بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة المؤلف]
الحمد لله الذى فضل الكعبة البيت الحرام فى الأرض على البنيان، كما فضل فى السماء عرشه المجيد الثابت الأركان، وفضل الطائفين حولهما من الملائكة والإنس والجان؛ كما أخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) سيد بنى عدنان.
وأكرم سكان السماء على الله تعالى: الذين يطوفون حول عرشه، وفى الأرض: الذين يطوفون حول بيت الرحمن.
وفرض الله- تعالى- حج بيته على عباده المستطيعين؛ لقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (1)؛ من استطاع فحج فله الأمان، ومن لم يحج فكفر فجزاؤه الجحيم والنيران.
وهو فرض فى العمر مرة واحدة تخفيفا عليهم وإشفاقا وامتنان. ومن زاد فتطوع محسوب له عند الملك الديان. وجزاؤه الحور والقصور والغلمان فى دار الجنان؛ لقوله تعالى: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان (2).
قال القاضى أبو الفضل العياض بن موسى اليحصبى (3): حدثت أن من حج حجة واحدة فقد أدى فرضه، ومن حج حجة ثانية داين ربه، ومن حج حجة ثالثة حرم الله شعره وبشره على النيران (4). يعنى يوم تحرق فيها الأبدان.
وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) الأمى القرشى العظيم الشأن: «يقول الله تعالى: إن من
Shafi 27
أصححت بدنه، ووسعت عليه رزقه، ثم لم يزرنى فى كل خمسة أعوام عاما فقد حرم» (1). فنسأل الله تعالى الإعانة، ونعوذ به من الحرمان ... آمين.
أحمده على جميع إنعامه: الجلى والخفى، غاية الوسع والإمكان، وأشكره طول الدهر والأزمان. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله نبى الرحمة وحبيب السبحان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأهل بيته، ما ترنم طائر على الأشجار والأغصان. وسلم عليه وعليهم تسليما كثيرا ما ضحك الروض ونبت الريحان.
فهذا مختصر يشتمل على ذكر فضيلة مكة والمدينة، وكيفية بناء الكعبة، وذكر هبوط آدم وما يتعلق بها، وذكر زيارة قبر نبى الرحمة محمد (صلى الله عليه وسلم) وما يتعلق بها من التواريخ والأخبار والآثار المروية فيها. جمعته تذكرة لنفسى، وترغيبا للطالبين المشتاقين العاشقين من الحجاج والمعتمرين، والزائرين المتوجهين إلى جنابهما من كل فج عميق وواد سحيق، وترهيبا وتوبيخا للغافلين، وحثا وتنبيها للكسلانين، وطلبا لمرضات الله- تعالى- وتضعيفا للأجر فى الآخرة، ورجاء لمغفرته. إنه على ما يشاء قدير، وبعباده خبير بصير، وبالإجابة جدير.
وأضفت إليهما من الأحاديث المروية ما يدل على فضائل الحج والعمرة، وعظم أمرهما، وشرف قدرهما، وذكر ثواب من حج واعتمر وزار قبر النبى- (عليه السلام)- وذكر المناسك والأدعية من حين خروجه من بيته وبلده إلى آخر نسكه ورجوعه إلى وطنه وأهله.
ثم أضفت إليهما نبذا من ذكر فضائل بيت المقدس وما يتعلق بها؛ لقوله (عليه السلام): «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى» (2).
وختمت كتابى هذا بقسم رابع مختصر فى ذكر فضائل قبر إبراهيم الخليل- (عليه السلام)- وما يتصل بها؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث آخر: «لا تشد الرحال إلا إلى
Shafi 28
أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى، ومسجد الخليل (عليه السلام)» (1).
وعن عمرو بن دينار: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد:
إلى مسجد إبراهيم (عليه السلام)، ومسجد محمد (عليه السلام)، ومسجد إيلياء» (2).
فانقسم كتابى على أربعة أقسام: القسم الأول: فى ذكر فضل مكة شرفها الله تعالى وشرف قدرها، وما ورد فيها من الأحاديث والأخبار، والآيات، وحكايات الصالحين؛ وفيه نيف وخمسون فصلا.
والقسم الثانى: فى ذكر فضيلة المدينة النبوية، وما ورد فيها من الأحاديث والأخبار والآثار، وذكر زيارة قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) وما يتعلق بها؛ وفيه خمسة وعشرون فصلا.
والقسم الثالث: فى ذكر فضيلة بيت المقدس، وما يتعلق بها؛ وفيه اثنا عشر فصلا.
