وفي أثناء الحرب اتفقت الدول الثلاث المحاربة للروسيا مع إمبراطور النمسا على أن يحتل بجيوشه الإفلاق والبغدان إذا انجلت عنها الروسيا، وكان كذلك، وبعد ذلك انضمت حكومة إيطاليا مع الدول المتحالفة ضد الروسيا وأرسلت جيشا مؤلفا من 18 ألف مقاتل انضم إلى جيوش الدول المتحالفة على قتال الروسيا في القريم، وكذلك انضمت إلى هذا التحالف دولة السويد، ولم يبق بعد هذا كله وبعد الخذلان المتوالي الذي أصاب الجيوش الروسية في القريم أمام الجيوش المتحالفة، وفي البلقان أمام الجنود العثمانية، إلا التسليم بمطالب الدول، والكف عن الإمعان في الحرب، فاضطر الإمبراطور إسكندر المتولي بعد الإمبراطور «نقولا» الذي توفي في أثناء الحرب، إلى طلب الصلح والمسالمة، فوضعت الحرب أوزارها وانعقد الصلح في مدينة باريس بانعقاد مؤتمر دولي هناك، أمضى أعضاؤه على معاهدة باريس المعروفة التي تكفلت بحفظ أملاك الدولة العلية من أطماع الروسيا، وجعلت للدولة العلية المقام السياسي المطلوب بين دول أوروبا على شرط أن تتعهد الدولة بإجراء إصلاح في قوانين المملكة يقضي بتحسين حال رعاياها من كل الملل والأجناس، وذلك سنة (1856م).
انقضت هذه الحرب في عهد المرحوم السلطان عبد المجيد الذي توفي عقبها وتولى مكانه السلطان عبد العزيز، فداهمته الدول بالمطالب الكثيرة التي ترمي إلى المداخلة في شئون الدولة، التي أقرت تلك الدول على سلامتها واستقلالها التام في أمورها الداخلية في مؤتمر باريس، لكنها لم تلبث أن انقلبت عليها بدس الدسائس السياسية في بلادها لإلجائها إلى التصديق على صحة إمارة أمير رومانيا الذي اختارته الدول، وللتسليم بمطالب الصربيين الذين يريدون الاستقلال المطلق عن الدولة، ثم بتحريك أهالي كريد للنهوض إلى الثورة والانفصال عن الدولة حتى اضطرت الدولة إلى إكراههم على الطاعة بقوة الجند.
وبينما الدولة تلاقي هذه الخطوب بعزم ثابت ونضال مستمر حدثت الانقلابات الشهيرة والخطوب الكبيرة بموت السلطان عبد العزيز وتولي السلطان مراد ثم السلطان الحالي عبد الحميد، وقامت الفتنة ثانية في البلقان، وشبت بعدها نار الحرب الأخيرة بين الروسيا والدولة العثمانية، وانفصلت عنها بسببها البوسنة والهرسك والصرب والبلغار ثم الروملي الشرقي وتضعضعت قوى الدولة، وهذا ما تريده أوروبا منذ قررت الدول أن لا يهاجمن الدولة مجتمعات، بل ينتهزن مثل هذه الفرص وينقصن من أطرافها منفردات، وكانت فرصة ضعفها سانحة لهن عقب هذه الحرب، فأخذت إنكلترا جزيرة قبرص، واحتلت فرنسا تونس ثم احتل الإنكليز مصر، ولم يكف الدولة ذلك حتى قامت اليونان فاغتصبت تساليا، ثم أقامت حربها الثانية التي انخذلت فيها، فعاقبت الدول الدولة العثمانية على قهرها لليونان بفصل جزيرة كريد عنها، وكل هذه حوادث غير بعيدة عهد من الناس فلم نر حاجة للإسهاب في ذكرها وتجديد ذكرى الآلام في نشرها، ثم أعقب هذا أمور في مناهضة أوروبا للدولة العثمانية في الجليل والحقير من شئونها الداخلية، كانت ولم تزل تتجدد كل يوم، ومع هذا كله فإن السياسيين من أهل أوروبا لا يخجلون من الحق ولا يستحيون من جميع العالم الإنساني الشاهد عليهم بالكذب والبهتان، حيث ينادون بخطر الجامعة الإسلامية واتحاد الإسلام، مع أن المسلمين في كل ناحية من الأرض صاروا أسرى الدول الأوروبية، وأصبحوا لا حول لهم ولا قوة إلا تلك العاطفة الدينية المنبعثة عن الشعور دون العقل الفعال، كما أبنا عن ذلك فيما سبق من الكلام.
