلنا فكفي وارجعي
ثم ارجعي إلى الجنان واسرعي
لا تطمعي لا تطمعي لا تطمعي
فقاتل رضي الله عنه حتى قتل،، انتهى من ابن عباد شارح «الحكم».
وقوله تعالى: { عرفها لهم } قال أبو سعيد الخدري، وقتادة، ومجاهد: معناه: بينها لهم، أي: جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا "
قال القرطبي في «التذكرة»: وعلى هذا القول أكثر المفسرين قال: وقيل: إن هذا التعريف إلى المنازل هو بالدليل، وهو الملك الموكل بعمل العبد، يمشي بين يديه،، انتهى، وقالت فرقة: معناه: سماها لهم، ورسمها كل منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف، وقالت فرقة: معناه شرفها لهم ورفعها وعلاها، وهذا من الأعراف التي هي الجبال، ومنه أعراف الخيل، وقال مؤرج وغيره: معناه: طيبها؛ مأخوذ من العرف، ومنه طعام معرف، أي: مطيب، وعرفت القدر: طيبتها بالملح والتابل، قال أبو حيان: «وأصلح بالهم» البال: الفكر ولا يثنى ولا يجمع، انتهى.
وقوله سبحانه: { إن تنصروا الله } أي: دين الله { ينصركم } بخلق القوة لكم وغير ذلك من المعاون، { ويثبت أقدامكم } أي: في مواطن الحرب، وقيل: على الصراط في القيامة.
وقوله: { فتعسا لهم } معناه: عثارا وهلاكا لهم، وهي لفظة تقال للعاثر، إذا أريد به الشر؛ قال ابن السكيت: التعس: أن يخر على وجهه.
وقوله تعالى: { كرهوا ما أنزل الله } يريد: القرآن { فأحبط أعملهم } قال * ع *: ولا خلاف أن الكافر له حفظة يكتبون سيئاته، واختلف الناس في حسناتهم، فقالت فرقة: هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط، وقالت فرقة: هي محصاة من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أنه قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحد التأويلين في قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام:
" أسلمت على ما سلف لك من خير ".
[47.10-12]
وقوله عز وجل: { أفلم يسيروا فى الأرض }: توقيف لقريش، وتوبيخ و { الذين من قبلهم } يريد: ثمود وقوم شعيب وغيرهم، والدمار: الإفساد، وهدم البناء، وإذهاب العمران، والضمير في قوله: { أمثلها } يصح أن يعود على العاقبة، ويصح أن يعود على الفعلة التي يتضمنها قوله: { دمر الله عليهم }.
وقوله تعالى: { ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا... } الآية، المولى: الناصر الموالي، قال قتادة: نزلت هذه الآية يوم أحد، ومنها انتزع النبي صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال: «قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم».
وقوله سبحانه: { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعم } أي: أكلا مجردا عن الفكر والنظر، وهذا كما تقول: الجاهل يعيش كما تعيش البهيمة، والمعنى: يعيش عديم الفهم والنظر في العواقب.
[47.13-15]
وقوله سبحانه: { وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك } يعني: مكة { التى أخرجتك } معناه: وقت الهجرة، ويقال: إن هذه الآية نزلت إثر خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله... } الآية، توقيف وتقرير، وهي معادلة بين هذين الفريقين، اللفظ عام لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر، و { على بينة } أي: على يقين وطريق واضحة وعقيدة نيرة بينة.
وقوله سبحانه: { مثل الجنة... } الآية، قال النضر بن شميل وغيره { مثل } معناه: صفة؛ كأنه قال: صفة الجنة: ما تسمعون فيها كذا وكذا.
وقوله: { فيها أنهار من ماء غير ءاسن } معناه: غير متغير؛ قاله ابن عباس وقتادة، وسواء أنتن أو لم ينتن.
وقوله في اللبن: { لم يتغير طعمه }: نفي لجميع وجوه الفساد فيه.
وقوله: { لذة للشربين } جمعت طيب الطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره، وتصفية العسل مذهبة لمومه وضرره.
* ت *: وروينا في كتاب الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى.
وقوله: { ولهم فيها من كل الثمرت } أي: من هذه الأنواع لكنها بعيدة الشبه؛ تلك لا عيب فيها ولا تعب.
وقوله: { ومغفرة من ربهم } معناه: وتنعيم أعطته المغفرة وسببته، وإلا فالمغفرة إنما هي قبل دخول الجنة.
وقوله سبحانه: { كمن هو خلد فى النار... } الآية، قبله محذوف، تقديره: أسكان هذه، أو تقديره: أهؤلاء المتقون كمن هو خالد في النار.
[47.16-21]
وقوله سبحانه: { ومنهم من يستمع } يعني بذلك: المنافقين { حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال ءانفا }؛ على جهة الاستخفاف، ومنهم من يقوله جهالة ونسيانا، و { ءانفا } معناه: مبتدئا، كأنه قال: ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه، والمفسرون يقولون: { ءانفا } معناه: الساعة الماضية ، وهذا تفسير بالمعنى.
* ت *: وقال الثعلبي: { ءانفا } أي: الآن، وأصله الابتداء، قال أبو حيان: { ءانفا } بالمد والقصر: اسم فاعل، والمستعمل من فعله: ائتنفت، ومعنى: { ءانفا } مبتدئا، فهو منصوب على الحال، وأعربه الزمخشري ظرفا، أي: الساعة، قال أبو حيان: ولا أعلم أحدا من النحاة عده من الظروف، انتهى، وقال العراقي: { ءانفا } أي: الساعة.
وقوله تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى } أي: زادهم الله هدى، ويحتمل: زادهم استهزاء المنافقين هدى، قال الثعلبي: وقيل: زادهم ما قال النبي صلى الله عليه وسلم هدى؛ قال * ع *: الفاعل في { وأتهم } يتصرف القول فيه بحسب التأويلات المذكورة، وأقواها أن الفاعل الله تعالى، { وأتهم } معناه: أعطاهم، أي: جعلهم متقين.
وقوله تعالى: { فهل ينظرون } يريد: المنافقين، والمعنى: فهل ينتظرون؟ و { بغتة } معناه فجأة.
وقوله: { فقد جاء أشراطها } أي: فينبغي الاستعداد والخوف منها، والذي جاء من أشراط الساعة: محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه آخر الأنبياء، وقال عليه السلام :
" بعثت أنا والساعة كهاتين "
والأحاديث كثيرة في هذا الباب.
وقوله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله... } الآية: إضراب عن أمر هؤلاء المنافقين، وذكر الأهم من الأمر، والمعنى: دم على علمك، وهذا هو القانون في كل من أمر بشيء هو متلبس به، وكل واحد من الأمة داخل في هذا الخطاب، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصا، إلا فتحت له أبواب الجنة، حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر "
، رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي واللفظ له: حديث حسن غريب، انتهى من «السلاح».
وقوله تعالى: { واستغفر لذنبك } أي: لتستن أمتك بسنتك.
* ت *: هذا لفظ الثعلبي، وهو حسن، وقال عياض: قال مكي: مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ههنا هي مخاطبة لأمته، انتهى.
قال * ع *: وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من لم يكن عنده ما يتصدق به، فليستغفر للمؤمنين والمؤمنات "
وبوب البخاري رحمه الله العلم قبل القول والعمل؛ لقوله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله }.
وقوله تعالى: { واستغفر لذنبك... } الآية: وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ فإنها صدقة، وقال الطبري وغيره: { متقلبكم }: متصرفكم في يقظتكم { ومثواكم } منامكم، وقال ابن عباس: { متقلبكم } تصرفكم في حياتكم الدنيا { ومثواكم }: إقامتكم في قبوركم، وفي آخرتكم.
وقوله عز وجل: { ويقول الذين ءامنوا لولا نزلت سورة... } الآية: هذا ابتداء وصف حال المؤمنين؛ على جهة المدح لهم، ووصف حال المنافقين؛ على جهة الذم؛ وذلك أن المؤمنين كان حرصهم على الدين يبعثهم على تمني ظهور الإسلام وتمني قتال العدو، وكانوا يأنسون بالوحي، ويستوحشون إذا أبطأ، وكان المنافقون على العكس من ذلك.
وقوله: { محكمة } معناه: لا يقع فيها نسخ، وأما الإحكام الذي هو الإتقان، فالقرآن كله سواء فيه، والمرض الذي في قلوب المنافقين هو فساد معتقدهم، ونظر الخائف الموله قريب من نظر المغشي عليه، وخسسهم هذا الوصف والتشبيه.
وقوله تعالى: { فأولى لهم * طاعة } «أولى»: وزنها أفعل، من وليك الشيء يليك، والمشهور من استعمال أولى أنك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي: أحق، وقد تستعمل العرب «أولى لك» فقط على جهة الاختصار، لما معها من القول على جهة الزجر والتوعد، فتقول: أولى لك يا فلان، وهذه الآية من هذا الباب؛ ومنه قوله تعالى:
أولى لك فأولى
[القيامة:34] وقالت فرقة: { فأولى } رفع بالابتداء، و { طاعة } خبره، قال * ع *: وهذا هو المشهور من استعمال «أولى»، وقيل غير هذا، قال أبو حيان: قال صاحب «الصحاح»: { أولى لك }: تهديد ووعيد، قال أبو حيان: والأكثر على أنه اسم مشتق من الولي، وهو القرب، وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل، فقلب، فوزنه «أفلع»، انتهى.
{ فإذا عزم الأمر }: ناقضوا وعصوا، قال البخاري: قال مجاهد: { عزم الأمر } جد الأمر. انتهى.
[47.22-24]
وقوله سبحانه: { فهل عسيتم } مخاطبة لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض، والمعنى: فهل عسى أن تفعلوا إن توليتم غير أن تفسدوا في الأرض، وتقطعوا أرحامكم، ومعنى { إن توليتم } أي: إن أعرضتم عن الحق، وقيل المعنى: إن توليتم أمور الناس من الولاية؛ وعلى هذا قيل: إنها نزلت في بني هاشم، وبني أمية ذكره الثعلبي.
* ت *: وهو عندي بعيد لقوله: { أولئك الذين لعنهم الله } فتعين التأويل الأول، والله أعلم.
وفي البخاري عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يدخل الجنة قاطع "
يعني: قاطع رحم، وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه "
اه، وفي «صحيح مسلم» عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله "
وفي رواية:
" لا يدخل الجنة قاطع "
وفي طريق:
" من سره أن يبسط عليه رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه "
وخرجه البخاري من طريق أبي هريرة؛ على ما تقدم، وخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقرؤوا إن شئتم: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا فى الأرض وتقطعوا أرحامكم } "
وفي رواية: قال الله:
" من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته "
انتهى.
وروى أبو داود في «سننه» عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" قال الله عز وجل: أنا الرحمن، وهي الرحم شققت لها من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته ".
انتهى.
وقوله تعالى: { أولئك الذين لعنهم الله } إشارة إلى المرضى القلوب المذكورين.
وقوله: { فأصمهم وأعمى أبصرهم }: استعارة لعدم فهمهم.
وقوله عز من قائل: { أفلا يتدبرون القرءان... } الآية: توقيف وتوبيخ، وتدبر القرآن زعيم بالتبيين والهدى لمتأمله.
* ت *: قال الهروي: قوله تعالى: { أفلا يتدبرون القرءان } معناه: أفلا يتفكرون فيعتبرون؛ يقال: تدبرت الأمر: إذا نظرت في أدباره وعواقبه، انتهى.
وقوله تعالى: { أم على قلوب أقفالها } معناه: بل على قلوب أقفالها، وهو الرين الذي منعهم من الإيمان، وروي أن وفد اليمن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقال الفتى: عليها أقفالها حتى يفتحها الله تعالى ويفرجها، قال عمر: فعظم في عيني، فما زالت في نفس عمر - رضي الله عنه - حتى ولي الخلافة فاستعان بذلك الفتى.
[47.25-29]
وقوله تعالى: { إن الذين ارتدوا على أدبرهم... } الآية: قال قتادة: نزلت في قوم من اليهود، وقال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا، ثم نافقت قلوبهم، والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر، و { سول } معناه: رجاهم سؤلهم وأمانيهم، ونقل أبو الفتح عن بعضهم؛ أنه بمعنى دلاهم مأخوذ من السول، وهو الاسترخاء والتدلي، وقال العراقي { سول } أي: زين سوء الفعل.
وقوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا... } الآية، قيل: إنها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدم ذكرهم الآن، وروي أن قوما من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلاف عليه بنصر ومؤازرة؛ فذلك قولهم: { سنطيعكم فى بعض الأمر } وقرأ الجمهور: «أسرارهم» بفتح الهمزة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص: «إسرارهم» بكسرها .
وقوله سبحانه: { فكيف إذا توفتهم الملئكة } يعني: ملك الموت وأعوانه، والضمير في { يضربون } للملائكة، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال، و { ما * أسخط الله }: هو الكفر، والرضوان: هنا الحق والشرع المؤدي إلى الرضوان.
وقوله سبحانه: { أم حسب الذين فى قلوبهم مرض... } الآية، توبيخ للمنافقين وفضح لسرائرهم، والضغن: الحقد، وقال البخاري: قال ابن عباس: «أضغانهم» حسدهم، انتهى.
[47.30-32]
وقوله سبحانه: { ولو نشاء لأرينكهم... } الآية، لم يعينهم سبحانه بالأسماء والتعريف التام؛ إبقاء عليهم وعلى قراباتهم، وإن كانوا قد عرفوا بلحن القول، وكانوا في الاشتهار على مراتب كابن أبي وغيره، والسيما: العلامة، وقال ابن عباس والضحاك: إن الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة بقوله:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا
[التوبة:84] وفي قوله:
فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقتلوا معى عدوا
[التوبة:83] قال * ع *: وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام، ثم أخبر تعالى أنه سيعرفهم في لحن القول، أي: في مذهب القول ومنحاه ومقصده، واحتج بهذه الآية من جعل الحد في التعريض بالقذف.
* ص *: قال أبو حيان: «ولتعرفنهم» اللام جواب قسم محذوف، انتهى.
وقوله سبحانه: { والله يعلم أعملكم } مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر.
وقوله سبحانه: { ولنبلونكم حتى نعلم المجهدين منكم والصبرين... } الآية، كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا.
وقوله سبحانه: { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول... } الآية، قالت فرقة: نزلت في بني إسرائيل، وقالت فرقة: نزلت في قوم من المنافقين، وهذا نحو ما تقدم، وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين في سفرة بدر، وقالت فرقة: بل هي عامة في كل كافر.
وقوله: { لن يضروا الله شيئا } تحقير لهم.
[47.33-35]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعملكم } روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب، وذلك أنهم أسلموا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن آثرناك على كل شيء، وجئناك بأنفسنا وأهلينا، كأنهم يمنون بذلك، فنزل فيهم: { يمنون عليك أن أسلموا... } الآية، ونزلت فيهم هذه الآية وظاهر الآية العموم.
وقوله سبحانه: { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار... } الآية،
" روي أنها نزلت بسبب أن عدي بن حاتم قال: يا رسول الله، إن حاتما كانت له أفعال بر فما حاله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو في النار فبكى عدي، وولى فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار» "
ونزلت هذه الآية في ذلك، وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة.
وقوله سبحانه: { فلا تهنوا } معناه: لا تضعفوا { وتدعوا إلى السلم } أي: إلى المسالمة، وقال قتادة: معنى الآية: لا تكونوا أولى الطائفتين ضرعت للأخرى: قال * ع * وهذا حسن ملتئم مع قوله تعالى:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها
[الأنفال:61].
{ وأنتم الأعلون }: في موضع الحال، المعنى: فلا تهنوا وأنتم في هذه الحال، ويحتمل أن يكون إخبارا بمغيب أبرزه الوجود بعد ذلك، والأعلون: معناه الغالبون والظاهرون من العلو.
وقوله: { والله معكم } معناه: بنصره ومعونته ويتر معناه: ينقص ويذهب، والمعنى: لن يتركم ثواب أعمالكم.
[47.36-38]
وقوله سبحانه: { إنما الحيوة الدنيا لعب ولهو } تحقير لأمر الدنيا.
وقوله: { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } معناه: هذا هو المطلوب منكم، لا غيره؛ لا تسألون أموالكم، ثم قال سبحانه منبها على خلق ابن آدم: { إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا } والإحفاء هو أشد السؤال، وهو الذي يستخرج ما عند المسؤول كرها.
* ت *: وقال الثعلبي:«فيحفكم» أي: يجهدكم ويلحف عليكم.
وقوله: «تبخلوا» جزما على جواب الشرط «ويخرج أضغانكم» أي: يخرج الله أضغانكم، وقرأ يعقوب: «ونخرج» بالنون، والأضغان: معتقدات السوء، وهو الذي كان يخاف أن يعتري المسلمين، ثم وقف الله تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم بقوله: { هأنتم هؤلاء } وكرر «هاء» التنبيه؛ تأكيدا.
وقوله تعالى: { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } أي: بالثواب { والله الغنى } أي: عن صدقاتكم { وأنتم الفقراء } إلى ثوابها.
* ت *: هذا لفظ الثعلبي، قال * ع *: يقال: بخلت عليك بكذا، وبخلت عنك بمعنى أمسكت عنك، وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" السخي قريب من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. غريب، انتهى.
وقوله سبحانه: { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } قالت فرقة: هذا الخطاب لجميع المسلمين والمشركين والعرب حينئذ، والقوم الغير هم فارس، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال:
" قوم هذا؛ لو كان الدين في الثريا لناله رجال من أهل فارس ".
وقوله سبحانه: { ثم لا يكونوا أمثالكم } معناه: في الخلاف والتولى والبخل بالأموال ونحو هذا، وحكى الثعلبي قولا أن القوم الغير هم الملائكة.
* ت *: وليس لأحد مع الحديث: إذا صح نظر، ولولا الحديث لاحتمل أن يكون الغير ما يأتي من الخلف بعد ذهاب السلف، على ما ذكر في غير هذا الموضع.
[48 - سورة الفتح]
[48.1-4]
قوله عز وجل: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا... } الآية، قال قوم: يريد فتح مكة، وقال جمهور الناس، وهو الصحيح الذي تعضده قصة الحديبية: إن قوله: { إنا فتحنا لك } إنما معناه هو ما يسر الله عز وجل لنبيه في تلك الخرجة من الفتح البين الذي استقبله، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين؛ لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي جعلها الله سببا للفتوحات، واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية؛ حيث وضع فيه سهمه، وثاب الماء حتى كفى الجيش، واتفقت بيعة الرضوان، وهي الفتح الأعظم؛ قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب، وبلغ هديه محله؛ قاله الشعبي، واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين، وظهرت في ذلك الوقت الروم على فارس، فكانت من جملة الفتح؛ فسر بها صلى الله عليه وسلم هو والمؤمنون؛ لظهور أهل الكتاب على المجوس، وشرفه الله بأن أخبره أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أي: وإن لم يكن ذنب.
* ت *: قال الثعلبي: قوله: { ليغفر لك الله } قال أبو حاتم: هذه لام القسم، لما حذفت النون من فعله كسرت، ونصب فعلها؛ تشبيها بلام «كي»، انتهى.
قال عياض: ومقصد الآية أنك مغفور لك، غير مؤاخذ بذنب، إن لو كان، انتهى.
قال أبو حيان: «ليغفر» اللام للعلة، وقال * ع *: هي لام الصيرورة، وقيل: هي لام القسم، ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، وأجيب بأن الكسر قد علل بالحمل على «لام كي» وأما الحركة فليست نصبا؛ بل هي الفتحة الموجودة مع النون، بقيت بعد حذفها دالة على المحذوف، ورد بانه لم يحفظ من كلامهم: والله ليقوم ولا بالله ليخرج زيد، انتهى.
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك:
" إنا فتحنا لك فتحا مبينا "
الحديبية، انتهى.
وقوله سبحانه: { ويتم نعمته عليك } أي: بإظهارك وتغليبك على عدوك، والرضوان في الآخرة والسكينة فعيلة من السكون، وهو تسكين قلوبهم لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت، وعلموا أن وعد الله حق.
[48.5-7]
وقوله سبحانه: { ليدخل المؤمنين والمؤمنت جنت تجرى من تحتها الأنهر... } الآية، روي في معنى هذه الآية أنه لما نزلت:
وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم
[الأحقاف:9] تكلم فيها أهل الكفر، وقالوا: كيف نتبع من لا يعرف ما يفعل به وبالناس؟! فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } فلما سمعها المؤمنون قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، لقد بين الله لك ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فنزلت: { ليدخل المؤمنين والمؤمنت جنت } إلى قوله: { مصيرا } فعرفه الله ما يفعل به وبالمؤمنين وبالكافرين، وذكر النقاش أن رجلا من «عك» قال: هذا الذي لرسول الله، فما لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" هي لي ولامتي كهاتين، وجمع بين إصبعيه ".
وقوله: { ويكفر عنهم سيئتهم } هو من ترتيب الجمل في السرد، لا ترتيب وقوع معانيها؛ لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة.
وقوله: { الظانين بالله ظن السوء } قيل: معناه: من قولهم:
لن ينقلب الرسول
[الفتح:12] الآية، وقيل: هو كونهم يعتقدون الله بغير صفاته العلى.
وقوله: { عليهم دائرة السوء } [أي: دائرة السوء] الذي أرادوه بكم في ظنهم السوء، ويقال للأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان: دائرة، لأنها تدور بدوران الزمان.
[48.8-9]
وقوله سبحانه: { إنا أرسلنك شاهدا... } الآية، من جعل الشاهد محصل الشهادة من يوم يحصلها، فقوله: { شهدا } حال واقعة، ومن جعل الشاهد مؤدي الشهادة فهي حال مستقبلة، وهي التي يسميها النحاة المقدرة، والمعنى: شاهدا على الناس بأعمالهم، وأقوالهم حين بلغت، { ومبشرا }: أهل الطاعة برحمة الله، { ونذيرا }: من عذاب الله أهل المعصية، ومعنى { وتعزروه } تعظموه وتكبروه؛ قاله ابن عباس، وقرأ ابن عباس وغيره: { وتعززوه } بزاءين من العزة، قال الجمهور: الضمير في { وتعزروه وتوقروه } للنبي صلى الله عليه وسلم وفي { وتسبحوه } لله عز وجل، والبكرة: الغدو، والأصيل: العشي.
[48.10]
وقوله سبحانه: { إن الذين يبايعونك }: يريد في بيعة الرضوان، وهي بيعة الشجرة، حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش، لما بلغه قتل عثمان بن عفان، رسوله إليهم، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية، وكان في ألف وأربعمائة، وبايعهم صلى الله عليه وسلم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد حتى قال سلمة بن الأكوع وغيره: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وقال عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نفر، والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع؛ لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ومعنى { إنما يبايعون الله } أن صفقتهم إنما يمضيها ويمنح الثمن الله تعالى.
* ت *: وهذا تفسير لا يمس الآية، ولا بد، وقال الثعلبي: «إنما يبايعون الله» أي: أخذك البيعة عليهم عقد الله عليهم، انتهى، وهذا تفسير حسن.
وقوله تعالى: { يد الله } قال جمهور المتأولين: اليد بمعنى النعمة، إذ نعمة الله في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها «فوق أيديهم»: التي مدوها لبيعتك، وقيل: المعنى: قوة الله فوق قواهم في نصرك.
* ت *: وقال الثعلبي: «يد الله فوق أيديهم» أي: بالوفاء والعهد، وقيل: بالثواب، وقيل: «يد الله»: في المنة عليهم «فوق أيديهم»: في الطاعة عند المبايعة، وهذا حسن قريب من الأول.
وقوله تعالى: { فمن نكث } أي: فمن نقض هذا العهد، فإنما يجني على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسنؤتيه أجرا عظيما، وهو الجنة.
[48.11-17]
وقوله سبحانه: { سيقول لك المخلفون من الأعراب } قال مجاهد وغيره: هم جهينة ومزينة، ومن كان حول المدينة من الأعراب؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي؛ ليخرجوا معه؛ حذرا من قريش، وأحرم بالعمرة، وساق معه الهدي؛ ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه هؤلاء المخلفون، ورأوا أنه [يستقبل] عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش، ولم يكن تمكن إيمان هؤلاء المخلفين، فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله في هذه الآية، وأعلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقولهم، واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، فكان كما أخبر الله سبحانه، فقالوا: «شغلتنا أموالنا وأهلونا عنك فاستغفر لنا» وهذا منهم خبث وإبطال، لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم؛ فلذلك قال تعالى: { يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم } ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام : { قل }: لهم { فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا } أي: من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءا، وفي مصحف ابن مسعود: إن أراد بكم سوءا ثم رد عليهم بقوله: { بل كان الله بما تعملون خبيرا } ثم فسر لهم العلة التي تخلفوا من أجلها بقوله: { بل ظننتم... } الآية، و { بورا } معناه: هلكى فاسدين، والبوار الهلاك، والبور في لغة «أزد عمان»: الفاسد، ثم رجى سبحانه بقوله: { ولله ملك السموات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما } ثم إن الله سبحانه أمر نبيه [على] ما روي [بغزو] خيبر، ووعده بفتحها، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود، وهم عدو مستضعف طلبوا الكون معه؛ رغبة في عرض الدنيا والغنيمة، فكان كذلك.
وقوله تعالى: { يريدون أن يبدلوا كلام الله } معناه: أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر، وقال ابن زيد: كلام الله هو قوله تعالى: { لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا }. قال * ع *: وهذا ضعيف؛ لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك في آخر عمره صلى الله عليه وسلم وآية هذه السورة نزلت عام الحديبية، وأيضا فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه المدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني غزوة الفتح، فتح مكة.
* ت *: قال الثعلبي: وعلى التأويل الأول عامة أهل التأويل، وهو أصوب من تأويل ابن زيد.
وقوله: { كذلكم قال الله من قبل } يريد وعده قبل باختصاصهم بها، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد } قال قتادة وغيره: هم هوازن ومن حارب النبي عليه السلام يوم حنين، وقال الزهري وغيره: هم أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة، وحكى الثعلبي عن رافع بن خديج أنه قال: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى، ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم المراد، وقيل: هم فارس والروم، وقرأ الجمهور: «أو يسلمون» على القطع أي: أو هم يسلمون دون حرب، قال ابن العربي: والذين تعين قتالهم حتى يسلموا من غير قبول جزية، هم العرب في أصح الأقوال، أو المرتدون، فأما فارس والروم فلا يقاتلون إلى أن يسلموا؛ بل إن بذلوا الجزية قبلت منهم، وهذه الآية إخبار بمغيب؛ فهي من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، انتهى من «الأحكام».
وقوله: { فإن تطيعوا } أي: فيما تدعون إليه، وباقي الآية بين.
ثم ذكر تعالى أهل الأعذار، ورفع الحرج عنهم، وهو حكم ثابت لهم إلى يوم القيامة، ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو، وأجرهم فيه مضاعف، وقد غزا ابن أم مكتوم [وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية، وقد خرج النسائي هذا المعنى، وذكر ابن أم مكتوم] رحمه الله.
[48.18-20]
وقوله عز وجل: { لقد رضي الله عن المؤمنين... } الآية، تشريف لهم رضي الله عنهم وقد تقدم القول في المبالغة ومعناها، وكان سبب هذه المبايعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى مكة رجلا يبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حربا؛ وإنما جاء معتمرا، فبعث إليهم خداش بن أمية الخزاعي، وحمله صلى الله عليه وسلم على جمل له يقال له: الثعلب، فلما كلمهم عقروا الجمل، وأرادوا قتل خداش فمنعته الأحابيش، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحد يحميني، ولكن ابعث عثمان؛ فهو أعز بمكة مني، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فذهب، فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي فنزل عن دابته فحمله عليها، وأجاره حتى بلغ الرسالة، فقالوا له: إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأطوف حتى يطوف به النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة، فأبطأ على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على نحو عشرة أميال، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم : قتل عثمان، فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وقالوا: لا نبرح إن كان هذا حتى نناجز القوم، ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عنها إلا الجد بن قيس المنافق، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يده على يده، وقال: هذه يد لعثمان، وهي خير، ثم جاء عثمان سالما والشجرة سمرة كانت هنالك ذهبت بعد سنين.
وقوله سبحانه: { فعلم ما فى قلوبهم } قال الطبري، ومنذر بن سعيد: معناه: من الإيمان وصحته، والحب في الدين والحرص فيه، وقرأ الناس: «وأثابهم» قال هارون: وقد قرأت: «وآتاهم» بالتاء بنقطتين، والفتح القريب: خيبر، والمغانم الكثيرة: فتح خيبر.
وقوله تعالى: { وعدكم الله... } الآية، مخاطبة للمؤمنين، ووعد بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة؛ قاله مجاهد وغيره.
وقوله: { فعجل لكم هذه } يريد خيبر، وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرة: خيبر، وهذه إشارة إلى البيعة والتخلص من أمر قريش، وقاله ابن عباس.
وقوله سبحانه: { وكف أيدى الناس عنكم } قال قتادة: يريد كف أيديهم عن أهل المدينة في مغيب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، { ولتكون ءاية } أي: علامة على نصر المؤمنين، وحكى الثعلبي عن قتادة أن المعنى: كف الله غطفان ومن معها حين جاءوا لنصر خيبر، وقيل: أراد كف قريشا.
[48.21-26]
وقوله سبحانه : { وأخرى لم تقدروا عليها } قال ابن عباس: الإشارة إلى بلاد فارس والروم، وقال قتادة والحسن: الإشارة إلى مكة، وهذا قول يتسق معه المعنى ويتأيد.
وقوله: { قد أحاط الله بها } معناه: بالقدرة والقهر لأهلها، أي: قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.
* ت *: قوله: وظهر فيها إلى آخره كلام غير محصل، ولفظ الثعلبي: { وأخرى لم تقدروا عليها } أي: وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها، قد أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم، وقال ابن عباس: علم الله أنه يفتحها لكم، قال مجاهد: هو ما فتحوه حتى اليوم، ثم ذكر بقية الأقوال، انتهى.
وقوله سبحانه: { ولو قتلكم الذين كفروا } يعني: كفار قريش في تلك السنة { لولوا الأدبر ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا }.
وقوله: سنة الله أي: كسنة الله، إشارة إلى وقعة بدر، وقيل: إشارة إلى عادة الله من نصر الأنبياء، ونصب «سنة» على المصدر.
وقوله تعالى: { وهو الذى كف أيديهم عنكم... } الآية، روي في سببها أن قريشا جمعت جماعة من فتيانها، وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافا متفاوتا؛ فلذلك اختصرته، فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم خالد بن الوليد، وسماه يومئذ سيف الله في جملة من الناس، ففروا أمامهم، حتى أدخلوهم بيوت مكة، وأسروا منهم جملة، فسيقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم؛ قال الواحدي: وكان ذلك سبب الصلح بينهم، انتهى.
وقوله سبحانه: { هم الذين كفروا } يعني: أهل مكة { وصدوكم عن المسجد الحرام } أي: منعوكم من العمرة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى الحديبية في ذي القعدة سنة ست يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة وقيل بسبعين فأجمعت قريش لحربه وغوروا المياه التي تقرب من مكة فجاء صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمرا حتى كفى الجيش ثم بعث صلى الله عليه وسلم إليهم عثمان كما تقدم وبعثوا هم رجالا آخرهم سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف صلى الله عليه وسلم ويعتمر من قابل فهذا صدهم إياه وهو مستوعب في السير، { والهدي } معطوف على الضمير في «صدوكم» [أي] وصدوا الهدي، «ومعكوفا» حال، ومعناه: محبوسا، تقول عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحبس الهدي من قبل المشركين هو بصدهم، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم؛ لأجل أن يبلغ الهدي محله، وهو مكة والبيت، وهذا هو حبس المسلمين، وذكر تعالى العلة في أن صرف المسلمين، ولم يمكنهم من دخول مكة في تلك الوجهة، وهي أنه كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خفي إيمانهم، فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين؛ قال قتادة: فدفع الله عن المشركين بأولئك المؤمنون، والوطء هنا: الإهلاك بالسيف وغيره؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم
" اللهم اشدد وطأتك على مضر "
قال أبو حيان: { ولولا رجال } جوابها محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، أي: ما كف أيديكم عنهم، انتهى، والمعرة: السوء والمكروه اللاحق؛ مأخوذ من العر والعرة وهو الجرب الصعب اللازم، واختلف في تعيين هذه المعرة، فقال الطبري: وحكاه الثعلبي: هي الكفارة، وقال منذر: المعرة: أن يعيبهم الكفار، ويقولوا: قتلوا أهل دينهم، وقال بعض المفسرين: هي الملام، والقول في ذلك، وتألم النفس في باقي الزمان، وهذه أقوال حسان، وجواب «لولا» محذوف، تقديره: لولا هؤلاء لدخلتم مكة، لكن شرفنا هؤلاء المؤمنين بأن رحمناهم، ودفعنا بسببهم عن مكة ليدخل الله، أي: ليبين للناظر أن الله يدخل من يشاء في رحمته أو، أي: ليقع دخولهم في رحمة الله ودفعه عنهم.
* ت *: وقال الثعلبي: قوله: «بغير علم» يحتمل أن يريد بغير علم ممن تكلم بهذا، والمعرة: المشقة «ليدخل الله في رحمته» أي: في دين الإسلام «من يشاء»: من أهل مكة قبل أن تدخلوها، انتهى.
وقوله تعالى: { لو تزيلوا } أي: لو ذهبوا عن مكة؛ تقول: زلت زيدا عن موضعه إزالة، أي: أذهبته، وليس هذا الفعل من «زال يزول»، وقد قيل: هو منه، وقرأ أبو حياة وقتادة: «تزايلوا» بألف، أي: ذهب هؤلاء عن هؤلاء، وقال النحاس: وقد قيل: إن قوله: { ولولا رجال مؤمنون... } الآية: يريد: من في أصلاب الكافرين ممن سيؤمن في غابر الدهر، وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا، والحمية التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد؛ قال الزهري: وهي حمية سهيل ومن شاهد منهم عقد الصلح، وجعلها سبحانه حمية جاهلية، لأنها كانت منهم بغير حجة، إذ لم يأت صلى الله عليه وسلم محاربا لهم، وإنما جاء معتمرا معظما لبيت الله، والسكينة: هي الطمأنينة إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والثقة بوعد الله، والطاعة، وزوال الأنفة التي لحقت عمر وغيره، «وكلمة التقوى»: قال الجمهور: هي لا إله إلا الله، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي مصحف ابن مسعود:
" وكانوا أهلها [وأحق بها "
والمعنى: كانوا أهلها] على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم، وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء، واستجيب الدعاء، فمن نزل به كرب أو شدة فليتحين المنادي، فإذا كبر كبر، وإذا تشهد تشهد، وإذا قال: حي على الصلاة، قال: حي على الصلاة، وإذا قال: حي على الفلاح، قال: حي على الفلاح، ثم يقول: رب هذه الدعوة الصادقة المستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى، أحينا عليها، وأمتنا عليها، وابعثنا عليها، واجعلنا من خيار أهلها أحياء وأمواتا، ثم يسأل الله حاجته "
رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح».
فقد بين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث معنى «كلمة التقوى» على نحو ما فسر به الجمهور، والصحيح أنه يعوض عن الحيعلة الحوقلة؛ ففي صحيح مسلم:
" ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله "
الحديث، انتهى.
وقوله تعالى: { وكان الله بكل شيء عليما } إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية؛ فيروى أنه لما انعقد الصلح أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة، وامتزجوا وعلت دعوة الإسلام، وانقاد إلى الإسلام كل من له فهم، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك؛ قال * ع *: ويقتضى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس صلى الله عليه وسلم .
* ت *: المعروف عشرة آلاف، وقوله فارس ما أظنه يصح فتأمله في كتب السيرة.
[48.27-28]
وقوله سبحانه: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق... } الآية:
" روي في تفسيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه، بعضهم محلقون، وبعضهم مقصرون "
وقال مجاهد: رأى ذلك بالحديبية فأخبر الناس بهذه الرؤيا، فوثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك، وقد كان سبق في علم الله أن ذلك يكون، لكن ليس في تلك الوجهة، فلما صدهم أهل مكة قال المنافقون: وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء من ذلك، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن قال:
" وهل قلت لكم: يكون ذلك في عامنا هذا "
، أو كما قال، ونطق أبو بكر قبل ذلك بنحوه، ثم أنزل الله عز وجل: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق... } الآية، واللام في: { لتدخلن } لام القسم.
وقوله: { إن شاء الله } اختلف في هذا الاستثناء، فقال بعض العلماء: إنما استثنى من حيث إن كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه، أمكن أن يتم الوعد فيه وألا يتم؛ إذ قد يموت الإنسان أو يمرض لحينه، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة؛ إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض.
* ت *: وقد وقع ذلك حسبما ذكر في السير، وقال آخرون: هو أخذ من الله تعالى [على عباده] بأدبه في استعمال الاستثناء في كل فعل.
* ت *: قال ثعلب: استثنى الله تعالى فيما يعلم؛ ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، وقيل غير هذا، ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أن تلك الرؤيا ستخرج فيما يستأنفونه من الزمان، فكان كذلك، فخرج صلى الله عليه وسلم في العام المقبل واعتمر.
وقوله سبحانه: { فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه.
وقوله: { من دون ذلك } أي: من قبل ذلك، وفيما يدنو إليكم، واختلف في الفتح القريب، فقال كثير من العلماء: هو بيعة الرضوان وصلح الحديبية، وقال ابن زيد: هو فتح خيبر.
[48.29]
وقوله تعالى: { محمد رسول الله } قال جمهور الناس: هو ابتداء وخبر، استوفى فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { والذين معه } ابتداء، وخبره: { أشداء } و { رحماء } خبر ثان، وهذا هو الراجح؛ لأنه خبر مضاد لقول الكفار: «لا تكتب محمد رسول الله»، { والذين معه } إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد الحديبية.
* ت *: ووصف تعالى الصحابة بأنهم رحماء بينهم، وقد جاءت أحاديث صحيحة في تراحم المؤمنين؛ حدثنا الشيخ ولي الدين العراقي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "
وأخرج الترمذي من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا تنزع الرحمة إلا من [قلب] شقي "
وخرج عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهذا الحديث خرجه مسلم عن جرير، وخرج مسلم أيضا من طريق أبي هريرة:
" من لا يرحم لا يرحم "
انتهى، وبالجملة: فأسباب الألفة والتراحم بين المؤمنين كثيرة، ولو بأن تلقى أخاك بوجه طلق، وكذلك بذل السلام وطيب الكلام، فالموفق لا يحتقر من المعروف شيئا، وقد روى الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إذا التقى المسلمان كان أحبهما إلى الله سبحانه أحسنهما بشرا بصاحبه "
أو قال:
" أكثرهما [بشرا] بصاحبه، فإذا تصافحا، أنزل الله عليهما مائة رحمة، تسعون منها للذي بدأ، وعشرة للذي صوفح "
انتهى.
وقوله: { تراهم ركعا سجدا } أي: ترى هاتين الحالتين كثيرا فيهم و { يبتغون }: معناه: يطلبون.
وقوله سبحانه: { سيمهم فى وجوههم } قال مالك بن أنس: كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب؛ وقاله عكرمة، ونحوه لأبي العالية، وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية: هو وعد بحالهم يوم القيامة من الله تعالى، يجعل لهم نورا من أثر السجود، قال * ع *: كما يجعل غرة من أثر الوضوء، حسبما هو في الحديث، ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله: «فضلا من الله» وقال ابن عباس: السمت الحسن هو السيما، وهو خشوع يبدو على الوجه، قال * ع *: وهذه حالة مكثري الصلاة؛ لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وقال الحسن بن أبي الحسن، وشمر بن عطية: «السيما»: بياض وصفرة وتبهيج يعتري الوجوه من السهر، وقال عطاء بن أبي رباح، والربيع بن أنس: «السيما»: حسن يعتري وجوه المصلين، قال * ع *: ومن هذا الحديث الذي في «الشهاب»:
" من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار "
قال * ع *: وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد، سمع شريك بن عبد الله يقول: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، ثم نزع شريك لما رأى ثابتا الزاهد فقال يعنيه: من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار، فظن ثابت أن هذا الكلام حديث متركب على السند المذكور، فحدث به عن شريك.
* ت *: واعلم أن الله سبحانه جعل حسن الثناء علامة على حسن عقبى الدار، والكون في الجنة مع الأبرار، جاء بذلك صحيح الآثار عن النبي المختار؛ ففي «صحيح البخاري » «ومسلم» عن أنس قال:
" مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: وجبت، فقال عمر: ما وجبت؟ فقال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض "
،انتهى، ونقل صاحب «الكوكب الدري» من مسند البزار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار، فقالوا: يا رسول الله، بم؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيىء "
، انتهى، ونقله صاحب كتاب «التشوف إلى رجال التصوف» وهو الشيخ الصالح أبو يعقوب يوسف بن يحيى التالي، عن ابن أبي شيبة، ولفظه: وخرج أبو بكر بن أبي شيبة أنه قال صلى الله عليه وسلم في خطبته:
" توشكوا أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار، أو قال: خياركم من شراركم، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن، وبالثناء السيىء، أنتم شهداء الله بعضكم على بعض "
ومن كتاب «التشوف» قال: وخرج البزار عن أنس قال:
" قيل: يا رسول الله، من أهل الجنة؟ قال: من لا يموت حتى تملأ مسامعه مما يحبه، قيل: فمن أهل النار؟ قال: من لا يموت حتى تملأ مسامعه مما يكره "
قال: وخرج البزار عن أبي هريرة
" أن رجلا قال: يا رسول الله، دلني على عمل أدخل به الجنة، قال: لا تغضب، وأتاه آخر، فقال: متى أعلم أني محسن؟ قال: إذا قال جيرانك: إنك محسن، فإنك محسن، وإذا قالوا: إنك مسيء، فإنك مسيء "
انتهى، ونقل القرطبي في «تذكرته» عن عبد الله بن السائب قال: مرت جنازة بابن مسعود فقال لرجل: قم فانظر أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، فقال الرجل: ما يدريني أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ قال: انظر ما ثناء الناس عليه، فأنتم شهداء الله في الأرض، انتهى وبالله التوفيق، وإياه نستعين.
وقوله سبحانه: { ذلك مثلهم فى التوراة... } الآية: قال مجاهد وجماعة من المتأولين: المعنى: ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، وتم القول، و { كزرع } ابتداء تمثيل، وقال الطبري وحكاه عن الضحاك: المعنى: ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة، وتم القول، ثم ابتدأ { ومثلهم فى الإنجيل كزرع }.
* ت *: وقيل غير هذا، وأبينها الأول، وما عداه يفتقر إلى سند يقطع الشك.
وقوله تعالى: { كزرع } على كل قول هو مثل للنبي عليه السلام وأصحابه في أن النبي عليه السلام بعث وحده فكان كالزرع حبة واحدة، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل؛ يقال: أشطأت الشجرة: إذا أخرجت غصونها، وأشطأ الزرع: إذا أخرج شطأه، وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: الزرع: النبي صلى الله عليه وسلم، { فازره }: علي بن أبي طالب، { فاستغلظ } بأبي بكر، { فاستوى على سوقه } بعمر بن الخطاب.
* ت *: وهذا لين الإسناد والمتن، كما ترى، والله أعلم بصحته.
وقوله تعالى: { فازره } له معنيان:
أحدهما: ساواه طولا.
والثاني: أن: «آزره» و«وازره» بمعنى: أعانه وقواه؛ مأخوذ من الأزر، وفاعل «آزر» يحتمل أن يكون الشطء، ويحتمل أن يكون الزرع.
وقوله تعالى: { ليغيظ بهم الكفار } ابتداء كلام قبله محذوف، تقديره: جعلهم الله بهذه الصفة؛ ليغيظ بهم الكفار، قال الحسن: من غيظ الكفار قول عمر بمكة: لا يعبد الله سرا بعد اليوم.
وقوله تعالى: { منهم } هي لبيان الجنس، وليست للتبعيض؛ لأنه وعد مرج للجميع.
[49 - سورة الحجرات]
[49.1-3]
قوله عز وجل: { يأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله... } الآية: قال ابن زيد: معنى: { لا تقدموا } لا تمشوا، وقرأ ابن عباس، والضحاك، ويعقوب: بفتح التاء والدال ، على معنى: لا تتقدموا، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد، والمعنى على ضم التاء: بين يدي قول الله ورسوله، وروي أن سبب هذه الآية أن وفد بني تميم لما قدم، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: يا رسول الله، لو أمرت القعقاع بن معبد؟ وقال عمر: لا يا رسول الله، بل أمر الأقرع بن حابس، فقال له أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت الآية، وذهب بعض قائلي هذه المقالة إلى أن قوله: { لا تقدموا }: أي: ولاة، فهو من تقديم الأمراء، وعموم اللفظ أحسن، أي: اجعلوه مبدأ في الأقوال والأفعال ، وعبارة البخاري: وقال مجاهد: «لا تقدموا»: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله عز وجل على لسانه، انتهى.
وقوله سبحانه: { لا ترفعوا أصوتكم } الآية، هي أيضا في هذا الفن المتقدم؛ فروي أن سببها ما تقدم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والصحيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه ممن في صوته جهارة فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه، وجلس في بيته لم يخرج، وهو كئيب حزين حتى عرف النبي صلى الله عليه وسلم خبره فبعث إليه، فآنسه، وقال له:
" امش في الأرض بسطا؛ فإنك من أهل الجنة "
، وقال له مرة:
" أما ترضى أن تعيش حميدا، وتموت شهيدا؟ "
فعاش كذلك، ثم قتل شهيدا باليمامة يوم مسيلمة.
* ت *: وحديث ثابت بن قيس وتبشيره بالجنة خرجه البخاري، وكذلك حديث أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما خرجه البخاري أيضا، انتهى.
وقوله: { كجهر بعضكم لبعض } أي: كحال أحدكم في جفائه، فلا تنادوه باسمه: يا محمد، يا أحمد؛ قاله ابن عباس وغيره، فأمرهم الله بتوقيره، وأن يدعوه بالنبوة والرسالة، والكلام اللين، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرة العالم وفي المساجد، وفي هذه كلها آثار؛ قال ابن العربي في «أحكامه»: وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرىء كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله:
وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا
[الأعراف:204] وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هو من الوحي، وله من الحرمة مثل ما للقرآن، انتهى.
وقوله تعالى: { أن تحبط } مفعول من أجله، أي: مخافة أن تحبط، ثم مدح سبحانه الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله، وغض الصوت خفضه وكسره ، وكذلك البصر، وروي: أن أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ؛ لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه، و { امتحن } معناه: اختبر وطهر كما يمتحن الذهب بالنار، فيسرها وهيأها للتقوى، وقال عمر بن الخطاب: امتحنها للتقوى: أذهب عنها الشهوات.
قال * ع *: من غلب شهوته وغضبه فذلك الذي امتحن الله قلبه للتقوى، وبذلك تكون الاستقامة، وقال البخاري: { امتحن }: أخلص، انتهى.
[49.4-8]
وقوله سبحانه: { إن الذين ينادونك من وراء الحجرت أكثرهم لا يعقلون } نزلت في وفد بني تميم وقولهم: يا محمد، اخرج إلينا، يا محمد، اخرج إلينا، وفي مصحف ابن مسعود: «أكثرهم بنو تميم لا يعقلون» وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } وقرىء «فتثبتوا» روي في سبب الآية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدقا، فلما قرب منهم خرجوا إليه، ففزع منهم، وظن بهم شرا، فرجع، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: قد منعوني الصدقة، وطردوني، وارتدوا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم، فورد وفدهم منكرين لذلك»، وروي أنه لما قرب منهم بلغه عنهم أنهم قالوا: لا نعطيه الصدقة ولا نطيعه، فقال ما ذكرناه فنزلت الآية، و { أن تصيبوا } معناه: مخافة أن تصيبوا، قال قتادة: وقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزلت هذه الآية:
" التثبت من الله والعجلة من الشيطان ".
وقوله سبحانه: { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم فى كثير من الأمر لعنتم } توبيخ للكذبة، والعنت: المشقة.
وقوله تعالى: { أولئك هم الرشدون } رجوع من الخطاب إلى الغيبة، كأنه قال: ومن اتصف بما تقدم من المحاسن أولئك هم الراشدون.
وقوله سبحانه: { فضلا من الله ونعمة } أي: كان هذا فضلا من الله ونعمة، وكان قتادة رحمه الله يقول: قد قال الله تعالى لأصحاب محمد عليه السلام : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم فى كثير من الأمر لعنتم } وأنتم والله أسخف رأيا، وأطيش أحلاما، فليتهم رجل نفسه، ولينتصح كتاب الله تعالى.
[49.9-10]
وقوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } سبب الآية في قول الجمهور هو ما وقع بين المسلمين المتحزبين في قضية عبد الله بن أبي ابن سلول حين مر به النبي صلى الله عليه وسلم راكبا على حماره متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه، حسبما هو معلوم في الحديث الطويل، ومدافعة الفئة الباغية متوجهة في كل حال، [وأما التهيؤ] لقتالهم فمع الولاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" حكم الله في الفئة الباغية ألا يجهز على جريحها، ولا يطلب هاربها، ولا يقتل أسيرها، ولا يقسم فيئها "
و { تفىء } معناه: ترجع، وقرأ الجمهور: «بين أخويكم» وذلك؛ رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر، وقرأ ابن عامر: «بين إخوتكم» وقرأ عاصم الجحدري: «بين إخوانكم» وهي قراءة حسنة؛ لأن الأكثر في جمع الأخ في الدين ونحوه من غير النسب: «إخوان»، والأكثر في جمعه من النسب: «إخوة» و«آخاء»، وقد تتداخل هذه الجموع، وكلها في كتاب الله.
[49.11-12]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم } الآية: هذه الآية والتي بعدها نزلت في خلق أهل الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا يجرون مع شهوات نفوسهم، لم يقومهم أمر من الله ولا نهي، فكان الرجل يسخر، ويلمز، وينبز بالألقاب، ويظن الظنون، ويتكلم بها، ويغتاب، ويفتخر بنسبه، إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطالة، فنزلت هذه الآية؛ تأديبا لهذه الأمة، وروى البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه، التقوى ههنا، بحسب امرىء من الشر أن يحتقر أخاه المسلم "
انتهى، ويسخر معناه: يستهزىء، وقد يكون ذلك المستهزأ به خيرا من الساخر، والقوم في كلام العرب واقع على الذكران، وهو من أسماء الجمع؛ ومن هذا قول زهير : [من الوافر]
وما أدري وسوف إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء
وهذه الآية أيضا تقتضي اختصاص القوم بالذكران، وقد يكون مع الذكران نساء، فيقال لهم قوم؛ على تغليب حال الذكر، و { تلمزوا } معناه: يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص ونحوه، وقد يكون اللمز بالقول وبالإشارة ونحوه مما يفهمه آخر، والهمز لا يكون إلا باللسان، وحكى الثعلبي أن اللمز ما كان في المشهد، والهمز ما كان في المغيب، وحكى الزهراوي عكس ذلك.
وقوله تعالى: { أنفسكم } معناه: بعضكم بعضا؛ كما قال تعالى:
أن اقتلوا أنفسكم
[النساء:66] كأن المؤمنين كنفس واحدة، إذ هم إخوة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى "
، وهم كما قال أيضا:
" كالبنيان يشد بعضه بعضا "
، والتنابز: التلقب، والتنبز واللقب واحد، واللقب يعني المذكور في الآية هو: ما يعرف به الإنسان من الأسماء التي يكره سماعها، وليس من هذا قول المحدثين: سليمان الأعمش، وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه، وليس فيه قصد استخفاف وأذى، وقال ابن زيد: معنى: { ولا تنابزوا بالألقب } أي: لا يقل أحد لأحد: يا يهودي، بعد إسلامه، ولا: يا فاسق، بعد توبته، ونحو هذا.
وقوله سبحانه: { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } يحتمل معنيين:
أحدهما: بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فساقا بالمعصية بعد إيمانكم.
والثاني: بئس قول الرجل لأخيه: يا فاسق بعد إيمانه؛ وعن حذيفة رضي الله عنه قال:
" شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرب لساني، فقال: «أين أنت من الاستغفار؟! إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» "
رواه النسائي واللفظ له، وابن ماجه، والحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح على شرط مسلم، وفي رواية للنسائي:
" إني لأستغفر الله في اليوم وأتوب إليه مائة مرة "
، والذرب بفتح الذال والراء هو الفحش، انتهى من «السلاح»، ومنه عن ابن عمر: «إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم» رواه أبو داود، وهذا لفظه، والترمذي والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في «صحيحه»، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، انتهى.
ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن، وألا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه؛ لما في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر، وحكم على بعضه أنه إثم، إذ بعضه ليس بإثم، والظن المنهي عنه هو أن تظن شرا برجل ظاهره الصلاح، بل الواجب أن تزيل الظن وحكمه، وتتأول الخير؛ قال * ع *: وما زال أولو العزم يحترسون من سوء الظن، ويجتنبون ذرائعه، قال النووي: واعلم أن سوء الظن حرام، مثل القول، فكما يحرم أن تحدث غيرك بمساوىء إنسان يحرم أن تحدث نفسك بذلك، وتسيء الظن به؛ وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:
" إياكم والظن؛ فإنه أكذب الحديث "
والأحاديث بمعنى ما ذكرناه كثيرة، والمراد بذلك عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء، فأما الخواطر وحديث النفس، إذا لم يستقر، ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء؛ لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه، انتهى.
قال أبو عمر في «التمهيد»: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" حرم الله من المؤمن دمه، وماله، وعرضه، وألا يظن به إلا الخير "
انتهى، ونقل في موضع آخر بسنده: أن عمر بن عبد العزيز كان إذا ذكر عنده رجل بفضل أو صلاح قال: كيف هو إذا ذكر عنده إخوانه؟ فإن قالوا: إنه يتنقصهم، وينال منهم، قال عمر: ليس هو كما تقولون، وإن قالوا: إنه يذكر منهم جميلا وخيرا، ويحسن الثناء عليهم، قال: هو كما تقولون إن شاء الله، انتهى من «التمهيد»، وروى أبو داود في «سننه» عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" حسن الظن من حسن العبادة "
انتهى. وقوله تعالى: { ولا تجسسوا } أي: لا تبحثوا عن مخبآت أمور الناس، وادفعوا بالتي هي أحسن، واجتزئوا بالظواهر الحسنة، وقرأ الحسن وغيره: «ولا تحسسوا» بالحاء المهملة؛ قال بعض الناس: التجسس بالجيم في الشر، وبالحاء في الخير، قال * ع *: وهكذا ورد القرآن، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال.
* ت *: وقد وردت أحاديث صحيحة في هذا الباب، لولا الإطالة لجلبناها.
{ ولا يغتب } معناه: لا يذكر أحدكم من أخيه شيئا هو فيه، ويكره سماعه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته، وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته "
، وفي حديث آخر:
" الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره، قيل: وإن كان حقا؟ قال: إذا قلت باطلا فذلك هو البهتان "
وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الغيبة أشد من الزنا، قيل: وكيف؟! قال: لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه، والذي يغتاب لا يتاب عليه حتى يستحل "
، قال * ع *: وقد يموت من اغتيب، أو يأبى، وروى أبو داود في «سننه» عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم "
انتهى.
والغيبة مشتقة من «غاب يغيب» وهي القول في الغائب، واستعملت في المكروه، ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه، من تجريح الشهود، وفي التعريف بمن استنصح في الخطاب ونحوهم: لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" أما معاوية فصعلوك لا مال له "
وما يقال في الفسقة أيضا، وفي ولاة الجور، ويقصد به: التحذير منهم؛ ومنه قوله عليه السلام :
" أعن الفاجر ترعون؟! اذكروا الفاجر بما فيه، متى يعرفه الناس إذا لم تذكروه؟! ".
* ت *: وهذا الحديث خرجه أيضا أبو بكر ابن الخطيب بسنده عن بهز، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أترعون عن ذكر الفاجر، اذكروه بما فيه؛ يحذره الناس "
ولم يذكر في سنده مطعنا، انتهى، ومنه قوله عليه السلام :
" بئس ابن العشيرة ".
ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت، ووقف تعالى على جهة التوبيخ بقوله: { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } أي: فكذلك فاكرهوا الغيبة، قال أبو حيان: { فكرهتموه } قيل: خبر بمعنى الأمر، أي: فاكرهوه، وقيل على بابه، فقال الفراء: فقد كرهتموه، فلا تفعلوه، انتهى.
وقد روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا يرمي رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك "
وفي رواية مسلم:
" من دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه "
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم:
" أي رجل قال لأخيه: كافر فقد باء بها أحدهما "
انتهى، وباقي الآية بين.
[49.13-14]
وقوله تعالى: { يأيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى... } الآية: المعنى: يأيها الناس، أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون، وإنما جعلتم قبائل؛ لأن تتعارفوا، أو لأن تعرفوا الحقائق، وأما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب، وقرأ ابن مسعود: «لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم» وقرأ ابن عباس: «لتعرفوا أن» على وزن «تفعلوا» بكسر العين وبفتح الهمزة من «أن»، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من سره أن يكون أكرم الناس، فليتق الله "
وأما الشعوب فهو جمع شعب، وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطا بنسب واحد؛ كمضر وربيعة وحمير، ويتلوه القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، والأسرة وهما قرابة الرجل الأدنون، ثم نبه سبحانه على الحذر بقوله: { إن الله عليم خبير } أي: بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم، وخرج مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد "
وروى أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم، إنما هم فحم من جهنم أو ليكونن على الله أهون من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها؛ إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، كلكم بنو آدم وآدم من تراب "
انتهى، ونقله البغوي في «مصابيحه».
وقوله تعالى: { قالت الأعراب ءامنا } قال مجاهد: نزلت في بني أسد، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة، أظهروا الإسلام، وفي الباطن إنما يريدون المغانم وعرض الدنيا، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهؤلاء المدعين للإيمان: { لم تؤمنوا } أي: لم تصدقوا بقلوبكم، { ولكن قولوا أسلمنا } أي: استسلمنا، والإسلام يقال بمعنيين:
أحدهما: الذي يعم الإيمان والأعمال، وهو الذي في قوله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلم
[آل عمران:19] والذي في قوله عليه السلام :
" بني الإسلام على خمس ".
والمعنى الثاني للفظ الإسلام: هو الاستسلام، والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم، وهذا هو الذي في الآية، ثم صرح بأن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، ثم فتح باب التوبة بقوله: { وإن تطيعوا الله ورسوله... } الآية، وقرأ الجمهور: «لا يلتكم» من «لات يليت» إذا نقص؛ يقال: لات حقه إذا نقصه منه، وقرأ أبو عمرو: «لا يألتكم» من «ألت يألت» وهي بمعنى لات.
[49.15-18]
وقوله سبحانه: { إنما المؤمنون } إنما هنا حاصرة.
وقوله: { ثم لم يرتابوا } أي: لم يشكوا، ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بتوبيخهم بقوله: { أتعلمون الله بدينكم } أي: بقولكم آمنا، وهو يعلم منكم خلاف ذلك؛ لأنه العليم بكل شيء.
وقوله سبحانه: { يمنون عليك أن أسلموا } نزلت في بني أسد أيضا، وقرأ ابن مسعود: «يمنون عليك إسلامهم» وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية: «والله بصير بما يعملون»
[50 - سورة ق]
[50.1-14]
قوله عز وجل: { ق والقرءان المجيد } قال مجاهد، والضحاك، وابن زيد، وعكرمة: ق اسم الجبل المحيط بالدنيا، وهو فيما يزعمون أنه من زمردة خضراء، منها خضرة السماء وخضرة البحر، وقيل في تفسيره غير هذا، و { المجيد }: الكريم في أوصافه الذي جمع كل معلاة، و { ق } مقسم به وبالقرآن؛ قال الزجاج: وجواب القسم محذوف تقديره: ق والقرآن المجيد لتبعثن، قال * ع *: وهذا قول حسن، وأحسن منه أن يكون الجواب هو الذي يقع عنه الإضراب ببل، كأنه قال: والقرآن المجيد ما ردوا أمرك بحجة، ونحو هذا، مما لا بد لك من تقديره بعد الذي قدره الزجاج، وباقي الآية بين مما تقدم في «ص» و«يونس» وغيرهما، ثم أخبر تعالى؛ ردا على قولهم بأنه سبحانه يعلم ما تأكل الأرض من ابن آدم، وما تبقي منه، وأن ذلك في كتاب، والحفيظ: الجامع الذي لم يفته شيء؛ وفي الحديث الصحيح:
" إن الأرض تأكل ابن آدم إلا عجب الذنب "
وهو عظم كالخردلة، فمنه يركب ابن آدم، قال * ع *: وحفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة، وهذا هو الحق؛ قال ابن عباس والجمهور: المعنى: ما تنقص من لحومهم وأبشارهم وعظامهم، وقال السدي: { ما تنقص الأرض } أي: ما يحصل في بطنها من موتاهم، وهذا قول حسن مضمنه الوعيد، والمريج: معناه المخلط؛ قاله ابن زيد، أي: بعضهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: كاهن، وبعضهم يقول: شاعر، إلى غير ذلك من تخليطهم، قال * ع *: والمريج: المضطرب أيضا، وهو قريب من الأول؛ ومنه مرجت عهودهم، ومن الأول
مرج البحرين
[الفرقان:53].
ثم دل تعالى على العبرة بقوله: { أفلم ينظروا إلى السماء... } الآية، { وزينها } أي: بالنجوم، والفروج: الفطور والشقوق خلالها وأثناءها؛ قاله مجاهد وغيره.
* ت *: وقال الثعلبي بأثر كلام للكسائي: يقول: كيف بنيناها بلا عمد، وزيناها بالنجوم، وما فيها فتوق؟ { والأرض مددنها } أي: بسطناها على وجه الماء، انتهى، والرواسي: الجبال، والزوج: النوع، والبهيج: الحسن المنظر؛ قاله ابن عباس وغيره، والمنيب: الراجع إلى الحق عن فكرة ونظر؛ قال قتادة: هو المقبل إلى الله تعالى، وخص هذا الصنف بالذكر؛ تشريفا لهم من حيث انتفاعهم بالتبصرة والذكرى، { وحب الحصيد }: البر، والشعير، ونحوه مما هو نبات محبب يحصد؛ قال أبو حيان: { وحب الحصيد } من إضافة الموصوف إلى صفته على قول الكوفيين، أو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، أي: حب الزرع الحصيد على قول البصريين، و { بسقت } حال مقدرة؛ لأنها حالة الإنبات ليست طوالا، انتهى، و { بسقت }: معناه طويلات ذاهبات في السماء، والطلع أول ظهور التمر في الكفرى، قال البخاري: و { نضيد } معناه: منضود بعضه على بعض، انتهى، ووصف البلدة بالميت على تقدير القطر والبلد.
ثم بين سبحانه موضع الشبه فقال: { كذلك الخروج } يعني: من القبور، وهذه الآيات كلها إنما هي أمثلة وأدلة على البعث، { وأصحب الرس }: قوم كانت لهم بئر عظيمة، وهي الرس، وكل ما لم يطو من بئر، أو معدن، أو نحوه فهو رس، وجاءهم نبي يسمى حنظلة بن سفيان فيما روي فجعلوه في الرس وردموا عليه، فأهلكهم الله، وقال الضحاك: الرس بئر قتل فيها صاحب «يس»، وقيل: إنهم قوم عاد، والله أعلم.
وقوله: { كل } قال سيبويه: التقدير: كلهم، والوعيد الذي حق: هو ما سبق به القضاء من تعذيبهم.
[50.15-17]
وقوله سبحانه: { أفعيينا } توقيف للكفار، وتوبيخ، والخلق الأول: إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج المعلوم، وقال الحسن: الخلق الأول: آدم، واللبس: الشك والريب، واختلاط النظر، والخلق الجديد: البعث من القبور.
وقوله سبحانه: { ولقد خلقنا الإنسن... } الآية: الإنسان: اسم جنس، و { توسوس } معناه: تتحدث في فكرتها، والوسوسة إنما تستعمل في غير الخير.
وقوله تعالى: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }: عبارة عن قدرة الله على العبد، وكون العبد في قبضة القدرة والعلم قد أحيط به، فالقرب هو بالقدرة والسلطان، إذ لا ينحجب عن علم الله لا باطن ولا ظاهر، والوريد: عرق كبير في العنق، ويقال: إنهما وريدان عن يمين وشمال.
وأما قوله تعالى: { إذ يتلقى المتلقيان } فقال المفسرون: العامل في إذ { أقرب } ويحتمل عندي أن يكون العامل فيه فعلا مضمرا تقديره: اذكر إذ يتلقى المتلقيان، و { المتلقيان }: الملكان الموكلان بكل إنسان، ملك اليمين الذي يكتب الحسنات، وملك الشمال الذي يكتب السيئات؛ قال الحسن: الحفظة أربعة: اثنان بالنهار، واثنان بالليل، قال * ع *: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح:
" يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار "
الحديث بكماله، ويروى أن ملك اليمين أمير على ملك الشمال، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر: تثبت؛ لعله يتوب؛ رواه إبراهيم التيمي، وسفيان الثوري، و { قعيد }: معناه قاعد
[50.18-22]
وقوله سبحانه: { ما يلفظ من قول... } الآية، قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: يكتب الملكان جميع الكلام، فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات، ويمحو غير هذا، وهذا هو ظاهر هذه الآية، قال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة: يكتبان الخير والشر فقط؛ قال * ع *: والأول أصوب.
* ت *: وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كل شيء يتكلم به ابن آدم، فإنه مكتوب عليه، إذا أخطأ خطيئة، فأحب أن يتوب إلى الله، فليأت، فليمد يديه إلى الله عز وجل، ثم يقول: اللهم، إني أتوب إليك منها، لا أرجع إليها أبدا، فإنه يغفر له ما لم يرجع في عمله ذلك "
رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني البخاري ومسلما، انتهى من «السلاح»، قال النووي رحمه الله تعالى : ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه من جميع الكلام إلا كلاما تظهر فيه مصلحته، ومتى استوى الكلام وتركه بالمصلحة فالسنة الإمساك؛ فإنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وهذا هو الغالب، والسلامة لا يعدلها شيء، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم أنه قال:
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت "
وهو نص صريح فيما قلناه، قال: وروينا في «كتاب الترمذي» و«ابن ماجه» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "
قال الترمذي: حديث حسن، وفيه عن عقبة بن عامر
" قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك "
قال الترمذي: حديث حسن، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم قال:
" من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه، دخل الجنة "
قال الترمذي: حديث حسن، انتهى، والرقيب: المراقب، والعتيد: الحاضر.
وقوله: { وجاءت } عطف، عندي، على قوله: { إذ يتلقى } فالتقدير: وإذ تجيء سكرة الموت.
* ت *: قال شيخنا، زين الدين العراقي في أرجوزته:[الرجز]
وسكرة الموت اختلاط العقل
.......................
البيت. انتهى.
وقوله: { بالحق } معناه: بلقاء الله، وفقد الحياة الدنيا، وفراق الحياة حق يعرفه الإنسان، ويحيد منه بأمله، ومعنى هذا الحيد أنه يقول: أعيش كذا وكذا، فمتى فكر حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمان، وهذا شأن الإنسان، حتى يفاجئه الأجل؛ قال عبد الحق في «العاقبة»: ولما احتضر مالك بن أنس، ونزل به الموت قال لمن حضره: ليعاينن الناس غدا من عفو الله وسعة رحمته ما لم يخطر على قلب بشر، كشف له رضي الله عنه عن سعة رحمة الله وكثرة عفوه وعظيم تجاوزه ما أوجب أن قال هذا، وقال أبو سليمان الداراني: دخلنا على عابد نزوره، وقد حضره الموت، وهو يبكي، فقلنا له: ما يبكيك رحمك الله؟! فأنشأ يقول: [الطويل]
وحق لمثلي البكا عند موته
ومالي لا أبكي وموتي قد اقترب
ولي عمل في اللوح أحصاه خالقي
فإن لم يجد بالعفو صرت إلى العطب
انتهى، و { يوم الوعيد }: هو يوم القيامة، والسائق: الحاث على السير، واختلف الناس في السائق والشهيد، فقال عثمان بن عفان وغيره: هما ملكان موكلان بكل إنسان أحدهما يسوقه، والآخر من حفظته يشهد عليه، وقال أبو هريرة: السائق: ملك، والشهيد: العمل، وقيل: الشهيد: الجوارح، وقال بعض النظار: سائق اسم جنس وشهيد كذلك، فالساقة للناس ملائكة موكلون بذلك، والشهداء: الحفظة في الدنيا، وكل من يشهد.
وقوله سبحانه: { كل نفس } يعم الصالحين وغيرهم؛ فإنما معنى الآية شهيد بخيره وشره، ويقوى في شهيد اسم الجنس، فتشهد الملائكة، والبقاع والجوارح؛ وفي الصحيح:
" لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس، ولا جن، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ".
وقوله سبحانه: { لقد كنت } قال ابن عباس وغيره: أي: يقال للكافر: لقد كنت في غفلة من هذا، فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك، أي: بصيرتك؛ وهذا كما تقول: فلان حديد الذهن ونحوه، وقال مجاهد: هو بصر العين، أي: احتد التفاته إلى ميزانه، وغير ذلك من أهوال القيامة.
والوجه عندي، في هذه الآية، ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله: إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر، وهكذا، قال الفخر: قال: والأقوى أن يقال: هو خطاب عام مع السامع، كأنه يقول: ذلك ما كنت منه تحيد أيها السامع، انتهى، وينظر إلى معنى كشف الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا ".
[50.23-28]
وقوله تعالى: { وقال قرينه هذا ما لدى عتيد } قال جماعة من المفسرين: يعني قرينه من زبانية جهنم، أي: قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الكافر، حاضر، وقال قتادة وابن زيد: بل قرينه الموكل بسوقه، قال * ع *: ولفظ القرين اسم جنس، فسائقه قرين، وصاحبه من الزبانية قرين، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين، والكل تحتمله هذه الآية، أي: هذا الذي أحصيته عليه عتيد لدي، وهو موجب عذابه، والقرين الذي في هذه الآية غير القرين الذي في قوله: { قال قرينه ربنا ما أطغيته } إذ المقارنة تكون على أنواع.
وقوله سبحانه: { ألقيا فى جهنم كل كفار عنيد } المعنى: يقال: ألقيا في جهنم، واختلف لمن يقال ذلك، فقال جماعة: هو قول لملكين من ملائكة العذاب.
وقال عبد الرحمن بن زيد: هو قول للسائق والشهيد.
وقال جماعة من أهل العلم باللغة: هذا جار على عادة كلام العرب الفصيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين؛ وذلك أن العرب كان الغالب عندها أن يترافق في الأسفار ونحوها ثلاثة، فكل واحد منهم يخاطب اثنين، فكثر ذلك في أشعارها وكلامها، حتى صار عرفا في المخاطبة، فاستعمل في الواحد، ومن هذا قولهم في الأشعار:[من الطويل]
خليلي................
.......................
وصاحبي....................
.......................
[ومن الطويل]
قفانبك.................
..............................
ونحوه.
وقال بعض المتأولين: المراد «ألقين»، فعوض من النون ألف، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «ألقيا» بتنوين الياء، و«عنيد» معناه: عاند عن الحق، أي: منحرف عنه.
وقوله تعالى: { مناع للخير } لفظ عام للمال والكلام الحسن والمعاونة على الأشياء، و { معتد } معناه: بلسانه ويده.
وقوله سبحانه: { الذى جعل مع الله... } الآية، يحتمل أن يكون { الذى } بدلا من { كفار } ، أو صفة له، ويقوى عندي أن يكون { الذى } ابتداء ويتضمن القول حينئذ بني آدم والشياطين المغوين لهم في الدنيا، ولذلك تحرك القرين، الشيطان المغوي، فرام أن يبرىء نفسه ويخلصها بقوله: { ربنا ما أطغيته }.
وقوله: { ربنا ما أطغيته } ليست بحجة؛ لأنه كذب أن نفى الإطغاء عن نفسه جملة، وهو قد أطغاه بالوسوسة والتزيين، وأطغاه الله بالخلق والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه، سبحانه لا رب غيره.
وقوله سبحانه: { لا تختصموا لدى } معناه: قال الله: لا تختصموا لدي بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئا { وقد قدمت إليكم بالوعيد } وهو ما جاءت به الرسل والكتب، وجمع الضمير؛ لأنه مخاطبة لجميع القرناء؛ إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط.
[50.29-31]
وقوله سبحانه: { ما يبدل القول لدى } أي: لا ينقض ما أبرمه كلامي من تعذيب الكفرة، ثم أزال سبحانه موضع الاعتراض بقوله: { وما أنا بظلم للعبيد } أي: هذا عدل فيهم؛ لأني أنذرت، وأمهلت، وأنعمت، وقرأ الجمهور: «يوم نقول» بالنون، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر بالياء، وهي قراءة أهل المدينة، قال * ع *: والذي يترجح في قول جهنم: { هل من مزيد } أنها حقيقة، وأنها قالت ذلك، وهي غير ملأى، وهو قول أنس بن مالك، ويبين ذلك الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟! حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض "
ولفظ البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي، لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟! فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع [الجبار فيها قدمه] فتقول: قط قط، فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقا "
انتهى، قال * ع *: ومعنى: «قدمه» ما قدم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها؛ ومنه:
أن لهم قدم صدق عند ربهم
[يونس:2] وملاك النظر في هذا الحديث أن الجارحة، والتشبيه، وما جرى مجراه منتف كل ذلك عن الله سبحانه، فلم يبق إلا إخراج اللفظ على الوجوه السائغة في كلام العرب.