والقسم الرابع: فى ذكر فضيلة قبر إبراهيم- (عليه السلام)- وذكر زيارة قبره، وما يتعلق بها؛ وفيه فصل واحد (3).
ورجوت من الله تعالى إلهام الرشد والصواب؛ لإتمام هذا الكتاب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبى ونعم الوكيل.
***
Shafi 29
[أقسام الكتاب:]
القسم الأول فى ذكر فضيلة مكة
وما ورد فيها من الأخبار والأحاديث والآيات وحكايات الصالحين وفيه نيف وخمسون فصلا، ولكن أذكر الأحاديث محذوفة الأسانيد؛ طلبا للاختصار. وأذكر الآيات الدالة على فضلها مفسرة دوما للاعتبار.
الفصل الأول: فى فضائل مكة شرفها الله تعالى، والآيات التى نزلت فى فضلها وشرفها.
والفصل الثانى: فى ذكر حديث الإسراء.
والفصل الثالث: فى اختلاف الناس؛ هل كان الإسراء ببدنه وروحه، أو بروحه فقط.
والفصل الرابع: فى اختلاف الناس فى رؤية النبى (صلى الله عليه وسلم) هل رآه بعينه، أو بقلبه.
والفصل الخامس: فى ذكر أسامى هذه البلدة الشريفة.
والفصل السادس: فى ذكر ما كانت الكعبة فوق الماء قبل أن يخلق الله- تعالى- السماوات والأرض.
والفصل السابع: فى ذكر بناء الملائكة الكعبة الشريفة.
والفصل الثامن: فى ذكر زيارة الملائكة [لها] (عليهم السلام).
والفصل التاسع: فى ذكر هبوط آدم (عليه السلام)- وبنائه الكعبة، وطوافه بالبيت وحجه.
والفصل العاشر: فى ذكر ما جاء فى حج آدم- (عليه السلام)- ودعائه لذريته.
Shafi 31
والفصل الحادى عشر: فى ذكر وحشة آدم فى الأرض حين نزل فيها، وفضل البيت الحرام والحرم.
والفصل الثانى عشر: فى ذكر ما جاء فى البيت المعمور، ورفعه إلى السماء من الغرق.
والفصل الثالث عشر: فى ذكر أمر الكعبة بين نوح وإبراهيم (عليهما السلام).
والفصل الرابع عشر: فى ذكر تخير إبراهيم موضع البيت الحرام من الأرض.
والفصل الخامس عشر: فى ذكر بناء إبراهيم- (عليه السلام)- الكعبة.
والفصل السادس عشر: فى ذكر حج إبراهيم- (عليه السلام)- وأذانه بالحج، وحج الأنبياء (عليهم السلام).
والفصل السابع عشر: فى ذكر ما جاء فى فتح الكعبة، ومتى كانوا يفتحونها.
والفصل الثامن عشر: فى ذكر الصلاة فى الكعبة، وأين صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
والفصل التاسع عشر: فى ذكر المواضع التى صلى فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
والفصل العشرين: فى ذكر شرفها على ما سواها من بقاع الأرض.
والفصل الحادى والعشرون: فى ذكر فضائل الكعبة الشريفة شرفها الله تعالى.
والفصل الثانى والعشرون: فى ذكر فضائل الحج، وعظم أمره، وشرف قدره.
والفصل الثالث والعشرون: فى ذكر فضائل العمرة فى شهر رمضان.
والفصل الرابع والعشرون: فى ذكر حج الأنبياء والأولياء والخلفاء الراشدين.
والفصل الخامس والعشرون: فى ذكر فضيلة الحج ماشيا.
والفصل السادس والعشرون: فى ذكر جهات الحل وأساميه.
والفصل السابع والعشرون: فى ذكر استحباب تعجيل الحج وذم التأخير.
والفصل الثامن والعشرون: فى ذكر فضيلة الصلاة فى المسجد الحرام، وأول مسجد وضع على وجه الأرض.
الفصل التاسع والعشرون: فى ذكر فضائل الطواف وركعتيه.
Shafi 32
الفصل الثلاثون: فى ذكر الجلوس مستقبل الكعبة، والنظر إليها.
الفصل الحادى والثلاثون: فى ذكر فضائل الطواف عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند شدة الحر.
الفصل الثانى والثلاثون: فى ذكر فضائل الركن والمقام.
الفصل الثالث والثلاثون: فى ذكر الحجر الأسود.
الفصل الرابع والثلاثون: فى ذكر فضائل الاستلام للركن الأسود واليمانى.
