وإنما يقسم هذا القسم من هو مجنون ومسحور، أو من سماهم الناس بالمجانين؛ لأنهم لا يملكون ما يريدون، ويوشك أن يكرهوا إرادة الخلاص لو ملكوه، فهم في حبهم للمعشوقة التي هم مفتونون بها على حد قول المتنبي في افتنان الأحياء عامة بالحياة:
وإذا الشيخ قال أف فما مل
حياة وإنما الضعف ملا
لا يشكون العشق؛ لأنهم يطلبون الفكاك منه، وإنما يشكونه؛ لأنهم يطلبون الفكاك من ألمه إن استطاعوه، وإلا فالبقاء فيه مع ألمه حين لا يستطيعون. •••
وظاهر أننا - في قصة جميل وبثينة - أمام عارض نادر من عوارض العلاقة الغرامية؛ لأن المشاهد المتواتر أن هذه العلاقة تجري في مجراها بين كثير من الرجال والنساء، دون أن تصل إلى هذه اللجاجة الموبقة التي وصل إليها جميل.
ولا شك أن الغرائز النوعية أقوى من إرادة الفرد إذا تحكم النزاع بينهما، وبلغ مبلغ الصدام الذي لا محيص فيه من الغلبة لإحداهما، ولكن المسألة هي أن الغريزة النوعية والإرادة الفردية لا تبلغان هذا المبلغ من النزاع والصدام إلا لعارض طارئ ليس بالمتكرر في جميع الأحوال، وهذه هي الندرة التي يدل وقوعها على شذوذ في الفرد أو شذوذ في الأحوال التي تعرضت لها علاقته الغرامية.
فالعشق أصيل في طبائع الإنسان إذا نحن رددناه إلى الغريزة النوعية، بل هو أصيل في طبائع بعض الأحياء من الطير والوحش، كما ظهر من تلازم بعض الأزواج واقتصار بعض الذكور على بعض الإناث، بغير تبديل إلى أمد طويل.
ولكن الغريزة النوعية لم تخلق لشقاء الأفراد ضربة لازب، ولا يلزم من خدمتها النوع أنها تمحق الفرد وتتقاضاه حقه من الهناءة والحرية في جميع الأحوال، ولا سيما إذا تحققت مصلحة النوع بغير هذه التضحية التي لا توجبها خدمة فرد ولا خدمة نوع.
فإذا اصطدمت الغريزة والإرادة الإنسانية على اطراد دائم مدى الحياة، فهنالك شذوذ لا محالة في هذه الإرادة أو في الأحوال التي أحاطت بها ولابستها، وذلك هو الشذوذ النادر الذي نشاهد مثلا من أمثلته الواضحة في قصة جميل.
والأغلب - فيما يبدو لنا - أن علة هذا الشذوذ راجعة إلى جميل نفسه قبل مرجعها إلى الأحوال، التي أحاطت به وبمعشوقته بثينة.
Shafi da ba'a sani ba