تصنيفه للعلوم وتحديده لها تحديدا يميزها بعضها من بعض، كما قد صنع كل صاحب منهج في تاريخ الفكر. (5) رجل التجارب العلمية
لقد أسلفنا القول في رأي «جابر» عن مصدر العلم ماذا عساه أن يكون؟ وهو أن مصدر العلم وحي أولا ينزل على النبي عليه السلام، ثم يتوارثه خلفاؤه من بعده - خلفاؤه المعترف بهم عند الشيعة - ثم يجيء التلقين من هؤلاء لمن رأوه من التلاميذ صالحا للتعلم؛ ومعنى ذلك بعبارة موجزة أن مصدر العلم أستاذ مؤهل من جهة، واستعداد فطري عند التلميذ من جهة أخرى.
والحق أني لا أعرف كيف أوفق توفيقا أطمئن إليه بين هذا الرأي في مصدر العلم الأول - وهو الوحي يأتي من الخارج - وبين منهجه التجريبي في بحوثه العملية، وهو منهج نموذجي في دقته وفي حرصه على التثبت؟ أيكون العلم عنده نوعين: فنوع تلقيني خاص بتحصيل الأحكام الشرعية وما إليها، ونوع آخر كشفي علمي تجريبي خاص بالعلم الطبيعي؟ يجوز أن يكون الأمر كذلك؛ لأنه في تصنيفه للعلوم
25
قد قسم العلوم قسمين أساسيين: علم الدين وعلم الدنيا.
وأيا ما كان الأمر، فلجابر منهج تجريبي يصطنعه في بحوثه الكيمياوية، جدير بالبسط والتحليل؛ فهو حريص على أن يقصر نفسه على مشاهداته التي تجيء التجربة مؤيدة لها؛ إذ قد تكون الظاهرة المشاهدة حدثا عابرا لا يدل على اطراد في الطبيعة. يقول «جابر» في رسم خطته العلمية: «يجب أن تعلم أنا نذكر في هذه الكتب (يشير هنا إلى الكتب التي بحث فيها خواص الأشياء) خواص ما رأيناه فقط - دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه - بعد أن امتحناه وجربناه؛ فما صح أوردناه وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضا وقايسناه على أقوال هؤلاء القوم.»
26
فهو في هذا النص يهتم اهتماما خاصا «بشهادة الغير» - سواء أكانت شهادة مقروءة أم مسموعة - هل يؤخذ بها في البحث العلمي أو لا يؤخذ بها؛ فتراه لا يعتد بها إلا على سبيل التأييد لما يكون قد وصل إليه هو بتجاربه؛ وهذا ولا شك إسراف منه في الحرص؛ لأن العلم يستحيل أن يخطو في تقدم مطرد ما لم يأخذ اللاحقون عن السابقين علمهم، وكل ما ينبغي التثبت منه هو أن نستيقن من أمانة أولئك السابقين الذين عنهم نأخذ ما نأخذه؛ أما أن يقتصر العالم على مشاهداته هو وحده وتجاربه هو وحده، وألا يلجأ إلى أقوال غيره من العلماء إلا على سبيل الاستشهاد على صدق ما قد انتهى إليه هو نفسه من مشاهداته وتجاربه؛ فذلك التزام لما ليس يلزم، لكنه على كل حال التزام يكشف لنا عن مبلغ دقة هذا العالم في منهج بحثه؛ وإنك لتراه في مواضع أخرى يتخفف بعض الشيء من التزامه المنهجي هذا، ويجيز لنفسه قبول النتائج العلمية التي ينقلها إليه الآخرون، فهو في ذلك يقول - مثلا -: «وما لم يبلغنا ولا رأيناه، فإنا من ذلك في عذر مبسوط.»
27
أي أن للعلم المحقق المقبول عنده مصدرين: فإما الرؤية بحاسته، وإما رؤية الآخرين كما تبلغه، ولا شك أنه يضمر شرطا لهذا الذي يبلغه عن الآخرين، وهو أن يكون هؤلاء الآخرون من الثقات المركون إلى أمانتهم العلمية.
Shafi da ba'a sani ba