إن أوروبا تناهض المسلمين منذ عدة أجيال كما رأيت، وتنقص من أطراف ملكهم في أقطار الأرض، وهذه تركيا التي هي أعظم دولة إسلامية وتاريخها مع أوروبا شاهد على ذلك، وهذه القريم وقفقاسيا وداغستان وطاشقند وبخارى وخيوى وتاريخها مع الروسية شاهد على ذلك، وهذه الهند والسند «بلوجستان» وجزائر آسيا وإفريقيا كجاوى وسومطرا وسنغافوره وهنزوان وزنجبار والبحرين وغيرها، وتاريخها مع إنكلترا وفرنسا وهولاندا والبرتغال شاهد على ذلك، وهذه إفريقيا الشرقية وتاريخها مع إيطاليا وإنكلترا وفرنسا وألمانيا شاهد على ذلك، وهذه إفريقيا الشمالية والغربية وتاريخها مع إنكلترا وفرنسا شاهد على ذلك، وهذه إفريقيا الوسطى والسودان المصري وتاريخها مع إنكلترا وبلجا وفرنسا شاهد على ذلك، وهذه مراكش التي هي البقية الباقية من إفريقيا الشمالية الغربية ومعاهدة أبريل سنة (1904م) بين إنكلترا وفرنسا القاضية بسلب استقلالها شاهدة على ذلك.
هذا ما تفعله الدول الأوروبية بالمسلمين ودولهم منذ أربعة قرون تارة مجتمعات وتارة منفردات، وهكذا كانت ولا تزال تتشاطر ملك الإسلام وتقف لأهله في كل مرصد وتسد في وجوههم كل منفذ، وأكثر الساسة والكتاب الغربيين ينذرون البقية الباقية من دولهم بيوم عصيب وخطر قريب، يجهزون به على البقية الباقية لهم من الاستقلال إذ حان على زعمهم بعث المسألة الشرقية من رمس السياسة، وهي المسألة التي طال قولهم فيها وتعريضهم بها وأقوالهم في هذه المسألة مستفيضة في التاريخ وعلى الألسن، فمن العبث استقصاؤها في هذه العجالة، وإنما ننقل قولا واحدا لمتأخر جاء في كتاب «مستقبل مصر» تأليف «المستر ديسي» المطبوع حديثا وهو قوله:
ومن الجلي أن المسألة الشرقية تحل نفسها بنفسها، وإن كان هذا الحل يظهر أنه بطيء للأمم التي تئن من الظلم التركي والتي هي في شوق لأن ترى مصرع الرجل العليل في أوروبا (يريد الدولة العثمانية) ليقتسموا ميراثه بينهم، ولكن مرض الدولة العلية قد بلغ حدا من المحال أن تبرأ منه، وليست حقيقة المسألة الشرقية البحث عن الوقت الذي يتقلص فيه ظل الأتراك عن آخر أملاكهم في قارة أوروبا، وإنما الحقيقة التي يبحث عنها هي من ذا الذي يخلفهم في القسطنطينية والبوسفور والدردنيل، وكلما تباطأ حل هذه المسألة كلما زادت فوائد إنكلترا بصفتها نصيرة السلام العام، ولا حاجة بي إلى بيان أنه لولا الخوف من سعة نفوذ الروسيين لمحي الأتراك إلى اليوم من صحيفة الوجود في أوروبا، ومهما كانت نتيجة القلاقل المنتشرة الآن في الروسيا سواء كان نتيجتها نزع سلطة القيصر أو محو آثار هذه القلاقل، فمما لا ريب فيه أن حربا ستقوم يمحى بها أكثر الأتراك من أوروبا، ولا بد أن يأتي يوم نسمع فيه أن المسألة الشرقية قد انحلت.
ثم هو يدعو في مكان آخر من هذا الكتاب الدول المسيحية إلى الاتفاق على جهاد المسلمين وسحقهم خصوصا في إفريقيا.
