فطر الجاحظ على دقة الملاحظة، وهي تستدعي التقصي والإسهاب والإحاطة وحسن الوصف، ورأى أن كل ما في هذه الحياة يستحق العناية والبحث - جدا أو هزلا - فتناول مواضيع متناقضة، وطرق أبوابا لا يطرق عادة مثلها مثله، وعالج أمورا قد تبدو لأول وهلة تافهة، فوفى كل بحث حقه وزاد وتطول.
نعم، إن من بعض آرائه العلمية ما لا يقره العلم الحديث وأكثر ما تجد ذلك في كتاب الحيوان، ولكن كم رأيا في العلم بقي مسلما به منذ أحد عشر قرنا؟ على أن كتاب الحيوان كتاب أدبي أكثر منه علميا. •••
جرت العادة في النقد العربي ألا تعالج جهة الابتكار في الأديب إلا إذا كان شاعرا؛ وذلك لسهولة الاهتداء إلى المعنى المبتكر في الشعر العربي خاصة؛ إذ إن كل بيت منه وحدة مستقلة ذات معنى قائم بنفسه؛ فالعين نحوه أسرع والفكر إليه أهدى، وليس الشأن كذلك في النثر؛ فقد يكون الابتكار النثري في فكرة، وقد يكون في اختيار موضوع كما يكون في تبويبه أو جمعه ، فأغفلوا بحث الابتكار في الكتاب، وذلك من نواقص نقدنا، والجاحظ مبتكر في الإنشاء من حيث الأسلوب والمواضيع؛ فكل كتاب من كتبه حدث مبتكر بل فتح مبين في أدبنا، ورسائله في ممتع البحوث معان أبكار ما افترعها أحد قبله.
لم يكن الجاحظ من أولئك العلماء الذين تنازلوا عن حقهم في التدبر والتفكير، فنظروا إلى المسائل من جهة واحدة، بل كان أبعد نظرا وأرجح رأيا، يرى للقضية الواحدة عدة وجوه، فيعالجها جميعها بروية وإمعان من غير أن يحرج بها صدره أو تضيق بها نفسه.
عاش الجاحظ في وسط نجم فيه قرن الشعوبية والكيد للعرب في دينهم وسلطانهم وتاريخهم، فخاض هذه الغمرة وعالج أحداثها بما عرف عنه من الاستقصاء والتعمق، ولكن هواه كان مع العرب يرى تفوقهم بالكرم والمروءة والأنفة والحمية ومنع الجار وإباء الضيم، لا سيما في الشعر والخطابة.
يرى المثل الأعلى في البلاغة شعر العرب ويفضله على بلاغة سائر الأمم؛ لأنه جرى على ألسنتهم من غير تعمل ولا تكلف. أما كلام النبي فهو جوامع الكلم، فيه عبقة من الوحي الإلهي، محفوف بالعصمة والتأييد، وهو الحكمة وفصل الخطاب، وسيمر بك شواهد على كل ذلك من كلام الجاحظ. •••
كان الجاحظ من المعجبين بابن المقفع، وهو الذي نوه بذكره ودل على فضله، ولكنه لم يشأ أن يسلك طريقته في الأدب؛ لأن الجاحظ رأى أفق الأدب أوسع من أن يقصر على حكم ومواعظ تستقيم في النظر ويلتوي أكثرها في العمل، فمد بصره إلى أوسع من ذلك، ورأى أن الأدب يتناول الحماقة كما يتناول الحكمة؛ لأنه مرآة الحياة نعيمها وكدها، هزلها وجدها، وحكمتها وسخافتها، إلى آخر ما تشتمل عليه الحياة من المتناقضات، فكتب ما كتب من شتى المواضيع ومختلف الأبحاث.
وكذلك فإنه لم ير حاجة لاختراع الأشخاص الخيالية واصطناع الأوضاع القصصية لتقريب المعاني إلى الأفهام وإساغتها في الأذواق، شأن أصحاب المقامات من بعده، بل غشاها من ساحر بيانه بما جعلها فتنة القلوب والأسماع. والغريب أن أصحاب المقامات في قصصهم قصروا عن الجاحظ كثيرا في الترجمة عن الطبائع وتصوير الأخلاق مع أنهم نصبوا أنفسهم لهذا الغرض. •••
لم يبخس الجاحظ بقية الأمم حقها في العلم، ولكنه كان يعتقد أن العربية إذ ذاك أغنى اللغات علما وأدبا، تفي بحاجة كل طالب في كل فن. قال: «قل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين، إلا ونحن قد وجدنا قريبا منه في أشعار العرب وفي معرفة أهل لغتنا وملتنا.»
ويزيد على ذلك أنه كان يرى أن الحذق في غير العربية ينتقص فصاحة العربية ويتخون محاسنها؛ لأن النبوغ في لغتين متعذر. قال: «ومتى وجدناه - الترجمان - قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها، فكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعتين فيه كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة.»
Shafi da ba'a sani ba