ولست في الحقيقة أجد ما أعلق به على رأي برتلو بأن اسم جابر منحول على هذا الكتاب أو ذاك، وأن المؤلف الحقيقي المجهول هو الذي انتحله ليشتد به أزرا، أقول إني لا أجد ما أعلق به على هذا الرأي أفضل من عبارة ابن النديم التي أسلفت ذكرها، والتي رد بها على القائلين بأن جابرا لم يكن له وجود، وأن اسمه منحول على الكتب التي تنسب إليه، وها أنا ذا أعيدها مرة أخرى: «إن رجلا فاضلا يجلس ويتعب، فيصنف كتابا يتعب قريحته وفكره بإخراجه، ويتعب يده وجسمه بنسخه، ثم ينحله لغيره - إما موجودا أو معدوما - ضرب من الجهل، وأن ذلك «العمل» لا يدخل تحته من تحلى ساعة واحدة بالعلم، وأي فائدة في هذا وأي عائدة؟»
وماذا يجدينا بعد هذا التشكيك في شخصية جابر العربي من قبل برتلو، أن يقول برتلو بعد ذلك عن هذا الاسم - اسم جابر - إنه ينزل في تاريخ الكيمياء منزلة اسم أرسطو في تاريخ المنطق؟ وهو بذلك يريد بالطبع أن يقول إنه أول من وضع لعلم الكيمياء قواعد علمية تقترن باسمه، كما كان أرسطو أول من وضع لعلم المنطق قواعده وأصوله؛ أنه إذا كان برتلو قد وجد تفاوتا في أسلوب الرسائل التي تنسب إلى جابر، وفي مادتها، فليس التفسير الوحيد لهذا التفاوت أن يكون لهذه الرسائل أكثر من مؤلف واحد؛ بل يفسر هذه الظاهرة نفسها أن يفرض وجود التفاوت بين قدرات الشخص الواحد في أوقات مختلفة، ثم يفسرها تفسير ثالث، وهو أن يكون المؤلف أحيانا صاحب ظاهر وباطن - وهو أمر مألوف في المؤلفين القدامى - فقد يظهر المؤلف شيئا ويخفي شيئا. ومما يرجح عندنا هذا التفسير، أن جابر بن حيان كان صوفيا، وكان شيعيا، ورغبته في الخفاء والإخفاء واردة في كتبه ورودا بينا واضحا في كثير جدا من المواضع. وفي ذلك يقول الطغرائي في كتابه مفاتيح الرحمة، يقول عن جابر بن حيان إنه قد يعقد الحديث في ظاهر الأمر على شيء ما - كالكلام في التناسخ مثلا - لكنه يجعل باطن الحديث منصرفا إلى علم الكيمياء، حتى لا يفطن إلى هذا العلم الكيموي عنده إلا من يريد لهم هو أن يفهموه. ويقول الطغرائي: وما أشك أنه أضل عالما من الناس لم يعرفوا مغزاه الباطن فحملوه على ظاهر معناه ... وأنا أضيف: أفلا يكون برتلو من هؤلاء المضللين عندما قرأ رسائل جابر العربي فوجدها غامضة، ثم استبعد بعد ذلك أن يكون صاحبها هو نفسه صاحب كتاب «الخالص»؟
روى الجلدكي في «شرح المكتسب»
34
بعد أن بين انتسابه إلى جابر، أنه أراد أن يتعلم الكيمياء على جابر، فأخذ هذا يصرفه ويراوغه. ولما ألح عليه الجلدكي في الطلب، قال جابر: «إنما أردت أن أختبرك، وأعلم حقيقة مكان الإدراك منك؛ ولتكن من أهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك، واعلم أن من المفترض علينا (أي على رجال الكيمياء) كتمان هذا العلم وتحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا، وألا نكتمه عن أهله؛ لأن وضع الأشياء في محالها من الأمور الواجبة، ولأن في إذاعته خراب العالم، وفي كتمانه عن أهله تضييعا لهم؛ وقد رأينا الحكمة صارت في زماننا مهددة البنيان، لا سيما وطلبة هذا الزمان من أجهل الحيوان، وقد اجتمعوا على المحال، فإنهم ما بين سوقة وباعة وأصحاب دهاء وشعبذة، لا يدرون ما يقولون، فأخذوا يتذاكرون الفقر ويذكرون أن الكيمياء غناء الدهر ...» فجابر هنا واضح التعبير عن رغبته في إخفاء علمه إلا على من يحسنه.
إلا أن جابرا ليعتز بعلمه اعتزازا بلغ به حد الغرور، فما أكثر ما يقول عن هذه الرسالة أو تلك من رسائله العلمية: إنها مستحيلة على غيره من البشر، فاسمع إليه - مثلا - وهو يوجه الخطاب إلى سيده في سياق «كتاب الأحجار»: «... وحق سيدي، لولا أن هذه الكتب باسم سيدي - صلوات الله عليه - لما وصلت إلى حرف من ذلك آخر الأبد، لا أنت ولا غيرك، إلا في كل برهة عظيمة من الزمان.» أو اسمع إليه يقول في كتابه «إخراج ما في القول إلى الفعل»: «ليس على وجه الأرض كتاب مثل كتابنا هذا، ولا ألف ولا يؤلف آخر الأبد.»
35
وأمثال هذا كثير جدا في مختلف رسائله. (3) كتبه
ينسب إلى جابر بن حيان عدد كبير جدا من الكتب والرسائل، يقول في بعضها ما لا يقوله في بعضها الآخر أحيانا، وأحيانا أخرى يلخص في بعضها ما قد بسطه في بعضها الآخر. قال الجلدكي في نهاية الطلب:
36 «إن من عادة كل حكيم أن يفرق العلم كله في كتبه كلها، ويجعل له من بعض كتبه خواص يشير إليها بالتقدمة على بقية الكتب لما اختصوا به من زيادة العلم، كما خص «جابر» من جميع كتبه كتابه المسمى بالخمسمائة.» وقال الطغرائي في كتابه مفاتيح الرحمة
Shafi da ba'a sani ba