فالغزل وحده عند البدوي عوض عن هذه الأنواع المنوعة من أحاديث الرجل والمرأة في المدينة العامرة، وهذا مع كثرة الشواغل في المدن وقلة الشواغل في البوادي، إلا ما كان من رعي أو سقي يقربان بين الرجل والمرأة ويلجئانهما إلى الغزل ولا يشغلانهما عنه، فضلا عن معيشة الفطرة بين الأحياء التي لا تنقطع فيها صلات الذكور والإناث، وليس الإنسان بدعا بينها في هذه الغريزة الفطرية، فالبادية مهد الغزل قبل الحاضرة.
وأيسر للمرء أن يتصور مدينة بغير شعر غزلي من أن يتصور بادية لا تنظم هذا الشعر في كل حين.
إلا أن البادية تتقيد ببعض القيود التي تستدعيها معيشة البدو ولا تستدعيها معيشة الحضريين؛ لأن «المنعة» ضرورة من ضرورات الحياة بين أهل البادية، ولا مناص لهم من الاشتهار بمناعة الحوزة بين الأعداء والنظراء، وإلا طمع فيهم كل طامع واستباحهم كل مستبيح، وأول حوزة يحميها الرجل هي المرأة، فمن شرف «البدوي» أن تكون فتاته منيعة الحمى يتقاصر عنها لسان المتغزل، كما يتقاصر عنها سيف المغير، وهذا هو القيد الذي يختلف به أهل البادية من أهل المدينة.
ولكنه قيد «سيئ الحظ» كجميع القيود التي تحيط بالغرائز، وتحبس من ناحية ما يطلقه الطبع من ناحية أخرى.
فمنذ القدم والقيود التي تفرضها العادات تتوالى على الرجال والنساء بما يطاق وما لا يطاق، ومنذ القدم والعرف مضطر إلى كثير من الإغضاء والتعامي عن تلك القيود، فهي موجودة ومفتاحها موجود، ولا يزال القيد منها مقرونا بمفتاح.
فإذا حجرت العادات من ناحية جاءت الفنون فتسمحت من ناحية أخرى. وقد يغض الرجل المتدين بصره إذا مرت به حسناء يخشى فتنتها، ولكنه يسمع بيتا في الغزل، وهو غاض عينيه، فلا يغلق دونه أذنيه.
وقوانين البادية كجميع القوانين عرضة للتشديد والتخفيف وللرعاية والإهمال، وللمحاباة والاحتيال.
فقد يطول عهد الرخاء بالقبيلة فتهدأ فيها سورة القتال وتضعف المغالاة بالمناعة وما يتبعها من الغيرة والسطوة، وقد يطول بها عهد الفاقة، فيترخص أبناؤها وبناتها في الأمور التي كانوا يتشددون فيها، ويستكينون للسبة التي كانوا يتذمرون منها، وقد تجاور قبيلة قبيلة أقوى منها فتنزل على حكمها وتصبر على نزوات أهلها، وقد تجاور الحاضرة فتجري على سنة الحضريين في الرفق والدماثة، وتنزل شيئا فشيئا عن الجفوة والخشونة، وكل أولئك كان يحدث في القبائل الحجازية على عهد جميل.
كان منها من استغنى عن القتال بعد أن تكلفت الدولة القائمة بصيانة الحقوق ومنع العدوان وجزاء المعتدين.
وكان منها من طال فيهم الغنى كآل جميل، ومنها من قل غناهم وجاوروا من هم أقوى منهم كآل بثينة، وكانوا جميعا يختلفون إلى الحواضر، ويتشبهون بظرفائها، وينكرون الخشونة على البادية وأهلها.
Shafi da ba'a sani ba