Istishraq
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
Nau'ikan
لنسلم بأن الاستشراق معرفة من أجل القدرة والسيطرة
Savoir Pour
، ولنتساءل: ألم يكن هذا هو شعار العلم الغربي، سواء منه الطبيعي والإنساني، منذ عهد بيكن حتى اليوم؟ ألم يطالب ديكارت بمعرفة تجعلنا «سادة الطبيعة ومالكيها»
Maîtres et Possesseurs de la Nature ؟ إن الاستشراق في بعض جوانبه يمكن أن يكون بدوره معرفة تجعل الغربيين «سادة الشرق ومالكيه
Maîtres et Possesseurs de l’Orient »، ولكن هل كانت المعرفة المسيطرة التي دعا إليها بيكن وديكارت معرفة مزيفة أو مشوهة لأنها لم ترفع شعار العلم الخالص؟ الواقع أن شعار المعرفة النظرية الخالصة المقصودة لذاتها فحسب، هو الذي كان يؤدي إلى تزييف العلم وتشويهه في العصور القديمة والوسطى، وأن اتخاذ السيطرة والقدرة على امتلاك الواقع هدفا للعلم هو الذي جعله ينتقل من كشف إلى كشف، ومن نجاح إلى نجاح. ولا بد لنا في هذا الصدد أن نميز بين هدف العلم ومحتواه، فقد لا يكون الهدف موضوعيا، ومع ذلك يظل المحتوى أو المضمون صحيحا. وكل محتوى صحيح يمكن توظيفه لأهداف مغرضة، كالسيطرة والاستعمار، كما يمكن توظيفه لأهداف الفهم والمعرفة وتوسيع قدرة العقل البشري. وهنا نعود مرة أخرى إلى ضرب مثال لعلوم الفضاء، فصحيح أن هذه العلوم لا تستهدف في معظم الأحيان غايات معرفية خالصة، وإنما تستهدف السيطرة وقهر الخصوم، وتكون جزءا من الصراع الاستراتيجي بين المعسكرين الكبيرين، ولكن هل ينفي هذا أن هذه العلوم قد وصلت إلى مجموعة هائلة من الحقائق من الطبيعة والفضاء الخارجي، وأضافت رصيدا ضخما إلى المعرفة الموضوعية، ولولا ذلك لما تمكنت من تحقيق هدف القوة والسيطرة الذي تسعى إليه؟
والنتيجة التي نخلص إليها من ذلك هي أنه، حتى لو كانت هناك أهداف «غير موضوعية» لنوع معين من المعرفة، فإن هذا لا يسلب هذه المعرفة صفة الحقيقة بالضرورة، بل إن حقيقتها - وليس زيفها وتشويهها - هي التي تساعدها على تحقيق أهدافها «غير الموضوعية». •••
هكذا ينكشف لنا، من خلال هذه المعالجة المنهجية للنقد السياسي للاستشراق، أن هذا النقد يرتكز على مجموعة من المسلمات التي تقبل قدرا كبيرا من المناقشة والجدل. وليس الهدف من المناقشة التي أجريناها هنا بالطبع هو تنزيه الاستشراق من العيوب - كما قد يفهم من النظرة السطحية إلى البحث - بل إن الهدف الحقيقي هو أن نكون متسقين مع أنفسنا عندما نريد أن نوجه نقدا جذريا إلى مبحث هام كالاستشراق، وأن نتجنب التناقض حتى لا يبدو النقد الذي يوجهه مثقفونا في نظر الغربيين تمردا متسرعا على ثقافة راسخة من أصحاب ثقافة أخرى لم تبلغ بعد مرحلة النضوج.
الاستشراق ومشكلة حدود الاتصال بين الثقافات
في اعتقادي أن المشكلة الحقيقية التي يثيرها نقد المثقفين العرب للاستشراق على أسس سياسية حضارية، هي مشكلة حدود الاتصال بين الثقافات. فالاستشراق نموذج لعلم يرتكز كله على فكرة الاتصال هذه؛ إذ يقوم فيه باحثون ينتمون إلى ثقافة معينة بدراسة متعمقة، ربما استغرقت منهم حياتهم كلها، لثقافة أخرى أجنبية بالنسبة إليهم. فما هي حدود الفهم الذي يستطيع هؤلاء بلوغها؟ وهل يؤدي التفرغ والتخصص التام إلى اندماج كامل في الثقافة الأخرى، أم أن الانتماء الأصلي للمستشرق إلى نمط آخر في التفكير وفي النظرة إلى الحياة يحتم وجود حدود معينة لاتصاله بالثقافة الأخرى، مهما حاول أن يندمج فيها؟
إن القضية التي أدافع عنها هي أن هذه هي المشكلة الكبرى والأساسية في موضوع الاستشراق. وكما يظهر بوضوح، فإن هذه المشكلة أوسع بكثير من مسألة الهيمنة التي تمارسها مجتمعات تتخذ من دراستها لمجتمعات أخرى وسيلة للسيطرة عليها، ومن الإحساس بالتفوق الذي يتملك الغرب إزاء الشرق. ففي ضوء القضية التي نطرحها، لا يعود التشويه والتجويف عملية تتم من طرف واحد قوي أو مسيطر إزاء طرف آخر ضعيف أو خاضع، وإنما يصبح عملية متبادلة يشترك فيها الطرفان معا. وترجع قبل كل شيء إلى تلك الحدود التي لا يستطيع أن يتخطاها أي اتصال بين ثقافتين متباينتين.
Shafi da ba'a sani ba