جمال الدين الأفغاني
جمال الدين الأفغاني
جمال الدين الأفغاني
جمال الدين الأفغاني
ذكريات وأحاديث
تأليف
عبد القادر المغربي
جمال الدين الأفغاني.
جاء في كتاب «الإسلام والتجديد في مصر» لمؤلفه الكاتب الأمريكي المشهور الدكتور تشارلس
تفيض كتابات الشيخ عبد القادر المغربي بنفحة من الروح النقدية الحرة التي اشتملت
جمال الدين الأفغاني
ولد سنة 1254ه/1839م، وكانت وفاته 1314ه/1897م
1
مهما بحث الباحثون في تاريخ نهضة الشرق الإسلامي، وتشعبت بهم الطرق في تعيين
قام في أواسط القرن الماضي رجال مصلحون من أبناء الشرق الإسلامي متقاربو الزمن،
وصراحته في دعوته هذه هي التي كانت تحول أحيانا بينه وبين نجاحه فيما كان يسعى
بل لقائل أن يقول: إن إخفاق جمال الدين في بعض ما حاوله هو سلم النجاح في كثير
•••
توفي جمال الدين في الآستانة عام 1315 هجرية (1897م)، ونحن اليوم في سنة 1366ه/1948م،
مرور نصف قرن على وفاته نبه العالم الإسلامي إلى هذا الرجل وفضله على الشرق
هذا الخبر عن نقل جثمان السيد جمال الدين هاج في خاطري ذكرى أستاذي العظيم، ومثل
والكلام على جمال الدين وتقصي أخباره له عدة شعب، وسأقتصر في معظم ما أدونه
2
أول ما فوجئت باسم جمال الدين كنت تلميذا في المدرسة السلطانية التي أمر بإنشائها
رأيت يوما الشيخ أحمد بين الطلاب وهم في ساحة المدرسة يرتعون ويلعبون، وحوله طائفة
1
الشيخ محمد عبده، وأشار إلى الآخر قائلا: وهذا أخوه حمودة.
وكنت لا آبه بهذين التلميذين، ولا أرتاح لرؤيتهما، فصرت من يومئذ أنظر إليهما
2
بلغت صفحاته خمسمائة صفحة ما زال عندي إلى اليوم، وهذه صورة ما كان
العروة الوثقى
لا انفصام لها
جريدة سياسية أدبية تصدر يوم الخميس
مدير السياسة
المحرر الأول
جمال الدين الحسيني الأفغاني
الشيخ محمد عبده
ترسل الجريدة إلى جميع الجهات الشرقية.
من شاء أن يبعث إلينا بتحارير أو رسائل في أي
6 Rue Martel à Paris .
قد عينت أجرة البريد خمسة فرنكات في السنة لمن تسمح بها
وهذه صورة ما كتب في فاتحة العدد الأول:
العدد الأول من
العروة الوثقى
لا انفصام لها
يوم الخميس في 15 جمادى الأولى سنة 1301
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. هذا ما تمده العناية الإلهية من
أوغل الأقوياء من الأمم في سيرهم بالضعفاء حتى تجاوزوا بيداء الفكر ... إلخ.
