Jawaab al-Istiftaa’ ‘an Haqiqat al-Riba
جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا - ضمن «آثار المعلمي»
Bincike
محمد عزير شمس
Mai Buga Littafi
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٤ هـ
Nau'ikan
الرسالة الثامنة والعشرون
جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا
18 / 275
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
قبل سنين نشر بعض الفضلاء في حيدراباد الدكن ــ إحدى مدن الهند ــ رسالة بعنوان "الاستفتاء في حقيقة الربا" أجلبَ فيها بخيله ورَجِلِه لتحليل ربا القرض. وأُرسِلتْ من طرف الصدارة العالية (مشيخة الإسلام) في حيدراباد إلى علماء الآفاق ليُبدوا رأيهم فيها، وأنا مطلع على المقصود من تأليفها ونشرها، ولا حاجة الآن إلى ذِكر ذلك.
وراجعتُ حينئذٍ مؤلفَها في بعض المباحث، وأردت أن أجمع جوابًا عنها. ثم وردتْ بعض الأجوبة من علماء الآفاق، وأجود ما اطلعت عليها جواب العلامة الجليل مولانا أشرف علي التهانوي (^١)، فاستغنيتُ بذلك. ثم تنبَّهت بعد ذلك لدقائق في أحكام الربا وحِكَمه، حتى وقفتُ أخيرًا على كلام للشاطبي في "موافقاته"، فاتَّجهتْ همتي إلى تقييد ما ظهر لي. وأسأل الله ﵎ التوفيق والهداية إلى سواء السبيل بمنّه وكرمه.
* * * *
_________
(^١) بعنوان "كشف الدجى عن وجه الربا"، وقد حرَّره الشيخ ظفر أحمد التهانوي تحت إشرافه، وفرغ منه في ٢٤ من ذي الحجة سنة ١٣٤٧. وهو ضمن مجموعة فتاواه "إمداد الفتاوى" (٣/ ١٧٩ - ٣٠١) ط. كراتشي.
18 / 277
[ص ٧] [...] (^١) يكون له حكمة واحدة [...] في إدراك الحكم، فقد يدرك أحدهم حكمة، وتخفى على غيره [وقد يدرك] الرجلان الحكمة، ولكن أحدهما أتم إدراكًا لها من الآخر، وذلك لكثرة ما يتفرغ [للبحث عنها].
ومثال ذلك أن من مفاسد الزنا الجهل بالأنساب، فالمفاسـ[ـد
] بالأنساب كثيرة، والناس متفاوتون في إدراكها، وعسى أن يكون منها ما [ما يظهر للناس، و] للزنا مفاسد أخرى قد تخفى على بعض الناس أو جميعهم، فالعدوى بـ[الأمراض الخبيثة لم تكن معلومة في الماضي،] وإنما علمت أخيرًا.
ومن الأحكام ما لا يدرك الناس له حكمة أصلًا.
وللبحث عن الحكم بواعث:
الأول: وهو أعظمها، بحث العلماء لأجل قياس ما لا نصَّ فيه على ما فيه نص، فإذا [وجد الحكمة] في شيء، ثم وجد تلك الحكمة بتمامها في شيء آخر غيرِ منصوصٍ حَكَم بتحريمه، وهكـ[ـذا].
الثاني: البحث ليتأكد الإيمان، وهذا محمود إذا كان الباحث راسخًا في الـ[ـعلم، فإنه إن] ظهرت له الحكمة زادته طمأنينة، وإن لم تظهر له أحال
_________
(^١) الورقتان الأوليان من الأصل ذهبت أطرافهما، فسقطت كثير من الكلمات والجمل، وقد وضعنا المعكوفتين للإشارة إلى هذه المواضع واقترحنا أحيانًا بعض الكلمات التي تُكمل النقص.
18 / 278
ذلك على قصور فهـ[ـمه، وأحال الحكمة] إلى علم الشارع ﷾، وأنه من المعلوم المحقق أنه عز [وجل ...] الحكم ما لا تصل إليه أفهام الناس.
الثالث: البحث ليزداد علمه، وهذا كالثاني، أو هو هو.
الرابع: البحث لترغيب الناس في الطاعات، وتحذيرهم من المعاصي [فإذا علموا] مصالح المأمور به، ومفاسد المنهي عنه، كان ذلك أدعى لانقياد [هم، فإن معرفة] الباعث من الحكماء الربانيين الذين يدركون حكمة الله تعالى في [الأمر والنهي] ينبغي أن يكون الإظهار.
