صامت ما أسكته، وبليغ ما استنطقته، ومن لك بمسامر لا يبتديك في حال شغلك ويدعوك في أوقات نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له والتذمم منه.
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك، ونجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغرم، ومن كد الطلب، ومن الوقوف بباب المكتسب بالتعليم، ومن الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقا وأكرم عرقا، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الأغبياء.
قال ابن الجهم: «إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم - وبئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة - تناولت كتابا من كتب الحكمة، فأجد اهتزازي للفوائد، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة؛ أشد إيقاظا من هدة الهدم.
وإذا استحسنت الكتاب واستجدته، ورجوت منه الفائدة، ورأيت ذلك فيه، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقه مخافة استنفاده وانقطاع المادة من قلبه. وإن كان المصحف عظيم الحجم، كثير الورق، كثير العدد، فقد تم عيشي وكمل سروري.»
فالإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه، ولا بد من أن تكون كتبه أكثر من سماعه، ولا يعلم ولا يجمع العلم حتى يكون الإنفاق عليه من ماله ألذ عنده من الإنفاق من مال عدوه، ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذ عنده من عشق القيان لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا، وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله، وحتى يؤمل في العلم ما يؤمل الأعرابي في فرسه.
سياسة الحزم
من لم يعمل بإقامة جزاء السيئة والحسنة، وقتل في موضع القتل، وأحيا في موضع الإحياء، وعفا في موضع العفو، وعاقب في موضع العقوبة، ومنع ساعة المنع، وأعطى ساعة الإعطاء، خالف الرب في تدبيره، وظن أن رحمته فوق رحمة ربه. وقد قالوا: بعض القتل إحياء للجميع، وبعض العفو إغراء، كما أن بعض المنع إعطاء. ولا خير فيمن كان خيره محضا، وشر منه من كان شره صرفا، ولكن اخلط الوعد بالوعيد، والبشر بالعبوس، والإعطاء بالمنع، والحلم بالإيقاع، فإن الناس لا يهابون ولا يصلحون إلا على الثواب والعقاب، والإطماع والإخافة. ومن أخاف ولم يقمع وعرف بذلك، كان كمن أطمع ولم ينجز وعرف بذلك، ومن عرف بذلك دخل عليه بحسب ما عرف منه، فخير الخير ما كان ممزوجا وشر الشر ما كان صرفا.
ولو كان الناس يصلحون على الخير وحده لكان الله - عز وجل - أولى بذلك الحكم، وفي إطباق جميع الملوك وجميع الأئمة في جميع الأقطار وفي جميع الأعصار على استعمال المكروه والمحبوب دليل على أن الصواب فيه دون غيره. وإذا كان الناس إنما يصطلحون على الشدة واللين، وعلى العفو والانتقام، وعلى البذل والمنع، وعلى الخير والشر، عاد ذلك الشر خيرا، وذلك المنع إعطاء، وذلك المكروه محبوبا، وإنما الشأن في العواقب وفيما يدوم ولا ينقطع وفيما هو أدوم ومن الانقطاع أبعد.
ألفاظ الزنادقة
الزنادقة أصحاب لفظ في كتبهم وأصحاب تهويل؛ لأنهم حين عدموا المعاني ولم يكن عندهم فيها طائل مالوا إلى تكلف ما هو أخصر وأيسر وأوجز كثيرا. ولكل قوم ألفاظ حظيت عندهم، وكذلك كل بليغ في الأرض وصاحب كلام منثور وصاحب كلام موزون، فلا بد من أن يكون قد لهج وألف ألفاظا بأعيانها ليديرها في كلامه، وإن كان واسع العلم عزيز المعاني كثير اللفظ، فصار حظ الزنادقة من الألفاظ التي سبقت إلى قلوبهم، واتصلت بطبائعهم، وجرت على ألسنتهم، التناكح والنتائج والمزاج والنور والظلمة والدفاع والبقاع والساتر والغامر والمنحل والبطلان والوجدان والأثير والصداق وعمود الصبح، وأشكالا من الكلام نصا، وإن كان غريبا من فوضى، مهجورا عند أهل ملتنا ودعوتنا.
Shafi da ba'a sani ba