ويوضح لنا ليبنتز هذه الإدراكات الضئيلة بصوت البحر الذي نسمعه حين نكون بجوار الشاطئ: «إننا لكي نسمع هذا الصوت كما يحدث لنا عادة، فلا بد لنا من أن نسمع الأجزاء التي يتألف منها الصوت كلها، أعني أن نسمع الأصوات التي تحدثها كل موجة على حدة، على الرغم من أن كل صوت من هذه الأصوات يبلغ حدا من الضآلة، بحيث لا يمكن أن يسمع إلا من خلال التركيبة الجمعية التي تأتلف فيها هذه الأصوات بعضها مع بعض، ومعنى ذلك أننا لا نستطيع في حالة زمجرة البحر أن نسمع الأصوات لو أننا عزلنا الموجة التي أحدثتها عن غيرها ولاحظناها بمفردها. ذلك لأن حركة هذه الموجة وحدها لا بد أن تحدث فينا أثرا غاية في الضآلة، ولا بد أن يكون لدينا إدراك لكل صوت من هذه الأصوات بالغا ما بلغت ضآلته، وإلا لما كان لدينا إدراك لمائة ألف من الأمواج، ذلك لأن اللاشيء لو تكرر مائة ألف مرة لما أصبح شيئا.»
38 (27) عملية انتباه إذن عملية مستمرة ومتصلة. والقطاع العرضي للذات في أية لحظة من اللحظات يتألف من الجانب الذاتي للانتباه والجانب الموضوعي لمجال الانتباه. ومن الواضح أن عملية الانتباه بوصفها فعلا لفاعل سيكوفيزيقي هي دائما شيء واحد. وهي هي نفسها؛ إذ لا توجد اختلافات كمية أو كيفية بين الحالات المختلفة للانتباه. وقل مثل ذلك في أي فعل بما هو كذلك؛ فالرؤية واحدة باستمرار وهي هي، والمرئيات هي التي تختلف وتتنوع. والسمع واحد دائما، والأصوات هي التي تختلف وتتنوع. وتلك هي الحال نفسها مع الانتباه وموضوعه: فالانتباه واحد، لكن مجال الانتباه يمكن أن يضيق أو يتسع تبعا لما يختاره الفرد المنتبه. والانتباه في اتساع مجاله أو ضيقه لا يغير من طبيعته. فمن الخطأ أن ننسب هذا الاتساع أو الضيق إلى الانتباه ذاته، كما نفعل عادة في حياتنا اليومية. والواقع أنه بسبب اتساع مجال الانتباه أو ضيقه - زيادة امتداده أو زيادة كثافته - لا تكون الذوات المختلفة كلها واحدة في ثرائها وغناها. كلا، ولا يمكن للفرد الواحد أن يكون دائما واحدا، وهو نفسه باسمرار فيما يتعلق بموضوع الانتباه. وقد يعترض معترض على ذلك فيقول: إن الاختلافات في هذه الحالة سوف ترد كلها إلى الظروف الخارجية، وإن الفرق بين «نفس» و«نفس» أو ذات وذات، سوف تستمد من الخارج لا من الداخل، ومن ثم فالظروف الخارجية المحيطة بالفرد هي التي تجعله على ما هو عليه. غير أن هذا الاعتراض يحرم الانتباه من أخص خصائصه، وهو الاختيار والانتقاء. إن النفس أو الذات تتألف مما يختاره الفرد المنتبه من الظروف المحيطة، لا من مجموعة العناصر المحيطة التي تشكل نفسها في نمط معين. إن هذه العناصر ليست إلا المادة الخام التي يختار منها كل فرد ويشكل منها ذاته بطريقة مميزة فريدة، تجعله في النهاية فردا عينيا حقيقيا: «إن الذات الحقيقية هي شيء يصنع ويكتسب ويتجمع ببذل الجهد والتعب، وليست شيئا يعطى لنا لكي نستمتع به.»