وهذه الفاتحة هي خلاصة برنامج الغرض الذي أنشئت مجلة «العروة الوثقى» من أجله:
فالأفغاني وعبده كانا يريدان أن يكون لهؤلاء الضعفاء - وهم المسلمون - دولة قوية آخذة
•••
هذه الفكرة التي تلقنتها من العروة الوثقى اختمرت في نفسي واستولى سلطانها
فلا جرم أن «العروة الوثقى» مهدت بين يدي ناشئة العرب مناهج في الكتابة وأساليب
وقد تضمن العدد الأول مما يحتاج إلى الشرح من فصيح اللغة نحو ثلاثين كلمة، وعلى هذا
وقد استعملت العروة كلمة «النقاط» جمع نقطة بمعنى المركز
، أو بمعنى موقع استراتيجي كما يقولون اليوم، فقالت: «وتمكن
وهكذا نرى أن «العروة» تضمنت من الكلمات الفصيحة والتعابير الرشيقة ما شاع على
أما المطالب والموضوعات الاجتماعية والانتقادية والأخلاقية، فحدث عن كثرتها
وأما الشئونات السياسية فهي بيت القصيد، وحب الحصيد من الأغراض التي أنشئت لأجلها
وكانت العروة تتفنن في أساليب التأليب على الإنجليز وتصغير شأنهم، والتحذير من الوقوع
أسطورة
ذكروا في أساطير الأولين أن هيكلا عظيما كان خارج مدينة إصطخر، وربما أوى
3
نفسه بيده، فذهب إلى الهيكل لعله يصادف منيته، فإذا بالقرب منه
وبريطانيا العظمى هيكل عظيم يأوي إليه المغرورون إذا أوحشت نفوسهم ظلمات
أسطورة أخرى
قالوا إن زنجيا أسود هائل المنظر، غليظ الشفتين، مقلوب المشفرين، جاحظ
4
وتقول لهم: لا تحزنوا، فإني معكم. وجميع المصريين من توفيق باشا
هذا نموذج من جهد جمال الدين الأفغاني ونشاطه السياسي، وهذه هي أفانينه الخلابة
قال الشيخ رشيد في مقدماته لكتابي «الجزء الثاني من البينات»:
وأكبر ما أثر في أنفسنا وعقولنا وظهر أثره في إنشائنا لفظا ومعنى
وبلغنا أن مصورا مسيحيا من أهل بلدنا (طرابلس) عاد إليها بعد غيابه عنها في
ومن ذلك أن الشيخ علي العمري المشهور بالصلاح والكرامة - رحمه الله - صادفنا في
وكثرة اهتمامنا بالأفغاني والشيخ عبده، والحرص على الاتصال بالوافدين من مصر
بقيت على هذه الحال في طرابلس زهاء عشر سنين 1301-1310ه، ثم برحتها إلى الآستانة
3
نشأ جمال الدين في مدينة كابل عاصمة الأفغان، فهو إذن أفغاني، والإيرانيون يقولون إنه
5
سنة 1327ه/1909م، ولعل مقالي هذا من أصرح ما كتب في هذا الموضوع.
ولم يبلغ السيد الثامنة عشرة من عمره حتى أتم دراسته للعلوم المختلفة، وعرض له أن
فكأنني بيكونسفيلد
6
زمانه
وكأنها من بغضها الأفغاني
وأخيرا تغلب «شير علي» على منافسه، فلم يتعرض للسيد بسوء لكنه أضمره له،
ويظهر أنه كان للسوريين دالة عظيمة على السيد مذ رضي أن يقرأ لهم «الإظهار»،
7
وعلم النحو أقل شأنا من أن يشتغل السيد في نشره وتلقينه للطلاب؛ إذ إن
ثم شخص السيد من مصر إلى الآستانة في عهد الصدر عالي باشا، وكان بزيه الأفغاني
قال المستر بلنت الإنكليزي: «إن سعي العثمانيين في تحويل حكومتهم إلى دستورية في
وهكذا كان تأثير جمال الدين في نهضة مصر أيضا؛ فقد خطب سعد باشا زغلول في بعض
عين جمال الدين وهو في الآستانة عضوا في مجلس المعارف الأعلى، وألقى خطابا في
ولم تكن نبوة مكتسبه
ولو رقى في الخير أعلى عقبه
بل ذاك فضل الله يؤتيه لمن