كل هذا يسمعه المسلمون ويرون أثره ظاهرا في وجودهم السياسي الذي تكافحه أوروبا منذ أربعة قرون، وكادت لهذا العهد تأتي على آخره، وتمحو من الوجود معالمه، فماذا صنع المسلمون؟ هل خطر لهم يوما خاطر الاتحاد الإسلامي أو هبت في نفوسهم عاطفة الدين فمد بعضهم لبعض يد الإخاء وتناصروا على دفع الأعداء، وهل كان أمراؤهم الكبار وطواغيتهم الجاهلون الأغرار يتناصرون حين اشتداد الخطوب ويتصارخون حين الحاجة ويتحابون عند نزول العدو في ساحة أحدهم بقصد اكتساح بلاده وثل عرشه واستخذائه وقومه؟
كلا، بل بلغ بهم ضعف العقول، وانحلال الرابطة أن كان بعضهم عدوا لبعض يتربص به الدوائر، ويسارقه نظر العدو الغادر أو الصديق الجاهل، ولم نظفر في التاريخ الحديث - أي منذ نهوض الدول الأوروبية لمصادرة المسلمين ومناوئتهم - إلا بالشاذ النادر من الأخبار التي تنبئ عن الاستنجاد أو التناصر بما لا يتعدى حد القول، ولم يبرز من القوة إلى الفعل، وها نحن نسوق إليك تلك الأخبار في مساق الحكم على ضعف أمراء المسلمين وانحلال رابطة الوحدة الإسلامية بين حكومات الإسلام، بل والوحدة السياسية أيضا التي تقضي بها طبيعة الاجتماع لما يقابلها من وحدة السياسة الغربية التي ترمي بسهامها إلى غرض واحد وهو تدويخ المشرق واستعباد أهليه، وهذا ما تشتغل أوروبا للوصول إليه من عدة أجيال، وحسبك من نتائج تخاذل الحكومات الإسلامية المدارة بيد الأفراد، سقوط مملكة الأندلس بيد الإسبانيول وهي تستغيث بأمراء المسلمين وليس من مغيث، وآخر مدينة سقطت منها بيد العدو مدينة غرناطة وأميرها يرسل الرسالة تلو الرسالة إلى سلطان المغرب السلطان الشيخ الوطاسي والسلطان بايزيد العثماني لينجداه وينقذا المسلمين من بلاء كبير أعده لهم الإسبانيول، فلم ينجده إلا السلطان بايزيد برسالة بعث بها إلى پاپا رومة لم تغن عن جند أو مال، وانتهت الحال بسقوط الأندلس كافة بيد الإسبانيول.
أشرنا فيما سبق إلى أن وجود الدولة العثمانية بين دول أوروبا والشرق الأقصى وعدم تمكنهن من الاستيلاء على ممالكها حول مطامعهن إلى المحيط الهندي خصوصا بعد اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح، فانكفأت الدول الطامحة إلى الفتح والاستعمار على تلك الأرجاء، وأخذت بأكظام المسلمين على حين استحكام العداوة بين أمرائهم وتفشي الجهل والفوضى بين خاصتهم وعامتهم، ولما ضاقت بأمراء الهند سبل الخلاص من تلك الدول وخاصة الإنكليز والبرتغال؛ كان أول من تنبه منهم إلى وجوب الاستعانة بغيره من سلاطين المسلمين السلطان علي نجا سلطان مليبار في الهند، فأرسل إلى السلطان عبد الحميد الأول سنة (1191) رسولا ومعه كتاب يقول فيه إن المرحوم السلطان مراد كان أسعف حكومة مليبار بسفينتين حربيتين وجنود انتصرت لهم على أعدائها من المجوس وذلك سنة (950ه)، ويطلب في هذا الكتاب تجديد هذا التفضل من الدولة على حكومة مليبار بإنجادها الآن بالمال فقط لتستعين به على محاربة أهل جوارها من المجوس الذين كانوا أصلوا السلطان علي نجا حربا عوانا بدسائس الإنكليز والبرتغاليين، وكانت الدولة أكثر منه حاجة إلى المال، فلم تساعدها الأحوال على إسعافه بما طلب، ثم في سنة (1194ه) أرسلت أخته السلطانة بيبي وكانت خلفته في الملك رسولا آخر إلى الأستانة تستنجد الدولة العلية على أعدائها، فاعتذرت الدولة ببعد المسافة بين المملكتين وأعادت الرسول مصحوبا بهدية نفيسة إلى السلطانة مع تطمينها أن الدولة أوصت دولة إنكلترا والبرتغال بعدم التعرض لحكومة مليبار بما يقلق راحتها وراحة الأهلين، ثم لما اشتدت وطأة الإنكليز على بلادها وأشرف ملكها على السقوط، وذلك سنة 1199 ولم ينجدها أحد من ملوك الهند المتخاذلين استنجدت بالدولة أيضا، والدولة كتبت إلى والي بغداد تسأله إن كان في الإمكان إسعافها بشيء من النجدة، ولم يتم لتلك الملكة التعيسة ما تريد؛ لأن الدولة كانت في حرب دائمة مع أوروبا في ذلك الوقت وخصوصا الروسية، فلم تستطع إمداد الهنود بشيء من القوة، ولو فعلت لكانت لها السيادة على الهند إلى اليوم.
Shafi da ba'a sani ba