تقي الدين أحمد بن تيمية: وهذا القول الجامع بالمغفرة لكلِّ ذنبٍ للتائب منه، كما دل عليه القرآن، والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب، كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنًا للحديث الإسرائيلي الذي منه: "فكيف من أضللت" وهذا غلط، فإن الله قد بين في كتابه، وسنة رسوله أن يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: ١٠] قال: الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم: عذبوا أولياءه، وفتنوهم، ثم هو يدعوهم إلى التوبة، كذلك توبة القاتل وغيره إلى آخر ما قال.
وثانيهما: المغفرة بمعنى تخفيف العذاب، أو بمعنى تأخيره إلى أجلٍ مسمى، وهذا عام مطلقًا، لهذا شفع النبي ﷺ في عمه أبي طالب مع موته على الشرك فنقل من غمرةٍ من نار حتى جعل في ضحضاح من نار، في قدميه نعلان من نار يغلي منهما دماغه. قال: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار "١ على هذا المعنى دل قوله ﵎: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر: ٤٥] وقوله جل ذكره: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة: ٣٠] وغير ذلك من الآيات. قال العلامة الحافظ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الأربعين حديثًا النووية: في هذا الكلام من التوبيخ ما يستحي منه كل مؤمن.
وكذلك: أن الله خلق الليل؛ ليطاع فيه، ويعبد بالإخلاص، حيث تسلم الأعمال فيه غالبًا من الرياء والنفاق، أفلا يستحي المؤمن ألا ينفق الليل فيما خلق له من الطاعات حتى يخطئ فيه، ويعصي الله تعالى في مواطنه؛ وأما النهار: فإنه خلق مشهودًا من الناس فينبغي من كل فطن أن يطيع الله فيه أيضًا، لا يتظاهر بين الناس بالمخالفة، وكيف يحسن بالمؤمن أن يخطئ سرًا أو جهرًا؛ لأنه ﷾ قد قال بعد ذلك: "وأنا أغفر الذنوب جميعًا" فذكر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف، وأكدها بقوله:
_________
١ رواه مسلم رقم"٢٠٩" في الإيمان. باب شفاعة النبي ﷺ لأبي طالب من حديث العباس ﵁.
1 / 58