فإنه إذا قال الواعظ: إن حكمة تحريم [الزنا الوقاية] من العدوى بالأمراض الخبيثة، أوشك أن يقول [
] وقد شهد لها الطبيب [...].
[ص ٨] [...] إجلاله، فيعذبهم [...] الجهل بالأنساب [...] على أن لا يحملن [...] أولاد [...] بعلة التناسل يؤدي إلى ضعف [...].
ومن مفاسده [...] إما أن لا يتزوج [البتةَ] وإما أن يترك زوجته، ويذهب للزنا، وبذلك يفسد ما بين الزوجين [...] محل الوفاق، ويوشك أن يدع الرجل امرأته وأطفاله وأباه وأمه، [ويوشك أن
18 / 279
يدفع] ماله لإحدى البغايا، وعسى أن تقلده امرأته وبنوه وجيرانه.
ويسترسل [بحيث] يحيط بجميع صور الزنا.
ويختم بنحو ما بدأ به، فيذكر أنها قد بقيت حِكَم [، وأن هناك] حِكَمًا لا يعلمها، وأنّ المقصد الأعظم هو ابتلاء الله ﷿ لعباده ليظهر ما ينطوي [عليه القلب] من الإجلال والمحبة له، والخوف منه، أو عدم ذلك.
[وينبغي أن تعرف] الحكمة للرد على الطاعنين في الإسلام، كالطاعنين بتحريم لحم الخنزير، وإباحة الطلاق [والزواج] من أربع أزواج، وشرع الرق، ونحو ذلك.
[...] شرط أن يقرر المجيب أولًا أنه قد ثبت عندنا بالقواطع وجود الخالق ﷿ بصفاته [...] ونبوة محمد ﵌، أن كل ما جاء به عن ربه فهو حقٌّ قطعًا، وأنه جاء بهذا الحكم [...] عن الله قطعًا، والله تعالى أحكم الحاكمين، المحيط بكل شيء علمًا.
فحرمة لحم الخنزير ثابت عن الله تعالى [، وحكمةُ] ذلك ابتلاء عبيده، فإذا لم يعرف البشر حكمة أخرى، فأين يكون علمهم من علم الخالق ﷿.
[...] للطاعن أن يناظر علماء الإسلام في هذه المقدمات.
[...] التي بعدها إلى آخرها، فإنهم مستعدون لإثباتها بالقواطع، فإذا أثبتوها [...] أصله.
[...] لا يعلم مضرة في أكل لحم الخنزير، وإن لم تُقنِعه براهينهم على تلك المقدمات [...] أن يظهر أن في أكله مضرة أو
18 / 280
مضار.
[...] يذكر ما استطاع ذكره من المفاسد في أكل لحم الخنزير.
[...] مضرة أوأكثر، فقد لا تقنع الطاعن، فيبقى مصرًّا على زعمه أنه قد طعن في الإسلام.
[...] طلع على الطعن، والجواب من عوام المسلمين وغيرهم، قد لا يقنعه الجواب، فيقع [...] طعن متوجه، وأنه يدل على بطلان الإسلام. فليتنبه لهذا.
[ص ٥] الثمن (^١) مكافئًا للمبيع، وخيرًا له منه، وإن المشتري كا [...].
وعلى هذا فإذا تحقق الرضا حكم بأن العوضين متكا [فئان ...].
الثانية: أن ننظر إلى ما يقتضيه الحال و[...] بيد الرجل سلعة باعها بدون قيمة المثل لجهله بها مثلًا [...] حكم بأن العوضين غير متكافئين.
الثالثة: أن ننظر إلى ما هو أدق من هذا، فنقول: إذا كان لرجل أرض فزرعها [...] ثمرتها، فقد يقال: ينبغي أن يحسب قيمة البِذْر وأجرة العمل، ويحطّ من ذلك ما استفاده منها في أثناء
_________
(^١) يبدو أن هنا خرمًا بقدر ورقة أو ورقتين.
18 / 281
السنة، فما [بقي] فهو قيمة الثمرة، فليس له أن يبيعها بأكثر من ذلك، فإن اشتراها تاجر منه، وجلبها إلى بلد آخر، وأراد أن يبيعها، فإن كان اشتراها بالقيمة، فله أن يضم إليها مقدار أجرته في الابتياع والحمل والنقل [...] أكثر من ذلك.
