فاستأنفت الحواضر الحجازية تاريخا قديما طويلا في اللهو والمجون، وعادة «الظرف» المأثور في عرف أولي النعمة أن يصبحوا، ويمسوا بين المنادمة والمسامرة، وأحبها وأشيعها حديث الغزل ووشايات الغرام.
هذه الحياة عدوى لا يسلم منها من عاش فيها، ولو كان مطبوعا على الجد والطموح؛ لأنها كالجو الذي يتنفس فيه كل متنفس يشاء أو لا يشاء، وغاية ما فيها من فروق أن البنية السليمة تقوى على أنفاس ذلك الجو من حيث تضعف عنه البنية السقيمة، أما الهواء الذي يتنفسونه جميعا فلا اختلاف فيه.
فمن أشجع الرجال الذين نشئوا في تلك البيئة، ولا ريب كان مصعب بن الزبير سليل الشجعان ووريثهم في شمائل النبل والشمم والمضاء.
وكان له من الجد ما يشغله عن معيشة أهل البيئة التي نشأ فيها، وينجيه من أوهاق المتعة التي يتمرد عليها من طبع على غراره، لو كانت هناك منجاة.
كان مع أخيه عبد الله صاحبي ملك ينافس ملك بني أمية، وتولى البصرة والكوفة والعراق فضبط أمورها واستبقاها زمنا على الولاء له ولأهل بيته، ونهض عبد الملك بن مروان لقتاله بنفسه، فأنفذ إليه الجيوش وراء الجيوش، فكان يبرز لها ويضربها ويفرق شملها، ثم أوفد إليه أخاه محمد بن مروان يعرض عليه الأمان وولاية العراقين ما دام حيا وصلة من المال تبلغ ألفي درهم، فأبى مصعب إلا أن يقاتل حتى يغلب أو يموت دون التسليم، وخذله أصحابه طمعا في هدايا بني أمية، فما زال في البقية الباقية من أنصاره يقاتل ويغامر حتى مات.
قيل: إن عبد الملك بن مروان جلس بعدها بين أصحابه يسألهم: من أشجع الناس؟ وهم يروغون في الجواب، فقال لهم: بل أشجع الناس مصعب بن الزبير، عرضت عليه الأمان والمال وولاية العراقين وعنده عائشة بنت طلحة أجمل النساء فأباها وآثر الموت على التسليم.
وتلك شهادة عدو لا ينفعه أن يكتمها؛ لأنها أشهر من أن يحجبها الكتمان.
فالحق الذي يعرفه أعداء ذلك الرجل وأصدقاؤه أنه شجاع وأنه نبيل، وأنه لا يقرن بالجد والطموح لذة من لذات الدنيا.
ومع هذا حسبنا أن نذكر له حكايتين اثنتين؛ لنذكر كيف شاع الغزل وأحاديث الغزل ومواقف الغزل في البيئة التي نشأ فيها، وأحاطت به آدابها ودواعيها، فكل حديث عن الغزل والتهالك عليه مصدق إذا قوبل بهاتين الحكايتين من هذا الرجل، الذي قل نظراؤه في الجد والطموح.
إحداهما تتصل بشاعرنا جميل، وتدور على بيتين قالهما في صاحبته بثينة، وهما:
Shafi da ba'a sani ba