الفصل الخامس والثلاثون: فى ترك الاستلام فى الزحام.
الفصل السادس والثلاثون: فى ذكر فضائل الملتزم.
الفصل السابع والثلاثون: فى ذكر دخول الحجر والصلاة والدعاء فيه.
الفصل الثامن والثلاثون: فى ذكر فضائل زمزم وأساميها.
الفصل التاسع والثلاثون: فى ذكر شرب النبى (صلى الله عليه وسلم) من ماء زمزم.
الفصل الأربعون: فى ذكر أسرار الحج.
الفصل الحادى والأربعون: فى ذكر أحوال السلف الصالحين من المتعبدين والمجاورين والمتوجهين إلى حرم الله الشريف، وفيه أربعة أنواع:
الأول: فى ذكر احوال السلف الصالحين من المتعبدين والمجاورين والمتوجهين إلى حرم الله الشريف.
الثانى: فى ذكر من آثر أهل الفاقة بنفقة الحج ولم يحج.
الثالث: فى ذكر طرف من أخبار المحبين المشتاقين.
الرابع: فى ذكر من جاور منهم ومات بها.
الفصل الثانى والأربعون: فى ذكر تاريخ الكعبة على وجه الاختصار.
الفصل الثالث والأربعون: فى ذكر كسوة الكعبة المعظمة.
الفصل الرابع والأربعون: فى ذكر ذرع الكعبة الشريفة.
Shafi 33
الفصل الخامس والأربعون: فى ذكر ذرع مقام إبراهيم (عليه السلام).
الفصل السادس والأربعون: فى ذكر ما جاء فى الذهب الذى كان فى المقام ومن جعله عليه.
الفصل السابع والأربعون: فى ذكر ما جاء فى بدء شأن زمزم.
الفصل الثامن والأربعون: فى ذكر المواضع التى تستجاب الدعوات فيها وزيارة الأماكن الشريفة بمكة وحواليها.
الفصل التاسع والأربعون: فى ذكر زيارة مقبرة مكة.
الفصل الخمسون: فى ذكر ثواب كل عمل يفعله الحاج فى الحج.
الفصل الحادى والخمسون: فى ذكر الإشارة فى سر السعى بين الصفا والمروة.
الفصل الثانى والخمسون: فى ذكر من مرض بمكة أو مات حاجا أو معتمرا أو عقيب الحج.
الفصل الثالث والخمسون: فى ذكر اختلاف العلماء فى المجاورة بمكة المشرفة.
الفصل الرابع والخمسون: فى ذكر ما جاء فى بناء المسجد الحرام، وما فى فضائل مكة شرف الله تعالى قدرها.
***
Shafi 34
الفصل الأول فى فضائل مكة شرفها الله تعالى والآيات التى نزلت فى فضلها وشرفها
اعلم أن البيت الحرام بل الحرم كله محل عظيم القدر ومكان جليل الخطر والفخر؛ بل هو أفضل بقاع الأرض وما عداه المفضول، ويدل على ذلك المعقول والمنقول.
أما المعقول: فمن وجهين: أحدهما: أنه مبتدأ الأرض وأصلها الذى تفرعت هى عن بقعته على ما روى أنها دحيت من تحته وهو أحد التأويلين لما ورد به الكتاب العزيز من تسمية مكة بأم القرى (1).
والتأويل الآخر: كونها قبله تؤمها الوجوه، وفيها بيت الله الحرام، كما جرت العادة أن يكون بلد الملك وبيته هو المقدم على الأماكن كلها، وسميت أما؛ لأن الأم مقدمة.
والثانى: لطيفة الله تعالى بالمذنبين من عباده، وعطفه على طلب رضاه بدلالته عليها وإرشاده إليها.
وأما المنقول: فقد ثبت بنص القرآن أن الله تعالى جعل البيت مثابة للعالمين وأمنا للخائفين، وأمر خليله بتطهيره للطائفين والعاكفين، وأودع فيه من السر الربانى ما شهدت به ألسنة الوجود، وشاهدته أسرار العارفين، وعرفه بإضافته إلى جلاله فقال: أن طهرا بيتي للطائفين (2) فهل وراء هذا الإطناب فى الفخار مضرب لإطناب خيمة الأفكار، أو مطلب لاستقصاء الواصفين:
Shafi 35
كفا شرفا أنى مضاف إليكم
وأنى بكم أدعى وأرعى وأعرف
وقال كعب الأحبار: اختاره الله تعالى من أحب البلاد، وأحب البلاد إلى الله البلد الحرام.