يشاء جل الله واهب المنن
غير أن والدي في مقدمة رسالته أطال في التشنيع على السيد وتعييره بالتهمة التي
ويظهر أن حادثة «دار الفنون» أثرت في نفس جمال الدين تأثيرا جعله ضعيف الثقة
أدت هذه الحادثة أخيرا (حادثة خطابه في دار الفنون) إلى خروج السيد من الآستانة
وقد نشأ له من جراء صراحته هذه وتجديده في العلم والدين وفهم الحياة مريدون
وطلبه «تشرشل» و«سالسبوري» إلى لندن ليسألاه رأيه في مهدي السودان، فذهب إليهما، ثم
واتفق أن كان في البصرة يومئذ قاضيها عبد الحميد أفندي الرافعي الطرابلسي، فروى
وبعد أن غادر البصرة أقام في لندن يتحدث إلى الإنكليز في مجتمعاتهم وأنديتهم. وكان
وكان السيد مع «أبي الهدى» في أول الأمر على وفاق وجميل صحبة، وقد شهدتهما
وسمعت شيخنا الشيخ حسين الطرابلسي مؤلف الرسالة الحميدية يقول: إنه كان في مجلس
•••
وبعد وصولي إلى الآستانة بأيام، وقبل أن أتصل بالسيد الأفغاني، كانت تقع عيني أحيانا
8
منتبذين في ناحية منه يعيشون تحت أكواخهم المعهودة، وأن الشيخ جمال الدين
فقلت له: إن السيد جمال الدين على ما يظهر يجد في حديث هؤلاء القوم ما يسليه،
وإن العقلية الفلسفية ليست كالعقلية التجارية؛ فإن نفس الفيلسوف يلذها أن تغوص في
والأفغاني في تحدثه إلى الغجر وتنزله إلى مجاملتهم، وتأنيسهم يشبه ما حكي لنا عنه
وقد عرف من أمر السيد أنه ما كان يتعاطى محرما، وراوي الخبر لم يقل إنه شرب
دخل السيد الأفغاني ورفاقه على الفتاة، وإذا هي كما وصفوها جمالا وذكاء، فأشار
•••
قصدت إلى زيارة السيد الأفغاني في «المسافرخانه»، حيث كان ينزل المسافرون من ضيوف
وقد سمعت من لفظ شيخي المشار إليه - رحمه الله - أنه لما كان في الآستانة اجتمع
قال شيخنا الجسر: فاعتذرت عن مدير الجريدة بطبيعة الوقت، وأن الجريدة لا تعيش في بلاد
قال: فلم يقبل الأفغاني هذا العذر.
قال شيخنا: ورجوت الأفغاني أن يخفض صوته في حديثه معي؛ كيلا يشعر رجال المابين أنني
أقول: وقد أيد رأي شيخنا الجسر في الصحافة ومنزلتها يومئذ ما كان بعد ذلك من الشيخ
وقد كان شيخي الجسر مصلحا دينيا دقيق النظر، لكنه مع هذا بقي طول حياته محافظا
وتمحيص الخبر إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في
ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. وأما إذا كان الخبر مستحيلا فلا فائدة للنظر في تعديل الرواة وتجريحهم. ا.ه.
فكأن شيخنا الجسر رحمه الله في دروسه إنما يشرح لنا ما قاله ابن خلدون في نظريته، وقد
الله
، بينما كان والدي -
غير أني لما اتصلت بالسيد الأفغاني، وأنعمت النظر في دراسة تعاليمه، انتقلت في
قال السيد الأفغاني لجلسائه، وقد سئل عن رحلاته إلى لندن، إنه ذهب إليها ثلاث مرات،
أما المرة الثالثة التي نزل فيها السيد الأفغاني «لندن» فقد كان الغرض منها مقاومة
فكان جل ما يرمي إليه السيد في نزوله «لندن» هو أن يحفظ قلب إنكلترا على الشاه
ولم يخف هذا على الشاه، فكبر عليه وتعاظمه وأقلق راحته، فجعل يفكر في
صلى الله عليه وسلم
أن يقلع عن مقاومة الشاه
كل هذا سمعته من فم شيخنا الأفغاني الذي كان يرويه بطلاقة لسان وتوقد جنان.