{ وأزلفت الجنة } معناه: قربت، ولما احتمل أن يكون معناه بالوعد والإخبار رفع الاحتمال بقوله: { غير بعيد } قال أبو حيان: { غير بعيد } أي: مكانا غير بعيد؛ فهو منصوب على الظرف، وقيل: منصوب على الحال من الجنة، انتهى.
[50.32-37]
وقوله سبحانه: { هذا ما توعدون } يحتمل أن يكون معناه: يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة: هذا الذي كنتم توعدون به في الدنيا، ويحتمل أن يكون خطابا للأمة، أي: هذا ما توعدون أيها الناس { لكل أواب حفيظ }: والأواب: الرجاع إلى الطاعة وإلى مراشد نفسه، وقال ابن عباس وعطاء: الأواب: المسبح؛ من قوله:
يجبال أوبى معه
[سبأ:10] وقال المحاسبي: هو الراجع بقلبه إلى ربه، وقال عبيد بن عمير: كنا نتحدث أنه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله مما جرى في ذلك المجلس، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، والحفيظ معناه: لأوامر الله، فيمتثلها، ولنواهيه فيتركها، وقال ابن عباس: حفيظ لذنوبه حتى يرجع عنها، والمنيب: الراجع إلى الخير المائل إليه؛ قال الداوودي: وعن قتادة { بقلب منيب } قال: مقبل على الله سبحانه، انتهى.
وقوله سبحانه: { ادخلوها } أي: يقال لهم: ادخلوها.
وقوله عز وجل: { لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } خبر بأنهم يعطون آمالهم أجمع، ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعمين، وكذلك هي مبهمة في قوله تعالى:
فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين
[السجدة:17] وقد فسر ذلك الحديث الصحيح، وهو قوله عليه السلام :
" يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما اطلعتم عليه "
قال * ع *: وقد ذكر الطبري وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة، وأشياء ضعيفة؛ لأن الله تعالى يقول: { فلا تعلم نفس ما أخفى } وهم يعينونها تكلفا وتعسفا.
وقوله تعالى: { فنقبوا فى البلد } أي: ولجوا البلاد من أنقابها؛ طمعا في النجاة من الهلاك { هل من محيص } أي: لا محيص لهم، وقرأ ابن عباس وغيره: «فنقبوا» على الأمر لهؤلاء الحاضرين.
* ت *: وعبارة البخاري «فنقبوا»: ضربوا، وقال الداودي: وعن أبي عبيدة { فنقبوا فى البلد }: طافوا، وتباعدوا، انتهى.
وقوله تعالى: { إن فى ذلك } يعني: إهلاك من مضى { لذكرى } أي: تذكرة، والقلب عبارة عن العقل؛ إذ هو محله، والمعنى: لمن كان له قلب واع ينتفع به، وقال الشبلي: معناه: قلب حاضر مع الله، لا يغفل عنه طرفة عين.
وقوله تعالى: { أو ألقى السمع وهو شهيد } معناه: صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة، وأثبته في سماعها { وهو شهيد } قال بعض المتأولين: معناه: وهو مشاهد مقبل على الأمر، غير معرض ولا مفكر في غير ما يسمع.
* ت *: ولفظ البخاري { أو ألقى السمع } أي: لا يحدث نفسه بغيره { شهيد } أي: شاهد بالقلب، انتهى، قال المحاسبي في «رعايته»: وقد أحببت أن أحضك على حسن الاستماع؛ لتدرك به الفهم عن الله عز وجل في كل ما دعاك إليه؛ فإنه تعالى أخبرنا في كتابه أن من استمع كما يحب الله تعالى ويرضى، كان له فيما يستمع إليه ذكرى، يعني: اتعاظا، وإذا سمى الله عز وجل لأحد من خلقه شيئا فهو له كما سمى، وهو واصل إليه كما أخبر؛ قال عز وجل: { إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } قال مجاهد: شاهد القلب، لا يحدث نفسه بشيء ليس بغائب القلب، فمن استمع إلى كتاب الله عز وجل، أو إلى حكمة، أو إلى علم، أو إلى عظة، لا يحدث نفسه بشيء غير ما يستمع إليه، قد أشهد قلبه ما استمع إليه، يريد الله عز وجل به : كان له فيه ذكرى؛ لأن الله تعالى قال ذلك، فهو كما قال عز وجل، انتهى كلام المحاسبي، وهو در نفيس، فحصله، واعمل به ترشد، وقد وجدناه، كما قال، وبالله التوفيق.
[50.38-40]
وقوله سبحانه: { ولقد خلقنا السموات والأرض... } الآية: خبر مضمنه الرد على اليهود الذين قالوا: إن الله خلق الأشياء كلها، ثم استراح يوم السبت، فنزلت: { وما مسنا من لغوب } واللغوب: الإعياء والنصب.
وقوله تعالى: { فاصبر على ما يقولون } أي: ما يقوله الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم، وعم بذلك جميع الأقوال الزائغة من قريش وغيرهم { وسبح } معناه: صل بإجماع من المتأولين.
* ت *: وفي الإجماع نظر؛ وقد قال الثعلبي { وسبح بحمد ربك } أي: قل سبحان الله والحمد لله؛ قاله عطاء الخراساني، انتهى، ولكن المخرج في الصحيح إنما هو أمر الصلاة، وقال ابن العربي في «أحكامه»: قوله تعالى: { ومن اليل فسبحه } فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه تسبيح الله في الليل، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح:
" من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله "
الحديث، وقد ذكرناه في سورة «المزمل».
والثاني: أنها صلاة الليل.
والثالث: أنها ركعتا الفجر.
والرابع: أنها صلاة العشاء الآخرة، انتهى.
وقوله: { بحمد ربك } الباء للاقتران، أي: سبح سبحة يكون معها حمد، و { قبل طلوع الشمس } هي الصبح، { وقبل الغروب }: هي العصر؛ قاله ابن زيد والناس، وقال ابن عباس: الظهر والعصر، { ومن اليل }: هي صلاة العشاءين، وقال ابن زيد: هي العشاء فقط، وقال مجاهد: هي صلاة الليل.
وقوله: { وأدبر السجود } قال عمر بن الخطاب وجماعة: هي الركعتان بعد المغرب، وأسنده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال * ع *: كأنه روعي أدبار صلاة النهار، كما روعي أدبار النجوم في صلاة الليل، وقال ابن عباس أيضا، وابن زيد، ومجاهد: هي النوافل إثر الصلوات، وهذا جار مع لفظ الآية، وقرأ نافع، وابن كثير، وحمزة: «وإدبار» بكسر الهمزة، وهو مصدر، وقرأ الباقون بفتحها، وهو جمع دبر؛ كطنب وأطناب، أي: وفي أدبار السجود، أي: في أعقابه.
[50.41-45]
وقوله سبحانه: { واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب } واستمع بمنزلة: وانتظر، وكذا، أي: كن منتظرا له، مستمعا له، فعلى هذا فنصب «يوم» إنما هو على المفعول الصريح.
وقوله سبحانه: { من مكان قريب } قيل: وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن ملكا ينادي من السماء: أيتها الأجسام الهامدة، والعظام البالية، والرمم الذاهبة هلمي إلى الحشر والوقوف بين يدي الله عز وجل "
والصيحة: هي صيحة المنادي، والخروج: هو من القبور، ويومه هو يوم القيامة، ويوم الخروج في الدنيا: هو يوم العيد.
وقوله تعالى: { ذلك حشر علينا يسير }: معادل لقول الكفرة:
ذلك رجع بعيد
[ق:3].
وقوله سبحانه: { نحن أعلم بما يقولون } وعيد محض للكفرة.
وقوله سبحانه: { وما أنت عليهم بجبار } قال الطبري وغيره: معناه: وما أنت عليهم بمسلط، تجبرهم على الإيمان.
وقال قتادة: هو نهي من الله تعالى عن التجبر، والمعنى: وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت، وروى ابن عباس أن المؤمنين قالوا: يا رسول الله، لو خوفتنا! فنزلت: { فذكر بالقرءان من يخاف وعيد }.
[51 - سورة الذاريات]
[51.1-7]
قوله عز وجل: { والذريت ذروا... } الآية، أقسم الله عز وجل بهذه المخلوقات؛ تنبيها عليها، وتشريفا لها، ودلالة على الاعتبار فيها، حتى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله عز وجل، فقوله: { والذريت }: هي الرياح بإجماع و { ذروا } نصب على المصدر، و { فالحملت وقرا } قال علي: هي السحاب، وقال ابن عباس وغيره: هي السفن الموقورة بالناس وأمتعتهم، وقال جماعة من العلماء: هي أيضا مع هذا جميع الحيوان الحامل، وفي جميع ذلك معتبر، و { فالجريت يسرا } قال علي وغيره: هي السفن في البحر، وقال آخرون: هي السحاب، وقال آخرون: هي الكواكب؛ قال * ع *: واللفظ يقتضي جميع هذا، و { يسرا } نعت لمصدر محذوف، وصفات [المصادر المحذوفة تعود أحوالا]، و { يسرا } معناه: بسهولة و { فالمقسمت أمرا }: الملائكة، والأمر هنا: اسم جنس، فكأنه قال: والجماعات التي تقسم أمور الملكوت، من الأرزاق، والآجال، والخلق في الأرحام، وأمر الرياح والجبال، وغير ذلك؛ لأن كل هذا إنما هو بملائكة تخدمه، وأنث { فالمقسمت } من حيث أراد الجماعات، وهذا القسم واقع على قوله: { إنما توعدون لصدق... } الآية، و { توعدون } يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكون من الإيعاد، وهو أظهر، و { الدين }: الجزاء، وقال مجاهد: الحساب.
ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر، فقال: { والسماء ذات الحبك } والحبك: الطرائق التي هي على نظام في الأجرام، ويقال لما تراه من الطرائق في الماء والرمال إذا أصابته الريح: حبك، ويقال لتكسر الشعر: حبك، وكذلك في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائق في موضع تداخل الخيوط هي حبك ؛ وذلك لجودة خلقة السماء؛ ولذلك فسرها ابن عباس وغيره بذات الخلق الحسن وقال الحسن: حبكها كواكبها.
[51.8-12]
وقوله سبحانه: { إنكم لفى قول مختلف } يحتمل أن يكون خطابا لجميع الناس، أي: منكم مؤمن بمحمد، ومنكم مكذب له، وهو قول قتادة، ويحتمل أن يكون خطابا للكفرة فقط؛ لقول بعضهم: شاعر، وبعضهم: كاهن، وبعضهم: ساحر، إلى غير ذلك؛ وهذا قول ابن زيد.
و { يؤفك } معناه: يصرف، أي: يصرف من الكفار عن كتاب الله من صرف ممن غلبت عليه شقاوته، وعرف الاستعمال في «أفك» إنما هو في الصرف من خير إلى شر.
وقوله تعالى: { قتل الخراصون } دعاء عليهم؛ كما تقول: قاتلك الله، وقال بعض المفسرين. معناه: لعن الخراصون، وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ.
* ت *: والظاهر ما قاله هذا المفسر؛ قال عياض في «الشفا» وقد يقع القتل بمعنى اللعن؛ قال الله تعالى: { قتل الخراصون } و
قتلهم الله أنى يؤفكون
[المنافقون:4] أي: لعنهم الله، انتهى، وقد تقدم للشيخ عند قوله تعالى:
عليهم دائرة السوء
[الفتح:6] قال: كل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأن الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته، انتهى بلفظه، وظاهره مخالف لما هنا، وسيبينه في سورة البروج، والخراص: المخمن القائل بظنه، والإشارة إلى مكذبي النبي صلى الله عليه وسلم، والغمرة: ما يغشى الإنسان ويغطيه؛ كغمرة الماء، و { سهون } معناه: عن وجوه النظر.
وقوله تعالى: { يسئلون أيان يوم الدين } أي: يوم الجزاء، وذلك منهم على جهة الاستهزاء.
[51.13-17]
وقوله: { يوم هم على النار يفتنون } قال الزجاج: التقدير: هو كائن يوم هم على النار يفتنون، و { يفتنون } معناه: يحرقون ويعذبون في النار؛ قاله ابن عباس والناس، وفتنت الذهب أحرقته، و { ذوقوا فتنتكم } أي: حرقكم وعذابكم؛ قاله قتادة وغيره.
{ إن المتقين فى جنت وعيون... } الآية، روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به؛ حذرا لما به البأس "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى، وقوله سبحانه في المتقين: { ءاخذين ما ءاتهم ربهم } أي: محصلين ما أعطاهم ربهم سبحانه من جناته، ورضوانه، وأنواع كراماته { إنهم كانوا قبل ذلك }: يريد في الدنيا { محسنين }: بالطاعات] والعمل الصالح.
* ت *: وروى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرف له ما بين خوافق السموات والأرض، ولو أن رجلا من أهل الجنة اطلع، فبدا أساوره، لطمس ضوء الشمس؛ كما تطمس الشمس ضوء النجوم "
انتهى، ومعنى قوله: { كانوا قليلا من اليل ما يهجعون } أن نومهم كان قليلا؛ لاشتغالهم بالصلاة والعبادة، والهجوع: النوم، وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية: كابدوا قيام الليل، لا ينامون منه إلا قليلا، وأما إعراب الآية فقال الضحاك في كتاب الطبري: ما يقتضي أن المعنى: كانوا قليلا في عددهم، وتم خبر «كان» ، ثم ابتدأ { من اليل ما يهجعون } فما نافية و { قليلا } وقف حسن، وقال جمهور النحويين: ما مصدرية و { قليلا } خبر { كان } ، والمعنى: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيره، وهو الظاهر عندي أن المراد كان هجوعهم من الليل قليلا؛ قيل لبعض التابعين: مدح الله قوما { كانوا قليلا من اليل ما يهجعون } ونحن قليلا من الليل ما نقوم! فقال: رحم الله امرأ رقد إذا نعس، وأطاع ربه إذا استيقظ.
[51.18-21]
وقوله تعالى: { وبالأسحر هم يستغفرون } قال الحسن: معناه: يدعون في طلب المغفرة، ويروى أن أبواب الجنة تفتح سحر كل ليلة، قال ابن زيد: السحر: السدس الآخر من الليل، والباء في قوله { وبالأسحار } بمعنى في؛ قاله أبو البقاء، انتهى، ومن كلام [ابن] الجوزي في «المنتخب»: يا أخي، علامة المحبة طلب الخلوة بالحبيب، وبيداء الليل فلوات الخلوات، لما ستروا قيام الليل في ظلام الدجى؛ غيرة أن يطلع الغير عليهم سترهم سبحانه بستر ،
فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين
[السجدة:17]، لما صفت خلوات الدجى، ونادى أذان الوصال: أقم فلانا، وأنم فلانا خرجت بالأسماء الجرائد؛ وفاز الأحباب بالفوائد، وأنت غافل راقد. آه لو كنت معهم! أسفا لك! لو رأيتهم لأبصرت طلائع الصديقين في أول القوم، وشاهدت ساقة المستغفرين في الركب، وسمعت استغاثة المحبين في وسط الليل،، لو رأيتهم يا غافل، وقد دارت كؤوس المناجات؛ بين مزاهر التلاوات، فأسكرت قلب الواجد، ورقمت في مصاحف الوجنات. تعرفهم بسيماهم، يا طويل النوم، فاتتك مدحة
تتجافى
[السجدة:16] وحرمت منحة
والمستغفرين
[آل عمران:17]، يا هذا، إن لله تعالى ريحا تسمى الصبيحة مخزونة تحت العرش، تهب عند الأسحار، فتحمل الدعاء والأنين والاستغفار إلى حضرة العزيز الجبار، انتهى.
{ وفى أمولهم حق... } الآية، الصحيح أنها محكمة وأن هذا الحق هو على وجه الندب، و
معلوم
[المعارج:24] يراد به: متعارف، وكذلك قيام الليل الذي مدح به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفضيلة بفعل المندوبات، والمحروم هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه، فيناله حرمان وفاقة، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء، كما للسائل حق، وما وقع من ذكر الخلاف فيه فيرجع إلى هذا، وبعد هذا محذوف تقديره: فكونوا أيها الناس مثلهم وعلى طريقهم، و { فى الأرض ءايت }: لمن اعتبر وأيقن.
وقوله سبحانه: { وفى أنفسكم } إحالة على النظر في شخص الإنسان، وما فيه العبر، وأمر النفس، وحياتها، ونطقها، واتصال هذا الجزء منها بالعقل؛ قال ابن زيد: إنما القلب مضغة في جوف ابن آدم، جعل الله فيه العقل، أفيدري أحد ما ذلك العقل، وما صفته، وكيف هو.
* ت *: قال ابن العربي في رحلته: اعلم أن معرفة العبد نفسه من أولى ما عليه وآكده؛ إذ لا يعرف ربه إلا من عرف نفسه؛ قال تعالى: { وفى أنفسكم أفلا تبصرون } وغير ما آية في ذلك، ثم قال: ولا ينكر عاقل وجود الروح من نفسه، وإن كان لم يدرك حقيقته، كذلك لا يقدر أن ينكر وجود الباري سبحانه الذي دلت أفعاله عليه، وإن لم يدرك حقيقته، انتهى.
[51.22-23]
وقوله سبحانه: { وفى السماء رزقكم } قال مجاهد وغيره: هو المطر، وقال واصل الأحدب: أراد القضاء والقدر، أي: الرزق عند الله يأتي به كيف شاء سبحانه لا رب غيره، و { توعدون } يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكون من الوعيد؛ قال الضحاك. المراد: من الجنة والنار، وقال مجاهد: المراد: الخير والشر، وقال ابن سيرين: المراد: الساعة، ثم أقسم سبحانه بنفسه على صحة هذا القول والخبر، وشبهه في اليقين به بالنطق من الإنسان، وهو عنده في غاية الوضوح، و«ما» زائدة تعطي تأكيدا، والنطق في هذه الآية هو الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني، وروي أن بعض الأعراب الفصحاء سمع هذه الآية فقال: من أحوج الكريم إلى أن يحلف؟! والحكاية بتمامها في كتاب الثعلبي، وسبل الخيرات، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" قاتل الله قوما، أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه "
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لو فر أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت "
وأحاديث الرزق كثيرة، ومن كتاب «القصد إلى الله سبحانه» للمحاسبي: قال: قلت لشيخنا: من أين وقع الاضطراب في القلوب، وقد جاءها الضمان من الله عز وجل؟ قال: من وجهين.
أحدهما: قلة المعرفة بحسن الظن، وإلقاء التهم عن الله عز وجل.
والوجه الثاني: أن يعارضها خوف الفوت، فتستجيب النفس للداعي، ويضعف اليقين، ويعدم الصبر، فيظهر الجزع.
قلت: شيء غير هذا؟ قال: نعم، إن الله عز وجل وعد الأرزاق، وضمن، وغيب الأوقات؛ ليختبر أهل العقول، ولولا ذلك لكان كل المؤمنين راضين صابرين متوكلين، لكن الله عز وجل أعلمهم أنه رازقهم، وحلف لهم على ذلك، وغيب عنهم أوقات العطاء، فمن ها هنا عرف الخاص من العام، وتفاوت العباد في الصبر، والرضا، واليقين، والتوكل، والسكون، فمنهم كما علمت ساكن، ومنهم متحرك، ومنهم راض، ومنهم ساخط، ومنهم جزع، فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين، وعلى قدر ما تفاوتوا في اليقين تفاوتوا في السكون والرضا والصبر والتوكل. اه.
[51.24-36]
وقوله سبحانه: { هل أتاك حديث ضيف إبرهيم... } الآية، قد تقدم قصصها، و«عليم» أي: عالم، وهو إسحاق عليه السلام .
* ت *: ولنذكر هنا شيئا من الآثار في آداب الطعام، قال النووي: روى ابن السني بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في الطعام إذا قرب إليه:
" اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار، باسم الله "
انتهى، وفي «صحيح مسلم» عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم، ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه، قال أدركتم المبيت والعشاء "
، وفي «صحيح مسلم» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه "
الحديث، انتهى، والصرة: الصيحة؛ كذا فسره ابن عباس وجماعة، قال الطبري عن بعضهم: قالت: «أوه»؛ بصياح وتعجب؛ وقال النحاس: { فى صرة } في جماعة نسوة.
وقوله: { فصكت وجهها }: معناه: ضربت وجهها؛ استهوالا لما سمعت، وقال سفيان وغيره: ضربت بكفها جبهتها، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن، وقولهم: { كذلك قال ربك } أي: كقولنا الذي أخبرناك.
وقوله تعالى: { حجارة من طين } بيان يخرج عن معتاد حجارة البرد التي هي من ماء، ويروى أنه طين طبخ في نار جهنم حتى صار حجارة كالآجر، و { مسومة } نعت لحجارة، ثم أخبر تعالى أنه أخرج بأمره من كان في قرية «لوط» من المؤمنين، منجيا لهم، وأعاد الضمير على القرية، وإن لم يجر لها قبل ذلك ذكر؛ لشهرة أمرها، قال المفسرون: لا فرق بين تقدم ذكر المؤمنين وتأخره؛ وإنما هما وصفان ذكرهم أولا بأحدهما، ثم آخرا بالثاني، قيل: فالآية دالة على أن الإيمان هو الإسلام، قال * ع *: ويظهر لي أن في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان؛ وذلك أنه ذكره مع الإخراج من القرية، كأنه يقول: نفذ أمرنا بإخراج كل مؤمن، ولا يشترط فيه أن يكون عاملا بالطاعات؛ بل التصديق بالله فقط، ثم لما ذكر حال الموجودين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها، وهي الكاملة التصديق والأعمال، والبيت من المسلمين هو بيت لوط عليه السلام وكان هو وابنتاه، وفي كتاب الثعلبي: وقيل: لوط وأهل بيته ثلاثة عشر، وهلكت امرأته فيمن هلك، وهذه القصة ذكرت على جهة ضرب المثل لقريش، وتحذيرا أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء.
[51.37-44]
وقوله: { وتركنا فيها } أي: في القرية، وهي سدوم { ءاية } ، قال أبو حيان: { وفى موسى } ، أي: وفي قصة موسى، [انتهى].
وقوله سبحانه في فرعون: { فتولى بركنه } أي: أعرض عن أمر الله، وركنه: هو سلطانه وجنده وشدة أمره، وقول فرعون في موسى: { سحر أو مجنون } هو تقسيم، ظن أن موسى لا بد أن يكون أحد هذين القسمين، وقال أبو عبيدة: «أو» هنا بمعنى الواو، وهذا ضعيف لا داعية إليه في هذا الموضع.
وقوله: { ما تذر من شىء أتت عليه } أي: ما تدع من شيء أتت عليه مما أذن لها في إهلاكه { إلا جعلته كالرميم }: وهو الفاني المتقطع؛ يبسا أو قدما من الأشجار والورق والعظام، وروي في حديث: أن تلك الريح كانت تهب على الناس فيهم العادي وغيره، فتنتزع العادي من بين الناس وتذهب به.
وقوله سبحانه: { وفى ثمود إذ قيل لهم تمتعوا } أي: إذ قيل لهم في أول بعث صالح، وهذا قول الحسن، ويحتمل: إذ قيل لهم بعد عقر الناقة: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام؛ وهو قول الفراء.
وقوله: { فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون } أي: يبصرون بعيونهم، وهذا قول الطبري، ويحتمل أن يريد وهم ينتظرون في تلك الأيام الثلاثة، وهذا قول مجاهد.
[51.45-48]
{ فما استطعوا من قيام } أي: من مصارعهم؛ قاله بعض المفسرين، وقال قتادة وغيره: معناه من قيام بالأمر النازل بهم ولا دفعه عنهم.
{ وقوم نوح } بالنصب، وهو عطف إما على الضمير في قوله: { فأخذتهم } ، إذ هو بمنزلة أهلكتهم، وإما على الضمير في قوله: { فنبذنهم }.
وقوله: { والسماء بنينها } نصب بإضمار فعل تقديره: وبنينا السماء بنيناها، والأيد: القوة؛ قاله ابن عباس وغيره { وإنا لموسعون } أي: في بناء السماء، أي: جعلناها واسعة؛ قاله ابن زيد.
أبو البقاء { فنعم المهدون } أي: نحن، فحذف المخصوص انتهى.
[51.49-55]
وقوله سبحانه: { ومن كل شىء خلقنا زوجين } قال مجاهد: معناه: أن هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء؛ كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والسماء والأرض، والسواد والبياض، والصحة والمرض، والإيمان والكفر، ونحو هذا، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين، وقال ابن زيد وغيره: هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كل حيوان.
* ت *: والأول أحسن؛ لشموله لما ذكره ابن زيد.
وقوله سبحانه: { ففروا إلى الله... } الآية أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الرحمن، ونبه بلفظ الفرار على أن وراء الناس عقابا وعذابا يفر منه، فجمعت لفظة «فروا» بين التحذير والاستدعاء.
* ت *: وأسند أبو بكر، أحمد بن الحسين البيهقي في «دلائل النبوة» (تصنيفه) عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد، فسمع كلاما من زاويته، وإذا هو بقائل يقول: اللهم، أعني على ما ينجيني مما خوفتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك: ألا تضم إليها أختها؟ فقال الرجل: اللهم، ارزقني شوق الصادقين إلى ما شوقتهم إليه "
وفيه:
" فذهبوا ينظرون، فإذا هو الخضر عليه السلام "
، انتهى مختصرا.
وقوله تعالى: { كذلك } أي: سيرة الأمم كذلك؛ قال عياض: فهذه الآية ونظائرها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، عزاه الله عز وجل بما أخبر به عن الأمم السالفة ومقالها لأنبيائها، وأنه ليس أول من لقي ذلك، انتهى من «الشفا».
وقوله سبحانه: { أتواصوا به } توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء على تفرق أزمانهم، أي: لم يتواصوا، لكنهم فعلوا فعلا كأنه فعل من تواصى، والعلة في ذلك أن جميعهم طاغ، والطاغي المستعلي في الأرض، المفسد.
وقوله تعالى: { فتول عنهم } أي: عن الحرص المفرط عليهم، وذهاب النفس حسرات، ولست بملوم؛ إذ قد بلغت { وذكر فإن الذكرى }: نافعة للمؤمنين، ولمن قضي له أن يكون منهم.
[51.56-60]
وقوله سبحانه: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال ابن عباس وعلي: المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبودية، وقال زيد بن أسلم وسفيان: هذا خاص، والمراد: ما خلقت الطائعين من الجن والإنس إلا لعبادتي، ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قرأ:
" وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون "
، وقال ابن عباس أيضا: معنى { ليعبدون }: ليتذللوا لي ولقدرتي، وإن لم يكن ذلك على قوانين شرع، وعلى هذا التأويل فجميعهم من مؤمن وكافر متذلل لله عز وجل؛ ألا تراهم عند القحوط والأمراض وغير ذلك كيف يخضعون لله ويتذللون؟!.
* ت *: قال الفخر: فإن قيل: ما العبادة التي خلق الله الجن والإنس لها؟ قلنا: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله؛ فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما، وأما خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها: بالوضع والهيئة، والقلة والكثرة، والزمان والمكان، والشرائط والأركان، انتهى، ونقل الثعلبي وغيره عن مجاهد: { إلا ليعبدون } أي: ليعرفوني، قال صاحب «الكلم الفارقية»: المعرفة بالله تملأ القلب مهابة ومخافة، والعين عبرة وعبرة وحياء وخجلة، والصدر خشوعا وحرمة، والجوارح استكانة وذلة وطاعة وخدمة، واللسان ذكرا وحمدا، والسمع إصغاء وتفهما، والخواطر في مواقف المناجات خمودا، والوساوس اضمحلالا، انتهى.
وقوله سبحانه: { ما أريد منهم من رزق } أي: أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.
وقوله: { أن يطعمون } أي: أن يطعموا خلقي؛ قاله ابن عباس، ويحتمل أن يريد: أن ينفعوني، و { المتين }: الشديد.
* ت *: وروينا في«كتاب الترمذي» عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله عز وجل يقول: يا بن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يدك شغلا، ولم أسد فقرك "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وروينا فيه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له "
انتهى.
وقوله سبحانه: { فإن للذين ظلموا }: يريد أهل مكة، والذنوب: الحظ والنصيب، وأصله من الدلو؛ وذلك أن الذنوب هو ملء الدلو من الماء، وكذا قال أبو حيان: { ذنوب } ، أي: نصيبا، انتهى و { أصحبهم }: يراد بهم من تقدم من الأمم المعذبة، وباقي الآية وعيد بين.
[52 - سورة الطور]
[52.1-16]
قوله عز وجل: { والطور * وكتب مسطور... } الآية، هذه مخلوقات أقسم الله عز وجل بها؛ تنبيها على النظر والاعتبار بها، المؤدي إلى توحيد الله والمعرفة بواجب حقه سبحانه؛ قال بعض اللغويين: كل جبل طور، فكأنه سبحانه أقسم بالجبال، وقال آخرون: الطور: كل جبل أجرد لا ينبت شجرا، وقال نوف البكالي: المراد هنا جبل طور سيناء، وهو الذي أقسم الله به؛ لفضله على الجبال، والكتاب المسطور: معناه بإجماع: المكتوب أسطارا، واختلف الناس في هذا الكتاب المقسم به، فقال بعض المفسرين: هو الكتاب المنتسخ من اللوح المحفوظ للملائكة؛ لتعرف منه جميع ما تفعله وتصرفه في العالم، وقيل: هو القرآن؛ إذ قد علم تعالى أنه يتخلد في رق منشور، وقيل: هو الكتب المنزلة، وقيل: هو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وهو الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، والرق: الورق المعدة للكتب، وهي مرققة؛ فلذلك سميت رقا، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان، والمنشور خلاف المطوي، { والبيت المعمور }: هو الذي ذكر في حديث الإسراء؛ قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم، وبهذا هي عمارته، وهو في السماء السابعة، وقيل: في السادسة، وقيل: إنه مقابل للكعبة، لو وقع حجر منه، لوقع على ظهر الكعبة، وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك، وهي كلها على خط من الكعبة، وقاله علي بن أبي طالب، قال السهيلي: والبيت المعمور اسمه «عريبا»، قال وهب بن منبه: من قال: سبحان الله وبحمده، كان له نور يملأ ما بين عريبا وحريبا، وهي الأرض السابعة، انتهى.
{ والسقف المرفوع }: هو السماء، واختلف الناس في { والبحر المسجور } فقال مجاهد وغيره: الموقد نارا، وروي أن البحر هو جهنم، وقال قتادة: { المسجور }: المملوء، وهذا معروف من اللغة، ورجحه الطبري، وقال ابن عباس: هو الذي ذهب ماؤه، فالمسجور الفارغ، وروي أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة، وهذا معروف في اللغة، فهو من الأضداد، وقيل: يوقد البحر نارا يوم القيامة، فذلك سجره، وقال ابن عباس أيضا: { المسجور }: المحبوس؛ ومنه ساجور الكلب، وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه، وكذلك لولا أن البحر يمسك لفاض على الأرض، والجمهور على أنه بحر الدنيا، وقال منذر بن سعيد: المقسم به جهنم، وسماها بحرا؛ لسعتها وتموجها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الفرس:
" وإن وجدناه لبحرا "
، والقسم واقع على قوله: { إن عذاب ربك لواقع } يريد: عذاب الآخرة واقع للكافرين؛ قاله قتادة، قال الشيخ عبد الحق في «العاقبة»: ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع قارئا يقرأ: { والطور * وكتب مسطور } قال: هذا قسم حق، فلما بلغ القارىء إلى قوله عز وجل : { إن عذاب ربك لواقع } ظن أن العذاب قد وقع به فغشي عليه، انتهى، و { تمور } معناه: تذهب وتجيء بالرياح متقطعة متفتتة، وسير الجبال: هو في أول الأمر، ثم تتفتت حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش، و { يدعون } قال ابن عباس وغيره: معناه: يدفعون في أعناقهم بشدة وإهانة وتعتعة، ومنه:
يدع اليتيم
[الماعون:2]، وفي الكلام محذوف، تقديره: يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون؛ توبيخا وتقريعا لهم، ثم وقفهم سبحانه بقوله: { أفسحر هذا.. } الآية: ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم: اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم، أي: عذابكم حتم، فسواء جزعكم وصبركم، لا بد من جزاء أعمالكم.
[52.17-20]
وقوله سبحانه: { إن المتقين فى جنت ونعيم... } الآية: يحتمل أن يكون من خطاب أهل النار، فيكون إخبارهم بذلك زيادة في غمهم وسوء حالهم، نعوذ بالله من سخطه! ويحتمل، وهو الأظهر، أن يكون إخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاصريه، لما فرغ من ذكر عذاب الكفار عقب بذكر نعيم المتقين جعلنا الله منهم بفضله ليبين الفرق، ويقع التحريض على الإيمان، والمتقون هنا: متقو الشرك؛ لأنهم لا بد من مصيرهم إلى الجنات، وكلما زادت الدرجة في التقوى قوي الحصول في حكم الآية، حتى إن المتقين على الإطلاق هم في هذه الآية قطعا على الله تعالى بحكم خبره الصادق، وقرأ جمهور الناس: «فاكهين» ومعناه: فرحين مسرورين، وقال أبو عبيدة: هو من باب: «لابن» و«تامر»، أي: لهم فاكهة، قال * ع *: والمعنى الأول أبرع، وقرأ خالد فيما روى أبو حاتم: «فكهين» والفكه والفاكه: المسرور المتنعم.
وقوله تعالى: { بما ءاتهم ربهم } أي: من إنعامه ورضاه عنهم.
وقوله تعالى: { ووقهم ربهم عذاب الجحيم } هذا متمكن في متقي المعاصي، الذي لا يدخل النار { ووقهم } مشتق من الوقاية، وهي الحائل بين الشيء وبين ما يضره.
وقوله: { كلوا واشربوا } أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، و { هنيئا } نصب على المصدر.
وقوله: { بما كنتم تعملون } معناه: أن رتب الجنة ونعيمها بحسب الأعمال، وأما نفس دخولها فهو برحمة الله وفضله، وأعمال العباد الصالحات لا توجب على الله تعالى التنعيم إيجابا؛ لكنه سبحانه قد جعلها أمارة على من سبق في علمه تنعيمه، وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال، والحور: جمع حوراء، وهي البيضاء القوية بياض بياض العين وسواد سوادها، والعين: جمع عيناء، وهي كبيرة العينين مع جمالهما، وفي قراءة ابن مسعود والنخعي: «وزوجناهم بعيس عين» قال أبو الفتح: العيساء: البيضاء.
[52.21-28]
وقوله سبحانه: { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } اختلف في معنى الآية، فقال ابن عباس، وابن جبير، والجمهور: أخبر الله تعالى أن المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحق الأبناء في الجنة بمراتب الآباء، وإن لم يكن الأبناء في التقوى والأعمال كالآباء؛ كرامة للآباء، وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا الحديث تفسيرا للآية، وكذلك وردت أحاديث تقتضي أن الله تعالى يرحم الآباء؛ رعيا للأبناء الصالحين، وقال ابن عباس أيضا والضحاك. معنى الآية: أن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين، يعني في الموارثة والدفن في مقابر المسلمين، وفي أحكام الآخرة في الجنة، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار لا في الكبار؛ قال * ع *: وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول؛ لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة، فذكر من جملة إحسانه سبحانه أنه يرعى المحسن في المسيء، ولفظة { ألحقنا } تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال.
* ت *: وأظهر من هذا ما أشار إليه الثعلبي في بعض أنقاله: أن الله تعالى يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة، كما كانوا في الدنيا، انتهى، ولم يتعرض لذكر الدرجات في هذا التأويل، وهو أحسن؛ لأنه قد تقرر أن رفع الدرجات هي بأعمال العاملين، والآيات والأحاديث مصرحة بذلك، ولما يلزم على التأويل الأول أن يكون كل من دخل الجنة مع آدم عليه السلام في درجة واحدة؛ إذ هم كلهم ذريته، وقد فتحت لك بابا للبحث في هذا المعنى منعني من إتمامه ما قصدته من الاختصار، وبالله التوفيق.
وقوله: { وما ألتنهم } أي: نقصناهم، ومعنى الآية أن الله سبحانه يلحق الأبناء بالآباء، ولا ينقص الآباء من أجورهم شيئا، وهذا تأويل الجمهور، ويحتمل أن يريد: من عمل الأبناء من شيء من حسن أو قبيح، وهذا تأويل ابن زيد، ويؤيده قوله سبحانه: { كل امرىء بما كسب رهين } والرهين: المرتهن، وفي هذه الألفاظ وعيد، وأمددت الشيء: إذا سربت إليه شيئا آخر يكثره أو يكثر لديه.
وقوله: { مما يشتهون } إشارة إلى ما روي من أن المنعم إذا اشتهى لحما نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها، وليس يكون في الجنة لحم يحتز، ولا يتكلف فيه الذبح، والسلخ، والطبخ، وبالجملة لا كلفة في الجنة، و { يتنزعون } معناه: يتعاطون؛ ومنه قول الأخطل: [البسيط]
نازعته طيب الراح الشمول وقد
صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
قال الفخر: ويحتمل أن يقال: التنازع: التجاذب، وحينئذ يكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة، لا تجاذب منازعة، وفيه نوع لذة، وهو بيان لما عليه حال الشراب في الدنيا؛ فإنهم يتفاخرون بكثرة الشرب، ولا يتفاخرون بكثرة الأكل، انتهى، والكأس: الإناء فيه الشراب، ولا يقال في فارغ كأس؛ قاله الزجاج، واللغو: السقط من القول، والتأثيم: يلحق خمر الدنيا في نفس شربها وفي الأفعال التي تكون من شاربيها، وذلك كله منتف في الآخرة.
* ت *: قال الثعلبي: وقال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس: محله جنة عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم تحية من عند الله، والقوم أضياف الله.
{ ولا تأثيم } أي: فعل يؤثمهم، وهو تفعيل من الإثم، أي: لا يأثمون في شربها، انتهى واللؤلؤ المكنون أجمل اللؤلؤ؛ لأن الصون والكن يحسنه، قال ابن جبير: أراد الذي في الصدف لم تنله الأيدي، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم:
" إذا كان الغلمان كاللؤلؤ المكنون فكيف المخدومون؟ قال: هم كالقمر ليلة البدر ".
* ت *: وهذا تقريب للأفهام، وإلا فجمال أهل الجنة أعظم من هذا، يدل على ذلك أحاديث صحيحة؛ ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أول زمرة يدخلون الجنة - وفي رواية: «من أمتي» على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة "
، وفي رواية:
" ثم هم بعد ذلك منازل "
الحديث، وفي «صحيح مسلم» أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، ويزدادون حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله، لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا! فيقولون: وأنتم والله، لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا "
، انتهى، وقد أشار الغزالي وغيره إلى طرف من هذا المعنى، لما تكلم على رؤية العارفين لله سبحانه في الآخرة، قال بعد كلام: ولا يبعد أن تكون ألطاف الكشف والنظر في الآخرة متوالية إلى غير نهاية، فلا يزال النعيم واللذة متزايدا أبد الآباد، وللشيخ أبي الحسن الشاذلي هنا كلام حسن قال: لو كشف عن نور المؤمن لعبد من دون الله، ولو كشف عن نور المؤمن العاصي لطبق السماء والأرض، فكيف بنور المؤمن المطيع؟! نقل كلامه هذا ابن عطاء الله وابن عباد، انظره.
ثم وصف تعالى عنهم أنهم في جملة تنعمهم { يتساءلون } أي: عن أحوالهم وما نال كل واحد منهم، وأنهم يتذكرون حال الدنيا وخشيتهم عذاب الآخرة، والإشفاق أشد الخشية ورقة القلب، { السموم }: الحار، و { ندعوه }: يحتمل أن يريد: الدعاء على بابه، ويحتمل أن يريد نعبده، وقرأ نافع والكسائي: «أنه» بفتح الهمزة ، والباقون بكسرها و { البر } الذي يبر ويحسن.
[52.29-34]
وقوله سبحانه: { فذكر } أمر لنبيه عليه السلام بإدامة الدعاء إلى الله عز وجل، ثم قال مؤنسا له: { فما أنت }: بإنعام الله عليك ولطفه بك كاهن ولا مجنون.
وقوله سبحانه: { أم يقولون } أي: بل { يقولون شاعر... } الآية: روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة، فكثرت آراؤهم في النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال قائل منهم: تربصوا به ريب المنون، أي: حوادث الدهر، فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء: زهير، والنابغة، والأعشى، وغيرهم، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك، والتربص: الانتظار، والمنون: من أسماء الموت، وبه فسر ابن عباس، وهو أيضا من أسماء الدهر، وبه فسر مجاهد، والريب هنا: الحوادث والمصائب: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها "
الحديث.
وقوله: { قل تربصوا } وعيد في صيغة أمر.
وقوله سبحانه: { أم تأمرهم أحلمهم بهذا } الأحلام: العقول، وقوله: { بهذا } يحتمل أن يشير إلى هذه المقالة: هو شاعر، ويحتمل أن يشير إلى ما هم عليه من الكفر وعبادة الأصنام، و { تقوله } معناه: قال عن الغير أنه قاله، فهي عبارة عن كذب مخصوص، ثم عجزهم سبحانه بقوله: { فليأتوا بحديث مثله } والضمير في { مثله } عائد على القرآن.
وقوله: { إن كانوا صدقين }
* ت *: أي: في أن محمدا تقوله؛ قاله الثعلبي.
[52.35-36]
وقوله سبحانه: { أم خلقوا من غير شىء } قال الثعلبي: قال ابن عباس: من غير أب ولا أم، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا تقوم لله عليهم حجة، أليسوا خلقوا من نطفة وعلقة، وقال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا، وتركوا سدى من غير شيء، أي: لغير شيء لا يؤمرون ولا ينهون { أم هم الخلقون }: لأنفسهم، فلا يأتمرون لأمر الله، انتهى، وعبر * ع *: عن هذا بأن قال: وقال آخرون : معناه: أم خلقوا لغير علة ولا لغاية عقاب وثواب؛ فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون.
* ت *: وقد يحتمل أن يكون المعنى: أم خلقوا من غير شيء خلقهم، أي: من غير موجد أوجدهم، ويدل عليه مقابلته بقوله: { أم هم الخلقون } وهكذا قال الغزالي في «الإحياء»، قال: وقوله عز وجل: { أم خلقوا من غير شىء } أي: من غير خالق، انتهى بلفظه من كتاب «آداب التلاوة» قال الغزالي: ولا يتوهم أن الآية تدل أنه لا يخلق شيء إلا من شيء! انتهى، وقال الفخر: قوله تعالى: { من غير شىء } فيه وجوه، المنقول منها: أم خلقوا من غير خالق، [وقيل: أم خلقوا لا لغير شيء عبثا]، وقيل: أم خلقوا من غير أب وأم، انتهى، وأحسنها الأول؛ كما قال الغزالي، والله أعلم بما أراد سبحانه، وفي الصحيح عن جبير بن مطعم قال:
" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: { أم خلقوا من غير شىء أم هم الخلقون } إلى قوله: { المصيطرون } كاد قلبي أن يطير "
، وفي رواية:
" وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي "
انتهى، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في تاريخه عن جبير بن مطعم قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أهل بدر، فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، فكأنما تصدع قلبي حين سمعت القرآن» انتهى.
[52.37-43]
وقوله سبحانه: { أم عندهم خزائن ربك } بمنزلة قوله: أم عندهم الاستغناء في جميع الأمور؟ والمصيطر: القاهر، وبذلك فسر ابن عباس الآية، والسلم: السبب الذي يصعد به، كان ما كان من خشب، أو بناء، أو حبال، أو غير ذلك، والمعنى: ألهم سلم إلى السماء يستمعون فيه، أي: عليه أو منه، وهذه حروف يسد بعضها مسد بعض، والمعنى: يستمعون الخبر بصحة ما يدعونه، فليأتوا بالحجة المبينة في ذلك.
وقوله سبحانه: { أم عندهم الغيب } الآية، قال ابن عباس: يعني أم عندهم اللوح المحفوظ، { فهم يكتبون }: ما فيه، ويخبرون به، ثم قال: { أم يريدون كيدا }: بك وبالشرع، ثم جزم الخبر بأنهم { هم المكيدون } أي : هم المغلوبون، فسمى غلبتهم كيدا؛ إذ كانت عقوبة الكيد، ثم قال سبحانه: { أم لهم إله غير الله }: يعصمهم ويمنعهم من الهلاك، قال الثعلبي: قال الخليل: ما في سورة الطور كلها من ذكر «أم» كله استفهام لهم، انتهى.
ثم نزه تعالى نفسه: { عما يشركون } به.
[52.44-49]
وقوله: { وإن يروا كسفا } أي: قطعة يقولون لشدة معاندتهم هذا { سحب مركوم }: بعضه على بعض، وهذا جواب لقولهم:
فأسقط علينا كسفا من السماء
[الشعراء:187] وقولهم:
أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا
[الإسراء:92] يقول: لو فعلنا هذا بهم لما آمنوا، ولقالوا: سحاب مركوم.
وقوله تعالى: { فذرهم } ، وما جرى مجراه من الموادعة منسوخ بآية السيف، والجمهور أن يومهم الذي فيه يصعقون، هو يوم القيامة، وقيل: هو موتهم واحدا واحدا، ويحتمل أن يكون يوم بدر؛ هو لأنهم عذبوا فيه، والصعق: التعذيب في الجملة، وإن كان الاستعمال قد كثر فيما يصيب الإنسان من الصيحة المفرطة ونحوه، ثم أخبر تعالى بأن لهم دون هذا اليوم، أي: قبله { عذابا } واختلف في تعيينه، فقال ابن عباس وغيره: هو بدر ونحوه، وقال مجاهد: هو الجوع الذي أصابهم، وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضا: هو عذاب القبر، وقال ابن زيد: هي مصائب الدنيا، إذ هي لهم عذاب.
* ت *: ويحتمل أن يكون المراد الجميع؛ قال الفخر: إن قلنا إن العذاب هو بدر فالذين ظلموا هم أهل مكة، وإن قلنا: العذاب هو عذاب القبر، فالذين ظلموا عام في كل ظالم، انتهى.
ثم قال تعالى لنبيه: { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } أي: بمرأى ومنظر، نرى ونسمع ما تقول، وأنك في حفظنا وحيطتنا؛ كما تقول: فلان يرعاه الملك بعين، وهذه الآية ينبغي أن يقررها كل مؤمن في نفسه؛ فإنها تفسح مضايق الدنيا.
وقوله سبحانه: { وسبح بحمد ربك } قال أبو الأحوص: هو التسبيح المعروف، يقول في كل قيام: سبحان الله وبحمده، وقال عطاء: المعنى حين تقوم من كل مجلس.
* ت *: وفي تفسير أحمد بن نصر الداوودي قال: وعن ابن المسيب قال: حق على كل مسلم أن يقول حين يقوم إلى الصلاة: سبحان الله وبحمده؛ لقول الله سبحانه لنبيه { وسبح بحمد ربك حين تقوم } ، انتهى، وقال ابن زيد: هي صلاة النوافل، وقال الضحاك: هي الصلوات المفروضة، ومن قال هي النوافل جعل أدبار النجوم ركعتي الفجر، وعلى هذا القول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وقد روي مرفوعا، ومن جعله التسبيح المعروف جعل قوله: { حين تقوم } مثالا، أي: حين تقوم وحين تقعد، وفي كل تصرفك، وحكى منذر عن الضحاك أن المعنى: حين تقوم في الصلاة [بعد] تكبيرة الإحرام، فقل:
" سبحانك اللهم، وبحمدك، وتبارك اسمك "
الحديث.
[53 - سورة النجم]
[53.1-3]
قوله عز وجل: { والنجم إذا هوى * ما ضل صحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى } الآية، قال الحسن وغيره: النجم المقسم به هنا: اسم جنس، أراد به النجوم، ثم اختلفوا في معنى { هوى } فقال جمهور المفسرين: هوى للغروب، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي: هوى في الانقضاض في إثر العفريت عند استراق السمع، وقال مجاهد وسفيان: النجم في قسم الآية: الثريا، وسقوطها مع الفجر هو هويها، والعرب لا تقول: النجم مطلقا إلا للثريا، والقسم واقع على قوله: { ما ضل صحبكم وما غوى }.
* ص *: { إذا هوى } أبو البقاء: العامل في الظرف فعل القسم المحذوف، أي: أقسم بالنجم وقت هويه، وجواب القسم: { ما ضل } ، انتهى، قال الفخر: أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الغي والضلال، وبينهما فرق؛ فالغي: في مقابلة الرشد، والضلال أعم منه، انتهى. { وما ينطق عن الهوى }: يريد محمدا صلى الله عليه وسلم أنه لا يتكلم عن هواه، أي: بهواه وشهوته، وقال بعض العلماء: وما ينطق القرآن المنزل عن هوى.
* ت *: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية كما ترى.
[53.4-10]
وقوله: { إن هو إلا وحى يوحى } يراد به القرآن بإجماع.
* ت *: وليس هذا الإجماع بصحيح، ولفظ الثعلبي { إن هو إلا وحى } أي: ما نطقه في الدين إلا بوحي، انتهى، وهو أحسن إن شاء الله، قال الفخر: الوحي اسم، ومعناه: الكتاب، أو مصدر وله معان: منها الإرسال، والإلهام، والكتابة ، والكلام، والإشارة، فإن قلنا: هو ضمير القرآن فالوحي اسم معناه الكتاب، ويحتمل أن يقال: مصدر، أي: ما القرآن إلا إرسال، أي: مرسل، وإن قلنا: المراد من قوله: { إن هو إلا وحى } قول محمد وكلامه فالوحي حينئذ هو الإلهام، أي: كلامه ملهم من الله أو مرسل، انتهى، والضمير في { علمه } لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعلم هو جبريل عليه السلام قاله ابن عباس وغيره، أي: علم محمدا القرآن، و { ذو مرة } معناه: ذو قوة؛ قاله قتادة وغيره؛ ومنه قوله عليه السلام :
" لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة، سوى "
وأصل المرة من مرائر الحبل، وهي فتله وإحكام عمله.
وقوله: { فاستوى } قال الربيع والزجاج، المعنى: فاستوى جبريل في الجو، وهو إذ ذاك بالأفق الأعلى؛ إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء، قد سد الأفق، له ستمائة جناح، وحينئذ دنا من محمد عليه السلام حتى كان قاب قوسين، وكذلك رآه نزلة أخرى في صفته العظيمة، له ستمائة جناح عند السدرة.
وقوله: { ثم دنا فتدلى } قال الجمهور: المعنى: دنا جبريل إلى محمد في الأرض عند حراء، وهذا هو الصحيح أن جميع ما في هذه الآيات من الأوصاف هو مع جبريل، و { دنا } أعم من { تدلى } فبين تعالى بقوله: { فتدلى } هيئة الدنو كيف كانت، و { قاب }: معناه: قدر، قال قتادة وغيره: معناه: من طرف العود إلى طرفه الآخر، وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض.
وقوله: { أو أدنى } معناه: على مقتضى نظر البشر، أي: لو رآه أحدكم لقال في ذلك: قوسان أو أدنى من ذلك، وقيل: المراد بقوسين، أي: قدر الذراعين، وعن ابن عباس: أن القوس في الآية ذراع يقاس به، وذكر الثعلبي أنها لغة بعض الحجازيين.
وقوله تعالى: { فأوحى إلى عبده ما أوحى } قال ابن عباس: المعنى: فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى، وفي قوله: { ما أوحى } إبهام على جهة التفخيم والتعظيم؛ قال عياض: ولما كان ما كاشفه عليه السلام من ذلك الجبروت، وشاهده من عجائب الملكوت، لا تحيط به العبارات، ولا تستقل بحمل سماع أدناه العقول رمز عنه تعالى بالإيماء والكناية الدالة على التعظيم، فقال تعالى: { فأوحى إلى عبده ما أوحى } وهذا النوع من الكلام يسميه أهل النقد والبلاغة بالوحي والإشارة، وهو عندهم أبلغ أبواب الإيجاز، انتهى.
[53.11-15]
وقوله سبحانه: { ما كذب الفؤاد ما رأى } المعنى: لم يكذب قلب محمد الشيء الذي رأى، بل صدقه وتحققه نظرا؛ قال أهل التأويل منهم ابن عباس وغيره: رأى محمد الله بفؤاده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" جعل الله نور بصري في فؤادي، فنظرت إليه بفؤادي "
، وقال آخرون من المتأولين: المعنى: ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه، بل صدقه وتحققه، وقال ابن عباس فيما روي عنه: إن محمدا رأى ربه بعيني رأسه، وأنكرت ذلك عائشة، وقالت: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات فقال لي: «هو جبريل فيها كلها» قال * ع *: وهذا قول الجمهور، وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بكل تأويل في اللفظ؛ لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن.
وقوله سبحانه: { أفتمرونه على ما يرى } قرأ حمزة والكسائي «أفتمرونه» بفتح التاء دون ألف ، أي: أفتجحدونه.
* ت *: قال الثعلبي: واختار هذه القراءة أبو عبيد: قال إنهم لا يمارونه، وإنما جحدوه، واختلف في الضمير في قوله: { ولقد رءاه } حسبما تقدم، فقالت عائشة والجمهور: هو عائد على جبريل، و { نزلة } معناه: مرة أخرى، فجمهور العلماء أن المرئي هو جبريل عليه السلام في المرتين، مرة في الأرض بحراء، ومرة عند سدرة المنتهى ليلة الإسراء، ورآه على صورته التي خلق عليها، وسدرة المنتهى هي: شجرة نبق في السماء السابعة، وقيل لها: سدرة المنتهى؛ لأنها إليها ينتهي علم كل عالم، ولا يعلم ما وراءها صعدا إلا الله عز وجل، وقيل: سميت بذلك لأنها إليها ينتهي من مات على سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال * ع *: وهم المؤمنون حقا من كل جيل.
وقوله سبحانه: { عندها جنة المأوى } قال الجمهور: أراد سبحانه أن يعظم مكان السدرة، ويشرفه بأن جنة المأوى عندها، قال الحسن: هي الجنة التي وعد بها المؤمنون.
[53.16-25]
وقوله سبحانه: { إذ يغشى السدرة ما يغشى } أي: غشيها من أمر الله ما غشيها، فما يستطيع أحد أن يصفها، وقد ذكر المفسرون في وصفها أقوالا هي تكلف في الآية؛ لأن الله تعالى أبهم ذلك، وهم يريدون شرحه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" فغشيها ألوان لا أدري ما هي ".
وقوله تعالى: { ما زاغ البصر } قال ابن عباس: معناه: ما جال هكذا ولا هكذا.
وقوله: { وما طغى } معناه: ولا تجاوز المرئي، وهذا تحقيق للأمر، ونفي لوجوه الريب عنه.
وقوله: { لقد رأى من ءايت ربه الكبرى } قال جماعة: معناه: لقد رأى الكبرى من آيات ربه، أي: مما يمكن أن يراها البشر، وقال آخرون: المعنى: لقد رأى بعضا من آيات ربه الكبرى، وقال ابن عباس وابن مسعود: رأى رفرفا أخضر من الجنة، قد سد الأفق.
* ت *: وزاد الثعلبي: وقيل: المعراج، وما رأى في تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه؛ دليله قوله تعالى:
لنريه من ءايتنا
[الإسراء:1]، الآية، قال عياض: وقوله تعالى: { لقد رأى من ءايت ربه الكبرى } انحصرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى، وتاهت الأحلام في تعيين تلك الآيات الكبرى، وقد اشتملت هذه الآيات على إعلام الله بتزكية جملته عليه السلام وعصمتها من الآفات في هذا المسرى، فزكى فؤاده ولسانه وجوارحه؛ فقلبه بقوله تعالى:
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم:11]، ولسانه عليه السلام بقوله تعالى:
وما ينطق عن الهوى
[النجم:3]، وبصره بقوله تعالى: { ما زاغ البصر وما طغى } اه.
ولما فرغ من ذكر عظمة الله وقدرته قال على جهة التوقيف: { أفرءيتم اللت والعزى... } الآية، أي: أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات العلية، واللات: صنم كانت العرب تعظمه، والعزى: صخرة بيضاء كانت العرب أيضا تعبدها، وأما مناة: فكانت بالمشلل من قديد، وكانت أعظم هذه الأوثان عندهم، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ووقف تعالى الكفار على هذه الأوثان، وعلى قولهم فيها: إنها بنات الله، فكأنه قال: أرأيتم هذه الأوثان وقولكم: هي بنات الله { ألكم الذكر وله الأنثى } ثم قال تعالى على جهة الإنكار: { تلك إذا قسمة ضيزى } أي: عوجاء؛ قاله مجاهد، وقيل: جائرة قاله ابن عباس، وقال سفيان: معناه: منقوصة، وقال ابن زيد: معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضزته حقه أضيزه بمعنى: منعته، وضيزى من هذا التصريف؛ قال أبو حيان: و { الثالثة الأخرى } صفتان لمناة؛ للتأكيد، قيل: وأكدت بهذين الوصفين؛ لعظمها عندهم، وقال الزمخشري: والأخرى ذم، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار، وتعقب بأن أخرى مؤنث آخر، ولم يوضعا للذم ولا للمدح.
* ت *: وفي هذا التعقب تعسف، والظاهر أن الوصفين معا سيقا مساق الذم؛ لأن هؤلاء الكفار لم يكتفوا بضلالهم في اعتقادهم ما لا يجوز في اللات والعزى، إلى أن أضافوا إلى ذلك مناة الثالثة الأخرى الحقيرة، وكل أصنامهم حقير، انتهى.
ثم قال تعالى: { إن هى إلا أسماء } يعني: إن هذه الأوصاف من أنها إناث، وأنها آلهة تعبد، ونحو هذا إلا أسماء، أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها برهانا ولا حجة، وما هو إلا اتباع الظن، { وما تهوى الأنفس } وهوى الأنفس هو إرادتها الملذة لها، وإنما تجد هوى النفس أبدا في ترك الأفضل؛ لأنها مجبولة بطبعها على حب الملذ، وإنما يردعها ويسوقها إلى حسن العاقبة العقل والشرع.
وقوله سبحانه: { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } فيه توبيخ لهم، إذ يفعلون هذه القبائح والهدى حاضر، وهو محمد وشرعه، والإنسان في قوله: { أم للإنسن } اسم جنس، كأنه يقول: ليست الأشياء بالتمني والشهوات، وإنما الأمر كله لله، والأعمال جارية على قانون أمره ونهيه، فليس لكم أيها الكفرة مرادكم في قولكم: هذه آلهتنا، وهي تشفع لنا، وتقربنا إلى الله زلفى، ونحو هذا { فلله الأخرة والأولى } أي: له كل أمرهما: ملكا، ومقدورا، وتحت سلطانه، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس»: ومن عيوب النفس كثرة التمني، والتمني هو الاعتراض على الله عز وجل في قضائه وقدره، ومداواتها أن يعلم أنه لا يدري ما يعقبه التمني، أيجره إلى خير أو إلى شر؟ فإذا تيقن إبهام عاقبة تمنيه، أسقط عن نفسه ذلك، ورجع إلى الرضا والتسليم، فيستريح، انتهى.
[53.26-32]
وقوله سبحانه: { وكم من ملك... } الآية: رد على قريش في قولهم: الأوثان شفعاؤنا، { وكم } للتكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر { لا تغنى } والغنى جلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء.
وقوله سبحانه: { إن الذين لا يؤمنون بالأخرة } يعني: كفار العرب.
وقوله: { وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا } أي: في المعتقدات، والمواضع التي يريد الإنسان أن يجرر ما يعقل ويعتقد؛ فإنها مواضع حقائق، لا تنفع الظنون فيها، وأما في الأحكام وظواهرها فيجتزىء فيها بالمظنونات.
ثم سلى سبحانه نبيه وأمره بالإعراض عن هؤلاء الكفرة.
وقوله: { عن ذكرنا } قال الثعلبي: يعني القرآن.
وقوله سبحانه: { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } الآية متصلة في معنى التسلية، ومتضمنة وعيدا للكافرين، ووعدا للمؤمنين، والحسنى: الجنة ولا حسنى دونها، وقد تقدم نقل الأقوال في الكبائر في سورة النساء وغيرها، وتحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا أو توعد عليها بالنار في الآخرة، أو لعنة، ونحو هذا.
وقوله: { إلا اللمم } هو استثناء يصح أن يكون متصلا، وإن قدرته منقطعا ساغ ذلك، وبكل قد قيل، واختلف في معنى { اللمم } فقال أبو هريرة، وابن عباس، والشعبي، وغيرهم: اللمم: صغار الذنوب التي لا حد فيها ولا وعيد عليها؛ لأن الناس لا يتخلصون من مواقعة هذه الصغائر، ولهم مع ذلك الحسنى إذا اجتنبوا الكبائر، وتظاهر العلماء في هذا القول، وكثر المائل إليه، وحكي عن ابن المسيب أن اللمم: ما خطر على القلب، يعني بذلك لمة الشيطان، وقال ابن عباس: معناه: إلا ما ألموا به من المعاصي الفلتة والسقطة دون دوام ثم يتوبون منه، وعن الحسن بن أبي الحسن أنه قال: في اللمة من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر ثم لا يعود، قال * ع *: وهذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى؛ إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي، وعلى هذا أنشدوا، وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم: [الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما
وقوله سبحانه: { إذ أنشأكم من الأرض } يريد: خلق أبيهم آدم، ويحتمل أن يراد به إنشاء الغذاء، وأجنة: جمع جنين.
وقوله سبحانه: { فلا تزكوا أنفسكم } ظاهره النهي عن تزكية الإنسان نفسه، ويحتمل أن يكون نهيا عن أن يزكي بعض الناس بعضا، وإذا كان هذا، فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا أو القطع بالتزكية، وأما تزكية الإمام والقدوة أحدا ليؤتم به أو ليتهمم الناس بالخير، فجائز، وفي الباب أحاديث صحيحة، وباقي الآية بين.
* ت *: قال صاحب «الكلم الفارقية»: أعرف الناس بنفسه أشدهم إيقاعا للتهمة بها في كل ما يبدو ويظهر له منها، وأجهلهم بمعرفتها وخفايا آفاتها وكوامن مكرها من زكاها، وأحسن ظنه بها؛ لأنها مقبلة على عاجل حظوظها، معرضة عن الاستعداد لآخرتها، انتهى، وقال ابن عطاء الله: أصل كل معصية وغفلة، وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة، ويقظة، وعفة عدم الرضا منك عنها؛ قال شارحه ابن عباد: الرضا عن النفس: أصل جميع الصفات المذمومة، وعدم الرضا عنها أصل الصفات المحمودة، وقد اتفق على هذا جميع العارفين وأرباب القلوب؛ وذلك لأن الرضا عن النفس يوجب تغطية عيوبها ومساويها، وعدم الرضا عنها على عكس هذا؛ كما قيل: [الطويل]
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
انتهى.
[53.33-38]
وقوله تعالى: { أفرأيت الذى تولى... } الآية، قال مجاهد، وابن زيد، وغيرها: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي؛ وذلك أنه سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ووعظه فقرب من الإسلام، وطمع النبي صلى الله عليه وسلم في إسلامه، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين، وقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما هم به من الإسلام، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشح، فنزلت الآية فيه، وقال السدي: نزلت في العاصي بن وائل؛ قال * ع *: فقوله: { وأعطى قليلا وأكدى } على هذا هو في المال، وقال مقاتل في كتاب الثعلبي: المعنى: أعطى الوليد قليلا من الخير بلسانه، ثم { وأكدى } ، أي: انقطع ما أعطى، وهذا بين من اللفظ، والآخر يحتاج إلى رواية، و { تولى } معناه: أدبر وأعرض عن أمر الله، { وأكدى } معناه: انقطع عطاؤه، وهو مشبه بالذي يحفر في الأرض؛ فإنه إذا انتهى في حفر بئر ونحوه إلى كدية، وهي ما صلب من الأرض يئس من الماء، وانقطع حفره، وكذلك أجبل إذا انتهى في الحفر إلى جبل، ثم قيل لمن انقطع: عمله أكدى وأجبل.
* ت *: قال الثعلبي: وأصله من الكدية، وهو حجر في البئر يؤيس من الماء؛ قال الكسائي: تقول العرب: أكدى الحافر وأجبل: إذا بلغ في الحفر إلى الكدية والجبل، انتهى.
وقوله عز وجل: { أعنده علم الغيب فهو يرى } معناه: أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر انتفع بذلك المتحمل عنه؛ فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيرة؟! أم هو جاهل، لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى بما أرسل به، من أنه لا تزر وازرة، أي: لا تحمل حاملة حمل أخرى؛ وفي البخاري { وإبرهيم الذى وفى }: وفى ما فرض عليه، انتهى.
[53.39-41]
وقوله سبحانه: { وأن ليس للإنسن إلا ما سعى } وما بعده، كل ذلك معطوف على قوله: { ألا تزر وزرة وزر أخرى } والجمهور أن قوله: { وأن ليس للإنسن إلا ما سعى } محكم لا نسخ فيه، وهو لفظ عام مخصص.
وقوله: { وأن سعيه سوف يرى } أي: يراه الله، ومن شاهد تلك الأمور، وفي عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" من سمع بأخيه فيما يكره، سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة ".
وفي قوله تعالى: { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } وعيد للكافرين، ووعد للمؤمنين.
[53.42-54]
وقوله سبحانه: { وأن إلى ربك المنتهى } أي: منتهى الخلق ومصيرهم، اللهم أطلعنا على خيرك بفضلك، ولا تفضحنا بين خلقك، وجد علينا بسترك في الدارين ! وحق لعبد يعلم أنه إلى ربه منتهاه؛ أن يرفض هواه؛ ويزهد في دنياه، ويقبل بقلبه على مولاه؛ ويقتدي بنبي فضله الله على خلقه وارتضاه؛ ويتأمل كيف كان زهده صلى الله عليه وسلم في دنياه؛ وإقباله على مولاه؛ قال عياض في «شفاه»: وأما زهده صلى الله عليه وسلم، فقد قدمنا من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي، وحسبك من تقلله منها وإعراضه عنها وعن زهرتها، وقد سيقت إليه بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحاتها أنه توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، وهو يدعو، ويقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا».
وفي «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها قالت:
" ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله ".
وعنها - رضي الله عنها - قالت:
" لم يمتلىء جوف نبي الله صلى الله عليه وسلم شبعا قط، ولم يبث شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحب إليه من الغنى، وإن كان ليظل جائعا يلتوي طول ليلته من الجوع، فلا يمنعه ذلك صيام يومه، ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها، ولقد كنت أبكي له؛ رحمة مما أرى به، وأمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع، وأقول: نفس لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك! فيقول: يا عائشة، ما لي وللدنيا! إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم، وما من شيء هو أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلائي، قالت: فما أقام بعد إلا أشهرا حتى توفي صلوات الله وسلامه عليه "
انتهى، وباقي الآية دلالة على التوحيد واضحة، و { النشأة الأخرى }: هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البلى، { وأقنى } معناه: أكسب ما يقتنى؛ تقول: قنيت المال، أي: كسبته، وقال ابن عباس: { وأقنى }: قنع، قال * ع *: والقناعة خير قنية، والغنى عرض زائل، فلله در ابن عباس! و { الشعرى }: نجم في السماء، قال مجاهد وابن زيد: هو مرزم الجوزاء، وهما شعريان: إحداهما الغميصاء، والأخرى العبور؛ لأنها عبرت المجرة، وكانت خزاعة ممن يعبد هذه الشعرى العبور، ومعنى الآية: وأن الله سبحانه رب هذا المعبود الذي لكم و { عادا الأولى }: اختلف في معنى وصفها بالأولى، فقال الجمهور: سميت «أولى» بالإضافة إلى الأمم المتأخرة عنها، وقال الطبري وغيره: سميت أولى؛ لأن ثم عادا آخرة، وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق، وهم بنو لقيم بن هزال، والله أعلم، وقرأ الجمهور: «وثمودا» بالنصب؛ عطفا على «عادا» «وقوم نوح» عطفا على «ثمود».
وقوله: { من قبل } لأنهم كانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض، { والمؤتفكة }: قرية قوم لوط { أهوى } أي: طرحها من هواء عال إلى سفل.
[53.55-58]
وقوله سبحانه: { فبأي آلاء ربك تتمارى } مخاطبة للإنسان الكافر؛ كأنه قيل له: هذا هو الله الذي له هذه الأفعال، وهو خالقك المنعم عليك بكل النعم، ففي أيها تشك وتتمارى؟! معناه: تشكك، وقال مالك الغفاري: إن قوله: { ألا تزر } إلى قوله: { تتمارى } هو في صحف إبراهيم وموسى.
وقوله سبحانه: { هذا نذير } يحتمل أن يشير إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول قتادة وغيره، وهذا هو الأشبه، ويحتمل أن يشير إلى القرآن، وهو تأويل قوم، و { نذير } يحتمل أن يكون بناء اسم فاعل، ويحتمل أن يكون مصدرا، ونذر جمع نذير.
وقوله تعالى: { أزفت الأزفة } معناه: قربت القريبة، والآزفة: عبارة عن القيامة بإجماع من المفسرين، وأزف معناه قرب جدا؛ قال كعب بن زهير: [البسيط]
بان الشباب وآها الشيب قد أزفا
ولا أرى لشباب ذاهب خلفا
و { كاشفة } يحتمل أن تكون صفة لمؤنث التقدير: حال كاشفة ونحو هذا التقدير، ويحتمل أن تكون بمعنى: كاشف؛ قال الطبري والزجاج: هو من كشف السر، أي: ليس من دون الله من يشكف وقتها ويعلمه، وقال منذر بن سعيد: هو من كشف الضر ودفعه، أي: ليس من يكشف خطبها وهولها إلا الله.
[53.59-62]
وقوله سبحانه: { أفمن هذا الحديث تعجبون... } الآية: روى سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن هذا القرآن أنزل بخوف، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا "
ذكره الثعلبي، وأخرج الترمذي والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا يلج النار من بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخر أبدا "
قال النسائي: ويروى: «في جوف أبدا»: «ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب أبدا» قال الترمذي: وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله "
انتهى من «مصابيح البغوي». قال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إياكم وكثرة الضحك؛ فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه "
انتهى من «بهجة المجالس»، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من يأخذ عني هؤلاء الكلمات؛ فيعمل بهن، أو يعلم من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي، فعد خمسا، وقال: اتق المحارم، تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك، تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك، تكن مسلما، ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك يميت القلب "
انتهى، والسامد: اللاعب اللاهي، وبهذا فسر ابن عباس وغيره من المفسرين، وسمد بلغة حمير: غني، وهو كله معنى قريب بعضه من بعض، ثم أمر تعالى بالسجود له والعبادة؛ تخويفا وتحذيرا، وههنا سجدة في قول كثير من العلماء، ووردت بها أحاديث صحاح، ولم ير مالك بالسجود هنا، وقال زيد بن ثابت: إنه قرأ بها عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد. قال ابن العربي في «أحكامه»: وكان مالك يسجدها في خاصة نفسه، انتهى
[54 - سورة القمر]
[54.1-8]
قوله سبحانه: { اقتربت الساعة وانشق القمر } معناه: قربت الساعة، وهي القيامة، وأمرها مجهول التحديد، وكل ما يروى في عمر الدنيا من التحديد فضعيف.
وقوله: { وانشق القمر } إخبار عما وقع؛ وذلك أن قريشا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فأراهم الله انشقاق القمر، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من المسلمين والكفار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا.
وقوله: { وإن يروا }: جاء اللفظ مستقبلا، لينتظم ما مضى وما يأتي، فهو إخبار بأن حالهم هكذا.
وقوله: { مستمر }: قال الزجاج: قيل معناه: دائم متماد، وقال قتادة وغيره: معناه: مار ذاهب عن قريب يزول، ثم قال سبحانه على جهة جزم الخبر: { وكل أمر مستقر } كأنه يقول: وكل شيء إلى غاية عنده سبحانه، و { مزدجر } معناه: موضع زجر.
وقوله: { فما تغنى النذر }: يحتمل أن تكون «ما» نافية، ويحتمل أن تكون استفهامية.
ثم سلى سبحانه نبيه عليه السلام بقوله: { فتول عنهم } أي: لا تذهب نفسك عليهم حسرات، وتم القول في قوله: { عنهم } ثم ابتدأ وعيدهم بقوله: { يوم } والعامل في [ { يوم } ] قوله { يخرجون } وقال الرماني: المعنى: فتول عنهم، واذكر يوم، وقال الحسن: المعنى: فتول عنهم إلى يوم.
وقرأ الجمهور: «نكر» بضم الكاف ؛ قال الخليل: النكر: نعت للأمر الشديد والرجل الداهية، وخص الأبصار بالخشوع، لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو صلف أو خوف ونحو، إنما يظهر في الأبصار، و { الأجداث }: جمع جدث وهو القبر، وشبههم سبحانه بالجراد المنتشر، وقد شبههم سبحانه في آية أخرى بالفراش المبثوث، وفيهم من كل هذا شبه، وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أولا كالفراش حين يموج بعضهم في بعض؛ ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي، والمهطع: المسرع في مشيه نحو الشيء مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد، إما لخوف، أو طمع ونحوه؛ قال أبو حيان: { مهطعين } أي: مسرعين، وقيل: فاتحين آذانهم للصوت، انتهى.
و { يقول الكفرون هذا يوم عسر } لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته.
[54.9-15]
وقوله سبحانه: { كذبت قبلهم قوم نوح... } الآية: وعيد لقريش، وضرب مثل لهم.
وقوله: { وازدجر }: إخبار من الله عز وجل أنهم زجروا نوحا عليه السلام بالسب والنجه والتخويف، قاله ابن زيد.
وقوله : { فانتصر } أي: فانتصر لي منهم بأن تهلكهم.