وعن عثمان بن ساج قال: بلغنا أن إبراهيم (عليه السلام) عرج به إلى السماء، فنظر إلى الأرض مشارقها ومغاربها فاختار موضع الكعبة، فقالت الملائكة: يا خليل الرحمن اخترت حرم الله فى الأرض (1).
ويحكى عن وهب بن منبه- رضى الله عنه- أنه قال: وجد فى أساس الكعبة لوح مكتوب فيه: لكل ملك حيازة مما حواليه، وبطن مكة حوزتى التى اخترتها لنفسى دون خلقى، أنا الله ذو بكة، وأهلها جيرتى وجيران بيتى، وعمارها وزوارها وفدى وأضيافى وفى كنفى وأمانى ضامنون على وفى ذمتى وجوارى، من أمنهم فقد استوجب بذلك أمانى، ومن أخافهم فقد أخفرنى فى ذمتى.
تأمل يا ولى الله سر هذه النسبة الإلهية وحاصل هذا التفضيل، ولا حظ بعين التفكر وأذن التدبر هذه الإشارة ولطيفة هذا التمثيل: لما كان لكل ملك محل يقصد فيه لأداء خدمته، ولكل سلطان باب تعفر الجباه على عتبته، ولكل باب حيازه يلجأ إليها من لاذ بجنابه، ولكل سخى ساحة يفد إليه من رغب فى ثوابه، اختص الله تعالى هذا البيت المشرف بهذه المعانى، واطلع فى أفق قصده شموس الظفر وبدور الأمانى، وصير ما حواليه حرما له تحقيقا لعظمته، وجعل عرفة كالميزان على فناء حرمه، ووضعه على مثال حضرة الملوك يقصدها الوفاد من كل جهة، ويفد إليها القصاد من كل مكان وبقعة، شعثا غبرا، متواضعين مستكينين، خاضعين إذعانا لجلال ملكوته، وانقيادا لعزته وجبروته، مع تنزيهه سبحانه وتعالى أن يحويه بيتا ويكنفه بلدا. أو يشبهه فى حقيقة ما ضرب له من المثال أحد.
والحكمة فى ذلك: بيان أسرار العظمة الإلهية، وإيضاح آثار سطوتها، وإظهار انقياد ملوك الأرض والجبابرة إلى إجابة دعوتها؛ فيذل هنالك منهم العزيز، وتخضع العبيد، وينطفئ نور من سواها؛ لاستيلاء أنوارها، وتصير بحار ذوى
Shafi 36
الأقدار تحت أقدام علو منارها كما قيل:
تزاحم تيجان الملوك ببابه
ويكثر فى يوم القدوم ازدحامها
إذا ما رأته من بعيد ترجلت
وإن هى لم تفعل يرجل هامها
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن على رضى الله عنه، أنه قال: لما قال الله تعالى للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها (1) الآية. غضب عليهم ربهم فعاذوا بالعرش وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضى عنهم، وقال لهم: ابنوا لى بيتا فى الأرض يعوذ به كل من سخطت عليه من خلقى، فيطوفون حوله كما فعلتم بعرشى، فأغفر لهم كما غفرت لكم، فبنوا له هذا البيت من خمسة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، والجودى، وحراء، ولبنان، وإن جبريل- (عليه السلام)- ضرب بجناحه الأرض، فأبرز عن أس ثابت على الأرض السفلى، فقذفت فيه الملائكة الصخرة ما لا يطيق به ثلاثون رجلا، فبنوه تسعة أذرع ولم يسقفوه (2).
ومن المعقول أيضا- اعلم وفقك الله وإيانا، وثبت أقدامنا على جادة الشريعة القويمة والطريق المستقيم فى طاعة رب العالمين، وكحل أبصارنا بنور سراج المشاهدة والعرفان، وزين بواطننا بضياء شعاع معرفة الإيمان والإيقان، وطهر قلوبنا بصائر نور التوحيد من دنس الشرك والنفاق والطغيان، ورزقنا الله تعالى جلوة جمال كعبته باللطف والإحسان، بمنه وكرمه والامتنان.
