42
والمثل الذي يقول: «لا تحكم على شخص ما حتى يفعل شيئا» مثل صحيح؛ فالشخص هنا فاعل يسلك سلوكا معينا فيحقق ذاته في هذا السلوك. أما إذا نظرنا إلى هذا الشخص على أنه واقعة فلن نجد ما يدعونا إلى الانتظار حتى يسلك سلوكا معينا: لسنا في حاجة - مثلا - إلى أن ننتظر حتى يفعل شيئا ما، لكي نقول إنه ولد من أبوين معينين، أو إنه ولد في التاريخ الفلاني، أو البلد الفلاني ... إلخ، فهذه كلها وقائع يمكن أن تستخدم في الإحصاء والحساب، مثلها مثل جميع تلك الوقائع الموجودة في الطبيعة، لكن الفعل، أعني فعل الإرادة، فهو شيء مختلف عن ذلك أتم الاختلاف. (26) المستقبل - كمستقبل - هو عالم الإمكانيات غير المحددة، ويتضح من ذلك أن المستقبل المتنبأ به ليس مستقبلا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، لأن التنبؤ يعني النظر إليه على أنه شيء قد تم وانتهى، وهو بذلك ينتمي إلى الماضي الذي استخرج منه بطريقة تحليلية، وهو لأنه ينتمي إلى الماضي، فهو لا يمكن أن يكون حرا. والمحاولات التي بذلت للتوفيق بين العلم الإلهي الشامل وبين الحرية الإنسانية لم تتوقف على الإطلاق، ولم تنجح على الإطلاق أيضا. وهذه المحاولات محكوم عليها بالفشل؛ لأن الأطراف التي تحاول التوفيق بينها هي - أولا - لا يمكن التوفيق بينها، ومهما يكن من شيء فإن علينا الآن أن نعرض لمناقشة بعض هذه المحاولات: (27) يقال أحيانا إن العلم الإلهي الشامل لا يعني بالضرورة حتمية إرادتنا؛ لأنه إذا ما كان العلم السابق بأن شيئا ما سيحدث يجعله يحدث ، لكان معنى هذا أن المعرفة بوجود شيء ما تجعله يوجد. فأنا مثلا أعلم أن السماء تمطر في اللحظة الحاضرة، لكن من الواضح أن علمي ليس هو الذي جعل السماء تمطر، بل إن العكس هو الصحيح؛ فأنا أعلم أنها تمطر لأنها تمطر في الواقع. وبالمثل، فلو أنني عرفت مقدما أن حلول الليل سوف يكون بعد خمس ساعات، فهل يكون علمي السابق هو الذي أحدث حلول المساء؟ العكس هو الصحيح؛ فلأن الدنيا سوف تكون ظلاما بعد خمس ساعات، فإنني أعرف ذلك مقدما، فلا المعرفة الإنسانية السابقة، ولا العلم الإلهي السابق هو الذي يسبب ما يحدث في المستقبل.
لكن هذا القول يعني أننا نرفض أمرين هامين؛ فهو يعنى أولا أننا نتجاهل الواقعة التي سبق أن أشرنا إليها، وهي أن النوع الفلكي من العلم السابق ليس معرفة سابقة بالمعنى الحقيقي. وهو يعني ثانيا أننا نغض الطرف عن التفرقة الحيوية؛ بين الماضي من ناحية، والمستقبل من ناحية أخرى؛ فالماضي هو واقعة تمت وانتهت، ولا يتأثر وجودها بمعرفتي لها، لكن المستقبل - بمعناه الحقيقي - شيء مختلف عن ذلك تماما؛ لأنه انتقائي، ولو أنني عرفته مقدما فإنني بذلك أنكر انتقاءه وأحرمه من ماهية المستقبل
futurity ، وفي اللحظة التي نسلم فيها بالتشعب الممكن لحوادث المستقبل إلى شعبتين، فإننا لا بد أن ننتهي إلى النتيجة القائلة بأنه لا يمكن أن نستدل - بيقين - من الحاضر والماضي، وهما وحدهما المعروفان؛ فالاستدلال يظل غير يقيني، ومن هنا فإننا إذا لم ننكر العلم الإلهي الشامل، فإننا سنضطر إلى التسليم بأن مجرى الحوادث في المستقبل ضروري وغير حر. (28) ولا يفيد في شيء أن نفترض أن الله يوجد في «آن» أبدي، وأن الماضي والمستقبل عنده حاضر. ولهذه النتيجة «يؤكد بؤثيوس
Boethius » أنه على الرغم من أن الماضي ليس ماضيا أمام الله، ولا المستقبل مستقبلا عنده، بل الزمان كله حاضر، فإن معرفة الله تتضمن مع ذلك «الأماكن اللامتناهية للزمان الحاضر والماضي، إذا ما نظرنا إلى الأشياء كما لو كانت كلها الآن تامة ومنتهية.» وهو تصور ربما أمكن تفسيره بأنه يعني أن الماضي لا يتذكره الله، كلا، ولا هو يتوقع المستقبل، وإنما الماضي والمستقبل مدركان لديه في آن واحد، بينما يظل كل منهما يعقب الآخر، وهو تصور يشبه تماما فكرة الحاضر الرواغ اللامتناهي.»
43
لكن هل يمكن للكل أن يدرك معا ما لم يكن جاهزا بأسره أو وجودا كله؟ وإذا كان هذا الكل نتاجا تاما منتهيا فأين يمكن أن يقع خلق الموجودات البشرية الفاعلة؟ إننا بدون أن نفترض أن هذه الموجودات الفاعلة هي نفسها خلاقة؛ فإن هذه الموجودات لا يمكن أبدا أن تصل إلى فكرة أنها مخلوقات، «يمكن أن يكون الله قد عمل الإنسان على صورته، لكن هذه الصورة ذاتها هي التي تبرر للناس العودة إلى الله بوصفه صانعهم.»
44
وفضلا عن ذلك فإن فكرة «الحاضر الرواغ
Specious present » يبدو أنها لا تتفق مع فكرة الأبدية
Shafi da ba'a sani ba