وقوله: { ففتحنا أبوب السماء } قال الجمهور: هذا مجاز وتشبيه؛ لأن المطر كأنه من أبواب، وهذا مبدأ الانتصار من الكفار، والمنهمر: الشديد الوقوع الغزير، وقرأ الجمهور: { فالتقى الماء } يعني: ماء السماء وماء العيون.
وقوله سبحانه: { على أمر قد قدر } أي: قد قضي وقدر في الأزل، و { ذات ألوح ودسر }: هي السفينة، والدسر: المسامير، واحدها: دسار؛ وهذا هو قول الجمهور، وقال مجاهد: الدسر: أضلاع السفينة، قال العراقي: والدسار أيضا: ما تشد به السفينة، انتهى.
وقوله تعالى: { تجرى بأعيننا } معناه: بحفظنا وتحت نظر منا، قال البخاري: قال قتادة: أبقى الله عز وجل سفينة نوح حتى أدركها أوائل هذه الأمة، انتهى، وقرأ جمهور الناس: { جزاء لمن كان كفر } مبنيا للمفعول، قال مكي: قيل: «من» يراد بها نوح والمؤمنون؛ لأنهم كفروا من حيث كفر بهم، فجزاهم الله بالنجاة، وقرىء شاذا: «كفر» مبنيا للفاعل، والضمير في { تركنها } قال مكي: هو عائد على هذه الفعلة والقصة، وقال قتادة وغيره: هو عائد على السفينة، و { مدكر } أصله: مدتكر؛ أبدلوا من التاء دالا، ثم أدغموا الذال في الدال، وهذه قراءة الناس، قال أبو حاتم: ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح.
[54.16-19]
وقوله تعالى: { فكيف كان عذابى ونذر }: توقيف لكفار قريش، والنذر: هنا جمع نذير، وهو المصدر، والمعنى: كيف كان عاقبة إنذاري لمن لم يحفل به كأنتم أيها القوم؟ و { يسرنا القرءان } أي: سهلناه وقربناه، والذكر: الحفظ عن ظهر قلب؛ قال * ع *: يسر بما فيه من حسن النظم وشرف المعاني، فله حلاوة في القلوب، وامتزاج بالعقول السليمة.
وقوله: { فهل من مدكر }: استدعاء وحض على ذكره وحفظه؛ لتكون زواجره وعلومه حاضرة في النفس، فلله در من قبل وهدي.
* ت *: وقال الثعلبي: { فهل من مدكر } أي: من متعظ.
وقوله: { فى يوم نحس مستمر } الآية: ورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية: { يوم نحس مستمر }: يوم الأربعاء، ومستمر معناه: متتابع.
[54.20-41]
وقوله: { تنزع الناس } معناه: تقلعهم من مواضعهم قلعا فتطرحهم، وروي عن مجاهد أن الريح كانت تلقي الرجل على رأسه؛ فيتفتت رأسه وعنقه، وما يلي ذلك من بدنه، قال *ع *: فلذلك حسن التشبيه بأعجاز النخل؛ وذلك أن المنقلع هو الذي ينقلع من قعره، وقال قوم: إنما شبههم بأعجاز النخل؛ لأنهم كانوا يحتفرون حفرا ليمتنعوا فيها من الريح، فكأنه شبه تلك الحفر بعد النزع بحفر أعجاز النخل، والنخل: تذكر وتؤنث، وفائدة تكرار قوله: { فكيف كان عذابى ونذر } التخويف وهز النفوس، وهذا موجود في تكرار الكلام؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:
" ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ألا هل بلغت "
ونحوه، و[قول] ثمود لصالح: { أبشرا منا وحدا نتبعه }: هو حسد منهم، واستبعاد منهم أن يكون نوع البشر يفضل هذا التفضيل، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه، وقولهم: { إنا إذا لفى ضلل } أي: في ذهاب وانتلاف عن الصواب، { وسعر } معناه: في احتراق أنفس واستعارها حنقا، وقيل: في جنون؛ يقال: ناقة مسعورة إذا كانت خفيفة الرأس هائمة على وجهها، والأشر: البطر، وقرأ الجمهور: { سيعلمون } بالياء، وقرأ حمزة وحفص: «ستعلمون» بالتاء من فوق؛ على معنى: قل لهم يا صالح.
ثم أمر الله صالحا بارتقاب الفرج والصبر.
* ت *: وقال الثعلبي: { فارتقبهم } أي: انتظرهم؛ ما يصنعون، { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } وبين الناقة، لها شرب ولهم شرب يوم معلوم، و { محتضر }: معناه: محضور مشهود متواسى فيه، وقال مجاهد: { كل شرب } أي: من الماء يوما ومن لبن الناقة يوما محتضر لهم، فكأنه أنبأهم بنعمة الله سبحانه عليهم في ذلك، و { صحبهم }: هو قدار بن سالف، و { تعاطى } مطاوع «عاطى» فكأن هذه الفعلة تدافعها الناس، وأعطاها بعضهم بعضا فتعاطاها هو، وتناول العقر بيده؛ قاله ابن عباس، وقد تقدم قصص القوم، و«الهشيم»: ما تفتت وتهشم من الأشياء، و { المحتظر }: معناه: الذي يصنع حظيرة، قاله ابن زيد وغيره، وهي مأخوذة من الحظر وهو المنع، والعرب وأهل البوادي يصنعونها للمواشي وللسكنى أيضا من الأغصان والشجر المورق، والقصب، ونحوه، وهذا كله هشيم يتفتت، إما في أول الصنعة، وإما عند بلى الحظيرة وتساقط أجزائها، وقد تقدم قصص قوم لوط، والحاصب: مأخوذ من الحصباء.
وقوله: { فتماروا } معناه: تشككوا، وأهدى بعضهم الشك إلى بعض بتعاطيهم الشبه والضلال، و { النذر }: جمع نذير، وهو المصدر، ويحتمل أن يراد بالنذر هنا وفي قوله: { كذبت قوم لوط بالنذر } جمع نذير، الذي هو اسم فاعل.
وقوله سبحانه: { فطمسنا أعينهم } قال قتادة: هي حقيقة؛ جر جبريل شيئا من جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم، قال أبو عبيدة: مطموسة بجلدة كالوجه، وقال ابن عباس والضحاك: هذه استعارة؛ وإنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس.
وقوله: { بكرة } قيل: عند طلوع الفجر.
وقوله: { فذوقوا }: يحتمل أن يكون من قول الله تعالى لهم، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، ونذري: جمع المصدر، أي: وعاقبة إنذاري، و { مستقر } أي: دائم استقر فيهم حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة، و { آل فرعون }: قومه وأتباعه.
[54.42-48]
وقوله: { كذبوا بئايتنا كلها } يحتمل أن يريد آل فرعون، ويحتمل أن يكون قوله:
ولقد جاء ءال فرعون النذر
[القمر:41] كلاما تاما ، ثم يكون قوله: { كذبوا بئايتنا كلها } يعود على جميع من ذكر من الأمم.
وقوله تعالى: { أكفاركم خير من أولئكم } خطاب لقريش على جهة التوبيخ.
وقوله: { أم لكم براءة } أي: من العذاب { فى الزبر } أي: في كتب الله المنزلة؛ قاله ابن زيد وغيره.
ثم قال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: { أم يقولون نحن }: واثقون بجماعتنا، منتصرون بقوتنا على جهة الإعجاب؛ سيهزمون، فلا ينفع جمعهم، وهذه عدة من الله تعالى لرسوله أن جمع قريش سيهزم، فكان كما وعد سبحانه؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كنت أقول في نفسي: أي جمع يهزم؟! فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: { سيهزم الجمع ويولون الدبر } والجمهور على أن الآية نزلت بمكة، وقول من زعم أنها نزلت يوم بدر ضعيف، والصواب أن الوعد نجز يوم بدر، قال أبو حيان: { ويولون }: الجمهور بياء الغيبة، وعن أبي عمرو بتاء الخطاب، والدبر: هنا اسم جنس، وحسن إفراده؛ كونه فاصلة، وقد جاء مجموعا في آية أخرى، وهو الأصل، انتهى.
ثم أضرب سبحانه تهميما بأمر الساعة التي هي أشد عليهم من كل هزيمة وقتل، فقال: { بل الساعة موعدهم } و { أدهى }: أفعل من الداهية، وهي الرزية العظمى تنزل بالمرء، { وأمر } من المرارة.
* ت *: وقال الثعلبي: الداهية الأمر: الشديد الذي لا يهتدى للخلاص منه، انتهى.
ثم أخبر تعالى عن المجرمين أنهم في الدنيا في حيرة وانتلاف، وفقد هدى، وفي الآخرة في احتراق وتسعر، وقال ابن عباس: المعنى: في خسران وجنون، والسعر: الجنون، وأكثر المفسرين على أن المجرمين هنا يراد بهم الكفار، والسحب: الجر.
[54.49-55]
وقوله سبحانه: { إنا كل شىء خلقنه بقدر } قرأ جمهور الناس: { كل } بالنصب، وقالوا: المعنى: إنا خلقنا كل شيء بقدر سابق، وليست خلقنا في موضع الصفة لشيء، وهذا مذهب أهل السنة وهذا المعنى يقتضى أن كل شيء مخلوق إلا ما قام عليه الدليل أنه ليس بمخلوق؛ كالقرآن والصفات.
* ت *: قال الثعلبي: قال ابن عباس: خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق الخير والشر، فخير الخير: السعادة، وشر الشر: الشقاوة.
وقوله سبحانه: { وما أمرنا إلا وحدة } قال * ع *: أي: إلا قولة واحدة، وهي «كن».
* ت *: قوله: إلا قوله فيه قلق ما، وكأنه فهم أن معنى الآية راجع إلى قوله تعالى:
إنما قولنا لشيء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون
[النحل:40] وعبارة الثعلبي: أي: وما أمر الساعة إلا واحدة، أي: إلا رجفة واحدة، قال أبو عبيد هي نعت للمعنى دون اللفظ، مجازه: وما أمرنا إلا مرة واحدة كن فيكون { كلمح بالبصر } ، أي: كخطف بالبصر، فقيل له: إنه يعني الساعة، فقال: الساعة وجميع ما يريد، انتهى، وكلام أبي عبيد عندي حسن.
والأشياع: الفرق المتشابهة في مذهب، أو دين، ونحوه، الأول شيعة للآخر، والآخر شيعة للأول، وكل شيء فعلته الأمم المهلكة في الزبر، أي: مكتوب محفوظ عليهم إلى يوم الحساب؛ قاله ابن عباس وغيره، و { مستطر } أي: مسطر، وقرأ الجمهور: و { ونهر } بفتح النون والهاء ؛ على أنه اسم الجنس يريد به الأنهار، أو على أنه بمعنى: وسعة في الأرزاق والمنازل، قال أبو حيان: وقرأ الأعمش «ونهر» بضم النون والهاء جمع نهر؛ ك«رهن» و«رهن» انتهى.
وقوله تعالى: { فى مقعد صدق } يحتمل أن يريد به الصدق الذي هو ضد الكذب، أي: المقعد الذي صدقوا في الخبر به، ويحتمل أن يكون من قولك: عود صدق، أي: جيد، ورجل صدق، أي: خير، والمليك المقتدر: الله تعالى.
* ت *: وقال الثعلبي: { فى مقعد صدق } أي: في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة عند مليك مقتدر، و { عند }: إشارة إلى القربة والرتبة، انتهى.
* ص *: قال أبو البقاء: { فى مقعد صدق }: بدل من قوله: { في جنت } انتهى، قال المحاسبي: وإذا أخذ أهل الجنة مجالسهم، واطمأنوا في مقعد الصدق الذي وعده الله لهم، فهم في القرب من مولاهم سبحانه على قدر منازلهم عنده، انتهى من كتاب «التوهم» ثم قال المحاسبي بإثر هذا الكلام: فلو رأيتهم، وقد سمعوا كلام ربهم، وقد داخل قلوبهم السرور، وقد بلغوا غاية الكرامة ومنتهى الرضا والغبطة، فما ظنك بنظرهم إلى العزيز العظيم الجليل الذي لا تقع عليه الأوهام؛ ولا تحيط به الأفهام، ولا تحده الفطن، ولا تكيفه الفكر، الأزلي القديم، الذي حارت العقول عن إدراكه، وكلت الألسن عن كنه صفاته؟!انتهى.
[55 - سورة الرحمن]
[55.1-5]
قوله عز وجل: { الرحمن * علم القرءان } الرحمن: بناء مبالغة من الرحمة، وقوله: { علم القرءان } تعديد نعمة، أي: هو من به، وعلمه الناس، وخص حفاظه وفهمته بالفضل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" خيركم من تعلم القرآن وعلمه "
، ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق، أن الله تعالى ذكر القرآن في كتابه في أربعة وخمسين موضعا ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسان على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعا كلها نصت على خلقه، وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو، والإنسان هنا اسم جنس؛ قاله الزهراوي وغيره، قال الفخر: { الرحمن }: مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي { علم القرءان } ، انتهى، و { البيان }: النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول؛ قاله الجمهور، وبذلك فضل الإنسان من سائر الحيوان، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي علمه الإنسان، فمن ذلك البيان: كون { الشمس والقمر بحسبان }: وهذا ابتداء تعديد نعم، قال قتادة: { بحسبان }: مصدر كالحساب، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى والضحاك: هو جمع حساب، والمعنى: أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات شتى، وهذا مذهب ابن عباس وغيره، وقال قتادة: الحسبان: الفلك المستدير، شبهه بحسبان الرحى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة.
[55.6-13]
وقوله سبحانه: { والنجم والشجر يسجدان } قال ابن عباس وغيره: النجم: النبات الذي لا ساق له. قال * ع *: وسمي نجما؛ لأنه نجم، أي: ظهر، وهو مناسب للشجر نسبة بينة، وقال مجاهد وغيره: النجم: اسم الجنس من نجوم السماء: قال * ع *: والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض؛ لأنهما في ظاهرهما، وسمي الشجر؛ من اشتجار غصونه، وهو تداخلها، قال مجاهد: وسجودهما عبارة عن التذلل والخضوع.
وقوله سبحانه: { ووضع الميزان }: يريد به العدل؛ قاله أكثر الناس.
وقوله: { ألا تطغوا فى الميزان } وقوله: { وأقيموا الوزن بالقسط } ، وقوله: { ولا تخسروا الميزان } يريد به الميزان المعروف وألا هو بتقدير لئلا، أو مفعول من أجله، وفي مصحف ابن مسعود: «لا تطغوا في الميزان» وقرأ بلال بن أبي بردة: «تخسروا» بفتح التاء وكسر السين ؛ من خسر، ويقال: خسر وأخسر بمعنى نقص، وأفسد؛ كجبر وأجبر.
والأنام: قال الحسن بن أبي الحسن: هم الثقلان، الإنس والجن، وقال ابن عباس، وقتادة وابن زيد والشعبي: هم الحيوان كله.
{ والنخل ذات الأكمام } وذلك أن طلعها في كم وفروعها أيضا في أكمام من ليفها، والكم من النبات: كل ما التف على شيء وستره: ومنه كمائم الزهر، وبه شبه كم الثوب.
{ والحب ذو العصف }: هو البر والشعير وما جرى مجراه، قال ابن عباس: العصف: التبن، واختلف في الريحان، فقال ابن عباس وغيره: هو الرزق، وقال الحسن: هو ريحانكم هذا، وقال ابن زيد وقتادة : الريحان هو كل مشموم طيب، قال * ع *: وفي هذا النوع نعمة عظيمة، ففيه الأزهار، والمندل والعقاقير، وغير ذلك، وقرأ الجمهور: «والريحان» بالرفع؛ عطفا على «فاكهة» وقرأ حمزة والكسائي: «والريحان» بالخفض؛ عطفا على «العصف»، ف«الريحان» على هذه القراءة: الرزق، ولا يدخل فيه المشموم إلا بتكلف، و«ريحان» أصله «روحان»؛ فهو من ذوات الواو؛ و«الآلاء»: النعم، والضمير في قوله: { ربكما } للجن والإنس اللذين تضمنهما لفظ الأنام، وأيضا ساغ تقديم ضميرهما عليهما؛ لذكر الإنسان والجان عقب ذلك، وفيه اتساع، وقال منذر بن سعيد: خوطب من يعقل؛ لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن، وعن جابر قال:
" قرأ علينا النبي صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن، حتى ختمها، ثم قال: «مالي أراكم سكوتا؟! للجن كانوا أحسن ردا منكم؛ ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إلا قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ".
[55.14-21]
وقوله سبحانه: { خلق الإنسن من صلصل كالفخار * وخلق الجان من مارج من نار } الآية: اختلف في اشتقاق «الصلصال»؛ فقيل: هو من صل: إذا أنتن، فهي إشارة إلى الحمأة، وقال الجمهور: هو من صل: إذا صوت، وذلك في الطين لجودته، فهي إشارة إلى ما كان في تربة آدم من الطين الحر؛ وذلك أن الله تعالى خلقه من طين مختلف، فمرة ذكر في خلقه هذا، ومرة هذا، وكل ما في القرآن صفات ترددت على التراب الذي خلق منه، و«الفخار»: الطين الطيب إذا مسه الماء فخر، أي: ربا وعظم، والجان: اسم جنس كالجنة، قال الفخر: وفي الجان وجه آخر: أنه أبو الجن، كما أن الإنسان هنا أبو الإنس خلق من صلصال، ومن بعده خلق من صلبه؛ كذلك الجان هنا أبو الجن خلق من نار، ومن بعده من ذريته، انتهى، و«المارج»: اللهب المضطرب من النار، قال ابن عباس: وهو أحسن النار المختلط من ألوان شتى، قال أبو حيان: المارج المختلط من أصفر، وأخضر، وأحمر، انتهى.
وكرر سبحانه قوله: { فبأي آلاء ربكما تكذبان }؛ تأكيدا وتنبيها للنفوس، وتحريكا لها ، وهذه طريقة من الفصاحة معروفة، وهي من كتاب الله في مواضع؛ وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلام العرب، وذهب قوم إلى أن هذا التكرار إنما هو لما اختلفت النعم المذكورة كرر التوقيف مع كل واحدة منها، قال * ع *: وهذا حسن، وقال الحسين بن الفضل: التكرار لطرد الغفلة، وللتأكيد، وخص سبحانه ذكر المشرقين والمغربين بالتشريف في إضافة الرب إليهما؛ لعظمهما في المخلوقات.
* ت *: وتحتمل الآية أن يراد المشرقين والمغربين وما بينهما كما هو في «سورة الشعراء» واختلف الناس في { البحرين }؛ قال * ع *: والظاهر عندي أن قوله تعالى: { البحرين } يريد بهما نوعي الماء العذب والأجاج، أي: خلطهما في الأرض، وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض، قريب بعضهما من بعض، ولا بغي، قال * ع *: وذكر الثعلبي في { مرج البحرين } ألغازا وأقوالا باطنة يجب ألا يلتفت إلى شيء منها.
* ت *: ولا شك في اطراحها، فمنها نقله عن الثوري { مرج البحرين }: فاطمة وعلي، { اللؤلؤ والمرجان }: الحسن والحسين، ثم تمادى في نحو هذا مما كان الأولى به تركه، ومرج الشيء، أي: اختلط، و«البرزخ»: الحاجز، قال البخاري { لا يبغيان }: لا يختلطان، انتهى، قال ابن مسعود: { والمرجان }: حجر أحمر، وهذا هو الصواب، قال عطاء الخراساني: وهو البسذ.
[55.22-25]
وقوله سبحانه: { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } قال جمهور من المتأولين: إنما يخرج ذلك من «الأجاج» في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة؛ فلذلك قال: { منهما }.
* ت *: وهذا بناء على أن الضمير في { منهما } للعذب وللمالح، وأما على قول من قال: إن البحرين بحر فارس والروم، أو بحر القلزم وبحر الشام فلا إشكال ؛ إذ كلها مالحة، وقد نقل الأخفش عن قوم؛ أنه يخرج اللؤلؤ والمرجان من المالح ومن العذب، وليس لمن رده حجة قاطعة، ومن أثبت أولى ممن نفى، قال أبو حيان: والضمير في { منهما } يعود على البحرين، يعني: العذب والمالح، والظاهر خروج اللؤلؤ والمرجان منهما، وحكاه الأخفش عن قوم، انتهى، والجواري: جمع جارية، وهي السفن، وقرأ حمزة وأبو بكر: «المنشئات» بكسر الشين ، أي: اللواتي أنشأن جريهن ، أي: ابتدأنه، وقرأ الباقون بفتح الشين ، أي: أنشأها الله أو الناس، وقال مجاهد: { المنشئات }: ما رفع قلعه من السفن { كالأعلم } ، أي: كالجبال.
* ت *: ولفظ البخاري: { المنشئات }: ما رفع قلعه من السفن، فأما ما لا يرفع قلعه، فليس بمنشآت، انتهى.
[55.26-28]
وقوله سبحانه: { كل من عليها } أي: على الأرض { فان } والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره، والوجه: عبارة عن الذات، لأن الجارحة منفية في حقه سبحانه؛ قال الداودي: وعن ابن عباس { ذو الجلل }: قال: ذو العظمة والكبرياء، انتهى.
[55.29-36]
وقوله سبحانه: { يسأله من فى السموات والأرض } أي: من ملك، وإنس، وجن، وغيرهم، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه، كلهم يسأله حاجته، إما بلسان مقاله، وإما بلسان حاله.
وقوله سبحانه: { كل يوم هو فى شأن } أي: يظهر شأنا من قدرته التي قد سبقت في الأزل في ميقاته من الزمان، من إحياء وإماتة، ورفعة وخفض، وغير ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها إلا هو سبحانه، و«الشأن»: هو اسم جنس للأمور، قال الحسين بن الفضل: معنى الآية: سوق المقادير إلى المواقيت؛ وفي الحديث:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، فقيل له: ما هذا الشأن يا رسول الله؟ قال: يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين "
وذكر النقاش أن سبب هذه الآية قول اليهود: استراح الله يوم السبت، فلا ينفذ فيه شيئا.
وقوله تعالى: { سنفرغ لكم أيها الثقلان }: عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه، وقضى أن ينظر في أمور عباده، وذلك يوم القيامة، وليس المعنى: أن ثم شغلا يتفرغ منه؛ إذ لا يشغله سبحانه شأن عن شأن، وإنما هي إشارة وعيد وتهديد، قال البخاري: وهو معروف في كلام العرب؛ يقال: لأفرغن لك، وما به شغل، انتهى، و { الثقلان }: الإنس والجن؛ يقال: لكل ما يعظم أمره: ثقل، وقال جعفر بن محمد الصادق: سمي الإنس والجن ثقلين؛ لأنهما ثقلا بالذنوب، قال * ع *: وهذا بارع ينظر إلى خلقهما من طين ونار، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: { إن استطعتم أن تنفذوا... } الآية: فقال الطبري: قال قوم: المعنى: يقال لهم يوم القيامة: { يمعشر الجن والإنس إن استطعتم... } الآية، قال الضحاك: وذلك أنه يفر الناس في أقطار الأرض، والجن كذلك؛ لما يرون من هول يوم القيامة، فيجدون سبعة صفوف من الملائكة، قد أحاطت بالأرض، فيرجعون من حيث جاؤوا، فحينئذ يقال لهم: { يمعشر الجن والإنس } ، وقال بعض المفسرين: هي مخاطبة في الدنيا، والمعنى: إن استطعتم الفرار من الموت بأن تنفذوا من أقطار السموات والأرض، فانفذوا.
* ت *: والصواب الأول.
وقوله: { فانفذوا }: صيغة أمر، ومعناه: التعجيز، و«الشواظ»: لهب النار؛ قاله ابن عباس وغيره، قال أبو حيان: الشواظ: هو اللهب الخالص بغير دخان، انتهى، و«النحاس»: هو المعروف؛ قاله ابن عباس وغيره، أي: يذاب ويرسل عليهما، ونحوه في البخاري، قال * ص *: وقال الخليل: «النحاس» هنا هو: الدخان الذي لا لهب له، ونقله أيضا أبو البقاء وغيره، انتهى.
[55.37-45]
وقوله سبحانه: { فإذا انشقت السماء }: جواب «إذا»محذوف مقصود به الإبهام؛ كأنه يقول: فإذا انشقت السماء، فما أعظم الهول! قال قتادة: السماء اليوم خضراء، وهي يوم القيامة حمراء، فمعنى قوله: { وردة } أي: محمرة كالوردة، وهي النوار المعروف؛ وهذا قول الزجاج وغيره.
وقوله: { كالدهان } قال مجاهد وغيره: هو جمع دهن؛ وذلك أن السماء يعتريها يوم القيامة ذوب وتميع من شدة الهول، وقال ابن جريج: من حر جهنم، نقله الثعلبي، وقيل غير هذا.
وقوله: { فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان } قال قتادة وغيره: هي مواطن؛ فلا تعارض بين الآيات.
وقوله سبحانه: { فيؤخذ بالنواصى والأقدام } قال ابن عباس: يؤخذ كل كافر بناصيته وقدميه، ويطوى، ويجمع كالحطب، ويلقى كذلك في النار، وقيل: المعنى: أن بعض الكفرة يؤخذون بالنواصي، وبعضهم يسحبون، ويجرون بالأقدام.
وقوله تعالى: { هذه جهنم } أي: يقال لهم على جهة التوبيخ، وفي مصحف ابن مسعود: «هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان لا تموتان فيها ولا تحييان».
وقوله سبحانه: { يطوفون بينها وبين حميم ءان } المعنى: أنهم يترددون بين نار جهنم وجمرها، وبين حميم، وهو ما غلي في جهنم من مائع عذابها، وآن الشيء: حضر، وآن اللحم أو ما يطبخ أو يغلى: نضج وتناهى حره، وكونه من الثاني أبين.
[55.46-57]
وقوله تعالى: { ولمن خاف مقام ربه } أي: موقفه بين يدي ربه، وقيل في هذه الآية: إن كل خائف له جنتان.
* ت *: قال الثعلبي: قال محمد بن علي الترمذي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته، و«الأفنان»: يحتمل أن تكون جمع «فنن»، وهو الغصن، وهذا قول مجاهد، فكأنه مدحها بظلالها وتكاثف أغصانها، ويحتمل أن تكون جمع «فن»، وهو قول ابن عباس، فكأنه مدحها بكثرة فواكهها ونعيمها، و { زوجان } معناه: نوعان.
* ت *: ونقل الثعلبي عن ابن عباس قال: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة، حتى الحنظل إلا أنه حلو انتهى.
و { متكئين }: حال، وقرأ الجمهور: { على فرش } بضم الراء ، وروي في الحديث
" أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هذه البطائن من إستبرق، فكيف الظواهر؟! قال: هي من نور يتلألأ "
، والإستبرق: ما خشن وحسن من الديباج، والسندس: ما رق منه، وقد تقدم القول في لفظ الإستبرق، والضمير في قوله: { فيهن } للفرش، وقيل: للجنات، إذ الجنتان جنات في المعنى، و«الجنى»: ما يجنى من الثمار، ووصفه بالدنو؛ لأنه يدنو إلى مشتهيه، فيتناوله كيف شاء من قيام، أو جلوس، أو اضطجاع، روي معناه في الحديث، و { قصرت الطرف }: هن الحور، قصرن ألحاظهن على أزواجهن: { لم يطمثهن } أي: لم يفتضهن؛ لأن الطمث دم الفرج.
وقوله: { ولا جان } قال مجاهد: الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج اسم الله، فنفى سبحانه في هذه الآية جميع المجامعات.
[55.58-61]
وقوله تعالى: { كأنهن الياقوت والمرجان } الآية، الياقوت والمرجان هي من الأشياء التي قد برع حسنها، واستشعرت النفوس جلالتها، فوقع التشبيه بها فيما يشبه، ويحسن بهذه المشبهات، فالياقوت في املاسه وشفوفه، ولو أدخلت فيه سلكا، لرأيته من ورائه، وكذلك المرأة من نساء الجنة يرى مخ ساقها من وراء العظم، والمرجان في املاسه وجمال منظره.
وقوله سبحانه: { هل جزاء الإحسن إلا الإحسن }: آية وعد وبسط لنفوس جميع المؤمنين؛ لأنها عامة؛ قال ابن المنكدر، وابن زيد، وجماعة من أهل العلم: هي للبر والفاجر، والمعنى: أن جزاء من أحسن بالطاعة أن يحسن إليه بالتنعيم، وحكى النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية: هل جزاء التوحيد إلا الجنة.
* ت *: ولو صح هذا الحديث، لوجب الوقوف عنده، ولكن الشأن في صحته، قال الفخر: قوله تعالى: { هل جزاء الإحسن إلا الإحسن } فيه وجوه كثيرة، حتى قيل: إن في القرآن ثلاث آيات، في كل واحدة منها مائة قول، إحداها: قوله تعالى:
فاذكرونى أذكركم
[البقرة:152] وثانيتها:
وإن عدتم عدنا
[الإسراء:8] وثالثتها: { هل جزاء الإحسن إلا الإحسن } ولنذكر الأشهر منها والأقرب:
أما الأشهر فوجوه.
أحدها: هل جزاء التوحيد إلا الجنة، أي: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله إلا دخول الجنة.
ثانيها: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة.
ثالثها: هل جزاء من أحسن إليكم بالنعم في الدنيا إلا أن تحسنوا له العبادة والتقوى.
وأما الأقرب فهو التعميم، أي: لأن لفظ الآية عام، انتهى.
[55.62-78]
وقوله سبحانه: { ومن دونهما جنتان } قال ابن زيد وغيره: معناه أن هاتين دون تينك في المنزلة والقرب، فالأوليان للمقربين، وهاتان لأصحاب اليمين، وعن ابن عباس: أن المعنى: أنهما دونهما في القرب إلى المنعمين، وأنهما أفضل من الأوليين، قال * ع *: وأكثر الناس على التأويل الأول.
* ت *: واختار الترمذي الحكيم التأويل الثاني، وأطنب في الاحتجاج له في «نوادر الأصول» له، وخرج البخاري هنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما... "
الحديث، وفيه:
" إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلا، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن "
انتهى، و { مدهامتان } معناه: قد علا لونهما دهمة وسواد في النظرة والخضرة، قال البخاري: { مدهامتان }: سوداوان من الري، انتهى، والنضاخة: الفوارة التي يهيج ماؤها، وكرر النخل والرمان، وهما من أفضل الفاكهة؛ تشريفا لهما، وقالت أم سلمة: «قلت: يا رسول الله، أخبرني عن قول الله تعالى: { خيرت حسان } قال: خيرات الأخلاق، حسان الوجوه» وقرىء شاذا: «خيرات» بشد الياء المكسورة .
* ت *: وفي «صحيح البخاري» من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" لروحة في سبيل الله، أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم في الجنة أو موضع قيد سوطه خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها يعني الخمار خير من الدنيا وما فيها "
وقوله سبحانه { مقصورت } أي: محجوبات مصونات في الخيام، وخيام الجنة بيوت اللؤلؤ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هي در مجوف، ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الداودي: وعن ابن عباس: والخيمة لؤلؤة مجوفة فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف مصراع، انتهى.
و«الرفرف»: ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب والبسط، وقاله ابن عباس وغيره، وما يتدلى حول الخباء من الخرقة الهفافة يسمى رفرفا، وكذلك يسميه الناس اليوم، وقيل غير هذا، وما ذكرناه أصوب، والعبقري: بسط حسان، فيها صور وغير ذلك، تصنع بعبقر، وهو موضع يعمل فيه الوشي والديباج ونحوه، قال ابن عباس: العبقري: الزرابي، وقال ابن زيد: هي الطنافس، قال الخليل والأصمعي: العرب إذا استحسنت شيئا واستجادته قالت: عبقري، قال * ع *: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمر:
" فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه ".
وقوله سبحانه: { تبرك اسم ربك ذى الجلل والإكرام }: هذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه، والدعاء بهاتين الكلمتين حسن مرجو الإجابة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" ألظوا ب«ياذا الجلال والإكرام» "
[56 - سورة الواقعة]
[56.1-7]
قوله سبحانه: { إذا وقعت الواقعة } الآية، الواقعة: اسم من أسماء القيامة؛ قاله ابن عباس، وقال الضحاك: الواقعة: الصيحة، وهي النفخة في الصور، و { كاذبة }: يحتمل أن يكون مصدرا، فالمعنى: ليس لها تكذيب ولا رد ولا مثنوية؛ وهذا قول مجاهد والحسن، ويحتمل أن يكون صفة لمقدر، كأنه قال: ليس لوقعتها حال كاذبة.
وقوله سبحانه: { خافضة رافعة } قال قتادة وغيره: يعني القيامة تخفض أقواما إلى النار، وترفع أقواما إلى الجنة، وقيل: إن بانفطار السموات والأرض والجبال وانهدام هذه البنية، ترتفع طائفة من الأجرام، وتنخفض أخرى، فكأنها عبارة عن شدة هول القيامة.
* ت *: والأول أبين، وهو تفسير البخاري، ومعنى { رجت }: زلزلت وحركت بعنف؛ قاله ابن عباس، ومعنى { وبست }: فتت كما تبس البسيسة وهي السويق؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال بعض اللغويين: «بست» معناه: سيرت، والهباء: ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكاد يرى إلا في الشمس إذا دخلت من كوة؛ قاله ابن عباس وغيره، والمنبث بالثاء المثلثة : الشائع في جميع الهواء، والخطاب في قوله: { وكنتم } لجميع العالم، والأزواج: الأنواع، قال قتادة: هذه منازل الناس يوم القيامة.
[56.8-12]
وقوله سبحانه: { فأصحب الميمنة }: ابتداء، و { ما } ابتداء ثان، { فأصحب الميمنة }: خبر { ما } ، والجملة خبر الابتداء الأول، وفي الكلام معنى التعظيم؛ كما تقول: زيد ما زيد، ونظير هذا في القرآن كثير، والميمنة أظهر ما في اشتقاقها أنها من ناحية اليمين، وقيل من اليمن، وكذلك المشأمة: إما أن تكون من اليد الشؤمى، وإما أن تكون من الشؤم، وقد فسرت الآية بهذين المعنيين.
وقوله تعالى: { والسبقون }: ابتداء، و { السبقون } الثاني: قال سيبويه: هو خبر الأول، وهذا على معنى تفخيم الأمر وتعظيمه، وقال بعض النحاة: السابقون الثاني نعت للأول، ومعنى الصفة أن تقول: والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة والرحمة أولئك، ويتجه هذا المعنى على الابتداء والخبر.
وقوله: { أولئك المقربون }: ابتداء وخبر، وهو في موضع الخبر؛ على قول من قال: { السبقون } الثاني صفة، و { المقربون }: معناه: من الله سبحانه في جنة عدن، فالسابقون معناه: الذين قد سبقت لهم السعادة، وكانت أعمالهم في الدنيا سبقا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي، فهذا عموم في جميع الناس، وخصص المفسرون في هذه أشياء تفتقر إلى سند قاطع،
" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السابقين؟ فقال: «هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم » "
والمقربون عبارة عن أعلى منازل البشر في الآخرة، قال جماعة من أهل العلم: هذه الآية متضمنة أن العالم يوم القيامة على ثلاثة أصناف.
[56.13-25]
وقوله سبحانه: { ثلة من الأولين * وقليل من الأخرين } الثلة: الجماعة، قال الحسن بن أبي الحسن وغيره: المراد: السابقون من الأمم والسابقون من هذه الأمة، وروي أن الصحابة حزنوا لقلة سابقي هذه الأمة على هذا التأويل، فنزلت الآية:
ثلة من الأولين * وثلة من الأخرين
[الواقعة:39-40] فرضوا، وروي عن عائشة أنها تأولت: أن الفرقتين في أمة كل نبي هي في الصدر ثلة وفي آخر الأمة قليل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه:
" الفرقتان في أمتي، فسابق أول الأمة ثلة، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل "
قال السهيلي: وأما آخر من يدخل الجنة، وهو آخر أهل النار خروجا منها، فرجل اسمه جهينة، فيقول أهل الجنة: تعالوا نسأله فعند جهينة الخبر اليقين، فيسألونه: هل بقي في النار أحد بعدك ممن يقول: لا إله إلا الله؟ وهذا حديث ذكره الدارقطني من طريق مالك بن أنس، يرفعه بإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في كتاب رواة مالك بن أنس رحمه الله ، انتهى.
وقوله تعالى: { على سرر موضونة } أي: منسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض، كحلق الدرع، ومنه وضين الناقة وهو حزامها؛ قال ابن عباس: { موضونة }: مرمولة بالذهب، وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت { يطوف عليهم }: للخدمة { ولدن }: وهم صغار الخدمة، ووصفهم سبحانه بالخلد، وإن كان جميع ما في الجنة كذلك، إشارة إلى أنهم في حال الولدان مخلدون، لا تكبر لهم سن، أي: لا يحولون من حالة إلى حالة؛ وقاله ابن كيسان، وقال الفراء: { مخلدون } معناه: مقرطون بالخلدات وهي ضرب من الأقراط والأول أصوب، لأن العرب تقول للذي كبر ولم يشب: إنه لمخلد، والأكواب: ما كان من أواني الشرب لا أذن له ولا خرطوم، قال قتادة: ليست لها عرى، والإبريق: ماله خرطوم، والكأس: الآنية المعدة للشرب بشريطة أن يكون فيها خمر، ولا يقال لآنية فيها ماء أو لبن كأس.
وقوله : { من معين } قال ابن عباس: معناه من خمر سائلة جارية معينة.
وقوله: { لا يصدعون عنها } ذهب أكثر المفسرين إلى أن المعنى: لا يلحق رءوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا، وقال قوم: معناه: لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب، كما يفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق، { ولا ينزفون } معناه: لا تذهب عقولهم سكرا؛ قاله مجاهد وغيره، والنزيف: السكران، وباقي الآية بين، وخص المكنون باللؤلؤ؛ لأنه أصفى لونا وأبعد عن الغير، وسألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه، فقال:
" صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي "
و { جزاء بما كانوا يعملون } أي: إن هذه الرتب والنعيم هي لهم بحسب أعمالهم؛ لأنه روي أن المنازل والقسم في الجنة هي مقتسمة على قدر الأعمال، ونفس دخول الجنة هو برحمة الله وفضله، لا بعمل عامل؛ كما جاء في الصحيح.
[56.26-38]
وقوله تعالى: { إلا قيلا سلما سلما } قال أبو حيان: «إلا قيلا سلاما سلاما» الظاهر أن الاستثناء منقطع؛ لأنه لا يندرج في اللغو والتأثيم، وقيل متصل، وهو بعيد، انتهى، قال الزجاج: و { سلاما } مصدر، كأنه يذكر أنه يقول بعضهم لبعض: سلاما سلاما.
* ت *: قال الثعلبي: والسدر: شجر النبق و { مخضود } أي: مقطوع الشوك، قال * ع *: ولأهل تحرير النظر هنا إشارة في أن هذا الخضد بإزاء أعمالهم التي سلموا منها؛ إذ أهل اليمين توابون لهم سلام، وليسوا بسابقين، قال الفخر: وقد بان لي بالدليل أن المراد بأصحاب اليمين: الناجون الذين أذنبوا وأسرفوا، وعفا الله تعالى عنهم بسبب أدنى حسنة؛ لا الذين غلبت حسناتهم وكثرت، انتهى.
والطلح (من العضاه) شجر عظيم، كثير الشوك، وصفه في الجنة على صفة مباينة لحال الدنيا، و { منضود } معناه: مركب ثمره بعضه على بعض من أرضه إلى أعلاه، وقرأ علي رضي الله عنه وغيره: «وطلع» فقيل لعلي: إنما هو: «وطلح» فقال: ما للطلح والجنة؟! قيل له: أنصلحها في المصحف؟ فقال: إن المصحف اليوم لا يهاج ولا يغير. وقال علي أيضا وابن عباس: الطلح الموز، والظل الممدود: معناه: الذي لا تنسخه شمس، وتفسير ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة لا يقطعها "
، واقرءوا إن شئتم: { وظل ممدود } ، إلى غير هذا من الأحاديث في هذا المعنى.
* ت *: وفي «صحيحي البخاري ومسلم» عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب "
انتهى.
{ وماء مسكوب } أي: جار في غير أخدود.
{ لا مقطوعة ولا ممنوعة } أي: لا مقطوعة بالأزمان كحال فاكهة الدنيا، ولا ممنوعة بوجه من الوجوه التي تمتنع بها فاكهة الدنيا، والفرش: الأسرة؛ وعن أبي سعيد الخدري: إن في ارتفاع السرير منها مسيرة خمس مائة سنة.
* ت *: وهذا إن ثبت فلا بعد فيه، إذ أحوال الآخرة كلها خرق عادة، وقال أبو عبيدة وغيره: أراد بالفرش النساء، و { مرفوعة } معناه: في الأقدار والمنازل، و { أنشأنهن } معناه: خلقناهن شيئا بعد شيء؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية:
" هن عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا "
، وقال للعجوز:
" إن الجنة لا يدخلها العجوز، فحزنت، فقال: إنك إذا [دخلت الجنة أنشئت خلقا آخر ".
وقوله سبحانه: { فجعلنهن أبكرا } قيل: معناه: دائمة البكارة، متى عاود الوطء] وجدها بكرا، والعرب: جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها بإظهار محبته؛ قاله ابن عباس، وعبر عنهن ابن عباس أيضا بالعواشق، وقال زيد: العروب: الحسنة الكلام.
* ت *: قال البخاري: والعروب يسميها أهل مكة العربة، وأهل المدينة: الغنجة، وأهل العراق: الشكلة، انتهى.
وقوله: { أترابا } معناه: في الشكل والقد، قال قتادة: { أترابا } يعني: سنا واحدة، ويروى أن أهل الجنة هم على قد ابن أربعة عشر عاما في الشباب، والنضرة، وقيل: على مثال أبناء ثلاث وثلاثين سنة، مردا بيضا، مكحلين، زاد الثعلبي: على خلق آدم، طوله ستون ذراعا في سبعة أذرع.
[56.39-50]
وقوله سبحانه: { ثلة من الأولين * وثلة من الأخرين } قال الحسن بن أبي الحسن وغيره: الأولون سالف الأمم، منهم جماعة عظيمة أصحاب يمين، والآخرون: هذه الأمة، منهم جماعة عظيمة أهل يمين، قال * ع *: بل جميعهم إلا من كان من السابقين، وقال قوم من المتأولين: هاتان الفرقتان في أمة محمد، وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الثلتان من أمتي "
، وروى ابن المبارك في «رقائقه» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن أمتي ثلثا أهل الجنة، والناس يومئذ عشرون ومائة صف، وإن أمتي من ذلك ثمانون صفا "
انتهى.
وقوله سبحانه: { وأصحب الشمال... } الآية: في الكلام معنى الإنحاء عليهم وتعظيم مصائبهم، والسموم: أشد ما يكون من الحر اليابس الذي لا بلل معه، والحميم: السخن جدا من الماء الذي في جهنم، واليحموم: هو الدخان الأسود يظل أهل النار؛ قاله ابن عباس والجمهور، وقيل: هو سرادق النار المحيط بأهلها؛ فإنه يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم، وقيل: هو جبل في النار أسود.
وقوله: { ولا كريم } معناه: ليس له صفة مدح، قال الثعلبي: وعن ابن المسيب { ولا كريم } أي: ولا حسن نظيره من كل زوج كريم، وقال قتادة: { لا بارد }: النزل { ولا كريم }: المنظر، وهو الظل الذي لا يغني من اللهب، انتهى، والمترف: المنعم في سرف، وتخوض، و { يصرون } معناه: يعتقدون اعتقادا لا ينزعون عنه، و { الحنث }: الإثم، وقال الثعلبي: { وكانوا يصرون }: يقيمون { على الحنث العظيم } أي: الذنب، انتهى، ونحوه للبخاري، وهو حسن نحو ما في الرسالة، قال قتادة وغيره: والمراد بهذا الإثم العظيم: الشرك، وباقي الآية في استبعادهم للبعث، وقد تقدم بيانه.
[56.51-57]
وقوله سبحانه: { ثم إنكم أيها الضالون }: مخاطبة لكفار قريش ومن كان في حالهم، و { من } في قوله: { من زقوم } لبيان الجنس، والضمير في { منها } عائد على الشجر، والضمير في { عليه } عائد على المأكول، و { الهيم } قال ابن عباس وغيره: جمع «أهيم» وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء ، وهو داء معطش يشرب الجمل حتى يموت أو يسقم سقما شديدا، وقال قوم هو: جمع «هائم » وهو أيضا من هذا المعنى؛ لأن الجمل إذا أصابه ذلك الداء، هام على وجهه وذهب، وقال ابن عباس أيضا وسفيان الثوري: { الهيم }: الرمال التي لا تروى من الماء، والنزل أول ما يأكل الضيف، و { الدين }: الجزاء.
[56.58-63]
وقوله سبحانه: { أفرءيتم ما تمنون } الآية: وليس يوجد مفطور، يخفى عليه أن المني الذي يخرج منه ليس له فيه عمل ولا إرادة ولا قدرة، وقرأ الجمهور: «قدرنا» وقرأ ابن كثير وحده: «قدرنا» بتخفيف الدال، فيحتمل أن يكون المعنى فيهما: قضينا وأثبتنا، ويحتمل أن يكون بمعنى: سوينا، قال الثعلبي عن الضحاك: أي: سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض.
وقوله: { وما نحن بمسبوقين } أي: على تبديلكم إن أردناه، وأن ننشئكم بأوصاف لا يصلها علمكم، ولا يحيط بها فكركم، قال الحسن: من كونهم قردة وخنازير؛ لأن الآية تنحو إلى الوعيد، و { النشأة الأولى }: قال أكثر المفسرين: إشارة إلى خلق آدم، وقيل: المراد: نشأة الإنسان في طفولته، وهذه الآية نص في استعمال القياس والحض عليه، وعبارة الثعلبي: ويقال: { النشأة الأولى } نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ولم يكونوا شيئا { فلولا } أي: فهلا تذكرون أني قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم، وفيه دليل على صحة القياس؛ لأنه علمهم سبحانه الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، انتهى.
[56.64-74]
وقوله سبحانه: { ءأنتم تزرعونه } أي: زرعا يتم { أم نحن }: وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا تقل: زرعت، ولكن قل حرثت، ثم تلا أبو هريرة هذه الآية "
والحطام: اليابس المتفتت من النبات الصائر إلى ذهاب، وبه شبه حطام الدنيا و { تفكهون } قال ابن عباس وغيره: معناه تعجبون، أي: مما نزل بكم، وقال ابن زيد: معناه: تتفجعون، قال * ع *: وهذا كله تفسير لا يخص اللفظة، والذي يخص اللفظة هو تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، وقولهم: { إنا لمغرمون } قبله محذوف تقديره: يقولون، وقرأ عاصم الجحدري: «أإنا لمغرمون» بهمزتين على الاستفهام، والمعنى يحتمل أن يكون: إنا لمغرمون من الغرام، وهو أشد العذاب، ويحتمل: إنا لمحملون الغرم، أي: غرمنا في النفقة، وذهب زرعنا ، وقد تقدم تفسير المحروم، وأنه الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه، وقال الثعلبي: المحروم ضد المرزوق، انتهى، و { المزن }: هو السحاب، والأجاج: أشد المياه ملوحة، و { تورون } معناه: تقتدحون من الأزند؛ تقول: أوريت النار من الزناد، والزناد: قد يكون من حجر وحديدة، ومن شجر، لا سيما في بلاد العرب، ولا سيما في الشجر الرخو؛ كالمرخ والعفار والكلخ، وما أشبهه، ولعادة العرب في أزنادهم من شجر قال تعالى: { ءأنتم أنشأتم شجرتها } أي: التي تقدح منها { أم نحن المنشئون * نحن جعلنها }: يعني نار الدنيا { تذكرة } للنار الكبرى، نار جهنم؛ قاله مجاهد وغيره، والمتاع: ما ينتفع به، والمقوين: في هذه الآية الكائنين في الأرض القواء، وهي الفيافي، ومن قال معناه: للمسافرين فهو نحو ما قلناه، وهي عبارة ابن عباس رضي الله عنه تقول: أقوى الرجل: إذا دخل في الأرض القواء.
[56.75-80]
وقوله سبحانه: { فلا أقسم بموقع النجوم } الآية: قال بعض النحاة: «لا» زائدة، والمعنى: فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروفة، وقرأ الحسن وغيره: «فلأقسم» من غير ألف، وقال بعضهم: «لا» نافية كأنه قال: فلا صحة لما يقوله الكفار، ثم ابتدأ: أقسم بمواقع النجوم، والنجوم: هنا قال ابن عباس وغيره: هي نجوم القرآن؛ وذلك أنه روي أن القرآن نزل في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، وقيل: إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما مقطعة مدة من عشرين سنة، قال * ع*: ويؤيده عود الضمير على القرآن في قوله: { إنه لقرءان كريم } وقال كثير من المفسرين: بل النجوم هنا هي الكواكب المعروفة، ثم اختلف هؤلاء في مواقعها، فقيل: غروبها وطلوعها، وقيل: مواقعها عند انقضاضها إثر العفاريت.
[وقوله:] { وإنه لقسم }: تأكيد.
وقوله: { لو تعلمون }: اعتراض.
وقوله: { إنه لقرءان كريم }: هو الذي وقع القسم عليه.
وقوله: { فى كتب مكنون } الآية: المكنون: المصون؛ قال ابن عباس وغيره: أراد الكتاب الذي في السماء، قال الثعلبي: ويقال: هو اللوح المحفوظ.
وقوله: { لا يمسه إلا المطهرون } يعني: الملائكة، وليس في الآية على هذا التأويل تعرض لحكم مس المصحف لسائر بني آدم، وقال بعض المتأولين: أراد بالكتاب مصاحف المسلمين، ولم تكن يومئذ، فهو إخبار بغيب مضمنه النهي، فلا يمس المصحف من بني آدم إلا الطاهر من الكفر والحدث؛ وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:
" لا يمس القرآن إلا طاهر "
، وبه أخذ مالك، وقرأ سليمان: «إلا المطهرون» بكسر الهاء .
[56.81-84]
وقوله تعالى: { أفبهذا الحديث }: يعني القرآن المتضمن البعث، و { مدهنون } معناه: يلاين بعضكم بعضا، ويتبعه في الكفر؛ مأخوذ من الدهن للينه واملاسه، وقال ابن عباس: المداهنة: هي المهاودة فيما لا يحل، والمداراة: هي المهاودة فيما يحل، ونقل الثعلبي أن أدهن وداهن بمعنى واحد، وأصله من الدهن، انتهى.
وقوله سبحانه: { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون }: أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله تعالى رزقا للعباد: هذا بنوء كذا، والمعنى: وتجعلون شكر رزقكم، وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان بمعنى ما شكر، وكان علي يقرأ: «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» وكذلك قرأ ابن عباس، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر الله سبحانه فقال:
ونزلنا من السماء ماء مبركا فأنبتنا به جنت وحب الحصيد * والنخل بسقت لها طلع نضيد * رزقا للعباد
[ق:9، 10، 11] فهذا معنى قوله: { أنكم تكذبون } أي: بهذا الخبر، قال * ع *: والمنهي عنه هو أن يعتقد أن للنجوم تأثيرا في المطر.
وقوله سبحانه: { فلولا إذا بلغت الحلقوم } يعني: بلغت نفس الإنسان، والحلقوم: مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزع المرء للموت.
وقوله: { وأنتم } إشارة إلى جميع البشر حينئذ، أي: وقت النزع { تنظرون }: إليه، وقال الثعلبي: { وأنتم حينئذ تنظرون } إلى أمري وسلطاني، يعني: تصريفه سبحانه في الميت، انتهى، والأول عندي أحسن، وعزاه الثعلبي لابن عباس.
[56.85-87]
{ ونحن أقرب إليه منكم } أي: بالقدرة والعلم، ولا قدرة لكم على دفع شيء عنه، وقيل: المعنى: وملائكتنا أقرب إليه منكم، ولكن لا تبصرونهم، وعلى التأويل الأول من البصر بالقلب.
{ فلولا إن كنتم غير مدينين } أي: مملوكين أذلاء ، والمدين: المملوك، هذا أصح ما يقال في هذه اللفظة هنا، ومن عبر عنها بمجازى أو بمحاسب، فذلك هنا قلق، والمملوك مقلب كيف شاء المالك، ومن هذا الملك قول الأخطل: الأخطل [الطويل]
ربت وربا في حجرها ابن مدينة
تراه على مسحاته يتركل
أراد ابن أمة مملوكة، وهو عبد يخدم الكرم، وقد قيل في معنى البيت: [إنه] أراد أكارا حضريا، فنسبه إلى المدينة، فمعنى الآية: فهل لا ترجعون النفس البالغة الحلقوم إن كنتم غير مملوكين مقهورين؟.
وقوله: { ترجعونها } سد مسد الأجوبة، والبيانات التي تقتضيها التحضيضات.
[56.88-90]
وقوله تعالى: { فأما إن كان من المقربين } الآية، ذكر سبحانه في هذه الآية حال الأزواج الثلاثة المذكورين في أول السورة، وحال كل امرىء منهم، فأما المرء من السابقين المقربين، فيلقى عند موته روحا وريحانا، والروح: الرحمة والسعة والفرح؛ ومنه:
ولا تايئسوا من روح الله
[يوسف:87] والريحان: الطيب، وهو دليل النعيم، وقال مجاهد: الريحان: الرزق، وقال الضحاك: الريحان الاستراحة، قال * ع *: الريحان ما تنبسط إليه النفوس، ونقل الثعلبي عن أبي العالية قال: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه، ثم يقبض روحه فيه، ونحوه عن الحسن، انتهى.
فإن أردت يا أخي اللحوق بالمقربين؛ والكون في زمرة السابقين، فاطرح عنك دنياك؛ وأقبل على ذكر مولاك، واجعل الآن الموت نصب عينيك، قال الغزالي: وإنما علامة التوفيق أن يكون الموت نصب عينيك، لا تغفل عنه ساعة، فليكن الموت على بالك يا مسكين؛ فإن السير حاث بك، وأنت غافل عن نفسك، ولعلك قد قاربت المنزل، وقطعت المسافة فلا يكن اهتمامك إلا بمبادرة العمل، اغتناما لكل نفس أمهلت فيه، انتهى من «الإحياء»، قال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: ما من ميت يموت، إلا عرض عليه أهل مجلسه: إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر، وإن كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو، انتهى.
[56.91-96]
وقوله تعالى: { فسلم لك من أصحب اليمين }: عبارة تقتضي جملة مدح وصفة تخلص، وحصول عال من المراتب ، والمعنى: ليس في أمرهم إلا السلام والنجاة من العذاب؛ وهذا كما تقول في مدح رجل: أما فلان فناهيك به، فهذا يقتضي جملة غير مفصلة من مدحه، وقد اضطربت عبارات المتأولين في قوله تعالى: { فسلم لك } فقال قوم: المعنى: فيقال له سلام لك إنك من أصحاب اليمين، وقال الطبري: { فسلم لك }: أنت من أصحاب اليمين، وقيل: المعنى: فسلام لك يا محمد، أي: لا ترى فيهم إلا السلامة من العذاب.
* ت *: ومن حصلت له السلامة من العذاب فقد فاز دليله
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
[آل عمران:185] قال * ع *: فهذه الكاف في { لك } إما أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الأظهر، ثم لكل معتبر فيها من أمته، وإما أن تكون لمن يخاطب من أصحاب اليمين، وغير هذا مما قيل تكلف، ونقل الثعلبي عن الزجاج: { فسلم لك } أي: إنك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وقد علمت ما أعد الله لهم من الجزاء بقوله: { فى سدر مخضود } الآيات...
والمكذبون الضالون: هم الكفار، أصحاب الشمال والمشأمة، والنزل: أول شيء يقدم للضيف، والتصلية: أن يباشر بهم النار، والجحيم معظم النار وحيث تراكمها.
{ إن هذا لهو حق اليقين } المعنى: إن هذا الخبر هو نفس اليقين وحقيقته.
وقوله تعالى: { فسبح باسم ربك العظيم } عبارة تقتضي الأمر بالإعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها، وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة الله تعالى، والدعاء إليه.
* ت *: وعن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من قال سبحان الله [العظيم] وبحمده، غرست له نخلة في الجنة "
رواه الترمذي، والنسائي، والحاكم، وابن حبان في «صحيحيهما»، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وعند النسائي: «شجرة» بدل «نخلة»، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح، والتهليل، والتحميد ينعطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، تذكر بصاحبها، أما يحب أحدكم أن يكون أو لا يزال له من يذكر به "
، ورواه أيضا ابن المبارك في «رقائقه» عن كعب، وفيه أيضا عن كعب أنه قال: «إن للكلام الطيب حول العرش دويا كدوي النحل يذكرن بصاحبهن» انتهى، وعن أبي هريرة
" أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال: يا أبا هريرة، ما الذي تغرس؟ قلت: غراسا، قال: ألا أدلك على غراس خير من هذا؟ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة "
روى هذين الحديثين ابن ماجه واللفظ له، والحاكم في «المستدرك»، وقال في الأول: صحيح على شرط مسلم، انتهى من «السلاح»، وروى عقبة بن عامر قال:
" لما نزلت: { فسبح باسم ربك العظيم } قال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم؛ فلما نزلت: { سبح اسم ربك الأعلى } قال: اجعلوها في سجودكم "
، فيحتمل أن يكون المعنى: سبح الله بذكر أسمائه العلا، والاسم هنا بمعنى: الجنس، أي: بأسماء ربك، والعظيم: صفة للرب سبحانه، وقد يحتمل أن يكون الاسم هنا واحدا مقصودا، ويكون «العظيم» صفة له، فكأنه أمره أن يسبحه باسمه الأعظم، وإن كان لم ينص عليه، ويؤيد هذا ويشير إليه اتصال سورة الحديد وأولها فيها التسبيح، وجملة من أسماء الله تعالى، وقد قال ابن عباس: اسم الله الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد، فتأمل هذا، فإنه من دقيق النظر، ولله تعالى في كتابه العزيز غوامض لا تكاد الأذهان تدركها.
[57 - سورة الحديد]
[57.1-6]
قوله عز وجل: { سبح لله ما فى السموات والأرض وهو العزيز الحكيم }: قال أكثر المفسرين: التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان الله، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام والاستمرار، ثم اختلفوا: هل هذا التسبيح حقيقة أو مجاز على معنى أن أثر الصنعة فيها تنبه الرائي على التسبيح؟ قال الزجاج وغيره: والقول بالحقيقة أحسن، وهذا كله في الجمادات، وأما ما يمكن التسبيح منه فقول واحد: إن تسبيحهم حقيقة.
وقوله تعالى: { هو الأول } [أي]: [الذي] ليس لوجوده بداية مفتتحة { والأخر }: الدائم الذي ليس له نهاية منقضية، قال أبو بكر الوراق: { هو الأول }: بالأزلية { والأخر }: بالأبدية.
{ والظهر }: معناه بالأدلة ونظر العقول في صنعته.
{ والبطن }: بلطفه وغوامض حكمته وباهر صفاته التي لا تصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره.
وقوله تعالى: { وهو معكم أين ما كنتم } معناه: بقدرته وعلمه وإحاطته، وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وباقي الآية بين.
[57.7-9]
وقوله سبحانه: { ءامنوا بالله ورسوله... } الآية: أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان، ويروى أن هذه الآية نزلت في غزوة العسرة، قاله الضحاك، وقال: الإشارة بقوله: { فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا } إلى عثمان بن عفان، يريد: ومن في معناه؛ كعبد الرحمن بن عوف، وغيره.
وقوله: { مما جعلكم مستخلفين فيه }: تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى الإنسان من غيره، ويتركها لغيره، وليس له من ذلك إلا ما أكل فأفنى، أو تصدق فأمضى، ويروى أن رجلا مر بأعرابي له إبل فقال له: يا أعرابي، لمن هذه الإبل؟ قال: هي لله عندي، فهذا موفق مصيب إن صحب قوله عمله.
وقوله سبحانه: { وما لكم لا تؤمنون بالله... } الآية: توطئة لدعائهم (رضي الله عنهم) لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة، وإذا تقرر أن الرسول يدعوهم، وأنهم ممن أخذ الله ميثاقهم فكيف يمتنعون من الإيمان؟.
وقوله: { إن كنتم مؤمنين } أي: إن دمتم على إيمانكم، و { الظلمت }: الكفر، و { النور }: الإيمان، وباقي الآية وعد وتأنيس.
[57.10-11]
وقوله تعالى: { وما لكم ألا تنفقوا فى سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } [المعنى: وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله، وأنتم تموتون وتتركون أموالكم، فناب مناب هذا القول قوله: { ولله ميراث السموات والأرض } ] وفيه زيادة تذكير بالله وعبرة، وعنه يلزم القول الذي قدرناه.
وقوله تعالى: { لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح... } الآية: الأشهر في هذه الآية أنها نزلت بعد الفتح، واختلف في الفتح المشار إليه؛ فقال أبو سعيد الخدري والشعبي: هو فتح الحديبية، وقال قتادة، ومجاهد، وزيد بن أسلم: هو فتح مكة الذي أزال الهجرة، قال * ع *: وهذا هو المشهور الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية "
، وحكم الآية باق غابر الدهر؛ من أنفق في وقت حاجة السبيل، أعظم أجرا ممن أنفق مع استغناء السبيل، و { الحسنى }: الجنة، قاله مجاهد وقتادة، والقرض: السلف، والتضعيف من الله تعالى هو في الحسنات، وقد مر ذكر ذلك، والأجر الكريم الذي يقترن به رضى وإقبال، وهذا معنى الدعاء ب«يا كريم» العفو، أي: إن مع عفوه رضى وتنعيما.
[57.12-13]
وقوله سبحانه: { يوم ترى المؤمنين والمؤمنت يسعى نورهم بين أيديهم... } الآية، العامل في { يوم } قوله: { وله أجر كريم } والرؤية هنا رؤية عين، والجمهور أن النور هنا هو نور حقيقة، وقد روي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمنها: أن كل مؤمن ومظهر للإيمان، يعطى يوم القيامة نورا فيطفأ نور كل منافق، ويبقى نور المؤمنين، حتى إن منهم من نوره يضيء كما بين مكة وصنعاء؛ رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من نوره كالنخلة السحوق، ومنهم من نوره يضيء ما قرب من قدميه؛ قاله ابن مسعود، ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويبين مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية، قال الفخر: قال قتادة: ما من عبد إلا وينادى يوم القيامة: يا فلان، هذا نورك، يا فلان، لا نور لك، نعوذ بالله من ذلك! واعلم أن العلم الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نورا من نور البصر، وإذا كان كذلك ظهر أن معرفة الله تعالى هي النور في القيامة، فمقادير الأنوار يوم القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا، انتهى، ونحوه للغزالي، وخص تعالى بين الأيدي بالذكر؛ لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور، واختلف في قوله تعالى: { وبأيمنهم } فقال بعض المتأولين: المعنى: وعن أيمانهم، فكأنه خص ذكر جهة اليمين؛ تشريفا، وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاتهم، وقال جمهور المفسرين: المعنى: يسعى نورهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور، { وبأيمنهم }: أصله، والشيء الذي هو متقد فيه، فتضمن هذا القول أنهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين أكرم؛ ألا ترى أن فضيلة عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنما كانت بنور لا يحملانه، هذا في الدنيا، فكيف بالآخرة؟! * ت *: وفيما قاله * ع *: عندي نظر، وأيضا فأحوال الآخرة لا تقاس على أحوال الدنيا!.
وقوله تعالى: { بشراكم } أي: يقال لهم: بشراكم { جنت } أي دخول جنات.
* ت *: وقد جاءت بحمد الله آثار بتبشير هذه الأمة المحمدية، وخرج ابن ماجة قال: أخبرنا جبارة بن المغلس، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن أبي بردة، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إذا جمع [الله] الخلائق يوم القيامة، أذن لامة محمد صلى الله عليه وسلم في السجود، فسجدوا طويلا، ثم يقال: ارفعوا رؤوسكم، فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار "
، قال ابن ماجه: وحدثنا جبارة بن المغلس، حدثنا كثير بن سليمان: عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن هذه الأمة أمة مرحومة، عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال: هذا فداؤك من النار "
،وفي «صحيح مسلم»:
" دفع الله لكل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول: هذا فداؤك من النار "
انتهى من «التذكرة».
وقوله تعالى: { يوم يقول المنفقون } قيل: { يوم } هو بدل من الأول، وقيل: العامل فيه «اذكر»، قال * ع *: ويظهر لي أن العامل فيه قوله تعالى: { ذلك هو الفوز العظيم } ويجيء معنى الفوز أفخم؛ كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم، وقول المنافقين هذه المقالة المحكية، هو عند انطفاء أنوارهم، كما ذكرنا قبل، وقولهم: «انظرونا» معناه: انتظرونا، وقرأ حمزة وحده: { انظرونا } بقطع الألف وكسر الظاء ومعناه أخرونا؛ ومنه: { فنظرة إلى ميسرة } ومعنى قولهم أخرونا، أي: أخروا مشيكم لنا؛ حتى نلتحق فنقتبس من نوركم، واقتبس الرجل: أخذ من نور غيره قبسا، قال الفخر: القبس: الشعلة من النار والسراج، والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين، وهذا منهم جهل؛ لأن تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا، وهم لم يقدموها، قال الحسن: يعطى يوم القيامة كل أحد نورا على قدر عمله، ثم يؤخذ من حجر جهنم ومما فيها من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق، ثم تمضي زمرة من المؤمنين، وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم تمضي زمرة أخرى كأضوأ كوكب في السماء، ثم على ذلك، ثم تغشاهم ظلمة تطفىء نور المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا: { انظرونا نقتبس من نوركم } ، انتهى.
وقوله تعالى: { قيل ارجعوا وراءكم } يحتمل أن يكون من قول المؤمنين [لهم]، [ويحتمل أن يكون من قول] الملائكة، والقول لهم: { فالتمسوا نورا }: هو على معنى التوبيخ لهم، أي: إنكم لا تجدونه، ثم أعلم تعالى أنه يضرب بينهم في هذه الحال بسور حاجز، فيبقى المنافقون في ظلمة وعذاب.
وقوله تعالى: { باطنه فيه الرحمة } أي: جهة المؤمنين { وظهره }: جهة المنافقين، والظاهر هنا: البادي؛ ومنه قول الكتاب: من ظاهر مدينة كذا، وعبارة الثعلبي: { فضرب بينهم بسور }: وهو حاجز بين الجنة والنار، قال أبو أمامة الباهلي: فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم، وقد ضرب بينهم بسور، قال قتادة: حائط بين الجنة والنار، له باب { باطنه فيه الرحمة } ، يعني: الجنة، { وظهره من قبله العذاب } يعني النار، انتهى، قال * ص *: قال أبو البقاء: الباء في { بسور } زائدة، وقيل: ليست بزائدة، قال أبو حيان: والضمير في { باطنه } عائد على الباب، وهو الأظهر لأنه الأقرب، وقيل: على سور، أبو البقاء: والجملة صفة ل«باب» أو ل«سور»، انتهى.
[57.14-15]
وقوله تعالى: { يندونهم } معناه: ينادي المنافقون المؤمنين: { ألم نكن معكم }: في الدنيا، فيرد المؤمنون عليهم: { بلى }: كنتم معنا، ولكن عرضتم أنفسكم للفتنة، وهي حب العاجل والقتال عليه، قال مجاهد: فتنتم أنفسكم بالنفاق { وتربصتم } معناه هنا: بإيمانكم فأبطأتم به، حتى متم، وقال قتادة: معناه: تربصتم بنا وبمحمد صلى الله عليه وسلم الدوائر، وشككتم، والارتياب: التشكك، والأماني التي غرتهم هي قولهم: سيهلك محمد هذا العام، ستهزمه قريش، ستأخذه الأحزاب... إلى غير ذلك من أمانيهم، وطول الأمل: غرار لكل أحد، وأمر الله الذي جاء هو: الفتح وظهور الإسلام ، وقيل: هو موتهم على النفاق الموجب للعذاب، و { الغرور }: الشيطان بإجماع المتأولين، وينبغي لكل مؤمن أن يعتبر هذه الآية في نفسه، وتسويفه في توبته، واعلم أيها الأخ أن الدنيا غرارة للمقبلين عليها، فإن أردت الخلاص والفوز بالنجاة، فازهد فيها، وأقبل على ما يعنيك من إصلاح دينك والتزود لآخرتك، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» عن أبي الدرداء أنه قال يعني لأصحابه : لئن حلفتم لي على رجل منكم أنه أزهدكم، لأحلفن لكم أنه خيركم، وروى ابن المبارك بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يبعث الله تبارك وتعالى يوم القيامة عبدين من عباده كانا على سيرة واحدة، أحدهما مقتور عليه، والآخر موسع عليه [فيقبل المقتور عليه] إلى الجنة، ولا ينثني عنها حتى ينتهي إلى أبوابها، فيقول حجبتها: إليك إليك! فيقول: إذن لا أرجع، قال: وسيفه في عنقه فيقول: أعطيت هذا السيف في الدنيا أجاهد به، فلم أزل مجاهدا به حتى قبضت وأنا على ذلك، فيرمي بسيفه إلى الخزنة، وينطلق، لا يثنونه ولا يحبسونه عن الجنة، فيدخلها، فيمكث فيها دهرا، ثم يمر به أخوه الموسع عليه فيقول له: يا فلان، ما حبسك؟! فيقول: ما خلي سبيلي إلا الآن، ولقد حبست ما لو أن ثلاثمائة بعير أكلت خمطا، لا يردن إلا خمسا وردن على عرقي لصدرن منه ريا "
انتهى.
وقوله تعالى: { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية... } الآية: استمرار في مخاطبة المنافقين؛ قاله قتادة وغيره.
وقوله تعالى: { هى مولكم } قال المفسرون: معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنما هي استعارة؛ لأنها من حيث تضمهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى، وهذا نحو قول الشاعر: [الوافر]
........................
تحية بينهم ضرب وجيع
[57.16]
وقوله تعالى: { ألم يأن }: ابتداء معنى مستأنف، ومعنى { ألم يأن }: ألم يحن؛ يقال: أنى الشيء يأني إذا حان، وفي الآية معنى الحض والتقريع، قال ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية، وهذه الآية كانت سبب توبة الفضيل وابن المبارك، والخشوع: الإخبات والتضامن وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب؛ ولذلك خص تعالى القلب بالذكر، وروى شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أول ما يرفع من الناس الخشوع ".
وقوله تعالى: { لذكر الله } أي: لأجل ذكر الله تعالى ووحيه، أو لأجل تذكير الله إياهم وأوامره فيهم، والإشارة في قوله: { أوتوا الكتب } إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام ولذلك قال: { من قبل } وإنما شبه أهل عصر نبي [بأهل عصر نبي].
وقوله: { فطال عليهم الأمد } قيل: معناه: أمد الحياة، وقيل: أمد انتظار القيامة، قال الفخر: وقال مقاتل بن حيان: الأمد هنا: الأمل، أي: لما طالت آمالهم، لا جرم قست قلوبهم، انتهى، وباقي الآية بين.
[57.17-19]
وقوله تعالى: { اعلموا أن الله يحى الأرض بعد موتها... } الآية، مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين ندبوا إلى الخشوع، وهذا ضرب مثل، واستدعاء إلى الخير برفق وتقريب بليغ، أي: لا يبعد عندكم أيها التاركون للخشوع رجوعكم إليه وتلبسكم به، فإن الله يحيي الأرض بعد موتها، فكذلك يفعل بالقلوب، يردها إلى الخشوع بعد بعدها عنه، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابة والتكسب من العبد بعد نفورها منه، كما يحيي الأرض بعد أن كانت ميتة، وباقي الآية بين، و { المصدقين }: يعني به المتصدقين، وباقي الآية بين.
* ت *: وقد جاءت آثار صحيحة في الحض على الصدقة، قد ذكرنا منها جملة في هذا المختصر، وأسند مالك في «الموطأ» عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
" يا نساء المؤمنات، لا تحقرن إحداكن لجارتها، ولو كراع شاة محرقا "
وفي «الموطأ» عنه صلى الله عليه وسلم
" ردوا السائل ولو بظلف محرق "
قال ابن عبد البر في «التمهيد»: ففي هذا الحديث الحض على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها، وفي قول الله عز وجل:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
[الزلزلة:7] أوضح الدلائل في هذا الباب، وتصدقت عائشة رضي الله عنها بحبتين من عنب، فنظر إليها بعض أهل بيتها فقالت: لا تعجبن؛ فكم فيها من مثقال ذرة، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم:
" اتقوا النار، ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة "
وإذا كان الله عز وجل يربي الصدقات، ويأخذ الصدقة بيمينه فيربيها، كما يربي أحدنا فلوه أو فصيله فما بال من عرف هذا يغفل عنه! وما التوفيق إلا بالله، انتهى من «التمهيد»، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا حرملة بن عمران أنه سمع يزيد بن أبى حبيب يحدث أن أبا الخير حدثه: أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" كل امرىء في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس "
قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء، ولو كعكة أو بصلة أو كذا، انتهى، و { الصديقون }: بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق؛ على ما ذكر الزجاج.
وقوله تعالى: { والشهداء عند ربهم }: اختلف في تأويله فقال ابن مسعود وجماعة: { والشهداء }: معطوف على: { الصديقون } والكلام متصل، ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء، فكل مؤمن شهيد؛ قاله مجاهد، وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مؤمنو أمتي شهداء»، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وإنما خص صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفا لهم؛ لأنهم في أعلى رتب الشهادة؛ ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضا من السبعة بتشريف ينفرد به، وقال بعضها: { الشهداء } هنا: من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، فكأنه قال: هم أهل الصدق والشهداء على الأمم، وقال ابن عباس، ومسروق، والضحاك: الكلام تام في قوله: { الصديقون } ، وقوله: { والشهداء }: ابتداء مستأنف، ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها: معنى الآية: والشهداء بأنهم صديقون حاضرون عند ربهم، وعنى بالشهداء الأنبياء عليهم السلام .
