صحيح أنني كلما ركزت انتباهي في إدراك معين أو فكرة بعينها. امتلكته واستحوذت عليه بشكل عميق وأقوى، لكن ذلك لا يتعارض مع القول بأن الإدراك الشاحب أو الفكرة الباهتة هما أيضا إدراكي وفكرتي، على الرغم من أن درجة استحواذي عليهما تكون أقل.
ويري «برادلي» من ناحية أخرى، أن الانتباه ينبغي - لا أن يكون له موضوع فحسب - بل أيضا: «أن يتضمن استبقاء والمحافظة على هذا الموضوع، ولهذا فهو يتضمن بعض التمهل والتأني
Some delay .
45
والواقع أن هذا الاستبقاء أو هذه المحافظة التي يتحدث عنها برادلي هي علامة تتميز بها بعض حالات الانتباه، لكنها ليست سمة ضرورية للانتباه الخالص والبسيط، وإلا فلن يكون في استطاعتنا أن نرسم خطا فاصلا يحدد مدة الزمن التي نستبقي فيها الموضوع الذي ننتبه إليه، أعني أن نرسم خطا، ونقول: تحت هذا الخط لا يكون الفعل انتباها، وفوقه يمكن أن يعد انتباها، فمن الواضح أن مثل هذا الخط الذي يعين الحدود بين المنطقتين لا يمكن رسمه. (30) ويجمل بنا هنا أن ننتهي من مناقشة ذلك التقسيم الشائع للانتباه، ذلك التقسيم الذي قد يضللنا ويجعلنا نقع في خطأ الظن بأن الانتباه على أنواع مختلفة؛ إذ كثيرا ما يقال إن الانتباه ينقسم إلى: انتباه إرادي، وانتباه لا إرادي. وهم يقصدون بالانتباه الإرادي ذلك الانتباه إلى بعض الأشياء أو بعض الأفكار بجهد من الإرادة. أما الانتباه اللاإرادي فهم يقصدون به ذلك الانتباه الذي تجذبه طبيعة الموضوعات ذاتها التي تسترعي الانتباه، مثال ذلك: الصوت المدوي، وومضة الضوء القوية. وبعبارة أخرى يقال عن الانتباه إنه إرادي حين يتم رغما عن إرادة الشخص المنتبه. غير أن هذا التقسيم يقع في مغالطة منطقية هي «مغالطة التسليم بالشيء قبل البرهنة عليه»، فهو يقوم على افتراض أسبقية الإرادة على الانتباه، أو أنها - على الأقل - مقترنة ومصاحبة للانتباه. فإذا ما وجدت الإرادة قبل الانتباه أو معه، سمي انتباها إراديا، وإذا غابت الإرادة، أو إذا ما سبقت إرادة الانتباه إلى شيء آخر الاتجاه الجديد الذي يتجه إليه الانتباه، سمي الانتباه في هذه الحالة انتباها لا إراديا. لكن أسبقية الإرادة على الانتباه أو ملازمتها له، أمر مشكوك فيه، لأن الإرادة هي نفسها نوع خاص من الانتباه، يتميز فيه الموضوع الذي ننتبه إليه بخصائص معينة. وهذه الخصائص التي تجعل الموقف السيكولوجي موقفا إراديا سوف تكون موضوعا لفصل خاص.
46
لا شك أن الظروف التي تؤثر في توجيه الانتباه نحو موضوعات معينة دون موضوعات أخرى، تكمن إلى حد ما - إن لم يكن إلى حد كبير - في طبيعة الموضوعات التي تسترعي الانتباه: فالضوء اللامع، والصوت المدوي، أكثر ترجيحا لجذب الانتباه من الصوت الخافت والصوت الضعيف. وقل مثل ذلك في الموضوع الضخم، فهو أكثر احتمالا لجذب الانتباه من الموضوع الصغير. وأكثر الشروط الموضوعية كلها أهمية في جذب الانتباه هو التغير الفجائي، فتوقف الجلبة والضجيج فجأة، أو بدايتهما فجأة، من المحتمل جدا أن تجذب الانتباه، وتلك هي الحالات التي يقال فيها إن الانتباه لا إرادي.
لكن ما السبب الذي يجعل الضوء اللامع أو الصوت المدوي يجذب الانتباه أكثر من الضوء الخافت أو الصوت الضعيف؟ لماذا كان الموضوع الجديد الذي يظهر فجأة في مجال الانتباه يسترعي الانتباه بشكل قوي؟ السبب دائما هو نفع الفرد ومصلحته. أو بعبارة أوضح: المحافظة على وجود الفرد وبقائه هي التي تحدد ما ينتبه إليه وما لا ينتبه إليه. ومن هنا فإن الضوء اللامع أو الصوت المدوي، أو الظهور المفاجئ لموضوع ما، قد تكون كلها مصادر خطر تهدد هذا الوجود . ولهذا فإننا - بطبيعة تكويننا العضوي نفسه - ننتبه بسرعة إلى مثل هذه الأشياء، لنتجنبها أو لنحترس منها. وسواء أكانت الظروف في ظاهرها ذاتية أم موضوعية، فإن النفع الحقيقي للفرد هو الذي يحدد باستمرار اتجاه الانتباه. ولو افترضنا أن طبيعة تكويننا العضوي كانت على نحو آخر، فربما جذب انتباهنا الضوء الشاحب لا اللامع، والصوت الخافت لا المدوي.
وما أشرنا إليه على أنه «نفع الفرد ومصلحته» ليس شيئا آخر سوي «لذة الحياة»، التي هي نفسها جزء وجانب من الحياة ... ولذة الكائن الحي هي أن يستمر في الحياة، وأن يجدد نفسه باستمرار كحياة جديدة ... ولا يخلو منها لون من ألوان الحياة، فلذة الحياة هي العامل المشترك بين الكائنات جميعا: الأنواع الفطرية، الأنواع التي لا تتحول إلى نوع آخر، من أضأل الحيوانات إلى الإنسان. وإنك لتجد هذا الطابع المشترك في عدة ملايين مختلفة من الأنواع، بحيث لن تفشل ولن تخطئ - ولو مرة واحدة - في ملاحظتها، فعقول الأفراد المتنوعة تنوعا لا حد له، والزواحف، والأسماك، والنحلة، والنملة، والأخطبوط - هي أنواع من الحياة، قد يبدو بعضها غريبا من حيث الذهن أو شكل الجسم - إلا أنها تشترك جميعا - مهما اختلفت - في تلك السمة الدائمة وهي: الاندفاع نحو الحياة، والاستزادة منها، وهي سمة يمكن أن نسميها لذة، وهي لذة موجودة، ويمكن لمن يتساءل عنها أن يتعقبها طوال الأشكال التي مرت بها الحياة، عائدا القهقرى من حياة الإنسان نفسها، ليجد أن اللذة أصبحت دافعا أعمى، ثم ليجد أن الدافع قد تنحى ليصبح باعثا لا عقليا، وقد يكون هو الذهن أيضا.»
47
Shafi da ba'a sani ba