قال سليمان الدمشقي لصديقه عبد الرحمن: «لقد علمت بأمر لم يعلمه أحد من أهل المدينة بعد، ولو علموه لتبدل كدرهم واضطرابهم سرورا واطمئنانا.»
فأراد عبد الرحمن استطلاع هذا الأمر واستبشر بمنظر صديقه؛ إذ كان يتكلم وأمارات الابتهاج تلوح على وجهه، فقال له: «هل لك أن تتكرم بإطلاعي على هذا الأمر.»
فقال: لما فتح المماليك المدينة وتسلموا القلعة، فر الوالي ولم يعد يستطيع الإقامة خوفا على حياته، ثم بعث إلى محمد أبي الذهب قائد الحملة المصرية يطلب إليه الاجتماع لعقد شروط التسليم حسب المعتاد، فأجابه إلى ذلك، وكنت ممن ذهبوا مع الوالي إلى مكان الاجتماع، وكان محمد أبو الذهب جالسا هناك متعجرفا منتفخا نفخة النصر، وبين يديه أصحاب مجلسه من الأمراء المماليك، فلما دخل عليه الباشا وقف له تأدبا، غير أن مخايل الكبرياء كانت تلوح على وجهه.
وكان لي صديق حميم بين رجال الباشا الذين وقفوا في انتظاره خارج الباب بعد أن ترجل عن جواده، فأسررت إليه أن ينتبه لما يدور بين الأميرين؛ لنرى شروط التسليم، ولبثت بعيدا أنتظر ارفضاض المجلس، وبعد قليل رفع الستر وخرج جميع الأمراء المماليك الذين كانوا في مجلس محمد أبي الذهب، ولم يبق إلا هو والباشا، فاستغربت ذلك وقلت: «لعل في الأمر شيئا.» وما خرج الباشا من عند أبي الذهب وركب جواده حتى سارعت إلى صاحبي وسألته عما كان، فقال لي: «أبشر يا سليمان، لقد فرجها الله.» فقلت: «وكيف كان ذلك؟» قال: «إن عثمان باشا سأل أبا الذهب بعد أن خلا إليه: باسم من نكتب معاهدة التسليم؟» فقال أبو الذهب: «نكتبها باسم علي بك صاحب مصر.» فضحك عثمان باشا، وقال: «أتفتح البلاد وتتجشم خطر الحروب والأسفار ويكون الفخر لذلك الجالس على عرشه في القاهرة؟! وهب أنه أمير البلاد وأنت من قواده، فكيف تخرج من طاعة خليفة رسول الله سلطان البرين وخاقان البحرين لتكون في طاعة بعض أمرائه النابذين طاعته؟! إن مولانا السلطان مصطفى خان لأجدر بالطاعة، ولاسيما أنه لم يأت معك ولا من الأمير ما يدعو إلى غير ذلك، وسيان عندي أن تكتب شروط التسليم باسمك أو باسم علي بك، ولكني أرى أن ليس من مصلحتك في شيء أن تذعن لأمر علي بك وتخالف أمر السلطان، في حين أن علي بك لا يفضلك بشيء، وقد فتحت له الحجاز والشام وهو جالس في القاهرة بين سراريه ومماليكه وخدمه وحشمه، وليس يخفى عيك أن فخر الفتح لا يعود على أمثالك من القواد العظام بقدر ما يعود عليه هو دون أن يتجشم في سبيل ذلك أي عناء، وهكذا يذهب كل تعبك أدراج الرياح، ثم تكون في الوقت نفسه عرضة لغضب مولانا السلطان وانتقامه، فضلا عن مخالفة الشرع؛ لأنكم إنما تحاربون لتنصروا الإفرنج على المسلمين، وإنما ساعدتكم ملكة المسكوف، لكي تنال بغيتها وتنتصر على المسلمين في بلاد الروملي. وهب أنكم فتحتم الشام والحجاز، فأين هذه البقعة الصغيرة من المملكة العثمانية الواسعة الأطراف؟ وأين جنود الحجاز والشام من الجيوش العثمانية المظفرة التي فتحت العالم بسطوتها وبطشها وشجاعة قوادها؟»
فمال محمد أبو الذهب إلى الإذعان، واستشار الباشا فيما يفعل، فأشار عليه بأن يقلع عن الانقياد إلى علي بك ويعود إلى طاعة خليفة رسول الله وظل الله على الأرض سلطان البرين وخاقان البحرين، وبذلك ينال فخرا عظيما وينجو من الأخطار ومشاق الأسفار.
فصمت أبو الذهب قليلا وأطرق مفكرا، ثم رفع رأسه وقال: «لقد نطقت بالصواب.» ثم طلب إليه عثمان باشا أن يقسم على السيف والكتاب ليكونن مخلصا للدولة العلية ويكف عن حربها، ففعل.
فقال عبد الرحمن لسليمان الدمشقي: «وماذا تم في الأمر بعد ذلك؟»
قال: «إنني عدت إلى معسكر المصريين على أثر هذا الذي سمعته، فرأيت خيمة الأمير مغلقة، والجنود المصريين في هرج ومرج، لكنهم قد كفوا عن الأذى. ثم دنوت من خيمة محمد أبي الذهب، واسترقت السمع دون أن يشعر بي أحد، فسمعته يخاطب أمراءه قائلا: «إنكم تشكون مشقة الأسفار وأخطار الحروب، وما أرى إلا أن علي بك يريد إعدامنا بهذه الكتب التي يبعث بها إلينا لكي نقذف بأنفسها في أتون الحرب، وكأنما جبلنا من تراب وجبل هو من تبر؛ ولذلك لا يشفق على حياتنا ولا على نسائنا وأولادنا الذين تركناهم في مصر لنسير في بلاد الله، بينما هو يعيش منعما بين حريمه وسراريه.»
ثم استطلع رأيهم، ففوضوا الرأي إليه فقال: «أرى أن نعود إلى بيوتنا ونكف عن الحرب وعن نبذ طاعة مولانا السلطان، وها أنا ذا أقسم لأحافظن على هذا العهد.» فردد هذا القسم، ولم يسعني بعد هذا إلا أن أسجد شكرا لله على نجاتنا من حكم المماليك، ثم أسرعت لأطلعك على ذلك.» •••
كان سرور عبد الرحمن عظيما بما سمعه من صاحبه الدمشقي، ولم يتمالك أن رفع يديه إلى السماء وقال: «تباركت يا رب، ولك الحمد. ها قد انقلب الظالمون على أعقابهم وستقوم الفتن بينهم فيبيد بعضهم بعضا.»
Shafi da ba'a sani ba