*ت*: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية، وقال بعضها: قوله: { والشهداء } ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله، واستأنف الخبر عنهم بأنهم: { عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } فكأنه جعلهم صنفا مذكورا وحده.
* ت *: وأبين هذه الأقوال الأول، وهذا الأخير، وإن صح حديث البراء لم يعدل عنه، قال أبو حيان: والظاهر أن { الشهداء } مبتدأ خبره ما بعده، انتهى.
وقوله تعالى { ونورهم } قال الجمهور: هو حقيقة حسبما تقدم.
[57.20]
وقوله سبحانه: { اعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو } هذه الآية وعظ، وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها، والحياة الدنيا في هذه الآية: عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأما ما كان من ذلك في طاعة الله تعالى، وما كان في الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات فلا مدخل له في هذه الآية، وتأمل حال الملوك بعد فقرهم، يبن لك أن جميع ترفهم لعب ولهو، والزينة: التحسين الذي هو خارج عن ذات الشيء، والتفاخر بالأموال والأنساب وغير ذلك على عادة الجاهلية، ثم ضرب الله عز وجل مثل الدنيا، فقال: { كمثل غيث... } الآية: وصورة هذا المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك، فيشب في النعمة، ويقوى، ويكسب المال والولد، ويغشاه الناس، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط، ويشيب، ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموت، ويضمحل أمره، وتصير أمواله لغيره، وتتغير رسومه؛ فأمره مثل مطر أصاب أرضا، فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق، ثم هاج، أي: يبس، واصفر، ثم تحطم، ثم تفرق بالرياح واضمحل.
وقوله: { أعجب الكفار } أي: الزراع؛ فهو من كفر الحب، أي: ستره، وقيل: يحتمل أن يعني الكفار بالله، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا، ثم قال تعالى: { وفى الأخرة عذاب شديد ومغفرة... } الآية: كأنه قال: والحقيقة هاهنا، وذكر العذاب أولا؛ تهمما به من حيث الحذر في الإنسان، ينبغي أن يكون أولا، فإذا تحرز من المخاوف مد حينئذ أمله، فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه، وهو المغفرة والرضوان، وعبارة الثعلبي: { ثم يهيج } أي: يجف { وفى الأخرة عذاب شديد }: لأعداء الله { ومغفرة }: لأوليائه، وقال الفراء { وفى الأخرة عذاب شديد ومغفرة } أي: إما عذاب شديد، وإما مغفرة { وما الحيوة الدنيا إلا متع الغرور }: هذا تزهيد في العمل للدنيا، وترغيب في العمل للآخرة، انتهى، وهو حسن، وعن طارق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته، وبئست الدار لمن صدته عن آخرته، وقصرت به عن رضا ربه، فإذا قال العبد: قبح الله الدنيا قالت الدنيا: قبح الله أعصانا لربه "
رواه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «السلاح»، ولا يشك عاقل أن حطام الدنيا مشغل عن التأهب للآخرة؛ قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم»: وقد روي مرفوعا:
" لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال "
قال أبو عمر: ثم نقول: إن الزهد في الحلال، وترك الدنيا مع القدرة عليها أفضل من الرغبة فيها في حلالها، وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين قديما وحديثا، والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر والزهد فيها، وفضل القناعة، والرضا بالكفاف، والاقتصار على ما يكفي دون التكاثر الذي يلهي ويطغي : أكثر من أن يحيط بها كتاب، أو يشمل عليها باب، والذين زوى الله عنهم الدنيا من الصحابة، أكثر من الذين فتحها عليهم أضعافا مضاعفة، وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما حضرته الوفاة بكى بكاء شديدا، وقال: كان مصعب بن عمير خيرا مني؛ توفي ولم يترك ما يكفن فيه، وبقيت بعده حتى أصبت من الدنيا وأصابت مني، ولا أحسبني إلا سأحبس عن أصحابي بما فتح الله علي من ذلك، وجعل يبكي حتى فاضت نفسه، وفارق الدنيا رحمة الله عليه، فإن ظن ظان جاهل أن الاستكثار من الدنيا ليس به بأس، أو غلب عليه الجهل؛ فظن أن ذلك أفضل من طلب الكفاف منها، وشبه عليه بقول الله تعالى:
ووجدك عائلا فأغنى
[الضحى:8] فيما عدده سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم من نعمه عنده فإن ذلك ليس كما ظن؛ بل ذلك غنى القلب، دلت على ذلك الآثار الكثيرة؛ كقوله عليه السلام:
" ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس "
انتهى.
[57.21-23]
وقوله سبحانه: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم... } الآية: لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة، ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة، وهذه الآية حجة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات، وقد استدل بها بعضهم على أن أول أوقات الصلوات أفضل؛ لأنه يقتضي المسارعة والمسابقة، وذكر سبحانه العرض من الجنة؛ إذ المعهود أنه أقل من الطول، وقد ورد في الحديث:
" أن سقف الجنة العرش "
وورد في الحديث:
" أن السموات السبع في الكرسي كالدرهم في الفلاة، وأن الكرسي في العرش كالدرهم في الفلاة ".
* ت *: أيها الأخ، أمرك المولى سبحانه بالمسابقة والمسارعة؛ رحمة منه وفضلا، فلا تغفل عن امتثال أمره وإجابة دعوته: [الخفيف]
السباق السباق قولا وفعلا
حذر النفس حسرة المسبوق
ذكر صاحب «معالم الإيمان، وروضات الرضوان» في مناقب صلحاء القيروان، قال: ومنهم أبو خالد عبد الخالق المتعبد، كان كثير الخوف والحزن، وبالخوف مات؛ رأى يوما خيلا يسابق بها، فتقدمها فرسان، ثم تقدم أحدهما على الآخر، ثم جد التالي حتى سبق الأول، فتخلل عبد الخالق الناس حتى وصل إلى الفرس السابق، فجعل يقبله ويقول: بارك الله فيك، صبرت فظفرت، ثم سقط مغشيا عليه، انتهى.
وقوله سبحانه: { ما أصاب من مصيبة فى الأرض... } الآية: قال ابن زيد وغيره: المعنى: ما حدث من حادث، خير وشر، فهذا على معنى لفظ أصاب، لا على عرف المصيبة؛ فإن عرفها في الشر، وقال ابن عباس ما معناه: أنه أراد عرف المصيبة، فقوله: { فى الأرض } يعني: بالقحوط، والزلازل، وغير ذلك و { فى أنفسكم }: بالموت، والأمراض، وغير ذلك.
وقوله: { إلا فى كتب } معناه: إلا والمصيبة في كتاب و { نبرأها } معناه: نخلقها؛ يقال: برأ الله الخلق، أي: خلقهم، والضمير عائد على المصيبة، وقيل: على الأرض، وقيل: على الأنفس؛ قاله ابن عباس وجماعة، وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر، وهي كلها معان صحاح.
{ إن ذلك على الله يسير }: يريد تحصيل الأشياء كلها في كتاب، وقال الثعلبي: وقيل المعنى: إن خلق ذلك وحفظ جميعه، على الله يسير، انتهى.
وقوله: { لكيلا تأسوا } معناه: فعل الله هذا كله، وأعلمكم به؛ ليكون سبب تسليتكم وقلة اكتراثكم بأمور الدنيا ، فلا تحزنوا على فائت، ولا تفرحوا الفرح المبطر بما آتاكم منها، قال ابن عباس: ليس أحد إلا يحزن أو يفرح، ولكن من أصابته مصيبة فليجعلها صبرا، ومن أصابه خير فليجعله شكرا؛ وفي«صحيح مسلم» عن أبي سعيد وأبي هريرة، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب، ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته "
، وفي «صحيح مسلم» عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة "
، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال: لما نزلت:
من يعمل سوءا يجز به
[النساء:123] بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" سددوا وقاربوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها "
، انتهى، وقد تقدم كثير في هذا المختصر من هذا المعنى، فالله المسؤول أن ينفع به كل من حصله أو نظر فيه.
وقوله تعالى: { والله لا يحب كل مختال فخور }: يدل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال والفخر، وأما الفرح بنعم الله المقترن بالشكر والتواضع، فإنه لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه، ولا حرج فيه، والله أعلم.
[57.24-27]
وقوله: { الذين يبخلون } قال بعضهم: هو خبر مبتدإ محذوف تقديره: هم الذين يبخلون، وقال بعضهم: هو في موضع نصب؛ صفة ل { كل } ، وإن كان نكرة فهو يخصص نوعا ما؛ فيسوغ لذلك وصفه بالمعرفة، وهذا مذهب الأخفش، و { الكتب } هنا: اسم جنس لجميع الكتب المنزلة، { والميزان }: العدل في تأويل الأكثرين.
وقوله تعالى: { وأنزلنا الحديد } عبر سبحانه عن خلقه الحديد بالإنزال؛ كما قال:
وأنزل لكم من الأنعم
[الزمر:6] الآية، قال جمهور من المفسرين: الحديد هنا أراد به جنسه من المعادن وغيرها، وقال حذاق من المفسرين: أراد به السلاح، ويترتب معنى الآية بأن الله أخبر أنه أرسل رسلا، وأنزل كتبا، وعدلا مشروعا، وسلاحا يحارب به من عاند، ولم يقبل هدى الله؛ إذ لم يبق له عذر، وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال في سبيل الله وترغيب فيه.
وقوله: { وليعلم الله من ينصره } يقوي هذا التأويل.
وقوله: { بالغيب } معناه: بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه فآمن بها، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: و { قفينا } معناه: جئنا بهم بعد الأولين، وهو مأخوذ من القفا، أي: جيء بالثاني في قفا الأول، فيجيء الأول بين يدي الثاني، وقد تقدم بيانه.
وقوله سبحانه: { وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية }: الجعل في هذه الآية بمعنى الخلق.
وقوله: { ابتدعوها }: صفة لرهبانية، وخصها بأنها ابتدعت؛ لأن الرأفة والرحمة في القلب، لا تكسب للإنسان فيها، وأما الرهبانية فهي أفعال بدن مع شيء في القلب، ففيها موضع للتكسب، ونحو هذا عن قتادة، والمراد بالرأفة والرحمة حب بعضهم في بعض وتوادهم، والمراد بالرهبانية: رفض النساء، واتخاذ الصوامع والديارات، والتفرد للعبادات، وهذا هو ابتداعهم، ولم يفرض الله ذلك عليهم، لكنهم فعلوا ذلك؛ ابتغاء رضوان الله؛ هذا تأويل جماعة، وقرأ ابن مسعود: «ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها» وقال مجاهد: المعنى: كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله، فالاستثناء على هذا متصل، واختلف في الضمير الذي في قوله: { فما رعوها } من المراد به؟ فقال ابن زيد وغيره: هو عائد على الذين ابتدعوا الرهبانية، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل، وأنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه، وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها، وروينا في « كتاب الترمذي» عن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث: اعلم، قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: اعلم يا بلال! قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: أنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة، لا يرضى الله ورسوله بها كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى.
[57.28-29]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله } قالت فرقة: الخطاب بهذه الآية لأهل الكتاب، ويؤيده الحديث الصحيح:
" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي "
الحديث، وقال آخرون: الخطاب للمؤمنين من هذه الأمة، ومعنى { وءامنوا برسوله } أي: اثبتوا على ذلك ودوموا عليه، { يؤتكم كفلين } أي: نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه، قال أبو موسى: { كفلين }: ضعفين بلسان الحبشة، والنور هنا: إما أن يكون وعدا بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة، وإما أن يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله.
وقوله تعالى: { لئلا يعلم أهل الكتب ألا يقدرون على شىء من فضل الله... } الآية: روي أنه لما نزل هذا الوعد المتقدم للمؤمنين، حسدهم أهل الكتاب على ذلك، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها، وتزعم أنهم أحباء الله وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله فعل ذلك، وأعلم به؛ ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون، و«لا» في قوله: { لئلا } زائدة، وقرأ ابن عباس والجحدري: «ليعلم أهل الكتاب»، وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس: «كي يعلم» وروي عن حطان الرقاشي أنه قرأ: «لأن يعلم».
وقوله تعالى: { ألا يقدرون } معناه: أنهم لا يملكون فضل الله، ولا يدخل تحت قدرهم، وباقي الآية بين.
[58 - سورة المجادلة]
[58.1-4]
قوله عز وجل: { قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها... } الآية: اختلف الناس في اسم هذه المرأة على أقوال، واختصار ما رواه ابن عباس والجمهور
" أن أوس بن الصامت الأنصاري، أخا عبادة بن الصامت، ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد، وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة، فلما فعل ذلك أوس جاءت زوجته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أوسا أكل شبابي، ونثرت له بطني، فلما كبرت ومات أهلي، ظاهر مني! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا حرمت عليه، فقالت: يا رسول الله، لا تفعل؛ فإني وحيدة ليس لي أهل سواه، فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مقالته فراجعته، فهذا هو جدالها، وكانت في خلال جدالها تقول: اللهم إليك أشكو حالي وانفرادي وفقري إليه "
، وروي أنها كانت تقول:
" اللهم، إن لي منه صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، فهذا هو اشتكاؤها إلى الله، فنزلت الآية: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في أوس، وأمره بالتكفير، فكفر بالإطعام، وأمسك أهله "
قال ابن العربي في «أحكامه»: والأشبه في اسم هذه المرأة أنها خولة بنت ثعلبة، امرأة أوس بن الصامت، وعلى هذا اعتمد الفخر؛ قال الفخر: هذه الواقعة تدل على أن من انقطع رجاؤه من الخلق، ولم يبق له في مهمة أحد إلا الخالق كفاه الله ذلك المهم، انتهى، والمحاورة: مراجعة القول ومعاطاته، وفي مصحف ابن مسعود: «تحاورك في زوجها» والظهار: قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، يريد في التحريم؛ كأنها إشارة إلى الركوب، إذ عرفه في ظهور الحيوان، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، فرد الله بهذه الآية على فعلهم، وأخبر بالحقيقة من أن الأم هي الوالدة، وأما الزوجة فلا يكون حكمها حكم الأم، وجعل الله سبحانه القول بالظهار منكرا وزورا، فهو محرم، لكنه إذا وقع لزم؛ هكذا قال فيه أهل العلم، لكن تحريمه تحريم المكروهات جدا، وقد رجى الله تعالى بعده بأنه عفو غفور مع الكفارة.
وقوله سبحانه: { ثم يعودون... } الآية.
* ت *: اختلف في معنى العود، والعود في «الموطإ»: العزم على الوطء والإمساك معا، وفي «المدونة»: العزم على الوطء خاصة.
وقوله تعالى: { من قبل أن يتماسا } ، قال الجمهور: وهذا عام في نوع المسيس الوطء والمباشرة، فلا يجوز لمظاهر أن يطأ، ولا أن يقبل أو يلمس بيده، أو يفعل شيئا من هذا النوع إلا بعد الكفارة؛ وهذا قول مالك رحمه الله.
وقوله تعالى: { ذلكم توعظون به }: إشارة إلى التحذير، أي: فعل ذلك؛ عظة لكم لتنتهوا عن الظهار.
وقوله سبحانه: { فمن لم يستطع }: قال الفخر: الاستطاعة فوق الوسع؛ والوسع فوق الطاقة، فالاستطاعة هي أن يتمكن الإنسان من الفعل على سبيل السهولة، انتهى، وفروع الظهار مستوفاة في كتب الفقه، فلا نطيل بذكرها.
وقوله سبحانه: { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله... } الآية: إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم والإطعام، ثم شدد سبحانه بقوله: { وتلك حدود الله } أي: فالتزموها، ثم توعد الكافرين بقوله: { وللكفرين عذاب أليم }.
[58.5-7]
وقوله سبحانه: { إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا... } الآية: نزلت في قوم من المنافقين واليهود، كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين الدوائر، ويتمنون فيهم المكروه، ويتناجون بذلك؛ وكبت الرجل: إذا بقي خزيان يبصر ما يكره، ولا يقدر على دفعه، وقال قوم منهم أبو عبيدة: أصله كبدوا، أي: أصابهم داء في أكبادهم، فأبدلت الدال تاء، وهذا غير قوي، و { الذين من قبلهم }: منافقو الأمم الماضية، ولفظ البخاري: { كبتوا }: أحزنوا.
وقوله تعالى: { وللكفرين عذاب مهين * يوم يبعثهم الله }: العامل في { يوم } قوله: { مهين } ، ويحتمل أن يكون فعلا مضمرا تقديره: اذكر.
وقوله تعالى: { إلا هو رابعهم } أي: بعلمه وإحاطته وقدرته، وعبارة الثعلبي { إلا هو رابعهم }: يعلم ويسمع نجواهم، يدل على ذلك افتتاح الآية وخاتمتها، انتهى.
[58.8-10]
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون... } الآية، قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين، { وإذا جاءوك حيوك }: هو قولهم: السام عليكم، يريدون الموت، ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستروحون، وذلك أنهم كانوا يقولون: لو كان محمد نبيا لعذبنا بهذه الأقوال التي تسيئه، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم.
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إذا تناجيتم... } الآية: وصية منه سبحانه للمؤمنين ألا يتناجوا بمكروه، وذلك عام في جميع الناس إلى يوم القيامة.
وقوله: { إنما النجوى } أي: بالإثم { من الشيطن } وقرأ نافع وأهل المدينة: «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي ، الفعل مسند إلى الشيطان، وقرأ أبو عمرو وغيره: «ليحزن» بفتح الياء وضم الزاي ، ثم أخبر تعالى أن الشيطان أو التناجي الذي هو منه، ليس بضار أحدا إلا أن يكون ضر بإذن الله، أي: بأمره وقدره، ثم أمر بتوكل المؤمنين عليه تبارك وتعالى.
[58.11-12]
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا فى المجلس... } الآية، وقرأ عاصم: «في المجالس» قال زيد بن أسلم وقتادة: هذه الآية نزلت بسبب تضايق الناس في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر إليه، فيأتي الرجل الذي له الحق والسن والقدم في الإسلام، فلا يجد مكانا، فنزلت بسبب ذلك، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس فيه الرجل، ولكن تفسحوا يفسح الله لكم "
، قال جمهور العلماء: سبب نزول الآية مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ثم الحكم مطرد في سائر المجالس التي هي للطاعات؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" أحبكم إلى الله ألينكم مناكب في الصلاة، وركبا في المجالس "
، وهذا قول مالك رحمه الله، وقال: ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر؛ قال * ع *: فالسنة المندوب إليها هي التفسح، والقيام منهي عنه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث نهى أن يقوم الرجل؛ فيجلس الآخر مكانه.
* ت *: وقد روى أبو داود في «سننه» عن سعيد بن أبي الحسن قال: «جاءنا أبو بكرة في شهادة، فقام له رجل من مجلسه فأبى أن يجلس فيه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ونهى أن يمسح الرجل يده بثوب من لم يكسه» وروى أبو داود عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس فيه، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم» انتهى، قال * ع *: فأما القيام إجلالا فجائز بالحديث، وهو قوله عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ:
" قوموا إلى سيدكم "
وواجب على المعظم ألا يحب ذلك ويأخذ الناس به؛ لقوله عليه السلام :
" من أحب أن يتمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار ".
*
ت *: وفي الاحتجاج بقضية سعد نظر؛ لأنها احتفت بها قرائن سوغت ذلك؛ انظر السير، وقد أطنب صاحب المدخل في الإنحاء والرد على المجيزين للقيام، والسلامة عندي ترك القيام.
وقوله تعالى: { يفسح الله لكم } معناه: في رحمته وجنته.
* ص *: { يفسح } مجزوم في جواب الأمر، انتهى، { وإذا قيل انشزوا } معناه: ارتفعوا، وقوموا فافعلوا ذلك؛ ومن «رياض الصالحين» للنووي: وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما "
رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن، وفي رواية لأبي داود:
" لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما "
وعن حذيفة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لعن من جلس وسط الحلقة "
، رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذي عن أبي مجلز؛ أن رجلا قعد وسط الحلقة، فقال حذيفة:
" ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، أو لعن الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من جلس وسط الحلقة "
قال الترمذي: حديث حسن صحيح، انتهى.
وقوله سبحانه: { يرفع الله الذين ءامنوا منكم... } الآية: قال جماعة: المعنى: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات؛ فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، وقال آخرون: المعنى: يرفع الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا درجات، لكنا نعلم تفاضلهم في الدرجات من مواضع أخر؛ فلذلك جاء الأمر بالتفسح عاما للعلماء وغيرهم، وقال ابن مسعود وغيره: { يرفع الله الذين ءامنوا منكم } وهنا تم الكلام، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات، ونصبهم بإضمار فعل، فللمؤمنين رفع على هذا التأويل، وللعلماء درجات، وعلى هذا التأويل قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع، وروى البخاري وغيره عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس، فشربوا، وسقوا، وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله عز وجل الذي أرسلت به "
انتهى.
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر } روي عن ابن عباس وقتادة في سببها: أن قوما من شباب المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة، وكان صلى الله عليه وسلم سمحا، لا يرد أحدا، فنزلت هذه الآية مشددة عليهم، وقال مقاتل: نزلت في الأغنياء؛ لأنهم غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته، قال جماعة من الرواة: نسخت هذه الآية قبل العمل بها، لكن استقر حكمها بالعزم عليه، وصح عن علي أنه قال:
" ما عمل بها أحد غيري، وأنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين، قال: ثم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه العبادة قد شقت على الناس فقال لي: يا علي، كم ترى أن يكون حد هذه الصدقة؟ أتراه دينارا؟ قلت: لا، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا، قال: فكم؟ قلت: حبة من شعير، قال: إنك لزهيد فأنزل الله الرخصة "
، يريد للواجدين، وأما من لم يجد فالرخصة له ثابتة؛ بقوله: «فإن لم تجدوا» قال الفخر: قوله عليه السلام لعلي:
" إنك لزهيد "
معناه: إنك قليل المال، فقدرت على حسب حالك، انتهى.
[58.13-18]
وقوله سبحانه: { ءأشفقتم... } الآية: الإشفاق: هنا الفزع من العجز عن الشيء المتصدق به، أو من ذهاب المال في الصدقة.
وقوله: { فأقيموا الصلوة... } الآية: المعنى: دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعد شرعكم، ومن قال: إن هذه الصدقة منسوخة بآية الزكاة؛ فقوله ضعيف.
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين تولوا }: نزلت في قوم من المنافقين، تولوا قوما من اليهود، وهم المغضوب عليهم، قال الطبري: { ما هم منكم }: يريد به المنافقين { ولا منهم } أي: ولا من اليهود، وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى:
مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء
[النساء:143] كالشاة العائرة بين الغنمين، وتحتمل الآية تأويلا آخر، وهو أن يكون قوله: { ما هم } يريد به اليهود { ولا منهم } يريد به المنافقين، { ويحلفون }: يعني المنافقين، وقرأ الحسن: { اتخذوا أيمنهم } بكسر الهمزة ، والجنة: ما يتستر به، ثم أخبر تعالى عن المنافقين في هذه الآية أنه ستكون لهم أيمان يوم القيامة بين يدي الله تعالى، يخيل إليهم بجهلهم أنها تنفعهم، وتقبل منهم، وهذا هو حسابهم { أنهم على شىء } أي: على شيء نافع لهم.
[58.19-22]
وقوله تعالى: { استحوذ عليهم الشيطن } معناه: تملكهم من كل جهة، وغلب على نفوسهم، وحكي أن عمر قرأ: «استحاذ»، ثم قضى تعالى على محاده بالذل، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله... } الآية: نفت هذه الآية أن يوجد من يؤمن بالله حق الإيمان، ويلتزم شعبه على الكمال يواد كافرا أو منافقا، و { كتب فى قلوبهم الإيمن }: معناه: أثبته وخلقه بالإيجاد.
وقوله: { أولئك }: إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم معنى الآية؛ لأن المعنى: لكنك تجدهم لا يوادون من حاد الله.
وقوله تعالى: { بروح منه } معناه: بهدى منه ونور وتوفيق إلهي ينقدح لهم من القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم و«الحزب»: الفريق، وباقي الآية بين.
[59 - سورة الحشر]
[59.1-4]
قوله تعالى: { سبح لله ما فى السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } الآية: تقدم الكلام في تسبيح الجمادات و { الذين كفروا من أهل الكتب }: هم بنو النضير.
و[قوله]: { لأول الحشر }: قال الحسن بن أبي الحسن وغيره: يريد حشر القيامة، أي: هذا أوله والقيام من القبور آخره، وقال عكرمة وغيره: والمعنى: لأول موضع الحشر، وهو الشام؛ وذلك أن أكثرهم جاء إلى الشام، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلاد الشام.
وقوله سبحانه: { ما ظننتم أن يخرجوا }: يريد لمنعتهم وكثرة عددهم.
وقوله تعالى: { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين } أي: كلما هدم المسلمون من تحصينهم في القتال هدموا هم من البيوت؛ ليجبروا الحصن.
* ت *: والحاصل أنهم يخربون بيوتهم حسا ومعنى؛ أما حسا فواضح، وأما معنى فبسوء رأيهم وعاقبة ما أضمروا من خيانتهم وغدرهم، { ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء }: من الوطن { لعذبهم فى الدنيا }: بالسبي والقتل، قال البخاري: والجلاء: الإخراج من أرض إلى أرض، انتهى.
[59.5-7]
وقوله تعالى: { ما قطعتم من لينة... } الآية سببها قول اليهود: ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد؟! فرد الله عليهم بهذه الآية، قال ابن عباس وجماعة من اللغويين: اللينة من النخيل: ما لم يكن عجوة، وقيل غير هذا.
* ص *: أصل «لينة»: لونة، فقلبوا الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وجمعه لين؛ كتمرة وتمر، قال الأخفش: واللينة كأنها لون من النخل، أي: ضرب منه، انتهى.
وقوله عز وجل: { وما أفاء الله على رسوله منهم... } الآية، إعلام بأن ما أخذ لبني النضير ومن فدك، هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها؛ بل على حكم خمس الغنائم؛ وذلك أن بني النضير لم يوجف عليها ولا قوتلت كبير قتال، فأخذ منها صلى الله عليه وسلم قوت عياله، وقسم سائرها في المهاجرين، وأدخل معهم أبا دجانة وسهل بن حنيف من الأنصار؛ لأنهما شكيا فقرا، والإيجاف: سرعة السير، والوجيف دون التقريب؛ يقال: وجف الفرس وأوجفه الراكب.
وقوله تعالى: { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى... } الآية: أهل القرى في هذه الآية: هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب، وذلك أنها فتحت في ذلك الوقت من غير إيجاف، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك للمهاجرين، ولم يحبس منها لنفسه شيئا، ولم يعط الأنصار شيئا لغناهم، والقربى في الآية: قرابته صلى الله عليه وسلم منعوا الصدقة فعوضوا من الفيء.
وقوله سبحانه: { كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم }: مخاطبة للأنصار؛ لأنه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غني، والمعنى: كي لا يتداول ذلك المال الأغنياء بتصرفاتهم، ويبقى المساكين بلا شيء، وقد مضى القول في الغنائم في سورة الأنفال، وروي أن قوما من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة، وقالوا: لنا منها سهمنا، فنزل قوله تعالى: { وما ءاتكم الرسول فخذوه... } الآية: فرضوا بذلك، ثم اطرد بعد معنى الآية في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه، حتى قال قوم: إن الخمر محرمة في كتاب الله بهذه الآية، وانتزع منها ابن مسعود لعنة الواشمة، الحديث.
* ت *: وبهذا المعنى يحصل التعميم للأشياء في قوله تعالى:
ما فرطنا فى الكتب من شىء
[59.8-9]
وقوله تعالى: { للفقراء المهجرين }: بيان لقوله: { والمسكين وابن السبيل } وكرر لام الجر، لما كانت الجملة الأولى مجرورة باللام؛ ليبين أن البدل إنما هو منها، ثم وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم، وتوجب الشفقة عليهم، وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم { يبتغون فضلا من الله ورضوانا }: يريد به الآخرة والجنة: { أولئك هم الصدقون } أي: في الأقوال والأفعال والنيات { والذين تبوءوا الدار }: هم الأنصار رضي الله عن جميعهم ، والضمير في { من قبلهم } للمهاجرين، والدار هي المدينة، والمعنى: تبوؤوا الدار مع الإيمان، وبهذا الاقتران يتضح معنى قوله تعالى: { من قبلهم } فتأمله، قال * ص *: { والإيمن } منصوب بفعل مقدر، أي: واعتقدوا الإيمان، فهو من عطف الجمل؛ كقوله: [من الرجز]
علفتها تبنا وماء باردا
......................
انتهى، وقيل غير هذا، وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم يحبون المهاجرين، وبأنهم يؤثرون على أنفسهم، وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم.
* ت *: وروى الترمذي عن أنس قال:
" لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوما أبذل لكثير ولا أحسن مواساة في قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم؛ لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنة، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى، والحاجة: الحسد في هذا الموضع؛ قاله الحسن، ثم يعم بعد وجوها، وقال الثعلبي: { حاجة } أي: حزازة، وقيل: حسدا { مما أوتوا } أي: مما أعطي المهاجرون من أموال بني النضير والقرى، انتهى.
وقوله تعالى: { ويؤثرون على أنفسهم }: صفة للأنصار، وجاء الحديث الصحيح من غير ما طريق،
" أنها نزلت بسبب رجل من الأنصار وصنيعه مع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ نوم صبيانه، وقدم للضيف طعامه، وأطفأت أهله السراج، وأوهما الضيف أنهما يأكلان معه، وباتا طاويين؛ فلما غدا الأنصاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «لقد عجب الله من فعلكما البارحة» "
ونزلت الآية في ذلك، قال صاحب «سلاح المؤمن»: الرجل الأنصاري الذي أضاف هو، أبو طلحة انتهى، قال الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن عاصم: حدثنا الجماني: حدثنا صالح المري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بكثرة صوم ولا صلاة؛ إنما دخلوها بسلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، وحسن الخلق، والرحمة بجميع المسلمين "
انتهى، والإيثار على النفس أكرم خلق، قال أبو يزيد البسطامي: قدم علينا شاب من بلخ حاجا فقال لي: ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ! فقلت له: فما هو عندكم؟! فقال: إذا فقدنا صبرنا، وإذا وجدنا آثرنا، وروي أن سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما فتح هذه القرى قال للأنصار:
" إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم؛ وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه الغنيمة، فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا، ونترك لهم هذه الغنيمة "
، فنزلت الآية، والخصاصة: الفاقة والحاجة، وشح النفس: هو كثرة طمعها. وضبطها على المال، والرغبة فيه، وامتداد الأمل؛ هذا جماع شح النفس. وهو داعية كل خلق سوء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من أدى الزكاة المفروضة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة فقد برىء من الشح "
، وإلى هذا الذي قلناه ذهب الجمهور والعارفون بالكلام، وقيل في الشح غير هذا، قال * ع *: وشح النفس فقر لا يذهبه غنى المال، بل يزيده، وينصب به؛ و { يوق } من وقى يقي، وقال الفخر: اعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع، ولما كان الشح من صفات النفس لا جرم، قال الله تعالى: { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } أي: الظافرون بما أرادوا، قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه، ولم يمنع شيئا أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقي شح نفسه، انتهى.
[59.10-14]
وقوله تعالى: { والذين جاءوا من بعدهم... } الآية: قال جمهور العلماء: أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة، وقال الفراء: أراد الفرقة الثالثة من الصحابة، وهي من آمن في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { يقولون }: حال فيها الفائدة، والمعنى: والذين جاؤوا قائلين كذا، وروت أم الدرداء، وأبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:
" دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين، ولك مثله "
رواه مسلم، انتهى، قال * ع *: ولهذه الآية قال مالك وغيره: إنه من كان له في أحد من الصحابة رأي سوء أو بغض، فلا حظ له في فيء المسلمين، وقال عبد الله بن يزيد: قال الحسن: أدركت ثلاثمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم سبعون بدريا كلهم يحدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه "
فالجماعة ألا تسبوا الصحابة، ولا تماروا في دين الله، ولا تكفروا أحدا من أهل التوحيد بذنب، قال عبد الله: فلقيت أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلة وأنسا، فكلهم يحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الحسن، والغل: الحقد والاعتقاد الرديء.
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم... } الآية: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، ورفاعة بن التابوت وقوم من منافقي الأنصار؛ كانوا بعثوا إلى بني النضير، وقالوا لهم: اثبتوا في معاقلكم، فإنا معكم كيفما تقلبت حالكم، وكانوا في ذلك كاذبين، وإنما أرادوا بذلك أن تقوى نفوسهم؛ عسى أن يثبتوا حتى لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فيتم مرادهم، وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله: { لا يخرجون } { لا ينصرونهم }؛ لأنها راجعة إلى حكم القسم، لا إلى حكم الشرط، والضمير في { صدورهم } يعود على اليهود والمنافقين، والضمير في قوله: { لا يقتلونكم جميعا } لبني النضير وجميع اليهود، هذا قول جماعة المفسرين، ومعنى الآية: لا يبرزون لحربكم، وإنما يقاتلون متحصنين بالقرى والجدران؛ للرعب والرهب الكائن في قلوبهم.
وقوله تعالى: { بأسهم بينهم شديد } أي: في غائلتهم وإحنهم { تحسبهم جميعا } أي: مجتمعين { وقلوبهم شتى } أي: متفرقة؛ قال * ع *: وهذه حال الجماعة المتخاذلة، وهي المغلوبة أبدا في كل ما تحاول، واللفظة مأخوذة من الشتات، وهو التفرق ونحوه.
[59.15-17]
وقوله تعالى: { كمثل الذين من قبلهم } قال ابن عباس: هم بنو قينقاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، والوبال: الشدة والمكروه، وعاقبة السوء والعذاب الأليم: هو في الآخرة.
وقوله سبحانه: { كمثل الشيطن } معناه: أن هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير، كمثل الشيطان مع الإنسان؛ فالمنافقون مثلهم الشيطان، وبنو النضير مثلهم الإنسان، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن الشيطان والإنسان في هذه الآية اسما جنس، فكما أن الشيطان يغوي الإنسان، ثم يفر عنه بعد أن يورطه؛ كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبوت، ووعدوهم النصر، فلما نشب بنو النضير، وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال، وذهب قوم من رواة القصص إلى أن هذا في شيطان مخصوص مع عابد مخصوص، اسمه «برصيصا»، استودع امرأة جميلة، وقيل: سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون، فسول له الشيطان الوقوع عليها، فحملت منه، فخشي الفضيحة، فسول له قتلها ودفنها، ففعل، ثم شهره، فلما استخرجت المرأة، وحمل العابد شر حمل، وصلب جاءه الشيطان فقال له: اسجد لي سجدة وأنا أخلصك، فسجد له، فقال له الشيطان: هذا الذي أردت منك أن كفرت بربك، إني بريء منك، فضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين، وهذا يحتاج إلى صحة سند، والتأويل الأول هو وجه الكلام.
* ت *: قال السهيلي: وقد ذكر هذه القصة هكذا القاضي إسماعيل وغيره من طريق سفيان عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر بن عبيد بن رفاعة الزرقي، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن راهبا كان في بني إسرائيل "
فذكر القصة بكمالها، ويقال: إن اسم هذا الراهب «برصيصا»، ولم يذكر اسمه القاضي إسماعيل، انتهى، قال * ع *: وقول الشيطان: { إنى أخاف الله } رياء من قوله، وليست على ذلك عقيدته، ولا يعرف الله حق معرفته، ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلى آخر { فكان عقبتهما } يعني: الشيطان والإنسان على ما تقدم من حملهما على الجنس أو الخصوص.
[59.18-20]
وقوله سبحانه { يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد... } الآية: هذه آية وعظ وتذكير، وتقريب للآخرة، وتحذير ممن لا تخفى عليه خافية، وقوله تعالى: { لغد }: يريد يوم القيامة، والذين نسوا الله: هم الكفار، والمعنى: تركوا الله وغفلوا عنه، حتى كانوا كالناسين، فعاقبهم بأن [جعلهم] ينسون أنفسهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بالذنب، قال سفيان: المعنى: حظ أنفسهم، ويعطي لفظ الآية أن من عرف نفسه ولم ينسها عرف ربه تعالى، وقد قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه : اعرف نفسك تعرف ربك، وروي عنه أيضا أنه قال: من لم يعرف نفسه، لم يعرف ربه.
[59.21-24]
وقوله سبحانه: { لو أنزلنا هذا القرءان على جبل... } الآية: موعظة للإنسان، وذم لأخلاقه وإعراضه وغفلته عن تدبر كلام خالقه، وإذا كان الجبل، على عظمه وقوته، لو أنزل عليه القرآن وفهم منه ما فهمه الإنسان، لخشع واستكان، وتصدع، خشية لله تعالى : فالإنسان على حقارته وضعفه أولى بذلك، وضرب الله سبحانه هذا المثل؛ ليتفكر فيه العاقل، ويخشع ويلين قلبه.
وقوله سبحانه: { هو الله الذى لا إله إلا هو عالم الغيب والشهدة هو الرحمن الرحيم } الآية: لما قال تعالى: { من خشية الله } ، جاء بالأوصاف العلية التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية ، وقرأ الجمهور: «القدوس» بضم القاف ؛ من تقدس إذا تطهر وتنزه.
وقوله: { السلم } أي: ذو السلام؛ لأن الإيمان به وتوحيده وأفعاله هي لمن آمن سلام كلها، و { المؤمن }: اسم فاعل من آمن بمعنى أمن من الأمن، وقيل: معناه: المصدق عباده المؤمنين، و { المهيمن }: معناه: الحفيظ والأمين؛ قاله ابن عباس، و { الجبار }: هو الذي لا يدانيه شيء، ولا تلحق رتبته، قال الفخر: وفي اسمه تعالى: { الجبار } وجوه:
أحدها: أنه فعال؛ من جبر إذا أغنى الفقير وجبر الكسير.
والثاني: أن يكون الجبار من جبره إذا أكرهه؛ قال الأزهري: وهي لغة تميم، وكثير من الحجازيين يقولونها بغير ألف في الإكراه، وكان الشافعي رحمه الله يقول: جبره السلطان على كذا بغير ألف، وجعل الفراء { الجبار } بهذا المعنى من أجبر بالألف، وهي اللغة المعروفة في الإكراه، انتهى، و { المتكبر }: معناه: الذي له التكبر حقا و { البارىء } بمعنى: الخالق، و { المصور }: هو الذي يوجد الصور، وباقي الآية بين، وروى معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر : وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه، حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة "
رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، انتهى.
[60 - سورة الممتحنة]
[60.1]
قوله عز وجل: { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء... } الآية: المراد بالعدو ههنا: كفار قريش، وسبب نزول هذه الآية حاطب بن أبي بلتعة؛ وذلك
" أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية.
* ت *: بل عام فتح مكة، فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك منه ارتدادا، فنزل الوحي مخبرا بما صنع حاطب، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وثالثا قيل هو المقداد وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظغينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، وخلوا سبيلها، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب! ففتشوا رحلها فما وجدوا شيئا فقال علي: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا كذب، والله، لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فقالت: أعرضوا عني، فحلته من قرون رأسها، فجاؤوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب: من كتب هذا؟ فقال: أنا يا رسول الله، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، لا تعجل علي فوالله، ما كفرت منذ أسلمت، وما فعلت ذلك. ارتدادا عن ديني ولا رغبة عنه؛ ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت امرأ ملصقا فيهم، وأهلي بين ظهرانيهم، فخشيت عليهم فأردت أن أتخذ عندهم يدا، فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا تقولوا لحاطب إلا خيرا "
وروي أن حاطبا كتب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل والسيل، وأقسم بالله، لو غزاكم وحده، لنصر عليكم، فكيف وهو في جمع كثير؟! * ص *: و { تلقون } مفعوله محذوف، أي: تلقون إليهم أخبار الرسول وأسراره، و { بالمودة }: الباء للسبب، انتهى.
وقوله تعالى: { أن تؤمنوا }: مفعول من أجله، أي: أخرجوكم من أجل أن آمنتم بربكم.
وقوله تعالى: { إن كنتم }: شرط، جوابه متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير: إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، و { جهادا } منصوب على المصدر، وكذلك { ابتغاء } ويجوز أن يكون ذلك مفعولا من أجله، والمرضاة: مصدر كالرضى و { تسرون } حال من { تلقون } ، ويجوز أن يكون في موضع خبر ابتداء، كأنه قال: أنتم تسرون، ويصح أن يكون فعلا ابتدىء به القول.
وقوله تعالى: { أعلم } يحتمل أن يكون أفعل، ويحتمل أن يكون فعلا؛ لأنك تقول: علمت بكذا فتدخل الباء.
* ص *: والظاهر أنه أفعل تفضيل؛ ولذلك عدي بالباء، انتهى، و { سوآء } يجوز أن يكون مفعولا ب { ضل } على تعدي «ضل»، ويجوز أن يكون ظرفا على غير التعدي؛ لأنه يجيء بالوجهين، والأول أحسن في المعنى، والسواء: الوسط، و { السبيل }: هنا شرع الله وطريق دينه.
[60.2-3]
وقوله سبحانه: { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء... } الآية: أخبر تعالى أن مداراة هؤلاء الكفرة غير نافعة في الدنيا، وأنها ضارة في الآخرة؛ ليبين فساد رأي مصانعهم، فقال: { إن يثقفوكم } أي: إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت عداوتهم، وانبسطت إليكم أيديهم بضرركم وقتلكم، وانبسطت ألسنتهم بسبكم، وأشد من هذا كله إنما يقنعهم أن تكفروا، وهذا هو ودهم،، ثم أخبر تعالى أن هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها، ليست بنافعة يوم القيامة، فالعامل في { يوم } قوله { تنفعكم } ، وقيل: العامل فيه { يفصل } وهو مما بعده لا مما قبله، وعبارة الثعلبي { لن تنفعكم أرحمكم } أي: قرابتكم منهم { ولا أولدكم }: الذين عندهم بمكة { يوم القيمة }: إذا عصيتم الله من أجلهم { يفصل بينكم }: فيدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار، انتهى.
* ت *: وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى:
وما أمولكم ولا أولدكم بالتى تقربكم عندنا زلفى
[سبأ:37] الآية: واعلم أن المال والسبب النافع يوم القيامة، ما كان لله وقصد به العون على طاعة الله، وإلا فهو على صاحبه وبال وطول حساب، قال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن الحارث يحدث عن أبي كثير، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه سمعه يقول: ويجمعون يعني ليوم القيامة فيقال: أين فقراء هذه الأمة ومساكينها؟ فيبرزون، فيقال: ما عندكم؟ فيقولون: يا ربنا، ابتلينا فصبرنا، وأنت أعلم، أحسبه، قال: ووليت الأموال والسلطان غيرنا، فيقال: صدقتم، فيدخلون الجنة قبل سائر الناس بزمان، وتبقى شدة الحساب على ذوي السلطان والأموال، قال: قلت: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسي من نور، ويظلل عليهم الغمام، ويكون ذلك اليوم أقصر عليهم من ساعة من نهار، انتهى، وفي قوله تعالى: { والله بما تعملون بصير }: وعيد وتحذير.
[60.4-5]
وقوله تعالى: { قد كانت لكم أسوة } أي: قدوة { فى إبرهيم }: الخليل { والذين معه }: قيل: من آمن به من الناس ، وقال الطبري وغيره: { والذين معه }: هم الأنبياء المعاصرون له أو قريبا من عصره، قال * ع *: وهذا أرجح؛ لأنه لم يرو أن لإبراهيم أتباعا مؤمنين في وقت مكافحته نمرودا، وفي البخاري: أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرا من بلد النمرود: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك، وهذه الأسوة مقيدة في التبري من المشركين وإشراكهم، وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا محمد عليه السلام أسوة حسنة على الإطلاق في العقائد وفي أحكام الشرع كلها.
وقوله: { كفرنا بكم } أي: كذبناكم في عبادتكم الأصنام.
وقوله: { إلا قول إبرهيم لأبيه } يعني: تأسوا بإبراهيم، إلا في استغفاره لأبيه، فلا تتأسوا به فتستغفروا للمشركين، لأن استغفاره إنما كان عن موعدة وعدها إياه؛ وهذا تأويل قتادة، ومجاهد، وعطاء الخراساني وغيرهم.
وقوله: { ربنا عليك توكلنا } إلى قوله: { إنك أنت العزيز الحكيم } هو حكاية عن قول إبراهيم والذين معه، وهذه الألفاظ بينة مما تقدم في آي القرآن.
وقوله: { ربنا لا تجعلنا فتنة } قيل: المعنى: لا تغلبهم علينا، فنكون لهم فتنة وسبب ضلالة؛ نحا هذا المنحى قتادة وأبو مجلز، وقد تقدم مستوفى في سورة يونس، وقال ابن عباس: المعنى: لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن أدياننا، فكأنه قال: لا تجعلنا مفتونين، فعبر عن ذلك بالمصدر، وهذا أرجح الأقوال؛ لأنهم إنما دعوا لأنفسهم، وعلى منحى قتادة: إنما دعوا للكفار، أما أن مقصدهم إنما هو أن يندفع عنهم ظهور الكفار الذي بسببه فتن الكفار، فجاء في المعنى تحليق بليغ.
[60.6-7]
وقوله تعالى: { لقد كان لكم فيهم } أي: في إبراهيم والذين معه، وباقي الآية بين، وروي أن هذه الآيات لما نزلت، وعزم المؤمنون على امتثالها، وصرم حبال الكفرة لحقهم تأسف وهم من أجل قراباتهم؛ إذ لم يؤمنوا، ولم يهتدوا، حتى يكون بينهم التوادد والتواصل، فنزلت: { عسى الله... } الآية: مؤنسة في ذلك، ومرجية أن يقع، فوقع ذلك بإسلامهم في الفتح، وصار الجميع إخوانا، وعسى من الله واجبة الوقوع.
* ت *: قد تقدم تحقيق القول في { عسى } في سورة القصص، فأغنى عن إعادته .
[60.8-11]
وقوله تعالى: { لا ينهكم الله عن الذين لم يقتلوكم... } الآية: اختلف في هؤلاء الذين لم ينه عنهم أن يبروا، فقيل: أراد المؤمنين التاركين للهجرة، وقيل: خزاعة وقبائل من العرب، كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبين لظهوره، وقيل: أراد النساء والصبيان من الكفرة، وقيل: أراد من كفار قريش من لم يقاتل ولا أخرج، ولم يظهر سوءا؛ وعلى أنها في الكفار فالآية منسوخة بالقتال، والذين قاتلوا في الدين وأخرجوهم هم مردة قريش.
وقوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنت مهجرت } الآية نزلت إثر صلح الحديبية؛ وذلك أن ذلك الصلح تضمن أن من أتى مسلما من أهل مكة، رد إليهم، سواء كان رجلا أو امرأة، فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية، وحكم بأن المهاجرة المؤمنة لا ترد إلى دار الكفر، و { فامتحنوهن }: معناه: جربوهن واستخبروا حقيقة ما عندهن.
وقوله تعالى: { الله أعلم بإيمنهن } إشارة إلى الاسترابة ببعضهن.
* ت *: وقوله تعالى: { فإن علمتموهن مؤمنت... } الآية: العلم هنا: بمعنى الظن، وذكر الله تعالى العلة في ألا يرد النساء إلى الكفار وهو امتناع الوطء وحرمته.
وقوله تعالى: { وءاتوهم ما أنفقتم... } الآية: أمر بأن يؤتى الكفار مهور نسائهم التي هاجرن مؤمنات، ورفع سبحانه الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وألا يتمسكوا بعصمهن، فقيل: الآية في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها ابتداء، وقيل: هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب، والعصم: جمع عصمة، وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وأمر تعالى أن يسأل أيضا المؤمنون: ما أنفقوا؟ فروي عن ابن شهاب أن قريشا لما بلغهم هذا الحكم، قالوا: نحن لا نرضى بهذا الحكم، ولا نلتزمه، ولا ندفع لأحد صداقا، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى: { وإن فاتكم شىء من أزوجكم إلى الكفر... } الآية: فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق، واختلف: من أي مال يدفع إليه الصداق؟ فقال ابن شهاب: يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم، وأزال الله دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه، قال * ع *: وهذا قول صحيح يقتضيه قوله: { فعقبتم } وقال قتادة وغيره: يدفع إليه من مغانم المغازي، وقال هؤلاء: التعقيب هو الغزو والمغنم، وقال ابن شهاب أيضا: يدفع إليه من أي وجوه الفيء أمكن، والمعاقبة في هذه الآية ليست بمعنى مجازاة السوء بسوء، قال الثعلبي: وقرأ مجاهد: «فأعقبتم» وقال: المعنى: صنعتم بهم كما صنعوا بكم، انتهى، قال * ع *: أي: وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجهم، وهكذا هو التعاقب على الجمل والدواب أن يركب هذا عقبة وهذا عقبة، ويقال: عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي: جاء فعل كل واحد منهما بعقب فعل الآخر، وهذه الآية كلها قد ارتفع حكمها.
[60.12-13]
وقوله عز وجل: { يأيها النبى إذا جاءك المؤمنت يبايعنك... } الآية: هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على الصفا، وهي كانت في المعنى بيعة الرجال قبل فرض القتال.
* ت *: وخرج البخاري بسنده عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: { يأيها النبى إذا جاءك المؤمنت يبايعنك } الآية.
وكذا روى البخاري من طريق ابن عباس أنه عليه السلام تلا عليهن الآية يوم الفطر عقب الصلاة، ونحوه عن أم عطية في البخاري:
" وقرأ عليهن الآية أيضا في ثاني يوم فتح مكة "
وكلام * ع *: يوهم أن الآية نزلت في بيعة النساء يوم الفتح، وليس كذلك؛ وإنما يريد أنه أعاد الآية على من لم يبايعه من أهل مكة؛ لقرب عهدهم بالإسلام، والله أعلم، والإتيان بالبهتان: قال أكثر المفسرين: معناه أن تنسب إلى زوجها ولدا ليس منه، قال * ع *: واللفظ أعم من هذا التخصيص.
وقوله تعالى: { ولا يعصينك فى معروف }: يعم جميع أوامر الشريعة، فرضها وندبها، وفي الحديث:
" أن جماعة نسوة قلن: يا رسول الله، نبايعك على كذا وكذا الآية، فلما فرغن قال صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا منا لأنفسنا "
وقوله تعالى: { فبايعهن } أي: أمض لهن صفقة الإيمان؛ بأن يعطين ذلك من أنفسهن، ويعطين عليه الجنة، واختلف في هيئة مبايعته صلى الله عليه وسلم النساء بعد الإجماع على أنه لم تمس يده يد امرأة أجنبية قط؛ والمروي عن عائشة وغيرها:
" أنه بايع باللسان قولا، وقال: إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة ".
و { قوما غضب الله عليهم }: هم اليهود في قول ابن زيد وغيره، ويأسهم من الآخرة: هو يأسهم من نعيمها مع التصديق بها، وقال ابن عباس: { قوما غضب الله عليهم }: في هذه الآية كفار قريش.
وقوله: { كما يئس الكفر من أصحب القبور }: على هذا التأويل هو على ظاهره في اعتقاد الكفرة إذا مات لهم حميم قالوا: هذا آخر العهد به لا يبعث أبدا.
[61 - سورة الصف]
[61.1-3]
قوله تعالى: { سبح لله ما فى السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } قد تقدم تفسيره، واختلف في السبب الذي نزلت فيه: { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } فقال ابن عباس وغيره: نزلت بسبب قوم قالوا: لو علمنا أحب العمل إلى الله تعالى لسارعنا إليه، ففرض الله الجهاد وأعلمهم بفضله؛ وأنه يحب المقاتلين في سبيله كالبنيان المرصوص، فكرهه قوم منهم، وفروا يوم الغزو فعاتبهم الله تعالى بهذه الآية، وقال قتادة والضحاك: نزلت بسبب جماعة من شباب المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا، قال * ع *: وحكم هذه الآية باق غابر الدهر، وكل من يقول ما لا يفعل فهو ممقوت الكلام، والقول الأول يترجح بما يأتي [من أمر] الجهاد والقتال، والمقت البغض، من أجل ذنب، أو ريبة، أو دناءة يصنعها الممقوت، وقول المرء ما لا يفعل موجب مقت الله تعالى، ولذلك فر كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير وآثروا السكوت، * قلت *: وهذا بحسب فقه الحال؛ إن وجد الإنسان من يكفيه هذه المؤنة في وقته، فقد يسعه السكوت وإلا فلا يسعه، قال الباجي في «سنن الصالحين» له: قال الأصمعي: بلغني أن بعض الحكماء كان يقول: إني لأعظكم وإني لكثير الذنوب، ولو أن أحدا لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه لترك الأمر بالخير، واقتصر على الشر، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس وتذكير من النسيان، وقال أبو حازم: إني لأعظ الناس وما أنا بموضع للوعظ، ولكن أريد به نفسي، وقال الحسن لمطرف: عظ أصحابك، فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل فقال: رحمك الله؛ وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه لو ظفر منكم بهذه فلم يأمر أحد منكم بمعروف، ولم ينه عن منكر، انتهى.
[61.4-9]
وقوله تعالى: { إن الله يحب الذين يقتلون فى سبيله... } الآية، قال معاذ بن جبل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا، ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد "
، مختصر رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح انتهى من «السلاح»، ثم ذكر تعالى مقالة موسى، وذلك ضرب مثل للمؤمنين؛ ليحذروا ما وقع فيه هؤلاء من العصيان وقول الباطل.
وقوله: { لم تؤذوننى } أي: بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم، وأسند الزيغ إليهم؛ لكونه فعل حطيطة، وهذا بخلاف قوله تعالى:
ثم تاب عليهم ليتوبوا
[التوبة:118] فأسند التوبة إليه سبحانه؛ لكونها فعل رفعة، و«زاغ» معناه مال وصار عرفها في الميل عن الحق، و { أزاغ الله قلوبهم } معناه طبع عليها وكثر ميلها عن الحق؛ وهذه هي العقوبة على الذنب بالذنب.
وقوله: { ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد } قال عياض في «الشفا»: سمى الله تعالى نبيه في كتابه محمدا وأحمد؛ فأما اسمه أحمد، ف«أفعل» مبالغة من صفة الحمد، ومحمد «مفعل» من كثرة الحمد، وسمى أمته في كتب أنبيائه بالحمادين؛ ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصه سبحانه وبدائع آياته؛ أنه سبحانه حمى أن يتسمى بهما أحد قبل زمانه، أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء؛ فمنع سبحانه أن يتسمى به أحد غيره؛ حتى لا يدخل بذلك لبس على ضعيف القلب؛ وكذلك محمد أيضا لم يتسم به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد؛ فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك؛ رجاء أن يكون أحدهم هو، وهم محمد بن أحيحة الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان باليمن، ويقولون: بل محمد بن اليحمد من الأزد، ومحمد بن سوادة منهم؛ لا سابع لهم، ولم يدع أحد من هؤلاء النبوة أو يظهر عليه سبب يشكك الناس، انتهى، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا تسموا أولادكم محمدا ثم تلعنونهم "
، رواه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «السلاح».
وقوله سبحانه: { فلما جاءهم بالبينت... } الآية: يحتمل أن يريد «عيسى» ويحتمل أن يريد محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره، * ت *: والأول أظهر.
[61.10-12]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجرة تنجيكم... } الآية: ندب وحض على الجهاد بهذه التجارة التي بينها سبحانه، وهي أن يبذل المرء نفسه وماله، ويأخذ ثمنا جنة الخلد، وقرأ ابن عامر وحده: «تنجيكم» بفتح النون وشد الجيم .
وقوله: { تؤمنون } معناه: الأمر، أي: آمنوا، قال الأخفش: ولذلك جاء «يغفر» مجزوما، وفي مصحف ابن مسعود: «آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا». وقوله: { ذلكم } إشارة إلى الجهاد والإيمان، و { خير } هنا يحتمل أن يكون للتفضيل، فالمعنى: من كل عمل، ويحتمل أن يكون إخبارا أن هذا خير في ذاته، { ومسكن } عطف على { جنت } وطيب المساكن: سعتها وجمالها، وقيل: طيبها المعرفة بدوام أمرها.
[61.13-14]
وقوله سبحانه: { وأخرى تحبونها... } الآية، قال الأخفش، { وأخرى } هي في موضع خفض عطفا على { تجرة } ، وهذا قلق، وقد رده الناس، لأن هذه الأخرى ليست مما دل عليه سبحانه إنما هي مما أعطي ثمنا وجزاء على الإيمان والجهاد بالنفس والمال، وقال الفراء: { وأخرى } في موضع رفع، وقيل: في موضع نصب بإضمار فعل تقديره: ويدخلكم جنات ويمنحكم أخرى؛ وهي النصر والفتح القريب، وقصة عيسى مع بني إسرائيل قد تقدمت.
وقوله تعالى: { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم } قيل ذلك قبل محمد عليه السلام وبعد فترة من رفع عيسى؛ رد الله الكرة لمن آمن به فغلبوا الكافرين الذين قتلوا صاحبه الذي ألقي عليه الشبه، وقيل: المعنى فأصبحوا ظاهرين بالحجة.
[62 - سورة الجمعة]
[62.1-5]
قوله تعالى: { يسبح لله ما فى السموات وما في الأرض } تقدم القول في مثل ألفاظ الآية، والمراد بالأميين جميع العرب، واختلف في المعنيين بقوله تعالى: { وءاخرين منهم } فقال أبو هريرة وغيره: أراد فارس
" وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الآخرون؟ فأخذ بيد سليمان، وقال: لو كان الدين في الثريا لناله رجال من هؤلاء "
خرجه مسلم والبخاري، وقال ابن زيد ومجاهد والضحاك وغيرهم: أراد جميع طوائف الناس، فقوله: { منهم } على هذين القولين إنما يريد في البشرية والإيمان، وقال مجاهد أيضا وغيره: أراد التابعين من أبناء العرب، فقوله: { منهم } يريد في النسب والإيمان.
وقوله: { لما يلحقوا } نفي لما قرب من الحال، والمعنى أنهم مزمعون أن يلحقوا، فهي «لم» زيدت عليها «ما» تأكيدا.
و { الذين حملوا التوراة } هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، و { حملوا } معناه كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها، فهذا كما حمل الإنسان الأمانة، وذكر تعالى أنهم لم يحملوها، أي: لم يطيعوا أمرها ويقفوا عند حدودها حين كذبوا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، والتوراة تنطق بنبوته، فكان كل حبر لم ينتفع بما حمل كمثل حمار عليه أسفار، وفي مصحف ابن مسعود «كمثل حمار» بغير تعريف، والسفر الكتاب المجتمع الأوراق منضدة.
وقوله: { بئس مثل القوم } التقدير: بئس المثل مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، * ص *: ورد بأن فيه حدف الفاعل ولا يجوز، والظاهر أن { مثل القوم } فاعل { بئس } ، و { الذين كذبوا } هو المخصوص بالذم على حذف مضاف؛ أي: مثل الذين كذبوا، انتهى.
[62.6-8]
وقوله سبحانه: { قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم... } الآية، روي أنها نزلت بسبب أن يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاطبوا يهود خيبر في أمره، وذكروا لهم نبوته، وقالوا إن رأيتم اتباعه أطعناكم وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم ، فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون: نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن؛ وأبناء عزير بن الله ومنا الأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب، نحن أحق بالنبوة من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت الآية بمعنى: أنكم إذا كنتم من الله بهذه المنزلة فقربه وفراق هذه الحياة الخسيسة أحب إليكم، فتمنوا الموت إن كنتم تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة، ثم أخبر تعالى أنهم لا يتمنونه أبدا لعلمهم بسوء حالهم، وروى كثير من المفسرين أن الله جلت قدرته جعل هذه الآية معجزة لمحمد نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم، فهي آية باهرة؛ وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام معدودات مات وفارق الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنوا الموت، على جهة التعجيز وإظهار الآية، فما تمناه أحد منهم خوفا من الموت وثقة بصدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
[62.9-11]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلوة } الآية، النداء: هو الأذان، وكان على الجدار في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مصنف أبي داود: كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أذان، ثم زاد عثمان النداء على الزوراء ليسمع الناس.
* ت *: وفي البخاري والترمذي وصححه عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر؛ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما تولى عثمان وكثر الناس، زاد الأذان الثالث فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك، قيل: فقوله «الثالث» يقتضي أنهم كانوا ثلاثة، وفي طريق آخر «الثاني» بدل «الثالث» وهو يقتضي أنهما اثنان، انتهى، وخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت للإمام حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام "
انتهى، وخرجه البخاري من طريق سليمان.
وقوله: { من يوم الجمعة } قال ابن هشام: «من» مرادفة «في»، انتهى .
وقوله تعالى: { فاسعوا إلى ذكر الله... } الآية، السعي في الآية لا يراد به الإسراع في المشي، وإنما هو بمعنى قوله:
وأن ليس للإنسن إلا ما سعى
[النجم:39] فالسعي هو بالنية والإرادة والعمل؛ من وضوء، وغسل، ومشي، ولبس ثوب؛ كل ذلك سعي، وقد قال مالك وغيره: إنما تؤتى الصلاة بالسكينة، * ت *: وهو نص الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة:
" فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها [و] عليكم السكينة "
، * ت *: والظاهر أن المراد بالسعي هنا المضي إلى الجمعة، كما فسره الثعلبي، ويدل على ذلك إطلاق العلماء لفظ الوجوب عليه، فيقولون السعي إلى الجمعة واجب، ويدل على ذلك قراءة عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجماعة من التابعين: «فامضوا إلى ذكر الله» وقال ابن مسعود: لو قرأت: { فاسعوا إلى ذكر الله } لأسرعت حتى يقع ردائي، وقال العراقي: { فاسعوا } معناه بادروا، انتهى، وقوله: { إلى ذكر الله } هو وعظ الخطبة؛ قاله ابن المسيب، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
" إذا كان يوم الجمعة، كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس [الإمام] طووا الصحف، وجاؤوا يستمعون الذكر "
الحديث خرجه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم، والخطبة عند الجمهور شرط في انعقاد الجمعة، وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله عز وجل يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها، ويبعث الجمعة زهراء منيرة، أهلها محفون بها؛ كالعروس تهدى إلى كريمها، تضيء لهم؛ يمشون في ضوئها؛ ألوانهم كالثلج بياضا، وريحهم يسطع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان، ما يطرفون تعجبا، يدخلون الجنة لا يخالطهم إلا المؤذنون المحتسبون "
خرجه القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي، قال صاحب «التذكرة»: وإسناده صحيح، انتهى.
وقوله سبحانه: { ذلكم } إشارة إلى السعي وترك البيع.
وقوله: { فانتشروا } أجمع الناس على أن مقتضى هذا الأمر الإباحة، وكذلك قوله: «وابتغوا من فضل الله» أنه الإباحة في طلب المعاش، مثل قوله تعالى:
وإذا حللتم فاصطدوا
[المائدة:2] إلا ما روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ذلك الفضل المبتغى هو عيادة مريض، أو صلة صديق، أو اتباع جنازة "
، قال * ع *: وفي هذا ينبغي أن يكون المرء بقية يوم الجمعة، ونحوه عن جعفر بن محمد، وقال مكحول: الفضل المبتغى: العلم فينبغي أن يطلب إثر الجمعة.
وقوله تعالى: { واذكروا الله كثيرا... } الآية، قال معاذ بن جبل: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله: رواه الترمذي واللفظ له، وابن ماجه، والحاكم في «المستدرك»؛ وقال صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح».
وقوله سبحانه: { وإذا رأوا تجرة أو لهوا... } الآية، نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير من الشام تحمل ميرة، وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي، قال مجاهد: وكان من عرفهم أن تدخل عير المدينة بالطبل والمعازف، والصياح سرورا بها، فدخلت العير بمثل ذلك، فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه؛ وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، ولم يبق معه غير اثني عشر رجلا، قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم، قال * ع *: ولم تمر بي تسميتهم في ديوان فيما أذكر الآن، إلا أني سمعت أبي رحمه الله يقول: هم العشرة المشهود لهم بالجنة، واختلف في الحادي عشر، فقيل: عمار بن ياسر، وقيل: ابن مسعود، * ت *: وفي تقييد أبي الحسن الصغير: والاثنا عشر الباقون هم الصحابة العشرة، والحادي عشر: بلال، واختلف في الثاني عشر، فقيل: عمار بن ياسر، وقيل: ابن مسعود، انتهى، قال السهيلي: وجاءت تسمية الاثني عشر في حديث مرسل رواه أسد بن عمرو والد موسى بن أسد، وفيه أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان؛ حتى العشرة، وقال: وبلال وابن مسعود، وفي رواية: عمار بدل ابن مسعود، وفي «مراسيل أبي داود» ذكر السبب الذي من أجله ترخصوا، فقال: إن الخطبة يوم الجمعة كانت بعد الصلاة فتأولوا رضي الله عنهم أنهم قد قضوا ما عليهم، فحولت الخطبة بعد ذلك قبل الصلاة، فهذا الحديث وإن كان مرسلا فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحا، والله أعلم؛ انتهى، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لولا هؤلاء لقد كانت الحجارة سومت على المنفضين من السماء "
، وفي حديث آخر:
" والذي نفس محمد بيده، لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا "
، قال البخاري: { انفضوا } معناه تفرقوا، انتهى، وقرأ ابن مسعود: «ومن التجارة للذين اتقوا، والله خير الرازقين» وإنما أعاد الضمير في قوله: { إليها } على التجارة وحدها لأنها أهم، وهي كانت سبب اللهو، * ص *: وقرىء «إليهما» بالتثنية.
[63 - سورة المنافقون]
[63.1-3]
قوله عز وجل: { إذا جاءك المنفقون قالوا نشهد إنك لرسول الله... } الآية فضح الله سرائر المنافقين بهذه الآية، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: نشهد إنك لرسول الله؛ وهم في إخبارهم هذا كاذبون؛ لأن حقيقة الكذب أن يخبر الإنسان بضد ما في قلبه، وهذه كانت حالهم؛ وقرأ الناس: «أيمانهم» جمع يمين، وقرأ الحسن: «إيمانهم» بكسر الهمزة ، والجنة: ما يتستر به في الأجرام والمعاني.
وقوله: { ذلك } إشارة إلى فعل الله بهم في فضحهم وتوبيخهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى ساء عملهم بأن كفروا بعد إيمان.
[63.4-6]
وقوله تعالى: { وإذا رأيتهم تعجبك أجسمهم وإن يقولوا تسمع لقولهم } هذا توبيخ لهم؛ إذ كان منظرهم يروق جمالا وقولهم يخلب بيانا؛ لكنهم كالخشب المسندة؛ إذ لا أفهام لهم نافعة، وكان عبد الله بن أبي ابن سلول من أبهى المنافقين، وأطولهم، ويدل على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه، قال الثعلبي: { تعجبك أجسمهم } لاستواء خلقها وطول قامتها وحسن صورتها، قال ابن عباس: وكان عبد الله بن أبي جسيما صبيحا فصيحا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله ووصفهم الله تعالى بتمام الصورة وحسن الإبانة، ثم شبههم بالخشب المسندة إلى الحائط، لا يسمعون ولا يعقلون أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام، انتهى.
وقوله تعالى: { يحسبون كل صيحة عليهم } هذا أيضا فضح لما كانوا يسرونه من الخوف وذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بقتلهم، قال مقاتل: فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة، أو صياحا بأي وجه، أو أخبروا بنزول وحي طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم، ثم أخبر تعالى بأنهم هم العدو وحذر منهم.
وقوله تعالى: { قتلهم الله } دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة لهم، و { أنى يؤفكون } معناه كيف يصرفون.
وقوله تعالى: { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله... } الآية،
" سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق، فازدحم أجير لعمر بن الخطاب يقال له «جهجاه» مع سنان بن وبرة الجهني، حليف للأنصار، على الماء فكسع جهجاه سنانا فتشاورا، ودعا جهجاه: يا للمهاجرين، ودعا سنان: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ فلما أخبر بالقصة، قال: دعوها؛ فإنها منتنة، فقال عبد الله بن أبي: أوقد فعلوها؟ والله، ما مثلنا ومثل جلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم قال؛ لمن معه من المنافقين: إنما يقيم هؤلاء المهاجرون مع محمد بسبب معونتكم لهم، ولو قطعتم ذلك عنهم؛ لفروا، فسمعها منه زيد بن أرقم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي عند رجال من الأنصار، فبلغه ذلك، فجاء وحلف ما قال ذلك، وحلف معه قوم من المنافقين، وكذبوا زيدا، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم فبقي زيد في منزله لا ينصرف حياء من الناس فنزلت هذه السورة عند ذلك، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد وقال له: لقد صدقك الله يا زيد "
، فخزي عند ذلك عبد الله بن أبي ومقته الناس ولامه المؤمنون من قومه، وقال له بعضهم: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد، فهذا قصص هذه السورة موجزا، وقرأ نافع والمفضل عن عاصم: «لووا» بتخفيف الواو وقرأ الباقون بتشديدها.
وقوله تعالى: { سواء عليهم أستغفرت لهم... } الآية، روي أنه لما نزلت
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم
[التوبة:80] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين، وفي حديث آخر: لو علمت أني لو زدت على السبعين لغفر لهم لزدت، وفي هذا الحديث دليل على رفض دليل الخطاب، فلما فعل ابن أبي وأصحابه ما فعلوا شدد الله عليهم في هذه الآية، وأعلم أنه لن يغفر لهم دون حد في الاستغفار.
[63.7-8]
وقوله تعالى: { هم الذين } إشارة إلى ابن أبي ومن قال بقوله، ثم سفه تعالى أحلامهم في أن ظنوا أن إنفاقهم هو سبب رزق المهاجرين، ونسوا أن جريان الرزق بيد الله تعالى؛ إذا انسد باب انفتح غيره ثم أعلم تعالى أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وفي ذلك وعيد وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان رجلا صالحا لما سمع الآية، جاء إلى أبيه فقال له: أنت والله يا أبت الذليل، ورسول الله العزيز، ووقف على باب السكة التي يسلكها أبوه، وجرد السيف ومنعه الدخول، وقال: والله لا دخلت إلى منزلك إلا أن يأذن في ذلك رسول الله، وعبد الله بن أبي في أذل حال، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليه أن خله يمضي إلى منزله، فقال: أما الآن، فنعم.
[63.9-11]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أمولكم ولا أولدكم عن ذكر الله... } الآية، الإلهاء: الاشتغال بملذ وشهوة، وذكر الله هنا عام في الصلوات، والتوحيد، والدعاء، وغير ذلك من مفروض، ومندوب، وكذلك قوله تعالى: { وأنفقوا من ما رزقنكم } عام من المفروض والمندوب؛ قاله جماعة من المفسرين، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس »: ومن عيوبها تضييع أوقاتها بالاشتغال بما لا يعني من أمور الدنيا، والخوض فيها مع أهلها، ومداواتها أن يعلم أن وقته أعز الأشياء فيشغله بأعز الأشياء، وهو ذكر الله، والمداومة على الطاعة ومطالبة الإخلاص من نفسه؛ فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه "
وقال الحسن بن منصور: عليك بنفسك فإن لم تشغلها شغلتك، انتهى.
وقوله: { لولا أخرتنى إلى أجل قريب } طلب للكرة والإمهال، وسماه قريبا لأنه آت، وأيضا فإنما يتمنى ذلك ليقضي فيه العمل الصالح فقط وليس يتسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونضرته. وقوله: { وأكن من الصلحين } ظاهره العموم، وقال ابن عباس: هو الحج وروى الترمذي عنه أنه قال: ما من رجل لا يؤدي الزكاة ولا يحج إلا طلب الكرة عند موته، قال الثعلبي: قال ابن عباس: { إلى أجل قريب } يريد مثل آجالنا في الدنيا، انتهى، وقرأ أبو عمرو: «وأكون»، وفي قوله تعالى: { ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها } حض على المبادرة ومسابقة الأجل بالعمل الصالح.
[64 - سورة التغابن]
[64.1-4]
قوله تعالى: { هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } أي: في أصل الخلقة، وهذا يجري مع قول الملك: يا رب، أشقي أم سعيد، الحديث، وذلك في بطن أمه، وقيل: الآية تعديد نعم، فقوله: { هو الذى خلقكم } هذه نعمة الإيجاد، ثم قال: { فمنكم كافر } أي: بهذه النعمة؛ لجهله بالله، { ومنكم مؤمن } بالله، والإيمان به شكر لنعمته، فالإشارة على هذا التأويل في الإيمان والكفر، هي إلى اكتساب العبد؛ وهذا قول جماعة، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: { خلق السموات والأرض بالحق } أي: لم يخلقها عبثا ولا لغير معنى.
وقوله تعالى: { فأحسن صوركم } هو تعديد نعم، والمراد الصورة الظاهرة، وقيل: المراد صورة الإنسان المعنوية من حيث هو إنسان مدرك عاقل، والأول أجرى على لغة العرب.
[64.5-10]
وقوله تعالى: { ألم يأتكم } جزم أصله «يأتيكم» والخطاب في هذه الآية لقريش، ذكروا بما حل بعاد وثمود، وغيرهم ممن سمعت قريش بأخبارهم، ووبال الأمر: مكروهه وما يسوء منه.
وقوله تعالى: { ذلك بأنه } إشارة إلى ذوق الوبال، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } يريد قريشا، ثم هي بعد تعم كل كافر بالبعث، ولا توجد (زعم) مستعملة في فصيح الكلام إلا عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله.
وقوله سبحانه: { فئامنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا } هذه الآية دعاء من الله، وتبليغ وتحذير من يوم القيامة، والنور القرآن ومعانيه، ويوم الجمع هو يوم القيامة، وهو يوم التغابن يغبن فيه المؤمنون الكافرين، نحا هذا المنحى مجاهد وغيره.
