Janƙun Ƙasansu
الجنقو مسامير الأرض
Nau'ikan
ثم سمعت ضحكته تجلجل في ظلام المخيم، وهو يختفي تدريجيا مخلفا وراءه غابة من الأسئلة، والأحزان، وظلاما دامسا، بعد دقائق معدودات جاءني جنقوجوراي شاب اسمه أبو النجا سعيد، وهو من سكان مدينة خشم القربة، دخل كعادة الناس هنا دون أي استئذان، كأنما يدخل خيمته الخاصة، بادرني قائلا: الزول دا كلمك عن الشياطين، مش كدا؟
قلت له مستغربا: كيف عرفت!
قال لي: الزول دا مصاحب جنية، والناس كلها عارفاه، ساكن جنب البحر في الحفيرة، مش قال ليك اسمه المسلاتي؟
قلت دون إحساس بما أقول: نعم.
قال لي وهو ينظر إلى أم عيني مندهشا: أنت ما لك؟ خايف ولا شنو؟ قال ليك شنو الزول دا أصلو؟ الزول دا أكتر زول كداب في البلد دي، اوعك تكون صدقته ؟ قال ليك شنو؟
قلت محاولا أن أكون طبيعيا: لا شيء، لا شيء.
في الصباح الباكر نويت أن أذهب إلى همدائييت مهما كلفني ذلك، فهي لا تبعد كثيرا عن الحمرة، مسافة عشرين دقيقة بالمواصلات المحلية، وما يقارب الساعة بالأقدام، ولكن المشكلة الكبرى، هي كيف يمكنني التسلل من المعسكر والعودة إليه مرة أخرى دون أن يعرف ذلك ضباط الرعاية الاجتماعية؟ وأنا الآن شيخ المعسكر، وزعيمه، والناطق باسم اللاجئين، وغيابي ساعة واحدة سيبدو ظاهرا للجميع، والمشكلة الأكبر هي المخاطرة بحياتي إذا تم القبض علي في همدائييت، سوف يتم إعدامي في ثوان، تماما كما أعدم عشرات الجنقو الذين تأتينا أخبارهم يوميا، كانت المعارك بين الجنقو والحكومة ما زالت مستعرة، والناس يتحدثون عن انضمام شباب اللحويين والحمران إلى مسلحي الجنقو، قدروا عددهم بالمئات وأنهم الآن يتدربون على السلاح في تخوم تسني بإريتريا، وكي يبدو الموضوع في غاية الخطورة أضيفت إسرائيل إلى الحكاية، ويقسم البعض على أنهم رأوا الصهاينة رأي العين وهم يقومون بالتدريب، بينما نفي البعض الآخر أن اللحويين أو غيرهم من الأعراب قد انضموا لجيش الجنقوجورا، ولكن الخبر المؤكد أن الحكومة بالخرطوم عن طريق وساطة إقليمية تتفاوض مع المسلحين، ويتحدث الناس عن اتفاقية سلام أخرى تخص الشرق.
أنا لست منشغلا بالحروب، كنت منشغلا بخزعبلات رجل اسمه إسحاق المسلاتي، عبارة عجيبة تفوه بها، أبت أن تغادر صحوي، ولا منامي، قال لي: أنت واقع في سحر جنية.