وإن كان اشتراها بأنقص من القيمة [...] صاحب الزرع تبرع منه له، فلا يلزمه أن لا يحسبه.
ويمكن أن يقال: من تبرع [...] فعليه أن يتبرع به.
وإن كان اشتراها بأكثر من القيمة فتلك زيادة ظلم بها [...] غير من ظلمه.
فقد يظهر للناظر أن الطريق الثالث هي العدل المحض، وأن الثانية بعيدة عن العدل، وإن [...].
ولكن الثالثة يكثر فيها الخفاء وعدم الانضباط، وإناطة الحكم بها تؤدي إلى ضيق المعاملة [...] إلى رغبة النا [س عن الزراعة] والصناعة والتجارة، ويؤدي ذلك إلى تأخر الحضارة، بل ربما أدَّى إلى خراب الدنيا.
وهكذا الثانية، وإمكان الظهور والانضباط عليها يكون في شيء دون آخر.
فلهذا كان الحكمة حق الحكمة أن يناط الحكم بالتراضي، على أن في نوط الحكم به مصالح أخرى، منها: [...] وتربية العقول.
ولكن دلالة الرضا على المكافأة تختلف باختلاف العقول والأفهام،
18 / 282
وذلك اختلاف لا ينفـ[ـي ...] فنِيطَ الحكم بالبلوغ والعقل.
ومن العلماء من يضمُّ إلى ذلك أن لا يكون [المشتري] مضطرًّا إلى العوض كمن اشتد به الجوع، فاشترى رغيفًا بدينار، والحال أن [...] في تلك البقعة دانق مثلًا.
ومنهم من يستثني الغبن الفاحش فيرد به، ومنهم [...] المسترسل، وهو من يحسن الظن بصاحبه، فيرى أنه لن يحاول أن يغبنه، وقـ[ـد قيل:] "غَبْنُ المسترسل ربًا".
[ص ٦] [...] عشرة دراهم من مال المشتري [...].
وباعتبار الثانية [...] هم من مال بالباطل.
وباعتبار الطريقة الأولى لم يأكل [...] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ [بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً] عَنْ تَرَاضٍ﴾.
فأفهمت الآية أن [...].
الإجارة: يأتي فيها نحو ما تقدم في البيع.
ولننظر الآن في الربا، ونُقدِّم أشهر ما يطلق عليه ربا، وهو الزيادة المشروطة في القرض، [...] عشرة دراهم بشرط أن يقضي أحد عشر.
18 / 283
فهذا الدرهم ظلم وباطل، ولا مُلْجِئ ههنا إلى اعتبار [...] إنما اعتبر في البيع للخفاء، وعدم الانضباط في الطريقين الأخريين، وما ينشأ عنهما من المفسدة [...] غير موجود في القرض.
[...] يحاول بها إثبات أن الربا ليس بظلم. [...] رضا، ويقول بعضهم: أرأيت لو وهب الرجل ماله لآخر، فأخذه، أيكون الأخذ ظلمًا؟
[والجـ]ـواب: أن الرضا هنا ليس كالرضا في الهبة، [ألا] ترى أن الرجل لا يأخذ بالربا إلا مضطرًّا، ولو وجد من يعطيه بغير ربًا لما أخذ من المُرِبي، ولو خيَّره [المـ]ـقرض بين أن يعطي ربًا أو لا يعطي، لاختار عدم الإعطاء.
فإن قيل: ولكن الرضا هنا كالرضا في البيع سواء، فإن البائع في المثال المتقدم لو خيَّر المشتري بين أن يعطي عشرة أو عشرين، لاختار العشرة، ولو خيّره المشتري بين أخذ عشرين أو ثلاثين، لاختار الثلاثين.
والجواب: أننا قد قررنا الفرق آنفًا، وهو أنه كان مقتضى العدل في البيع اعتبار الطريقة الثالثة، فإن لم تكن فالثانية، ولكن لخفائهما وعدمِ انضباطهما وما ينبني عليهما من المفاسد نِيطَ الحكم بالرضا. وهذا المعنى منتفٍ في القرض.
فإن قيل: فإنه يوجد في القرض ما يُشبِه هذا المعنى، وهو أن المنع من الربا يؤدي إلى امتناع الناس عن الإقراض.