إن فضائل مكة المعظمة شرفها الله تعالى لا تعد ولا تحصى ولو لم يكن فيها غير أنها مهبط الوحى، ومسقط رأس خير الأنام، ومنزل القرآن، ومظهر الإيمان والإسلام، ومنبت الخلفاء الراشدين الكرام، ومقر أهل العرفان، ومقهر الشرك والطغيان، وملاذ العابدين، وملجأ الصالحين، ومقصد الطالبين، وقرة عين المشتاقين، ومأوى الخائفين، ومقار العابدين، لكفى ذلك شرفا وفضلا وعزا وقدرا؛ فكيف وفيها بيت الله الحرام، والحجر والحجر وزمزم والمقام، ودار
Shafi 37
خديجة، وفيها مجلس جبريل ومحمد عليهما أفضل الصلاة والسلام:
انظر بعينك بهجة الحسناء
ما بعد هذا منظر للراء
فهى التى سلبت فؤاد محبها
بجمال بهجتها ونور بهاء
جعل المهيمن كل عام حجها
فرضا وهذا صح فى الأنباء
بشراك يا عين انظرى وتدللى
وتلذذى منها بطيب لقاء
شنف بذكر مطافها ومقامها
أذنى، فهذا اليوم يوم هناء
وقال رجل يبين افتخار الحرمين الشريفين:
أرض بها البيت المحرم قبلة
للعالمين له المساجد تعدل
حرم حرام أرضها وصيودها
والصيد فى كل البلاد محلل
وبها المشاعر والمناسك كلها
وإلى فضيلتها البرية ترحل
وبها المقام وحوض زمزم مترعا
والحجر والركن الذى لا يرحل
والمسجد العالى الممجد والصفا
والمشعران لمن يطوف ويرمل
وبمكة الحسنات يضعف أجرها
وبها المسىء عن الخطية يغسل
يجزى المسىء عن الخطيئة مثلها
وتضعف الحسنات منه وتقبل
ما ينبغى لك أن تفاخر يا فتى
أرضا بها ولد النبى المرسل
بالبيت دون الردم مسقط رأسه
وبه نشا صلى عليه المرسل
وبها أقام وجاءه وحى السما
وسرى به الملك الرفيع المنزل
ونبوة الرحمن فيها أنزلت
والدين فيها قبل دينك أول
واعلم أن الله تعالى قد ذكر مكة فى كتابه المنزل على نبى الرحمة فى مواضع شتى؛ لأنها أحب البلاد إلى الله تعالى، وأشرف البقاع على وجه الأرض عند الله تعالى، ولا شك أن محبوب الله تعالى محبوب خلقه؛ لأن محبوب المحبوب محبوب، ومحبوبه لا بد أن يكون أفضل وأشرف وأحسن من جميع الأشياء من خلقه فى ذلك الجنس.
Shafi 38
فى ذكر الآيات التى نزلت فى حق الكعبة المعظمة- شرف الله تعالى قدرها- مع تفسيرها
فمنها قوله تعالى: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس (1).
قوله: جعل بمعنى صير، وقيل: بمعنى بين وحكم.
وقال مجاهد: سمى البيت كعبة لتربعها وظهورها، ومنه الكاعب والكعب لنتوءه وخروجه من جانب القدم، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها: تكعبت.
وقيل: لارتفاعها من الأرض. وأصلها من الخروج والارتفاع.
وسمى البيت الحرام؛ لأن الله تعالى حرمه وعظمه وشرفه وعظم حرمته.
قوله: قياما أى: قواما لأمر الدين لما فيه من عصمة الإحرام. وقيل: صلاحا.
وقيل: أمنا.
وقوله: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا (2).
قوله: إن أول بيت وضع للناس: أى لعموم الناس ونسكهم؛ يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده.
للذى ببكة: يعنى الكعبة التى بناها إبراهيم (صلوات الله عليه)، وقال مجاهد فى سبب نزولها: افتخر المسلمون واليهود فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء، وفى الأرض المقدسة. وقال المسلمون: الكعبة أفضل. فنزلت هذه الآية، حتى إذا بلغ فيه آيات بينات مقام إبراهيم فقال المسلمون: ليس ذلك فى بيت المقدس ومن دخله كان آمنا . وليس ذلك فى
Shafi 39
بيت المقدس. ولله على الناس حج البيت . وليس ذلك فى بيت المقدس؛ فرجح قول المسلمين على قول اليهود.
وفى معنى كونه أولا أقوال: أحدها: أنه أول بيت كان فى الأرض. واختلف أرباب هذا القول كيف كان أول بيت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ظهر على وجه الماء بيت قبل خلق الله الأرض فكان خلقه قبلها بألفى عام ودحى الأرض من تحته.
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كانت الكعبة خشفة على الماء عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفى سنة (1).
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: وضع البيت فى الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفى سنة، ثم دحيت الأرض من تحت البيت (2).
وقال ابن عباس: أراد به أنه أول بيت بناه آدم فى الأرض.
وقيل: هو أول بيت مبارك وضع هدى للناس تعبدا لله فيه ويحج إليه.