وما كان أجوده بالأحاديث وقص الأخبار على جلسائه، فقد كان لا يبخل عليهم بجواب، ولا
هذا فيما يتعلق بالجد من الأمور، أما لحين المطايبة وإرسال النكت، فهو الروض لا
أما فيلسوفنا «الأفغاني»، فما كنا نراه إلا مشرق الوجه، منبسط الأسارير، جذاب
روى الأستاذ عباس محمود العقاد في بعض كلامه على سعد باشا زغلول، وقد بشره (أي
قال لنا السيد: مر بالهند سفير أرسلته حكومته الأمريكية إلى بلاد الصين، ثم ما
وكيف يسمح السلطان للسيد بالسفر إلى أمريكا فينشر ثم من أخبار الآستانة وعجر
وسئل السيد عن رأيه في «عبد الله وليم» الإنكليزي الذي كان أسلم في ذلك العهد،
قال السيد: واستأذنت يوما على السلطان، فعينوا لي يوم الخميس للمقابلة، وجئت يوم
والحق أن السلطان كان يخشى شرة السيد ويحاذر صولته - كما مر آنفا - فهو
أما أن السلطان يريد أن يجعل الآستانة وطنا للسيد فهو قول لا محصل له في نظر السيد؛
أهم بشيء والليالي كأنها
تطاردني عن كونه وأطارد
بعيدا عن الأوطان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد
ويا ليت الأفغاني كان اليوم حيا فيرى ما وفق إليه زعماء العرب أخيرا من تكوين
وعرض في مجلس السيد ذكر لميرزا باقر، فسئل السيد عنه، فحكى لنا ملخص ما
إن هذا الرجل تعلم في مدارس الهند الإنكليزية وهو صغير فتنصر، وسمي
وكان السيد أمر رجاله الأفغانيين أنهم إذا رأوا ميرزا في حيهم يقتلونه،
وقد نظم بعض الإيرانيين قصيدة باللغة الفارسية مدح بها فيكتوريا ملكة
هذا ما سمعناه من فم جمال الدين عن ميرزا باقر رحمه الله، وأنه ختم حياته الجديدة
وما قاله الشيخ عبده يذكر بما كان من الفخر الرازي، فقد كان يقوم على منبر الري
خلت الديار فسدت غير مسود
ومن البلاء تفردي بالسؤدد
وسمعت السيد الأفغاني يقول في مجلس له: إن أهل أوروبا مستعدون لقبول الإسلام إذا
قال السيد: والقرآن من أكبر الوسائل في لفت نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام، فهو
قال: فإذا أردنا اليوم أن نحمل غيرنا على الدخول في ديننا، وجب علينا قبل كل شيء
وأفاض السيد في مزايا القرآن وتعاليمه السامية، من ذلك أنه (أي القرآن) أول من دلنا
قال: ومن مزايا القرآن أن العرب قبل إنزال القرآن عليهم كانوا في حالة همجية لا
ولما انتهى الحديث بالسيد إلى هنا تنفس وقال: لولانا، لولانا، القصور منا والتبعة
السيد الأفغاني ينبهنا إلى أن القرآن لم يعد وحده في قلوبنا ولا على أكفنا؛
ولتكن منكم
، وإنما نحن اليوم حملنا مع
وجيء يومئذ بجهنم ، هذه الجملة «تقاد - أي جهنم - بسبعين
وكما قلنا فيما سبق أن تمييز النصوص صحيحها من فاسدها، والجرأة في نصرة الصحيح والجهر
صلى الله عليه وسلم
في حياته هو تفسير للقرآن، وعمل بالقرآن،
القرآن وحده سبب الهداية، والعمدة في الدعاية، أما ما تراكم عليه وتجمع
وكأن السيد يريد أن يقول في تعاليم الإسلام: إن الشجرة إذا ازداد نموها، واشتد
فالبستاني الحاذق يعمد إليها فيبتر ويشذب، ويقلم ويهذب، ويبقي على بعض أصولها،
ورأى بعض جلساء السيد الأفغاني ما تركه الحديث السابق في نفسه من أثر انفعال
أجاب السيد الأفغاني عن دليل الجوهر الفرد، بأننا لو وضعنا كرة تامة الكروية على
9
والفرق بين هذا الجزء وبين الجوهر الفرد الذي يؤدي إنكاره إلى القول
واعترض الحديث بعض أدباء الترك الحاضرين في المجلس بمناسبة ذكر الجوهر الفرد،
ومن كلام السيد الأفغاني في فلسفة اليونان واحتضان فلاسفة الإسلام لها قوله: «إن
أما سبب زهد السيد الأفغاني في الزواج فأجاب عنه بقوله: «الإنسان في هذا العالم
وكان السيد يرتضخ لهجة مصرية، ولا غرو فقد أقام في مصر نحو ثماني سنوات. والشيخ عليش