قلنا: فقد مضت قرون زاهرة على المسلمين لم يمتنعوا فيها عن القرض بدون رِبا.
18 / 284
ولماذا يُؤثِر الرجل الممنوع من الربا كنزَ دراهمِه على دفعها لأخيه، ينتفع بها ويردها في وقتها، مع وثوق لدافع بالقضاء، كأن استوثق برهنٍ أو ضامنٍ، أو وثقَ بوفاء أخيه. مع ما يحصل في ذلك للمقرض من الأجر والشكر وغير ذلك من المنافع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
على أن خشية امتناع الناس عن القرض لا يوازي خشية تقاعدهم عن الزراعة والصناعة والتجارة، وما يلزم من خفاء المناط، وعدم انضباطه في البيع من كثرة التشاجر والتنازع، وتحيُّر الحكام، وغير ذلك.
[ص ٩] الشبهة الثانية: أن هناك فائدتين [تحصلان للمستقرض من القرض ...] أو نحو ذلك [
] بذلك القرض [...].
الجواب عن الفائدة الأولى: أن ما حصل للمقرض من [النفع
] المال الذي استقرضه.
[وحينئذ] فالقضاء ...] ولو فرض أنه صبر على الجوع والعري حتى وجد مالًا، [فإن
].
وجواب آخر: وهو أن دفع حاجة المضطر مما يوجبه الإسلام، وسائر الشرائع تقتضيه [...] إذا كان دفع حاجته لا يوجب نقصانًا ما على الدافع، وههنا كذلك، فإن الدافع إن كان يريد خَزْنَ ماله لو لم يقرض فهو عند المستقرض كأنه في خزانة، بل إن القرض أنفع للمستقرض كما سيأتي، وإن كان يريد أن يتجر فيه، فلا يدري أيربح فيه في مثل مدة القرض،
18 / 285
أم يخسر؟ بل لعله يتلف المال في يده وضمانه. وإن كان يريد أن يصرفه في حوائجه فواضح أن إقراضه أنفع له؛ لأنه يبقى محفوظًا.
والجواب عن الفائدة الثانية: أنها خاصة بما إذا استقرض ليتجر.
ثم نقول: من المحتمل أن يربح أو أن يخسر، فإن رَبِح فهذا الربح في مقابل تعبه، وفي مقابل مخاطرته بأخذ ذلك المال، والتصرف فيه في ضمانه مع احتمال أن يتلف عليه، فيضيع تعبه، ويخيب أمله، ويضطر مع ذلك إلى أن يبيع حلي زوجته أو عقاره أو بيته ليوفي دينه.
وإن خسر فالأمر أوضح.
الشبهة الثالثة: أن هناك مضرّتينِ يتحملهما المقرض بسبب القرض:
الأولى: مخاطرته بإخراج ماله عن يده، وربما يتلف المال عند المستقرض، ويفلس ويموت، فيضيع المال.
الثانية: أن المقرض لو لم يُقرِض ذلك المال فربما اتَّجر فيه لنفسه وربح.
الجواب عن الأولى: أنه يمكن التخلص منها بأخذ رهنٍ، أو ضمانة، فإن أخذ ذلك زالت المخاطرة، وإن لم يأخذه وكان يمكنه ذلك فهو المقصِّر. وإن لم يكن يمكنه فإن كان يعلم أن للمستقرض أموالًا يمكن الأداء منها فلا مخاطرة، وإلا فهذه المخاطرة في مقابل مخاطرة المستقرض التي تقدمت.
وإذا وازنّا بينهما نجد مخاطرة المستقرض أشدَّ، لأنه مخاطر بضرورياته، كالعقار والبيت ونحوه، ومخاطرة المقرض قاصرة على المال
18 / 286
الذي أقرضه، والغالب أنه يكون فاضلًا عن ضرورياته.
والجواب عن الثانية: أنه لا يخلو أن يكون المقرض يريد أن يتجر بذلك المال لو لم يقرضه، أو يريد أن يخزنه، فإن كان يريد أن يخزنه فلم يفته بالقرض ربحٌ أصلًا.
وإن كان يريد أن يتجر فيه فإنه يكون بالاتجار مخاطرًا بين أن يربح، وبين أن يضيع تعبه، ويخيب أمله، ويخسر من رأس المال، أو يتلف المال أصلًا.
[... المقرض] من التعب، ومن المخاطرة، مع فوائد أخرى حصلت له كما سيأتي.