وقيل: هو أول بيت جعل قبلة للناس.
وقيل: هو أول بيت وضع للناس كما قال تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع (3). يعنى المساجد.
قوله: مباركا أى: وضع مباركا. وهدى للعالمين قيل: كان موضع الكعبة قد سماه الله تعالى بيتا قبل أن تكون الكعبة فى الأرض، وقد بنى قبله، ولكن الله تعالى سماه بيتا وجعله مباركا، وهدى للعالمين: قبلة لهم.
قال الزجاج: هو منصوب على الحال، والمعنى: للذى استقر بمكة فى حال بركته، وهدى: أى ذا هدى.
Shafi 40
فأما بركته: ففيه تغفر الذنوب، وتضاعف الحسنات، ويأمن من دخله.
وقيل: مباركا، أى: كثير الخير لمن حجه واعتمره أو اعتكف عنده أو طاف حوله.
وقوله: هدى للعالمين أى: متعبدهم وقبلتهم، وفى معنى الهدى هاهنا أربعة أقوال:
أحدها: أنه بمعنى القبلة فتقديره: وقبلة للعالمين.
والثانى: أنه بمعنى المرحمة.
والثالث: أنه بمعنى الصلاح؛ لأن من قصده صلح حاله عند ربه.
والرابع: أنه بمعنى البيان والدلالة على الله تعالى بما فيه من الآيات التى لا يقدر عليها غيره؛ حيث يجتمع الكلب والظبى فى الحرم، فلا الكلب يهيج الظبى، ولا الظبى يستوحش منه.
قوله: فيه آيات بينات أي: دلالات ظاهرة من بناء إبراهيم، وأن الله عظمه وشرفه.
قال المفسرون (1): الآيات فيه كثيرة، منها: مقام إبراهيم. ومنها: أمن من دخله.
ومنها: امتناع الطير من العلو عليه. واستشفاء المريض به. وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته. وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه ... إلى غير ذلك.
قال أبو يعلى: والمراد بالبيت هاهنا الحرم كله؛ لأن هذه الآيات موجودة فيه، ومقام إبراهيم ليس فى البيت.
قوله: مقام إبراهيم قيل: عطف بيان على آيات، وبين الجمع بالواحد؛ لاشتماله على آيات أثر قدميه الشريفتين فى الصخرة وبقاؤه وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وذلك دليل على قدرة الله تعالى وصدق إبراهيم (عليه السلام).
وقيل: الآيات تزيد على ذلك لكنه تعالى طوى ذكر غيرها دلالة على تكاثر الآيات.
Shafi 41
وقال مجاهد: أثر قدميه فى المقام آية بينة.
قوله: ومن دخله كان آمنا . يعنى حرم مكة، أى: إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء.
قال ابن عباس: من عاذ بالبيت أعاذه البيت.
وقال القاضى أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر؛ فتقديره: من دخله فأمنوه. وهو عام فيمن جنا فيه قبل دخوله وفيمن جنا فيه بعد دخوله؛ إلا أن الإجماع انعقد على أن من جنا فيه لا يؤمن؛ لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان فبقى حكم الآية فيمن جنا خارجا منه ثم لجأ إلى الحرم.
وقد اختلف الفقهاء فى ذلك؛ قال أحمد فى رواية المروزى: إذا قتل أو قطع يدا أو أتى حدا فى غير الحرم ثم دخله لم يقم عليه الحد ولم يقتص منه، ولكن لا يبايع ولا يشارى، ولا يؤاكل حتى يخرج؛ فإن فعل شيئا من ذلك فى الحرم استوفى منه.
وقال أحمد فى رواية: إذا قتل خارج الحرم ثم دخله لم يقتل، وإن كانت الجناية دون النفس فإنه يقام عليه الحد؛ وبه قال أبو حنفية وأصحابه، رحمهم الله.
وقال مالك والشافعى رضى الله عنهم: يقام عليه جميع ذلك فى النفس، وفيما دون النفس.
وفى قوله: ومن دخله كان آمنا دليل على أنه لا يقام عليه شىء من ذلك، وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وعطاء، والشعبى وسعيد بن جبير وطاووس.
وقيل: من دخله فى عمرة القضاء مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان آمنا.
وقيل: من دخله لقضاء النسك معظما لحرمته عارفا لحقه متقربا إلى الله تعالى كان آمنا يوم القيامة.
وقيل: ومن دخله كان آمنا، أى: آمنا من النار؛ وفى معنى هذا عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من دخل البيت دخل فى حسنة وخرج من سيئة، وإذا خرج خرج مغفورا له» (1).
