لقد فوجئت بأن سمير العصفوري الذي أخرج المسرحية تخرج هذا العام فقط أو أواخر العام الماضي في معهد التمثيل؛ فقد كان عسيرا علي أن أصدق أن شابا صغيرا كهذا يستطيع أن يفهم التجديد في المسرح بهذه الأصالة، وأن يضمن اللوحات التي قدمها في الفصول الثلاثة ذلك الشعر الخفي الموحي، وذلك الارتباط التام بين حلقات الحياة؛ الميلاد والزواج والموت. إني أهنئ المسرح العالمي للتليفزيون والمسرح عامة بسمير العصفوري. كل ما أرجوه له ألا تفسده الحياة الفنية النتنة، والإغراءات والقيم الصغيرة. نفس الرجاء أسوقه إلى بطلة المسرحية الدقيقة الموهوبة ناهد رشاد، ومهندس الديكور ومترجمة الرواية التي أعفتنا من كثير من حذلقات المترجمين. العجيب أيضا في هذه المسرحية أني أرى لعمر الحريري أول دور أقتنع به؛ فأدواره التي يقبلها دائما متشنجة وعصبية لا تتيح لقدرته الأصلية الانطلاق. هنا كان كما أراد المؤلف تماما، كالنسمة، كالمادة الكونية الرقيقة الخالدة، كالفنان، المادة التي تراقب وتحصي وتسجل ثم تبتسم في سخرية قائلة إلى اللقاء.
قهر الإيمان
قال لي الشاعر الأمريكي الكبير «لويل» الذي يزور جمهوريتنا هذه الأيام: إنه أرسل خطابا للشاعر السوفييتي الشاب «إيفتشنكو» يدعوه فيه إلى زيارة ثانية للولايات المتحدة. ولا أعتقد أن هذه الزيارة ستتم؛ فالحركة الثقافية في الاتحاد السوفييتي لا تتبع المقاييس والاختيارات الغربية، وهم يعجبون هناك للشهرة التي هبطت على إيفتشنكو في حين أنه ليس أحسن الشباب الذين يقولون الشعر هناك، ولكن دور الصحف والنشر في العالم الغربي لها طريقتها الجهنمية في خلق الشهرة وإذاعتها، وقد التقطت هذه الدور إيفتشنكو وسلطت عليه الأضواء، وكأنما لتغيظ الاتحاد السوفييتي، تماما مثلما فعلت مع باسترناك؛ فللأسف لم أقرأ «دكتور جيفاجو» إلا منذ ستة أشهر؛ ذلك أني أكره قراءة أي عمل تثار حوله الزوابع، خاصة في نفس الوقت الذي تثار فيه الزوابع؛ لأن للزوابع دائما تأثيرا صناعيا كبيرا على القارئ. مع اعترافي بأن في الرواية مواقف شعرية بالغة العمق والروعة، إلا أن نفسي اشمأزت من موقف بطل الرواية وعطف الكاتب الشديد على هذا الموقف؛ موقف المحتقر للثورة وللشعب. الناظر للقيم الجديدة والتغييرات التي تطرأ على المجتمع بعقلية مثقف صغير. والمثقف الصغير أبشع من البورجوازي الصغير في فهمه الضيق للحياة وللأحياء. ورغم هذا فإن الرواية كان لا بد أن تنشر والموقف الذي اتخذته دور النشر في الاتحاد السوفييتي منها موقف خاطئ لا يقل ضيقا عن موقف بطل الرواية نفسه. إن الثورة الحقيقة يجب أن تتسع حتى للأصوات المعارضة ولو من أجل أن تتبين صحة موقفها، أما المصادرة والحجر فهي مواقف الخائفين، والخائفون لا يمكن أن يكونوا ثوارا؛ فالثورة، أي ثورة، ومهما كان لونها، أو عقيدتها في حاجة إلى شجاعة كبيرة، وليس لمواجهة ما يؤيدها من الأفكار فقط وإنما لمواجهة ما يعارضها، بل بالذات لمواجهة ما يعارضها، كثير من حملة الأفكار المعارضة ليسوا عملاء ولكنهم مؤمنون، والمؤمنون لا يواجههم إلا مؤمنون؛ لأن الإيمان لا يقهره إلا إيمان أقوى وأشمل.