فليكن هذا [...].
[ص ١٠] [...] [من المستقرض وغيره].
٤ - ما ينشأ عن ذلك من الجاه والقبول.
٥ - ما يترتب عن ذلك من منافع لا تحصى.
٦ - ربما يحتاج في مستقبله إلى الاستقراض [...].
٧ - المال معرض للتلف، فإن بقي عنده وتلف لم يضمنه له أحد [... المستقرض كان مضمونًا في ذمته].
٨ - [...] تحت يد المقرض لوقع فيه يصرفه [
] كان محفوظًا عن ذلك.
18 / 287
٩ - كثيرًا ما يحتاج صاحب المال [...] [من سرقة أو نهب] أو غير ذلك، وإذا أودعه كان أمانة عند الوديع لا يضمنه إذا تلف [...] كان مضمونًا على المستقرض.
١٠ - إذا كان المال طعامًا فإنه يكثر أن يكون عتيقًا لو بقي بعينه لفسد أو تلف، وإذا أقرضه فإن لم يرد له المستقرض أجود منه فلا بد أن يرد مثله حين أخذه.
وهناك أمور أخرى تدرك بالتأمل، وفيما ذكر كفاية. والله أعلم.
* * * *
18 / 288
مفاسد الربا
تمهيد
المقصود من شرع الأحكام تطبيق العدل، ولكن الجزئيات لا تحصى ولا تتناهى، والحكمة المقتضية للحكم تختلف في الجزئيات، فتخفى في بعضها، وتظهر في أخر، [وتشتدُّ في بعضها، وتخِفُّ في أخر،] ولا ينضبط مقدارها.
مثال ذلك: الزنا، فإنه جرم يوجب العقوبة، ولكنه يكون تارة جرمًا شديدًا جدًّا، وتارة يكون أخفَّ.
فرجل شائب ضعيف الشهوة غني عَمَدَ إلى امرأة قبيحة لا يحبها، فسعى بعدها حتى زنى بها.
وآخر شابٌّ قوي الشهوة فقير، لا يجد من يُزوِّجه، عشق امرأة جميلة، فكان يتجنب لقاءها، فاتفق أن صادفها في مكان خالٍ، فلم يصبر أن وقع عليها.
فبين الجرمين بون بعيد، وبينهما درجات لا تحصى، وهكذا يزداد الاختلاف إذا نظرنا إلى ما ينشأ عن الزنا من إفساد المرأة، وإسقاط شرفها، وإلحاق العار بأهلها، وتضييع الولد، وما يخشى من انتشار الزنا في الناس، وغير ذلك.
فلو كُلِّف عاقل سَنَّ عقوبةٍ للزنا كان أمامه أربع طرق:
الأولى: أن يفصِّل القانون تفصيلًا بعدد ما يمكن من اختلاف الجزئيات.
18 / 289
الثانية: أن يكِلَ الأمر إلى الحكام، ليقرر كل حاكم في الجزئية التي تعرض عليه ما يراه مناسبًا لها.
الثالثة: أن يقرِّر عقوبة تنطبق على أخفِّ الجزئيات جرمًا، أو أشدِّها، أو أوسطها، يطلقها في جميع الجزئيات.
الرابعة: أن يقرِّر عقوبة تنطبق على الغالب من الجزئيات [...].
[ص ١١] فأما الأولى: فليست بممكنة:
أولًا: لكثرة الاختلاف بحيث يصعب [حصره].
ثانيًا: لأن من الأحوال التي يختلف مقدار الجرم باختلافها [
] ومقدار ما ينشأ عن الزنا من المضار [والمفاسد ...] الأنبياء في الناس حتى يكونوا هم الحكام، ويوحي إليهم في كل [جزئية ...].
وإما أن يوحي إلى رسوله كتابًا يحصي فيه وقائع الزنا إلى يوم القيامة باسم [الرجل ...] بحيث لا تشتبه واقعة بأخرى.
فأما الأول: فكان ممكنًا، ولكنه ينافي ما [
] والاختبار، وغير ذلك، ولاسيما إذا علمنا أنه يقتضي أن يكون الناس كلهم أنبياء، لأنه [...] لأجل عقوبة الزنا، لزم اختياره لجميع الأحكام حتى التي يكون فيها كل إنسان حاكم نفسه [...].