[64.11-13]
وقوله تعالى: { ما أصاب من مصيبة } يحتمل أن يريد المصائب التي هي رزايا، ويحتمل أن يريد جميع الحوادث من خير وشر، والكل بإذن الله، والإذن هنا عبارة عن العلم والإرادة وتمكين الوقوع.
وقوله سبحانه: { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } قال فيه المفسرون: المعنى ومن آمن وعرف أن كل شيء بقضاء الله وقدره وعلمه، هانت عليه مصيبته وسلم لأمر الله تعالى.
وقوله تعالى: { فإن توليتم } إلى آخر الآية، وعيد وتبرئة للنبي صلى الله عليه وسلم.
[64.14-15]
وقوله: { يأيها الذين ءامنوا إن من أزوجكم } إلى آخر السورة قرآن مدني واختلف في سببه، فقال عطاء بن أبي رباح: إنه نزل في عوف بن مالك الأشجعي؛ وذلك أنه أراد غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع أهله وأولاده، وتشكوا إليه فراقه، فرق لهم فثبطوه ولم يغز، ثم إنه ندم وهم بمعاقبتهم، فنزلت الآية بسببه محذرة من الأزواج والأولاد وفتنتهم. ثم صرف تعالى عن معاقبتهم بقوله: { وإن تعفوا وتصفحوا } وقال بعض المفسرين: سبب الآية أن قوما آمنوا وثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة فلم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد تفقه في الدين، فندموا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم، ثم أخبر تعالى أن الأموال والأولاد فتنة تشغل المرء عن مراشده، وتحمله من الرغبة في الدنيا على ما لا يحمده في آخرته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" الولد مبخلة مجبنة "
، وخرج أبو داود حديثا في مصنفه
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة على المنبر حتى جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يجرانهما، يعثران ويقومان، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى أخذهما، وصعد بهما، ثم قرأ: { إنما أمولكم وأولدكم فتنة... } الآية، وقال: إني رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته "
، قال * ع *: وهذه ونحوها هي فتنة الفضلاء، فأما فتنة الجهال الفسقة؛ فمؤدية إلى كل فعل مهلك، وفي صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
" هم الأخسرون، ورب الكعبة، هم الأخسرون، ورب الكعبة، قلت: ما شأني أيرى في شيئا؟ فجلست وهو يقول؛ فما استطعت أن أسكت وتغشاني ما شاء الله فقلت: من هم بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: هم الأكثرون مالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا "
وفي رواية:
" إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال، هكذا وهكذا، وأشار ابن شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله ، وقليل ماهم "
انتهى، واللفظ للبخاري.
[64.16-18]
وقوله سبحانه: { فاتقوا الله ما استطعتم } تقدم الخلاف هل هذه الآية ناسخة لقوله تعالى:
اتقوا الله حق تقاته
[آل عمران:102] أو ليست بناسخة، بل هي مبينة لها، وأن المعنى: اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم؛ وهذا هو الصحيح، قال الثعلبي: قال الربيع بن أنس: { ما استطعتم } أي: جهدكم، وقيل: معناه: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة، فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد، واسمعوا ما توعظون به، وأطيعوا فيما تؤمرون به، انتهى.
وقوله سبحانه: { ومن يوق شح نفسه } تقدم الكلام عليه، وأسند أبو بكر بن الخطيب من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" السخاء شجرة في الجنة، وأغصانها في الدنيا، فمن كان سخيا أخذ بغصن منها؛ فلم يتركه الغصن حتى يدخله الجنة، والشح شجرة في النار وأغصانها في الأرض، فمن كان شحيحا، أخذ بغصن من أغصانها، فلم يتركه الغصن حتى يدخله النار "
انتهى، وباقي الآية بين.
[65 - سورة الطلاق]
[65.1-3]
قوله تعالى: { يأيها النبى إذا طلقتم النساء } أي: إذا أردتم طلاقهن ؛ قاله الثعلبي وغيره: { فطلقوهن لعدتهن } وطلاق النساء حل عصمتهن، وصورة ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير، ومعنى { فطلقوهن لعدتهن } أي: لاستقبال عدتهن، وعبارة الثعلبي: أي: لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن، وهو طهر لم يجامعها فيه، انتهى، قال * ع *: ومعنى الآية أن لا يطلق أحد امرأته إلا في طهر لم يمسها فيه، وهذا على مذهب مالك ومن قال بقوله؛ القائلين بأن الأقراء عندهم هي الأطهار، فيطلق عندهم المطلق في طهر لم يمس فيه، وتعتد به المرأة، ثم تحيض حيضتين تعتد بالطهر الذي بينهما ثم تقيم في الطهر الثالث معتدة به، فإذا رأت أول الحيضة الثالثة حلت، ومن قال بأن الأقراء: الحيض وهم العراقيون، قال: { لعدتهن } معناه أن تطلق طاهرا فتستقبل بثلاث حيض كوامل فإذا رأت الطهر بعد الثالثة، حلت، والأصل في منع طلاق الحائض حديث ابن عمر، ثم أمر تعالى بإحصاء العدة لما يلحق ذلك من أحكام الرجعة والسكنى، والميراث، وغير ذلك، وعبارة الثعلبي: { وأحصوا العدة } أي: احفظوا عدد قروئها الثلاثة ونحوه تفسير ابن العربي؛ قال: قوله تعالى: { وأحصوا العدة } معناه احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق لما يترتب على ذلك من الأحكام، انتهى من «أحكامه»، ثم أخبر تعالى بأنهن أحق بسكنى بيوتهن التي طلقن فيها فنهى سبحانه عن إخراجهن وعن خروجهن، وسنة ذلك ألا تبيت عن بيتها ولا تغيب عنه نهارا إلا في ضرورة وما لا خطب له من جائز التصرف، وذلك لحفظ النسب والتحرز بالنساء، واختلف في معنى قوله تعالى: { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } فقال الحسن وغيره: ذلك الزنا فيخرجن للحد، وقال ابن عباس: ذلك البذاء على الأحماء، فتخرج ويسقط حقها من المسكن، وتلزم الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب، وفي مصحف أبي «إلا أن يفحشن عليكم» وعبارة الثعلبي: عن ابن عباس: «إلا أن تبذو على أهلها فيحل لهم إخراجها»، انتهى، وهو معنى ما تقدم، وقرأ الجمهور: «مبينة» بكسر الياء ، تقول بان الشيء وبين بمعنى واحد إلا أن التضعيف للمبالغة، وقرأ عاصم: «مبينة» بفتح الياء .
وقوله سبحانه: { وتلك حدود الله } إشارة إلى جميع أوامره في هذه الآية.
وقوله تعالى: { لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قال قتادة وغيره: يريد به الرجعة، أي: أحصوا العدة وامتثلوا ما أمرتم به تجدوا المخلص إن ندمتم؛ فإنكم لا تدرون لعل الرجعة تكون بعد.
وقوله تعالى: { فإذا بلغن أجلهن } يريد به آخر القروء، { فأمسكوهن بمعروف } وهو حسن العشرة، { أو فارقوهن بمعروف } [وهو] أداء جميع الحقوق، والوفاء بالشروط حسب نازلة نازلة، وعبارة الثعلبي: { فإذا بلغن أجلهن } أي: أشرفن على انقضاء عدتهن، انتهى وهو حسن.
وقوله تعالى: { وأشهدوا ذوى عدل منكم } يريد: على الرجعة وذلك شرط في صحة الرجعة، وتمنع المرأة الزوج من نفسها حتى يشهد، وقال ابن عباس: على الرجعة والطلاق معا، قال النخعي: العدل من لم تظهر منه ريبة، والعدل حقيقة الذي لا يخاف إلا الله.
وقوله سبحانه: { وأقيموا الشهدة لله } أمر للشهود.
وقوله: { ذلكم يوعظ به } إشارة إلى إقامة الشهادة؛ وذلك أن فصول الأحكام تدور على إقامة الشهادة.
وقوله سبحانه: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } قال بعض رواة الآثار،
" نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي؛ أسر ولده وقدر عليه رزقه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بالتقوى، فلم يلبث أن تفلت ولده وأخذ قطيع غنم للقوم الذين أسروه، فسأل عوف النبي صلى الله عليه وسلم: أتطيب له تلك الغنم؟ فقال: نعم، قال أبو عمر بن عبد البر: قال النبي صلى الله عليه وسلم «أبى الله عز وجل أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون» "
وقال عليه السلام لابن مسعود:
" لا يكثر همك، يا عبد الله؛ ما يقدر يكن وما ترزق يأتيك "
، وعنه صلى الله عليه وسلم
" استنزلوا الرزق بالصدقة "
، انتهى من كتابه المسمى ب«بهجة المجالس وأنس المجالس».
وقوله تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } هذه الآيات كلها عظة لجميع الناس، ومعنى حسبه: كافيه. وقال ابن مسعود: هذه أكثر الآيات حضا على التفويض لله.
وقوله تعالى: { إن الله بلغ أمره } بيان، وحض على التوكل، أي: لا بد من نفوذ أمر الله؛ توكلت أيها المرء أو لم تتوكل؛ قاله مسروق؛ فإن توكلت على الله كفاك وتعجلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره سبحانه في الوجهين نافذ.
[65.4-6]
وقوله سبحانه: { واللائى يئسن من المحيض من نسائكم... } الآية، «اللائي» جمع «التي» واليائسات من المحيض على مراتب؛ محل بسطها كتب الفقه، وروى إسماعيل بن خالد؛ أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان، لما سمعوا قوله تعالى:
والمطلقت يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء
[البقرة:228] قالوا: يا رسول الله؛ فما عدة من لا قرء لها؛ من صغر أو كبر، فنزلت هذه الآية، فقال قائل منهم: فما عدة الحامل فنزلت: { وأولت الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وهو لفظ يعم الحوامل المطلقات والمعتدات من الوفاة، والارتياب المذكور قيل: هو بأمر الحمل.
وقوله سبحانه: { أسكنوهن من حيث سكنتم... } الآية، أمر بإسكان المطلقات ولا خلاف في ذلك؛ في التي لم تبت وأما المبتوتة؛فمالك يرى لها السكنى لمكان حفظ النسب، ولا يرى لها نفقة؛ لأن النفقة بإزاء الاستمتاع، وقال الثعلبي: { من حيث سكنتم } أي: في مساكنكم التي طلقتموهن فيها، انتهى، والوجد السعة في المال، وأما الحامل فلا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها؛ بتت أو لم تبت؛ لأنها مبينة في الآية، وأنما اختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها، هل ينفق عليها من التركة، أم لا، وكذلك النفقة على المرضع المطلقة واجبة، وبسط ذلك في كتب الفقه.
وقوله سبحانه: { وأتمروا بينكم بمعروف } أي ليأمر كل واحد صاحبه بخير، وليقبل كل أحد ما أمر به من المعروف.
وقوله سبحانه: { وإن تعاسرتم } أي: تشططت المرأة في الحد الذي يكون أجرة على الرضاع، فللزوج أن يسترضع بما فيه رفقه إلا ألا يقبل المولود غير أمه، فتجبر هي حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج في حالهما وغناهما.
* ت *: وهذا كله في المطلقة البائن، قال ابن عبد السلام من أصحابنا: الضمير في قوله تعالى: { أفإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } عائد على المطلقات وكذلك قوله تعالى:
والولدت يرضعن أولدهن
[البقرة:233] وأما ذات الزوج أو الرجعية، فيجب عليها أن ترضع من غير أجر إلا أن تكون شريفة فلا يلزمها ذلك، انتهى.
[65.7-11]
وقوله سبحانه: { لينفق ذو سعة من سعته... } الآية، عدل بين الأزواج لئلا تضيع هي ولا يكلف هو ما لا يطيق، ثم رجى تعالى باليسر تسهيلا على النفوس وتطييبا لها.
وقوله سبحانه: { وكأين } الثعلبي: وكأين: أي: وكم من قرية، { عتت } أي: عصت.
وقوله: { فحاسبنها } قال * ع *: قال بعض المتأولين: الآية في أحوال الآخرة، أي: ثم هو الحساب والتعذيب والذوق وخسار العاقبة، وقال آخرون: ذلك في الدنيا، ومعنى { فحاسبنها حسابا شديدا } أي: لم تغتفر لهم زلة، بل أخذت بالدقائق من الذنوب، ثم ندب تعالى أولي الألباب إلى التقوى تحذيرا.
وقوله تعالى: { قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا } اختلف في تقديره، وأبين الأقوال فيه معنى أن يكون الذكر القرآن، والرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، والمعنى وأرسل رسولا لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول؛ ونحا هذا المنحى السدي، وسائر الآية بين.
[65.12]
وقوله سبحانه: { الله الذى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } لا خلاف بين العلماء أن السموات سبع وأما الأرض فالجمهور: على أنها سبع أرضين، وهو ظاهر هذه الآية، وإنما المماثلة في العدد، ويبينه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
" من غصب شبرا من أرض طوقه الله من سبع أرضين "
، إلى غير هذا مما وردت به الروايات، وروي عن قوم من العلماء أنهم قالوا: الأرض واحدة وهي مماثلة لكل سماء بانفرادها في ارتفاع جرمها، وفي أن فيها عالما يعبد الله كما في كل سماء عالم يعبد الله.
وقوله سبحانه: { يتنزل الأمر بينهن } الأمر هنا يعم الوحي وجميع ما يأمر به سبحانه من تصريف الرياح، والسحاب، وغير ذلك من عجائب صنعه؛ لا إله غيره، وباقي السورة وعظ وحض على توحيد الله عز وجل .
وقوله: { على كل شىء قدير } عموم معناه الخصوص في المقدورات.
وقوله: { بكل شىء علما } عموم على إطلاقه.
[66 - سورة التحريم]
[66.1-5]
قوله تعالى: { يأيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك... } الآية، وفي الحديث من طرق ما معناه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت حفصة، فوجدها قد مرت لزيارة أبيها، فدعا صلى الله عليه وسلم جاريته مارية، فقال معها، فجاءت حفصة وقالت: يا نبي الله! أفي بيتي وعلى فراشي؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: مترضيا لها: «أيرضيك أن أحرمها؟ قالت: نعم؛ فقال: إني قد حرمتها»، قال ابن عباس: وقال مع ذلك: والله، لا أطؤها أبدا، ثم قال لها: لا تخبري بهذا أحدا، ثم إن حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها لتسرها بالأمر، ولم تر في إفشائه إليها حرجا، واستكتمتها، فأوحى الله بذلك إلى نبيه، ونزلت الآية، وفي حديث آخر عن عائشة أن هذا التحريم المذكور في الآية؛ إنما هو بسبب العسل الذي شربه صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش، فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له؛ من دنا منها: إنا نجد منك ريح مغافير، أأكلت مغافير يا رسول الله؟ والمغافير: صمغ العرفط، وهو حلو كريه الرائحة، ففعلن ذلك، فقال رسول الله: ما أكلت مغافير، ولكني شربت عسلا، فقلن له: جرست نحله العرفط؟ فقال: صلى الله عليه وسلم لا أشربه أبدا، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فدخل بعد ذلك على زينب فقالت: ألا أسقيك من ذلك العسل؟ فقال: لا حاجة لي به، قالت عائشة: تقول سودة حين بلغنا امتناعه: والله، لقد حرمناه، فقلت لها: اسكتي، قال * ع *: والقول الأول أن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح، وعليه تفقه الناس في الآية، ومتى حرم الرجل مالا أو جارية فليس تحريمه بشيء، * ت *: والحديث الثاني هو الصحيح خرجه البخاري ومسلم وغيرهما، ودعا الله تعالى نبيه باسم النبوة الذي هو دال على شرف منزلته وفضيلته التي خصه بها، وقرره تعالى كالمعاتب له على تحريمه على نفسه ما أحل الله له، ثم غفر له تعالى ما عاتبه فيه ورحمه.
وقوله تعالى : { قد فرض الله } أي: بين وأثبت، فقال قوم من أهل العلم: هذه إشارة إلى تكفير التحريم، وقال آخرون هي: إشارة إلى تكفير اليمين المقترنة بالتحريم، والتحلة مصدر وزنها «تفعلة» وأدغم لاجتماع المثلين، وأحال في هذه الآية على الآية التي فسر فيها الإطعام في كفارة اليمين بالله تعالى، والمولى الموالي الناصر.
{ وإذ أسر النبى إلى بعض أزوجه } يعني حفصة { حديثا } قال الجمهور الحديث هو قوله في أمر مارية، وقال آخرون: بل هو قوله: إنما شربت عسلا.
وقوله تعالى: { عرف بعضه } المعنى مع شد الراء: أعلم به وأنب عليه وأعرض عن بعض، أي: تكرما وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، والمخاطبة بقوله: { إن تتوبا إلى الله } هي لحفصة وعائشة، وفي حديث البخاري، وغيره عن ابن عباس قال: قلت لعمر: من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حفصة وعائشة.
وقوله: { صغت قلوبكما } معناه مالت، والصغي الميل، ومنه أصغى إليه بأذنه، وأصغى الإناء، وفي قراءة ابن مسعود: «فقد زاغت قلوبكما» والزيغ: الميل وعرفه في خلاف الحق، وجمع القلوب من حيث الاثنان جمع، * ص *: { قلوبكما } القياس فيه: قلباكما مثنى، والجمع أكثر استعمالا وحسنه إضافته إلى مثنى، وهو ضميرهما؛ لأنهم كرهوا اجتماع تثنيتين، انتهى، ومعنى الآية إن تبتما فقد كان منكما ما ينبغي أن يتاب منه، وهذا الجواب الذي للشرط هو متقدم في المعنى، وإنما ترتب جوابا في اللفظ، { وإن تظاهرا } معناه: تتعاونا وأصل: { تظاهرا } تتظاهرا، و { مولاه } أي: ناصره، { وجبريل } وما بعده يحتمل أن يكون عطفا على اسم الله، ويحتمل أن يكون جبريل رفعا بالابتداء وما بعده عطف عليه و { ظهير } هو الخبر، وخرج البخاري بسنده عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت هذه الآية، انتهى، و { قنتت } معناه مطيعات، والسائحات قيل: معناه: صائمات، وقيل: معناه: مهاجرات، وقيل: معناه ذاهبات في طاعة الله، وشبه الصائم بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زاد ولا مطعم، وكذلك الصائم يمسك عن ذلك، فيستوي هو والسائح في الامتناع، وشظف العيش لفقد الطعام.
[66.6-9]
وقوله سبحانه: { يأيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا... } الآية، { قوا } معناه اجعلوا وقاية بينكم وبين النار، وقوله: { وأهليكم } معناه بالوصية لهم والتقويم والحمل على طاعة الله، وفي الحديث:
" رحم الله رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم، صيامكم، [زكاتكم]، مسكينكم، يتيمكم "
* ت *: وفي «العتبية» عن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله أذن لي أن أتحدث عن ملك من الملائكة، إن ما بين شحمة أذنه وعاتقه لمخفق الطير سبعين عاما "
، انتهى، وباقي الآية في غاية الوضوح، نجانا الله من عذابه بفضله، والتوبة فرض على كل مسلم، وهي الندم على فارط المعصية، والعزم على ترك مثلها في المستقبل، هذا من المتمكن، وأما غير المتمكن كالمجبوب في الزنا فالندم وحده يكفيه، والتوبة عبادة كالصلاة، وغيرها، فإذا تاب العبد وحصلت توبته بشروطها وقبلت، ثم عاود الذنب فتوبته الأولى لا تفسدها عودة بل هي كسائر ما تحصل من العبادات، والنصوح بناء مبالغة من النصح، أي: توبة نصحت صاحبها، وأرشدته، وعن عمر: التوبة النصوح: هي أن يتوب ثم لا يعود ولا يريد أن يعود، وقال أبو بكر الوراق، هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت كتوبة الذين خلفوا.
" وروي في معنى قوله تعالى: «يوم لا يخزي الله النبي» أن النبي صلى الله عليه وسلم تضرع مرة إلى الله عز وجل في أمر أمته، فأوحى الله إليه إن شئت جعلت حسابهم إليك، فقال: يا رب، أنت أرحم بهم، فقال الله تعالى: إذن لا أخزيك فيهم ".
وقوله تعالى: { والذين ءامنوا معه } يحتمل: أن يكون معطوفا على النبي فيخرج المؤمنون من الخزي، ويحتمل: أن يكون مبتدأ، و { نورهم يسعى }: جملة هي خبره، وقولهم: { أتمم لنا نورنا } قال الحسن بن أبي الحسن: هو عندما يرون من انطفاء نور المنافقين حسبما تقدم تفسيره، وقيل: يقوله من أعطي من النور بقدر ما يرى موضع قدميه فقط، وباقي الآية بين مما تقدم في غير هذا الموضع.
[66.10-12]
وقوله سبحانه: { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح... } الآية، هذان المثلان اللذان للكفار والمؤمنين معناهما: أن من كفر لا يغني عنه من الله شيء ولا ينفعه سبب، وإن من آمن لا يدفعه عن رضوان الله دافع ولو كان في أسوأ منشأ وأخس حال، وقول من قال: إن في المثلين عبرة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعيد. قال ابن عباس وغيره: «خانتاهما»: أي في الكفر، وفي أن امرأة نوح كانت تقول للناس: إنه مجنون وأن امرأة لوط كانت تنم إلى قومها خبر أضيافه، قال ابن عباس: وما بغت زوجة نبي قط، وامرأة فرعون اسمها آسية، وقولها: { وعمله } تعني كفره وما هو عليه من الضلالة.
وقوله: { التى أحصنت فرجها } الجمهور أنه فرج الدرع، وقال قوم: هو الفرج الجارحة وإحصانه صونه.
وقوله سبحانه: { فنفخنا فيه } عبارة عن فعل جبريل، * ت *: وقد عكس رحمه الله نقل ما نسبه للجمهور في سورة الأنبياء فقال: المعنى واذكر التي أحصنت فرجها وهو الجارحة المعروفة، هذا قول الجمهور، انظر بقية الكلام هناك.
وقوله سبحانه: { من روحنا } إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك، كما تقول بيت الله، وناقة الله، وكذلك الروح الجنس كله هو روح الله، وقرأ الجمهور: { وصدقت بكلمت ربها } بالجمع فيقوي أن يريد التوراة، ويحتمل أن يريد أمر عيسى، وقرأ الجحدري: «بكلمة» فيقوي أن يريد أمر عيسى، ويحتمل أن يريد التوراة، فتكون الكلمة اسم جنس، وقرأ نافع وغيره: «وكتابه» وقرأ أبو عمرو وغيره: «وكتبه» بضم التاء والجمع، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل، قال الثعلبي: واختار أبو حاتم قراءة أبي عمرو بالجمع لعمومها، واختار أبو عبيدة قراءة الإفراد؛ لأن الكتاب يراد به الجنس، انتهى؛ وهو حسن، { وكانت من القنتين } أي: من القوم القانتين؛ وهم المطيعون العابدون، وقد تقدم بيانه.
[67 - سورة الملك]
[67.1]
قوله تعالى: { تبارك الذى بيده الملك } { تبرك } من البركة وهي التزيد في الخيرات، قال الثعلبي: { تبارك الذى بيده الملك } أي: تعالى وتعاظم وقال الحسن: تقدس الذي بيده الملك في الدنيا والآخرة، وقال ابن عباس: { بيده الملك }: يعز من يشاء ويذل من يشاء. انتهى.
[67.2-5]
وقوله سبحانه: { الذى خلق الموت والحيوة... } الآية، الموت والحياة معنيان يتعاقبان جسم الحيوان، يرتفع أحدهما بحلول الآخر، وما جاء في الحديث الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام :
" يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح على الصراط "
الحديث، فقال أهل العلم: إنما ذلك تمثال كبش يوقع الله العلم الضروري لأهل الدارين أنه الموت الذي ذاقوه في الدنيا، ويكون ذلك التمثال حاملا للموت، لا على أنه يحل الموت فيه فتذهب عنه حياة، ثم يقرن الله تعالى في ذلك التمثال إعدام الموت.
وقوله سبحانه: { ليبلوكم } أي: جعل لكم هاتين الحالتين ليبلوكم، أي: ليختبركم في حال الحياة ويجازيكم بعد الممات، وقال أبو قتادة، ونحوه عن ابن عمر،
" قلت: يا رسول الله، ما معنى قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا }؟ فقال: يقول: أيكم أحسن عقلا، وأشدكم لله خوفا، وأحسنكم في أمره ونهيه نظرا، وإن كانوا أقلكم تطوعا "
، وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن: { أيكم أحسن عملا } أزهدكم في الدنيا، قال القرطبي: وقال السدي: (أحسنكم عملا)، أي: أكثركم للموت ذكرا، وله أحسن استعدادا، ومنه أشد خوفا وحذرا، انتهى من «التذكرة»، ولله در القائل: [الطويل]
وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى
عن الشغل باللذات للمرء زاجر
أبعد اقتراب الأربعين تربص
وشيب فذاك منذر لك ذاعر
فكم في بطون الأرض بعد ظهورها
محاسنهم فيها بوال دواثر
وأنت على الدنيا مكب منافس
لخطابها فيها حريص مكاثر
على خطر تمسي وتصبح لاهيا
أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
وإن امرأ يسعى لدنياه جاهدا
ويذهل عن أخراه لا شك خاسر
كأنك مغتر بما أنت صائر
لنفسك عمدا أو عن الرشد جائر
فجد ولا تغفل فعيشك زائل
وأنت إلى دار المنية صائر
ولا تطلب الدنيا فإن طلابها
وإن نلت منها ثروة لك ضائر
وكيف يلذ العيش من هو موقن
بموقف عدل يوم تبلى السرائر
لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت
لعزة ذي العرش الملوك الجبابر
انتهى،، و { طباقا } قال الزجاج: هو مصدر، وقيل: جمع طبقة، أو جمع طبق، والمعنى: بعضها فوق بعض، وقال إبان بن ثعلب: سمعت أعرابيا يذم رجلا فقال: شره طباق وخيره غير باق، وما ذكره بعض المفسرين في السموات من أن بعضها من ذهب وفضة وياقوت ونحو هذا، ضعيف لم يثبت بذلك حديث.
وقوله سبحانه: { ما ترى فى خلق الرحمن من تفوت } معناه من قلة تناسب، ومن خروج عن إتقان، قال بعض العلماء: خلق الرحمن، معني به السموات وإياها أراد بقوله: { هل ترى من فطور } وبقوله: { ينقلب إليك البصر... } الآية، وقال آخرون: بل يعني به جميع ما خلق سبحانه من الأشياء فإنها لا تفاوت فيها، ولا فطور جارية على غير إتقان، قال منذر بن سعيد: أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها، ثم أمر بتكرير النظر، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر ليرى فيها خللا أو نقصا فإن بصره ينقلب خاسئا حسيرا، ورجع البصر: ترديده في الشيء المبصر، و { كرتين } معناه مرتين، والخاسىء المبعد عن شيء أراده، وحرص عليه، ومنه قوله تعالى:
اخسئوا فيها
[المؤمنون:108] وكذلك البصر يحرص على رؤية فطور أو تفاوت، فلا يجد ذلك، فينقلب خاسئا، والحسير العيي الكال.
وقوله تعالى: { بمصبيح } يعني: النجوم، قال الفخر: ومعنى { السماء الدنيا } أي: القريبة من الناس، وليس في هذه الآية ما يدل على أن الكواكب مركوزة في السماء الدنيا، وذلك لأن السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا، أو كانت في سموات أخرى فوقها، فهي لا بد أن تظهر في السماء الدنيا، وتلوح فيها، فعلى كلا التقديرين فالسماء الدنيا مزينة بها، انتهى.
وقوله: { وجعلنها } معناه وجعلنا منها ويوجب هذا التأويل في الآية أن الكواكب الثابتة، والبروج، وكل ما يهتدى به في البر والبحر؛ ليست براجمة، وهذا نص في حديث السير قال الثعلبي: { رجوما للشيطين } يرجمون بها إذا استرقوا السمع فلا تخطئهم، فمنهم من يقتل ومنهم من يخبل، انتهى.
[67.6-11]
وقوله تعالى: { وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم } قال * ع *: تضمنت الآية أن عذاب جهنم للكفار المخلدين، وقد جاء في الأثر: أنه يمر على جهنم زمان تخفق أبوابها، قد أخلتها الشفاعة، والذي يقال في هذا أن جهنم اسم تختص به الطبقة العليا من النار، ثم قد تسمى الطبقات كلها باسم بعضها، فالتي في الأثر هي الطبقة العليا لأنها مقر العصاة من المؤمنين، والتي في هذه الآية هي جهنم بأسرها، أي: جميع الطبقات، والشهيق أقبح ما يكون من صوت الحمار، فاشتعال النار وغليانها يصوت مثل ذلك.
وقوله: { تكاد تميز } أي يزايل بعضها بعضا لشدة الاضطراب، و { من الغيظ } معناه: على الكفرة بالله، والفوج: الفريق من الناس، وظاهر الآية أنه لا يلقى في جهنم أحد إلا سئل على جهة التوبيخ.
وقوله سبحانه: { إن أنتم إلا فى ضلل كبير } يحتمل أن يكون من قول الملائكة، ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفار للنذر، قال الفخر: وقوله تعالى عنهم: { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحب السعير } إنما جمعوا بين السمع والعقل؛ [لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل]، انتهى.
[67.12-20]
وقوله سبحانه: { إن الذين يخشون ربهم بالغيب } يحتمل معنيين: أحدهما بالغيب الذي أخبروا به من النشر والحشر والجنة والنار، فآمنوا بذلك وخشوا ربهم فيه؛ ونحا إلى هذا قتادة، والمعنى الثاني: أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس، أي: في خلواتهم في صلاتهم وعباداتهم.
وقوله تعالى: { وأسروا قولكم... } الآية، خطاب لجميع الخلق، و { ذلولا } بمعنى مذلولة، و { مناكبها } قال مجاهد: هي الطرق والفجاج، وقال البخاري: { مناكبها }: جوانبها، قال الغزالي رحمه الله : جعل الله سبحانه الأرض ذلولا لعباده لا ليستقروا في مناكبها، بل ليتخذوها منزلا فيتزودون منها محترزين من مصائدها ومعاطبها، ويتحققون أن العمر يسير بهم سير السفينة براكبها، فالناس في هذا العالم سفر وأول منازلهم المهد، وآخرها اللحد، والوطن هو الجنة أو النار، والعمر مساقة السفر، فسنوه مراحله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطواته، وطاعته بضاعته، وأوقاته رؤوس أمواله، وشهواته وأغراضه قطاع طريقه، وربحه الفوز بلقاء الله عز وجل في دار السلام مع الملك الكبير والنعيم المقيم، وخسرانه البعد من الله عز وجل مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم، فالغافل عن نفس واحد من أنفاسه، حتى ينقضي في غير طاعة تقربه إلى الله تعالى زلفى متعرض في يوم التغابن لغبينة وحسرة ما لها منتهى، ولهذا الخطر العظيم والخطب الهائل شمر الموفقون عن ساق الجد، وودعوا بالكلية ملاذ النفس، واغتنموا بقايا العمر، فعمروها بالطاعات، بحسب تكرر الأوقات، انتهى، قال الشيخ أبو مدين رحمه الله : عمرك نفس واحد فاحرص [أن يكون] لك لا عليك، انتهى، والله الموفق بفضله، و { النشور }: الحياة بعد الموت، و { تمور } معناه: تذهب وتجيء، كما يذهب التراب الموار في الريح، والحاصب البرد وما جرى مجراه، والنكير مصدر بمعنى الإنكار، والنذير كذلك ومنه قول حسان بن ثابت: [الوافر]
فأنذر مثلها نصحا قريشا
من الرحمن إن قبلت نذيري
ثم أحال سبحانه على العبرة في أمر الطير وما أحكم من خلقتها، وذلك بين عجز الأصنام والأوثان عنه، و { صافت } جمع صافة، وهي التي تبسط جناحها وتصفه، وقبض الجناح ضمه إلى الجنب، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى.
[67.21-24]
وقوله سبحانه: { أمن هذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه } هذا أيضا توقيف على أمر لا مدخل للأصنام فيه.
وقوله سبحانه: { أفمن يمشى مكبا على وجهه } قال ابن عباس والضحاك ومجاهد: نزلت مثلا للمؤمنين والكافرين؛ على العموم، وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال القيامة، وأن الكفار يمشون على وجوههم، والمؤمنين يمشون على استقامة، كما جاء في الحديث، ويقال: أكب الرجل إذا در وجهه إلى الأرض، وكبه غيره، قال عليه الصلاة والسلام :
" وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم "
فهذا الفعل على خلاف القاعدة المعلومة؛ لأن «أفعل» هنا لا يتعدى، و«فعل» يتعدى، ونظيره قشعت الريح السحاب فانقشع، وقال * ص *: { مكبا } حال وهو من أكب غير متعد، وكب متعد، قال تعالى:
فكبت وجوههم فى النار
[النمل:90] والهمزة فيه للدخول في الشيء، أو للصيرورة، ومطاوع كب: انكب، تقول كببته فانكب، قال بعض الناس: ولا شيء من بناء «أفعل» مطاوعا، انتهى، و { أهدى } في هذه الآية أفعل تفضيل من الهدى.
[67.25-30]
وقوله تعالى: { ويقولون متى هذا الوعد } يريدون أمر القيامة والعذاب المتوعد به، ثم أمر سبحانه نبيه عليه السلام أن يخبرهم بأن علم القيامة والوعد الصدق مما تفرد الله سبحانه بعلمه.
وقوله سبحانه: { فلما رأوه } الضمير للعذاب الذي تضمنه الوعد، وهذه حكاية حال تأتي، والمعنى: فإذا رأوه.
و { زلفة } معناه قريبا، قال الحسن: عيانا.
و { سيئت وجوه الذين كفروا } معناه: ظهر فيها السوء.
و { تدعون } معناه: تتداعون أمره بينكم، وقال الحسن: تدعون أنه لا جنة ولا نار، وروي في تأويل قوله تعالى: { قل أرءيتم إن أهلكنى الله ومن معى... } الآية، أنهم كانوا يدعون على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهلاك، فقال الله تعالى لنبيه: قل لهم: أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا، فمن يجيركم من العذاب الذي يوجبه كفركم؟، ثم وقفهم سبحانه على مياههم التي يعيشون منها، إن غارت، أي: ذهبت في الأرض، من يجيئهم بماء كثير كاف؟ * ص *: والغور: مصدر بمعنى الغائر، انتهى، والمعين: فعيل من معن الماء إذا كثر، وقال ابن عباس: معين عذب.
[68 - سورة القلم]
[68.1-7]
قوله عز وجل: { ن والقلم وما يسطرون } { ن } حرف مقطع في قول الجمهور، فيدخله من الاختلاف ما يدخل أوائل السور، ويختص هذا الموضع من الأقوال، بأن قال مجاهد وابن عباس: { ن } اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروى، وقال ابن عباس أيضا وغيره: { ن } اسم الدواة، فمن قال بأنه اسم الحوت جعل [القلم] القلم الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات، وجعل الضمير في { يسطرون } للملائكة، ومن قال بأن { ن } اسم للدواة جعل القلم هذا القلم المتعارف بأيدي الناس؛ نص على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في { يسطرون } للناس فجاء القسم على هذا بمجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف، وأمور الدنيا، والآخرة، فإن القلم أخو اللسان، وعضد الإنسان، ومطية الفطنة، ونعمة من الله عامة، وروى معاوية بن قرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" { ن } لوح من نور ".
وقال ابن عباس أيضا وغيره: { ن } هو حرف من حروف الرحمن، وقالوا إنه تقطع في القرآن { الر } و { حم } و { ن } ، و { يسطرون }: معناه: يكتبون سطورا، فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به، وإن أراد بني آدم؛ فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها، قال ابن العربي في «أحكامه»: روى الوليد بن مسلم عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النون، وهي الدواة، وذلك قوله: { ن والقلم } ثم قال له: اكتب؛ قال: وما أكتب؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، قال: ثم ختم العمل، فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل، فقال الجبار: ما خلقت خلقا أعجب إلي منك، وعزتي لأكملنك فيمن أحببت، ولأنقصنك فيمن أبغضت، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته "
انتهى، * ت *: وهذا الحديث هو الذي يعول عليه في تفسير الآية، لصحته، والله سبحانه أعلم.
وقوله تعالى: { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } هو جواب القسم، و { ما } هنا عاملة لها اسم وخبر، وكذلك هي متى دخلت الباء في الخبر، وقوله: { بنعمة ربك } اعتراض، كما تقول لإنسان: أنت بحمد الله فاضل، وسبب الآية هو ما كان من قريش في رميهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون، فنفى الله تعالى ذلك عنه، وأخبره بأن له الأجر، وأنه على الخلق العظيم تشريفا له، ومدحا واختلف في معنى { ممنون } فقال أكثر المفسرين: هو الواهن المنقطع، يقال: حبل منين أي: ضعيف، وقال آخرون: معناه: غير ممنون عليك، أي: لا يكدره من به، وفي الصحيح: سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن»، وقال الجنيد: سمي خلقه عظيما؛ إذ لم تكن له همة سوى الله تعالى؛ عاشر الخلق بخلقه ، وزايلهم بقلبه فكان ظاهره مع الخلق، وباطنه مع الحق، وفي وصية بعض الحكماء: عليك بالخلق مع الخلق، وبالصدق مع الحق، وحسن الخلق خير كله، وقال عليه السلام :
" إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل، صائم النهار "
وجاء في حسن الخلق آثار كثيرة منعنا من جلبها خشية الإطالة، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال:
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج "
، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب، انتهى، وروى الترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذي "
، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى، قال أبو عمر في «التمهيد»: قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وإنك لعلى خلق عظيم } قال المفسرون: كان خلقه ما قال الله سبحانه:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجهلين
[الأعراف:199] انتهى.
وقوله تعالى: { فستبصر } أي: أنت وأمتك، { ويبصرون } أي: هم، { بأييكم المفتون } قال الأخفش: والعامل في الجملة المستفهم عنها الإبصار، وأما الباء فقال أبو عبيدة معمر وقتادة: هي زائدة والمعنى: أيكم المفتون، قال الثعلبي: المفتون المجنون الذي فتنه الشيطان، انتهى.
[68.8-11]
وقوله تعالى: { فلا تطع المكذبين } يعني: قريشا، وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات للنبي صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا وعظمتها لعبدنا إلهك وعظمناه، وودوا أن يداهنهم النبي صلى الله عليه وسلم ويميل إلى ما قالوا، فيميلوا هم أيضا إلى قوله ودينه، والإدهان الملاينة فيما لا يحل، والمداراة الملاينة فيما يحل.
وقوله: { فيدهنون } معطوف وليس بجواب، لأنه لو كان لنصب، والحلاف المردد لحلفه الذي قد كثر منه، والمهين الضعيف الرأي، والعقل؛ قاله مجاهد، وقال ابن عباس: المهين الكذاب، والهماز الذي يقع في الناس بلسانه، قال منذر بن سعيد: وبعينه وإشارته، والنميم مصدر كالنميمة، وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه المسمى ب«بهجة المجالس» قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من كف عن أعراض المسلمين لسانه؛ أقاله الله يوم القيامة عثرته "
، وقال عليه الصلاة والسلام :
" شراركم أيها الناس المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون لأهل البر العثرات "
انتهى، وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يدخل الجنة قتات "
، وهو النمام، وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الأوصاف هي أجناس لم يرد بها رجل بعينه، وقالت طائفة: بل نزلت في معين، واختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الوليد بن المغيرة، وقيل هو: الأخنس بن شريق، ويؤيد ذلك أنه كانت له زنمة في حلقه كزنمة الشاة، وأيضا فكان من ثقيف ملصقا في قريش، وقيل: هو أبو جهل، وقيل: هو الأسود بن عبد يغوث، قال * ع *: وظاهر اللفظ عموم من اتصف بهذه الصفات، والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمان، لا سيما لولاة الأمور.
[68.12-15]
وقوله تعالى: { مناع للخير } قال كثير من المفسرين: الخير هنا المال فوصفه بالشح، وقال آخرون: بل هو على عمومه في الأموال والأعمال الصالحات، والمعتدي المتجاوز لحدود الأشياء، والأثيم فعيل من الإثم، والعتل: القوي البنية، الغليظ الأعضاء، القاسي القلب، البعيد الفهم، الأكول الشروب، الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار، وكل ما عبر به المفسرون عنه من خلال النقص، فعن هذه التي ذكرت تصدر، وقد ذكر النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر العتل بنحو هذا، وهذه الصفات كثيرة التلازم، والزنيم في كلام العرب: الملصق في القوم وليس منهم؛ ومنه قول حسان: [الطويل]
وأنت زنيم نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
فقال كثير من المفسرين: هو الأخنس بن شريق، وقال ابن عباس: أراد بالزنيم؛ أن له زنمة في عنقه، وكان الأخنس بهذه الصفة، وقيل: الزنيم: المريب القبيح الأفعال.
[68.16-32]
وقوله: { سنسمه على الخرطوم } معناه: على الأنف. قال ابن عباس: هو الضرب بالسيف في وجهه وعلى أنفه، وقد حل ذلك به يوم بدر، وقيل: ذلك الوسم هو في الآخرة، وقال قتادة وغيره: معناه سنفعل به في الدنيا من الذم له والمقت والاشتهار بالشر، ما يبقى فيه ولا يخفى به، فيكون ذلك كالوسم على الأنف.
وقوله سبحانه: { إنا بلونهم } يريد: قريشا، أي: امتحناهم، و { أصحب الجنة } فيما ذكر كانوا إخوة، وكان لأبيهم جنة وحرث يغتله، فكان يمسك منه قوته، ويتصدق على المساكين بباقيه، وقيل: بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه فيجديهم منه، فمات الشيخ، فقال ولده: نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ فلنذهب إلى جنتنا، ولا يدخلنها علينا مسكين، ولا نعطي منها شيئا، قال: فبيتوا أمرهم وعزمهم، فبعث الله عليها طائفا من نار أو غير ذلك، فاحترقت، فقيل: فأصبحت سوداء، وقيل: بيضاء كالزرع اليابس المحصود، فلما أصبحوا إلى جنتهم؛ لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطؤوا الطريق، ثم تبينوها فعلموا أن الله أصابهم فيها، فتابوا حينئذ فكانوا مؤمنين أهل كتاب، فشبه الله قريشا بهم في أنه امتحنهم بالمصائب، في دنياهم لعدم اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم التوبة معرضة لمن بقي منهم.
وقوله تعالى: { ليصرمنها } أي: ليجذنها، و { مصبحين } معناه: داخلين في الصباح.
وقوله تعالى: { ولا يستثنون } [أي: لا ينثنون] عن رأي منع المساكين، وقال مجاهد: معناه ولا يقولون إن شاء الله. والصريم، قال جماعة: أراد به الليل من حيث اسودت جنتهم، وقال ابن عباس: الصريم: الرماد الأسود بلغة خزيمة، وقولهم: { إن كنتم صرمين } يحتمل أن يكون من صرام النخل، ويحتمل أن يريد إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم، من قولك سيف صارم، و { يتخفتون }: معناه يتكلمون كلاما خفيا، وكان هذا التخافت خوفا من أن يشعر بهم المساكين، وكان لفظهم الذي يتخافتون به: { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين }.
وقوله: { على حرد } يحتمل أن يريد على منع، من قولهم: حاردت الإبل إذا قلت ألبانها فمنعتها، وحاردت السنة إذا كانت شهباء لا غلة لها، ويحتمل أن يريد بالحرد الغضب، يقال حرد الرجل حردا إذا غضب، قال البخاري قال قتادة: { على حرد } [أي: على جد ] في أنفسهم، انتهى.
وقوله تعالى: { قدرين } يحتمل أن يكون من القدرة، أي: قادرون في زعمهم ويحتمل أن يكون من التقدير الذي هو تضييق، كأنهم قد قدروا على المساكين، أي ضيقوا عليهم، { فلما رأوها } أي: محترقة { قالوا إنا لضالون } طريق جنتنا فلما تحققوها علموا أنها قد أصيبت فقالوا: { بل نحن محرومون } أي: قد حرمنا غلتها وبركتها، فقال لهم أعدلهم قولا وعقلا وخلقا وهو الأوسط؛ { ألم أقل لكم لولا تسبحون } قيل هي عبارة عن تعظيم الله والعمل بطاعته سبحانه، فبادر القوم عند ذلك وتابوا وسبحوا، واعترفوا بظلمهم في اعتقادهم منع الفقراء، ولام بعضهم بعضا واعترفوا بأنهم طغوا، أي: تعدوا ما يلزم من مواساة المساكين، ثم انصرفوا إلى رجاء الله سبحانه وانتظار الفضل من لدنه في أن يبدلهم، بسبب توبتهم، وإنابتهم خيرا من تلك الجنة، قال الثعلبي: قال ابن مسعود: بلغني أن القوم لما أخلصوا وعلم الله صدقهم أبدلهم الله عز وجل بها جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل العنقود منها، وعن أبي خالد اليماني أنه رأى تلك الجنة ورأى كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم، انتهى،، وقدرة الله أعظم فلا يستغرب هذا إن صح سنده.
[68.33-43]
وقوله سبحانه: { كذلك العذاب } أي: كفعلنا بأهل الجنة نفعل بمن تعدى حدودنا.
{ ولعذاب الأخرة أكبر } أي: أعظم مما أصابهم، إن لم يتوبوا في الدنيا.
ثم أخبر تعالى ب { إن للمتقين عند ربهم جنت النعيم } فروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش: إن كان ثم جنات نعيم فلنا فيها أكبر الحظ، فنزلت { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } الآية؛ توبيخا لهم.
{ أم لكم كتب } منزل من عند الله تدرسون فيه أن لكم ما تختارون من النعيم، ف { إن } معمولة ل { تدرسون } وكسرت الهمزة من { إن } لدخول اللام في الخبر، وهي في معنى (أن) بفتح الألف وقرىء شاذا: «أن لكم» بالفتح، وقرأ الأعرج: «أن لكم فيه» على الاستفهام، ثم خاطب تعالى الكفار بقوله: { أم لكم أيمن علينا بلغة } كأنه يقول هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة، وما بعده، وقرأ الأعرج: «آن لكم لما تحكمون» على الاستفهام، أيضا.
{ سلهم أيهم بذلك زعيم } أي: ضامن * ت *: قال الهروي: وقوله: { أيمن علينا بلغة } أي مؤكدة، انتهى.
وقوله تعالى: { فليأتوا بشركائهم } قيل: هو استدعاء وتوقيف في الدنيا، أي: ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا؟ وقيل: هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة { يوم يكشف عن ساق } وقرأ ابن عباس: «تكشف» بضم التاء على معنى: تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة، وقرأ ابن عباس أيضا: «تكشف» بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة، وهذه القراءة مفسرة لقراءة الجماعة، فما ورد في الحديث والآية من كشف الساق فهو عبارة عن شدة الهول.
وقوله جلت عظمته : { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } وفي الحديث الصحيح:
" فيخرون لله سجدا أجمعون ولا يبقى أحد كان يسجد في الدنيا رياء ولا سمعة ولا نفاقا إلا صار ظهره طبقا واحدا؛ كلما أراد أن يسجد خر على قفاه "
، الحديث، وفي الحديث:
" فيسجد كل مؤمن، وترجع أصلاب المنافقين والكفار، كصياصي البقر، عظما واحدا؛ فلا يستطيعون سجودا "
الحديث.
وقوله تعالى: { وقد كانوا يدعون إلى السجود } يريد في دار الدنيا، { وهم سلمون } مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو.
[68.44-52]
وقوله سبحانه: { فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث } الآية، وعيد وتهديد والحديث المشار إليه هو القرآن، وباقي الآية بين مما ذكر في غير هذا الموضع، ثم أمر الله تعالى نبيه بالصبر لحكمه وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة، ونهي عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس صلى الله عليه وسلم ثم اقتضب القصة وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت، { وهو مكظوم } أي: وهو كاظم لحزنه وندمه، وقال الثعلبي، ونحوه في البخاري: { وهو مكظوم } أي: مملوء غما وكربا، انتهى وهو أقرب إلى المعنى، وقال النقاش: المكظوم الذي أخذ بكظمه، وهي مجاري القلب، وقرأ ابن مسعود وغيره: «لولا أن تداركته نعمة» والنعمة التي تداركته هي الصفح والاجتباء الذي سبق له عند الله عز وجل { لنبذ بالعراء } أي: لطرح بالعراء وهو الفضاء الذي لا يواري فيه جبل ولا شجر وقد نبذ يونس عليه السلام بالعراء ولكن غير مذموم، وجاء في الحديث عن أسماء بنت عميس قالت:
" علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن عند الكرب أو في الكرب، الله الله ربي لا أشرك به شيئا "
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجه الطبراني في كتاب «الدعاء»، انتهى من «السلاح»، ثم قال تعالى لنبيه: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصرهم } المعنى يكادون من الغيظ والعداوة يزلقونه فيذهبون قدمه من مكانها، ويسقطونه، قال عياض: وقد روي عن ابن عباس أنه قال: كل ما في القرآن: «كاد» فهو ما لا يكون، قال تعالى:
يكاد سنا برقه يذهب بالأبصر
[النور:43] ولم يذهبها و
أكاد أخفيها
[طه:15] ولم يفعل، انتهى؛ ذكره إثر قوله تعالى:
وإن كادوا ليفتنونك
[الإسراء:73]. وقرأ الجمهور: «ليزلقونك» بضم الياء من: أزلق، ونافع بفتحها، من: زلقت الرجل، وفي هذا المعنى قول الشاعر: [الكامل]
يتقارضون إذا التقوا في مجلس
نظرا يزل مواطىء الأقدام
وذهب قوم من المفسرين على أن المعنى: يأخذونك بالعين، وقال الحسن: دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية، والذكر في الآية: القرآن.
[69 - سورة الحاقة]
[69.1-4]
قوله عز وجل: { الحاقة * ما الحاقة } المراد بالحاقة: القيامة، وهي اسم فاعل من حق الشيء يحق؛ لأنها حقت لكل عامل عمله، قال ابن عباس وغيره: سميت القيامة حاقة لأنها تبدي حقائق الأشياء، و { الحاقة }: مبتدأ و { ما } مبتدأ ثان، والحاقة الثانية خبر { ما } والجملة خبر الأولى، وهذا كما تقول: زيد ما زيد على معنى التعظيم له، وإبهام التعظيم أيضا ليتخيل السامع أقصى جهده.
وقوله: { وما أدراك ما الحاقة } مبالغة في هذا المعنى: أي: أن فيها ما لم تدره من أهوالها، وتفاصيل صفاتها، ثم ذكر تعالى تكذيب ثمود وعاد بهذا الأمر الذي هو حق مشيرا إلى أن من كذب بذلك ينزل به ما نزل بأولئك، و { بالقارعة }: من أسماء القيامة أيضا؛ لأنها تقرع القلوب بصدمتها.
[69.5-17]
وقوله سبحانه: { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } قال قتادة: معناه: بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة، وقيل: المعنى بسبب الفئة الطاغية، وقيل: بسبب الفعلة الطاغية، وقال ابن زيد ما معناه: الطاغية مصدر كالعاقبة، فكأنه قال بطغيانهم؛ وقاله أبو عبيدة، ويقوي هذا قوله تعالى:
كذبت ثمود بطغواها
[الشمس:11] وأولى الأقوال وأصوبها الأول، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره، وما في ذلك من القصص، والعاتية: معناه الشديدة المخالفة، فكانت الريح قد عتت على خزانها بخلافها، وعلى قوم عاد بشدتها، وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا: لم ينزل من السماء قطرة ماء قط إلا بمكيال على يد ملك، ولا هبت ريح إلا كذلك؛ إلا ما كان من طوفان نوح، وريح عاد، فإن الله أذن لهما في الخروج دون إذن الخزان، و { حسوما }: قال ابن عباس وغيره: معناه كاملة تباعا لم يتخللها غير ذلك، وقال ابن زيد: { حسوما } جمع حاسم، ومعناه أن تلك الأيام قطعتهم بالإهلاك، ومنه حسم العلل، ومنه الحسام، والضمير في قوله: { فيها صرعى } يحتمل عوده على الليالي والأيام، ويحتمل عوده على ديارهم، وقيل: على الريح، * ص *: «ومن قبله» النحويان وعاصم في رواية بكسر القاف وفتح الباء أي: أجناده وأهل طاعته، وقرأ الباقون: «قبله» ظرف زمان، انتهى.
وقوله: { بالخاطئة } صفة لمحذوف، أي: بالفعلة الخاطئة، وال«رابية» النامية التي قد عظمت جدا، ومنه ربا المال، ومنه
اهتزت وربت
[الحج:5]، ثم عدد تعالى على الناس نعمه في قوله: { إنا لما طغا الماء } يعني في وقت الطوفان الذي كان على قوم نوح، و { الجارية } سفينة نوح؛ قاله منذر بن سعيد، والضمير في: { لنجعلها } عائد على الجارية أو على الفعلة.
وقوله تعالى: { وتعيها أذن وعية }: عبارة عن الرجل الفهم المنور القلب الذي يسمع القرآن؛ فيتلقاه بفهم وتدبر، قال أبو عمران الجوني: { وعية } عقلت عن الله تعالى، وقال الثعلبي: المعنى: لتحفظها كل أذن فتكون عظة لمن يأتي بعد، تقول وعيت العلم إذا حفظته، انتهى، ثم ذكر تعالى بأمر القيامة، وقرأ الجمهور: «وحملت» بتخفيف الميم بمعنى: حملتها الريح أو القدرة، و { دكتا } معناه سوي جميعها، وانشقاق السماء هو تفطرها وتميز بعضها من بعض، وذلك هو الوهي الذي ينالها، كما يقال في الجدرات البالية المتشققة واهية، والملك اسم الجنس يريد به الملائكة، وقال جمهور من المفسرين: الضمير في { أرجائها } عائد على السماء أي: الملائكة على نواحيها، والرجا الجانب من البئر أو الحائط؛ ونحوه، وقال الضحاك وابن جبير وغيرهما: الضمير في: { أرجائها } عائد على الأرض، وإن كان لم يتقدم لها ذكر قريب؛ لأن القصة واللفظ يقتضي إفهام ذلك، وفسروا هذه الآية بما روي من أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا، فيقفون صفا على حافات الأرض، ثم يأمر ملائكة السماء الثانية؛ فيصفون خلفهم، ثم كذلك ملائكة كل سماء، فكلما ند أحد من الجن أو الإنس، وجد الأرض قد أحيط بها، قالوا: فهذا تفسير هذه الآية؛ وهو أيضا معنى قوله:
وجاء ربك والملك صفا صفا
[الفجر:22] وهو تفسير:
يوم التناد * يوم تولون مدبرين
[غافر:32-33] على قراءة من شدد الدال، وهو تفسير قوله:
يا معشر الجن والإنس...
[الرحمن:33] واختلف الناس في الثمانية الحاملين للعرش، فقال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد عدتهم، وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك على هيئة الوعول، وقال جماعة من المفسرين: هم على هيئة الناس أرجلهم تحت الأرض السابعة، ورؤوسهم وكواهلهم فوق السماء السابعة، قال الغزالي في «الدرة الفاخرة»: هم ثمانية أملاك قدم الملك منهم مسيرة عشرين ألف سنة، انتهى، والضمير في قوله: { فوقهم } قيل: هو للملائكة الحملة، وقيل: للعالم كله.
[69.18-29]
وقوله تعالى: { يومئذ تعرضون } خطاب لجميع العالم، وفي الحديث الصحيح:
" يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان؛ فجدال ومعاذير، وأما الثالثة، فعندها تتطاير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله "
، قال الغزالي: يجب على كل مسلم البدار، إلى محاسبة نفسه؛ كما قال عمر رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وإنما حسابه لنفسه، أن يتوب من كل معصية قبل الموت توبة نصوحا، ويتدارك ما فرط فيه من تقصير في فرائض الله عز وجل ويرد المظالم حبة حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويده، وسوء ظنه بقلبه، ويطيب قلوبهم حتى يموت، ولم يبق عليه فريضة ولا مظلمة، فهذا يدخل الجنة بغير حساب، إن شاء الله تعالى، انتهى من آخر «الإحياء»، ونقل القرطبي في «تذكرته» هذه الألفاظ بعينها.
وقوله: { هاؤم اقرؤا كتبيه } معناه تعالوا، وقوله: { اقرؤا كتبيه } هو استبشار وسرور * ص *: { هاؤم } «ها» بمعنى خذ، قال الكسائي: والعرب تقول: هاء يا رجل، وللاثنين؛ رجلين أو امرأتين: هاؤما، وللرجال: هاؤم، وللمرأة: هاء بهمزة مكسورة من غير ياء، وللنساء: هاؤن، وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف، وهو ضعيف، إلا أن يعني أنها تحل محلها في لغة من قال: هاك وهاك، وهاكما وهاكم وهاكن، فذلك ممكن، لا أنه بدل صناعي؛ لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها. انتهى.
وقوله: { إنى ظننت أنى ملق حسابيه } عبارة عن إيمانه بالبعث وغيره، و { ظننت } هنا واقعة موقع: تيقنت، وهي في متيقن لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس، وهذا هو باب الظن الذي يوقع موقع اليقين، و { راضية } بمعنى مرضية، والقطوف: جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار، ويقطف، ودنوها هو أنها تأتي طوع التمني فيأكلها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها، و { بما أسلفتم } معناه بما قدمتم من الأعمال الصالحة، و { الايام الخالية } هي أيام الدنيا: لأنها في الآخرة قد خلت وذهبت، وقال وكيع وغيره: المراد ب«ما أسلفتم» من الصوم، وعموم الآية في كل الأعمال أولى وأحسن، * ت *: ويدل على ذلك الآية الأخرى
كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون
[المرسلات:43] قال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا مالك بن مغول أنه بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا؛ فإنه أهون أو أيسر لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن يحيى بن المختار، عن الحسن قال: إن المؤمن قوام على نفسه ، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر عن غير محاسبة، انتهى، والذين يؤتون كتبهم بشمائلهم هم المخلدون في النار أهل الكفر، فيتمنون أن لو كانوا معدومين.
وقوله: { يليتها كانت القاضية } إشارة إلى مؤنة الدنيا، أي: ليتها لم يكن بعدها رجوع، * ص *: { ما أغنى } «ما» نافية أو استفهامية انتهى، والسلطان في الآية الحجة، وقيل: إنه ينطق بذلك ملوك الدنيا، والظاهر أن سلطان كل أحد حاله في الدنيا من عدد وعدد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم
" لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ".
[69.30-33]
وقوله سبحانه: { خذوه فغلوه } الآية، المعنى يقول الله تعالى، أو الملك بأمره للزبانية: خذوه واجعلوا في عنقه غلا، قال ابن جريج: نزلت في أبي جهل.
وقوله تعالى: { فاسلكوه } معناه: أدخلوه، وروي أن هذه السلسلة تدخل في فم الكافر وتخرج من دبره، فهي في الحقيقة التي تسلك فيه، لكن الكلام جرى مجرى: أدخلت القلنسوة في رأسي، وروي أن هذه السلسلة تلوى حول الكافر حتى تعمه وتضغطه، فالكلام على هذا على وجهه وهو المسلوك.
[69.34-37]
وقوله تعالى: { ولا يحض على طعام المسكين } خصت هذه الخلة بالذكر، لأنها من أضر الخلال بالبشر؛ إذا كثرت في قوم هلك مساكينهم، * ت *: ونقل الفخر عن بعض الناس أنه قال في قوله تعالى: { ولا يحض على طعام المسكين }: دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المساكين، أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينا له، والثاني: ذكر الحض دون الفعل ليعلم أنه إذا كان تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بمن ترك الفعل، قال الفخر: ودلت الآية على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة، وهو المراد من قولنا: إنهم مخاطبون بفروع الشريعة وعن أبي الدرداء أنه: كان يحض امرأته على تكثير المرق؛ لأجل المساكين، ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع النصف الثاني، انتهى.
وقوله: { فليس له اليوم ههنا حميم } أي صديق لطيف المودة؛ قاله الجمهور ، وقيل: الحميم الماء السخن، فكأنه تعالى أخبر أن الكافر ليس له ماء ولا شيء مائع ولا طعام إلا من غسلين، وهو ما يجري من الجراح، إذا غسلت، وقال ابن عباس: الغسلين هو صديد أهل النار، وقال قوم: الغسلين: شيء يجري من ضريع النار، * ص *: { إلا من غسلين } أبو البقاء النون في: (غسلين) زائدة: لأنه غسالة أهل النار، انتهى، والخاطىء الذي يفعل ضد الصواب.
[69.38-40]
وقوله تعالى: { فلا أقسم } قيل: «لا» زائدة وقيل: «لا» رد لما تقدم من أقوال الكفار، والبدأة: أقسم.
وقوله: { بما تبصرون * وما لا تبصرون } قال قتادة: أراد الله تعالى أن يعم بهذا القسم جميع مخلوقاته، والرسول الكريم قيل: هو جبريل، وقيل: هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
[69.41-44]
وقوله تعالى: { وما هو بقول شاعر } نفى سبحانه أن يكون القرآن من قول شاعر؛ كما زعمت قريش، و { قليلا } نصب بفعل مضمر يدل عليه { تؤمنون } و«ما» يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية فيتصف إيمانهم بالقلة، ويكون إيمانا لغويا؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا، ثم أخبر سبحانه أن محمدا عليه السلام لو تقول عليه لعاقبه بما ذكر، * ص *: الأقاويل جمع أقوال، وأقوال جمع قول، فهو جمع الجمع، انتهى.
[69.45-52]
وقوله سبحانه: { لأخذنا منه باليمين } قال ابن عباس: المعنى لأخذنا منه بالقوة، أي لنلنا منه عقابه بقوة منا، وقيل: معناه لأخذنا بيده اليمنى؛ على جهة الهوان، كما يقال لمن يسجن أو يقام لعقوبة: خذوا بيده أو بيمينه، والوتين نياط القلب؛ قاله ابن عباس، وهو عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، فمعنى الآية: لأذهبنا حياته معجلا، والحاجز: المانع والضمير في قوله: { وإنه لتذكرة } عائد على القرآن، وقيل: على النبي صلى الله عليه وسلم، * ص *: { وإنه لحسرة }: ضمير (إنه) يعود على التكذيب المفهوم من { مكذبين } ، انتهى، وقال الفخر: الضمير في قوله: { وإنه لحسرة } فيه وجهان: أحدهما أنه يعود على القرآن، أي: هو على الكافرين حسرة، إما يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين،، والثاني: قال مقاتل: وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم يدل عليه قوله: { أن منكم مكذبين } ، انتهى، ثم أمر تعالى نبيه بالتسبيح باسمه العظيم، ولما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم.
[70 - سورة المعارج]
[70.1-3]
قوله عز وجل: { سأل سائل بعذاب } قرأ جمهور السبعة: { سأل } بهمزة محققة، قالوا: والمعنى دعا داع، والإشارة إلى من قال من قريش:
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
[الأنفال:32]، الآية، وقولهم:
عجل لنا قطنا
[ص:16] ونحو ذلك، وقال بعضهم: المعنى بحث باحث واستفهم مستفهم، قالوا: والإشارة إلى قول قريش:
متى هذا الوعد
[الملك:25] وما جرى مجراه؛ قاله الحسن وقتادة، والباء على هذا التأويل في قوله: { بعذاب } بمعنى «عن» وقرأ نافع وابن عامر: «سال سائل» ساكنة الألف، واختلف القراء بها فقال بعضهم: هي «سأل» المهموزة إلا أن الهمزة سهلت، وقال بعضهم هي لغة من يقول: سلت أسال ويتساولان، وهي لغة مشهورة، وقال بعضهم في الآية: هي من سال يسيل إذا جرى، وليست من معنى السؤال، قال زيد بن ثابت وغيره: في جهنم واد يسمى سائلا؛ والإخبار هنا عنه، وقرأ ابن عباس: «سال سيل» بسكون الياء وسؤال الكفار عن العذاب حسب قراءة الجماعة إنما كان على أنه كذب، فوصفه الله تعالى بأنه واقع وعيدا لهم.
وقوله: { للكفرين } قال بعض النحاة: اللام بمعنى «على»، وروي: أنه كذلك في مصحف أبي: «على الكافرين» والمعارج في اللغة الدرج في الأجرام، وهي هنا مستعارة في الرتب والفضائل، والصفات الحميدة؛ قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: هي المراقي في السماء، قال عياض، في «مشارق الأنوار»: قوله صلى الله عليه وسلم
" فعرج بي إلى السماء "
، أي: ارتقى بي، والمعراج الدرج وقيل: سلم تعرج فيه الأرواح، وقيل: هو أحسن شيء لا تتمالك النفس إذا رأته أن تخرج، وإليه يشخص بصر الميت من حسنه، وقيل: هو الذي تصعد فيه الأعمال، وقيل: قوله: { ذي المعارج } معارج الملائكة، وقيل: ذي الفواضل، انتهى.
[70.4]
وقوله تعالى: { تعرج الملئكة } معناه تصعد، والروح عند الجمهور هو جبريل عليه السلام وقال مجاهد: الروح ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الملائكة؛ كما لا نرى نحن الملائكة، وقال بعض المفسرين: هو اسم جنس لأرواح الحيوان.
وقوله سبحانه: { فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } قال ابن عباس وغيره: هو يوم القيامة، ثم اختلفوا؛ فقال بعضهم: قدره في الطول قدر خمسين ألف سنة، وقال بعضهم: بل قدره في الشدة، والأول هو الظاهر، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:
" ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له صفائح من نار يوم القيامة تكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة "
قال أبو سعيد الخدري:
" قيل: يا رسول الله! ما أطول يوما مقداره خمسون ألف سنة! فقال: والذي نفسي بيده، إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة "
، قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة، انتهى، قال * ع *: وقد ورد في يوم القيامة أنه كألف سنة، وهذا يشبه أن يكون في طوائف دون طوائف، * ت *: قال عبد الحق في «العاقبة» له: اعلم رحمك الله؛ أن يوم القيامة ليس طوله كما عهدت من طول الأيام، بل هو آلاف من الأعوام، يتصرف فيه هذا الأنام، على الوجوه والأقدام، حتى ينفذ فيهم ما كتب لهم وعليهم من الأحكام، وليس يكون خلاصه دفعة واحدة، ولا فراغهم في مرة واحدة؛ بل يتخلصون ويفرغون شيئا بعد شيء، لكن طول ذلك اليوم خمسون ألف سنة، فيفرغون بفراغ اليوم، ويفرغ اليوم بفراغهم، فمن الناس من يطول مقامه وحبسه إلى آخر اليوم، ومنهم من يكون انفصاله في ذلك اليوم في مقدار يوم من أيام الدنيا، أو في ساعة من ساعاته، أو في أقل من ذلك، ويكون رائحا في ظل كسبه وعرش ربه، ومنهم من يؤمر به إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما أن منهم من يؤمر به إلى النار في أول الأمر من غير وقوف ولا انتظار، أو بعد يسير من ذلك، انتهى.
[70.5-18]
وقوله سبحانه: { فاصبر صبرا جميلا } أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه، والصبر الجميل الذي لا يلحقه عيب ولا شك ولا قلة رضى، ولا غير ذلك، والأمر بالصبر الجميل محكم في كل حالة، أعني: لا نسخ فيه، وقيل: إن الآية نزلت قبل الأمر بالقتال؛ فهي منسوخة، * ت *: ولو قيل: هذا خطاب لجنس الإنسان في شأن هول ذلك اليوم؛ ما بعد.
وقوله تعالى: { إنهم يرونه بعيدا } يعني يوم القيامة، والمهل: عكر الزيت؛ قاله ابن عباس وغيره، فهي لسوادها وانكدار أنوارها، تشبه ذلك، والمهل أيضا: ما أذيب من فضة ونحوها؛ قاله ابن مسعود وغيره، والعهن الصوف، وقيل: هو الصوف المصبوغ، أي لون كان، والحميم في هذا الموضع: القريب والولي، والمعنى: ولا يسأله نصرة ولا منفعة، ولا يجدها عنده، وقال قتادة: المعنى: ولا يسأله عن حاله؛ لأنها ظاهرة قد بصر كل أحد حالة الجميع، وشغل بنفسه، قال الفخر: قوله تعالى: { يبصرونهم } تقول: بصرني زيد كذا، وبصرني بكذا، فإذا بنيت الفعل للمفعول وحذفت الجار، قلت: بصرت زيدا، وهكذا معنى: { يبصرونهم } وكأنه لما قال: { ولا يسئل حميم حميما } قيل: لعله لا يبصره؛ فقال: { يبصرونهم } ولكن لاشتغالهم بأنفسهم لا يتمكنون من تساؤلهم، انتهى، وقرأ ابن كثير بخلاف عنه: «ولا يسئل» على بناء الفعل للمفعول، فالمعنى: ولا يسأل إحضاره؛ لأن كل مجرم له سيما يعرف بها، كما أن كل مؤمن له سيما خير، والصاحبة هنا: الزوجة، والفصيلة هنا: قرابة الرجل.
وقوله تعالى: { كلا إنها لظى } رد لما ودوه، أي: ليس الأمر كذلك، و«لظى» طبقة من طبقات جهنم، والشوى جلد الإنسان وقيل: جلد الرأس.
{ تدعوا من أدبر وتولى } يريد الكفار، قال ابن عباس وغيره: تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، { وجمع } أي جمع المال و { فأوعى } جعله في الأوعية، أي: جمعوه من غير حل ومنعوه من حقوق الله، وكان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه، ويقول: سمعت الله تعالى يقول: { وجمع فأوعى }.
[70.19-21]
وقوله تعالى: { إن الإنسن } عموم لاسم الجنس، لكن الإشارة هنا إلى الكفار، والهلع فزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع.
وقوله تعالى: { إذا مسه... } الآية، مفسر للهلع.
[70.22-23]
وقوله تعالى: { إلا المصلين } أي: إلا المؤمنين الذين أمر الآخرة عليهم أوكد من أمر الدنيا، والمعنى أن هذا المعنى فيهم يقل لأنهم يجاهدونه بالتقوى.
وقوله: { الذين هم على صلاتهم دائمون } أي: مواظبون، وقد قال عليه السلام
" أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه "
* ت *: وقد تقدم في سورة «قد أفلح» ما جاء في الخشوع، قال الغزالي: فينبغي لك أن تفهم ما تقرؤه في صلاتك ولا تغفل في قراءتك عن أمره سبحانه، ونهيه، ووعده، ووعيده، ومواعظه وأخبار أنبيائه، وذكر منته وإحسانه، فلكل واحد حق؛ فالرجاء حق الوعد، والخوف حق الوعيد، والعزم حق الأمر والنهي، والإتعاظ حق الموعظة، والشكر حق ذكر المنة، والاعتبار حق ذكر أخبار الأنبياء،، قال الغزالي: وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم، ويكون الفهم بحسب وفور العلم. وصفاء القلب، ودرجات ذلك لا تنحصر، فهذا حق القراءة وهو حق الأذكار، والتسبيحات أيضا، ثم يراعى الهيئة في القراءة، فيرتل ولا يسرد فإن ذلك أيسر للتأمل، ويفرق بين نغماته في آيات الرحمة وآيات العذاب، والوعد والوعيد، والتحميد والتعظيم، انتهى من «الإحياء»، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه قال: سألنا عقبة بن عامر الجهني عن قوله عز وجل : { الذين هم على صلاتهم دائمون } أهم الذين يصلون أبدا؟ قال: لا، ولكنه الذي إذا صلى لم يلتفت عن يمينه، ولا عن شماله، ولا خلفه، انتهى.
[70.24-31]
وقوله سبحانه: { والذين فى أمولهم حق معلوم } قال ابن عباس وغيره: هذه الآية في الحقوق التي في المال سوى الزكاة، وهي ما ندبت إليه الشريعة من المواساة، وهذا هو الأصح في هذه الآية؛ لأن السورة مكية وفرض الزكاة وبيانها إنما كان بالمدينة،، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره.
[70.32-35]
وقوله سبحانه: { والذين هم لأمنتهم وعهدهم رعون } جمع الأمانة من حيث إنها متنوعة في الأموال والأسرار، وفيما بين العبد وربه، فيما أمره به ونهاه عنه، والعهد كل ما تقلده الإنسان من قول أو فعل، أو مودة، إذا كانت هذه الأشياء على منهاج الشريعة فهو عهد ينبغي رعيه وحفظه.
وقوله سبحانه: { والذين هم بشهدتهم قائمون } معناه في قول جماعة من المفسرين: أنهم يحفظون ما يشهدون فيه، ويتقنونه، ويقومون بمعانيه؛ حتى لا يكون لهم فيه تقصير وهذا هو وصف من يمتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" على مثل الشمس فاشهد "
، وقال آخرون: معناه: الذين إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقا يدرس أو حرمة لله تنتهك؛ قاموا لله بشهادتهم.
[70.36-37]
وقوله تعالى: { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين } الآية نزلت بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة أحيانا ويقرأ القرآن، فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه يستمعون قراءته، ويقول بعضهم لبعض: شاعر وكاهن، ومفتر وغير ذلك، و { قبلك } معناه فيما يليك، والمهطع الذي يمشي مسرعا إلى شيء قد أقبل ببصره عليه، و { عزين } جمع عزة، والعزة: الجمع اليسير كأنهم كانوا ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، وفي حديث أبي هريرة قال:
" خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم حلق متفرقون، فقال: مالي أراكم عزين ".
[70.38-44]
وقوله تعالى: { أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم } نزلت لأن بعض الكفار قال: إن كانت ثم آخرة وجنة فنحن أهلها؛ لأن الله تعالى لم ينعم علينا في الدنيا بالمال والبنين، وغير ذلك؛ إلا لرضاه عنا.