39 (28) إن فعل الانتباه يقبع خلف حياة الفرد النفسية بأسرها، وما يبدو لنا أنه تنوع في الأفعال السيكولوجية ليس في حقيقة الأمر سوى تنوع للجانب الموضوعي، فليس هناك سوى فعل أساسي واحد هو الانتباه، ثم موضوعات متعددة ننتبه إليها، في أوقات مختلفة: ففي الإدراك الحسي أنتبه إلى موضوعات حسية، وفي الإدراك العقلي أنتبه إلى محتويات عقلية، وحتى الأفعال التي تبدو في ظاهرها مختلفة عن تلك الأفعال اختلافا واسعا، مثل أفعال: الإدراك «المعرفة» والنزوع
Cognition and Conation
يمكن كذلك ردها إلى هذا الفعل الأساسي نفسه، أعني الانتباه، مع رد الاختلافات إلى الموضوعات التي ننتبه إليها نفسها. ويكفي أن نلاحظ أن للمعرفة والنزوع نفس خصائص الفعل الأساسي «الانتباه» مما يبرر لنا القول بأنهما معا يمكن ردهما إلى فعل الانتباه نفسه. «يمكن أن يستغرقنا الفعل تماما، كما يمكن أن يستغرقنا الإدراك أو التفكير. وكذلك الحركات - ما لم تكن آلية - تعوق الأفكار، والعكس بالعكس، فالأفكار بدورها - ما لم تكن سلسلة من التداعي - تعوق الحركات وتوقفها. إنه من المستحيل عليك أن ترفع حملا ثقيلا وتستمر في عملية التفكير، استحالة أن تمعن النظر في النقطة الموجودة على حرف «ف» وتواصل الحركة. إن حالة السكر، والتنويم المغناطيسي، والجنون، وكذلك حالة الراحة أو الإنهاك، تؤثر في الإدراك العقلي، كما تؤثر في هزة الأعصاب، سواء بسواء. والسيطرة على الأفكار، مع السيطرة على الحركات في وقت واحد، تحتاج إلى «جهد». وكما أن هناك جهدا
Strain
ذا خصائص معينة في عملية الإصغاء أو التحديق بإمعان، يقترن به مصاحب عضلي، فهناك بالمثل، جهد متميز بخصائص معينة في عملية التذكر أو إعنات الذهن
recollection and intellection . ومن المرجح أن يكون لذلك الجهد قرين بدني مساو أساسا للواحد منهما ... وحين تترابط الحركات؛ فإن فعل الانتباه يكون مطلوبا تماما كما هو مطلوب للربط بين الانطباعات الحسية. وحين تترابط هذه التداعيات ترابطا وثيقا فإن عملية فكها تصبح صعبة، وتتساوى صعوبتها في الحالتين معا.»
40 (29) ولكن قد يسأل سائل: ألا يقال إننا في بعض الأحيان نكون في حالة «لا انتباه»؟ لو أن السائل كان يعني بكلمة «لا انتباه» هذه الغياب الكامل للانتباه، فسوف أجيبه في حسم قاطع كلا؛ ذلك لأن الانتباه موجود باستمرار، وعدم الانتباه إلى شيء بعينه إنما يعني الانتباه إلى شيء آخر، وفضلا عن ذلك، فإن موضوع الانتباه يجب أن يفهم على أنه يشمل مدى واسعا من الدرجات. ونحن في استخدامنا لكلمة «الانتباه»، وتطبيقها على هذه الدرجات جميعا، نستطيع أن نقول إنها تشبه «درجة الحرارة». فكما أن درجة حرارة شيء من الأشياء قد تكون أقل بكثير من نقطة التجمد (أعني تحت الصفر بكثير)، فكذلك قد تكون درجة الانتباه في بعض الحالات غاية في الضآلة، لكن الانتباه مع ذلك موجود، ولو أننا فهمنا الانتباه بهذا المعنى الذي يجعله يشمل مدى واسعا جدا من الدرجات الخاصة بالموضوع الذي ننتبه إليه، فلا يمكن أن تقوم لهذا الاعتراض قائمة بعد ذلك. وقد تفيد الفقرة الآتية التي اقتبسناها من «جون لوك» في توضيح هذا المعنى: «أما القول بأن هناك أفكارا تبقى منها هذه المجموعة أو تلك بشكل دائم في ذهن الإنسان وهو في حالة اليقظة،
41
Shafi da ba'a sani ba