الرجل الذي حسدته
وبمناسبة الاتحاد السوفييتي لا تزال صورة ضيعة تولستوي وبيته اللذين زرناهما في القرية المسماة «بالمروج البيضاء» عالقة بذهني. الضيعة التي كان يأتيها تولستوي من موسكو راكبا العربة لمسافة مائتي كيلو متر، أو أحيانا الدراجة، ومن يدري ربما سائرا على قدميه أحيانا أخرى. الاصطبلات، و«سراية» تولستوي والغرفة التي كتب فيها «أنا كارنينا» والأخرى التي بدأ فيها الملحمة الكبرى «الحرب والسلام»، ومكتبة تولستوي التي تضم كتبا عربية وهندية وفارسية وبحوثا كثيرة عن الإسلام، بل لاحظت فيها وجود كتاب ضخم عن ملح الطعام. و«روبه» الذي يشبه القفطان، والعصا والكرسي والحجرة التي كان يستضيف فيها وينام تشيكوف وجوركي وطبيبه الخاص وسكرتيره في أواخر أيام حياته؛ العجوز الذي بلغ الثمانين ولا يزال حيا، والرجل ذا الذقن السوداء المتعصب إلى حد الجنون لتولستوي والذي يعمل كدليل لبيته وحديقته، والذي رفض بإباء وشمم أن تقوم إيلينا استفانوفا بترجمة كلامه إلى العربية لنا فتولى الحديث بإنجليزية ألمانية روسية كان كثيرا ما يرتج عليه أثناءها فتسارع لينا بإنقاذه. أما أروع ما شاهدته في «أبعادية» تولستوي فهو قبر تولستوي؛ ذلك أنهم دفنوه حسب وصيته. ولقد أوصى ذلك الرجل الفنان، القديس المتواضع إلى حد الصلف والغرور، الجاد إلى حد الهزل، الواقعي إلى حد الخيال، الحالم إلى حد اليقظة، الذي عشق الأرض وأحبها إلى درجة أن يرفض احتكارها لنفسه واعتبرها كالسعادة جديرة بالتوزيع على كل الناس؛ أوصى أن يدفن في الأرض كما ندفن أمواتنا في مصر وما أروعها من لحظة تلك التي وقفنا فيها لثوان قليلة خاشعين أمام قبر تولستوي وهو عبارة عن متنزه صغير لا يتعدى بضعة أمتار محاط بسور قصير جدا من الزهور ويملؤه العشب الأخضر، وفي وسط العشب، يبرز القبر متميزا ببضعة سنتيمترات في الارتفاع، بينما الغابة الكبيرة بأشجار الحور تحتضنه، والطيور كالموسيقى غير المنظورة تغرد، وخضرة الورق وخضرة العشب وشعاعات ضوء القمر الأصفر والسكون التام، ولا شيء غير هذا. إني لم أحسد في حياتي رجلا على رقدته مثلما حسدت تولستوي، وما تمنيت في حياتي أن أمتلك قطعة أرض خاصة لي إلا أن أمتلك الأمتار المخضرة بالعشب التي لا يتميز فيها الإنسان إلا ببضعة سنتيمترات قليلة.
أطرف شيء أن المرشد المتحمس أخبرنا أن الألمان في أثناء احتلالهم لتلك البقعة من روسيا، قاموا بعدما نهبوا القصر بدفن بعض العساكر الألمان مع تولستوي في هذه الأمتار القليلة، وجاء الفلاحون الروس يحتجون على هذا العمل، فقال لهم القائد الألماني: يكفي تولستيكم فخرا أنه أصبح مدفونا جنبا إلى جنب مع عساكر ألمان.
يوميات
السبت
بابتسامة لطيفة مؤدبة أبلغني الأستاذ أحمد حمروش أنه - بصفته مدير المسرح القومي - يأسف أشد الأسف لأن ظروف الفرقة لن تمكنها من تقديم مسرحيتي «اللحظة الحرجة» في الموسم القادم. أما أنا فقد ضحكت بصوت عال مرتفع؛ ذلك أن موقف الفرقة من هذه المسرحية موقف لا يستحق إلا الضحك بصوت عال مرتفع؛ فقد أصدرتها في كتاب عام 1957، وعرض الكتاب على لجنة القراءة فانقسمت اللجنة على نفسها، وأيد نصف الأعضاء تقديمها بشدة، وعارض النصف الآخر تقديمها بشدة أيضا، وأخيرا حلا للإشكال قررت اللجنة أن أجتمع باثنين من أعضائها، واحد من الحزب المؤيد وآخر من الحزب المعارض، للاتفاق على إجراء بعض التعديلات وقبلت الفرقة حينئذ تمثيلها، ثم عادت ورفضتها، ثم عادت وقبلتها وأبرمت معي عقدا ينص على تمثيلها في الموسم القادم. وفي أوائل هذا الصيف أعلنت الفرقة أنها ستقدم المسرحية ضمن برنامج الموسم القادم. وها نحن ذا، ولم يصل الصيف إلى منتصفه يعود الأستاذ حمروش ويبلغني أن الفرقة تأسف، إلخ. إلخ. ولم أشأ مجادلته في الموضوع فأنا أعرف أن المجادلة لا فائدة منها إذ إن المسرحية فيها عيب خطير؛ إذ إن فيها رأيا معينا في إحدى قضايانا العامة. ويبدو أن الفرقة حريصة على أن تنتقي رواياتها بحيث تخلو من أي رأي، أو إذا احتاج الأمر لرأي معين فمن المستحسن أن نستورد هذا الرأي من كاتب غربي، أما الكتاب العرب فمحرم عليهم إبداء الرأي أو مناقشة أي قضية من خلال أية وجهة نظر خاصة. حبذا لو كان شوقي قد قال:
أحرام على بلابله «الرأي»
Shafi da ba'a sani ba