وقوله تعالى: { كلا } رد لقولهم وطمعهم، أي: ليس الأمر كذلك،، ثم أخبر تعالى عن خلقهم من نطفة قذرة، وأحال في العبارة على علم الناس، أي: فمن خلق من ذلك فليس بنفس خلقه يعطى الجنة، بل بالإيمان والأعمال الصالحة، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا مالك بن مغول؛ قال: سمعت أبا ربيعة يحدث عن الحسن؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كلكم يحب أن يدخل الجنة؟ قالوا: نعم، جعلنا الله فداءك ، قال: فأقصروا من الأمل، وثبتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله، كلنا نستحي من الله، قال: ليس كذلك الحياء، ولكن الحياء من الله ألا تنسوا المقابر والبلى، ولا تنسوا الجوف وما وعى، ولا تنسوا الرأس وما حوى، ومن يشتهي كرامة الآخرة يدع زينة الدنيا، هنالك استحيا العبد من الله، هنالك أصاب ولاية الله "
، انتهى، وقد روينا أكثر هذا الحديث، من طريق أبي عيسى الترمذي، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره، والأجداث القبور، والنصب: ما نصب للإنسان فهو يقصده مسرعا إليه من علم أو بناء، وقال أبو العالية: { إلى نصب يوفضون }: معناه: إلى غايات يستبقون، و { يوفضون }: معناه: يسرعون، و { خشعة }: أي: ذليلة منكسرة.
[71 - سورة نوح]
[71.1-4]
قوله سبحانه: { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } هذا العذاب الذي توعدوا به، الأظهر أنه عذاب الدنيا، ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة.
وقوله: { من ذنوبكم } قال قوم: «من» زائدة وهذا نحو كوفي، وأما الخليل وسيبويه؛ فلا يجوز عندهم زيادة «من» في الموجب، وقال قوم: هي للتبعيض، قال * ع *: وهذا القول عندي أبين الأقوال هنا؛ وذلك أنه لو قال: يغفر لكم ذنوبكم؛ لعم هذا اللفظ ما تقدم من الذنوب، وما تأخر عن إيمانهم، والإسلام إنما يجب ما قبله.
وقوله سبحانه: { ويؤخركم إلى أجل مسمى } كأن نوحا عليه السلام قال لهم: وآمنوا يبن لنا أنكم ممن قضي له بالإيمان والتأخير، وإن بقيتم على كفركم فسيبين أنكم ممن قضي عليه بالكفر والمعاجلة، ثم تبين هذا المعنى ولاح بقوله تعالى: { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } وجواب لو مقدر يقتضيه المعنى، كأنه قال: فما كان أحزمكم أو أسرعكم إلى التوبة لو كنتم تعلمون.
[71.5-10]
وقوله تعالى: { قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا } الآية، هذه المقالة قالها نوح عليه السلام بعد طول عمره ويأسه من قومه.
{ واستغشوا ثيابهم }: معناه: جعلوها أغشية على رؤوسهم.
[71.11-12]
وقوله: { يرسل السماء } الآية، روي أن قوم نوح كانوا قد أصابتهم قحوط وأزمة فلذلك بدأهم في وعده بأمر المطر، و { مدرارا } من الدر، وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب "
؛ رواه أبو داود واللفظ له، والنسائي وابن ماجه، ولفظ النسائي: «من أكثر من الاستغفار»، انتهى من «السلاح
.
[71.13-15]
وقوله: { ما لكم لا ترجون لله وقارا } قال أبو عبيدة وغيره: { ترجون } معناه تخافون، قالوا: والوقار بمعنى العظمة، فكأن الكلام على هذا التأويل وعيد وتخويف، وقال بعض العلماء: ترجون على بابها، وكأنه قال: ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله، و { وقارا } يكون على هذا التأويل منهم كأنه يقول: تؤدة منكم وتمكنا في النظر.
وقوله: { وقد خلقكم أطوارا } قال ابن عباس وغيره: هي إشارة إلى التدريج الذي للإنسان في بطن أمه، وقال جماعة: هي إشارة إلى العبرة في اختلاف خلق ألوان الناس وخلقهم، ومللهم، والأطوار: الأحوال المختلفة.
[71.16-24]
وقوله سبحانه: { وجعل القمر فيهن نورا... } الآية، قال عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس: إن الشمس والقمر أقفاؤهما إلى الأرض، وإقبال نورهما وارتفاعه في السماء؛ وهذا الذي يقتضيه لفظ السراج.
و { أنبتكم من الأرض }: استعارة من حيث خلق آدم عليه السلام من الأرض.
و { نباتا } مصدر جاء على غير المصدر، التقدير: فنبتم نباتا، والإعادة فيها بالدفن، والإخراج هو بالبعث، وظاهر الآية: أن الأرض بسيطة غير كرية، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في الشرع بنفسه، اللهم إلا أن يترتب على القول بالكرية نظر فاسد، وأما اعتقاد كونها بسيطة، فهو ظاهر كتاب الله تعالى، وهو الذي لا يلحق عنه فساد ألبتة، واستدل ابن مجاهد على صحة ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور فقال: لو كانت الأرض كرية لما استقر الماء عليها، والسبل الطرق، والفجاج الواسعة، وقول نوح: { واتبعوا من لم يزده ماله... } الآية، المعنى: اتبعوا أشرافهم وغواتهم، و { خسارا }: معناه: خسرانا، و { كبارا }: بناء مبالغة نحو: حسان وقرىء شاذا: «كبارا» بكسر الكاف قال ابن الأنباري: جمع كبير.
و { ودا } وما عطف عليه أسماء أصنام، وروى البخاري وغيره عن ابن عباس: أنها كانت أسماء رجال صالحين، من قوم نوح فلما هلكوا؛ أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت،، قال ابن عباس: ثم صارت هذه الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد، انتهى.
وقوله: { وقد أضلوا كثيرا } هو إخبار نوح عن الأشراف، ثم دعا الله عليهم ألا يزيدهم إلا ضلالا، وقال الحسن: أراد بقوله: { وقد أضلوا } الأصنام المذكورة.
[71.25-28]
وقوله تعالى: { مما خطيئتهم أغرقوا } ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد عليه السلام و«ما» في قوله: { مما }: زائدة فكأنه قال: من خطيئاتهم، وهي لابتداء الغاية، * ص *: { مما خطيئتهم } من للسبب، * ع *: لابتداء الغاية و«ما» زائدة للتوكيد، انتهى، { فأدخلوا نارا } يعني جهنم، وقول نوح: { رب لا تذر على الأرض من الكفرين ديارا } قال قتادة وغيره: لم يدع نوح بهذه الدعوة إلا من بعد أن أوحي إليه
أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
[هود:36] و { ديارا } أصله: ديوار من الدوران، أي: من يجيء ويذهب.
وقوله: { رب اغفر لى ولولدى } قال ابن عباس: لم يكفر لنوح أب ما بينه وبين آدم عليه السلام، وقرأ أبي بن كعب: «ولأبوي»، وبيته المسجد؛ فيما قاله ابن عباس، وجمهور المفسرين، وقال ابن عباس أيضا: بيته شريعته ودينه؛ استعار لها بيتا كما يقال قبة الإسلام وفسطاط الدين، وقيل: أراد سفينته.
وقوله: { وللمؤمنين والمؤمنت } تعميم بالدعاء لمؤمني كل أمة، وقال بعض العلماء: إن الذي استجاب لنوح عليه السلام فأغرق بدعوته أهل الأرض الكفار، لجدير أن يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين، والتبار: الهلاك.
[72 - سورة الجن]
[72.1-3]
قوله عز وجل: { قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن } هؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح، وقد تقدم قصصهم في سورة الأحقاف، وقول الجن: { إنا سمعنا... } الآيات، هو خطاب منهم لقومهم .
و { قرآنا عجبا }: معناه: ذا عجب؛ لأن العجب مصدر يقع من سامع القرآن لبراعته وفصاحته ومضمناته.
وقوله: { وأنه تعلى جد ربنا } قال الجمهور: معناه: عظمة ربنا، وروي عن أنس أنه قال: كان الرجل إذا قرأ البقرة، وآل عمران جد في أعيننا، أي: عظم، وعن الحسن: { جد ربنا } غناه وقال مجاهد: ذكره، وقال بعضهم: جلاله، ومن فتح الألف من قوله: { وأنه تعلى } اختلفوا في تأويل ذلك، فقال بعضهم: هو عطف على { أنه استمع } فيجيء على هذا قوله تعالى: { وأنه تعلى } مما أمر أن يقول النبي إنه أوحي إليه، وليس هو من كلام الجن، وفي هذا قلق، وقال بعضهم: بل هو عطف على الضمير في { به } كأنه يقول: فآمنا به وبأنه تعالى، وهذا القول أبين في المعنى، لكن فيه من جهة النحو العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض، وذلك لا يحسن * ت *: بل هو حسن؛ إذ قد أتى في النظم والنثر الصحيح، مثبتا، وقرأ عكرمة: «تعالى جد ربنا» بفتح الجيم وضم الدال وتنوينه ورفع الرب ، كأنه يقول: تعالى عظيم هو ربنا، ف«ربنا» بدل والجد: العظيم في اللغة، وقرأ أبو الدرداء: «تعالى ذكر ربنا» وروي عنه: «تعالى جلال ربنا».
[72.4-5]
وقوله تعالى: { وأنه كان يقول سفيهنا } لا خلاف أن هذا من قول الجن، والسفيه: المذكور قال جمهور من المفسرين: هو إبليس لعنه الله ، وقال آخرون: هو اسم جنس لكل سفيه منهم ولا محالة أن إبليس صدر في السفاهة، وهذا القول أحسن، والشطط: التعدي وتجاوز الحد بقول أو فعل، * ص *: { شططا } أبو البقاء: نعت لمصدر محذوف، أي: قولا شططا، انتهى، ثم قال أولئك النفر: { وأنا ظننا } قبل إيماننا { أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا } في جهة الألوهية وما يتعلق بذلك.
[72.6-10]
وقوله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن... } الآية، من القراء من كسر الهمزة من «إنه»، ومنهم من فتحها، والكسر أوجه، والمعنى في الآية: ما كانت العرب تفعله في أسفارها من أن الرجل إذا أراد المبيت بواد، صاح بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي؛ إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، ويعتقد بذلك أن الجني يحميه ويمنعه، قال قتادة: فكانت الجن تحتقر بني آدم وتزدريهم لما ترى من جهلهم، فكانوا يزيدونهم مخافة، ويتعرضون للتخيل لهم، ويغوونهم، في إرادتهم، فهذا هو الرهق الذي زادته الجن بني آدم، وقال مجاهد وغيره: بنو آدم هم الذين زادوا الجن رهقا وهي الجراءة والطغيان وقد فسر قوم الرهق بالإثم.
وقوله: { وأنهم ظنوا } يريد به بني آدم.
وقوله: { كما ظننتم } مخاطبة لقومهم من الجن وقولهم: { أن لن يبعث الله أحدا } يحتمل معنيين: أحدهما بعث الحشر من القبور، والآخر بعث آدمي رسولا، وذكر المهدوي تأويلا ثالثا، أن المعنى: وأن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الإنس، فهي مخاطبة من الله تعالى، قال الثعلبي: وقيل: إن قوله: { وأنه كان رجال من الإنس... } الآية، ابتداء إخبار من الله تعالى، ليس هو من كلام الجن، انتهى، فهو وفاق لما ذكره المهدوي، وقولهم: { وأنا لمسنا السماء } قال جمهور المتأولين: معناه التمسنا، والشهب كواكب الرجم والحرس يحتمل أن يريد الرمي بالشهب، وكرر المعنى بلفظ مختلف، ويحتمل أن يريد الملائكة، و { مقعد }: جمع مقعد وقد تقدم بيان ذلك في سورة الحجر، وقولهم: { فمن يستمع الأن... } الآية، قطع على أن كل من استمع الآن أحرقه شهاب [فليس هنا بعد سمع إنما الإحراق عند الاستماع]، وهذا يقتضي أن الرجم كان في الجاهلية، ولكنه لم يكن بمستأصل، فلما جاء الإسلام، اشتد الأمر؛ حتى لم يكن فيه ولا يسير سماحة، و { رصدا }: نعت ل«شهاب» ووصفه بالمصدر، وقولهم: { وأنا لا ندرى أشر أريد بمن فى الأرض... } الآية، معناه: لا ندري أيؤمن الناس بهذا النبي فيرشدوا، أم يكفرون به فينزل بهم الشر، وعبارة الثعلبي: «وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض» حين حرست السماء ومنعنا السمع، { أم أراد بهم ربهم رشدا } ، انتهى.
[72.11-15]
وقولهم: { وأنا منا الصلحون } إلى آخر قولهم: { ومنا القسطون } هو من قول الجن، وقولهم: { ومنا دون ذلك } أي: غير صالحين، * ص *: { دون ذلك } قيل: بمعنى غير ذلك، وقيل: دون ذلك في الصلاح، ف«دون» في موضع الصفة لمحذوف، أي: ومنا قوم دون ذلك، انتهى، والطرائق: السير المختلفة، والقدد كذلك هي الأشياء المختلفة كأنه قد قد بعضها من بعض وفصل، قال ابن عباس وغيره: { طرائق قددا } أهواء مختلفة. وقولهم: { وأنا ظننا } أي: تيقنا، فالظن هنا بمعنى العلم { أن لن نعجز الله فى الأرض... } الآية، وهذا إخبار منهم عن حالهم بعد إيمانهم بما سمعوا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، و { الهدى } يريدون به القرآن، والبخس النقص، والرهق تحميل ما لا يطاق، وما يثقل، قال ابن عباس: البخس نقص الحسنات، والرهق الزيادة في السيئات.
وقوله تعالى: { فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } الوجه فيه أن يكون مخاطبة من الله تعالى لنبيه محمد عليه السلام ويؤيده ما بعده من الآيات، و { تحروا } معناه: طلبوا باجتهادهم.
[72.16-18]
وقوله سبحانه: { وألو استقموا على الطريقة... } الآية، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير: الضمير في قوله: { استقموا } عائد على القاسطين، والمعنى: لو استقاموا على طريقة الإسلام والحق لأنعمنا عليهم، وهذا المعنى نحو قوله تعالى:
ولو أن أهل الكتب ءامنوا واتقوا
[المائدة:65] إلى قوله:
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة:66] والقاسط الظالم، والماء الغدق هو الماء الكثير، و { لنفتنهم }: معناه: لنختبرهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حيث يكون الماء فثم المال، وحيث المال فثم الفتنة، ونزع بهذه الآية، وقال الحسن وجماعة من التابعين: كانت الصحابة رضي الله عنهم سامعين مطيعين فلما فتحت كنوز كسرى وقيصر على الناس، ثارت الفتن، و«نسلكه» ندخله، و { صعدا }: معناه: شاقا، وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: { صعدا } جبل في النار، { وأن المسجد لله } قيل: أراد البيوت التي للعبادة والصلاة في كل ملة، وقال الحسن: أراد بها كل موضع يسجد فيه؛ إذ الأرض كلها جعلت مسجدا لهذه الأمة، وروي: أن هذه الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة حينئذ، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم المواضع كلها لله فاعبده حيث كنت، قال * ع *: والمساجد المخصوصة بينة التمكن في كونها لله تعالى، فيصلح أن تفرد للعبادة، وكل ما هو خالص لله تعالى، وأن لا يتحدث بها في أمور الدنيا، ولا يجعل فيها لغير الله نصيب.
[72.19-22]
وقوله تعالى: { وأنه لما قام عبد الله } يحتمل: أن يكون خطابا من الله تعالى، ويحتمل: أن يكون إخبارا عن الجن، وعبد الله هو محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في { كادوا } يحتمل: أن يكون لكفار قريش، وغيرهم في اجتماعهم على رد أمره صلى الله عليه وسلم، وقيل: الضمير للجن، والمعنى أنهم كادوا يتقصفون عليه؛ لاستماع القرآن، وقال ابن جبير: معنى الآية أنها قول الجن لقومهم؛ يحكون لهم، والعبد محمد عليه السلام ، والضمير في { كادوا } لأصحابه الذين يطيعون له ويقتدون به في الصلاة فهم عليه لبد، واللبد: الجماعات شبهت بالشيء المتلبد، وقال البخاري: قال ابن عباس: { لبدا } أعوانا، انتهى،، و { يدعوه } معناه: يعبده، وقيل: عبد الله في الآية المراد به نوح، وقرأ جمهور السبعة: «قال إنما أدعوا ربي» وقرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو بخلاف عنه: «قل» ثم أمر الله تعالى محمدا عليه السلام بالتبري من القدرة، وأنه لا يملك لأحد ضرا ولا نفعا، والملتحد: الملجأ الذي يمال إليه، ومنه الإلحاد وهو الميل.
[72.23-24]
وقوله: { إلا بلاغا } قال قتادة: التقدير: لا أملك إلا بلاغا إليكم، فأما الإيمان والكفر، فلا أملكه، وقال الحسن: ما معناه أنه استثناء منقطع، والمعنى: لن يجيرني من الله أحد إلا بلاغا فإني إن بلغت، رحمني بذلك، أي: بسبب ذلك.
وقوله تعالى: { ومن يعص الله } يريد: بالكفر، بدليل تأبيد الخلود.
[72.25-28]
وقوله تعالى: { قل إن أدرى أقريب ما توعدون } يعني عذابهم الذي وعدوا به، والأمد المدة والغاية.
وقوله تعالى: { إلا من ارتضى من رسول } معناه فإنه يظهره على ما شاء مما هو قليل من كثير، [ثم] يبث تعالى حول ذلك الملك الرسول حفظة رصدا لإبليس وحزبه من الجن والإنس.
وقوله تعالى: { ليعلم أن قد أبلغوا... } الآية، قال ابن جبير: ليعلم محمد أن الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم، وقال مجاهد: معناه ليعلم من كذب أو أشرك أن الرسل قد بلغت، وقيل: المعنى ليعلم الله تعالى رسله مبلغة خارجة إلى الوجود، لأن علمه بكل شيء قد تقدم، والضمير في { أحاط } و { أحصى } لله سبحانه لا غير.
[73 - سورة المزمل]
[73.1-4]
قوله عز وجل: { يأيها المزمل } نداء للنبي صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي: المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها عليه السلام حين الخطاب، وكذلك المدثر، وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب، وترك معاتبته سموه باسم مشتق من حالته، كقوله عليه السلام لعلي حين غاضب فاطمة: قم أبا تراب، إشعارا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له، والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله؛ لينتبه إلى قيام الليل وذكر الله فيه، لأن الاسم المشتق من الفعل، يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل بذلك العمل، واتصف بتلك الصفة، انتهى، والتزمل الالتفاف في الثياب، قال جمهور المفسرين وهو في البخاري وغيره:
" إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره به، رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقال: زملوني زملوني؛ فنزلت «يأيها المدثر» "
و[على هذا نزلت «يأيها المزمل»].
وقوله تعالى: { قم اليل إلا قليلا } قال جمهور العلماء: هو أمر ندب، وقيل كان فرضا وقت نزول الآية، وقال بعضهم: كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وبقي كذلك حتى توفي، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: { نصفه } يحتمل: أن يكون بدلا من قوله قليلا، * ص *: { إلا قليلا } استثناء من الليل، و { نصفه } قيل: بدل من الليل وعلى هذا يكون استثناء { إلا قليلا } منه، أي: قم نصف الليل إلا قليلا منه، والضمير في قوله: { أو انقص منه } ، { أو زد عليه } عائد على النصف وقيل: { نصفه }: بدل من قوله: { إلا قليلا } قال أبو البقاء، وهو أشبه بظاهر الآية، انتهى، قال * ع *: وكيف ما تقلب المعنى فإنه أمر بقيام نصف الليل، أو أكثر شيئا أو أقل شيئا، فالأكثر عند العلماء لا يزيد على الثلثين، والأقل لا ينحط عن الثلث، ويقوي هذا حديث ابن عباس في مبيته في بيت ميمونة؛ قال: فلما انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال * ع *: ويلزم على هذا البدل الذي ذكرناه أن يكون نصف الليل قد وقع عليه الوصف بقليل، وقد يحتمل عندي قوله: { إلا قليلا } أن يكون استثناء من القيام، فنجعل الليل اسم جنس ثم قال: { إلا قليلا } أي: إلا الليالي التي تخل بقيامها لعذر، وهذا [النظر يحسن مع القول بالندب جدا، قال * ص *: وهذا [النظر خلاف ظاهر الآية، انتهى، والضمير في { منه } و { عليه } عائدان على] النصف.
وقوله سبحانه: { ورتل }: معناه في اللغة: تمهل وفرق بين الحروف، لتبين، والمقصد أن يجد الفكر فسحة للنظر وفهم المعاني، وبذلك يرق القلب، ويفيض عليه النور والرحمة، قال ابن كيسان: المراد: تفهمه تاليا له، وروي في صحيح الحديث: أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بينة مترسلة، لو شاء أحد أن يعد الحروف لعدها، قال الغزالي في «الإحياء»: واعلم أن الترتيل والتؤدة أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيرا في القلب من الهدرمة والاستعجال، والمقصود من القراءة التفكر، والترتيل معين عليه، وللناس عادات مختلفة في الختم، وأولى ما يرجع إليه في التقديرات قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه الصلاة والسلام :
" من قرأ القرآن في أقل من ثلاث، لم يفقهه "
وذلك لأن الزيادة عليها تمنع الترتيل المطلوب، وقد كره جماعة الختم في يوم وليلة، والتفصيل في مقدار القراءة أنه إن كان التالي من العباد السالكين طريق العمل، فلا ينبغي له أن ينقص من ختمتين في الأسبوع، وإن كان من السالكين بأعمال القلب وضروب الفكر، أو من المشغولين بنشر العلم فلا بأس أن يقتصر في الأسبوع على ختمة، وإن كان نافذ الفكر في معاني القرآن فقد يكتفي في الشهر بمرة لحاجته إلى كثرة الترديد والتأمل، انتهى، وروى ابن المبارك في «رقائقه»: قال: حدثنا إسماعيل عن أبي المتوكل الناجي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة بآية من القرآن يكررها على نفسه "
، انتهى.
[73.5-10]
وقوله تعالى: { إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا } يعني القرآن، واختلف لم سماه ثقيلا، فقال جماعة من المفسرين: لما كان يحل برسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقل الجسم؛ حتى إنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته؛ بركت به وحتى كادت فخذه أن ترض فخذ زيد بن ثابت رضي الله عنه ، وقيل: لثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعده ووعيده ونحو ذلك، وقال حذاق العلماء: معناه: ثقيل المعاني من الأمر بالطاعات، والتكاليف الشرعية من الجهاد، ومزاولة الأعمال الصالحات دائما، قال الحسن: إن الهذ خفيف ولكن العمل ثقيل* ت *: والصواب عندي أن يقال: أما ثقله باعتبار النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ما كان يجده عليه السلام من الثقل المحسوس وأما ثقله باعتبار سائر الأمة فهو ما ذكر من ثقل المعاني، وقد زجر مالك سائلا سأله عن مسألة وقال: يا أبا عبد الله؛ إنها مسألة خفيفة؛ فغضب مالك وقال: ليس في العلم خفيف أما سمعت قول الله تعالى: { إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا } فالعلم كله ثقيل، انتهى من «المدارك» لعياض.
وقوله سبحانه: { إن ناشئة اليل } قال ابن جبير وغيره: هي لفظة حبشية؛ نشأ الرجل إذا قام من الليل ف { ناشئة } على هذا جمع ناشىء أي: قائم، و { أشد وطأ } معناه: ثبوتا واستقلالا بالقيام، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وجماعة كابن عباس وابن الزبير وغيرهم: «وطاء» بكسر الواو ممدودا على وزن «فعال» على معنى المواطأة والموافقة، وهو أن يواطىء قلبه لسانه، والمواطأة هي الموافقة، فهذه مواطأة صحيحة؛ لخلو البال من أشغال النهار، وبهذا المعنى فسر اللفظ مجاهد وغيره، قال الثعلبي: واختار هذه القراءة أبو عبيد وقال جماعة: { ناشئة اليل } ساعاته كلها، لأنها تنشأ شيئا بعد شيء، وقيل في تفسير { ناشئة اليل } غير هذا، وقرأ أنس بن مالك «وأصوب قيلا» فقيل له: إنما هو { أقوم } فقال: أقوم وأصوب واحد .
وقوله تعالى: { إن لك فى النهار سبحا طويلا } أي: تصرفا وترددا في أمورك، ومنه السباحة في الماء، { وتبتل } معناه: انقطع إليه انقطاعا؛ هذا لفظ ابن عطاء على ما نقله الثعلبي، انتهى، وأما * ع* فقال: معناه انقطع من كل شيء إلا منه وأفزع إليه، قال زيد بن أسلم: التبتل: رفض الدنيا، ومنه بتل الحبل، و { تبتيلا } مصدر على غير الصدر، قال أبو حيان: وحسنه كونه فاصلة، انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه»: فالتبتل المأمور به في الآية الانقطاع إلى الله تعالى بإخلاص العبادة، وهو اختيار البخاري، والتبتل المنهي عنه في الحديث هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع، انتهى، والوكيل القائم بالأمر الذي توكل إليه الأشياء.
وقوله: { واهجرهم هجرا جميلا } منسوخ بآية السيف.
[73.11-14]
وقوله سبحانه: { وذرنى والمكذبين أولى النعمة } الآية، وعيد بين، والمعنى لا تشغل بهم فكرك وكلهم إلي، والنعمة: غضارة العيش وكثرة المال والمشار إليهم كفار قريش أصحاب القليب ببدر، و { لدينا } بمنزلة «عندنا» والأنكال: جمع نكل، وهو القيد من الحديد، ويروى أنها قيود سود من النار، والطعام ذو الغصة شجرة الزقوم، قاله مجاهد وغيره، وقال ابن عباس: شوك من نار يعترض في حلوقهم وكل مطعوم هنالك فهو ذو غصة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق، والرجفان الاهتزاز والاضطراب من فزع وهول، و«المهيل»: اللين الرخو الذي يذهب بالريح، وقال البخاري: { كثيبا مهيلا } رملا سائلا، انتهى.
[73.15-17]
وقوله تعالى: { إنا أرسلنا إليكم... } الآية، خطاب للعالم لكن المواجهون قريش، و { شهدا عليكم } نحو قوله:
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا
[النساء:41] والوبيل: الشديد الردى.
وقوله تعالى: { فكيف تتقون } معناه: كيف تجعلون وقاية لأنفسكم، و { يوما } مفعول ب { تتقون } ، وقيل: هو مفعول ب { كفرتم } ويكون { كفرتم } بمعنى: جحدتم، ف { تتقون } على هذا من التقوى، أي: تتقون عذاب الله، ويجوز أن يكون { يوما } ظرفا والمعنى: تتقون عقاب الله يوما، وعبارة الثعلبي: { فكيف تتقون إن كفرتم } أي كيف تتحصنون من عذاب يوم يشيب فيه الطفل لهوله إن كفرتم ، ثم ذكر نحو ما تقدم، انتهى، وحكى * ص *:، عن بعض الناس جواز أن يكون { يوما } ظرفا أي: فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا، * ت *: وهذا هو مراد * ع *، قال أبو حيان: و { شيبا } مفعول ثان ل { يجعل } وهو جمع أشيب، انتهى.
[73.18-19]
وقوله تعالى: { السماء منفطر به } أي ذات انفطار، والانفطار التصدع والانشقاق، والضمير في { به } قال منذر وغيره: عائد على اليوم؛ وكذا قال * ص *: إن ضمير { به } يعود على اليوم والباء سببية أو ظرفية، انتهى،، وفي صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمرو: وذكر صلى الله عليه وسلم:
" بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، قال: فذلك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك { يوم يكشف عن ساق } [القلم:42] "
الحديث، انتهى، وقيل: عائد على الله، أي منفطر بأمره وقدرته، والضمير في قوله: { وعده } الظاهر أنه يعود على الله تعالى.
وقوله تعالى: { إن هذه تذكرة... } الآية، الإشارة ب«هذه» تحتمل: إلى ما ذكر من الأنكال والجحيم، والأخذ الوبيل، وتحتمل: أن تكون إلى السورة بجملتها، وتحتمل: أن تكون إلى آيات القرآن بجملتها.
وقوله سبحانه: { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } ليس معناه إباحة الأمر وضده، بل الكلام يتضمن الوعد والوعيد، والسبيل هنا سبيل الخير والطاعة.
[73.20]
وقوله سبحانه: { إن ربك يعلم أنك تقوم... } الآية، المعنى أن الله تعالى يعلم أنك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياما مختلفا مرة يكثر ومرة يقل، ومرة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من النصف، ومرة أدنى من الثلث، وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمان، مع عذر النوم، وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى، وأما البشر فلا يحصي ذلك، فتاب الله عليهم، أي: رجع بهم من الثقل إلى الخفة وأمرهم بقراءة ما تيسر، ونحو هذا تعطي عبارة الفراء، ومنذر فإنهما قالا: تحصوه تحفظوه، وهذا التأويل هو على قراءة الخفض عطفا على الثلثين وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر، وأما من قرأ: «ونصفه وثلثه» بالنصب عطفا على أدنى وهي قراءة باقي السبعة، فالمعنى عندهم أن الله تعالى قد علم أنهم يقدرون الزمان على نحو ما أمر به تعالى، في قوله:
نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه
[المزمل:3-4] فلم يبق إلا قوله: { أن لن تحصوه } فمعناه لن يطيقوا قيامه لكثرته وشدته، فخفف الله عنهم فضلا منه؛ لا لعلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقات، ونحو هذا تعطي عبارة الحسن وابن جبير؛ فإنهما قالا: تحصوه: تطيقوه، وعبارة الثعلبي: ومن قرأ بالنصب؛ فالمعنى: وتقوم نصفه وثلثه، قال الفراء: وهو الأشبه بالصواب؛ لأنه قال أقل من الثلثين، ثم ذكر تفسير القلة لا تفسير أقل من القلة، انتهى، ولو عبر الفراء بالأرجح، لكان أحسن أدبا، وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله "
ثم قال:
" اللهم، اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ، ثم صلى قبلت صلاته "
، رواه الجماعة إلا مسلما، وتعار بتشديد الراء معناه: استيقظ، انتهى من «السلاح».
وقوله تعالى: { فاقرءوا ما تيسر من القرءان } قال الثعلبي أي: ما خف وسهل بغير مقدار من القراءة، والمدة، وقيل: المعنى فصلوا ما تيسر فعبر بالقراءة عنها. * ت *: وهذا هو الأصح عند ابن العربي، انتهى، قال * ع *: قوله: { فاقرءوا ما تيسر من القرءان } هو أمر ندب في قول الجمهور، وقال جماعة: هو فرض لا بد منه ولو خمسين آية، وقال الحسن وابن سيرين: قيام الليل فرض ولو قدر حلب شاة، إلا أن الحسن قال: من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن؛ واستحسن هذا جماعة من العلماء؛ قال بعضهم: والركعتان بعد العشاء مع الوتر داخلتان في امتثال هذا الأمر؛ ومن زاد زاده الله ثوابا، * ت *: ينبغي للعاقل المبادرة إلى تحصيل الخيرات قبل هجوم صولة الممات، قال الباجي في «سنن الصالحين» له: قالت بنت الربيع بن خثيم لأبيها: يا أبت ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام، قال: إن أباك يخاف البيات، قال الباجي رحمه الله تعالى : ولي في هذا المعنى: [من الرجز]
قد أفلح القانت في جنح الدجى
يتلو الكتاب العربي النيرا
[فقائما وراكعا وساجدا
مبتهلا مستعبرا مستغفرا]
له حنين وشهيق وبكا
يبل من أدمعه ترب الثرى
إنا لسفر نبتغي نيل الهدى
ففي السرى بغيتنا لا في الكرا
من ينصب الليل ينل راحته
عند الصباح يحمد القوم السرى
انتهى، والضرب في الأرض هو السفر للتجارة ابتغاء فضل الله سبحانه، فذكر الله سبحانه أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل، ثم كرر سبحانه الأمر بقراءة ما تيسر منه تأكيدا، والصلاة والزكاة هنا هما المفروضتان، فمن قال: إن القيام من الليل غير واجب؛ قال: معنى الآية خذوا من هذا النفل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم، ومن قال: إن شيئا من القيام واجب؛ قال: قد قرنه الله بالفرائض؛ لأنه فرض وإقراض الله تعالى هو إسلاف العمل الصالح عنده، وقرأ جمهور الناس «هو خيرا» على أن يكون «هو» فصلا، قال بعض العلماء: الاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية، ومن قوله تعالى:
كانوا قليلا من اليل ما يهجعون * وبالأسحر هم يستغفرون
[الذاريات:17-18] قال * ع *: وعهدت أبي رحمه الله يستغفر الله إثر كل مكتوبة ثلاثا بعقب السلام، ويأثر في ذلك حديثا، فكان هذا الاستغفار من التقصير وتقلب الفكر أثناء الصلاة، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر؛ ثم يجلسون للاستغفار. * ت *: وما ذكره * ع *: رحمه الله عن أبيه رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ثوبان قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثا وقال: «اللهم، أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام "
، قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، وفي رواية لمسلم من حديث عائشة:
" يا ذا الجلال والإكرام "
، انتهى من «سلاح المؤمن».
[74 - سورة المدثر]
[74.1-6]
قوله عز وجل: { يأيها المدثر * قم فأنذر } الآية، اختلف في أول ما نزل من القرآن، فقال الجمهور هو: { اقرأ باسم ربك } وهذا هو الأصح، وقال جابر وجماعة هو: { يأيها المدثر } ، * ص *: والتدثر: لبس الدثار، وهو الثوب الذي فوق الشعار، والشعار الثوب الذي يلي الجسد؛ ومنه قوله: عليه السلام :
" الأنصار شعار، والناس دثار "
انتهى.
وقوله تعالى: { قم فأنذر } بعثة عامة إلى جميع الخلق.
{ وربك فكبر } أي: فعظم.
{ وثيابك فطهر } قال ابن زيد وجماعة: هو أمر بتطهير الثياب حقيقة، وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى: وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال الجمهور: هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس، والعرض، وهذا كما تقول: فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر: دنس الثوب، قال ابن العربي في «أحكامه»: والذي يقول إنها الثياب المجازية أكثر، وكثيرا ما تستعمله العرب، قال أبو كبشة: [الطويل]
ثياب بني عوف طهارى نقية
وأوجههم عند المشاهد غران
يعني: بطهارة ثيابهم وسلامتهم من الدناءات، وقال غيلان بن سلمة الثقفي: [الطويل]
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر
لبست ولا من غدرة أتقنع
وليس يمتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز على ما بيناه في أصول الفقه، وإذا حملناها على الثياب المعلومة؛ فهي تتناول معنيين: أحدهما: تقصير الأذيال؛ فإنها إذا أرسلت تدنست، وتقصير الذيل أنقى لثوبه وأتقى لربه، المعنى الثاني: غسلها من النجاسة فهو ظاهر منها صحيح فيها، انتهى، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: يا علي، طهر ثيابك من الدنس، تحظ بمدد الله في كل نفس، فقلت: وما ثيابي يا رسول الله؟ فقال: إن الله كساك [حلة المعرفة، ثم] حلة المحبة، ثم حلة التوحيد، ثم حلة الإيمان، ثم حلة الإسلام، فمن عرف الله صغر لديه كل شيء، ومن أحب الله هان عليه كل شيء، ومن وحد الله، لم يشرك به شيئا، ومن آمن بالله أمن من كل شيء، ومن أسلم لله قلما يعصيه، وإن عصاه، اعتذر إليه، وإذا اعتذر إليه ، قبل عذره، قال: ففهمت حينئذ معنى قوله عز وجل: { وثيابك فطهر } انتهى من «التنوير» لابن عطاء الله.
{ والرجز } يعني الأصنام والأوثان، وقال ابن عباس: الرجز السخط يعني: اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، واختلف في معنى قوله تعالى: { ولا تمنن تستكثر } فقال ابن عباس وجماعة: معناه لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه، فكأنه من قولهم: من إذا أعطى، قال الضحاك: وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومباح لأمته، لكن لا أجر لهم فيه، وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه ولا تمنن على الله بجدك، تستكثر أعمالك، ويقع لك بها إعجاب، قال * ع*: وهذا من المن الذي هو تعديد اليد وذكرها، وقال مجاهد: معناه ولا تضعف تستكثر ما حملناك من أعباء الرسالة، وتستكثر من الخير؛ وهذا من قولهم حبل منين أي: ضعيف.
[74.7-10]
{ ولربك فاصبر } أي لوجه ربك وطلب رضاه فاصبر على أذى الكفار، وعلى العبادة وعن الشهوات وعلى تكاليف النبوة، قال ابن زيد: وعلى حرب الأحمر، والأسود، ولقد حمل أمرا عظيما صلى الله عليه وسلم، والناقور: الذي ينفخ فيه، وهو الصور؛ قاله ابن عباس وعكرمة؛ وهو فاعول من النقر، قال أبو حباب القصاب: أمنا زرارة بن أوفى؛ فلما بلغ { فإذا نقر فى الناقور } خر ميتا، قال الفخر: قوله تعالى: { فذلك يومئذ يوم عسير } أي: على الكافرين، لأنهم يناقشون { غير يسير } أي: بل كثير شديد فأما المؤمنون؛ فإنه عليهم يسير؛ لأنهم لا يناقشون، قال ابن عباس: ولما قال تعالى: { على الكفرين غير يسير } دل على أنه يسير على المؤمنين، وهذا هو دليل الخطاب، ويحتمل أن يكون إنما وصفه تعالى بالعسر لأنه في نفسه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين، إلا أنه يكون هول الكفار فيه أكثر وأشد، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله: { يوم عسير } انتهى.
[74.11-15]
وقوله تعالى: { ذرنى ومن خلقت وحيدا } الآية، لا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، فروي أنه كان يلقب الوحيد أي: لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته، فذكر الوحيد في جملة النعم التي أعطي، وإن لم يثبت هذا فقوله تعالى: { خلقت وحيدا } معناه: منفردا قليلا ذليلا، والمال الممدود قال مجاهد وابن جبير: هو ألف دينار، وقال سفيان: بلغني أنه أربعة آلاف؛ وقاله قتادة: وقيل عشرة آلاف دينار، قال * ع *: وهذا مد في العدد، وقال عمر بن الخطاب: المال الممدود: الريع المستغل مشاهرة.
{ وبنين شهودا } أي حضورا، قيل عشرة وقيل ثلاثة عشر، قال الثعلبي: أسلم منهم ثلاثة خالد بن الوليد، وهشام، وعمارة، قالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك، انتهى.
{ ومهدت له تمهيدا } قال سفيان: المعنى بسطت له العيش بسطا.
[74.16-28]
وقوله تعالى: { كلا } ردع وزجر له على أمنيته، و { أرهقه } معناه أكلفه بمشقة وعسر، وصعود عقبة في نار جهنم، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب، ثم يعود، والصعود في اللغة: العقبة الشاقة.
وقوله تعالى مخبرا عن الوليد: { إنه فكر وقدر } الآية، روى جمهور من المفسرين: أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه، ثم سمع كذلك مرارا، حتى كاد أن يقارب الإسلام، وقال: والله لقد سمعت من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس، ولا هو من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو، وما يعلى، فقالت قريش: صبأ الوليد والله لتصبأن قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فحاجه أبو جهل وجماعة حتى غضب الوليد، وقال: تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن قط؟ قالوا؛ لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب قط؟ قالوا: لا، وكانوا يسمونه قبل النبوة الأمين لصدقه، فقالت قريش: ما عندك فيه؟ فتفكر في نفسه، فقال: ما أرى فيه شيئا مما ذكرتموه فقالوا: هو ساحر، فقال: أما هذا فيشبه، وألفاظ الرواة هنا متقاربة المعاني من رواية الزهري وغيره.
وقوله تعالى: { فقتل كيف قدر } قال الثعلبي وغيره: { قتل } معناه: لعن، انتهى.
{ وبسر } أي قطب ما بين عينيه واربد وجهه ثم أدبر عن الهدى بعد أن أقبل إليه، وقال: { إن هذا إلا سحر يؤثر } أي: يروى، أي: يرويه محمد عن غيره.
و { سقر } هي الدرك السادس من النار، { لا تبقى } على من ألقي فيها { ولا تذر } غاية من العذاب إلا وصلته إليه.
[74.29-35]
وقوله تعالى: { لواحة للبشر } قال ابن عباس وجمهور الناس: معناه مغيرة للبشرات ومحرقة للجلود مسودة لها، فالبشر جمع بشرة، وقال الحسن وابن كيسان: { لواحة } بناء مبالغة من لاح يلوح إذا ظهر، فالمعنى أنها تظهر للناس وهم البشر من مسيرة خمسمائة عام، وذلك لعظمها وهولها وزفيرها.
وقوله تعالى: { عليها تسعة عشر } لا خلاف بين العلماء أنهم خزنة جهنم المحيطون بأمرها الذين إليهم جماع أمر زبانيتها، وروي أن قريشا لما سمعت هذا كثر لغطهم فيه، وقالوا: ولو كان هذا حقا، فإن هذا العدد قليل، وقال أبو جهل: هؤلاء تسعة عشر، وأنتم الدهم أي: الشجعان: أفيعجز عشرة منا عن رجل منهم إلى غير هذا من أقوالهم السخيفة.
وقوله تعالى: { وما جعلنا أصحب النار إلا ملئكة } تبيين لفساد أقوال قريش، أي: إنا جعلناهم خلقا لا قبل لاحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطمع في المغالبة ما وقع، وليستيقن أهل الكتاب التوراة والإنجيل أن هذا القرآن من عند الله، إذ هم يجدون هذه العدة في كتبهم المنزلة، قال هذا المعنى ابن عباس وغيره، وبورود الحقائق من عند الله عز وجل يزداد كل ذي إيمان إيمانا، ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين.
وقوله سبحانه: { وليقول الذين فى قلوبهم مرض... } الآية، نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق أو الكافر، أي حاروا ولم يهتدوا لمقصد الحق، فجعل بعضهم يستفهم بعضا عن مراد الله بهذا المثل، استبعادا أن يكون هذا من عند الله، قال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق وإنما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الإيمان، ثم قال تعالى: { وما يعلم جنود ربك إلا هو } إعلاما بأن الأمر فوق ما يتوهم، وأن الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها، * ت *: صوابه أن يقول عن بعض المقدورات لا عن كلها؛ وهذا هو مراده، ألا تراه قال في قوله تعالى:
ولا يحيطون بشيء من علمه
[البقرة:255] قال: يعني بشيء من معلوماته؛ لأن علمه تعالى لا يتجزأ، فافهم راشدا، والسموات كلها عامرة بأنواع من الملائكة؛ كلهم في عبادة متصلة وخشوع دائم، لا فترة في شيء من ذلك، ولا دقيقة واحدة، قال مجاهد: والضمير في قوله: { وما هى } للنار المذكورة، أي: يذكر بها البشر فيخافونها، فيطيعون الله، وقال بعضهم: قوله: { وما هى } يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة، وأقسم تعالى بالقمر وما بعده تنبيها على النظر في ذلك والفكر المؤدي إلى تعظيمه تعالى وتحصيل معرفته تعالى مالك الكل وقوام الوجود، ونور السماوات والأرض، لا إله إلا هو العزيز القهار، وأدبر الليل معناه ولى، وأسفر الصبح أضاء وانتشر ضوؤه، قال ابن زيد وغيره: الضمير في قوله: { إنها لإحدى الكبر } لجهنم، ويحتمل أن يكون الضمير للنذارة وأمر الآخرة؛ فهو للحال والقصة، * ص *: والكبر جمع كبرى، وفي * ع *: جمع كبيرة ولعله وهم من الناسخ، انتهى.
[74.36-41]
وقوله سبحانه: { نذيرا للبشر } قال الحسن: لا نذير أدهى من النار، وقال ابن زيد: { نذيرا للبشر } هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } قال الحسن: هو وعيد نحو قوله:
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
[الكهف:29]، ثم قوى سبحانه هذا المعنى بقوله: { كل نفس بما كسبت رهينة }: إذ لزم بهذا القول أن المقصر مرتهن بسوء عمله، وقال الضحاك: المعنى: كل نفس حقت عليها كلمة العذاب، ولا يرتهن تعالى أحدا من أهل الجنة إن شاء الله.
وقوله تعالى: { إلا أصحب اليمين } استثناء ظاهره الانفصال، تقديره: لكن أصحاب اليمين في جنات.
* ص *: { في جنت } أي: هم في جنات، فيكون خبر مبتدإ محذوف.
* م *: وأعربه أبو البقاء حالا من الضمير في { يتساءلون } ، انتهى.
قال ابن عباس: { أصحب اليمين } هنا الملائكة، وقال الضحاك: هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين.
* ت *: وأسند أبو عمر بن عبد البر عن علي ابن أبي طالب في قوله تعالى: { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحب اليمين } قال: أصحاب اليمين: أطفال المسلمين، انتهى من التمهيد.
[74.42-49]
وقولهم: { ما سلككم } أي: ما أدخلكم، فيحتمل أن يكون من قول أصحاب اليمين الآدميين أو من قول الملائكة.
وقوله تعالى: { قالوا } يعني الكفار { لم نك من المصلين... } الآية، وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان بالله، والمعرفة به، والخشوع له { ولم نك نطعم المسكين } يشمل الصدقة فرضا كانت أو نفلا، والخوض مع الخائضين: عرفه في الباطل والتكذيب بيوم الدين كفر صراح { حتى أتنا اليقين } يعني الموت؛ قاله المفسرون.
قال * ع *: وعندي: أن اليقين صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله والدار الآخرة، وقد تقدم ذكر أحاديث الشفاعة؛ قال الفخر: واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بترك فروع الشريعة، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول انتهى.
[74.50-56]
وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين: { كأنهم حمر مستنفرة } إثبات لجهلهم؛ لأن الحمر من جاهل الحيوان جدا، وفي حرف ابن مسعود: «حمر نافرة» قال ابن عباس وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: القسورة: الأسد، وقيل غير هذا، { بل يريد كل امرىء منهم } أي: من هؤلاء { أن يؤتى صحفا منشرة } أي: يريد كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتاب من الله، ومنشرة، أي: منشورة غير مطوية.
وقوله: { كلا } رد على إرادتهم، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال: { بل لا يخافون الأخرة } المعنى: هذه هي العلة والسبب في إعراضهم، فكان جهلهم بالآخرة سبب امتناعهم من الهدى حتى هلكوا، ثم أعاد تعالى الرد والزجر بقوله: { كلا } وأخبر أن هذا القول والبيان وهذه المحاورة بجملتها { تذكرة } { فمن شاء }: ووفقه الله لذلك، ذكر معاده؛ فعمل له، ثم أخبر سبحانه أن ذكر الإنسان معاده وجريه إلى فلاحه؛ إنما هو كله بمشيئة الله تعالى، وليس يكون شيء إلا بها، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير: «يذكرون» بالياء من تحت.
وقوله سبحانه: { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } خبر جزم معناه: أن الله عز وجل أهل بصفاته العلى ونعمه التي لا تحصى لأن يتقى ويطاع أمره، ويحذر عصيانه، وأنه بفضله وكرمه أهل أن يغفر لعباده إذا اتقوه؛ روى ابن ماجه عن أنس:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: { هو أهل التقوى وأهل المغفرة } فقال: قال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى، فلا يجعل معي إله آخر، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر، فأنا أهل أن أغفر له "
وأخرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه، وقال: حديث حسن، انتهى.
[75 - سورة القيامة]
[75.1-9]
قوله عز وجل: { لا أقسم بيوم القيمة * ولا أقسم بالنفس اللوامة } هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير: «لأقسم بيوم القيامة ولأقسم» فقيل: على قراءة الجمهور «لا» زائدة، وقال الفراء: «لا» نفي لكلام الكفار، وزجر لهم، ورد عليهم، وجمهور المتأولين على أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، أقسم سبحانه بيوم القيامة؛ تنبيها منه على عظمه وهوله؛ قال الحسن: النفس اللوامة: هي اللوامة لصاحبها في ترك الطاعة ونحو ذلك، فهي على هذا ممدوحة؛ ولذلك أقسم الله بها، وقال ابن عباس وقتادة: اللوامة: هي الفاجرة، اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها، وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها، والنفس في الآية اسم جنس.
قال * ع *: وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء فإنها لوامة في الطرفين، مرة تلوم على ترك الطاعة، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنت خلصت وصفت، قال الثعلبي: وجواب القسم محذوف تقديره: لتبعثن، دل عليه قوله: { أيحسب الإنسن ألن نجمع عظامه } أي: للإحياء والبعث، والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث، انتهى، والبنان: الأصابع، و { نسوى بنانه } معناه: نتقنها سوية؛ قاله القتبي، وهذا كله عند البعث، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: المعنى: بل نحن قادرون أن نسوي بنانه، أي: نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير أو كحافر الحمار، لا يمكنه أن يعمل بها شيئا، ففي هذا توعد ما، والقول الأول أجرى مع رصف الكلام.
{ بل يريد الإنسن ليفجر أمامه } معناه: أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه؛ ليمضي فيها أبدا راكبا رأسه، ومطيعا أمله، ومسوفا توبته؛ قال البخاري: { ليفجر أمامه } يقول: سوف أتوب، سوف أعمل، انتهى.
قال الفخر: قوله: { ليفجر أمامه } فيه قولان:
الأول: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه؛ فعن ابن جبير: يقدم الذنب، ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوإ أعماله.
القول الثاني: { ليفجر أمامه } أي: يكذب بما أمامه من البعث والحساب؛ لأن من كذب حقا كان مفاجرا، والدليل على هذا القول قوله تعالى: { يسئل أيان يوم القيمة } أي: متى يكون ذلك؛ تكذيبا له، انتهى.
وسؤال الكفار { أيان } هو على معنى التكذيب والهزء، و { أيان } بمعنى: متى، وقرأ نافع وعاصم بخلاف: «برق البصر» بفتح الراء بمعنى: لمع وصار له بريق، وحار عند الموت، وقرأ أبو عمرو وغيره بكسرها بمعنى: شخص، والمعنى متقارب، قال مجاهد: هذا عند الموت، وقال الحسن: هذا في يوم القيامة، قال أبو عبيدة وجماعة من اللغويين: الخسوف والكسوف بمعنى واحد، وقال ابن أبي أويس: الكسوف: ذهاب بعض الضوء، والخسوف: ذهاب جميعه، وروى عروة وسفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تقولوا كسفت الشمس، ولكن قولوا: خسفت "
وقرأ ابن مسعود: «وجمع بين الشمس والقمر» واختلف في معنى الجمع بينهما فقال عطاء: يجمعان فيقذفان في النار، وقيل: في البحر فيصيرا نار الله العظمى، وقيل: يجمع الضوءان فيذهب بهما؛ قال الثعلبي: وقال علي وابن عباس: يجعلان في نور الحجب، انتهى.
[75.10-13]
{ يقول الإنسن يومئذ أين المفر } أي: أين الفرار { كلا لا وزر } أي: لا ملجأ، و { المستقر } موضع الاستقرار.
وقوله تعالى: { ينبأ الإنسن يومئذ بما قدم وأخر } [أي]: يعلم بكل ما فعل، ويجده محصلا، وقال ابن عباس وابن مسعود: بما قدم في حياته، وما أخر من سنة بعد مماته.
[75.14-19]
وقوله تعالى: { بل الإنسن على نفسه بصيرة } قال ابن عباس وغيره: أي: للإنسان على نفسه من نفسه بصيرة رقباء يشهدون عليه، وهم جوارحه وحفظته، ويحتمل أن يكون المعنى: بل الإنسان على نفسه شاهد؛ ودليله قوله تعالى:
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء:14] قال الثعلبي: قال أبان بن تعلب: البصيرة والبينة والشاهد بمعنى واحد انتهى، ونحوه للهروي؛ قال * ع *: والمعنى على هذا التأويل الثاني: أن في الإنسان وفي عقله وفطرته حجة وشاهدا مبصرا على نفسه.
{ ولو ألقى معاذيره } أي: ولو اعتذر عن قبيح أفعاله، فهو يعلمها، قال الجمهور: والمعاذير هنا جمع معذرة، وقال الضحاك والسدي: هي الستور بلغة اليمن؛ يقولون للستر: المعذار.
وقوله تعالى: { لا تحرك به لسانك } الآية، قال كثير من المفسرين، وهو في «صحيح البخاري» عن ابن عباس قال:
" كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه؛ مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه "
، فنزلت الآية بسبب ذلك، وأعلمه تعالى أنه يجمعه له في صدره.
وقوله: { وقرءانه } يحتمل أن يريد وقراءته، أي: تقرأه أنت يا محمد.
وقوله: { فإذا قرأنه } أي: قرأه الملك الرسول عنا { فاتبع قرءانه } ، قال البخاري: قال ابن عباس: { فاتبع } ، أي: اعمل به، وقال البخاري أيضا قوله: { إن علينا جمعه وقرءانه } أي: تأليف بعضه إلى بعض { فإذا قرأنه فاتبع قرءانه } أي: ما جمع فيه، فاعمل بما أمرك، وانته عما نهاك عنه انتهى.
وقوله تعالى: { ثم إن علينا بيانه } قال قتادة وجماعة: معناه: أن نبينه لك، وقال البخاري: أن نبينه على لسانك.
[75.20-25]
وقوله تعالى: { كلا بل تحبون العاجلة } أي: الدنيا وشهواتها؛ قال الغزالي في «الإحياء»: اعلم أن رأس الخطايا المهلكة هو حب الدنيا، ورأس أسباب النجاة هو التجافي بالقلب عن دار الغرور، وقال رحمه الله: اعلم أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله سبحانه في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ، ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقلاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقلع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات، انتهى.
وقرأ ابن كثير وغيره: «يحبون» و«يذرون» بالياء على ذكر الغائب، ولما ذكر سبحانه الآخرة، أخبر بشيء من حال أهلها فقال: { وجوه يومئذ ناضرة } أي: ناعمة، والنضرة: النعمة وجمال البشرة؛ قال الحسن: وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى خالقها.
وقوله تعالى: { إلى ربها ناظرة } حمل جميع أهل السنة هذه الآية على أنها متضمنة رؤية المؤمنين لله عز وجل بلا تكييف ولا تحديد كما هو معلوم موجود، لا يشبه الموجودات، كذلك هو سبحانه مرئي لا يشبه المرئيات في شيء؛ فإنه ليس كمثله شيء لا إله إلا هو، وقد تقدم استيعاب الكلام على هذه المسألة، وما في ذلك من صحيح الأحاديث، والباسرة: العابسة المغمومة النفوس، والبسور: أشد العبوس، وإنما ذكر تعالى الوجوه؛ لأنه فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غم، والمراد أصحاب الوجوه، والفاقرة: المصيبة التي تكسر فقار الظهر؛ وقال أبو عبيدة: هي من فقرت [البعير] إذا وسمت أنفه بالنار.
[75.26-30]
وقوله تعالى: { كلا إذا بلغت... } زجر وتذكير أيضا بموطن من مواطن الهول، وهي حالة الموت الذي لا محيد عنه، و { بلغت } يريد: النفس و { التراقى } جمع ترقوة، وهي عظام أعلى الصدر، ولكل أحد ترقوتان، لكن جمع من حيث أن النفس المرادة اسم جنس، والتراقي هي موارية للحلاقيم، فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزع الموت يسره الله علينا بمنه، وجعله لنا راحة من كل شر واختلف في معنى قوله تعالى: { وقيل من راق } فقال ابن عباس وجماعة: معناه: من يرقي، ويطب، ويشفي، ونحو هذا مما يتمناه أهل المريض، وقال ابن عباس أيضا، وسليمان التيمي، ومقاتل: هذا القول للملائكة، والمعنى: من يرقى بروحه، أي: يصعد بها إلى السماء أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب.
{ وظن أنه الفراق } أي: أيقن، وهذا يقين فيما لم يقع بعد؛ ولذلك استعملت فيه لفظة الظن.
وقوله تعالى: { والتفت الساق بالساق } قال ابن المسيب، والحسن: هي حقيقة، والمراد: ساقا الميت عند تكفينه، أي: لفهما الكفن، وقيل: هو التفافهما من شدة المرض، وقيل غير هذا.
[75.31-33]
وقوله تعالى: { فلا صدق ولا صلى } الآية: قال جمهور المتأولين: هذه الآية كلها إنما نزلت في أبي جهل؛ قال * ع *: ثم كادت هذه الآية أن تصرح به في قوله: { يتمطى } فإنها كانت مشيته، وقوله: { فلا صدق ولا صلى } تقديره فلم: يصدق ولم يصل ف«لا» في الآية: نفي لا عاطفة.
* ص *: { فلا صدق } فيه دليل على أن «لا» تدخل على الماضي فتنفيه؛ كقوله الراجز: [من الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما
انتهى.
و { صدق } معناه: برسالة الله ودينه، وذهب قوم إلى أنه من الصدقة، والأول أصوب و { يتمطى } معناه: يمشي المطيطاء، وهي مشية بتبختر، وهي مؤخوذة من المطا وهو الظهر؛ لأنه يتثنى فيها، زاد * ص *: وقيل: أصله يتمطط، أي: يتمدد في مشيه ومد منكبيه، انتهى.
[75.34-40]
وقوله: { أولى لك }: وعيد.
{ فأولى } وعيد ثان، وكرر ذلك؛ تأكيدا، ومعنى { أولى لك } الازدجار والانتهار، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجرا؛ ومنه فأولى لهم طاعة،
" ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لبب أبا جهل يوما في البطحاء وقال له: «إن الله يقول لك { أولى لك فأولى } » "
فنزل القرآن على نحوها؛ وفي شعر الخنساء: [المتقارب]
هممت بنفسي كل الهموم
فأولى لنفسي أولى لها
وقوله تعالى: { أيحسب }: توبيخ و { سدى }: معناه: مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ثم قرر تعالى أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تؤملت لم ينكر معها جواز البعث من القبور عاقل، والعلقة القطعة من الدم.
{ فخلق فسوى } أي: فخلق الله منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة، فسواه شخصا مستقلا، و { الزوجين }: النوعين، ثم وقف تعالى توقيف توبيخ بقوله: { أليس ذلك بقدر على أن يحيى الموتى }
" روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بلى "
، وروي أنه كان يقول:
" سبحانك اللهم وبحمدك، بلى "
انظر «سنن أبي داود».
[76 - سورة الانسان]
[76.1-5]
[قوله تعالى: { هل أتى على الإنسن... } الآية، { هل } في كلام العرب قد تجيء] بمعنى { قد }؛ حكاه سيبويه، لكنها لا تخلو من تقرير، وبابها المشهور الاستفهام المحض، والتقرير أحيانا؛ قال ابن عباس: «هل» بمعنى «قد»، والإنسان يراد به آدم، وقال أكثر المتأولين: «هل» تقرير، الإنسان: اسم جنس، أي: إذا تأمل كل إنسان نفسه علم بأنه قد مر حين من الدهر عظيم لم يكن فيه شيئا مذكورا، وهذا هو القوي أن الإنسان اسم جنس، وأن الآية جعلت عبرة لكل أحد من الناس؛ ليعلم أن الخالق له قادر على إعادته.
* ص *: { لم يكن شيئا مذكورا } في موضع حال من { الإنسن } أو في موضع صفة ل { حين } والعائد عليه محذوف، أي: لم يكن فيه، انتهى.
وقوله تعالى: { إنا خلقنا الإنسن... } الآية، الإنسان هنا: اسم جنس بلا خلاف، وأمشاج معناه: أخلاط؛ قيل: هو { أمشاج } ماء الرجل بماء المرأة، ونقل الفخر أن الأمشاج لفظ مفرد، وليس يجمع، بدليل أنه وقع صفة للمفرد، وهو قوله: { نطفة } ، انتهى.
{ نبتليه } أي: نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا، وهو حال من الضمير في { خلقنا } كأنه قال: مختبرين له بذلك.
وقوله تعالى: { فجعلنه سميعا بصيرا } عطف جملة نعم على جملة نعم، وقيل: المعنى: فلنبتليه جعلناه سميعا بصيرا و { هدينه }: يحتمل: أن يكون بمعنى أرشدناه، ويحتمل: أن يكون بمعنى أريناه، وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان، وعبارة الثعلبي: { هدينه السبيل } بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر؛ كقوله:
وهدينه النجدين
[البلد:10] انتهى.
وقوله تعالى: { إما شاكرا وإما كفورا } حالان، وقسمتهما { إما } ، و { الأبرار }: جمع بار؛ قال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر، ولا يرضون الشر، قال قتادة: نعم قوم يمزج لهم بالكافور، ويختم لهم بالمسك، قال الفراء: يقال إن في الجنة عينا تسمى كافورا.
[76.6-8]
وقوله تعالى: { عينا } قيل: هو بدل من قوله: { كفورا } وقيل: هو مفعول بقوله: { يشربون } أي: ماء هذه العين من كأس عطرة كالكافور، وقيل: نصب { عينا } على المدح أو بإضمار «أعني».
قوله تعالى: { يشرب بها } بمنزلة [يشربها]، فالباء زائدة؛ قال الثعلبي: قال الواسطي: لما اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة، انتهى.
قال * ص *: وقيل: الباء في { بها } للإلصاق والاختلاط، أي: يشرب بها عباد الله الخمر؛ كما تقول: شربت الماء بالعسل، انتهى.
وقوله تعالى: { يفجرونها } معناه: يفتقونها ويقودونها حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم، فهي تجري عند كل أحد منهم، ورد بهذا الأثر، وقيل: عين في دار النبي صلى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين؛ قال * ع *: وهذا قول حسن، ثم وصف تعالى حال الأبرار فقال: { يوفون بالنذر ويخفون يوما كان شره مستطيرا } أي: ممتدا متصلا شائعا.
وقوله تعالى: { على حبه } يحتمل أن يعود الضمير على الطعام، وهو قول ابن عباس، ويحتمل أن يعود على الله تعالى؛ قاله أبو سليمان الداراني.
وقوله: { وأسيرا } قال الحسن: ما كان أسراهم إلا مشركين؛ لأن في كل ذي كبد رطبة أجرا.
* ت *: وفي «العتبية» سئل مالك عن الأسير في هذه الآية أمسلم هو أم مشرك، فقال: بل مشرك، وكان ببدر أسارى، فأنزلت فيهم هذه الآية؛ فقال ابن رشد: والأظهر حمل الآية على كل أسير، مسلما كان أو كافرا، انتهى يعني: وإن كان سبب نزولها ما ذكر فهي عامة في كل أسير إلى يوم القيامة، وقال أبو سعيد الخدري: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" { مسكينا } [قال:] فقيرا { ويتيما } قال: لا أب له { وأسيرا } قال: المملوك والمسجون "
، وأسند القشيري في رسالته عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لكل شيء مفتاح، ومفتاح الجنة حب المساكين، والفقراء الصبر هم جلساء الله يوم القيامة "
انتهى.
وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" اللهم، أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة، فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟! قال: إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة، لا تردي المسكين، ولو بشق تمرة، يا عائشة، أحبي المساكين وقربيهم، فإن الله يقربك يوم القيامة "
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، انتهى.
[76.9-19]
وقوله: { إنما نطعمكم... } الآية، قال مجاهد، وابن جبير: ما تكلموا به، ولكنه علمه الله من قلوبهم، فأثنى عليهم؛ ليرغب في ذلك راغب، ووصف اليوم بعبوس تجوز، والقمطرير: هو في معنى العبوس والإربداد؛ تقول: اقمطر الرجل: إذا جمع ما بين عينيه. غضبا، وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل ما بين عينيه كالقطران، وعبر ابن عباس عن القمطرير بالطويل، وعبر عنه غيره بالشديد؛ وذلك كله قريب في المعنى، والنضرة: جمال البشرة وذلك لا يكون إلا مع فرح النفس وقرة العين.
وقوله: { بما صبروا } عام في الصبر عن الشهوات وعلى الطاعات والشدائد، وفي هذا يدخل كل ما خصص المفسرون من صوم، وفقر، ونحوه.
وقوله سبحانه: { لا يرون فيها شمسا... } الآية، عبارة عن اعتدال هوائها وذهاب ضرري الحر والقر، والزمهرير: أشد البرد، والقطوف: جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ونحوه، والقوارير: الزجاج.
وقوله تعالى: { من فضة } يقتضي أنها من زجاج ومن فضة، وذلك متمكن؛ لكونه من زجاج في شفوفه ومن فضة في جوهره، وكذلك فضة الجنة شفافة، [قال القرطبي في «تذكرته»: وذلك أن لكل قوم من تراب أرضهم قوارير، وأن تراب الجنة فضة، فهي قوارير من فضة؛ قاله ابن عباس، انتهى].
وقوله تعالى: { قدروها تقديرا } أي: على قدر ريهم؛ قاله مجاهد، أو على قدر الأكف قاله الربيع، وضمير { قدروها } يعود إما على الملائكة، أو على الطائفين، أو على المنعمين.
وقوله سبحانه: { عينا فيها تسمى سلسبيلا } «عينا» بدل من «كأس» أو من «عين» على القول الثاني، و { سلسبيلا } قيل: هو اسم بمعنى السلس المنقاد الجرية، وقال مجاهد: حديدة الجرية، وقال آخرون: { سلسبيلا } صفة لقوله: { عينا } و { تسمى } بمعنى توصف وتشهر، وكونه مصروفا مما يؤكد كونه صفة للعين لا اسما.
وقوله تعالى: { حسبتهم لؤلؤا منثورا } قال الإمام الفخر: وفي كيفية التشبيه وجوه.
أحدها: أنهم شبهوا في حسنهم، وصفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم في أنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور، ولو كانوا صفا لشبهوا باللؤلؤ المنظوم؛ ألا ترى أنه تعالى قال: { ويطوف عليهم ولدن } فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.
الثاني: أن هذا من التشبيه العجيب؛ لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقا يكون أحسن في المنظر؛ لوقوع شعاع بعضه على بعض.
الثالث: أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه؛ لأنه أحسن وأجمل، انتهى.
[76.20-22]
وقوله تعالى: { وإذا رأيت ثم } قال الفراء: التقدير: وإذا رأيت ما ثم رأيت نعيما، فحذفت «ما» وكررت الرؤية؛ مبالغة { وملكا كبيرا }: وهو أن أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وخرجه الترمذي، وفي الترمذي أيضا من رواية أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء "
انتهى، وقال سفيان: الملك الكبير هو استئذان الملائكة، وتسليمهم عليهم، وتعظيمهم لهم، قال الثعلبي: قال محمد بن علي الترمذي: يعني ملك التكوين إذا أرادوا شيئا كان، انتهى.
* ت *: وجميع ما ذكر داخل في الملك الكبير، وقرأ نافع وحمزة: «عاليهم» وقرأ الباقون: «عاليهم» بالنصب، والمعنى: فوقهم، قال الثعلبي: وتفسير ابن عباس قال: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها، انتهى، وقرأ حمزة والكسائي: «خضر وإستبرق» بالخفض فيهما، وباقي الآية بين.
[76.23-26]
وقوله سبحانه: { إنا نحن نزلنا عليك القرءان... } الآية تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لنفسه على أذى قريش، والآثم هنا هو الكفور، واللفظ أيضا يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة أو كفور بالله، ثم أمره تعالى بذكر ربه دأبا { بكرة وأصيلا } { ومن اليل }: بالسجود والتسبيح الذي هو الصلاة، ويحتمل أن يريد قول: سبحان الله، قال ابن زيد وغيره: كان هذا فرضا ثم نسخ، وقال آخرون: هو محكم على وجه الندب، وقال ابن العربي في «أحكامه»: أما قوله تعالى: { وسبحه ليلا طويلا } فإنه عبارة عن قيام الليل ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله كما تقدم، وقد يحتمل أن يكون هذا خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الجميع، ثم نسخ عنا، وبقي عليه صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر، انتهى.
[76.27-28]
وقوله: { إن هؤلآء } يعني كفار قريش { يحبون العاجلة } يعني: الدنيا، واعلم أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس "
رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة، قال ابن الفاكهاني: قال القاضي أبو الوليد ابن رشد: وأما الباعث على الزهد فخمسة أشياء:
أحدها: أنها فانية شاغلة للقلوب عن التفكر في أمر الله تعالى.
والثاني: أنها تنقص عند الله درجات من ركن إليها.
والثالث: أن تركها قربة من الله تعالى وعلو مرتبة عنده في درجات الآخرة.
والرابع: طول الحبس والوقوف في القيامة للحساب والسؤال عن شكر النعيم.
والخامس: رضوان الله تعالى والأمن من سخطه، وهو أكبرها؛ قال الله عز وجل:
ورضون من الله أكبر
[التوبة:72] قال ابن الفاكهاني: ولو لم يكن في الزهد في الدنيا إلا هذه الخصلة التي هي رضوان الله تعالى لكان ذلك كافيا ، فنعوذ بالله من إيثار الدنيا على ذلك، وقد قيل: من سمي باسم الزهد فقد سمي بألف اسم ممدوح، هذا مع ما للزاهدين من راحة القلب والبدن في الدنيا والآخرة، فالزهاد هم الملوك في الحقيقة، وهم العقلاء؛ لإيثارهم الباقي على الفاني، وقد قال الشافعية: لو أوصى لأعقل الناس صرف إلى الزهاد، انتهى من «شرح الأربعين حديثا»، ولفظ أبي الحسن الماوردي: وقد قيل: العاقل من عقل من الله أمره ونهيه حتى قال أصحاب الشافعي فيمن أوصى بثلث ماله: لأعقل الناس أنه يكون مصروفا للزهاد؛ لأنهم انقادوا للعقل، ولم يغتروا بالأمل، انتهى، والأسر الخلقة واتساق الأعضاء والمفاصل، وعبارة البخاري: { أسرهم }: شدة الخلق، وكل شيء شددته من قتب أو غبيط فهو مأسور، والغبيط شيء يركبه النساء شبه المحفة، انتهى؛ قال * ع *: ومن اللفظة: الإسار، وهو القيد الذي يشد به الأسير، ثم توعدهم سبحانه بالتبديل، وفي الوعيد بالتبديل احتجاج على منكري البعث، أي: من هذه قدرته في الإيجاد والتبديل فكيف تتعذر عليه الإعادة؟!.
وقال الثعلبي: { بدلنا أمثلهم تبديلا } قال ابن عباس: يقول: أهلكناهم، وجئنا بأطوع لله منهم، انتهى.
[76.29-31]
وقوله تعالى: { إن هذه تذكرة } القول فيها كالتي في سورة المزمل.
وقوله سبحانه: { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } كلام واضح لا يفتقر إلى تفسير، جعلنا الله ممن اهتدى بأنواره، وعمت عليه بركته في أفعاله وأقواله؛ قال الباجي: قال بعض أهل داود الطائي: قلت له يوما: إنك قد عرفت فأوصني، قال: فدمعت عيناه ثم قال: يا أخي، إنما الليل والنهار مراحل يرحلها الناس مرحلة مرحلة، حتى تنتهي بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم من أول مرحلة زادا لما بين يديك فافعل؛ فإن انقطاع السفر قريب، والأمر أعجل من ذلك؛ فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأن بالأمر قد بغتك، ثم قام وتركني، انتهى من «سنن الصالحين».
وقوله تعالى: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله }: نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في نفوسهم، ولا يرد هذا وجود مالهم من الاكتساب، وقرأ عبد الله: «وما تشاءون إلا ما شاء الله».
وقوله تعالى: { عليما حكيما } معناه: يعلم ما ينبغي أن ييسر عبده إليه، وفي ذلك حكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه.
[77 - سورة المرسلات]
[77.1-6]
قوله تعالى: { والمرسلت عرفا } يعني: الرياح يتبع بعضها بعضا، قاله ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، وقتادة، وقيل: المرسلات: الملائكة، وقيل: جماعات الأنبياء، و { عرفا } معناه: إفضالا من الله تعالى، ويحتمل أن يريد بقوله: { عرفا } أي: متتابعة، ويحتمل أن يريد بالأمر المعروف، ويحتمل أن يكون { عرفا } ، بمعنى، والمرسلات: الرياح التي يعرفها الناس ويعهدونها، ثم عقب بذكر الصنف الضار منها، وهي العاصفات الشديدة القاصفة للشجر وغيره، واختلف في قوله: { والنشرت } فقال ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة: هي الرياح تنشر رحمة الله ومطره، وقيل: الملائكة، وقيل غير هذا، والفارقات قال ابن عباس وغيره: هي الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام ، وقيل: هي آيات القرآن، وأما الملقيات ذكرا فهي في قول الجمهور الملائكة، وقال آخرون: هي الرسل، والذكر: الكتب المنزلة والشرائع ومضمناتها، والمعنى: أن الذكر يلقى بإعذار وإنذار.
[77.7-15]
وقوله تعالى: { إنما توعدون لوقع } هو الجواب الذي وقع عليه القسم، والإشارة إلى البعث وأحوال القيامة، والطمس محو الأثر، فطمس النجوم: ذهاب ضوءها، وفرج السماء: هو بانفطارها وانشقاقها.
{ وإذا الرسل أقتت } أي: جمعت لميقات يوم معلوم، وقرأ أبو عمرو وحده: «وقتت» والواو هي الأصل؛ لأنها من الوقت، والهمزة بدل؛ قال الفراء: كل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة، جاز أن تبدل منها همزة، انتهى.
وقوله تعالى: { لأي يوم أجلت } تعجيب وتوقيف على عظم ذلك اليوم وهوله، ثم فسر ذلك بقوله: { ليوم الفصل } يعني: بين الخلق في منازعتهم وحسابهم ومنازلهم من جنة أو نار، ومن هذه الآية انتزع القضاة الآجال في الحكومات؛ ليقع فصل القضاء عند تمامها، ثم عظم تعالى يوم الفصل بقوله: { وما أدراك ما يوم الفصل } على نحو قوله:
وما أدراك ما الحاقة
[الحاقة:3] وغير ذلك، ثم أثبت الويل للمكذبين، والويل: هو الحرب والحزن على نوائب تحدث بالمرء، ويروى أنه واد في جهنم.