18 / 290
وأما الثاني: فلأنه منافٍ للحكمة من وجوه، أقربها إلى الفهم اقتضاؤه أن يكون في عقوبة الزنا وحدها قرآن يبلغ آلافًا وملايينَ وأكثر من ذلك من المجلدات، فكيف يسهل نقله وحفظه وكشفه؟ وهكذا في كل حكم من الأحكام غير عقوبة الزنا.
وأما الطريقة الثانية ففيها:
أولًا: أنها لا تُغنِي، لخفاء بعض الصفات التي توجب اختلاف الجرم، كما تقدم.
وثانيًا: أنه فتحٌ لباب الظلم، وتلاعب الحكام، فهذا يداهن، وهذا يرتشي، وهذا تؤثر عليه الشفاعات، وهذا يخاف، وهذا يتهم، مع ما يلزمه من كثرة العمل الذي يكلف به الحاكم، فيستدعي ذلك كثرة الحكام، ولا سيما إذا علمنا أنه لو اختير ذلك في عقوبة الزنا انبغى أن يختار في غيرها من الأحكام، ومع ذلك فيصعب الفصل في القضايا ويتأخر، ويتعسَّر ويتعذَّر، وفي ذلك عين الفساد العام.
وأما الثالثة: فتعيين أخفِّ العقوبات لا يؤدي إلى المقصود من الزجر والتأديب، وتعيين أشدِّها قد يصادف أن يكون استحقاقه نادرًا، فيكون الغالب وقوع العقوبات على من لا يستحقُّها، وتعيين أوسطها قد يكون غلطًا، إذا فرض أن الغالب هو استحقاق الأشدِّ، أو استحقاق الأخفِّ.
وأما الرابعة: فهي العدل الممكن، ولكن يبقى معرفة الغالب، فإن العاقل قد يتردد فيه، وقد يغلط، وقد يخالفه غيره. ويبقى أيضًا تعيين العقوبة، ويبقى أيضًا أن تطبيق العقوبة على من كان من غير الغالب فيه إضرار به بغير استحقاق.
18 / 291
ولكنه إذا كان الشارع هو الله ﷿ تزول هذه النقائص كما ستراه.
[ص ١٢] [...] للرجل والمرأة، ومنع المرأة من الخروج، وذلك [كما قال تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ] فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي [الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ] أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ [تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا] إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء ١٥ - ١٦].
واقعة
[...] السيد الإمام محمد بن علي بن إدريس ﵀ أن يتلو كل يوم جزءًا من القرآن بتدبُّرٍ وتفكر، وكان [...] يشكل، فكان فيما تلاه يومًا هذه الآيات، ثم دعاني، فذكر لي تردده في معنى [قوله تعالى:] ﴿وَاللَّذَانِ﴾ وأنه تأمل فيها، ثم راجع التفاسير ولم يطمئن قلبه إلى قول مما قالوه، لأن منهم من قال: المراد بهما الرجل والمرأة، قال: وهذا فيه بُعد، لأن المرأة قد سبق حكمها في قوله: ﴿وَاللَّاتِي﴾ وفيه مع ذلك التغليب، وهو خلاف الأصل.
ومنهم من قال: المراد بهما الفاعل والمفعول في اللواطة.
قال: وهذا أبعد؛ لأن اللواطة جرمٌ عظيمٌ، ولم يرد بعد ذلك من الشرع ما يقوى أن يكون ناسخًا لذلك.
وفيه مع ذلك أن تكون الآيات لم تتعرض لحكم الرجل الزاني.
18 / 292
فبحثتُ معه ﵀ بحثًا سأورده بنحو معناه، ولعل فيما أحكيه ههنا زيادة أو نقصًا.
قلت: أفلا يحتمل أن تكون هذه الآية في حكم الرجال الزناة خاصة، كما أن الأولى في حكم النساء خاصة؟
فقال السيد: لو أريد هذا لقيل: "والذين يأتونها .. "، فما وجه العدول عن ذلك إلى التثنية؟
فقلت: قد يقال: إنها باعتبار أن الرجال الزناة على نوعين: محصن وغير محصن، فثنِّي باعتبار النوعين.