Shafi 42
وقوله تعالى: وضرب الله مثلا قرية (1) المثل عبارة عن قول فى شىء يشبه قولا فى شىء آخر بينهما مشابهة ليتبين أحدهما من الآخر ويصوره.
وقيل: هو عبارة عن المشابهة لغيره فى معنى من المعانى، أى معنى كان، وهو أعم من الألفاظ الموضوعة للمشابهة.
قال الإمام فخر الدين الرازى: المثل قد يضرب بشىء موصوف بصفة معينة سواء كان ذكر الشىء موجودا أو لم يكن، وقد يضرب بشىء موجود معين فهذه القرية التى ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئا معروفا ويحتمل أن تكون قرية معينة.
وعلى التقدير الثانى: فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها، والأكثر من المفسرين على أنها مكة. والأقرب أنها غير مكة؛ لأنها ضربت مثلا بمكة.
وقال الزمخشرى: وضرب الله مثلا قرية أى جعلت القرية التى هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته.
والآية عند عامة المفسرين نازلة فى أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن والنعمة بتكذيبهم النبى (صلى الله عليه وسلم) فتقدير الآية: ضرب الله مثلا لقريتكم مثلا، أى: بين الله بها شبها. ثم قال: قرية، فيجوز أن تكون القرية بدلا من مثلا؛ لأنها هى الممثل بها فى المثل. ويجوز أن يكون المعنى: ضرب الله مثلا مثل قرية، فحذف المضاف؛ هذا قول الزجاج.
والمفسرون كلهم قالوا: أراد بالقرية مكة يعنون أنه أراد مكة فى تمثيلها بقرية صفتها ما ذكر.
وقال الزمخشرى: فى هذه القرية قولان:
أحدهما: أنها مكة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور، وهو الصحيح.
Shafi 43
والثانى: أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع؛ قاله الحسن.
وأما تفسير الآية: فقوله تعالى: وضرب الله مثلا قرية يعنى مكة كانت آمنة: أى ذات أمن لا يهاج أهلها ولا يغار عليهم. مطمئنة: يعنى هادئة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها للانتجاع كما كان يحتاج إليه سائر العرب.
يأتيها رزقها رغدا: يعنى واسعا من كل مكان؛ يعنى يحمل إليها الرزق والميرة من البر والبحر، نظيره: يجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة إبراهيم، وهو قوله: وارزق أهله من الثمرات (1).
وقوله تعالى لنبينا (صلى الله عليه وسلم): قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره (2).
وسبب نزول هذه الآية: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجروا إلى المدينة أحب أن يستقبل بيت المقدس؛ يتألف بذلك اليهود.
وقيل: أن الله تعالى أمره بذلك ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته وصفته فى التوراة، فصلى إلى بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ... (3)
وقال ابن عباس- رضى الله عنهما-: معاد أو ملجأ.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله تعالى إلى يوم القيامة يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيها لأحد قبلى، ولم يحل لى إلا ساعة من نهار، وهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه» فقال العباس:
Shafi 44
يا رسول الله، إلا الإذخر؛ فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال: «إلا الإذخر».
معنى الحديث: أنه لا يحل لأحد أن ينصب القتال والحرب فى الحرم، وإنما أحل ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة فقط، ولا يحل لأحد بعده.
قوله: ولا يعضد شوكه: أى لا يقطع شوك الحرم؛ وأراد به ما لا يؤذى. فأما المؤذى منه كالعوسجة فلا بأس بقطعه عند الشافعى خلافا لأبى حنيفة (رحمه الله).
وقوله: ولا ينفر صيده: أى: لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج.
وقوله: ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها أى: الذى ينشدها، والنشد رفع الصوت بالتعريف، واللقطة: فى جميع الأرض لا تحل إلا لمن يعرفها حولا؛ فإن جاء صاحبها أخذها وإلا انتفع بها الملتقط بشرط الضمان. وحكم مكة فى اللقطة أن يعرفها على الدوام بخلاف غيرها فإنه محدود لسنة، هذا عند الشافعى. وعند أبى حنيفة يستوى حكم لقطة الحل والحرم، وله تفصيل فيه.
وقوله: ولا يختلى خلاه: الخلا مقصور: الرطب من النبات الذى يرعى، وقيل: هو اليابس من الحشيش، وخلاه: قطعه.
وقوله: لقينهم: القين الحداد.