وهكذا عاش شيخنا الأفغاني عزبا، والتحق بربه عزبا. وقد شغله عن اتخاذ الأهل
وذكر السيد الأفغاني للشيخ عليش وتمثله به في مسألة الزواج يدل على أن السيد -
أما ما لم يكن طبيعيا في نظر السيد الأفغاني، ولا يمكن أن يتحمله أو يغمض فيه
10
للسيد جمال الدين بعنوان «الحكومة الاستبدادية»، وقد وصف فيها هذه
4
وللسيد الأفغاني رسالة بليغة في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين
إن كثيرين من مسلمي الهند تلوثوا بهذه البدعة التي بثها الإنكليز في
Nature ،
11
ففتحوا مدرسة عظمى لنشر تعاليم النيشرية وبث مباديها في نفوس النشء
قال السيد: وإنما سعى الإنكليز في جعل المسلمين دهريين، ولم يسعوا في جعلهم
ولزيادة الفائدة في التثبت من هذا الموضوع - موضوع نشر الإلحاد - ومقاومة شيخنا
19 محرم سنة 1298ه
قال المولوي محمد (بعد رسوم المخاطبة): يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت نيشر
فأجابه شيخنا الأفغاني بكتاب هذا نصه:
محبي العزيز ... «النيشر» اسم للطبيعة، وطريقة النيشر هي تلك الطريقة الدهرية التي ظهرت في
شرح لنا السيد الأفغاني في مجلسه كل هذا، وانتهى به القول إلى وصف ما عليه قبائل
قال: فقبائل الهند لا يعرفون من أحكام دينهم - دين الإسلام - إلا جواز أكل لحم البقر،
واستطرد إلى وصف نيشريي الهند ومآربهم، والطرق التي يسلكونها للوصول إلى أغراضهم،
وما قاله السيد عن نيشريي الشرق الأوسط ذكرني بما يقال عن ماسون الشرق الأدنى،
Europe )، وكان الغرض من نشوئها في الأصل إضعاف
ثم قال السيد: وكما كانت روح الماسونية سياسية محضة، كانت روح البروتستانتية سياسية
وسألنا شيخنا عن مصير آثاره، وما وضعه من الرسائل والتصانيف، فقال: إنه لا يوجد لديه
وسألته عما إذا كان أنجز وعده الذي بلغنا عنه من أنه سيؤلف كتابا في حقيقة
ولما سمعنا هذا من السيد عجبنا منه! كيف لا يرغب في وضع التصانيف المطولة، وإنما
12
وروى الشيخ عبد الرشيد إبراهيم، أن للسيد الأفغاني رسالة في الرد على المسيحيين، ولم
فالمصلحان العظيمان لم يشاءا أن يؤلفا، ولا أن يخوضا غمار المناقشات الدينية
ولا جرم أن الجدل مع المخالفين والرد ورد الرد يشغل رجال الإصلاح عما هم
وبعد أن تحدد مطالب «الإصلاح» وتعين، يجب الإلحاح في الدعوة إليها، وحمل
ما لنا وله، هذا «محمد» وبحسبنا «محمد» مثلا، قام
صلى الله عليه وسلم
في وجه المشركين،
وبهذه الصورة انتشر التوحيد، وخالطت بشاشته قلوب العرب، حتى إذا تم له
صلى الله عليه وسلم
ما
هذا ما كان يطمح إليه شيخنا الأفغاني؛ ولذلك لم يكثر من التأليف خشية أن يصرفه
•••
وجرى في بعض جلساتنا إلى السيد ذكر ما وقع له ولناصر الدين لشاه من الإحن والمحن،
13
وأشرنا إلى ما في الكتاب من بلاغة وحسن تصرف في التهييج، وإثارة الحفائظ على
جئت بطرسبرج، فمكثت فيها أكثر من أربع سنوات، وفي خلال هذه المدة زارها
«كذا سألته وكذا أجابني»، وكلا السؤال والجواب مستغرب في نظري اليوم. ولا أتذكر
والشاه عبد العظيم هذا من أحفاد بعض أئمة آل البيت، ومقامه حرم من دخله كان
قال: ولما قدمت الآستانة أخبرني السلطان بأن سفير إيران طلب مقابلته مرتين، فكان لا
وذكر السيد أنه حمل بعض مجتهدي إيران على تحريم شرب الدخان، وقد أراد ببعض
وثار العامة على الشاه وأحاطوا بقصره ليقتلوه أو يلغي المقاولة المعقودة مع الإفرنج
ويحسن أن نروي للقارئ ملخصا من خبر إقامة السيد الأفغاني في البصرة، وما جرى له
قص علي أحد وجهاء طرابلس الشام الخبر الآتي، يرويه عن صديقه الشيخ عبد الحميد
وسألني سائل في بعض أندية طرابلس عن هذا القول، وعن التوفيق بينه وبين ما قاله كل
ا.ه.