[77.16-37]
وقوله عز وجل: { ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الأخرين... } الآية، قرأ الجمهور: «نتبعهم» بضم العين على استئناف الخبر، وروي عن أبي عمرو: «نتبعهم» بجزم العين؛ عطفا على «نهلك» وهي قراءة الأعرج، فمن قرأ الأولى جعل الأولين الأمم التي تقدمت قريشا بأجمعها، ثم أخبر أنه يتبع الآخرين من قريش وغيرهم سنن أولئك إذا كفروا وسلكوا سبيلهم، ومن قرأ الثانية جعل الأولين قوم نوح وإبراهيم ومن كان معهم، والآخرين قوم فرعون وكل من تأخر وقرب من مدة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: { كذلك نفعل بالمجرمين } أي: في المستقبل، فيدخل هنا قريش وغيرها، وأما تكرار قوله تعالى: { ويل يومئذ للمكذبين } في هذه السورة فقيل: ذلك لمعنى التأكيد فقط، وقيل: بل في كل آية منها ما يقتضي التصديق، فجاء الوعيد على التكذيب بذلك الذي في الآية، والماء المهين: معناه الضعيف، والقرار المكين : الرحم وبطن المرأة، والقدر المعلوم: هو وقت الولادة [ومعناه] معلوم عند الله، وقرأ نافع والكسائي: «فقدرنا» بتشديد الدال ، والباقون بتخفيفها، وهما بمعنى من القدرة والقدر ومن التقدير والتوقيت.
* ت *: وفي كلام * ع *: تلفيف، وقال غيره: فقدرنا بالتشديد من التقدير وبالتخفيف من القدرة، وهو حسن.
وقوله: { القدرون } يرجح قراءة الجماعة إلا أن ابن مسعود روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر «القادرون» بالمقدرين، والكفات: الستر والوعاء الجامع للشيء بإجماع؛ تقول: كفت الرجل شعره إذا جمعه بخرقة، والأرض تكفت الأحياء على ظهرها، وتكفت الأموات في بطنها، وخرج الشعبي إلى جنازة فنظر إلى الجبانة فقال: هذه كفات الموتى، ثم نظر إلى البيوت فقال: وهذه كفات الأحياء.
قال * ع *: ولما كان القبر كفاتا كالبيت، قطع من سرق منه، والرواسي: الجبال، والشوامخ: المرتفعة، والفرات: الصافي العذب، والضمير في قوله: { انطلقوا } هو للمكذبين الذين لهم الويل، ثم بين المنطلق إليه؛ قال عطاء: الظل الذي له ثلاث شعب هو دخان جهنم، وقال ابن عباس: هذه المخاطبة تقال يومئذ لعبدة الصليب إذا اتبع كل أحد ما كان يعبد، فيكون المؤمنون في ظل الله ولا ظل إلا ظله، ويقال لعبدة الصليب: انطلقوا إلى ظل معبودكم، وهو الصليب له ثلاث شعب، ثم نفى تعالى عنه محاسن الظل، والضمير في { إنها } لجهنم { ترمى بشرر كالقصر } أي: مثل القصور من البنيان؛ قاله ابن عباس وجماعة من المفسرين، وقال ابن عباس أيضا: القصر خشب كنا في الجاهلية ندخره للشتاء، وقرأ ابن عباس: «كالقصر» بفتح الصاد جمع قصرة وهي أعناق النخل والإبل، وقال ابن عباس: جذور النخل، واختلف في الجمالات: فقال جمهور من المفسرين: هي جمع جمال؛ كرجال ورجالات، وقال آخرون: أراد بالصفر السود، وقال جمهور الناس: بل الصفر: الفاقعة؛ لأنها أشبه بلون الشرر، وقال ابن عباس: الجمالات: حبال السفن، وهي الحبال العظام إذا جمعت مستديرة بعضها إلى بعض، وقرأ ابن عباس: «جمالة» بضم الجيم من الجملة لا من الجمل، ثم خاطب تعالى نبيه عليه السلام بقوله: { هذا يوم لا ينطقون... } الآية ، وهذا في موطن خاص إذ يوم القيامة هو مواطن.
[77.38-45]
وقوله تعالى: { هذا يوم الفصل جمعنكم... } مخاطبة للكفار يومئذ، ثم وقفهم بقوله: { فإن كان لكم كيد فكيدون } أي: إن كان لكم حيلة أو مكيدة تنجيكم فافعلوها، ثم ذكر سبحانه حالة المتقين وما أعد لهم، والظلال في الجنة: عبارة عن تكاثف الأشجار وجودة المباني وإلا فلا شمس تؤذي هناك حتى يكون ظل يجير من حرها.
[77.46-50]
وقوله تعالى: { كلوا وتمتعوا } استئناف خطاب لقريش على معنى: قل لهم يا محمد، وهذه صيغة أمر معناها التهديد والوعيد، ومن جعل هذه الآية مدنية قال هي في المنافقين.
وقوله تعالى: { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } قال قتادة والجمهور، هذه حال كفار قريش في الدنيا؛ يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجيبون، وذكر الركوع عبارة عن جميع الصلاة، وقيل: هي حكاية حال المنافقين في الآخرة يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون؛ على ما تقدم؛ قاله ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى: { فبأي حديث بعده يؤمنون } يؤيد أن الآية كلها في قريش، والمراد بالحديث هنا: القرآن، وروي عن يعقوب أنه قرأ: «تؤمنون» بالتاء من فوق على المواجهة، ورويت عن ابن عامر.
[78 - سورة النبإ]
[78.1-3]
قوله عز وجل: { عم يتساءلون } أصل «عم»: «عن ما» ثم أدغمت النون بعد قلبها [في الميم لاشتراكهما في الغنة] فبقي «عما» في الخبر وفي الاستفهام، ثم حذفوا الألف في الاستفهام فرقا بينه وبين الخبر، ثم من العرب من يخفف الميم فيقول: «عم»، وهذا الاستفهام ب«عم» استفهام توقيف وتعجيب، و { النبإ العظيم } قال ابن عباس وقتادة: هو الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد: هو القرآن خاصة، وقال قتادة أيضا: هو البعث من القبور، والضمير في: { يتساءلون } لكفار قريش ومن نحا نحوهم، وأكثر النحاة أن قوله: { عن النبإ العظيم } متعلق ب { يتساءلون } ، وقال الزجاج: الكلام تام في قوله: { عم يتساءلون } ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول: يتساءلون عن النبأ العظيم، وله أمثلة في القرآن اقتضاها إيجاز القرآن وبلاغته، واختلافهم هو شك بعض وتكذيب بعض، وقولهم: سحر وكهانة إلى غير ذلك من باطلهم.
[78.4-7]
وقوله تعالى: { كلا سيعلمون } رد على الكفار في تكذيبهم ووعيد لهم في المستقبل، وكرر عليهم الزجر والوعيد تأكيدا، والمعنى: سيعلمون عاقبة تكذيبهم،، ثم وقفهم تعالى ودلهم على آياته، وغرائب مخلوقاته، وقدرته التي توجب للناظر فيها؛ الإقرار بالبعث والإيمان بالله تعالى، * ت *: وفي ضمن ذلك تعديد نعمه سبحانه التي يجب شكرها، والمهاد: الفراش الممهد، وشبه الجبال بالأوتاد؛ لأنها تمنع الأرض أن تميد بهم.
[78.8-23]
{ وخلقنكم أزوجا } أي: أنواعا، والسبات: السكون، وسبت الرجل: معناه استراح، وروينا في «سنن أبي داود» عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من مسلم يبيت على ذكر [الله] طاهرا فيتعار من الليل، فيسأل الله تعالى خيرا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه "
؛ وروى أبو داود عن بعض آل أم سلمة قال: كان فراش النبي صلى الله عليه وسلم نحوا مما يوضع الإنسان في قبره، وكان المسجد عند رأسه، انتهى، و { لباسا } مصدر، وكأن الليل كذلك من حيث يغشى الأشخاص، فهي تلبسه وتتدرعه، و { النهار معاشا } على حذف مضاف، أو على النسب، والسبع الشداد: السموات، والسراج: الشمس، والوهاج: الحار المضطرم الاتقاد المتعالي اللهب، قال ابن عباس وغيره: { المعصرات } السحائب القاطرة، وهو مأخوذ من العصر؛ لأن السحاب ينعصر فيخرج منه الماء، وهذا قول الجمهور، والثجاج: السريع الاندفاع، كما يندفع الدم من عروق الذبيحة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم
" وقد قيل له ما أفضل الحج؟ فقال: «العج والثج» "
أراد التضرع إلى الله تعالى بالدعاء الجهير، وذبح الهدي، و { ألفافا } أي: ملتفة الأغصان والأوراق، و { يوم الفصل } هو يوم القيامة، والأفواج: الجماعات، يتلو بعضها بعضا، «وفتحت السماء» بتشديد التاء قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير وابن عامر، والباقون دون تشديد.
وقوله تعالى: { فكانت أبوبا } قيل معناه: تتشقق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدرات، وقيل: إنها تتقطع السماء قطعا صغارا حتى تكون كألواح الأبواب، والقول الأول أحسن، وقد قال بعض أهل العلم: تنفتح في السماء أبواب للملائكة من حيث ينزلون ويصعدون.
وقوله تعالى: { فكانت سرابا } عبارة عن تلاشيها بعد كونها هباء منبثا، و { مرصادا }: موضع الرصد، وقيل: { مرصادا } بمعنى راصد، والأحقاب: جمع حقب وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة، وقال ابن عباس وابن عمر الحقب: ثمانون سنة. وقال أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثلاثون ألف سنة، وقد أكثر الناس في هذا، واللازم أن الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم يلبثون أحقابا، كلما مر حقب جاء غيره إلى غير نهاية، نجانا الله من سخطه، قال الحسن: ليس للأحقاب عدة إلا الخلود في النار.
[78.24-37]
وقوله سبحانه: { لا يذوقون فيها بردا... } الآية، قال الجمهور: البرد في الآية مس الهواء البارد، أي: لا يمسهم منه ما يستلذ، وقال أبو عبيدة وغيره: البرد في الآية النوم، والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش، وقال ابن عباس: البرد الشراب البارد المستلذ، وقال قتادة وجماعة: الغساق: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ونحوه.
وقوله تعالى: { وفقا } معناه لأعمالهم وكفرهم، و { لا يرجون } قال أبو عبيدة وغيره معناه: لا يخافون، وقال غيره: الرجاء هنا على بابه، و { كذابا } مصدر لغة فصيحة يمانية، وعن ابن عمر قال: ما نزلت في أهل النار آية أشد من قوله تعالى: { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحدائق: هي البساتين عليها حلق وحظائر وجدرات، البخاري، { وكواعب } أي: نواهد، انتهى، والدهاق: المترعة؛ فيما قال الجمهور، وقيل: الصافية، وقال مجاهد: متتابعة، وعبارة البخاري وقال ابن عباس: { دهاقا }: ممتلئة، انتهى، و { كذابا }: مصدر وهو الكذب.
وقوله: { عطاء حسابا } أي: كافيا؛ قاله الجمهور من قولهم، أحسبني هذا الأمر، أي: كفاني، ومنه حسبي الله، وقال مجاهد: { حسابا } معناه: بتقسيط، فالحساب على هذا بموازنة أعمال القوم؛ إذ منهم المكثر من الأعمال، والمقل ولكل بحسب عمله.
وقوله تعالى: { لا يملكون } الضمير للكفار، أي: لا يملكون من أفضاله وإجماله سبحانه أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها؛ وهذا أيضا في موطن خاص.
[78.38-40]
وقوله تعالى: { يوم يقوم الروح } اختلف في الروح المذكور هنا فقال الشعبي والضحاك: هو جبريل عليه السلام ؛ وقال ابن مسعود: هو ملك عظيم أكبر الملائكة خلقة يسمى الروح، وقال ابن زيد: هو القرآن، وقال مجاهد: الروح خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون، وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" الروح خلق غير الملائكة هم حفظة للملائكة؛ كما الملائكة حفظة لنا "
، وقيل الروح اسم جنس لأرواح بني آدم، والمعنى: يوم تقوم الأرواح في أجسادها إثر البعث، ويكون الجميع من الإنس والملائكة صفا ولا يتكلم أحد منهم هيبة وفزعا إلا من أذن له الرحمن من ملك أو نبي؛ وكان أهلا أن يقول صوابا في ذلك الموطن، وقال البخاري: { صوابا }: حقا في الدنيا وعمل به، انتهى،، وفي قوله: { فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا } وعد ووعيد وتحريض، والعذاب القريب: هو عذاب الآخرة، إذ كل آت قريب، وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر: إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص لبعضها من بعض، ثم يقول لها بعد ذلك: كوني ترابا فيعود جميعها ترابا؛ فعند ذلك يقول الكافر: { يليتنى كنت تربا } * قلت *: واعلم رحمك الله أني لم أقف على حديث صحيح في عودها ترابا، وقد نقل الشيخ [أبو العباس القسطلاني عن] الشيخ أبي الحكم بن أبي الرجال إنكار هذا القول، وقال: ما نفث روح الحياة في شيء ففني بعد وجوده، وقد نقل الفخر هنا عن قوم بقاءها وأن هذه الحيوانات إذا انتهت مدة إعراضها جعل الله كل ما كان منها حسن الصورة ثوابا لأهل الجنة، وما كان قبيح الصورة عقابا لأهل النار، انتهى، والمعول عليه في هذا: النقل فإن صح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجب اعتقاده وصير إليه، وإلا فلا مدخل للعقل هنا، والله أعلم.
[79 - سورة النازعات]
[79.1-9]
قوله عز وجل: { والنزعت غرقا } قال ابن عباس وابن مسعود: { النازعات }: الملائكة، تنزع نفوس بني آدم، و { غرقا } على هذا القول إما أن يكون مصدرا بمعنى الإغراق والمبالغة في الفعل، وإما أن يكون كما قال علي وابن عباس: تغرق نفوس الكفرة في نار جهنم، وقيل غير هذا، واختلف في { الناشطات } فقال ابن عباس ومجاهد: هي الملائكة تنشط النفوس عند الموت، أي: تحلها كحل العقال، وتنشط بأمر الله إلى حيث شاء، وقال ابن عباس أيضا: الناشطات النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج، * ت *: زاد الثعلبي عنه: وذلك أنه ليس مؤمن يحضره الموت إلا عرضت عليه الجنة قبل أن يموت فيرى فيها أشباها من أهله وأزواجه من الحور العين، فهم يدعونه إليها فنفسه إليهم نشيطة أن تخرج فتأتيهم، انتهى، وقيل غير هذا واختلف في { السابحات } هنا فقيل: هي النجوم، وقيل: هي الملائكة؛ لأنها تتصرف في الآفاق بأمر الله، وقيل: هي الخيل، وقيل: هي السفن، وقيل: هي الحيتان ودواب البحر، والله أعلم، واختلف في { السابقات } ، فقيل هي الملائكة، وقيل: الرياح، وقيل: الخيل، وقيل: النجوم، وقيل: المنايا تسبق الآمال، وأما { المدبرات } فهي الملائكة قولا واحدا فيما علمت، تدبر الأمور التي سخرها الله لها وصرفها فيها؛ كالرياح والسحاب، وغير ذلك، و { الراجفة } النفخة الأولى، و { الرادفة } النفخة الأخيرة، وقال ابن زيد: { الراجفة }: الموت، و { الرادفة }: الساعة، وفي «جامع الترمذي» عن أبي بن كعب قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ذهب ثلثا الليل قام، فقال: يأيها الناس، اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، [جاء الموت بما فيه] "
الحديث، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى، وقد أتى به * ع * هنا وقال: إذا ذهب ربع الليل، والصواب ما تقدم، ثم أخبر تعالى عن قلوب تجف [في] ذلك اليوم، أي: ترتعد خوفا وفرقا من العذاب، واختلف في جواب القسم: أين هو؟ فقال الزجاج والفراء: هو محذوف دل عليه الظاهر تقديره: لتبعثن ونحوه، وقال آخرون: هو موجود في جملة قوله تعالى: { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة } كأنه قال لتجفن قلوب قوم يوم كذا.
[79.10-29]
وقوله تعالى: { يقولون أءنا لمردودون فى الحفرة } حكاية حالهم في الدنيا، والمعنى: هم الذين يقولون، و { الحفرة }: قال مجاهد والخليل: هي الأرض، حافرة بمعنى محفورة، والمراد: القبور والمعنى: أئنا لمردودون أحياء في قبورنا؟، وقيل غير هذا، و { نخرة } معناه بالية، وقرأ حمزة «ناخرة» بألف، والناخرة المصوتة بالريح المجوفة، وحكي عن أبي عبيدة وغيره: أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد، وقولهم: { تلك إذا كرة خسرة } أي: إذ هي إلى النار لتكذيبهم بالبعث، وقال الحسن: { خسرة } معناه عندهم كاذبة، أي: ليست بكائنة، ثم أخبر تعالى عن حال القيامة فقال: «إنما هي زجرة واحدة» أي: نفخة في الصور، { فإذا هم بالساهرة } وهي أرض المحشر.
وقوله: { هل لك إلى أن تزكى } استدعاء حسن، والتزكي: التطهر من النقائص، والتلبس بالفضائل، ثم فسر له موسى التزكي الذي دعاه إليه بقوله: { وأهديك إلى ربك فتخشى } والعلم تابع للهدى، والخشية تابعة للعلم،
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28] { الآية الكبرى } العصا واليد؛ قاله مجاهد وغيره: و { أدبر }: كناية عن إعراضه، وقيل: حقيقة قام موليا عن مجالسة موسى، { فحشر } أي: جمع أهل مملكته، وقول فرعون: { أنا ربكم الأعلى } نهاية في السخافة والمخرقة، قال ابن زيد: { نكال الأخرة } أي: الدار الآخرة، و { الأولى }: يعني: الدنيا، أخذه الله بعذاب جهنم وبالغرق، وقيل غير هذا، ثم وقفهم سبحانه مخاطبة منه تعالى للعالم؛ والمقصد الكفار فقال: { ءأنتم أشد خلقا... } الآية، والسمك: الارتفاع، الثعلبي: والمعنى: أأنتم أيها المنكرون للبعث أشد خلقا أم السماء أشد خلقا، ثم بين كيف خلقها، أي: فالذي قدر على خلقها قادر على إحيائكم بعد الموت، نظيره:
أو ليس الذى خلق السموات والأرض
[يس:81] انتهى، و { أغطش } معناه: أظلم.
[79.30-36]
وقوله تعالى: { والأرض بعد ذلك دحها } متوجه على أن الله خلق الأرض ولم يدحها ثم استوى إلى السماء وهي دخان فخلقها، وبناها، ثم دحا الأرض بعد ذلك، ودحوها بسطها، وباقي الآية بين، و { الطامة الكبرى } هي يوم القيامة؛ قاله ابن عباس وغيره.
[79.37-41]
{ فأما من طغى } أي تجاوز الحد، { وءاثر الحيوة الدنيا } على الآخرة لتكذيبه [بالآخرة]، و { مقام ربه } هو يوم القيامة ، وإنما المراد مقامه بين يديه، و { الهوى } هو شهوات النفس؛ وما جرى مجراها المذمومة.
[79.42-46]
وقوله تعالى: { يسئلونك عن الساعة } يعني: قريشا، قال البخاري عن غيره: { أيان مرسها } متى منتهاها، ومرسى السفينة حيث تنتهي، انتهى، ثم قال تعالى لنبيه على جهة التوقيف: { فيم أنت من ذكراها } أي من ذكر تحديدها ووقتها، أي: لست من ذلك في شيء، إنما أنت منذر، وباقي الآية بين، قال الفخر؛ قوله تعالى: { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحها } تفسير هذه الآية هو كما ذكر في قوله:
كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار
[الأحقاف:35] والمعنى: أن ما أنكروه سيرونه حتى كأنهم كانوا أبدا فيه، وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، يريد لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى يومها، انتهى.
[80 - سورة عبس]
[80.1-8]
قوله تعالى: { عبس وتولى * أن جاءه الأعمى } سببها:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعض صناديد قريش ويقرأ عليه القرآن ويقول له: هل ترى بما أقول بأسا، فكان ذلك الرجل يقول: لا والدمى يعني الأصنام؛ إذ جاء ابن أم مكتوم؛ فقال: يا رسول الله! استدنني وعلمني مما علمك الله؛ فكان [في] ذلك كله قطع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل، فلما شغب عليه ابن أم مكتوم عبس صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه "
؛ فنزلت الآية، قال سفيان الثوري: فكان بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي عز وجل وبسط له رداءه واستخلفه على المدينة مرتين، * ت *: والكافر المشار إليه في الآية هو: الوليد بن المغيرة؛ قاله ابن إسحاق، انتهى، ثم أكد تعالى عتب نبيه بقوله: { أما من استغنى } أي بماله، { فأنت له تصدى } أي: تتعرض.
[80.9-12]
وقوله: { وهو يخشى } أي: يخشى الله، { فأنت عنه تلهى } أي تشتغل، تقول لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت عنه، وليس من اللهو، وهذه الآية السبب فيها هذا؛ ثم هي بعد تتناول من شاركهم في هذه الأوصاف، فحملة الشرع والعلم مخاطبون بتقريب الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير، مثل ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة، قال عياض: وليس في قوله تعالى: { عبس وتولى } الآية، ما يقتضي إثبات ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه خالف أمر ربه سبحانه، وإنما في الآية الإعلام بحال الرجلين، وتوهين أمر الكافر، والإشارة إلى الإعراض عنه، انتهى، قال السهيلي: وانظر كيف نزلت الآية بلفظ الإخبار عن الغائب فقال: { عبس وتولى } ولم يقل: عبست وتوليت، وهذا يشبه حال العاتب المعرض، ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب فقال: { وما يدريك لعله يزكى } الآية، علما منه سبحانه أنه لم يقصد بالإعراض عن ابن أم مكتوم إلا الرغبة في الخير ودخول ذلك المشرك في الإسلام؛ إذ كان مثله يسلم بإسلامه بشر كثير، فكلم نبيه حين ابتدأ الكلام بما يشبه كلام المعرض عنه العاتب له، ثم واجهه بالخطاب تأنيسا له عليه السلام ، انتهى، ثم قال تعالى: { كلا } يا محمد، ليس الأمر كما فعلت، إن هذه السورة أو القراءة أو المعاتبة تذكرة، وعبارة الثعلبي: إن هي السورة، وقيل: هذه الموعظة، وقال مقاتل: آيات القرآن تذكرة، أي: موعظة وتبصرة للخلق، { فمن شاء ذكره } أي: اتعظ بآي القرآن وبما وعظتك وأدبتك في هذه السورة، انتهى. * ص *: { ذكره } ذكر الضمير؛ لأن التذكرة هي الذكر، انتهى.
[80.13-16]
وقوله تعالى: { فى صحف } متعلق بقوله: { إنها تذكرة } وهذا يؤيد أن التذكرة يراد بها جميع القرآن، والصحف هنا قيل إنه اللوح المحفوظ: وقيل صحف الأنبياء المنزلة. قال ابن عباس: السفرة هم الملائكة، لأنهم كتبة يقال: سفرت، أي: كتبت، ومنه السفر، وقال ابن عباس أيضا: الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله وبين أنبيائه، وفي البخاري: سفرة الملائكة [واحدهم سافر]، سفرت أصلحت بينهم وجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله عز وجل وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم، انتهى، قال * ع *: ومن اللفظة قول الشاعر: [الوافر]
وما أدع السفارة بين قومي
وما أسعى بغش إن مشيت
والصحف على هذا: صحف عند الملائكة أو اللوح .
[80.17-22]
وقوله تعالى: { قتل الإنسن ما أكفره }: دعاء على اسم الجنس، وهو عموم يراد به الإنسان الكافر، ومعنى { قتل }: أي: هو أهل أن يدعى عليه بهذا، وقال مجاهد: { قتل } معناه: لعن وهذا تحكم * ت *: ليس بتحكم وقد تقدم نحوه عن غير واحد.
وقوله تعالى: { ما أكفره } يحتمل معنى التعجب، ويحتمل الاستفهام توبيخا، وقيل:
" الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني كافر برب النجم إذا هوى فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يأكله» "
، ثم إن عتبة خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله من بين الرفقة.
وقوله تعالى: { من أى شىء خلقه } استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الإنسان منه، { فقدره } أي جعله بقدر وحد معلوم، { ثم السبيل يسره } قال ابن عباس وغيره: هي سبيل الخروج من بطن أمه، وقال الحسن، ما معناه أن السبيل هي سبيل النظر المؤدي إلى الإيمان.
وقوله { فأقبره } معناه: أمر أن يجعل له قبر، وفي ذلك تكريم له؛ لئلا يطرح كسائر الحيوان.
وقوله تعالى: { ثم إذا شاء } يريد: إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه؛ وهو يوم القيامة، و { أنشره } معناه: أحياه.
[80.23-33]
وقوله تعالى: { كلا لما يقض } أي لم يقض ما أمره، ثم أمر الله تعالى الإنسان بالعبرة والنظر إلى طعامه والدليل فيه وكيف يسره له بهذه الوسائط، والحب جمع حبة بفتح الحاء ، وهو كل ما يتخذه الناس ويربونه، والحبة: بكسر الحاء كل ما ينبت من البزور لا يحفل به، ولا هو بمتخذ، والقضب قيل هي الفصفصة وهذا عندي ضعيف؛ لأن الفصفصة للبهائم وهي داخلة في الأب؛ والذي أقول به أن القضب هنا هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات كالبقول والهليون ونحوه؛ فإنه من المطعوم جزء عظيم ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة، والحديقة: الشجر الذي قد أحدق بجدار ونحوه، والغلب: الغلاظ الناعمة، والأب المرعى والكلأ؛ قاله ابن عباس وغيره، وقد توقف في تفسيره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما و { متعا }: نصب على المصدر، والمعنى: تتمتعون به أنتم وأنعامكم؛ فابن آدم في السبعة المذكورة، والأنعام في الأب، و { الصاخة }: اسم من أسماء يوم القيامة. * ص *: قال الخليل: الصاخة صيحة تصخ الآذان صخا، أي: تصمها لشدة وقعتها، انتهى.
[80.34-42]
وقوله تعالى: { يوم يفر المرء من أخيه } الآية، قال جمهور الناس: إنما ذلك لشدة الهول كل يقول نفسي نفسي، وقيل: فرارهم خوفا من المطالبات، { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } عن اللقاء مع غيره، ثم ذكر تعالى اختلاف الوجوه من المؤمنين الواثقين برحمة الله؛ حين بدت لهم تباشيرها، ومن الكفار حين علاها قترها، و { مسفرة } معناه: نيرة باد ضوءها وسرورها، والغبرة التي على الكفرة: هي من العبوس كما يرى على وجه المهموم والميت والمريض شبه الغبار، * ص *: والقتر سواد كالدخان، قال أبو عبيدة: هو الغبار، انتهى، ثم فسر سبحانه أصحاب هذه الوجوه المغبرة بأنهم { الكفرة الفجرة }.
[81 - سورة التكوير]
[81.1-5]
قوله سبحانه: { إذا الشمس كورت } هذه كلها أوصاف يوم القيامة، وتكوير الشمس هو أن تدار كما يدار كور العمامة ويذهب بها إلى حيث شاء الله تعالى ، وعبر المفسرون عن ذلك بعبارات؛ فمنهم من قال: ذهب نورها؛ قاله قتادة، ومنهم من قال: رمي بها؛ قاله الربيع بن خثيم وغير ذلك مما هو أسماء توابع لتكويرها،، وانكدار النجوم هو انقضاضها وهبوطها من مواضعها، وقال ابن عباس: انكدرت: تغيرت من قولهم ماء كدر و { العشار }: جمع عشراء وهي الناقة التي قد مر لحملها عشرة أشهر، وهي أنفس ما عند العرب، وإنما تعطل عند أشد الأهوال.
[81.6-14]
{ وإذا البحار سجرت } قال أبي بن كعب وابن عباس وغيرهما: معناه أضرمت نارا، كما يسجر التنور، ويحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيدت، فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «سجرت» بتخفيف الجيم، والباقون بتشديدها، وتزويج النفوس: هو تنويعها؛ لأن الأزواج هي الأنواع، والمعنى: جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن، وكل شكل مع شكله؛ رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقاله عمر بن الخطاب وابن عباس؛ وقال: هذا نظير قوله تعالى:
وكنتم أزواجا ثلثة
[الواقعة:7] وفي الآية على هذا حض على خليل الخير، فقد قال عليه السلام :
" المرء مع من أحب "
وقال:
" فلينظر أحدكم من يخالل "
، وعبارة الثعلبي: قال النعمان بن بشير: قال النبي صلى الله عليه وسلم: { وإذا النفوس زوجت } ، قال الضرباء: كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله، انتهى، وقال مقاتل بن سليمان معناه: زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهن من الحور، وغيرهن.
وقوله تعالى: { وإذا الموءودة سئلت } الموؤودة اسم معناه المثقل عليها بالتراب، وغيره حتى تموت؛ وكان هذا صنيع بعض العرب ببناتهم يدفنونهن أحياء، وقرأ الجمهور: «سئلت» وهذا على جهة التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك؛ واستدل ابن عباس بهذه الآية على أن أولاد المشركين في الجنة، لأن الله قد انتصر لهم ممن ظلمهم.
{ وإذا الصحف نشرت } قيل: هي صحف الأعمال، وقيل: هي الصحف التي تتطاير بالأيمان والشمائل، والكشط: التقشير وذلك كما يكشط جلد الشاة حين تسلخ، وكشط السماء هو طيها كطي السجل، و { سعرت } معناه: أضرمت نارها، وأزلفت الجنة معناه: قربت ليدخلها المؤمنون، قال الثعلبي: قربت لأهلها حتى يرونها، نظيره،
وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد
[ق:31]. { علمت نفس } عند ذلك { ما أحضرت } من خير أو شر؛ وهو جواب لقوله { إذا الشمس } وما بعدها، انتهى.
[81.15-23]
وقوله تعالى: { فلا أقسم بالخنس } لا إما زائدة وإما أن تكون ردا لقول قريش في تكذيبهم نبوة نبينا محمد عليه السلام ، ثم أقسم تعالى بالخنس الجوار الكنس، وهي في قول الجمهور: الدراري السبعة: الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري، وقال علي: المراد الخمسة دون الشمس والقمر؛ وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي: تتقهقر فيما ترى العين، وهي جوار في السماء، وهي تكنس في أبراجها أي: تستتر، الثعلبي: وقال ابن زيد تخنس؛ أي: تتأخر عن مطالعها كل سنة، وتكنس بالنهار، أي: تستتر فلا ترى، انتهى، وعسعس الليل في اللغة إذا كان غير مستحكم الإظلام، قال الخليل: عسعس الليل: إذا أقبل وأدبر، وقال الحسن: وقع القسم بإقباله، وقال ابن عباس وغيره: بل وقع بإدباره، وقال المبرد: أقسم بإقباله وإدباره معا، وعبارة الثعلبي: قال الحسن عسعس الليل: أقبل بظلامه، وقال آخرون: أدبر بظلامه، ثم قال: والمعنيان يرجعان إلى معنى واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره، انتهى،، وتنفس الصبح، اتسع ضوءه، والضمير في «إنه» للقرآن، والرسول الكريم في قول الجمهور؛ هو جبريل عليه السلام وقال آخرون: هو النبي صلى الله عليه وسلم في الآية كلها، والقول الأول أصح، و { كريم } صفة تقتضي رفع المذام، و { مكين } معناه: له مكانة ورفعة، وقال عياض في «الشفا» في قوله تعالى: { مطع ثم أمين }: أكثر المفسرين على أنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، انتهى، قال * ع *: وأجمع المفسرون على أن قوله تعالى: { وما صحبكم } يراد به النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في رآه لجبريل عليه السلام وهذه الرؤية التي كانت بعد أمر غار حراء، وقيل: هي الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى.
[81.24-29]
وقوله تعالى: { وما هو على الغيب بضنين } بالضاد بمعنى: ببخيل تبليغ ما قيل له؛ كما يفعل الكاهن حين يعطى حلوانه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «بظنين» بالظاء، أي: بمتهم، ثم نفى سبحانه عن القرآن أن يكون كلام شيطان على ما قالت قريش، و { رجيم } أي: مرجوم.
وقوله تعالى: { فأين تذهبون } توقيف وتقرير والمعنى: أين المذهب لأحد عن هذه الحقائق والبيان الذي فيه شفاء، { إن هو إلا ذكر } أي: تذكرة، * ت *: روى الترمذي عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين؛ فليقرأ { إذا الشمس كورت } و { إذا السماء انفطرت } ، و { إذا السماء انشقت } "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى.
[82 - سورة الإنفطار]
[82.1-4]
قوله تعالى: { إذا السماء انفطرت } أي: انشقت، { وإذا الكواكب انتثرت } أي: تساقطت، { وإذا البحار فجرت } قيل: فجر بعضها إلى بعض، ويحتمل أن يكون تفجرت من أعاليها، ويحتمل أن يكون تفجير تفريغ من قيعانها فيذهب الله ماءها حيث شاء، وبكل قيل، وبعثرة القبور: نبشها عن الموتى.
[82.5-7]
وقوله سبحانه: { علمت نفس } هو جواب { إذا } و { نفس } هنا اسم جنس، وقال كثير من المفسرين في معنى قوله: { ما قدمت وأخرت } إنها عبارة عن جميع الأعمال من طاعة أو معصية.
{ يأيها الإنسن ما غرك بربك الكريم } روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها، فقال:«غره جهله»، فسبحان الله ما أرحمه بعباده، قال الثعلبي: قال أهل الإشارة: إنما قال: { بربك الكريم } ، دون سائر أسمائه تعالى وصفاته، كأنه لقنه جوابه؛ حتى يقول: غرني كرمك، انتهى، وقرأ الجمهور: «فعدلك»
" وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى الهلال؛ قال: «آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك» "
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بتخفيف الدال، والمعنى عدل أعضاءك بعضها ببعض، أي: وازن بينها.
[82.8-14]
وقوله تعالى: { في أى صورة ما شآء ركبك } ذهب الجمهور إلى أن «في» متعلقة ب«ركبك»، أي: في صورة حسنة أو قبيحة، أو سليمة، أو مشوهة، ونحو هذا، و«ما» في قوله: { ما شاء ركبك } زائدة فيها معنى التأكيد، قال أبو حيان: { كلا } ردع وزجر، انتهى، والدين هنا يحتمل أن يريد الشرع، ويحتمل أن يريد الجزاء والحساب، وباقي الآية واضح لمتأمله.
[82.15-19]
وقوله تعالى: { يصلونها يوم الدين } أي: يوم الجزاء.
وقوله تعالى: { وما هم عنها بغائبين } [قال جماعة: معناه: ما هم عنها بغائبين] في البرزخ، وذلك أنهم يرون مقاعدهم من النار غدوة وعشية؛ فهم لم يزالوا مشاهدين لها؛ نسأل الله العافية في الدارين بجوده وكرمه، ثم عظم تعالى قدر هول ذلك اليوم بقوله: { وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين }.
[83 - سورة المطففين]
[83.1-3]
قوله تعالى: { ويل للمطففين } الآية، المطفف الذي ينقص الناس حقوقهم، والتطفيف: النقصان، أصله من الشيء الطفيف، وهو النزر، والمطفف إنما يأخذ بالميزان أو بالمكيال شيئا خفيفا، و { اكتالوا على الناس } معناه قبضوا منهم، و { كالوهم } معناه: قبضوهم ، و { يخسرون } معناه: ينقصون.
[83.4-6]
وقوله سبحانه: { ألا يظن } بمعنى: يعلم ويتحقق، وقال * ص *: { ألا يظن } ذكر أبو البقاء أن «لا» هنا هي النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، وليست «ألا» التي للتنبيه والاستفتاح؛ لأن ما بعد «ألا» التنبيهية مثبت وهو هنا منفي، انتهى،، وقيام الناس لرب العالمين يومئذ، يختلف الناس فيه بحسب منازلهم، وروي أنه يخفف عن المؤمن حتى يكون على قدر الصلاة المكتوبة، وفي هذا القيام هو إلجام العرق للناس؛ كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، والناس أيضا فيه مختلفون بالتخفيف والتشديد، قال ابن المبارك في «رقائقه»: أخبرنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان، قال: تدنى الشمس من الناس يوم القيامة حتى تكون من رؤوسهم قاب قوس أو قاب قوسين فتعطي حر عشر سنين؛ وليس على أحد يومئذ طحربة ولا ترى فيه عورة مؤمن ولا مؤمنة، ولا يضر حرها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة، وأما الآخرون؛ أو قال الكفار فتطبخهم، فإنما تقول أجوافهم غق غق، قال نعيم: الطحربة: الخرقة انتهى، ونحو هذا للمحاسبي قال في «كتاب التوهم»: فإذا وافى الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع؛ كسبت الشمس حر عشر سنين، ثم أدنيت من الخلائق قاب قوس أو قاب قوسين، فلا ظل في ذلك اليوم إلا ظل عرش رب العالمين، فكم بين مستظل بظل العرش وبين واقف لحر الشمس قد أصهرته؛ واشتد فيها كربه وقلقه، فتوهم نفسك في ذلك الموقف؛ فإنك لا محالة واحد منهم، انتهى، اللهم، عاملنا برحمتك وفضلك في الدارين، فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بك.
[83.7]
وقوله تعالى: { كلا إن كتب الفجار... } يعني: الكفار وكتابهم يراد به الذي فيه تحصيل أمرهم، وأفعالهم، ويحتمل عندي أن يكون المعنى وعدادهم وكتاب كونهم هو في سجين؛ أي: هنالك كتبوا في الأزل، واختلف في { سجين } ما هو؟ والجمهور أن سجينا بناء مبالغة من السجن، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة.
[83.8-26]
وقوله تعالى: { وما أدراك ما سجين } تعظيم لأمر هذا السجين وتعجيب منه، ويحتمل أن يكون تقرير استفهام، أي: هذا مما لم تكن تعلمه قبل الوحي، و { كتب مرقوم } على القول الأول: مرتفع على خبر «إن» وعلى القول الثاني مرتفع على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره: هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلام مفسرا ل { سجين } ما هو؟، و { مرقوم } معناه: مكتوب لهم بشر، وباقي الآية بين، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والعتو قد { ران على قلوبهم } أي: غطى عليها؛ فهم مع ذلك لا يبصرون رشدا، يقال: رانت الخمر على قلب شاربها، وران الغشي على قلب المريض، وكذلك الموت، قال الحسن وقتادة: الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الرجل إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه، ثم كذلك حتى يتغطى فذلك الران الذي قال الله تعالى: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } "
، قال الفخر: قال أبو معاذ النحوي: الرين سواد القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب، وهو أشد من الرين، والإقفال أشد من الطبع؛ وهو أن يقفل على القلب، انتهى، والضمير في قوله تعالى: { إنهم عن ربهم } للكفار أي: هم محجوبون لا يرون ربهم، قال الشافعي: لما حجب الله قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضى، قال المحاسبي رحمه الله في كتاب «توبيخ النفس»: وينبغي للعبد المؤمن إذا رأى القسوة من قلبه أن يعلم أنها من الرين في قلبه فيخاف أن يكون الله تعالى لما حجب قلبه عنه بالرين والقسوة أن يحجبه غدا عن النظر إليه؛ قال تعالى: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } إحداهما تتلو الأخرى؛ ليس بينهما معنى ثالث، فإن اعترض للمريد خاطر من الشيطان ليقتطعه عن الخوف من الله تعالى، حتى تحل به هاتان العقوبتان فقال إنما نزلتا في الكافرين؛ فليقل فإن الله لم يؤمن منهما كثيرا من المؤمنين، وقد حذر سبحانه المؤمنين أن يعاقبهم بما يعاقب به الكافرين؛ فقال تعالى:
واتقوا النار التى أعدت للكفرين
[آل عمران:131] إلى غير ذلك من الآيات، انتهى، ولما ذكر الله تعالى أمر كتاب الفجار، عقب ذلك بذكر كتاب ضدهم؛ ليبين الفرق بين الصنفين، واختلف في الموضع المعروف ب { عليين } ما هو؟ فقال ابن عباس: السماء السابعة تحت العرش، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الضحاك: هو سدرة المنتهى، وقال ابن عباس أيضا: عليون: الجنة.
وقوله تعالى: { يشهده المقربون } يعني الملائكة؛ قاله ابن عباس وغيره، و { ينظرون } معناه إلى ما عندهم من النعيم، والنضرة: النعمة والرونق، والرحيق: الخمر الصافية، و { مختوم } يحتمل أنه يختم على كؤوسه التي يشرب بها تهمما وتنظفا، والظاهر أنه مختوم شربه بالرائحة المسكية؛ حسبما فسره قوله: { ختمه مسك } قال ابن عباس وغيره: خاتمة شربه مسك، [وقرأ الكسائي: «خاتمه مسك»]، ثم حرض تعالى على الجنة بقوله: { وفى ذلك فليتنافس المتنفسون }.
[83.27-28]
وقوله تعالى: { ومزاجه من تسنيم } المزاج: الخلط، قال ابن عباس وغيره: { تسنيم }: أشرف شراب في الجنة، وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة، وهي عين يشرب بها المقربون صرفا ويمزج رحيق الأبرار بها؛ وهذا المعنى في صحيح البخاري، وقال مجاهد ما معناه: أن تسنيما مصدر من سنمت: إذا علوت، ومنه السنام، فكأنه عين قد عليت على أهل الجنة فهي تنحدر، وقاله مقاتل، وجمهور المتأولين أن منزلة الأبرار دون منزلة المقربين، وأن الأبرار هم أصحاب اليمين، وأن المقربين هم السابقون.
وقوله: { يشرب بها } بمعنى يشربها.
[83.29-34]
وقوله سبحانه: { إن الذين أجرموا كانوا } يعني في الدنيا، { يضحكون } من المؤمنين، روي أن هذه الآية نزلت في صناديد قريش وضعفة المؤمنين، والضمير في { مروا } للمؤمنين ويحتمل أن يكون للكفار، وأما ضمير { يتغامزون } فهو للكفار؛ لا يحتمل غير ذلك، و { فكهين } أي: أصحاب فكاهة ونشاط وسرور باستخفافهم بالمؤمنين، وأما الضمير في { رأوهم } وفي { قالوا } فقال الطبري وغيره: هو للكفار، وقال بعضهم: بل المعنى بالعكس، وإنما المعنى وإذا رأى المؤمنون الكفار قالوا: { إن هؤلاء لضالون } ، وما أرسل المؤمنون حافظين على الكفار، وهذا كله منسوخ على هذا التأويل، * ت *: والأول أظهر .
[83.35-36]
وقوله تعالى: { على الأرائك ينظرون } أي: إلى أعدائهم في النار، قال كعب: لأهل الجنة كوى ينظرون منها، وقال غيره: بينهم جسم عظيم شفاف يرون معه حالهم، * ت *: قال الهروي: قوله تعالى: { على الأرائك ينظرون } ، قال أحمد بن يحيى: الأريكة: السرير في الحجلة ولا يسمى منفردا أريكة، وسمعت الأزهري يقول: كل ما اتكىء عليه فهو أريكة، انتهى، { هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } أي: جزاء ما كانوا يفعلون، و { هل ثوب } تقرير وتوقيف للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
[84 - سورة الإنشقاق]
[84.1-5]
قوله تعالى: { إذا السماء انشقت } الآية، هذه أوصاف يوم القيامة { وأذنت } معناه: استمعت وسمعت أمر ربها؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" ما أذن الله لشيء أذنه لنبي يتغنى بالقرآن "
، و { حقت } قال ابن عباس: معناه: وحق لها أن تسمع وتطيع، ويحتمل أن يريد: وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى، ومد الأرض هي إزالة جبالها حتى لا يبقى فيها عوج ولا أمت، وفي الحديث:
" تمد مد الأديم "
، و { وألقت ما فيها } يعني: من الموتى؛ قاله الجمهور. وخرج الختلي أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم في كتاب «الديباج» له بسنده عن نافع عن ابن عمر
" عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : { إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت } قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري، فيفتح لي باب إلى السماء بحيال رأسي حتى أنظر إلى العرش، ثم يفتح لي باب من تحتي؛ حتى أنظر إلى الأرض السابعة؛ حتى أنظر إلى الثرى، ثم يفتح لي باب عن يميني حتى أنظر إلى الجنة ومنازل أصحابي، وإن الأرض تحركت تحتي فقلت: ما لك أيتها الأرض؟ قالت: إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي، وأن أتخلى؛ فأكون كما كنت؛ إذ لا شيء في، فذلك قول الله عز وجل : { وألقت ما فيها وتخلت } ، { وأذنت لربها وحقت } أي: سمعت وأطاعت، وحق لها أن تسمع وتطيع "
، الحديث، انتهى من «التذكرة»، و { تخلت } معناه خلت عما كان فيها لم تتمسك منهم بشيء.
[84.6-12]
{ يأيها الإنسن إنك كادح... } الآية، الكادح: العامل بشدة واجتهاد، والمعنى: إنك عامل خيرا أو شرا، وأنت لا محالة ملاقيه، أي: فكن على حذر من هذه الحال، واعمل صالحا تجده، وأما الضمير في { ملاقيه } فقال الجمهور: هو عائد على الرب تعالى، وقال بعضهم: هو عائد على الكدح * ت *: وهو ظاهر الآية، والمعنى ملاق جزاءه، والحساب اليسير: هو العرض؛ ومن نوقش الحساب هلك؛ كذا في الحديث الصحيح، وعن عائشة: هو أن يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه، ونحوه في الصحيح عن ابن عمر، انتهى، وفي الحديث
" عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا، فلما انصرف؛ قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر في كتابه ويتجاوز عنه؛ إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك، وكل ما يصيب المؤمن يكفر الله عنه حتى الشوكة تشوكه» "
، قال صاحب «السلاح»: رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح على شرط مسلم، انتهى، وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من حاسب نفسه في الدنيا، هون الله عليه حسابه يوم القيامة "
؛ قال عز الدين بن عبد السلام في اختصاره ل«رعاية المحاسبي»: أجمع العلماء على وجوب محاسبة النفس فيما سلف من الأعمال وفيما يستقبل منها، «فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله»، انتهى.
{ وينقلب إلى أهله } أي: الذين أعدهم الله له في الجنة، وأما الكافر فروي أن يده تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها.
و { يدعوا ثبورا } معناه: يصيح منتحبا: وا ثبوراه؛ وا حزناه، ونحوه هذا، والثبور اسم جامع للمكاره، كالويل.
[84.13-15]
وقوله تعالى: { إنه كان فى أهله } يريد في الدنيا، { مسرورا } أي: تملكه ذلك لا يدري إلا السرور بأهله دون معرفة ربه.
وقوله تعالى: { إنه ظن أن لن يحور } معناه: أن لن يرجع إلى الله مبعوثا محشورا، قال ابن عباس: لم أعلم ما معنى { يحور }؛ حتى سمعت امرأة أعرابية تقول لبنية لها: حوري؛ أي: ارجعي، * ص *: { بلى } إيجاب بعد النفي، أي: بلى؛ ليحورن أي: ليرجعن، انتهى.
[84.16-25]
وقوله تعالى: { فلا أقسم بالشفق } «لا» زائدة وقيل: «لا» رد على أقوال الكفار، و { الشفق } الحمرة التي تعقب غيبوبة الشمس مع البياض التابع لها في الأغلب، و { وسق } معناه: جمع وضم ومنه الوسق أي: الأصوع المجموعة، والليل يسق الحيوان جملة أي: يجمعها ويضمها، وكذلك جميع المخلوقات التي في الأرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك، واتساق القمر كماله وتمامه بدرا، والمعنى امتلأ من النور، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر: «لتركبن» بضم الباء والمعنى: لتركبن الشدائد: الموت والبعث والحساب حالا بعد حال، و«عن» تجيء بمعنى «بعد» كما يقال: ورث المجد كابرا عن كابر، وقيل: غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير: «لتركبن» بفتح الباء على معنى أنت يا محمد، فقيل: المعنى حالا بعد حال من معالجة الكفار، وقال ابن عباس: سماء بعد سماء في الإسراء، وقيل: هي عدة بالنصر أي لتركبن أمر العرب قبيلا بعد قبيل؛ كما كان، وفي البخاري عن ابن عباس: { لتركبن طبقا عن طبق } حالا بعد حال؛ هكذا قال نبيكم صلى الله عليه وسلم ، انتهى، ثم قال تعالى: { فما لهم لا يؤمنون } ، أي: ما حجتهم مع هذه البراهين الساطعة، و { يوعون } معناه: يجمعون من الأعمال والتكذيب كأنهم يجعلونها أوعية، تقول وعيت العلم، وأوعيت المتاع، و { ممنون } معناه: مقطوع.
[85 - سورة البروج]
[85.1-3]
الجمهور: أن «والبروج» هي المنازل التي عرفتها العرب، وقد تقدم الكلام عليها، { واليوم الموعود }: هو يوم القيامة باتفاق؛ كما جاء في الحديث، وإنما اختلف الناس في الشاهد والمشهود اختلافا كثيرا، فقال ابن عباس: الشاهد: الله والمشهود: يوم القيامة، وقال الترمذي: الشاهد: الملائكة الحفظة، والمشهود [أي] عليه: الناس، وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، * ت *: ولو صح لوجب الوقوف عنده.
[85.4-9]
وقوله تعالى: { قتل أصحب الأخدود } معناه فعل الله بهم ذلك؛ لأنهم أهل له؛ فهو على جهة الدعاء بحسب البشر، لا أن الله يدعو على أحد، وقيل عن ابن عباس: معناه لعن وهذا تفسير بالمعنى، وقال الثعلبي: قال ابن عباس: كل شيء في القرآن { قتل } فهو: لعن، انتهى، وقيل: هو إخبار بأن النار قتلتهم؛ قاله الربيع بن أنس، * ص *: وجواب القسم محذوف أي: والسماء ذات البروج لتبعثن، وقال المبرد: الجواب: { إن بطش ربك لشديد } ، وقيل الجواب: { قتل } واللام محذوفة أي: لقتل، وإذا كان { قتل } هو الجواب فهو خبر انتهى، وصاحب الأخدود: مذكور في السير وغيرها وحديثه في مسلم مطول وهو ملك دعا المؤمنين بالله إلى الرجوع عن دينهم إلى دينه، وخد لهم في الأرض أخاديد طويلة؛ وأضرم لهم نارا وجعل يطرح فيها من لم يرجع عن دينه؛ حتى جاءت امرأة معا صبي فتقاعست؛ فقال لها الطفل: يا أمه؛ اصبري فإنك على الحق، فاقتحمت النار.
وقوله: { النار } بدل من الأخدود وهو بدل اشتمال، قال * ع *: وقال الربيع بن أنس وأبو إسحاق وأبو العالية: بعث الله على أولئك المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أو نحو هذا، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود؛ وعلى هذا يجيء { قتل } خبرا لا دعاء.
[85.10-12]
وقوله تعالى: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنت... } الآية، فتنوهم، أي: أحرقوهم، * ت *: قال الهروي: قوله تعالى: { فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } أي: لهم عذاب لكفرهم وعذاب بإحراقهم المؤمنين، انتهى، قال * ع *: ومن قال: إن هذه الآيات الأواخر في قريش جعل الفتنة الامتحان والتعذيب، ويقوي هذا التأويل بعض التقوية قوله تعالى: { ثم لم يتوبوا } ، لأن هذا اللفظ في قريش أشبه منه في أولئك، والبطش: الأخذ بقوة.
[85.13-22]
وقوله: { إنه هو يبدىء ويعيد } قال الضحاك وابن زيد: معناه: يبدىء الخلق بالإنشاء، ويعيدهم بالحشر، وقال ابن عباس ما معناه: إن ذلك عام في جميع الأشياء، فهي عبارة على أنه يفعل كل شيء، أي: يبدىء كل ما يبدأ ويعيد كل ما يعاد، وهذان قسمان يستوفيان جميع الأشياء، و { الجنود } الجموع، و { فرعون وثمود } في موضع خفض على البدل من الجنود، ثم ترك القول بحاله، وأضرب عنه إلى الإخبار بأن هؤلاء الكفار بمحمد وشرعه؛ لا حجة لهم ولا برهان؛ بل هو تكذيب مجرد سببه الحسد، ثم توعدهم سبحانه بقوله: { والله من ورائهم محيط } أي: عذاب الله ونقمته من ورائهم، أي: يأتي بعد كفرهم وعصيانهم، وقرأ الجمهور: «في لوح محفوظ» بالخفض صفة ل«لوح» وقرأ نافع: «محفوظ» بالرفع، أي: محفوظ في القلوب لا يدركه الخطأ والتبديل.
[86 - سورة الطارق]
[86.1-4]
أقسم الله تعالى بالسماء المعروفة في قول الجمهور، وقيل: السماء هنا هو المطر، { والطارق }: الذي يأتي ليلا، ثم فسر تعالى هذا الطارق بأنه: { النجم الثاقب } واختلف في { النجم الثاقب } فقال الحسن بن أبي الحسن ما معناه؛ أنه اسم جنس؛ لأنها كلها ثاقبة، أي: ظاهرة الضوء، يقال: ثقب النجم إذا أضاء، وقال ابن زيد: أراد نجما مخصوصا؛ وهو زحل، وقال ابن عباس: أراد الجدي، وقال ابن زيد أيضا: هو الثريا، وجواب القسم في قوله: { إن كل نفس... } الآية، و«إن» هي المخففة من الثقيلة، واللام في «لما» لام التأكيد الداخلة على الخبر؛ هذا مذهب حذاق البصريين، وقال الكوفيون «إن» بمعنى «ما» النافية، واللام بمعنى «إلا» فالتقدير: ما كل نفس إلا عليها حافظ، ومعنى الآية فيما قال قتادة وغيره: إن على كل نفس مكلفة حافظا يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها، وقال أبو أمامة قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية:
" إن لكل نفس حفظة من الله يذبون عنها كما يذب عن قصعة العسل الذباب، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ".
[86.5-7]
وقوله تعالى: { فلينظر الإنسن مم خلق } توقيف لمنكري البعث على أصل الخلقة الدال على أن البعث جائز ممكن، ثم بادر اللفظ إلى الجواب اقتضابا وإسراعا إلى إقامة الحجة، فقال: { خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب } قال الحسن وغيره: معناه: من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة، وترائبه، وقال جماعة: من بين صلب الرجل وترائب المرأة [والتريبة من الإنسان: ما بين الترقوة إلى الثدي، قال أبو عبيدة معلق الحلي إلى الصدر، وقيل غير هذا.
[86.8-17]
وقوله تعالى: { إنه على رجعه لقادر } قال ابن عباس وقتادة: المعنى أن الله على رد الإنسان حيا بعد موته لقادر، وهذا أظهر الأقوال هنا وأبينها، و { دافق } قال كثير من المفسرين: هو بمعنى مدفوق، والعامل في { يوم } الرجع من قوله: { على رجعه }.
و { تبلى السرائر } معناه تختبر وتكشف بواطنها، وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن السرائر التي يبتليها الله من العباد: التوحيد، والصلاة، والزكاة، والغسل من الجنابة، قال * ع *: وهذه معظم الأمر، وقال قتادة: الوجه في الآية العموم في جميع السرائر، ونقل ابن العربي في «أحكامه» عن ابن مسعود: أن هذه المذكورات [من] الصلاة والزكاة والوضوء والوديعة كلها أمانة، قال: وأشد ذلك الوديعة تمثل له، أي: لمن خانها على هيئتها يوم أخذها فترمى في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها فيجعلها في عنقه فإذا أراد أن يخرج بها زلت منه فيتبعها؛ فهو كذلك دهر الداهرين، انتهى، * ت *: قال أبو عبيد الهروي: قوله تعالى: { يوم تبلى السرائر } الواحدة سريرة وهي الأعمال التي أسرها العباد، انتهى، و { الرجع } المطر وماؤه، وقال ابن عباس: الرجع: السحاب فيه المطر، قال الحسن: لأنه يرجع بالرزق كل عام، وقال غيره: لأنه يرجع إلى الأرض، و { الصدع } النبات؛ لأن الأرض تتصدع عنه، والضمير في { إنه } للقرآن، و { فصل } معناه: جزم فصل الحقائق من الأباطيل، و { الهزل } اللعب الباطل، ثم أخبر تعالى عن قريش أنهم يكيدون في أفعالهم وأقوالهم بالنبي عليه السلام ، و { وأكيد كيدا } وهذا على ما مر من تسمية العقوبة باسم الذنب، و { رويدا } معناه: قليلا؛ قاله قتادة، وهذه حال هذه اللفظة؛ إنما تقدمها شيء تصفه كقولك: سيرا رويدا، أو تقدمها فعل يعمل فيها كهذه، وأما إذا ابتدأت بها فقلت: رويدا يا فلان؛ فهي بمعنى الأمر بالتماهل، * ص *: { رويدا } قال أبو البقاء: نعت لمصدر محذوف، أي: إمهالا رويدا، و«رويدا» تصغير «رود» وأنشد أبو عبيدة: [البسيط]
يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته
كأنه ثمل يمشي على رود
أي: على مهل ورفق، انتهى.
[87 - سورة الأعلى]
[87.1-5]
{ سبح } في هذه الآية بمعنى: نزه وقدس وقل: جل سبحانه عن النقائص والغير جميعا، وروى ابن عباس
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية، قال: «سبحان ربي الأعلى» "
، وكان ابن مسعود وابن عمر وابن الزبير يفعلون ذلك، ولما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اجعلوها في سجودكم "
، وعن سلمة بن الأكوع قال:
" ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح دعاء إلا استفتحه ب«سبحان ربي الأعلى الوهاب» "
رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من «سلاح المؤمن».
و«سوى» معناه: عدل وأتقن.
وقوله: { فهدى } عام لوجوه الهدايات في الإنسان والحيوان، وقال الفراء: معناه هدى وأضل؛ والعموم في الآية أصوب، و { المرعى }: النبات، و«الغثاء»: ما يبس وجف وتحطم من النبات؛ وهو الذي يحمله السيل، و«الأحوى» قيل هو الأخضر الذي عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة، فتقدير الآية: الذي أخرج المرعى أحوى أي أسود من خضرته وغضارته فجعله غثاء عند يبسه ف { أحوى }: حال، وقال ابن عباس: المعنى: فجعله غثاء أحوى أي أسود؛ لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أحوى، فهذا صفة.
[87.6-7]
وقوله تعالى: { سنقرئك فلا تنسى } قال الحسن وقتادة ومالك بن أنس: هذه الآية في معنى قوله تعالى:
لا تحرك به لسانك
[القيامة:16] الآية، وعده الله أن يقرئه وأخبره أنه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده ذكر، وقيل: بل المعنى: أنه أمره تعالى بأن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد، وقال الجنيد: معنى { لا تنسى } لا تترك العمل بما تضمن من أمر ونهي.
وقوله تعالى: { إلا ما شاء الله } قال الحسن وغيره: معناه: مما قضى الله بنسخه ورفع تلاوته وحكمه، وقال ابن عباس: { إلا ما شاء الله }: أن ينسيكه؛ ليسن به؛ على نحو قوله عليه الصلاة والسلام :
" إني لأنسى أو أنسى لأسن "
قال * ع *: ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع فيما أمر بتبليغه؛ إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعى عنه؛ فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك، أو على أن يسن، أو على النسخ.
[87.8-13]
وقوله تعالى: { ونيسرك لليسرى } معناه: نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك من النصر والظفر، ورفعة الرسالة وعلو المنزلة يوم القيامة، والرفعة في الجنة، ثم أمره تعالى بالتذكير، قال بعض الحذاق: قوله تعالى: { إن نفعت الذكرى } اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش، ثم أخبر تعالى أنه سيذكر من يخشى الله والدار الآخرة وهم العلماء والمؤمنون، كل بقدر ما وفق له، ويتجنب الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة.
[87.14-17]
و { تزكى } معناه: طهر نفسه ونماها بالخير، ومن «الأربعين حديثا» المسندة لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري الإمام المحدث قال في آخرها: وحديث تمام الأربعين حديثا؛ وهو حديث كبير جامع لكل خير؛ حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين؛ قال: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال: حدثني أبي عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال:
" دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فجلست إليه فقال: يا أبا ذر، للمسجد تحية، وتحيته ركعتان؛ قم فاركعهما، قال: فلما ركعتهما، جلست إليه، فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة، فما الصلاة؟ قال: خير موضوع، فاستكثر أو استقلل "
الحديث، وفيه:
" قلت: يا رسول الله، كم كتابا أنزل الله عز وجل ؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب؛ أنزل الله: على شيث خمسين صحيفة، وعلى خانوخ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، قال: قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالا كلها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو من كافر، وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن تكون له ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر في صنع الله عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألا يكون ظاعنا إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مؤونة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شانه، حافظا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله؛ قل كلامه إلا فيما يعنيه، قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن أيقن بالقدر، ثم هو ينصب، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها؛ ثم اطمأن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل، وقال: قلت: يا رسول الله، فهل في أيدينا شيء مما كان في أيدي إبراهيم وموسى؛ مما أنزل الله عز وجل عليك؟ قال: نعم، اقرأ يا أبا ذر { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحيوة الدنيا } إلى آخر هذه [السورة يعني: أن ذكر هذه الآيات لفي صحف إبراهيم وموسى قال: قلت: يا رسول الله؛ فأوصني، قال: أوصيك بتقوى الله عز وجل فإنه رأس أمرك، قال: قلت: يا رسول الله؛ زدني؛ قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل ؛ فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض، قال: قلت: يا رسول الله، زدني، قال: وإياك وكثرة الضحك؛ فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه، قال: قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: عليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية أمتي، قال: قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: عليك بالصمت إلا من خير؛ فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك "
انتهى.
وقوله تعالى: { وذكر اسم ربه } أي: وحده وصلى له الصلوات المفروضة وغيرها، وقال أبو سعيد الخدري وغيره: هذه الآية نزلت في صبيحة يوم الفطر، ف { تزكى }: أدى زكاة الفطر، { وذكر اسم ربه } في طريق المصلى، وصلى صلاة العيد، ثم أخبر تعالى الناس أنهم يؤثرون الحياة الدنيا، وسبب الإيثار حب العاجل والجهل ببقاء الآخرة وفضلها، وروينا في كتاب الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" استحيوا من الله حق الحياء، قال: فقلنا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء "
انتهى، قال الغزالي: وإيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان؛ ولذلك قال تعالى: { بل تؤثرون الحيوة الدنيا } ثم بين سبحانه أن الشر قديم في الطباع وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة فقال: { إن هذا لفى الصحف الأولى * صحف إبرهيم وموسى } ، انتهى من «الإحياء.
[87.18-19]
وقوله تعالى: { إن هذا } قال ابن زيد: الإشارة ب«هذا» إلى هذين الخبرين: إفلاح من تزكى، وإيثار الناس للدنيا مع فضل الآخرة عليها، وهذا هو الأرجح لقرب المشار إليه، وعن أبي بن كعب قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ب«سبح اسم ربك الأعلى» و«قل يأيها الكافرون» و«قل هو الله أحد»؛ فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس؛ ثلاث مرات يمد صوته في الثالثة، ويرفع "
، رواه أبو داود والنسائي؛ وهذا لفظه، ورواه الدارقطني في سننه، ولفظه:
" فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس، ثلاث مرات يمد بها صوته في الأخيرة، ويقول: رب الملائكة والروح "
، انتهى من «السلاح»، قال النووي وروينا في «سنن أبي داود» «والترمذي» «والنسائي » عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره:
" اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "
قال الترمذي: حديث حسن، انتهى.
[88 - سورة الغاشية]
[88.1-2]
قال بعض المفسرين: { هل } بمعنى «قد» وقال الحذاق: هي على بابها توقيف فائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر، و { الغشية } القيامة، لأنها تغشى العالم كله بهولها، والوجوه الخاشعة هي وجوه الكفار وخشوعها ذلها وتغييرها بالعذاب.
[88.3-10]
وقوله سبحانه: { عاملة ناصبة } قال الحسن وغيره: لم تعمل لله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار ، والنصب التعب، وقال ابن عباس وغيره: المعنى عاملة في الدنيا ناصبة فيها على غير هدى فلا ثمرة لعملها، إلا النصب، وخاتمته النار، قالوا: والآية في القسيسين وكل مجتهد في كفر، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو «تصلى» بضم التاء والباقون بفتحها والآنية: التي قد انتهى حرها كما قال تعالى
وبين حميم آن
[الرحمن:44] وقال ابن زيد: آنية: حاضرة، والضريع: قال الحسن وجماعة: هو الزقوم، وقال ابن عباس وغيره: الضريع شبرق النار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم الضريع شوك في النار، * ت *: وهذا إن صح فلا [يعدل] عنه، وقيل غير هذا، ولما ذكر تعالى وجوه أهل النار عقب ذلك بذكر وجوه أهل الجنة ليبين الفرق، وقوله تعالى: { لسعيها } يريد لعملها في الدنيا وطاعتها، والمعنى لثواب سعيها؛ والتنعيم عليه، ووصف سبحانه الجنة بالعلو وذلك يصح من جهة المسافة والمكان، ومن جهة المكانة والمنزلة أيضا.
[88.11-13]
{ لا تسمع فيها لغية } قيل: المعنى كلمة لاغية، وقيل جماعة لاغية، أو فئة لاغية، واللغو سقط القول، قال الفخر: قوله تعالى: { فيها سرر مرفوعة } أي عالية في الهواء؛ وذلك لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه الله تعالى في الجنة من النعيم والملك، قال خارجة بن مصعب: بلغنا أن بعضها فوق بعض فترتفع ما شاء الله؛ فإذا جاء ولي الله ليجلس عليها تطامنت له فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث شاء الله سبحانه، انتهى.
[88.14-22]
{ وأكواب موضوعة } أي: بأشربتها معدة، والنمرقة: الوسادة، والزرابي: واحدها زربية، وهي كالطنافس لها خمل؛ قاله الفراء، وهي ملونات و { مبثوثة } معناه كثيرة متفرقة، ثم وقفهم سبحانه على مواضع العبرة في مخلوقاته، و { الإبل } في هذه الآية هي الجمال المعروفة هذا قول الجمهور، وفي الجمل آيات وعبر لمن تأمل، وكان شريح القاضي يقول لأصحابه: اخرجوا بنا إلى الكناسة، حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت، وقال المبرد: الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك، إذ تأتي أرسالا كالإبل، و { نصبت }: معناه: أثبتت قائمة في الهواء، وظاهر الآية أن الأرض سطح لا كرة، وهو الذي عليه أهل العلم، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى، ثم نفى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مصيطرا على الناس، أي: قاهرا جابرا لهم مع تكبر متسلطا عليهم.
[88.23-26]
وقوله تعالى: { إلا من تولى وكفر } قال بعض المتأولين: الاستثناء متصل، والمعنى: إلا من تولى فإنك مصيطر عليه، فالآية على هذا لا نسخ فيها، وقال آخرون: الاستثناء منفصل، والمعنى: لست عليهم بمصيطر لكن من تولى وكفر فيعذبه الله، وهي آية موادعة منسوخة بالسيف وهذا هو القول الصحيح؛ لأن السورة مكية والقتال إنما نزل بالمدينة * ص *: وقرأ زيد بن أسلم: «إلا من تولى»: حرف تنبيه واستفتاح، انتهى، وقال ابن العربي في «أحكامه»: روى الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله "
، ثم قرأ: { فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر } مفسرا معنى الآية وكاشفا خفاء الخفاء عنها، المعنى: إذا قال الناس: لا إله إلا الله فلست بمسلط على سرائرهم وإنما عليك الظاهر، وكل سرائرهم إلى الله تعالى، وهذا الحديث صحيح المعنى، والله أعلم، انتهى، { إيابهم }: مصدر من آب يؤوب: إذا رجع.
[89 - سورة الفجر]
[89.1-4]
الفجر هنا عند الجمهور: هو المشهور المعروف الطالع كل يوم، وقال ابن عباس وغيره: الفجر الذي أقسم الله به صلاة الصبح، وقيل غير هذا. [واختلف في الليالي العشر فقيل: العشر الأول من رمضان، وقيل: العشر الأواخر منه، وقيل: عشر ذي الحجة، وقيل: غير هذا] والله أعلم بما أراد، فإن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في هذا صير إليه، واختلف في «الشفع والوتر» ما هما؟ على أقوال كثيرة، وروى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" هي الصلوات منها الشفع ومنها الوتر "
، وسري الليل: هو ذهابه وانقراضه؛ هذا قول الجمهور، وقيل: المعنى: إذا يسرى فيه.
[89.5-14]
{ هل فى ذلك قسم لذى حجر } أي: هل في هذه الأقسام مقنع لذي عقل؟ ثم وقف تعالى على مصارع الأمم الخالية «وعاد»: قبيلة بلا خلاف، واختلف في: «إرم» فقال مجاهد: هي القبيلة بعينها، وقال ابن إسحاق: إرم: هو أبو عاد كلها، وقال الجمهور: إرم: مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن، واختلف في قوله تعالى: { ذات العماد } فمن قال: إرم مدينة قال: العماد أعمدة الحجارة التي بنيت بها، وقيل القصور العالية، والأبراج يقال لها عماد، ومن قال إرم قبيلة قال: العماد إما أعمدة بنيانهم، وإما أعمدة بيوتهم التي يرحلون بها؛ قاله جماعة والضمير في { مثلها } يعود إما على المدينة وإما على القبيلة.
و { جابوا الصخر } معناه: خرقوه ونحتوه، وكانوا في واديهم قد نحتوا بيوتهم في حجارة، و { فرعون } هو فرعون موسى، واختلف في أوتاده فقيل: أبنيته العالية، وقيل جنوده الذين بهم يثبت ملكه، وقيل المراد أوتاد أخبية عساكره، وذكرت لكثرتها؛ قاله ابن عباس، وقال مجاهد: كان يوتد الناس بأوتاد حديد، يقتلهم بذلك: يضربها في أبدانهم حتى تنفذ إلى الأرض، وقيل: غير هذا، والصب مستعمل في السوط وإنما خص السوط بأن يستعار للعذاب؛ لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف، ولا غيره وقال بعض اللغويين: السوط هنا مصدر من ساط يسوط إذا خلط فكأنه قال خلط عذاب.
* ص *: قال ابن الأنباري: { إن ربك لبالمرصاد } هو جواب القسم، وقيل: محذوف، وقيل: الجواب: { هل فى ذلك } و { هل } بمعنى «إن» وليس بشيء، انتهى، و { المرصاد } والمرصد: موضع الرصد، قاله بعض اللغويين، أي: أنه تعالى عند لسان كل قائل ومرصد لكل فاعل، وإذا علم العبد أن مولاه له بالمرصاد ودامت مراقبته في الفؤاد، حضره الخوف والحذر لا محالة،
واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه
[البقرة:235] قال أبو حامد في «الإحياء»: وبحسب معرفة العبد بعيوب نفسه، ومعرفته بجلال ربه وتعاليه واستغنائه، وأنه لا يسأل عما يفعل؛ تكون قوة خوفه، فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا أخوفكم لله "
، ولذلك قال تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28] ثم إذا كملت المعرفة أورثت الخوف واحتراق القلب، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن فتنقمع الشهوات، وتحترق بالخوف، ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والاستكانة، ويصير العبد مستوعب الهم بخوفه والنظر في خطر عاقبته؛ فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضنة الأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات، ثم قال: واعلم أنه لا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف، انتهى.
[89.15-21]
وقوله سبحانه: { فأما الإنسن إذا ما ابتله ربه... } الآية، ذكر تعالى في هذه الآية ما كانت قريش تقوله وتستدل به على إكرام الله وإهانته لعبده، وجاء هذا التوبيخ في الآية لجنس الإنسان، إذ قد يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع، و { ابتله } معناه: اختبره، و { نعمه } أي جعله ذا نعمة.
«وقدر» بتخفيف الدال بمعنى: ضيق، ثم قال تعالى: { كلا } ردا على قولهم ومعتقدهم، أي: ليس إكرام الله تعالى وإهانته كذلك، وإنما ذلك ابتلاء فحق من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر، وأما إكرام الله فهو بالتقوى وإهانته فبالمعصية، و { طعام } في هذه الآية بمعنى: إطعام، ثم عدد عليهم جدهم في أكل التراث، لأنهم كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد، وإنما كان يأخذ المال من يقاتل ويحمي الحوزة، و«اللم» الجمع واللف، قال الحسن: هو أن يأخذ في الميراث حظه وحظ غيره، والجم الكثير الشديد؛ ومنه قول الشاعر: [الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما
ومنه الجم من الناس، ودك الأرض تسويتها.
[89.22-23]
وقوله تعالى: { وجاء ربك } معناه جاء أمره وقضاؤه، وقال منذر بن سعيد: معناه ظهوره للخلق، هنالك؛ ليس مجيء نقلة وكذلك مجيء الصاخة، ومجيء الطامة، والملك اسم جنس يريد به جميع الملائكة، و { صفا } أي صفوفا حول الأرض يوم القيامة على ما تقدم في غير هذا الموضع، و { وجاىء يومئذ بجهنم } روي في قوله تعالى: { وجاىء يومئذ بجهنم } بأنها تساق إلى المحشر بسبعين ألف زمام يمسك كل زمام سبعون ألف ملك، فيخرج منها عنق فينتقي الجبابرة من الكفار، في حديث طويل باختلاف ألفاظ.
وقوله تعالى: { يومئذ يتذكر الإنسن } معناه: يتذكر عصيانه وما فاته من العمل الصالح، وقال الثعلبي: «يومئذ يتذكر الإنسان» أي يتعظ ويتوب، «وأنى له الذكرى»، انتهى.
