فأنا صادق حين أقول إنك لن تجد في هذا الكتاب هجاء لاذعا، ولا نقدا ممضا، وأنا صادق حين أقول إنك ستجد في هذا الكتاب مرايا يمكن أن ترى الناس فيها أنفسهم، وليس عليهم ولا علي من ذلك بأس؛ فما أكثر ما نرى أنفسنا في كثير مما نقرأ من آداب القدماء والمحدثين، مهما تكن اللغات والعصور والظروف والبيئات التي تنشأ فيها هذه الآداب.
وأنت بعد هذا كله مضطر إلى أن تخفف من شوقك إلى المعرفة وكلفك بالاستطلاع؛ فإني لا أريد أن أعلمك شيئا، ولن تتعلم من هذا الكتاب شيئا، وإنما هو كلام ستقرؤه؛ فترضى عنه أو تسخط عليه من الناحية الفنية الخالصة لا أكثر ولا أقل.
وواضح أني لم أذهب مذهب القدماء في الاندفاع مع الحرية الجامحة؛ فالأدب العربي الحديث أكرم علي وآثر عندي، وأنت وأنا أكرم على نفسي من أن أذهب هذا المذهب الذي قد مضى مع أصحابه القدماء.
وإذا أردت أن تعرف الحق الصريح من أمر هذا الكتاب، فإني منبئك به في سذاجة يسيرة لا تكلفك مشقة ولا جهدا؛ لأني أنا لم أتكلف في هذا الكلام مشقة ولا جهدا، فأنا رجل أحب القراءة، وأحب القراءة المختلفة المتنوعة؛ أقرأ في الأدب العربي القديم والحديث، وأقرأ في الآداب الأوروبية القديمة والحديثة، وأجد في هذه القراءة متعة تكسب الحياة قيمة خاصة. ولكن قد أقف عند هذا الفن أو ذاك من فنون الأدب وقفة خاصة، فأسأل نفسي: أيوجد هذا الفن في اللغة العربية أم لا يوجد؟ أو أسأل نفسي: أتستجيب اللغة العربية لهذا الفن إن دعيت إليه أم لا تستجيب؟ ثم أسأل نفسي: أقادر أنا على أن ألائم بين هذا الفن وبين اللغة العربية أم غير قادر؟ ولا أكاد ألقي على نفسي هذا السؤال الأخير حتى أطلب إلى صاحبي أن يأخذ القلم والقرطاس، ثم آخذ في الإملاء ويأخذ هو في الكتابة، فأما إن أحسست شيئا من التوفيق إلى ما أردت؛ فأنا ماض في المحاولة حتى أنتهي بها إلى بعض غايتها، ثم أذيع ذلك في الناس ليقرءوا وليرضوا وليسخطوا، وليقلد منهم المقلد، وليعرض منهم المعرض. وأما إن أحسست عجزا عن هذه الملاءمة؛ فأنا أجدد المحاولة مرة ومرة، حتى إذا استيأست أعرضت عن الإملاء، وأعرض صاحبي عن القلم والقرطاس. والذين يقرءون ما أذعت في الناس من الكتب منذ أكثر من ربع قرن يستطيعون أن يروا ذلك في كثير مما أذعت فيهم، وأن يتبينوا في وضوح وجلاء أني أستجيب حين أكتب - وحين أكتب في الأدب خاصة - لشيئين اثنين: أحدهما ما أرى من رأي أو أجد من عاطفة وشعور، والآخر امتحان قدرة اللغة العربية على أن تقبل فنونا من الأدب لم يطرقها القدماء، وامتحان قدرتي أنا على أن أكون الصلة بين اللغة العربية وبين هذه الفنون والآداب. وقد قرأت فيما قرأت كثيرا من شعر القدماء والمحدثين في اللغة العربية وفي غيرها من اللغات التي أستطيع أن أفهمها، وأعجبني هذا الفن من فنون النقد والهجاء، ورأيت أن العرب قد أخذوا بحظ منه في القرن الثاني فأجادوا، ولكنهم لم يكادوا يتجاوزون هجاء الأشخاص، وهذا العبث الذي كان القدماء يألفونه ويتهالكون عليه، ثم رأيت أن هذا الفن قد ذوى زهره وغاض ماؤه حين انقضى العصر العباسي الأول، وأن الشعراء الفحول قد عادوا إلى الهجاء الطويل، واستأنفوا مذهب القدماء من أعلام الجاهلية والإسلام.
ولم أكن صاحب شعر ولا قدرة على النظم؛ فلم أحاول إذن أن أرد لهذا الفن حياته كما ألفها أيام بشار وأصحابه، ولكن ما يمنعني أن أذهب في هذا الفن مذهب القدماء على أن أتخذ النثر أداة مكان الشعر؟!
فلنجرب إذن، ولنمتحن أنفسنا، ولنمتحن لغتنا، ولنمتحن ذوق القراء، وقد جربت وأذعت مقطوعات قليلة لا تبلغ الست أو السبع في الأهرام؛ فرضي الناس وسخطوا، وأثنوا وعابوا. ولست أريد من الإنتاج الأدبي إلى أن أذوق الرضا والسخط جميعا؛ وإذن فلنمض في التجربة، وقد مضيت، وهأنذا أقدم إليك مائة ونصف مائة من هذه المقطوعات، فاقرأ إن شئت، وارض إن أثارت القراءة في نفسك الرضا، واسخط إن أثارت القراءة في نفسك السخط، وأنا أعفيك من الثناء والتقريظ مخلصا، وأبيح لك النقد والعيب مخلصا أيضا، وأتمنى أن يتاح للشباب من القراء أن يحاولوا من ذلك مثل ما حاولت، ويبلغوا من ذلك أكثر مما بلغت؛ فالله يشهد ما كتبت ولا خطبت ولا حاضرت إلا وفي نفسي أمنية هي أن أدفع الشباب إلى أن يعلموا ويعملوا وينتجوا، ويتاح لهم أكثر مما أتيح لي من النجاح والتوفيق.
جنة الشوك
دعاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: علمني كلمات أتجه بهن إلى الله في أعقاب الصلوات الخمس؛ فإني أجد في نفسي حاجة إلى الدعاء في هذه الأيام الشداد.
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: سل الله يا بني أن يعصمك من صغر النفس الذي تضخم له الأجسام، ومن ضيق العقل الذي تتسع له البطون، ومن قصر الأمل الذي تمتد له أسباب الغرور.
Shafi da ba'a sani ba