هذا ما قاله الإيراني الأزهري مما يصلح للتوفيق بين القولين والتقريب بين
قال القاضي: كان والي البصرة ليوم قدوم جمال الدين إليها «هدايت باشا»، وهو رجل جليل
قال القاضي: فأبلغت هدايت باشا ما قصه علي السيد الأفغاني، فأودعه برقية شيفرة
قال القاضي: ولما هم السيد جمال الدين بركوب البحر إلى لندن لم يكن في جيبه سوى
ووصل السيد جمال الدين إلى لندن، ولبث فيها يخطب ويكتب طاعنا في الشاه وحكومته حتى
بمثل هذا القول الثائر والمحرض أحرج الشاه وضاق صدره، فالتجأ إلى السلطان فكتب
وبمثل هذه الأخلاق الفاضلة والمزايا العالية كان جمال الدين جمال الدين، لا بالانتساب
5
ونرجع إلى مجالسنا إلى السيد مذ كنا معا في الآستانة سنة 1310ه: للسيد
إذا تصفحته وجدت فيه مقاطع كثيرة يستأنس بها، على أن السيد كان أفغانيا
ولو كان الأفغاني إيرانيا لكانت لهجته في التحدث عن سنية الأفغانيين وتشيع بعض
ومن لطيف ما جاء في مقدمة تاريخ الأفغان، وفيه دلالة على تشاؤم السيد الأفغاني
14
المبتلى بجوع البقر والاستسقاء، الذي لم يشبعه ابتلاء مائتي مليون من
15
به. فقد كان يهيج الهنود عليهم ويثير حفائظهم، ويوقد نار حميتهم بمثل
وكان السيد جمال الدين - رحمه الله - يزيدنا على ما تقدم كثيرا من وقائعه
•••
وأفاض السيد يوما في وصف رحلته إلى أوروبا وما شاهده في عواصمها الكبرى، وجعل
فلم يعجب السيد هذا التفاؤل المرح الذي آنسه في كلامي، وقال: إننا معشر المسلمين
فقال: إن ما نراه اليوم من حالة حسنة فينا هو عين التقهقر والانحطاط. - ولمه؟ - لأننا في تمدننا هذا مقلدون للأمم الأوروبية، وهو تقليد يجرنا بطبيعته إلى
- لا بد من حركة دينية. - زدني إيضاحا في معنى الحركة الدينية. - إننا لو تأملنا في سبب انقلاب حالة عالم أوروبا من الهمجية إلى المدنية نراه لا
ثم قال: ونتج عن نشوء «البروتستانتية» في أوروبا مباراة ومسابقة بينها وبين
(1)
الطباعة، وكان ظهورها سنة 1450م، وجعلها بعضهم أهم العوامل حتى قال: إن
(2)
فتح القسطنطينية (سنة 1453م) من قبل الأتراك العثمانيين، وهجرة
Renaissance . (3)
اكتشاف رأس الرجاء الصالح سنة 1486م، وبذلك اتصل الغرب بالشرق،
(4)
اكتشاف أمريكا من قبل «كريستوف كولومب» عام 1492م.