فقال: وما الدليل على جواز مثل هذا؟
فذكرتُ قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾، وقول الشاعر (^١):
عَيُّوا بأمرِهِمُ كما ... عَيَّتْ بِبَيضَتِها الحمامهْ
جَعلتْ لها عودَين من ... نَشَمٍ وآخرَ من ثُمامهْ
فقد فُسِّر الشعر بأن المعنى: أن فيهم حليمًا وسفيهًا، فسفيههم يُفسِد على حليمهم، كالحمامة إذا نسجت بيتها من عيدانٍ فيها القوي كالنشم، والضعيف كالثمامة. قالوا: والتقدير: جعلت لها عودين: عودًا من نشم، وآخر من ثمامة.
ومن المعلوم أن التثنية في المثل والممثَّل به إنما هي باعتبار النوعين،
_________
(^١) هو عبيد بن الأبرص، والبيتان في "ديوانه" (ص ١٣٨) و"الحيوان" (٣/ ١٨٩) و"عيون الأخبار" (٢/ ٨٥) و"لسان العرب" (حيا، عيا) وغيرها.
18 / 293
فلم يرد أن فيهم رجلًا واحدًا حليمًا، ورجلًا واحدًا سفيهًا، ولا أن الحمامة جعلت عودًا واحدًا من نشم، وآخر واحدًا من ثمامة.
فقال: هذا قريب، ولكن هل قال به أحد من المفسرين في هذه الآية؟
قلت: لا أدري. فراجعنا التفاسير فإذا في بعضها: عن مجاهد قال: هما الرجلان الزانيان (^١).
فقال السيد ﵀: قد راجعت أنا هذا التفسير اليوم، ومررت على [هذا] القول، ولكني لم ألتفت إليه، ولم يَعْلَقْ بذهني.
[أقول:] ثم وقفتُ بعد ذلك على ما يؤيد ما ظهر لي، كقول الجبَّائي وغيره في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَثْقَلَتْ [دَعَوَا اللَّهَ﴾].
[ص ١٣] ولكنه ترجح عندي في الآية ما قدمته، وهو [...] للرجل والمرأة، وأما إمساك المرأة في البيت، فليس [
] أن تجمع على المرأة عقوبتان. فتدبر.
ثم نزلت قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾]، فقال النبي ﵌: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر [بالبكر جَلْدُ مائةٍ وتغريبُ عام]، والثيب بالثيب جَلْدُ مائة والرجم" رواه مسلم (^٢).
_________
(^١) انظر "تفسير الطبري" (٦/ ٤٩٩، ٥٠٠) وابن المنذر (١٤٧٢) وابن أبي حاتم (٣/ ٨٩٥).
(^٢) رقم (١٦٩٠) عن عبادة بن الصامت.
18 / 294
جعل حد البكر خفيفًا؛ لأن الغالب أن يكون شابًّا شديد الشهوة، وحد [الثيب شديدًا]؛ لأن الغالب أن يكون متزوجًا أو شيخًا، ولم يعلّق الحكم بكونه ذا زوجة لحِكَمٍ:
منها: [أن لا] يودي حبُّ الزنا بالرجل إلى أن يفارق زوجته ليزني، وتخفّ عقوبته، وفي ذلك ما فيه من الفساد.
فإن قيل: إن الرجم أشدُّ العقوبات، وليس بأوسطها.
قلت: قد يقال: هو وسط في مقابل هذا الجرم الشنيع، كما قال بعض القدماء في بعض العقوبات: إن القتل لا يكفي عقوبةً لهذا الجرم، ولكن هو أقصى ما يمكن!
وفوق ذلك فإن الرب ﷿ يتمِّم العدل بقضائه وقدره، فيستر هذا، ويفضح هذا، ويزيد هذا تتمةَ ما يستحقُّه من العقوبة، ويعوِّض هذا فيما إذا كان الذي ناله من العقوبة أشدَّ مما يستوجبه جرمه، وهكذا .. وههنا حقائق ودقائق، ليس هذا موضع بسط ما ندركه فيها.
بقي أنه قد صح أن الله تعالى أنزل آية في الرجم، ثم نُسِخت تلاوتها (^١)، وهي: ﴿الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ...﴾.
فهل كان نزولها عند نزول آية الجلد، فقال النبي ﵌: "خذوا عني ... "، ويكون الشيخ والشيخة كناية عن الثيبين؟
أو كانت نزلتْ قبل نزول آية الرجم، وبعد نزول آية الإيذاء، فبينتْ سبيلًا
_________
(^١) أخرجه مسلم (١٦٩١) عن عمر بن الخطاب.
18 / 295