[89.24-30]
وقوله: { يليتنى قدمت لحياتى } قال الجمهور: معناه لحياتي الباقية يريد في الآخرة.
{ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد } أي لا يعذب كعذاب الله أحد في الدنيا، ولا يوثق كوثاقه أحد، ويحتمل المعنى أن الله تعالى لا يكل عذاب الكافر يومئذ إلى أحد، وقرأ الكسائي بفتح الذال والثاء أي: لا يعذب كعذاب الكافر أحد من الناس، ثم عقب تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال: { يأيتها النفس المطمئنة } الآية، والمطمئنة معناه: الموقنة غاية اليقين، ألا ترى قول إبراهيم عليه السلام
ولكن ليطمئن قلبى
[البقرة:260] فهي درجة زائدة على الإيمان، واختلف في هذا النداء: متى يقع؟ فقال جماعة: عند خروج روح المؤمن، وروي في ذلك حديث، و { فى عبادى } أي: في عداد عبادي الصالحين، وقال قوم: النداء عند قيام الأجساد من القبور، فقوله: { ارجعى إلى ربك } معناه بالبعث، و«ادخلي في عبادي» أي في الأجساد، وقيل: النداء هو الآن للمؤمنين، وقال آخرون: هذا النداء إنما هو في الموقف عندما ينطلق بأهل النار إلى النار. * ت *: ولا مانع أن يكون النداء في جميع هذه المواطن، ولما تكلم ابن عطاء الله في مراعاة أحوال النفس قال: رب صاحب ورد عطله عن ورده والحضور فيه مع ربه هم التدبير في المعيشة وغيرها من مصالح النفس، وأنواع وساوس الشيطان في التدبير لا تنحصر، ومتى أعطاك الله سبحانه الفهم عنه عرفك كيف تصنع، فأي عبد توفر عقله واتسع نوره نزلت عليه السكينة من ربه فسكنت نفسه عن الاضطراب، ووثقت بولي الأسباب، فكانت مطمئنة، أي: خامدة ساكنة مستسلمة لأحكام الله ثابتة لأقداره وممدودة بتأييده وأنواره، فاطمأنت لمولاها؛ لعلمها بأنه يراها:
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53] فاستحقت أن يقال لها: { يأيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى ربك راضية مرضية } وفي الآية خصائص عظيمة لها منها ترفيع شأنها بتكنيتها ومدحها بالطمأنينة ثناء منه سبحانه عليها بالاستسلام إليه والتوكل عليه، والمطمئن المنخفض من الأرض، فلما انخفضت بتواضعها وانكسارها؛ أثنى عليها مولاها، ومنها قوله: { راضية } أي: عن الله في الدنيا بأحكامه، و { مرضية } في الآخرة بجوده وإنعامه، وفي ذلك إشارة للعبد أنه لا يحصل له أن يكون مرضيا عند الله في الآخرة حتى يكون راضيا عن الله في الدنيا، انتهى من «التنوير».
[90 - سورة البلد]
[90.1-2]
قوله تعالى: { لا أقسم بهذا البلد } الكلام في لا تقدم في
لا أقسم
[القيامة:1] والبلد هو: «مكة».
وقوله تعالى: { وأنت حل } قال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حلال بهذا البلد، يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة، وعلى هذا يتركب قول من قال: السورة مدنية نزلت عام الفتح، وقال آخرون: المعنى وأنت حال ساكن بهذا البلد.
[90.3-10]
وقوله تعالى: { ووالد وما ولد } قال مجاهد: هو آدم وجميع ولده، وقال ابن عباس: ما معناه أن الوالد والولد هنا على العموم فهي أسماء جنس يدخل فيها جميع الحيوان، والقسم واقع على قوله: { لقد خلقنا الإنسن فى كبد } قال الجمهور: الإنسان اسم جنس والكبد المشقة والمكابدة، أي: يكابد أمر الدنيا والآخرة، وروي: أن سبب نزول هذه الآية رجل من قريش يقال له أبو الأشد، وقيل نزلت في عمرو بن عبد ود، وقال: مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل؛ أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة، فقال: لقد أهلكت مالا في الكفارات والنفقات، مذ تبعت محمدا، وكان كل واحد منهم ادعى أنه أنفق مالا كثيرا على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو في الكفارات على ما تقدم.
وقوله: { أهلكت مالا لبدا } أي: أنفقت مالا كثيرا، ومن قال: أن المراد اسم الجنس غير معين، جعل قوله: { أيحسب أن لم يره أحد } بمعنى: أيظن الإنسان أن ليس عليه حفظة يرون أعماله ويحصونها؛ إلى يوم الجزاء، قال السهيلي: وهذه الآية وإن نزلت في أبي الأشد فإن الألف واللام في الإنسان للجنس، فيشترك معه في الخطاب كل من ظن ظنه وفعل مثل فعله وعلى هذا أكثر القرآن، ينزل في السبب الخاص بلفظ عام يتناول المعنى العام انتهى، وخرج مسلم عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله، من أين اكتسبه وفيم أنفقه "
، وخرجه أيضا الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح، انتهى، وقرأ الجمهور: { لبدا } أي: كثيرا متلبدا بعضه فوق بعض، ثم عدد تعالى على الإنسان نعمه في جوارحه، و { النجدين }: قال ابن عباس والناس: هما طريقا الخير والشر، أي: عرضنا عليه طريقهما، وليست الهداية هنا بمعنى الإرشاد، وقال الضحاك: النجدان ثديا الأم، وهذا مثال، والنجد: الطريق المرتفع.
[90.11-16]
وقوله تعالى: { فلا اقتحم العقبة } الآية، قوله «فلا» هو عند الجمهور تحضيض بمعنى: ألا اقتحم، والعقبة في هذه الآية على عرف كلام العرب استعارة لهذا العمل الشاق على النفس، من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل، و { اقتحم }: معناه: دخلها وجاوزها بسرعة وضغط وشدة، ثم عظم تعالى أمر العقبة في النفوس بقوله: { وما أدراك ما العقبة } ثم فسر اقتحام العقبة بقوله: { فك رقبة } الآية، وهذا على قراءة من قرأ: { فك رقبة } بالرفع على المصدر وأما من قرأ: «فك رقبة أو أطعم» على الفعل، ونصب الرقبة، وهي قراءة أبي عمرو، فليس يحتاج أن يقدر: وما أدراك ما اقتحام بل يكون التعظيم للعقبة نفسها ويجيء { فك } بدلا من { اقتحم } ومبينا له، وفك الرقبة هو عتقها من ربقة الأسر أو الرق، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار "
، والمسغبة: المجاعة، والساغب: الجائع و { ذا مقربة }: معناه: ذا قرابة؛ لتجتمع الصدقة والصلة، و { ذا متربة }: معناه: مدقعا قد لصق بالتراب وهذا ينحو إلى أن المسكين أشد فاقة من الفقير ، قال سفيان: هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب لا بيوت لهم، وقال ابن عباس: هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إلى بيته مستيقنا أنه ليس فيه إلا التراب.
[90.17-20]
وقوله تعالى: { ثم كان } معطوف على قوله: { اقتحم } والمعنى: ثم كان وقت اقتحامه العقبة من الذين آمنوا.
وقوله تعالى: { وتواصوا بالصبر } معناه: على طاعة الله وبلائه وقضائه وعن الشهوات والمعاصي، و { المرحمة } قال ابن عباس: كل ما يؤدي إلى رحمة الله تعالى، وقال آخرون: هو التراحم والتعاطف بين الناس، وفي ذلك قوام الناس؛ ولو لم يتراحموا جملة لهلكوا، و { الميمنة } ، فيما روي عن يمين العرش وهو موضع الجنة، ومكان المرحومين من الناس، و { المشئمة }: الجانب الأشأم وهو الأيسر؛ وفيه جهنم؛ وهو طريق المعذبين، و { مؤصدة } معناه: مطبقة مغلقة.
[91 - سورة الشمس]
[91.1-2]
أقسم الله تعالى بالشمس: إما على التنبيه منها على الاعتبار المؤدي إلى معرفة الله تعالى، وإما على تقدير ورب الشمس، والضحى بالضم والقصر : ارتفاع ضوء الشمس وإشراقه، قاله مجاهد وقال مقاتل: { ضحها } حرها كقوله في طه:
ولا تضحى
،[طه:119] والضحاء بفتح الضاد والمد : ما فوق ذلك إلى الزوال، والقمر يتلو الشمس من أول الشهر إلى نصفه في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو، ويتلوها في النصف الآخر بنحو آخر وهو أن تغرب هي فيطلع هو، وقال الحسن: { تلها } معناه تبعها دأبا في كل وقت لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك، وقال الزجاج وغيره: تلاها في المنزلة من الضياء والقدر: لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر.
[91.3-7]
وقوله: { والنهار } ظاهر هذه السورة والتي بعدها أن النهار من طلوع الشمس، وكذلك قال الزجاج في كتاب «الأنواء» وغيره، واليوم من طلوع الفجر، ولا يختلف أن نهايتهما مغيب الشمس، والضمير في { جلها } يحتمل أن يعود على الشمس، ويحتمل أن يعود على الأرض، أو على الظلمة، وإن كان لم يجر لذلك ذكر، فالمعنى يقتضيه؛ قاله الزجاج، و«جلى» معناه كشف وضوى والفاعل ب«جلى» على هذه التأويلات النهار ، ويحتمل أن يكون الفاعل الله تعالى، كأنه قال: والنهار، إذ جلى الله الشمس، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته، و«يغشى» معناه: يغطي، والضمير للشمس على تجوز في المعنى أو للأرض.
وقوله تعالى: { وما بنها } وكل ما بعده من نظائره في السورة يحتمل أن تكون «ما» فيه بمعنى الذي قاله أبو عبيدة، أي: ومن بناها، وهو قول الحسن ومجاهد، فيجيء القسم بالله تعالى، ويحتمل أن تكون ما في جميع ذلك مصدرية؛ قاله قتادة والمبرد والزجاج، كأنه قال: والسماء وبنائها، و«طحا» بمعنى: دحا، * ت *: قال الهروي: قوله تعالى: { والأرض وما طحها } أي بسطها فأوسعها، ويقال طحا به الأمر أي اتسع به في المذهب، انتهى، والنفس التي أقسم بها سبحانه اسم جنس، وتسويتها إكمال عقلها ونظرها.
الثعلبي { فسواها } أي: عدل خلقها، انتهى.
[91.8-15]
وقوله سبحانه: { فألهمها فجورها وتقواها } أي: عرفها طرق ذلك، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب الفجور أو اكتساب التقوى، وجواب القسم في قوله: { قد أفلح } والتقدير: لقد أفلح، زاد * ص *: وحذفت اللام للطول، انتهى، والفاعل ب«زكى» يحتمل أن يكون الله تعالى؛ قاله ابن عباس وغيره، ويحتمل أن يكون الإنسان؛ قاله الحسن وغيره، و { زكها } أي طهرها ونماها بالخيرات و { دسها } معناه: أخفاها وحقرها وصغر قدرها بالمعاصي والبخل بما يجب وأصل «دسى»: دسس؛ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ودسست عمرا في التراب فأصبحت
حلائله منه أرامل ضيعا
ت *: قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: ومن عيوب النفس الشفقة عليها، والقيام بتعهدها وتحصيل مآربها، ومداواتها الإعراض عنها وقلة الاشتغال بها، كذلك سمعت جدي يقول: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه، انتهى من تأليفه في عيوب النفس، وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال:
" اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها "
، قال
" صاحب الكلم الفارقية والحكم الحقيقية "
النفس الزكية زينتها نزاهتها، وعافيتها عفتها، وطهارتها ورعها، وغناها ثقتها بمولاها؛ وعلمها بأنه لا ينساها، انتهى، ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه؛ ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم، وينتهى عن مثل فعلهم، والطغوى: مصدر وقال ابن عباس: الطغوى هنا العذاب. كذبوا به حتى نزل بهم ويؤيده قوله تعالى:
فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية
[الحاقة:5] وقال جمهور من المتأولين: الباء سببية والمعنى: كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها، و { أشقها }: هو قدار بن سالف، وقد تقدم قصصهم، * ت *: و { ناقة الله وسقيها } قيل: نصب بفعل مضمر تقديره احفظوا أو ذروا، وقال * ص *: { ناقة الله } الجمهور: بنصب { ناقة } على التحذير أي احذروا ناقة الله، وهو مما يجب إضمار عامله، انتهى، و { دمدم } معناه أنزل العذاب مقلقلا لهم مكررا ذلك، وهي الدمدمة، الثعلبي قال مؤرج: الدمدمة أهلاك باستئصال، انتهى، وكذلك قال أبو حيان، وقال الهروي: قال الأزهري: { فدمدم عليهم ربهم } أي: أطبق عليهم العذاب، وقيل { فدمدم عليهم } أي: غضب عليهم، انتهى.
وقوله تعالى: { فسواها } أي فسوى القبيلة في الهلاك؛ لم ينج منهم أحد، وقرأ نافع وابن عامر: «فلا يخاف عقباها» والمعنى: فلا درك على الله تعالى في فعله بهم؛ وهذا قول ابن عباس والحسن، ويحتمل أن يكون الفاعل ب { يخاف } صالحا عليه السلام أي: لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم؛ إذ كان قد أنذرهم، وقرأ الباقون: «ولا يخاف» بالواو فتحتمل الوجهين، وتحتمل هذه القراءة وجها ثالثا: أن يكون الفاعل ب { يخاف } المنبعث؛ قاله الزجاج والضحاك والسدي، وغيرهم، وتكون الواو واو الحال، كأنه قال: انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله.
[92 - سورة الليل]
[92.1-2]
أقسم تعالى بالليل إذا غشي الأرض وجميع ما فيها، وبالنهار إذا تجلى، أي: ظهر وضوى الآفاق، وقال * ص *: { يغشى }: مفعوله محذوف فيحتمل أن يكون النهار كقوله:
يغشي الليل النهار
[الأعراف:54] أو الشمس؛ كقوله تعالى:
واليل إذا يغشها
[الشمس:4] وقيل الأرض وما فيها، انتهى.
[92.3-14]
وقوله تعالى: { وما خلق الذكر والأنثى } يحتمل أن تكون «ما» بمعنى: «الذي» ويحتمل أن تكون مصدرية، والذكر والأنثى هنا عام، وقال الحسن: المراد آدم وحواء، والسعي العمل، فأخبر تعالى مقسما أن أعمال العباد شتى، أي: مفترقة جدا؛ بعضها في رضى الله، وبعضها في سخطه، ثم قسم تعالى الساعين فقال: { فأما من أعطى واتقى } الآية، ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
وقوله تعالى: { وصدق بالحسنى } قيل هي: لا إله إلا الله، وقيل: هي الخلف الذي وعد الله به، وقيل: هي الجنة، وقال كثير من المتأولين: الحسنى: الأجر والثواب مجملا، والعسرى: الحال السيئة في الدنيا والآخرة، ومن جعل { بخل } في المال خاصة؛ جعل { استغنى } في المال أيضا، لتعظم المذمة، ومن جعل { بخل } عاما في جميع ما ينبغي أن يبذل، من قول أو فعل؛ قال: { استغنى } عن الله ورحمته بزعمه، وظاهر قوله: { وما يغنى عنه ماله } أن الإعطاء والبخل المذكورين إنما هما في المال.
وقوله تعالى: { إذا تردى } ، قال قتادة وغيره: معناه تردى في جهنم. وقال مجاهد: { تردى } معناه: هلك من الردى، وخرج البخاري وغيره عن علي رضي الله عنه قال:
" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة، فقال: ما منكم من أحد، أو ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة؛ فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء؛ فسيصير إلى عمل أهل الشقاء؟ قال: أما أهل السعادة، فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة، فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى } إلى قوله: { للعسرى } "
وفي رواية، لما قيل له:
" أفلا نتكل على كتابنا، قال: لا؛ بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له "
الحديث، وخرجه الترمذي أيضا، انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه»:
" وسأل شابان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم في شيء مستأنف؟ فقال: بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قالا: ففيم العمل إذن: قال: اعملوا؛ فكل ميسر لعمله الذي خلق له قالا: فالآن نجد ونعمل "
انتهى، وقال قوم : معنى تردى، أي: بأكفانه من الرداء؛ ومنه قول الشاعر:[الطويل]
نصيبك مما تجمع الدهر كله
رداءان تلوى فيهما وحنوط
ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعا، أي: تعريفهم بالسبل كلها، وليست هذه الهداية بالإرشاد إلى الإيمان، ولو كان ذلك لم يوجد كافر، قال البخاري: «تلظى»: توهج وقال الثعلبي: تتوقد، وتتوهج، انتهى.
[92.15-21]
وقوله سبحانه: { لا يصلها إلا الأشقى } المعنى: لا يصلاها صلي خلود، ومن هنا ضلت المرجئة؛ لأنها أخذت نفي الصلي مطلقا، ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالأتقى إلى آخر السورة أبو بكر الصديق، ثم هي تتناول كل من دخل في هذه الصفات، وباقي الآية بين، ثم وعده تعالى بالرضى في الآخرة وهذه [عدة] لأبي بكر رضي الله عنه .
[93 - سورة الضحى]
[93.1-6]
تقدم تفسير { والضحى } بأنه: سطوع الضوء وعظمه، وقال قتادة: { الضحى } هنا النهار كله و { سجى } معناه سكن واستقر ليلا تاما، وقيل: معناه أقبل، وقيل: معناه أدبر، والأول أصح، وعليه شواهد، وقال البخاري: قال مجاهد: { إذا سجى } استوى، وقال غيره: أظلم وسكن، انتهى،، وقرأ الجمهور: { ما ودعك } بشد الدال من التوديع وقرىء بالتخفيف بمعنى: ما تركك، وقال البخاري: { ما ودعك ربك } بالتشديد والتخفيف: ما تركك، انتهى.
و { قلى } أبغض، نزلت بسبب إبطاء الوحي مدة { وللأخرة } يعني: الدار الآخرة خير لك من الدنيا، { ولسوف يعطيك ربك فترضى } قيل: هي أرجى آية في القرآن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يرضى، وواحد من أمته في النار، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لما نزلت:
" إذن لا أرضى، وأحد من أمتي في النار "
قال عياض: وهذه آية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة في الدارين، انتهى، [* ت *: وفي «صحيح مسلم» من رواية عبد الله بن عمرو بن العاصي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام: { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم } [إبراهيم:36] وقول عيسى عليه السلام: { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [المائدة:118] فرفع يديه وقال: اللهم، أمتي أمتي، وبكى، فقال الله جل ثناؤه يا جبريل؛ اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك "
، انتهى مختصرا]، ثم وقف تعالى نبيه على المراتب التي درجه عنها بإنعامه فقال: { ألم يجدك يتيما فاوى }.
[93.7-11]
وقوله تعالى: { ووجدك ضالا فهدى } اختلف الناس في تأويله، والضلال يختلف، فمنه البعيد ومنه القريب؛ فالبعيد ضلال الكفار، وهذا قد عصم الله منه نبيه فلم يعبد صلى الله عليه وسلم صنما قط، ولا تابع الكفار على شيء مما هم عليه من الباطل، وإنما ضلاله صلى الله عليه وسلم هو كونه واقفا لا يميز المهيع، بل يدبر وينظر، وقال الترمذي وعبد العزيز بن يحيى: { ضالا } معناه: خامل الذكر لا يعرفك الناس؛ فهداهم إليك ربك، والصواب أنه ضلال من توقف لا يدري، كما قال عز وجل:
ما كنت تدرى ما الكتب ولا الإيمن
[الشورى:52] وقال الثعلبي: قال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة مفردة في فلاة سموها ضالة فيهتدى بها إلى الطريق، أي: فوجدتك وحيدا ليس معك نبي غيرك فهديت بك الخلق إلي، انتهى، قال عياض: وقال الجنيد: المعنى: ووجدك متحيرا في بيان ما أنزل إليك فهداك لبيانه، لقوله:
وأنزلنا إليك الذكر
[النحل:44] الآية، قال عياض: ولا أعلم أحدا من المفسرين قال فيها ضالا عن الإيمان، وكذلك في قصة موسى عليه السلام قوله:
فعلتها إذا وأنا من الضالين
[الشعراء:20] أي المخطئين، وقال ابن عطاء: { ووجدك ضالا } أي: محبا لمعرفتي، والضال: المحب، كما قال تعالى:
إنك لفى ضللك القديم
[يوسف:95] أي: محبتك القديمة، انتهى، والعائل: الفقير { فأغنى } أي: بالقناعة والصبر، ثم وصاه تعالى بثلاث وصايا؛ بإزاء هذه النعم الثلاث، و { السائل } هنا قال أبو الدرداء: هو السائل عن العلم، وقيل: هو سائل المال، وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال يحملنا زادنا إلى الآخرة.
وقوله تعالى: { وأما بنعمة ربك فحدث } قال مجاهد وغيره: معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به، قال عياض: وهذا الأمر يعم الأمة، انتهى، وقال آخرون: بل هو عموم في جميع النعم، وفي «سنن أبي داود» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، وأعطوا السائل، وإن جاء على فرس "
قال البغوي في «المصابيح»: هذا حديث مرسل انتهى.
[94 - سورة الشرح]
[94.1-8]
عدد الله تعالى على نبيه نعمه عليه في أن شرح صدره للنبوة، وهيأه لها، وذهب الجمهور إلى أن شرح الصدر المذكور إنما هو تنويره بالحكمة، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه، وقال ابن عباس وجماعة: هذه إشارة إلى شرحه بشق جبريل عنه في وقت صغره، وفي وقت الإسراء؛ إذا التشريح شق اللحم، والوزر الذي وضعه الله عنه هو عند بعض المتأولين الثقل الذي كان يجده صلى الله عليه وسلم في نفسه من أجل ما كانت قريش فيه من عبادة الأصنام؛ فرفع الله عنه ذلك الثقل بنبوته وإرساله، وقال أبو عبيدة وغيره: المعنى: خففنا عنك أثقال النبوة وأعناك على الناس، وقيل الوزر هنا: الذنوب، نظير قوله تعالى:
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك
[الفتح:2] وقد تقدم بيانه، الثعلبي: وقيل: معناه: عصمناك من احتمال الوزر، انتهى. { وأنقض } معناه: جعله نقضا، أي: هزيلا، من الثقل، قال عياض: ومعنى أنقض، أي: كاد ينقضه، انتهى، { ورفعنا لك ذكرك } أي نوهنا باسمك، قال * ع *: ورفع الذكر نعمة على الرسول وكذلك هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس، وخمول الاسم والذكر حسن للمنفردين للعبادة، والمعنى في هذا: التعديد: أنا قد فعلنا جميع هذا بك؛ فلا تكترث بأذى قريش؛ فإن الذي فعل بك هذه النعم سيظفرك بهم، قال عياض: وروى أبو سعيد الخدري؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أتاني جبريل فقال؛ إن ربي وربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله تعالى أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي "
، انتهى، ثم قوى سبحانه رجاءه بقوله: { فإن مع العسر يسرا } وكرر تعالى ذلك مبالغة، وذهب كثير من العلماء إلى أن مع كل عسر يسرين بهذه الآية، من حيث إن العسر معرف للعهد واليسر منكر فالأول غير الثاني، وقد جاء في هذا التأويل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لن يغلب عسر يسرين "
، ثم أمر تعالى نبيه إذا فرغ من شغل من أشغال النبوة والعبادة أن ينصب في آخره، والنصب: التعب، والمعنى: أن يدأب على ما أمر به ولا يفتر، وقال ابن عباس: إذا فرغت من فرضك فانصب في التنفل عبادة لربك، ونحوه عن ابن مسعود وعن مجاهد: «فإذا فرغت من العبادة فانصب في الدعاء».
وقوله تعالى: { وإلى ربك فارغب }: أمر بالتوكل على الله عز وجل وصرف وجوه الرغبات إليه لا إلى سواه.
[95 - سورة التين]
[95.1-8]
قال ابن عباس وغيره: «والتين والزيتون» المقسم بهما هما المعروفان، وقال السهيلي: أقسم تعالى بطور تينا، وطور زيتا، وهما جبلان عند بيت المقدس، وكذلك طور سيناء، ويقال: إن سيناء هي الحجارة، والطور عند أكثر الناس هو الجبل، وقال الماوردي: ليس كل جبل يقال له: طور إلا أن تكون فيه الأشجار والثمار، وإلا فهو جبل فقط، انتهى، { وطور سينين } جبل بالشام، و { البلد الأمين } مكة، والقسم واقع على قوله تعالى: { لقد خلقنا الإنسن فى أحسن تقويم } [أي: في أحسن تقويم] ينبغي له، وقال بعض العلماء بالعموم، أي: الإنسان أحسن المخلوقات تقويما، ولم ير قوم الحنث على من حلف بالطلاق أن زوجته أحسن من الشمس؛ محتجين بهذه الآية، وحسن التقويم يشمل جميع محاسن الإنسان الظاهرة والباطنة؛ من حسن صورته، وانتصاب قامته، وكمال عقله، وحسن تمييزه، والإنسان هنا اسم جنس، وتقدير الكلام: في تقويم أحسن تقويم؛ لأن { أحسن } صفة لا بد أن تجري على موصوف.
{ ثم رددنه أسفل سفلين } قال قتادة وغيره: معناه بالهرم وذهول العقل وهذه عبرة منصوبة، وعبارة الثعلبي: { فى أحسن تقويم } قيل: اعتداله واستواء شبابه، وهو أحسن ما يكون، { ثم رددنه أسفل سفلين } بالهرم؛ كما قال:
إلى أرذل العمر
[الحج:5]، والسافلون: الهرمى والزمنى والذين حبسهم عذرهم عن الجهاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عذرهم وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم، انتهى، وفي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم
" إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا "
وهكذا قال في الذين حبسهم العذر، انتهى، قال * ص *: { إلا الذين } قيل: منقطع بناء على أن معنى { أسفل سفلين }: بالهرم وذهول العقل، وقيل متصل بناء على أن معناه في النار على كفره، انتهى، قال * ع *: وفي حديث عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفف الله حسابه، فإذا بلغ ستين؛ رزقه الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ ثمانين كتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفرت ذنوبه وشفع في أهل بيته وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ مائة ولم يعمل شيئا كتب له مثل ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة "
، وفي حديث:
" إن المؤمن إذا رد إلى أرذل العمر كتب له خير ما كان يعمل في قوته "
وذلك أجر غير ممنون، ثم قال سبحانه إلزاما للحجة وتوبيخا للكافر: { فما يكذبك } أيها الإنسان، أي: فما يجعلك أن تكذب بعد هذه الحجة بالدين، وقال قتادة: المعنى: فمن يكذبك يا محمد، فيما تخبر به من الجزاء والحساب، وهو الدين، بعد هذه العبر، ويحتمل أن يريد ب { الدين } جميع دينه وشرعه،، وروي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ { أليس الله بأحكم الحكمين } قال: بلى؛ وأنا على ذلك من الشاهدين، قال ابن العربي في «أحكامه»: روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا قرأ أحدكم { أليس الله بأحكم الحكمين } فليقل: بلى؛ وأنا على ذلك من الشاهدين "
ومن رواية عبد الله:
" إذا قرأ أحدكم أو سمع: { أليس ذلك بقدر على أن يحيى الموتى } [القيامة:40] فليقل: بلى "
انتهى، * ت *: وهذان الحديثان، وإن كان قد ضعفهما ابن العربي فهما مما ينبغي ذكرهما في فضائل الأعمال، والله الموفق بفضله وكرمه.
[96 - سورة العلق]
[96.1-5]
[قوله تعالى: { اقرأ باسم ربك } ]: هو أول ما نزل من كتاب الله تعالى، نزل صدر [هذه الآية] إلى قوله: { ما لم يعلم } في غار حراء حسب ما ثبت في«صحيح البخاري» وغيره، ومعنى قوله: { اقرأ باسم ربك } أي: اقرأ هذا القرآن باسم ربك، أي: مبتدئا باسم ربك، ويحتمل أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو { باسم ربك الذى خلق } كأنه قيل له: اقرأ هذا اللفظ، والعلق: جمع علقة وهي القطعة اليسيرة من الدم، والإنسان هنا اسم جنس، ثم قال تعالى: { اقرأ وربك الأكرم } على جهة التأنيس كأنه يقول: امض لما أمرت به، وربك ليس كهذه الأرباب؛ بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص، ثم عدد تعالى نعمة الكتابة بالقلم على الناس، وهي من أعظم النعم.
و { علم الإنسن ما لم يعلم } قيل: هو آدم وقيل: [هو] اسم جنس؛ وهو الأظهر.
[96.6-13]
وقوله تعالى: { كلا إن الإنسن ليطغى } إلى آخر السورة نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طغى لغناه وكثرة من يغشى ناديه، فناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهاه عن الصلاة في المسجد، وقال: لئن رأيت محمدا يسجد عند الكعبة لأطأن عنقه، فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه القول وانتهره، وعبارة الداوودي: فتهدده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: أتهددني؟ أما والله إني لأكثر أهل الوادي ناديا فنزلت الآية، انتهى.
و { كلا } رد على أبي جهل، ويتجه أن تكون بمعنى: حقا، والضمير في { رءاه } للإنسان المذكور، كأنه قال: أن رأى نفسه غنيا وهي رؤية قلبية؛ ولذلك جاز أن يعمل فعل الفاعل في نفسه؛ كما تقول: وجدتني وظننتني، ثم حقر تعالى غنى هذا الإنسان وحاله بقوله: { إن إلى ربك الرجعى } أي: بالحشر والبعث يوم القيامة، وفي هذا الخبر وعيد للطاغين من الناس، ثم صرح بذكر الناهي لمحمد عليه السلام ، ولا خلاف أن الناهي أبو جهل، وأن العبد المصلي هو محمد عليه السلام .
[96.14-19]
وقوله تعالى: { ألم يعلم بأن الله يرى } إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوقيفات الثلاث، يصلح مع كل واحد منها، * ت *: وفي قوله تعالى: { ألم يعلم بأن الله يرى } ما يثير الهمم الراكدة، ويسيل العيون الجامدة، ويبعث على الحياء والمراقبة، قال الغزالي: اعلم أن الله مطلع على ضميرك، ومشرف على ظاهرك وباطنك، فتأدب أيها المسكين ظاهرا وباطنا بين يديه سبحانه؛ واجتهد أن لا يراك حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، ولا تدع عنك التفكر في قرب الأجل، وحلول الموت القاطع للأمل، وخروج الأمر من الاختيار، وحصول الحسرة والندامة بطول الاغترار، انتهى، ثم توعده تعالى لئن لم ينته ليؤخذن بناصيته، فيجر إلى جهنم ذليلا، تقول العرب: سفعت بيدي ناصية الفرس، والرجل إذا جذبتها مذللة، وقال بعض العلماء بالتفسير: معناه لتحرقن، من قولهم: سفعته النار، واكتفى بذكر الناصية لدلالتها على الوجه والرأس، والناصية مقدم شعر الرأس، ثم أبدل النكرة من المعرفة في قوله: { ناصية كذبة } ووصفها بالكذب والخطإ من حيث هي صفات لصاحبها.
قوله: { فليدع ناديه } أي أهل مجلسه، والنادي والندي: المجلس، ومنه دار الندوة، وقال البخاري قال مجاهد: ناديه: عشيرته.
وقوله: { سندع الزبانية } أي: ملائكة العذاب، ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام : { كلا لا تطعه } أي: لا تلتفت إلى نهيه وكلامه و { اسجد } لربك و { اقترب } إليه بسجودك، وفي الحديث:
" أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد، فأكثروا من الدعاء في السجود، فقمن أن يستجاب لكم "
، وروى ابن وهب عن جماعة من أهل العلم: أن قوله: { واسجد }: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأن قوله: { واقترب }: خطاب لأبي جهل، أي: إن كنت تجترىء حتى ترى كيف تهلك، * ت *: والتأويل الأول أظهر؛ يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "
وعن ربيعة بن كعب الأسلمي قال:
" كنت أبيت مع النبي صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل؛ فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود "
رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ الترمذي:
" كنت أبيت عند باب النبي صلى الله عليه وسلم فأعطيه وضوءه، فأسمعه الهوي من الليل يقول: سمع الله لمن حمده، وأسمعه الهوي من الليل يقول: الحمد لله رب العالمين "
، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وليس لربيعة في الكتب الستة سوى هذا الحديث، انتهى من «السلاح»، وروي أن أبا جهل جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فهم بأن يصل إليه، ويمنعه من الصلاة، ثم رجع وولى ناكصا على عقبيه متقيا بيديه، فقيل له: ما هذا؟ فقال: لقد عرض بيني وبينه خندق من نار، وهول وأجنحة، فيروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لو دنا مني لأخذته الملائكة عيانا "
* ت *: ولما لم ينته عدو الله أخذه الله يوم بدر، وأمكن منه، وذكر الوائلي الحافظ في كتاب «الإبانة» له من حديث مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر قال:
" بينا أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك طرفها أسود، فقال: يا عبد الله، اسقني، فقال ابن عمر: لا أدري أعرف اسمي، أو كما يقول الرجل: يا عبد الله، فقال لي الأسود: لا تسقه؛ فإنه كافر، ثم اجتذبه، فدخل الأرض، قال ابن عمر: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:«أو قد رأيته؟ ذلك عدو الله أبو جهل بن هشام، وهو عذابه إلى يوم القيامة "
انتهى من «التذكرة» للقرطبي، وقد ذكرت هذه الحكاية عن أبي عمر بن عبد البر بأتم من هذا عند قوله تعالى:
فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا
[فصلت:27].
[97 - سورة القدر]
[97.1-5]
قوله تعالى: { إنا أنزلنه } الضمير في { أنزلنه } للقرآن قال الشعبي وغيره: المعنى: إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر، وقد روي: أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان، فيستقيم هذا التأويل وقال ابن عباس وغيره: أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة، ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، وليلة القدر خصها الله تعالى بفضل عظيم، وجعلها أفضل من ألف شهر لا ليلة قدر فيها؛ قاله مجاهد وغيره، وخصت هذه الأمة بهذه الفضيلة لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعمار أمته وتقاصرها وخشي ألا يبلغوا من الأعمال مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله عز وجل ليلة القدر خيرا من ألف شهر، قال ابن العربي في «أحكامه»: وقد روى مالك هذا الحديث في «الموطأ»؛ ثبت ذلك من رواية ابن القاسم وغيره، انتهى، ثم فخمها سبحانه بقوله: { وما أدراك ما ليلة القدر } قال ابن عيينة في «صحيح البخاري»: ما كان في القرآن: { وما أدراك } فقد أعلمه، وما قال: { وما يدريك } فإنه لم يعلمه، وذكر ابن عباس وغيره: أنها سميت ليلة القدر؛ لأن الله تعالى يقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العام كلها، ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله، قال * ع *: وليلة القدر مستديرة في أوتار العشر الأواخر من رمضان؛ هذا هو الصحيح المعول عليه، وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر، وصح عن [أبي بن] كعب وغيره: أنها ليلة سبع وعشرين، ثم أخبر تعالى أن ليلة القدر خير من ألف شهر وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام وثلث عام، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه "
{ والروح }: هو جبريل عليه السلام وقيل هو صنف حفظة للملائكة، قال الفخر: وذكروا في الروح أقوالا: أحدها: أنه ملك عظيم لو التقم السموات والأرض كان ذلك له لقمة واحدة، وقيل: الروح: طائفة من الملائكة لا يراهم الملائكة إلا ليلة القدر، كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد، وقيل: خلق من خلق الله يأكلون [ويشربون] ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ولعلهم خدم أهل الجنة، وقيل: الروح أشرف الملائكة، وقال ابن أبي نجيح؛ الروح هم الحفظة الكرام الكاتبون والأصح أن الروح هاهنا هو جبريل، وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه، انتهى.
وقوله تعالى: { بإذن ربهم من كل أمر } الثعلبي أي: بكل أمر قدره الله وقضاه في تلك السنة إلى قابل؛ قاله ابن عباس، ثم تبتدىء فتقول : { سلم هى } ويحتمل أن يريد من كل فتنة سلامة، انتهى، قال * ع *: وعلى التأويل الأول، يجيء { سلم } خبر ابتداء مستأنفا، أي: سلام هي هذه الليلة إلى أول يومها، ثم ذكر ما تقدم، وقال الشعبي ومنصور: { سلم } بمعنى: التحية أي: تسلم الملائكة على المؤمنين.
[98 - سورة البينة]
[98.1-8]
[قوله تعالى: { لم يكن الذين كفروا } ] وفي حرف ابن مسعود: «لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين».
وقوله تعالى: { منفكين } معناه: منفصلين متفرقين، تقول: انفك الشيء عن الشيء؛ إذا انفصل عنه، وأما انفك التي هي من أخوات «كان» فلا مدخل لها هنا، قال مجاهد وغيره: لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة، وأوقع المستقبل موقع الماضي في تأتيهم، والبينات: محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، قال الثعلبي: { والمشركين } يعني: من العرب وهم عبدة الأوثان، انتهى، وقال الفراء وغيره: لم يكونوا منفكين عن معرفة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة فتفرقوا عند ذلك، ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى؛ وذلك أن يكون المراد: لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله ونظره لهم حتى يبعث إليهم رسولا؛ تقوم عليهم به الحجة، وتتم على من آمن به النعمة فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى، والصحف المطهرة: القرآن في صحفه؛ قاله قتادة والضحاك، وقال الحسن: الصحف المطهرة في السماء، { فيها كتب } أي: أحكام كتب، و { قيمة } معناه قائمة معتدلة آخذة للناس بالعدل، ثم ذم تعالى أهل الكتاب في أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة؛ وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته، و { حنفاء }: جمع حنيف وهو المستقيم، وذكر الزكاة مع ذكر بني إسرائيل يقوي قول من قال: السورة مدنية؛ لأن الزكاة إنما فرضت بالمدينة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالمدينة، وقرأ الجمهور: «وذلك دين القيمة» على معنى الجماعة والفرقة القيمة، وقال * ص *: قراءة الجمهور: «وذلك دين القيمة» على تقدير الأمة القيمة ؛ أي: المستقيمة أو الكتب القيمة، وقرأ عبد الله: «وذلك الدين القيمة» بتعريف الدين ورفع القيمة صفة، والهاء فيه للمبالغة أو على تأويل أن الدين بمعنى الملة، انتهى، و { البرية } جميع الخلق؛ لأن الله تعالى براهم أي: أوجدهم بعد العدم.
وقوله تعالى: { رضى الله عنهم } قيل ذلك في الدنيا؛ فرضاه عنهم هو ما أظهره عليهم من أمارات رحمته، ورضاهم عنه؛ هو رضاهم بجميع ما قسم لهم من جميع الأرزاق والأقدار، وقال بعض الصالحين: رضى العباد عن الله رضاهم بما يرد من أحكامه، ورضاه عنهم أن يوفقهم للرضى عنه، وقال سري السقطي: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تطلب منه أن يرضى عنك، وقيل ذلك في الآخرة، وخص تعالى بالذكر أهل الخشية؛ لأنها رأس كل بركة وهي الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1-4]
[قوله تعالى: { إذا زلزلت الأرض } ] قد تقدم معنى الزلزلة، والأثقال: الموتى؛ قاله ابن عباس، وقيل أخرجت موتاها، وكنوزها، وقول الإنسان: { ما لها } هو على معنى التعجب من هول ما يرى، قال الجمهور: الإنسان هنا الكافر، وقيل عام في المؤمن والكافر، وإخبار الأرض قال ابن مسعود وغيره: هي شهادتها بما عمل عليها من عمل صالح وفاسد ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم:
" فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ".
ت *: وخرج الترمذي في «جامعه» عن أبي هريرة قال:
" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { يومئذ تحدث أخبارها } قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: فإن أخبارها: أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل علي يوم كذا كذا؛ فهذه أخبارها "
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ انتهى، وكذا رواه أبو بكر بن الخطيب، وفيه: عمل علي في يوم كذا وكذا وفي يوم كذا وكذا.
[99.5-8]
وقوله تعالى: { بأن ربك أوحى لها } الباء باء السبب وقال ابن عباس وغيره: المعنى أوحى إليها، قال * ص *: المشهور أن { أوحى } يتعدى ب «إلى» وعدي هنا باللام مراعاة للفواصل، وقال أبو البقاء: { لها } بمعنى إليها، انتهى.
وقوله سبحانه: { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } بمعنى: ينصرفون من موضع ورودهم مختلفي الأحوال، قال الجمهور: ورودهم بالموت، وصدورهم هو القيام إلى البعث والكل سائر إلى العرض ليرى عمله، ويقف عليه، وقيل: الورود هو ورود المحشر والصدر أشتاتا هو صدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ليروا جزاء أعمالهم.
وقوله جلت عظمته : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الآية، كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الجامعة الفاذة، ويروى أنه
" لما نزلت هذه السورة بكى أبو بكر وقال: يا رسول الله، أو أسأل عن مثاقيل الذر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أبا بكر، ما رأيته في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر، ويدخر لك الله مثاقيل ذر الخير إلى الآخرة "
، قال الداوودي: بينما عمر بن الخطاب بطريق مكة ليلا، إذا ركب مقبلين من جهة، فقال لبعض من معه: سلهم من أين أقبلوا؟ فقال له أحدهم: من الفج العميق، نريد البلد العتيق، فأخبر عمر بذلك، فقال: أوقعوا في هذا؟ قل لهم، فما أعظم، آية في كتاب الله، وأحكم آية في كتاب الله، وأعدل آية في كتاب الله، وأرجى آية في كتاب الله، وأخوف آية في كتاب الله؟ فقال له قائلهم: أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي [البقرة:255]، وأحكم آية في كتاب الله:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان
[النحل:90] وأعدل آية في كتاب الله: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وأرجى آية في كتاب الله:
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
[النساء:40] وأخوف آية في كتاب الله:
من يعمل سوءا يجز به
[النساء:123] فأخبر عمر بذلك، فقال لهم عمر: أفيكم ابن أم عبد؟ فقالوا: نعم، وهو الذي [كلمك]، قال عمر: كنيف مليء علما آثرنا به أهل القادسية على أنفسنا. قال الداوودي، ومعنى أعظم آية يريد في الثواب، انتهى.
[100 - سورة العاديات]
[100.1-6]
قال ابن عباس وغيره: المراد ب { والعديت }: الخيل؛ لأنها تعدو بالفرسان، وتضبح بأصواتها، وعن ابن مسعود وعلي أن { العديت } هنا: الإبل لأنها تضبح في عدوها، قال علي رضي الله عنه : والقسم بالإبل العاديات من عرفة ومن المزدلفة، إذا دفع الحاج، وبإبل غزوة بدر، والضبح تصويت جهير عند العدو، قال الداوودي: وهو الصوت الذي يسمع من أجوافها وقت الركض، انتهى.
وقوله تعالى: { فالموريت قدحا } قال علي وابن مسعود هي: الإبل؛ وذلك بأنها [في] عدوها ترجم الحصباء بالحصباء فتتطاير منها النار، فذلك القدح، وقال ابن عباس: هي الخيل؛ وذلك بحوافرها في الحجارة، وقال ابن عباس أيضا وجماعة الكلام عام يدخل في القسم كل من يظهر بقدحه نارا. * ص *: { قدحا } أبو البقاء: مصدر مؤكد؛ لأن الموري هو القادح، انتهى، { فالمغيرت صبحا } قال علي وابن مسعود هي: الإبل من مزدلفة إلى منى، وفي بدر، وقال ابن عباس وجماعة كثيرة: هي الخيل، واللفظة من الغارة في سبيل الله وغير ذلك من سير الأمم وعرف الغارات أنها مع الصباح، والنفع الغبار الساطع المثار، والضمير في { به } ظاهره أنه للصبح المذكور، ويحتمل أن يكون للمكان والموضع الذي يقتضيه المعنى، ومشهور إثارة النقع هو للخيل، وقال علي: هو هنا للإبل.
{ فوسطن به جمعا } قال علي وابن مسعود هي: الإبل، و { جمعا } هي المزدلفة، وقال ابن عباس وجماعة: هي الخيل، والمراد جمع من الناس هم المغزوون، والقسم واقع على قوله: { إن الإنسن لربه لكنود } وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أتدرون ما الكنود؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هو الكفور الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده "
، وقد يكون في المؤمنين الكفور بالنعمة فتقدير الآية: إن الإنسان لنعمة ربه لكنود، وأرض كنود: لا تنبت شيئا، والكنود: العاصي بلغة كندة، ويقال للبخيل: كنود، وفي البخاري عن مجاهد: الكنود الكفور، انتهى.
[100.7-11]
وقوله تعالى: { وإنه على ذلك لشهيد } يحتمل الضمير أن يعود على الله تعالى؛ وقاله قتادة، ويحتمل أن يعود على الإنسان؛ أنه شاهد على نفسه بذلك ؛ وهذا قول مجاهد وغيره.
{ وإنه لحب الخير لشديد } أي: وإن الإنسان لحب الخير، والمعنى من أجل حب الخير، { لشديد } أي: بخيل بالمال ضابط له، والخير هنا المال، ويحتمل أن يراد هنا الخير الدنيوي من مال، وصحة، وجاه عند الملوك، ونحوه؛ لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك، وأما [الحب في خير الآخرة فممدوح؛ مرجو له الفوز، وقال الفراء: معنى الآية: أن الإنسان لشديد الحب للخير ولما تقدم] الخير قبل «شديد» حذف من آخره؛ لأنه قد جرى ذكره؛ ولرؤوس الآي، انتهى.
وقوله تعالى: { أفلا يعلم } توقيف، أي: أفلا يعلم مآله ومصيره فيستعد له.
{ وحصل ما فى الصدور } ، أي: ميز وأبرز ما فيها ليقع الجزاء عليه، ويفسر هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
" يبعثون على نياتهم "
وفي قوله تعالى: { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } وعيد، * ص *: والعامل في { يومئذ لخبير } على تضمينه معنى: لمجاز؛ لأنه تعالى خبير دائما، انتهى.
[101 - سورة القارعة]
[101.1-11]
قال الجمهور: { القارعة } القيامة نفسها، والفراش: الطير الذي يتساقط في النار؛ ولا يزال يتقحم على المصباح، وقال الفراء: هو صغير الجراد الذي ينتشر في الأرض والهواء، وفي البخاري: { كالفراش المبثوث }: كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضا؛ كذلك الناس يومئذ؛ يجول بعضهم في بعض، انتهى، و { المبثوث } هنا معناه: المتفرق جمعه؛ وجملته موجودة متصلة، والعهن هو: الصوف والنفش خلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصيها.
وقوله تعالى: { فأمه هاوية } قال كثير من المفسرين: المراد بالأم نفس الهاوية، وهذا كما يقال للأرض أم الناس؛ لأنها تؤويهم، وقال أبو صالح وغيره: المراد أم رأسه؛ لأنهم يهوون على رؤوسهم؛ وروى المبرد
" أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال لرجل: لا أم لك، فقال: يا رسول الله، تدعوني إلى الهدى وتقول: لا أم لك، فقال عليه السلام : إنما أردت لا نار لك، قال الله تعالى: { فأمه هاوية } ".
[102 - سورة التكاثر]
[102.1-4]
قوله تعالى: { ألهكم التكاثر } أي: شغلكم المباهاة والمفاخرة بكثرة المال والأولاد والعدد، وهذا هجيرى أبناء الدنيا العرب وغيرهم؛ لا يتخلص منه إلا العلماء المتقون، قال الفخر: فالألف واللام في { التكاثر } ليس للاستغراق بل للمعهود السابق في الذهن، وهو التكاثر في الدنيا؛ ولذاتها وعلائقها؛ فإنه هو الذي يمنع عن طاعة الله وعبوديته؛ ولما كان ذلك مقررا في العقول ومتفقا عليه في الأديان لا جرم؛ حسن دخول حرف التعريف عليه؛ فالآية دالة على أن التكاثر والتفاخر بما ذكر مذموم، انتهى.
وقوله تعالى: { حتى زرتم المقابر } أي حتى متم فدفنتم في المقابر وهذا خبر فيه تقريع وتوبيخ وتحسر، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم
" يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت "
قال * ص *: قرأ الجمهور: «الهاكم» على الخبر، وابن عباس بالمد، والكسائي في رواية بهمزتين، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقرير، انتهى، قال الفخر: اعلم أن أهم الأمور وأولاها بالرعاية ترقيق القلب، وإزالة حب الدنيا منه، ومشاهدة القبور تورث ذلك؛ كما ورد به الخبر، انتهى.
وقوله تعالى: { كلا سوف تعلمون } زجر ووعيد، ثم كرر تأكيدا، ويأخذ كل إنسان من هذا الزجر والوعيد المكرر على قدر حظه من التوغل فيما يكره؛ هذا تأويل الجمهور، وقال علي: { كلا سوف تعلمون } في القبر، { ثم كلا سوف تعلمون } في البعث، قال الفخر: وفي الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دالة على أنه لو حصل اليقين لتركوا التكاثر والتفاخر؛ فهذا يقتضي أن من لا يترك التكاثر والتفاخر أن لا يكون اليقين حاصلا له؛ فالويل للعالم الذي لا يكون عاقلا؛ ثم الويل له، انتهى.
[102.5-8]
وقوله تعالى: { كلا لو تعلمون علم اليقين } جواب «لو» محذوف تقديره لازدجرتم، [وبادرتم] إنقاذ أنفسكم من الهلكة، واليقين أعلى مراتب العلم، ثم أخبر تعالى الناس أنهم يرون الجحيم، وقال ابن عباس: هذا خطاب للمشركين والمعنى على هذا التأويل: أنها رؤية دخول وصلي؛ وهو عين اليقين لهم، وقال آخرون: الخطاب للناس كلهم، فهي كقوله تعالى:
وإن منكم إلا واردها
[مريم:71] فالمعنى أن الجميع يراها؛ ويجوز الناجي ويتكردس فيها الكافر، * ص *: { لترون } ابن عامر والكسائي بضم التاء ، والباقون بفتحها، انتهى.
وقوله تعالى: { ثم لترونها عين اليقين } تأكيد في الخبر، وعين اليقين: حقيقته وغايته، ثم أخبر تعالى أن الناس مسؤولون يومئذ عن نعيمهم في الدنيا؛ كيف نالوه ولم آثروه، وتتوجه في هذا أسئلة كثيرة بحسب شخص شخص، وهي منقادة لمن أعطي فهما في كتاب الله عز وجل ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
" والذي نفسي بيده، لتسألن عن نعيم هذا اليوم "
، الحديث في الصحيح؛ إذ ذبح لهم أبو الهيثم بن التيهان شاة وأطعمهم خبزا ورطبا، واستعذب لهم ماء، وعن أبي هريرة في حديثه في مسير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى بيت أبي الهيثم، وأكلهم الرطب واللحم وشربهم الماء، وقوله صلى الله عليه وسلم هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، وإن ذلك كبر على أصحابه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا أصبتم مثل هذا وضربتم بأيديكم، فقولوا: باسم الله، وعلى بركة الله، وإذا شبعتم، فقولوا: الحمد لله الذي أشبعنا وأروانا، وأنعم علينا وأفضل، فإن هذا كفاف [بذاك] "
هذا مختصر رواه الحاكم في المستدرك، انتهى من «سلاح المؤمن» قال الداودي: وعن الحسن وقتادة: ثلاث لا يسأل الله عنهن ابن آدم وما عداهن فيه الحساب والسؤال؛ إلا ما شاء الله: كسوة يواري بها سوءته، وكسرة يشد بها صلبه، وبيت يكنه من الحر والبرد، انتهى.
[103 - سورة العصر]
[103.1-3]
قال ابن عباس: { والعصر } الدهر، وقال مقاتل: العصر هي صلاة العصر، وهي الوسطى، أقسم الله بها، وقال أبي بن كعب:
" سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن { والعصر } فقال: «أقسم ربكم بآخر النهار» "
، و { الإنسن } هنا اسم جنس والخسر: النقصان وسوء الحال، ومن كان من المؤمنين في مدة عمره في التواصي بالحق، والصبر، والعمل؛ بحسب الوصاة فلا خسر معه وقد جمع الخير كله.
[104 - سورة الهمزة]
[104.1-9]
تقدم تفسير: { ويل } وال { همزة }: الذي يهمز الناس بلسانه، أي: يعيبهم ويغتابهم، وال { لمزة }: قريب في المعنى من هذا، وقد تقدم بيانه في قوله تعالى:
ولا تلمزوا أنفسكم
[الحجرات:11]، وفي قوله:
الذين يلمزون المطوعين
[التوبة:79] وغيره ، قيل: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، وقيل في جميل بن عامر، ثم هي تتناول كل من اتصف بهذه الصفات.
{ وعدده } معناه: أحصاه وحافظ على عدده أن لا ينتقص، وقال الداوودي: { وعدده }: أي: استعده، انتهى، { لينبذن }: ليطرحن * ص *: { نار الله }: خبر مبتدإ محذوف، أي: هي نار الله، انتهى.
و { التى تطلع على الأفئدة }: أي: التي يبلغ إحراقها وألمها القلوب.
و«موصدة»: أي مطبقة مغلقة.
{ فى عمد } جمع عمود، وقرأ ابن مسعود: «مؤصدة بعمد ممددة» وقال ابن زيد: المعنى: في عمد حديد مغلولين بها، والكل في نار، عافانا الله من ذلك.
[105 - سورة الفيل]
[105.1-5]
هذه السورة تنبيه على العبرة في أخذ الله تعالى لأبرهة أمير الحبشة، حين قصد الكعبة ليهدمها، وكان صاحب فيل يركبه، وقصته شهيرة في السير فيها تطويل، واختصارها أن أبرهة بنى في اليمن بيتا وأراد أن يرد إليه حج العرب، فذهب أعرابي وأحدث في ذلك البيت، فغضب أبرهة واحتفل في جموعه، وركب الفيل وقصد مكة، فلما قرب منها، فرت قريش إلى الجبال والشعاب من معرة الجيش، ثم تهيأ أبرهة لدخول مكة وهيأ الفيل، فأخذ نفيل بن حبيب بأذن الفيل وكان اسمه محمودا، فقال له: ابرك، محمود؛ فإنك في حرم الله، وارجع من حيث جئت راشدا، فبرك الفيل بذي الغميس، فبعثوه فأبى فضربوا رأسه بالمعول، وراموه بمحاجنهم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول، فبعث الله عليهم طيرا جماعات جماعات سودا من البحر، عند كل طائر ثلاثة أحجار؛ في منقاره، ورجليه، كل حجر فوق العدسة ودون الحمصة، ترميهم بها، فماتوا في طريقهم متفرقين وتقطع أبرهة أنملة أنملة حتى مات، وحمى الله بيته، والأبابيل: الجماعات تجيء شيئا بعد شيء، قال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه، قال الفخر: و { فى تضليل } معناه: في تضييع وإبطال، يقال: ضلل كيده، إذا جعله ضالا ضائعا، ونظيره قوله تعالى:
وما كيد الكفرين إلا فى ضلل
[غافر:25] انتهى، والعصف: ورق الحنطة وتبنه، والمعنى صاروا طحينا ذاهبا كورق حنطة أكلته الدواب، وراثته، فجمع لهم المهانة والخسة والتلف، قال الفخر: وقيل المعنى: كعصف صالح للأكل، والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب؛ وهو قول عكرمة والضحاك، انتهى، ومن كتاب «وسائل الحاجات وآداب المناجات» للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى قال: وقد بلغنا عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب أنه من قرأ في ركعتي الفجر؛ في الأولى الفاتحة و«ألم نشرح»، وفي الثانية الفاتحة و«ألم تر كيف» قصرت يد كل عدو عنه، ولم يجعل لهم إليه سبيل، قال الإمام أبو حامد: وهذا صحيح لا شك فيه، انتهى.
[106 - سورة قريش]
[106.1-4]
قريش، ولد النضر بن كنانة، والتقرش: التكسب، والمعنى أن الله تعالى جعل قريشا يألفون رحلتين في العام، واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف، قال ابن عباس: كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف؛ حيث الماء والظل ويرحلون في الشتاء إلى مكة، قال الخليل: معنى الآية؛ لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من إلفهم هذه النعمة فليعبدوا رب هذا البيت.
وقوله تعالى: { من جوع } معناه أن أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضة للجوع والجدب؛ لولا فضل الله عليهم.
[107 - سورة الماعون]
[107.1-7]
قوله سبحانه: { أرءيت الذى يكذب بالدين } الآية، توقيف وتنبيه لتتذكر نفس السامع كل من تعرفه بهذه الصفة، والدين: الجزاء.
ودع اليتيم: دفعه بعنف؛ إما عن إطعامه والإحسان إليه، وإما عن حقه وماله، وهو أشد، ويروى أن هذه الآية نزلت في بعض المضطربين في الإسلام بمكة، لم يحققوا فيه، وفتنوا فافتتنوا، وربما كان يصلى بعضهم أحيانا مع المسلمين مدافعة وحيرة، فقال تعالى فيهم: { فويل للمصلين } الآية، ونقل الثعلبي عن ابن عباس وغيره؛ أن الآية نزلت في العاص بن وائل، انتهى، وقال السهيلي: قال أهل التفسير: نزل أول السورة بمكة في أبي جهل، وهو الذي يكذب بالدين، ونزل آخرها بالمدينة في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه، وهم الذين يراؤون ويمنعون الماعون، انتهى،
" قال سعد بن أبي وقاص: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن { الذين هم عن صلتهم ساهون } ، فقال: «هم الذين يؤخرونها عن وقتها» "
، يريد والله أعلم تأخير ترك وإهمال، وإلى هذا نحا مجاهد، وقال عطاء بن يسار: الحمد لله الذي قال: { عن صلتهم } ولم يقل: في صلاتهم.
وقوله تعالى: { الذين هم يراءون } بيان أن صلاة هؤلاء ليست لله تعالى بإيمان، وإنما هي رياء للبشر، فلا قبول لها.
وقوله تعالى: { ويمنعون الماعون } وصف لهم بقلة النفع لعباد الله، وتلك شر خصلة، وقال علي وابن عمر: { الماعون }: الزكاة، وقال ابن مسعود وابن عباس وجماعة: هو ما يتعاطاه الناس كالفأس، والدلو، والآنية، والمقص؛ ونحوه، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما الشيء الذي لا يحل منعه فقال: الماء والنار، والملح "
، وروته عائشة رضي الله عنها ، وفي بعض الطرق زيادة الإبرة، والخمير، قال البخاري: الماعون: المعروف كله، وقال بعض العرب: الماعون: الماء، وقال عكرمة: أعلاه الزكاة المفروضة، وأدناه عارية المتاع، انتهى.
[108 - سورة الكوثر]
[108.1-3]
قال جماعة من الصحابة والتابعين: { الكوثر } نهر في الجنة حافتاه قباب من لؤلؤ مجوف، وطينه مسك وحصباؤه ياقوت، ونحو هذا من صفاته، وإن اختلفت ألفاظ رواته، وقال ابن عباس: الكوثر: الخير الكثير قال ابن جبير: النهر الذي في الجنة هو من الخير الذي أعطاه الله إياه * ت *: وخرج مسلم عن أنس قال:
" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا؛ إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقال: نزلت علي آنفا سورة، فقرأ: { إنا أعطينك الكوثر } إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة "
الحديث، انتهى، وخرج ابن ماجه من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أول من يرد على الحوض فقراء المهاجرين الدنس ثيابا الشعث رؤوسا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد "
، قال الراوي: فبكى عمر بن عبد العزيز حتى اخضل لحيته، حين بلغه الحديث، وقال: لا جرم، إني لا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ، ولا أدهن رأسي حتى يشعث، وخرجه أبو عيسى الترمذي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، ونقل صاحب «التذكرة» عن أنس بن مالك قال: أول من يرد الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم الذابلون الناحلون السائحون الذين إذا أجنهم الليل استقبلوه بالحزن، انتهى من «التذكرة»،
" وروى أبو داود في سننه عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا، فقال:ما أنتم جزء من مائة ألف جزء ممن يرد علي الحوض، قال: قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: سبعمائة، أو ثمانمائة "
، انتهى.
وقوله تعالى: { فصل لربك وانحر } أمر بالصلاة على العموم، والنحر نحر الهدي، والنسك، والضحايا على قول الجمهور.
وقوله تعالى: { إن شانئك هو الأبتر } رد على مقالة بعض سفهاء قريش كأبي جهل وغيره، قال عكرمة وغيره: مات ولد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: بتر محمد، فنزلت السورة، وقال تعالى: { إن شانئك هو الأبتر } أي: المقطوع المبتور من رحمة الله، والشانىء المبغض، قال الداوودي: كل شانىء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أبتر، ليس له يوم القيامة شفيع ولا حميم يطاع، انتهى.
[109 - سورة الكافرون]
[109.1-6]
روي في سبب نزول هذه السورة؛ عن ابن عباس وغيره أن جماعة من صناديد قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: دع ما أنت فيه ونحن نمولك، ونملكك علينا، وإن لم تفعل هذا فلتعبد آلهتنا، ونعبد إلهك، حتى نشترك؛ فحيث كان الخير نلناه جميعا، وروي: أن هذه الجماعة المذكورة هم: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وأمية بن خلف، وأبي بن خلف، وأبو جهل، وأبناء الحجاج، ونظراؤهم ممن لم يكتب له الإسلام، وحتم بشقاوته، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم عن أمر الله عز وجل أنه لا يعبد ما يعبدون وأنهم غير عابدي ما يعبد، ولما كان قوله: { لا أعبد } محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستأنف منتظرا، ما يكون فيه من عبادته، جاء البيان بقوله: { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي: أبدا، ثم جاء قوله: { ولا أنتم عبدون ما أعبد } الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون به أبدا، كالذي كشف الغيب، ثم زاد الأمر بيانا وتبريا منهم قوله: { لكم دينكم ولى دين } وقال بعض العلماء: في هذه الألفاظ مهادنة ما؛ وهي منسوخة.
[110 - سورة النصر]
[110.1-3]
روت عائشة
" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأسلمت العرب، جعل يكثر أن يقول:«سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك» "
يتأول القرآن في هذه السورة، وقال لها مرة: ما أراه إلا حضور أجلي، وتأوله عمر والعباس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فصدقهما، ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره، { والفتح } هو فتح مكة؛ كذا فسره صلى الله عليه وسلم في «صحيح مسلم»، والأفواج: الجماعة إثر الجماعة، * ص *: { بحمد ربك } أي متلبسا، فالباء للحال، انتهى.
وقوله تعالى: { إنه كان توابا } بعقب { واستغفره } ترجية عظيمة للمستغفرين، قال ابن عمر: نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم بمنى في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع وعاش بعدها ثمانين يوما، أو نحوها.
[111 - سورة المسد]
[111.1-5]
في «صحيح البخاري» وغيره عن ابن عباس:
" لما نزلت: { وأنذر عشيرتك الأقربين } [الشعراء:214] ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؛ قالوا: نعم؛ ما جرينا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام فنزلت: { تبت يدا أبى لهب } إلى آخرها "
، و { تبت } معناه: خسرت والتباب الخسران، والدمار، وأسند ذلك إلى اليدين من حيث إن اليد موضع الكسب والربح، وضم ما يملك، ثم أوجب عليه أنه قد تب، أي: حتم ذلك عليه، وفي قراءة ابن مسعود: «وقد تب»، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم ولكن سبقت له الشقاوة، قال السهيلي: كناه الله بأبي لهب لما خلقه سبحانه للهب وإليه مصيره ألا تراه تعالى، قال: { سيصلى نارا ذات لهب } فكانت كنيته بأبي لهب تقدمت لما يصير إليه من اللهب، انتهى.
وقوله سبحانه: { ما أغنى عنه ماله } يحتمل أن تكون «ما» نافية على معنى الخبر، ويحتمل أن تكون «ما» استفهامية على وجه التقرير أي: أين الغناء الذي لماله وكسبه، { وما كسب } يراد به عرض الدنيا، من عقار، ونحوه، وقيل: كسبه بنوه.
وقوله سبحانه: { سيصلى نارا ذات لهب } حتم عليه بالنار وإعلام بأنه يتوفى على كفره، نعوذ بالله من سوء القضاء ودرك الشقاء.
وقوله تعالى: { وامرأته حمالة الحطب } هي أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب، وكانت مؤذية للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بلسانها وغاية قدرتها، وكانت تطرح الشوك في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق أصحابه ليعقرهم؛ فلذلك سميت حمالة الحطب؛ قاله ابن عباس، وقيل هو استعارة لذنوبها، قال عياض: وذكر عبد بن حميد قال: كانت حمالة الحطب تضع العضاه، وهي جمر على طريق النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما يطؤها كثيبا أهيل، انتهى، * ص *: وقرىء شاذا: «ومريئته» بالتصغير، والجيد هو العنق، انتهى.
وقوله تعالى: { فى جيدها حبل من مسد } قال ابن عباس وجماعة: الإشارة إلى الحبل حقيقة، الذي ربطت به الشوك، والمسد: الليف، وقيل ليف المقل، وفي «صحيح البخاري»: يقال من مسد ليف المقل وهي السلسلة التي في النار، انتهى، وروي في الحديث أن هذه السورة لما نزلت وقرئت؛ بلغت أم جميل فجاءت أبا بكر وهو جالس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر حجر، فأخذ الله ببصرها وقالت: يا أبا بكر؛ بلغني أن صاحبك هجاني، ولو وجدته لضربته بهذا الفهر، وإني لشاعرة وقد قلت فيه [منهوك الرجز]
مذمما قلينا
ودينه أبينا
فسكت أبو بكر، ومضت هي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفاني الله شرها.
[112 - سورة الإخلاص]
[112.1-4]
روي أن اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد؛ صف لنا ربك وانسبه، فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها، فارتعد النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم حتى خر مغشيا عليه، ونزل جبريل بهذه السورة.
و { أحد } معناه: واحد فرد من جميع جهات الوحدانية، ليس كمثله شيء و { هو } ابتداء، و { الله } ابتداء ثان، و { أحد } خبره والجملة خبر الأول، وقيل هو ابتداء و { الله } خبره و { أحد } بدل منه، وقرأ عمر بن الخطاب وغيره: «قل هو الله الواحد الصمد» و { الصمد } في كلام العرب السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويستقل بها وأنشدوا: [الطويل]
لقد بكر الناعي بخير بني أسد
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وبهذا تتفسر هذه الآية لأن الله تعالى جلت قدرته هو موجد الموجودات وإليه تصمد وبه قوامها سبحانه وتعالى .
وقوله تعالى: { لم يلد ولم يولد } رد على إشارة الكفار في النسب الذي سألوه، وقال ابن عباس: تفكروا في كل شيء ولا تتفكروا في ذات الله، قال * ع *: لأن الأفهام تقف دون ذلك حسيرة.
وقوله سبحانه: { ولم يكن له كفوا أحد } معناه ليس له ضد، ولا ند ولا شبيه،
ليس كمثله شىء وهو السميع البصير
[الشورى:11]، والكفؤ النظير و«كفوا» خبر كان واسمها { أحد }. قال * ص *: وحسن تأخير اسمها لوقوعه فاصلة، وله متعلق ب { كفؤا } أي: لم يكن أحد كفؤا له، وقدم اهتماما به لاشتماله على ضمير الباري سبحانه، انتهى، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم
" إن { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن "
، قال * ع *: لما فيها من التوحيد، وروى أبو محمد الدارمي في «مسنده» قال: حدثنا عبد الله بن مزيد حدثنا حيوة قال: أخبرنا أبو عقيل، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من قرأ: { قل هو الله أحد } إحدى عشرة مرة بني له قصر في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة، بني له قصران في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة؛ بني له ثلاثة قصور في الجنة. فقال عمر بن الخطاب: إذن تكثر قصورنا يا رسول الله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أوسع من ذلك "
[أي: فضل الله أوسع من ذلك]. قال الدارمي: أبو عقيل هو زهرة بن معبد، وزعموا أنه من الأبدال، انتهى من «التذكرة».
[113 - سورة الفلق]
[113.1-5]
قوله عز وجل: { قل أعوذ برب الفلق } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وآحاد أمته، قال ابن عباس وغيره: الفلق الصبح، وقال ابن عباس أيضا وجماعة من الصحابة: الفلق جب في جهنم، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { من شر ما خلق } يعم كل موجود له شر، واختلف في: «الغاسق» فقال ابن عباس وغيره: الغاسق الليل ووقب: أظلم، ودخل على الناس، وفي الحديث الصحيح عن عائشة
" أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر وقال: يا عائشة؛ تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب "
، قال السهيلي: وهذا أصح ما قيل لهذا الحديث الصحيح، انتهى، ولفظ صاحب «سلاح المؤمن»: عن عائشة رضي الله عنها
" أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر، فقال: يا عائشة؛ استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا الغاسق إذا وقب "
، رواه الترمذي والنسائي، والحاكم في «المستدرك»، واللفظ للترمذي، وقال حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووقب القمر وقوبا: دخل في الظل الذي يكسفه؛ قاله ابن سيدة، انتهى من «السلاح».
و { النفثت فى العقد } السواحر، ويقال: إن الإشارة أولا إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي؛ كن ساحرات، وهن اللواتي سحرن مع أبيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنفث شبه النفخ دون تفل ريق، وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط، ونحوها؛ على اسم المسحور فيؤذى بذلك.
قال * ع *: وهذا الشأن في زماننا موجود شائع في صحراء المغرب، وحدثني ثقة؛ أنه رأى عند بعضهم خيطا أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان، فمنعت بذلك رضاع أمهاتها فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين، فرضع، أعاذنا الله من شر السحر والسحرة.
وقوله تعالى: { ومن شر حاسد إذا حسد } قال قتادة: من شر عينه ونفسه، يريد ب«النفس»: السعي الخبيث، وقال الحسين بن الفضل: ذكر الله تعالى الشرور في هذه السورة، ثم ختمها بالحسد؛ ليعلم أنه أخس الطبائع.
[114 - سورة الناس]
[114.1-6]
قوله عز وجل: { قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس }: { الوسواس }: اسم من أسماء الشيطان، وقوله: { الخناس } معناه: الراجع على عقبه المستتر أحيانا، فإذا ذكر العبد الله تعالى وتعوذ، تذكر فأبصر؛ كما قال تعالى:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طئف...
[الأعراف:201] قال النووي: قال بعض العلماء: يستحب قول: لا إله إلا الله لمن ابتلي بالوسوسة في الوضوء والصلاة وشبههما؛ فإن الشيطان إذا سمع الذكر، خنس، أي: تأخر وبعد، و«لا إله إلا الله»: رأس الذكر؛ ولذلك اختار السادة الجلة من صفوة هذه الأمة أهل تربية السالكين وتأديب المريدين قول «لا إله إلا الله» لأهل الخلوة ، وأمروهم بالمداومة عليها، وقالوا: أنفع علاج في دفع الوسوسة الإقبال على ذكر الله تعالى والإكثار منه، وقال السيد الجليل أحمد بن أبي الحواري: شكوت إلى أبي سليمان الدراني الوسواس، فقال: إذا أردت أن ينقطع عنك، فأي وقت أحسست به، فافرح، فإنك إذا فرحت به، انقطع عنك؛ لأنه ليس شيء أبغض إلى الشيطان من سرور المؤمن، وإن اغتممت به، زادك، * ت *: وهذا مما يؤيد ما قاله بعض الأئمة؛ أن الوسواس إنما يبتلى به من كمل إيمانه؛ فإن اللص لا يقصد بيتا خربا. انتهى، * ت *: ورأيت في «مختصر الطبري» نحو هذا.
وقوله تعالى: { من الجنة } يعني: الشياطين، ويظهر أن يكون قوله: { والناس } يراد به: من يوسوس بخدعة من الشر، ويدعو إلى الباطل، فهو في ذلك كالشيطان، قال أحمد بن نصر الداودي: وعن ابن جريج: { من الجنة والناس } قال: «إنهما وسواسان، فوسواس من الجنة، ووسواس من نفس الإنسان» انتهى، وفي الحديث الصحيح،
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، فقرأ: «قل هو الله أحد»، و«قل أعوذ برب الفلق»، و«قل أعوذ برب الناس» ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما من رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده؛ يفعل ذلك ثلاث مرات صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ".
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى: عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي لطف الله به في الدارين: قد يسر الله عز وجل في إتمام تلخيص هذا المختصر؛ وقد أودعته بحول الله جزيلا من الدرر، قد استوعبت فيه - بحمد الله- مهمات ابن عطية، وأسقطت كثيرا من التكرار، وما كان من الشواذ في غاية الوهي، وزدت من غيره جواهر ونفائس لا يستغنى عنها مميزة معزوة لمحالها منقولة بألفاظها، وتوخيت في جميع ذلك الصدق والصواب، وإلى الله أرغب في جزيل الثواب، وقد نبهت بعض تنبيه، وعرفت بأيام رحلتي في طلب العلم بعض تعريف عند ختمي لتفسير سورة الشورى؛ فلينظر هناك، والله المسؤول أن يجعل هذا السعي منا خالصا لوجهه، وعملا صالحا يقربنا إلى مرضاته، ومن وجد في هذا الكتاب تصحيفا أو خللا فأرغب إليه أن يصلحه من الأمهات المنقول منها متثبتا في ذلك لا برأيه وبديهة عقله: [من الوافر]
فكم من عائب قولا صحيحا
وآفته من الفهم السقيم
وكان الفراغ من تأليفه في الخامس عشر من ربيع الأول من عام ثلاثة وثلاثين وثمانمائة وأنا أرغب إلى كل أخ نظر فيه أن يخلص لي وله بدعوة صالحة، وهذا الكتاب لا ينبغي أن يخلو عنه متدين، ومحب لكلام ربه، فإنه يطلع فيه على فهم القرآن أجمع في أقرب مدة، وليس الخبر كالعيان، هذا مع ما خص به تحقيق كلام الأئمة المحققين - رضي الله عنهم - نقلته عنهم بألفاظهم متحريا للصواب، ومن الله أرتجي حسن المآب، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
Shafi da ba'a sani ba