فالعوامل الخمسة بما فيها الإصلاح البروتستانتي هي المؤثر المباشر في ظهور مدنية
إن الله لا يغير ما
(قرآن كريم). وشيخنا
ثم رأيت أن أستزيد شيخنا الأفغاني تحديثا عن الحركة الدينية التي ذهب إلى أن
أما المسلمون فدينهم ما في القرآن، وهو محفوظ من التغيير والتبديل، وليس من شأنه أن
قال: ولا بد أيضا من تهذيب علومنا، وتنقيح مكتبتنا، ووضع مصنفات فيها قريبة
ا.ه ما قاله السيد الأفغاني في تفسير معنى حركته الدينية أو الإصلاح الديني، وروح هذا
6
ومن ملح أخبار السيد الأفغاني بعد جيئته الثانية إلى الآستانة أن سمو خديوي مصر
فلم يكن بأسرع من أن استدعى السلطان السيد جمال الدين إلى قصره، وأطلعه على
صلى الله عليه وسلم
كان له من صحابته جماعة يخبرونه بما ينبغي أن يعرفه من أخبار
صلى الله عليه وسلم
ما كان ليأتمن على هذا العمل إلا
وكان للسيد جمال الدين جرأة ودالة على السلطان لم تعهد لغيره. وحدثني صديق صادق
فلاطفه السلطان وهدأ خاطره، وسأله عن الأمر الذي أزعج باله، فلما أخبره
ولما كان السيد في روسية أحب القيصر أن يراه، فاستدعاه إليه، فكان مما سأله عنه
ولما سمع القيصر هذا من جمال الدين تمعر وجهه وكلح، وقال له: الحق مع الشاه،
وحدثني صديق آخر من أعيان دمشق بلطيفة من لطائف السيد الأفغاني مع جواسيس السلطان
فقيل له يوما: أبعد عنك هذا الرجل (يعنون المكي اللاجئ إليه)، وأرح نفسك من
وسأل بعض المتحذلقين من طلاب العلوم الدينية السيد الأفغاني عن الإيمان: هل يزيد
ومن أمتع ما روي من لطائف السيد الأفغاني وهو في مصر، أنه كان واقفا في
16
ضاحكات أحيانا ويتبادلن كلاما حسبه رفاق السيد استخفافا بالسيد،
ولعل التنبيط مأخوذ من اسم «النبط» وهو جيل معروف، ومعظمهم يشتغلون بالفلاحة، فيكون
وقد عرف من رأي السيد الأفغاني أنه يجوز استعمال الدخيل واللفظ الأعجمي في
وأنه تعالى جد ربنا
أن
ومن أشهر آراء السيد جمال الدين التي تتعلق بأبحاث اللغة ما رواه الأستاذ اللغوي
وقد علق الأستاذ البستاني على ما قال الأفغاني مستحسنا، وعلق الأب أنستاس
إذن لا غبار على ما قاله السيد في عبارته المذكورة، فإنه إنما استعمل «البقروت » فيها
7
مر في صدر الكتاب أني كنت أنا والأستاذ رشيد رضا شريكين في التعلق بالسيد
واتفق أن تأخر لقياي السيد بعد وصولي إلى الآستانة لأسباب عرضت يومئذ، وكتبت
وصف الشيخ رشيد ذلك كله في كتابه إلي بأبلغ قول وأمتع أسلوب، وقال في خلال
ثم قال الشيخ رشيد في آخر كتابه: «اعتذرتم عن تأخير المكاتيب بانتظار الاجتماع بهذا
وكنت قبل وصول هذا الكتاب من الشيخ رشيد اجتمعت بالسيد الأفغاني، وعرفته من خبري
لقد
17
الثاني» أدور معه حيث يدور، لكنكم أديتم هذا على غير وجهه، إذ إنكم
وعلى كل حال نقول: جعل الله سعيكم مشكورا، وعملكم مبرورا، وحظكم من الكمال موفورا،
وتلطف واجر ذكري عندهم
علهم أن ينظروا عطفا إلي
وفي نفسي أن أكاتب حضرة السيد، وأطلب منه ما كلفتكم بعرضه عليه أيضا (أي ملازمته)،
عسى يذكر المشتاق في طي رقعة
فحسب الأماني أن تريني رقاعه
أظنكم لم تسألوا حضرة «السيد» عما وعد به في رسالة إبطال مذهب الدهريين، من
انتهى ما بعث به الشيخ رشيد إلينا، وقد عتب فيه علينا مذ أبدلنا كلمة التردد
ولما جاءني هذا الكتاب الثاني من الشيخ رشيد زرت السيد جمال الدين وأطلعته
لا جرم أني لا أستحق أن يقول في السيد الأفغاني ما قال، غير أن الرجل هكذا خلقه
18
جواظا» ولا «مدلسا موالسا».