وقوله تعالى: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل (1) أى: أمرناهما وألزمناهما وأوصينا إليهما. وقيل: إنما سمى إسماعيل؛ لأن إبراهيم كان يدعو الله تعالى أن يرزقه ولدا، ويقول فى دعائه: اسمع يا إيل، وإيل بلسان السريانية هو الله تعالى، فلما رزق الولد سماه به.
وقوله: أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين : يعنى الكعبة أضافه إليه تشريفا وتفضيلا وتخصيصا، أى: ابنياه على الطهارة والتوحيد. وقيل: طهراه من سائر الأقذار والأنجاس. وقيل: طهراه من الشرك والأوثان وقول الزور؛ والزور من الزور والأزوار وهو الانحراف. وقيل: قول الزور قولهم: هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم. وقيل: شهادة الزور. وقيل: الكذب والبهتان.
Shafi 45
فإن قيل لم يكن هناك بيت فما معنى أمرهما بتطهيره؟
فعن هذا السؤال جوابان: أحدهما: أنه كانت هناك أصنام فأمر بإخراجها؛ قاله عكرمة.
والثانى: قال السدى: ابنياه مطهرا.
قوله: للطائفين: يعنى الزائرين حوله. والعاكفين: يعنى المقيمين به المجاورين له؛ يقال: عكف يعكف عكوفا، إذا أقام، ومنه الاعتكاف. والركع السجود :
جمع راكع، والسجود جمع ساجد وهم المصلون، وقيل: الطائفين الغرباء الواردين إلى مكة. والعاكفين : يعنى أهل مكة المقيمين بها، وقيل: إن الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل (1).
وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر (2) قوله: هذا إشارة إلى مكة، وقيل: إلى الحرم. بلدا آمنا : أى ذا أمن يأمن فيه أهله. وارزق أهله من الثمرات : عن سائب بن يسار، قال: سمعت بعض أولاد نافع بن جبير وغيره يذكرون أنهم سمعوا أنه لما دعا إبراهيم (عليه السلام) لأهل مكة أن يرزقوا من الثمرات، نقل الله تعالى بقعة الطائف من الشام فوضعها هنالك رزقا للحرم.
وعن محمد بن المنكدر، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «لما وضع الله تعالى الحرم نقل الطائف من الشام إليه».
وقال زهير نحوه.
وإنما دعا إبراهيم لهم بالأمن؛ لأنه بلد ليس فيه زرع ولا ثمر؛ فإذا لم يكن أمنا لم يجلب إليه شىء من النواحى فيتعذر المقام بها، فأجاب الله تعالى دعاء إبراهيم (عليه السلام) وجعله بلدا آمنا؛ فما قصده جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم من الجبابرة.
فإن قيل: فقد غزا مكة الحجاج وأخرب الكعبة؟ فالجواب عنه: أنه لم يكن
Shafi 46
قصده بذلك مكة وأهلها ولا خراب الكعبة، وإنما كان قصده خلع ابن الزبير عن الخلافة ولم يتمكن من ذلك إلا بذلك، فلما حصل ما قصده أعاد بناء الكعبة، فبناها وشيدها وعظم حرمتها وأحسن إلى أهلها.
واختلفوا هل كانت مكة محرمة قبل دعوة إبراهيم أو حرمت بدعوته، على قولين:
أحدهما: أنها كانت محرمة قبل دعوته، بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم): «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض». (1) وقول إبراهيم دليل على هذا المعنى: إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم فهذا يقتضى أن مكة كانت محرمة قبل دعوة إبراهيم.
والثانى: أنها إنما حرمت بدعوة إبراهيم بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم): «إن إبراهيم حرم مكة، وإنى حرمت المدينة» (2) وهذا يقتضى أن مكة كانت قبل دعوة إبراهيم حلالا كغيرها من البلاد، وإنما حرمت بدعوة إبراهيم.
ووجه الجمع بين القولين- وهو الصواب- أن الله تعالى حرم مكة يوم خلقها كما أخبر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى قوله: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» (3).
ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله، وإنما كان تعالى يمنعها ممن أراد سوءها ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات، فلم يزل ذلك من أمرها حتى بوأها إبراهيم وأسكنها أهله، فحينئذ سأل إبراهيم ربه عز وجل أن يظهر تحريم مكة لعباده على لسانه، فأجاب الله دعوته، وألزم عباده تحريم مكة، فصارت مكة حراما بدعوة إبراهيم، وفرض على الخلق تحريمها والامتناع من استحلالها واستحلال صيدها وشجرها، فهذا وجه الجمع بين القولين، وهو
Shafi 47