تتملكني رغبة عارمة في أن أرى طفلي ولو للحظات قلائل، رغبة لا يضاحيها سوى إلحاح مسألة ألم قشي بأكثر مما كانت عليه من قبل أن ألتقي بهذا المسلاتي المخبول، أنا لا أريد أن آخذ منها الطفل على الأقل في الوقت الراهن إلى أن يكبر قليلا ويتم فطامه، ولكنني أريد أن أراه لا أكثر، صارحت تسفاي ضابط الرعاية الاجتماعية بموضوع طفلي، فحذرني وحكى لي حقيقة ما يدور الآن في المنطقة الحدودية ما بين قبائل العرب والجنقو الذين بدءوا يطالبون بحق الشرق في السلطة والثروة ومن الجهة الأخرى الحكومة، وأنني إذا نجوت من طرف قد لا أنجو من الآخر، واقترح علي أنه من الأفضل أن تحضر لي ألم قشي الطفل لكي أراه في الحمرة في منطقة الجمارك أي عند البار، وهي النقطة المتاخمة للنهر الذي يفصل ما بين الدولتين، وهذه البقعة لا تبعد عن المنزل الذي تقيم فيه ألم قشي مع بناتها وأبيهم أكثر عشر دقائق مشيا بالأرجل، وقال لي أيضا إن ذلك سيكون آمنا، وبرعاية الجمعية الدولية للصليب الأحمر، وإنه سوف يبلغهم عندما يحين الوقت، وهم الذين سيقومون بإحضار ألم قشي وطفلها إلى هنالك؛ لذا لا داعي للمخاطرة بحياتي، ما علي إلا أن أحكم عقلي وأصبر، فقبلت بما اقترحه، بالفعل صبرت حتى جاءني ضابط الرعاية ذات صباح، وطلب مني أن أصبح مستعدا؛ لأنني في الغد سوف أرى ابني الذي أكمل شهريه الأولين، وهو بصحة جيدة، ويمكنني رؤية أمه أيضا. كانوا يعلمون أن ألم قشي قد انفصلت عني بإرادتها، ويعرف تسفاي الحكاية كلها، لقد قصها عليه كل الذين هربوا معي من الحلة، كل بطريقته وأسلوبه الخاص. كنت وحيدا كعادتي في تلك الأيام أحس بحزن عميق، بل بضياع تام، وربما أصبحت سريع الغضب لحد ما، وقد تشاجرت مع امرأة من الجنقو سرقت تمباكا من أحدهم، جاءوا بها إلي للفصل في الأمر، وكانت لئيمة وغاضبة، وحملتني كل ما حل بها من تشرد وضياع، كل ما قالته يغضب، ورغم أن سرعة الغضب ليست من طبعي، كما أن موقعي كشيخ للمعسكر يتطلب مني الحكمة والروية وليس الغضب والتسرع، إلا أنني بادلتها ذات الألفاظ البذيئة التي عبرت بها عن غضبها، وكرهها لي، تألمت كثيرا بعد ذلك، أتت فجأة الصافية التي ارتبط مصيرها نهائيا بجيش الجنقوجورا، وأصبحت لها أهداف أكبر من العمل، والأكل والشرب، أسرت لي بأنها تريد أن تقرأ في الجامعة، وتتخرج محامية، وهذا ليس ببعيد عند الله، فود أمونة قد وجد أخيرا من يرعاه، ويهتم به في العاصمة، وقد يصدق ما قاله لهم صديقي عن النصر القريب، وأنهم سوف يحصلون على وضع متميز في الخرطوم بعد الاتفاقية، ثم حدثتني عن مختار علي الذي أصبح مريضا جدا وصحته تتدهور يوميا، وأنه ذهب إلى شجرة الموت بكامل اختياره، وقدر ما حاولت هي وأصحابه، وحتى الشايقي الذي يأتي أحيانا إلى فريق قرش، لم يستطيعوا إقناعه بالعدول عن رأيه، وقد تركته الآن هنالك، وجاءت إلى هنا مستعينة بي لإنقاذه، قد حملها وصية لي؛ وهي أن أعود مباشرة إلى القضارف حيث أسرتي، وألا أبقى ثانية واحدة هنا في الشرق؛ لأن مصيري سيصبح كمصيره، ومصير كل الجنقو؛ شجرة الموت، وهو لا يرجو لي هذا المصير التعيس.
العلاقة التي تربطني بمختار علي، أقل ما يمكن أن توصف به أنها علاقة أب بابنه، لقد رعاني أنا وصديقي في أيامنا الأولى بالحلة، وكان نعم المرشد والدليل، وهو الذي فك لنا طلاسم الحلة بحكاياته الجميلة، وأظن وأؤمن الآن بأن أقل خدمة يمكن أن أقدمها لمختار علي في محنته هذه أن أذهب إليه في فريق قرش عند شجرة موته، وأثنيه عن الاستسلام للموت.
Shafi da ba'a sani ba