19
ثم انصرفت من مجلس السيد، وكتبت إلى الشيخ رشيد رحمه الله بما قلته له وبما
8
هذا، ولنختم الكلام عن شيخنا الأفغاني ببحث من أوصافه، أرجو أن يستطرفه القراء، وأن
نعم، إن ابن خلدون يشبه - ولا ريب - فيلسوفا مسلما سياسيا ثائرا عصريا، ألا
درس كل منهما العلوم الإسلامية، ثم تفوق على شيوخ زمانه بمهارته في الحكمة
كان كل من الرجلين يشتغل بالسياسة ويحرص على الرئاسة.
كان كل منهما سليم الصدر، سهل الاستمالة، طاهر القلب، ظاهره وباطنه سواء، كما
وبمثل ذلك وصف الشيخ محمد عبده جمال الدين، فقد كانا معا في باريس ينشئان جريدة
كان كل من ابن خلدون وجمال الدين يعمل عقله في فهم تعاليم الإسلام مستقلا
فما أشبه حالة ابن خلدون في بلاط غرناطة وفاس وتونس والقاهرة منذ خمسة قرون بحالة
وإن كان السيد الأفغاني قد ابتلاه الله من الشيوخ الجامدين بالشيخ عليش، الذي كان
عرض «بترو» ملك الإسبانيول على ابن خلدون أن يريح نفسه من العناء، ويقيم عنده،
مات ابن خلدون غريبا في مصر، ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر، وقبره غير
20
كان ابن خلدون آخر نجم سطع في سماء التفكير الإسلامي الحر، كما قال عنه كاتب ترجمته
عاش ابن خلدون في أشد أزمان العالم الإسلامي إظلاما من الوجهة الاستقلالية
كان حنيفا مسلما شديد الغيرة على دينه وملك قومه، وقد رأى هذا الملك
كان يسيح في العالم الإسلامي فاحصا منقبا، فيدرس ويكتب ويؤلف، ويهز
انطفأت تلك الشعلة وأغمض «ابن خلدون» عينيه في ذلك الظلام الدامس، وبعد خمسة قرون
فتح جمال الدين عينيه، ورأرأ بتوأمتيه، وأدارهما يمنة ويسرة في جنبات العالم
فماذا رأى؟
رأى ما كان رآه «ابن خلدون» منذ خمسة قرون، رأى الظلام ظلاما والقوم نياما، رأى
قام جمال الدين من قبر «ابن خلدون»، فكان همه همه، وغرضه في هذا النشور
هلموا حقيبة السفر وعصا السياحة. ساح جمال الدين في العالم الشرقي والغربي، إلى مكة
21
على السالفين، ونحيبي على السابقين، أين أنتم يا عصبة الرحمة، وأولياء
ولكن هل يئس «جمال الدين» من يقظة الشرق وسعي الشرقيين في الإصلاح؟
كلا، لم ييأس، نعم رأى شجرة العالم الإسلامي أصبحت أعوادا يابسة، غير أنه تراءى له
أهذه الأوراق الخضر المتفرقة هنا وهناك من الشجرة، أهي أوراق قديمة باقية من الحياة
ومهما يكن فإن في الشجرة اخضرارا، وفي المريض رمقا، وفي الجسم دماء.
فلنجتهد إذن ولنعمل على إحياء مجموع الشجرة، عمل «جمال الدين»، واجتهد حتى كل
روى الشيخ عبد الرشيد إبراهيم (الرحالة الروسي المشهور)، قال: دخلت على الشيخ
صلى الله عليه وسلم
قبيل وفاته: أمتي أمتي، وأنا أقول: ملتي ملتي»، قال: وبعد نحو ساعتين رجعت
Shafi da ba'a sani ba